الاثنين، سبتمبر 22، 2014

ياسر بكر يكتب : سائسو العقول.. و"صناعة الوهم والخطر "!!


سائسو العقول.. و"صناعة الوهم والخطر " !!

دراسة أعدها : ياسر بكر
ـــــــــــــــــــ
·       تنظيم " الضباط الأحرار " هو نفسه تنظيم " الحرس الحديدى " بعد تغيير اللافتة!!

·       اللواء نجيب .. شيطان بصورة مبهجة ، بشع لكن بقدسية .. ، إنه مظهر الأب المثالى الذى خدع المصريين ؛ .. أعدم عمال كفر الدوار، وذهب يحتفل برئاسته للوزارة، ثم تباكى على قتلهم فى مذكراته!!

·       استعان اللواء نجيب بالمخابرات البريطانية للخلاص من ناصر ، لكن المخابرات الأمريكية كانت أسرع فى الخلاص منه لحساب ناصر !!

·       ناصر ألبس مصر قميص من حديد، وحكمها بالخوف، .. ولم يعد فيها ما يُخيفه سوى الخوف ذاته .. ووحد الشعب حول الخوف من " المجهول الكبير " !!

·       لم يكن لناصر مشروعه الخاص ، .. ولم يكن أمامه سوى السطو على شعارات "حزب الوفد "، ولم ينجح فى تحقيقها .

·       اتبع ناصر سياسة " المهرجان "، وارتأى الأمريكان أن تكاليف "المهرجان " أكثر من عائده؛ فقرروا إنهاء اللعبة فى 5 يونيو 1967!!

·       فى قانون "الغرام الأمريكى" : العلاقات خفية، وشديدة الفاعلية، ولا بأس من مهاجمة أمريكا فى العلن من آن لآخر حتى تظل الروابط الخفية فاعلة !!

·       محمد حسنين هيكل مارس لعبة " تحليه السموم "؛ بطلاء طلبات الأمريكان وناصر بقشرة من الحلوى ليتقبلها الجانبان !!

·       ناصر تولى حكم مصر وهى محتلة بالإنجليز ، ومات وهى محتلة بالصهاينة.

·       دعا الحكيم للاكتتاب لإنشاء تمثال ناصر على قاعدة ميدان التحرير، وجاء التساؤل من مصرى بالخارج : " وماذا نكتب على قاعدة التمثال ؟! ".

·       السادات من الانحناء أمام تمثال ناصر .. إلى حالة التأله بقول : " لا يبدّل القول لدىّ " فى خطاب 5 سبتمبر 1981!!

·       استخدم الأمريكان مع السادات خدعة "الخرز الملون" ، وأفرغوا القضية الفلسطينية من مضمونها.
·       قدم الإعلام السادات فى رحلة القدس فى صورة القائد التاريخى المنتصر، والولى صاحب كرامات " !!

·       .. وغنى سيد مكاوى أغنيته الشهيرة : " كان قلبى معاك ، طول ما انت هناك .. كان قلبى معاك يا صلاح الدين .. بتعدى بحور، وتبان كرامات"!!

·       ورط الأمريكان السادات فى رحلة القدس، وتركوها عاريا وسط الطريق !!

·       أصبح من الصعب على الأمريكان التنبؤ بـ " رد فعل السادات "، فقرروا إنهاء اللعبة، وتغيير اللاعب!!

·       أسرة السادات اتهمت جهات خارجية بالضلوع فى قتله، لكنها عادت وتراجعت لأسباب مصلحيه !!

·       الأمريكان خذلوا السادات حياً ، وفضحوا إدمانه للحشيش بعد موته !!

·       مبارك .. بين دمعتين ، فرت إحداها تأثراً على نهاية السادات فى 14 أكتوبر1981 ، وانحدرت الأخرى حزنا على هوانه فى 11 فبراير 2011 !!

·       عام كامل بين مقال " الخروج الآمن "، ووساطة عضو أمانه السياسات لحذف الجملة من خطاب أوباما فى جامعة القاهرة .. ثم كان  طوفان 25 يناير!!

·       25 يناير 2011 انقلاب عسكرى ناعم مغلف بإرادة شعبية على مشروع التوريث !!

·       مرسى .. قتله كاتب خطابه الأول بكلمة " عشيرتى "، .. وتوالت الخطب بين اللجاجة وانعدام الرصانة ؛ فأشاعت روح السخرية  !!

·       الانفلات فى عهد مرسى، كان استنساخ لـ " العملية أجاكس " ضد مصدق فى إيران كما يقول الكتاب .

·       جبهة " الإنقاذ "، وحركة " تمرد " كانتا غطاءين لما يجرى فى الخفاء !!

·       " الأسطورة " فى تسريبات السيسى أهم أساليب تقديمه للجماهير عبر " رؤى المنام" !!

·       السيسى .. لم يعطى العيش لخبازه، واستنسخ صور ذهنية قديمة، وباهتة، وتحمل فى مضامينها "رسائل سلبية"!!

