الثلاثاء، أغسطس 01، 2017

ياسر بكر يكتب : "فن الحزن" الجميل !!



ياسر بكر يكتب : "فن الحزن" الجميل !!

إحدي حلقات "الندب" في الجنائز

    .. في رحم اليتم نشأت، .. عانيت من وخزات الوجع التي يحدثها في القلب، والتي ظلت تداهمني علي غير موعد ولا ساعة انتظار؛ فتوقظ ألاما وتهيج أحزاناً، وتترك في القلب ندبات من بؤر الشقاء التي تتدفق في نهر اللا شعور لتنبئ عن حالة الفقد .. وتجعل الحواس أكثر تفتحاً وتفهماً وتفاعلاً مع معاني الفراق أيا كانت أداته أو وسائله سواء كانت كلمة في غنوة، أو نغمة في لحن، أو جملة بصرية في صورة او رسم أو نقش.

.. إنها حالة شديدة الخصوصية قد لا يحسها إلا من عاش التجربة!!

.. كانت الجنائز في قريتنا لا تقل صخباً وضجيجا عن الأفراح، وتعكس حالة من الفقر الثقافي والتدني الاجتماعي والانحطاط الحضاري، .. وتبدأ مراسم الجنائز حسب العرف الريفي من ساعة العلم بحدوث الوفاة؛ فتبدأ النسوة اللائي تلقين "الصدمة الأولى" بالعويل و"الندب"، والندب هو لطم الخـدود، وشق الملابس، والضرب بشدة على الصدر، وتتزيد بعض النسوة فتهيل التراب علي رأسها، وتلطخ وجهها بالطين أو النيلة الزرقاء أو زهرة الغسيل تعبيرا عن عمق الفاجعة . 

تصاحب عملية الندب حالة من الغنـــاء البكائي الذي يطلق عليه:"العدودة" والاهتزاز العنيف في حركة هيستيرية أقرب إلى رقص الزار، وتشبه إلى حد كبير حركة الطائر الذبيح، لكنها في كل الأحوال تمثل شكلاً من أشكال الفنون يتم التعبير عنه بالكلمة والحركة وغيرها من المؤثرات الأخري مثل إهالة التراب على الرأس، وتلطيخ الوجه بالطين وغيرها من الأفعال التي تكشف عن لوعة النفس وانكسار القلب اللتان خلفتهما حالة فقد عزيز .

والعدودة  جزء من الموروث الشعبي التشافهي المجهول المؤلف والمتوارث لذا فهى تتسم بالمرونة، والميوعة؛ فتخضع للحذف والإضافة حسب مقتضى الحال شرط الاحتفاظ بالوزن، والإمساك بالقافية التي غالباً ما تكون بالتنوين بالكسر، .. فضلاً عن كونها إبداعاً نسائياً خالصاً تخصصت فيه النساء لأنهن أكثر لوعة، وإحساساً بالفقد من الرجال.

والعدودة تشبهة السيمفونية فكلاهما يتكون من عدة أجزاء أو حركات؛ فالسيمفونية أربعة حركات، والعدودة ثلاث حركات، الحركة الأولى في العدودة : هي مرحلة "الاستهلال" وتبدأ هادئة حيث تبدأ المعددة القائد (الشلاية) في وصف الحال بأسلوب رصين، وتبيان حال المتوفى (رجل ـ امرأة ـ طفل ـ شاب ـ فتاة ـ كهل ـ عجوز)، ثم تبدأ المرحلة الثانية: وهي "الشبشة" وتتسم بالسرعة وعلو الصوت ويزداد الانفعال ويزداد الهياج العصبي، وتندلع لواعج النفس لتعبر عن حرقة القلب ولوعة الفراق، ثم تنتقل المعددة القائد (الشلاية) إلى المرحلة الثالثة: وهى "التطويحة" وتتسم تلك المرحلة بمد حروف الكلمات تمهيداً للانتهاء .

كانت المعددة القائد (الشلاية) في قريتنا هي فرح بنت حليمة كودية الزار.. هكذا كنا ندعوها منسوبة لأمها فلم يعرف لها أحد من أهل القرية أباً .. كانت فرح بنت حليمة أمرأة حبشية شديدة السواد، وكانت ترتدي ملابس أقرب إلى ملابس الرجال، ولم يكن يظهر من ملامح وجهها سوى بياض عينيها وأسنانها إذا ضحكت أو تكلمت .. كنت أخافها وأهرب عندما أراها .. جاءت المرأة إلى دارنا أكثر مرة في محاولة لاستمالتي بقطع الحلوي، لكني موقناً إنها أمنا الغولة التي حكت لي خالتي فاطمة البربري عنها في الحدوتة، خالتي فاطمة البربري هى زوجة عمي على بكر .