" بقيت زمناً طويلاً لا أقول ما أومن به، كما لم أومن قط بما أقوله، وإذا حدث أحيانا أن قلت الحقيقة فإننى ألفها بقدر من الأكاذيب يجعل اكتشافها صعبا".
فى لحظة صدق نادرة جرى هذا الاعتراف على لسان ماكيافيللى مؤلف كتاب "الأمير" الذى ضمنه  إحدى رسائله ..
ترجع خطورة الاعتراف لكونه صادر عن أمير الدهاء وداهية المفكرين الذى ترك للبشرية تراثاً من فكر الاستبداد وإذلال العباد .. ويعد مرجعاً للطغاة فى تطويع وسوس الرعية وإحكام القبضة على مقدراتها عبر القهر أحيانا وعبر التضليل والتلاعب بالوعى حينا !!؛ .. وقيام بعض أراذل المحتالين بدور " الماشطة " فى تجميل " الوش العكر " للطغيان، وهو ما نطلق عليهم فى ديونتولوجيا الإعلام الآن " خبراء الصورة الذهنية" .. والصورة الذهنية مفهوم عقلى شائع بين أفراد مجموعة معينة يشير إلى اتجاه هذه الجماعة نحو شخص معين أو نظام ما أو طبقة بعينها أو جنس أو فلسفة سياسية أو قومية معينة أو شخص آخر ، .. وثمة رأى أخر عن الصورة الذهنية بأنها استحضار العقل أو التوليد العقلى لما سبق إدراكه بالحواس.
.. وأراذل المحتالين هم من يُطلق عليهم "سائسو العقول" أو "خبراء الصورة الذهنية" أو"صناع النجوم"، أو كما يسمونهم فى بريطانيا "أطباء التجميل "Skin  Doctors وهم بالطبع ليسوا أطباء ولكنهم يقومون بدور الأطباء فى تجميل الصورة وجعلها أفضل وأكثر قبولاً، .. إنهم عباقرة الظل الذين يصنعون من الفسيخ شربات، ومن البوصة عروسة، ومن القرد جان، ومن الخنفساء سندريلا، ومن المتعوس وخائب الرجاء فارس زمانه وسلطان عصره وأوانه.
وجوهر صناعة " أراذل المحتالين " هو صناعة الوهم والتلاعب بالوعى عبر الإغراق السلبى للعقول فى تيار المعلومات والصور المغلوطة .. المتواترة .. والمتوترة التى يتفننون فى عناصر طبخها وإحكام السيطرة عليها وإطلاقها عبر المنصات سواء كان إعلاماً أو شائعة أو نكتة أو عظة يبثها وعاظ السلطان، وتدعمها على الأرض أجهزة استخبارات أو بارونات المخدرات، وزعماء المافيا ، وأباطرة شركات النهب الاستعمارى؛ فالحكاية ليست سوى محاولة تخدير الجماهير، واستحداث رأى مزيف أو انتاج وعى لا يستوعب بإرادته الشروط المتوافرة للحياة الفعلية أو رفضها سواء على المستوى الشخصى أو المستوى الاجتماعى ، .. وتمنية الجماهير بوعود ليس لها انعكاس واقعى يلمسونه؛ بهدف كسب التأييد الشعبى، وإطالة بقاء النظام الاجتماعى الذى لا يحقق مصالحها !! قد يساعد هذا المنحى فى تغييب عقول البعض لبعض الوقت، لكنه ينطوى أيضا على " صناعة الخطر " فى ظل الأزمات المستعصية فى إدارة شئون الحكم !! ، فالغارقون إلى آذانهم فى بؤس الواقع، والمحرمون والمضطهدون ليست لديهم رفاهية الاستماع للوعود والأمنيات أو للمزيد من الأكاذيب؛ وهو ما ينذر بظهور اجتماعى للشعب ـ ولو بشكل فج ـ فى مسار العملية التاريخية؛ .. مع الأخذ فى الاعتبار أنه بين خدر الوعى وبؤس الواقع مسافة تعد فى أغلب الأحوال نسبية وتختلف من شعب لآخر؛ .. لذا كان عنوان هذا المقال .
 .. فلما بلغ خبر كتاب " الأميرمحمد على والى مصر طلب إلى أحد عماله أن يترجمه له ، وأن يقرأ عليه فى كل يوم فصلاً، فلما كان الفصل الثالث ، أشاح محمد على عن عامله، وأشار مكتفياً قائلاً :
" لقد تجاوزنا هذا بكثير، وعبرناه بمسافات .. ولم يعد يجدى معنا نفعاً .. بل مضرته علينا أبلغ !!" .
كان محمد على يعرف طبيعة الشعب الذى حمله إلى كرسى الحكم، فالمصريون أهل فطنة ، ولهم تاريخ طويل أمتد قرون عديدة تسلطت عليهم قيادات أجنبية وفاسدة ، لكنها كلها لم تحظ بثقتهم أبداً،  فإذا حُدثوا عن الوعود طلبوا الأَمارة، والأَمارة فى عرفهم ولغتهم تعنى العلامة والإشارة والدليل والبرهان، وهو ما ظل فى سلوكنا وأحاديثنا حتى الآن؛ فإذا قلت لأحدهم سأفعل كذا؛ فسرعان ما يأتى رده : "أعطنى أَمارة " ، قدم محمد على "أمارة السيف " بالقضاء على خصومة فى مذبحة القلعة، واتبعها بـ "أمارة الإنجاز " بمشاريع العمران الكبيرة على أرض  مصر .
.. ثم كانت الأمارة الثالثة عندما أنشا " مجلس المشورة " وجعله عينة على الشعب، وأداته لقياس الرأى العام؛ فعرف متى يمضى؟! .. وفى أى اتجاه ؟! ومتى يتوقف ؟! .. ومتى يتراجع ؟!؛ فقد  أدرك أنه أمام شعب له دستوره غير المكتوب الذى صاغ بنوده فى كلمات منحوتة من ثقافة هى سبيكة رقائق الحضارات، فكتب الحكمة بحروف المثل الشعبى، وتداولها فى استخداماته التى تدور فى أغلبها الأعم حول علاقة جدلية بين الحاكم والمحكوم طرفاها غشم الحاكم، وفلسفة مداهنة المحكوم له المبطنة بالكراهية المخفية والتى بلعت ذروة إبداعه فى مقولتى : ارقص للقرد فى دولته" ،و "إن كان لك حاجة عند الكلب، قول له يا سيد"، ووضع سم النقد فى عسل الضحك، فسخر ممن ظلموه؛ فإذا جاءته الفرصة أنزلهم من عليائهم ومسح بكرامتهم ساحات الأسواق؛ فقد كانت مهانة نابليون قريبة العهد بذاكرته؛  فقد دخل حضرة جناب سارى عسكر إلى مصر بالمدفع، وخدع المشايخ الذين ألبسهم طيلسانات من حرير بألوان العلم الفرنسى مازالت ممثلة فى ألوان عمائمهم إلى اليوم .. ولم يسلم من الخديعة الأعيان والتجار فصار بينهم الحاج محمد نابليون حامى حمى الإسلام ، ودرويش حلقات الذكر .. لكن حيله لم تنطوى الحرافيش الذين تجمعوا ضده دون رئيس يسوسهم أو قائد يقودهم، فشقوا عصى الطاعة ، ورشقوه بالنكات البذيئة، وسلقوه بألسنتهم، وإمعاناً فى السخرية منه أبدعوا شخصية "على كاكا"، وصنعوا منها دُمى من الحلوى وطافوا بها فى الموالد والحارات؛  فأخرجوه من المحروسة مهانا بالنكتة التى أصابته فى رجولته فأفقدته هيبته وأضاعت احترامه وجعلته وجنوده مسخرة الرجال ، والتى يقول عنها الجبرتى :
" فلما بلغته الأضاحيك ـ النكات ـ أمر جماعة من أتباع الشرطة بشق الأسواق والحمامات والقهاوى ونبهوا على الناس بترك الفضول والكلام واللفظ فى حق الفرنسيس، وقالوا لهم : من كان يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر فلينته ويترك الكلام فى ذلك فإن ذلك مما يهيج العداوة، ويضيف الجبرتى : " وربما قبض على البعض وعاقبوه بالضرب والتغريم  "، .. ويؤكد الجبرتى:  " أن الأضاحيك لم تتوقف ولم تنته " .
فالسخرية هى سلاح المصريين القاتل دون إسالة دماء، ولهم معها عِشرة وتاريخ؛ وهى إعلامهم البديل Alternative Media  ؛ فألسنة المصريين هى التى أردت كافور الأخشيدى سقيم النفس ، عليل الجسد حتى واراه التراب..، فقد ظن ذلك العبد الخصى الأسود أن الزمن قد صفا له باغتصاب الإمارة ، فاستقدم الشعراء مادحين، فجاءه المتنبى طامعا فى ولاية إمارة تفتح الطريق إلى مصر أمام بنى جلدته من القرامطة ؛ فأنشد فيه ما سبق أن أنشده فى غيره :
على قدر أهل العزم تأنى العزائم *** وتأتى على قدر الكرام المكارم
بلغت مقـــدار الشجـــاعة والنهى *** إلى قول قوم أنت بالغيب عـالم
ولم تفلح ماشطة المأجورين من الشعراء فى تجميل الوجه العكر لذلك العبد الخصى الأسود فذهبت أكاذيبهم أدراج الرياح وبقيت الحكمة التى رددها المصريون ماثلة فى الوعى الجمعى لأحفادهم إلى يومنا هذا :
لا تشترى العبد إلا والعصا معه *** إن العبيد لأنجاس مناكيد
ومضى كافور.. وجاء المعز لدين الله الفاطمى لأول مرة إلى عاصمة مُلكه القاهرة، فاجتمع نفر من أهلها وذهبوا إليه يسألونه عن نسبه وحسبه؛ فامتشق سيفه قائلا : " هذا نسبى " ، ونثر الذهب على رؤوسهم قائلاً : " هذا حسبى "؛ بينما راح دعاته فى الأسواق والجوامع يغزلون له ضفيرة من نسب إلى فاطمة الزهراء بنت سيدنا رسول الله، فلما صعد المنبر فى أول جمعة ، وجد قطعة من رق كُتب عليه :
 إنا سمعـنا نســـبا منكــراً *** يُتلى على المنبر فى الجامع
إن كنت فيما تدعى صادقاً *** فاذكر لنا أباً بعد الأب الرابع
وإن تــرد تحقيق مــا قلته *** فانسب لنــا نفسك كالطـــائع
أو فادع الأنساب مستورة *** وادخل بنا فى النسـب الرابع
فإن أنساب بنى هـــــاشم  *** يقصر عنها طمع الطـــــامع
 وذهب المعز بسيفه وذهبه ..وجاء العزيز بالله فادعى حلول نور الله فى الأئمة وأن الأئمة خلقوا من نور الله، وأنهم يعلمون الغيب؛ فسخر منه المصريون، فلما صعد المنبر فى يوم الجمعة وجد رقعة كُتب عليها :
بالظــــــلم والجـور قد رضينا *** وليس بالكفر والحماقة
إن كنت قد أُعطيت علم غيب *** فقـل لنا كاتب البطـــاقة
ولم يجد العزيز بالله بداً من أن يأمر مناديه أن يطوف بالطرقات مُكذبا أمر ما ردده البعض من ادعاء معرفته بالغيب.
.. وذهب العزيز بالله وجاء الحاكم بأمر الله فأدعى اللاهوت بمعنى حلول الله فيه، وجاء بالشعراء يطرون فى صفاته الإلهية فقال فيه ابن هانئ :
 ما شئت أنت لا ما شاءت الأقدار *** فاحكم فأنت الواحد القهار
وانطلق المصريون ينصبون له الحيل للسخرية منه، ويؤلفون عنه الأضاحيك؛ فأسرف فى القتل، وقطع الألسنة حتى أصابه الجنون، واضطرت أخته غير الشقيقة من أم نصرانية لقتله .. وتولى غلمان الدولة العبيدية الحكم من بعده غير أنه لم تعد هناك مقومات دولة ، فسقطت بخطبة جمعة دعي فيها وعاظ المنابر للخليفة العباسى !!
وجاء الأيوبيون فأنجزوا الكثير من الإصلاحات وامتلأت خزائن الدولة بالأموال.. لكن وزيرهم بهاء الدين قراقوش كان سلطة بلا قلب، وقراقوش كلمة تركية تعنى ( النسر الأسود) فأذاق المصريون من أمرهم عسرا .. فكانت مقاومتهم الساخرة له؛ فالأراجوز هو تحوير لاسمه من " قراقوز " إلى "أراجوز" أى بهلون .. وذهب الإنجازات وبقيت سخرية  المصريون؛ ففى كتابه بعنوان : " الفافوش  فى أحكام قراقوش " يقول أسعد ابن مماتى :
أن قراقوش أحضر القاضى : وسأله قائلاً : " كل أمير يختار لنفسه لقباً دينيا مثل المعتصم بالله ، المستنصر بالله ، المعتز بالله .. فأى الأسماء تختار لى ؟!!"
ـ فقال القاضى : " أعوذ بالله . "
ذهب قراقوش، وبقيت ضحكة الأراجوز التى أطارت النوم من عينيه  ؛ فلما جاءت دولة الأتراك أذاقت الناس من أمرهم عسرا على مدى 500 عاما حتى ذهبت .. لكن بقيت مخطوطة الشيخ يوسف الشربينى بعنوان : " هز القحوف فى شرح قصيدة أبو شادوف"  شاهدا على ظلمهم وجرائمهم وجزءاً من حضارة شعب وشاهداً على قدرة هذا الشعب على الإبداع وصياغته فى رسائل بالغة الإيجاز .. سريعة الانتشار .. شديدة الوجع "!!
فاروق ابن نازلى
ســــــــبط النبى :
ــــــــــــــــــــــــــ

وعندما ولى الملك فاروق عرش مصر استضافت الصحف الصادرة فى القاهرة آنذاك السيدة  التركية عائشة جلشان مرضعته للتحدث عن كيفية اكتشافها لأمارات النبوغ وعلامات الفطنة فى جلالة الملك وهو مازال رضيعاً على صدرها!!، كان حلم خلافة المسلمين يداعب خيال فاروق فلما أوعز له " أراذل المحتالين " بالذهاب إلى مسجد قيسون وإمامة الصلاة فى يوم جمعة ..، بعد الصلاة انتشرت فى المدينة مقولة مفادها أنه : " من علامات الساعة إمامة الغلمان " .
ولم يتراجع فاروق فطلب من حسن الجندى وزير الأوقاف فى 21 يناير 1952 أمام النحاس باشا شهادة نسب إلى النبى صلى الله علية وسلم ، فكلف الوزير حجازيا معروفاٌ باصطناع الأنساب وهو الأستاذ أمين التميمى ـ سبق أن اصطنع نسباً مزيفاً للملك عبد العزيزآل سعود بنسبته إلى النبى ـ ببحث الموضوع وبعد فترة قدم المستندات الدالة على نسب الفاروق للنبى، وتم عرضها على نقابة الأشراف التى أصدرت قرار بذلك .
.. وانتشرت النكات فى أرجاء القطر عن فاروق ابن نازلى حفيدة سليمان الفرنساوى الذى أصبح سبطاً للنبى صلى الله علية وسلم .
انقلاب يوليو 1952 :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. وعند وقوع انقلاب 23 يوليو 1952 الذى أدار وقائع أحداثه ضباط C. I .A بقيادة كيرميت روزفلت من قلب السفارة الأمريكية بالقاهرة ، كان الإعلام محصوراً فى ثلاث وسائل: الصحف والإذاعة والجريدة الناطقة ؛ والصحف بطبيعتها لم تكن مؤثرة فى السواد الأعظم من الشعب، الذى ارتفعت نسبة الأمية بين أفراده، ولم تكن الإذاعة أفضل حالاً، فلم تكن أجهزة مذياعها متوافرة سوى فى قصور الباشوات ودواوير العمد وبيوت الأعيان وموظفى الحكومة وبعض المقاهى الكبرى، وكانت الجريدة الناطقة تعرض قبل عرض الفيلم فى دور السينما، وتخاطب شريحة محددة من سكان المدن حيث توجد دور العرض.
 ومع الساعات الأولى للانقلاب الذى أُطلق عليه آنذاك "حركة الجيش المباركة"، حرص مدبروه ( الأمريكان ) على أن يمنحوه وجه طيباً؛ فكان محمد نجيب ..ومن جانبهم أعلن الإنجليز والأمريكان : " أنهم لن يتدخلوا مادامت أرواح الأجانب فى سلام، ومادامت الحركة ليست موجهة إلى القوات البريطانية فى القناة" ، ورد نجيب التحية بأحسن منها فأعلن أن : " القضية الفلسطينية لا تعنيه فى شئ "
فى 15 يناير 1953 أعلنت هيئة التحرير أول بيان لها عن ميثاقها وأهدافها القومية ومناهجها فى السياسة الداخلية والخارجية ، واظهر البرنامج ضحالة فكر الضباط ؛ فعن السياسة الخارجية اقتصرت على عبارة " دعم الصلات مع الشعوب العربية للوصول إلى تحقيق التعاون فى شتى الميادين، وتعزيز ميثاق جامعة الدول العربية" . ولم يرد فى الميثاق أى شئ عن فلسطين !! ، وتحدث الميثاق عن : " تمكين السودان من تقرير مصيره دون أدنى تأثير خارجى"
حرص نجيب على الترويج لـ " كذبة الأسلحة الفاسدة فى حرب فلسطين " التى اتخذها ضباط الانقلاب ذريعة له ، كما حرص على الظهور فى زى عسكرى حاملاً عصاه المارشالية وبايب يتدلى من زاوية فمه بصفته قائداً للحركة مع أخبار متناثرة عن كونه أيضا سليل أسرة عسكرية عريقة، وبدأ الترويج الشعبى له بمونولوج اسماعيل ياسين الشهير :
 "20 مليون وزيادة، والجيش ونجيب عملوا ترتيب " ، رغم أن الشعب المصرى كان تعداده آنذاك 18 مليون فقط ، ولم يكن بلغ العشرين، كانت كلمة "ترتيب"  تعنى الحدث الذى يدبر فى الخفاء بما يعنى الانقلاب .
 .. وطبقاً للخطة الأمريكية المرسومة فى خلق" العدو البديل"  بدلاً من العدو الصهيونى الذى هزم الجيوش العربية والتهم الجزء الأكبر من أرض فلسطين، ولم يكن أمامهم من عدو سوى بعض الساسة ، ورجال الدولة والرأسماليين وكبار الملاك ورفع شعار التطهير الذى روج له بمونولوج ثريا حلمى :  " خش على التطهير " .
 .. إلا أن ذلك كله لم يكن كافياً ففى 4 يوليو 1953 كان إنشاء إذاعة صوت العرب بأموال ومعدات أمريكية وخبراء من حثالة النازيين من تلاميذ جوزيف جوبلز الذين استجلبهم الأمريكان من مخابئهم فى البرازيل والأرجنتين وأيرلندا وأسبانيا بعد غسل شخصياتهم وطمس تاريخهم الإجرامى ومنحهم هويات مزورة بأسماء إسلامية ( كان يشرف على ذلك الملف الضابط المصرى سعد عفره ) ضمن مخططات لخدمة المصالح الأمريكية فى المنطقة ودعم توجهات الشركات الأمريكية فى المنطقة الواعدة بالنفط، وتوفير غطاء من حماية لدولة إسرائيل قوامه عجز دول الجوار بجعلها تحت قيادات مصنوعة أمريكيا .. وقد تم تغليف تلك النوايا بدعوات براقة استترت بغطاء تجميع القوى العربية تحت راية الهدف الواحد والمصالح المشتركة وتحرير فلسطين .. وقد اثبتت الأيام أن " صبيان القاهرة "    " Juniors Of Cairo كما كان يصفهم ايزنهاور طبقا لتسمية مرؤوسه ستيفن ميد ـ  لم يطلقوا رصاصة واحدة تجاه إسرائيل!!
.. ومثلما فعل الأمريكان مع صبيان القاهرة أنشأوا إذاعات مماثلة فى الرياض وعمان قامت بإشعال حالة من التلاسن وتبادل التراشق اللفظى فيما بينها وبين القاهرة  للدفع بما يخدم مصالح إسرائيل التى تحققت بأكثر مما كانت تحلم فى صباح 5 يونيو 1967 .

 الصورة الذهنية لنجيب :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حرص مدبروا الانقلاب على أن يمنحوه وجهاً طيباً يخفى شروره ؛ فجعلوا اللواء نجيب قائده، وتماهى نجيب مع ظاهر الدور المرسوم؛ فحرص على أن يبدو فى صورة المتدين الذى يحرص على أداء الصلوات فى المساجد الكبرى ، التى تضم رفات الأولياء، والجلوس فى خشوع لسماع خطبة الجمعة، وإظهار الود والتوقير لفضيلة الإمام الأكبر؛ فشيخ الأزهر دائماً هو المفتاح السحرى للدخول إلى قلوب المصريين، وأيضا لا يأنف الذهاب إلى المحفل الماسونى للتهنئة بالعيد، ليؤكد أنه جاء رئيساً لكل المصريين، والتركيز على أن يبدو ودوداً مع الجميع ، فهو يعامل الجميع بتواضع وطيبة قلب، ولا يأنف الجلوس إلى جوار عامتهم والربت على أكتافهم.
 .. ولم يغفل نجيب توظيف الصورة الفوتوغرافية فى خلق صورة ذهنية له رسخ من خلالها أنه يعيش حياة بسيطة مثل أواسط الناس من خلال دعوته لمصور مجلة "المصور" أحمد سليمان فى سبتمبر 1953 لتصوير أحداث يوم من حياته ظهر فيه بالروب والبيجاما والقبقاب وصابون الحلاقة. وقد أثارت الصور إعجاب العامة وحبهم لرجل منهم يحكمهم ويحيا حياة بسيطة مثلهم بعيداً عن بذخ القصور وتيه السلطان.
غير أن الشعب المصرى أدرك مبكراً تحول الثورة إلى الديكتاتورية وأنها حلت محل القصر لتبيع للشعب نفس البضاعة الفاسدة التى كان يروج لها القصر وهى بضاعة الطعن على الحياة الديمقراطية، وادرك الشعب مدى الخديعة؛ فالحركة قد خلعت ملك لتنصب مكانه إثنا عشرة ملك هم من اسموا أنفسهم بـ " الضباط الأحرار " ، وأحس الشعب أن الحركة لم تبدأ اشتراكية تهتم بخدمة الطبقة العاملة ـ كما كان يتوهم ـ وانما بدأت " ذات توجه " بورجوازى ديمقراطى " حتى 23 يوليو 1963 ؛ فام يكن قانون الإصلاح الزراعى سوى مطلباً أمريكياً ..كانت الخطوة  الثانية بعد قوانين الإصلاح الزراعى هو شنق عمال كفر الدوار ، وهما إجراءان متكاملان فقد كان الهدف هو توجية رؤوس الأموال المحبوسة فى الملكيات الزراعية إلى الاستثمار فى الصناعة، فلما قام عمال كفر الدوار بحركتهم غير المتوقعة توهماً أنها حركة اشتراكية .. هب العمال دون أن يدروا أهداف الانقلاب من الإصلاح الزراعى ـ فقد كان الهدف نقل المجتمع المصرى إلى مرحلة  الرأسمالية الخالصة التى تسيطر عليها الطبقة الرأسمالية وليس نقله إلى مرحلة الاشتراكية التى تسيطر عليها الطبقة العاملة.
لهذا السبب ولإعادة الطمأنة إلى قلب الرأسمالية المصرية؛ فقد كان عليهم التفكير فى خلع قلب الطبقة العاملة وينسونها تماما العمل النقابى والمطالبة بالحقوق والاعتصامات والإضرابات طوال المرحلة التاريخية القادمة.
بعد تصويت مجلس قيادة الحركة على الحكم بإجماع الآراء ( لا صحة لما ادعاه يوسف صديق وخالد محيى الدين )، وبعد أن ألقى أنور السادات فى جلسة التصديق خطبة عصماء تمنى فيها أن : " تتاح الفرصة لشنق عاملين فى المحلة الكبرى .. وآخرين فى شبرا الخيمة .. وثالثين أمام جامعة القاهرة ليرتدع الجميع؛ وحتى نستطيع حماية حركة الجيش المباركة من أعدائها " ، صدق نجيب على حكم إعدام العمال الفقراء قائلا : " دول شوية عيال ولاد كلب شيوعيين .. يستهلوا الحرق" ، وذهب ليحتفل بتوليه رئاسة الوزارة .
شعر الشعب أنه انتقل من اوتوقراطية القصر إلى ديكتاتورية الجيش، وأخذ يعبر عن معارضته لحركة الضباط .. وبدأت اهتزاز صورة محمد نجيب الذى اشتهر بتقبيل الأطفال ليبدو وكأنه الأب الروحى للشعب المصرى فأطلقت عليه النكات التى تدور حول أنه يعمل "بيبى ستر" أى جليس أطفال أو " بيبى كسر " أى بايس العيال ، إضافة إلى شائعات أخرى انتهكت عرض الرجال وطعنته  فى شرفه.. لا مجال لذكرها !! .. لكن مما يجب الإشارة إليه أن هذه النكات كان بعضها يصدر من السفارة الأمريكية وبعضها من دار " أخبار اليوم " حيث أسس مصطفى أمين ما أسماه بـ " مجلس النكتة " وضم فى عضويته كل من :
مأمون الشناوى وجليل البندارى ومحمد عفيفى وصاروخان ورخا ، ورصد أمين مكافأة لكل محرر يأتيه بأحدث نكتة !!، وتولت محاسن سعودى زوجة الصاغ عبد المنعم أمين جلاد كفر الدوار حكاية تلك النكات وسط نساء نادى السيارات بقلب العاصمة !!
.. أدى نجيب الجزء الأول من الخطة ـ بعلم ينفى عنه أى جهالة ـ وأصبح عبئاً يجب الخلاص منه، وأحس بقرب النهاية،؛ فأسرع إلى أصدقائه الأمريكان عبر صديقه لى رايت ـ مؤلف كتاب محمد نجيب ـ يطلب دعمهم ويتهم خصومه من الضباط بأنهم شيوعيون وضد المصالح الأمريكية، وجاءته الإجابة أشبه بنكته؛ فقد كان الأمريكيون يعرفون الكثير عن اتصالاته بالمخابرات البريطانية، وأن المخابرات البريطانية هى التى اختلقت حكاية الشيوعية وحاولت دسها على المخابرات الأمريكية.
.. وكان حادث المنشية ضمن خطة إعلامية قادة باول لينباجر خبير البنتاجون فى الدعاية السوداء ؛ لتقديم عبد الناصر إلى الجماهير فى الصورة التى ظهر بها  .
  حيث يؤكد كوبلاند أنه :
( أن الخارجية الأمريكية تتواصل مع نجيب عبر سفيرها كافرى لتسليمه الرسائل الروتينية، بينما الحوار الحقيقى مع ناصر بواسطة قناة " وليم ليكلاند ـ هيكل " ).