ضحكت  فرح بنت حليمة، ولم يزدني ضحكها إلا نفوراً منها !!

.. ولأن المصائب تجمعن المصابين؛ فسرعان ما ينضم للنسوة من أهل الميت نساء القرية المكلومات من الحزانى والثكالى والأيامى والأرامل في حلبة "الندب" ويشكلن دوائر تلتف حول بعضها في تداخل غير مدروس وكأنها لوحة لتابلوة من الغناء البكائي والرقص الحزين !! 

وتعد أكثر أنماط العديد ذيوعاً تلك التي ترددها المعددات المحترفات وتنحصر في ثلاثة أنماط :

1 ـ عدودة تخاطب الميت، وتبين حال اهله من بعده.
2 ـ عدودة تسدي النصح للأرملة التي مات زوجها حتى تتخطى فاجعتها .
3 ـ عدودة تصف حال اليتيم الذي فقد ملاذ الأب وعزه.

.. ومن نمط العدوة التي تخاطب الميت وتصف تأثير حال فقده :

"القبر قال له انزل وانا اتلقاك
آنستني وقَطعت باللي وراك
القبر قال له يا مرحبا يا زين
انت صغير، وانا ضلامي شين
القبر قال له يا مرحبا يا حُرْ
انت صغير وانا ضلامي مُرْ"

والنمط الثاني من العدودة يتمثل في إسداء النصح للأرملة التي مات عنها زوجها حتى تعبر أوجاعها وتصل بأولادها إلى بر الأمان:

" يا صغيرة  يا أم تُلِّيه (التلية : الطرحة الشفافة)
بدري عليكي  م الهُجُوليه (الهُجُوليه : حالة الترمل)
يا صغيره يا عاقده الأكمام
بدري عليكي من شبكة الايتام
ربِّي اليتامى ووسـعي كمامك
وخدي الحديت والطعن ف جناِبك
واتجَّلدي لما يكـبروا اولادك" 

والنمط الثالث من العدودة ذلك الذي يصف حال اليتيم :

"والله اليتامى وَردهم دبلان
وقعادهم وسط الصغار بيبان
والله اليتامى وردهم مــايل 
وقعادهم وسط العيال باين
والله اليتامى وردهم  قطفـــوه
وقعادهم وسط الصغار عِرفُوه
والله اليتامي وردهم مقطـــوف
وقعادهم وسط الصغار معروف" 

كما توجد أنماط أخرى من "العدودة" عن فقدان الكبير ولو كان عضم في قفة، والفراغ الذي يخلفه خلو مكانه بما يحمله من غياب الحكمة وافتقاد المشورة الصائبة، وكذلك "العدودة" عن فقدان الأم وما يستتبعه من افتقاد الملاذ والحضن الدافئ والمحبة الصادقة، كما كانت توجد بعض أنماط العديد عن أحوال بعينها مثل حال المرأة المتوفاة التي لم تنجب حيث تقول المعددة القائد (الشلاية):

"مال الولية نعشها مايل"
فترد عليها النساء مولولات :
"ملهاش ولد وسط الرجال شايل"

وأيضا كان التعبير عن الضعف الإنساني للرجال مسموحاً به؛ فالموروث الثقافي في قريتنا يرسخ لمفهوم أن :"ساعة الفراق الحجر بيلين"؛ فكان من المألوف أن تجد رجل يجهش بالبكاء، أو يجعر في ألم بعزم الصوت!! 

كان عم مغربي الناعي يطوف شوارع القرية ليعلن عن الوفاة بصوته فيما يشبة النعي الذي تنشره الصحف معلنا ومعدداً صلات القرابة والنسب التي تربط الأحياء بالمتوفى، فإذا لم يكن للمتوفى عزوة اختتم النعي بالعبارة:"وقريب جميع عائلات تلوانة" .

.. كنت أتعجب من ذلك؛ فالفقير والمقطوع من شجرة الذي لم يهتم أحد بأمره يوماً، والغريب الذي عاش بيننا مثل عشب الشوك في حقل قمح يصبح قريبا لجميع عائلات تلوانة يوم يتغمده الله برحمته، .. وكنت أستشعر أن تلك العبارة بمثابة اعتذار غير مجدي لذلك المتوفى عن قسوة قلوبنا، وإهمالنا له في حياته .