هيكل و "تحليه السموم " :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أشاد كوبلاند فى كتابه لعبة الأمم بدور هيكل فى تحليه السموم :
" كان هيكل بارعاً فى نقل الطلبات، وكان يجيد طلاؤها بقشرة من الحلوى ليتقبلها الجانبين  ـ ناصر والأمريكان ـ "
وأعاد كوبلاند ما سبق ذكره فى كتاب آخر بعنوان : " بغير عباءة أو خنجر " فقال :
" كان هيكل عميلاً مخلصاً " .
.. وأشار ويلبر كراين إيفيلاند فى كتابه " حبال الرمال " إلى أن :
" كان هيكل عميلاً ممتازاً، وكان حاذقاً فى نقل التوجيهات "
.. واتهم اللواء محمد نجيب هيكل فى كتابه بعنوان : " كلمتى للتاريخ " بالخيانة لحساب دولة أجنبية، ولم يتحرك هيكل لمقاضاته فى حياته، مثلما فعل معه نجيب عندما دس عليه حكاية الثلاثة ملايين دولا التى قدمها الأمريكان رشوة شخصية لعبد الناصر !!
وقد اتهمه الرئيس السوفييتى جورباتشوف بنفس التهم، أثناء مرافقته لناصر فى زيارة للإتحاد السوفييتى عام 1957 وذكر قيمة المبالغ والشيكات التى تسلمها من C.I . A.، عندما حاول هيكل ممارسة اللعبة لحساب الأمريكان تحت غطاء مهمة صحفية  بـعنوان : " المجتمع السوفييتى عن قرب"، لكن أسئلته قد كشفته ، فأبلغ عنه كل من السائق والمرافق، وأمام هذا الحرج، طلبت السلطات السوفييتية من ناصر ترحيله من موسكو على أول رحلة لمصر للطيران، ولكن عبد الحكيم عامر أصر على أن هذا غير جائز لكونه ينطوى على إهانة للوفد الرسمى المصرى، وبعد مفاوضات تم التوصل إلى حل أرضى الطرفين .

نجيب "تحت الاختبار" :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان اختيار الأمريكيين لعبد الناصر نابع من اختبارات شديدة التعقيد بعضها متعلق بـ ( تاريخ حياته منذ الطفولة ـ المكونات النفسية ـ عقدة التى أورثته حالة الانطواء ) لكن الأهم من ذلك كله أنه شخص متعطش للسلطة، ولا يقبل التفريط فيها بأى ثمن وتحت أى ظروف وهو ما أثبته الواقع، ولكن التجربة أثبتت أن اللواء نجيب أكثر نهماً للسلطة، ففى يوم 18 يناير 1953 أصدرت حركة الجيش مرسوم بقانون حصنت نفسها ونظامها وقرارتها عن رقابة القضاء باعتبارها من أعمال السيادة العليا.
وفى 10 فبراير 1953 أكملت الحركة استيلائها على السلطة من الناحية القانونية بموجب دستور لفترة انتقالية ( ثلاث سنوات كما نص عليها قانون حل الأحزاب ) جعل السيادة العليا فى الدولة فى يد " قائد الانقلاب الذى أصبح ثورة " وجعل له الحق فى تعيين الوزراء وعزلهم ووضع السلطتين التشريعية والتنفيذية فى يد مجلس الوزراء .
وقد دفع كافرى بامرأة انجليزية من عملاء C.I . A.   للاقتراب من نجيب بغرض كتابة تقرير مفصل عنه، وجاء فى هذا التقرير أنه : 
" شيطان بصورة مبهجة، وبشع لكن بقدسية .. ويغطى ذلك بابتسامة حارة، إنه مظهر الأب المثالى للمصريين ".
ويقول لى وايت مؤلف كتاب " محمد نجيب " :
" لم تكن الأقوال البليغة التى اشتهرت عن نجيب سوى شعارات من إبداعى ، ويضيف : لم يكن نجيب أكثر من عمده قرية ماكر"، وصفه فى موضع آخر بـ " المحتال الودود ".
***
لم تفلح محاولات نجيب فى غسل سمعته عبر مذكراته التى ضمنها كتابين أحدهما بعنوان : " كنت رئيساً لمصر " ، والآخر بعنوان : " شهادتى للتاريخ " .. حاول فيهما المرافعة عن نفسه أمام محكمة التاريخ مستعينا بدراسته القانونية فى كلية الحقوق، لكن أكاذيبه خذلته !!

ناصر :
ـــــــــــ
 .. قبل الدخول فى الصورة الذهنية لعبد الناصر، وما بُنى عليها من هياكل التضليل الإعلامى الضخمة التى طمست الجزء الأكبر من تاريخ مصر فى العصر الحديث والتى مازلت تُخضع الجماهير قسراً للتضليل .. تجدر الإشارة إلى أمرين هامين هما :
أولاً : أن انقلاب 23 يوليو 1952 لم يكن سوى إبداعاً أمريكا خالصاً، فى إطار نظرية C. I .A : " أفضلية تغيير اللاعب بدلاً من تغيير قاعدة اللعبة " ، وقد بدأ تجريب تلك النظرية مع جنرالات أمريكا اللاتينية والكولونيل حسنى الزعيم فى سوريا!!، .. فقد ذكر مايلز كوبلاند ( مندوب المخابرات المركزية فى مصر) فى كتابه بعنوان : " لعبة الأمم "عن علاقته مع تنظيم الضباط الأحرار ومع جمال عبد الناصر خاصة :  (لم يكن انقلاب 23 يوليو لينجح لولا أن هناك تنسيقاً بين أمريكا وإنجلترا على ألا تتدخل الأخيرة فى الأحداث )، لكن الذى لم يذكره كوبلاند  أن أحد دوافع الانقلاب هو تصفية الحسابات القديمة مع الملك فاروق عقاباً له على إرساله الجيش المصرى إلى فلسطين عام 1948، بما يعوق الحماية الأمريكية للكيان الصهيونى الذى أخذ الأمريكان على عاتقهم مهمة حمايته منذ اللحظة الأولى لإعلانه والاعتراف به فى الأمم المتحدة .. كما لم يذكر كوبلاند رغبة الأمريكان فى إجهاض ثورة مصر الحقيقية، ومنع وصول حكومات راديكالية أو لإسلامية إلى حكم مصر، ووراثة الأمريكان لمستعمرات البريطانيين والفرنسيين ومنع المد الشيوعى من الوصول إلى المنطقة .
الأهم من ذلك والذى لم يذكره كوبلاند هو أنه : " فى حال فشل الانقلاب كانت طائرات من سلاح الجو المصرى جاهزة للإقلاع لتهريب قادته إلى سوريا باتفاق أمريكى مع أديب الشيشكلى !!" .
ثانيا : أن تنظيم "الضباط الأحرار" ما هو إلا فى واقع الحال سوى تنظيم " الحرس الحديدى " بعد تغيير اللافتة، وتغيير قائده؛ بعد أن بدأ القصر يغلق ملف الحرس الحديدى مع النصف الثانى من عام 1950 بعد أن افتضح أمره لدرجة أن ارنست بيفن وزير الخارجية فى حزب العمال البريطانى أستدعى السفير المصرى فى لندن عبد الفتاح عمرو، وطلب إليه أن يبلغ الملك بأنه :
" لا يليق بالجالس على عرش البلاد أن تكون لديه فرقة لقتل خصومه وإرهابهم يُسخر فيها بعض ضباط حرسه وجيشه " .
وزاد الأمر سوءاُ دخول ضباط " الحرس الحديدى " فى مشاكل مع بعضهم وخاصة مجموعة مصطفى كمال صدقى لأسباب شخصية تناولها الناس فى أحاديثهم بل أصبحت موضوعاً لتحقيقات رسمية بعد قتل مصطفى كمال صدقى لخادمة ناهد رشاد بإلقائها من الدور السابع حتى لا تكون شاهدة على علاقة