وبعد دفن المتوفى، تقوم بيوت المستورين من أهل القرية بإخراج صواني الطعام للمعزيين المنتقلين من القرى المجاورة، وبعد الغداء وصلاة العصر تبدأ مراسم العزاء بتلاوة آيات القرآن الكريم في دور العزاء الخاصة بكل مجموعة من العائلات التي تربطها وشائج القربى أو علاقة الجيرة أو الشراكة، ويبلغ عددها في قريتنا 9 دور منها 6 في الناحية الشرقية مسماة بأسماء الدروب التي تقع فيها :

الدوار البحري، ودوار السجاعية، ودوار الحتايتة، ودوار الأربعين، ودوار البراشمة، ودوار الشرم، وثلاثة في الناحية الغربية مسماة بأسماء مواقعها أو العائلة التي تملكها :
 
دوار الدرب الكبير، ودوار أبو عمارة، ودوار درب خير.

بعد الانتهاء من العزاء تبدأ مرحلة الحداد التي قد تستمر لمدة سنة تُحرم فيها كل مظاهر البهجة فالملابس سوداء، وتُحّرم الملابس الملونة، ويقتصر الطعام على البتاو والمش وقطع البصل، ويُحرّم تماماً طبخ الملوخية الخضراء، وملفوف الكرنب، والأرز باللبن، والعصيدة، والفطائر بأنواعها؛ لكونها في العرف الريفي أطعمة معبرة عن الفرحة!! 

.. كان مناط الأمل ومعقد الرجاء في تغيير ذلك الواقع المزري هم خطباء المساجد عبر الخطاب الديني القويم؛ فالعواقل معاقل .. لكن كان هؤلاء كانوا مخيبين للرجاء؛ فهم أقرب إلى الشخصيات الفلكلورية التي تصلح للإضحاك، وليس الوعظ !!


 كان في القرية أربعة مساجد، اثنان في الناحية الغربية وهما  المسجد الغربي، ومسجد سيدي محمد الحجازي، واثنان في الناحية الشرقية وهما مسجد سيدي محمد الأربعين، ومسجد سيدي يوسف أبو الحجاج.


.. كان خطيب  المسجد الغربي الشيخ محمد درغام، ولم يكن الرجل مؤهلاً للوعظ، وكان ضعيف البصر.. كان مصدر وعظه ذلك الخطاب المستقى من الكتب القديمة الصفراء؛ لذا لم يكن مستغرباً أن يدعو في نهاية خطبة الجمعة لسلطان المسلمين جلالة السلطان عبد الحميد الثاني أو شقيقه السلطان عبد العزيز، ولم يكن مستغربا أن يتعثر في قراءة كلمة غير واضحة الحروف في الورقة التي أعدها له ولده، فيتلعثم مخاطباً نفسه هامساً:"الله يخيبك يا غريب يا ابني .. بقى دي كتابة، ولا ده خط يا وله!!"، ثم يتخطى الجملة؛ تاركاً فجوة في السياق؛ فيصير الخطاب مفككا فاقداً للمعنى والمضمون .


ولم يكن مسجد سيدي محمد الحجازي الذي تم ضمه للأوقاف أحسن حالاً؛ فقد حالت ميزانية الأوقاف دون توظيف خطيب للمسجد؛ فتتابع عليه خطباء من كل حدب وصوب يعملون بالمكافأة من غير المؤهلين، ولكل كانت سقطاته !!


كان خطيب مسجد الأربعين الشيخ عبد الحكيم المرسي، ولم يكن الرجل مؤهلاً، وكان خطابه فكاهياً ومعاداً ومكرراً، ومن خطابه المتكرر والذي يغلب عليه الزجر:


"أتزحزحون البتن (الحدود الفاصلة بين الأراضي الزراعية) عن الحديدة(علامات المساحة)، وتريدون أن تدخلوا الجنة .. يا أخي هوووووه 

.. أتدخنون الحشيش، وتريدون أن تدخلوا الجنة .. يا أخي هوووووه"


وقد كان الخطاب يأتي دائما خالياً من الأحكام !!


أما خطيب  مسجد سيدي يوسف أبو الحجاج فكان الشيخ طه حسن، ولم يكن مؤهلاً، وكان خطابه منقولا من كراسات جدي لأمي الشيخ أحمد عبد الله (يرحمه الله) الخطيب السابق للمسجد .


كان الشيخ طه حسن يمثل حالة من العوار في الخطاب الديني؛ فقد كان الرجل كفيفاً ومزواجاً، ومدمناً لمخدر الحشيش، وتحت تأثير "السطل" كانت تحدث المفارقات التي تبلغ حد المهازل، وتصل أحيانا إلى ذروة المساخر.

***


.. كان الخطاب الديني متخلفاً وساقطاً، وكان خليطاً من الفكر الديني والأساطير والحواديت والخرافات والقبوريات، .. وظل ينحدر من سئ لأسوء، وبلغ ذروة الانحطاط في خطاب "أمراء التكفير". 


أوراق من كتابي  : "حكايات من زمن الخوف"





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق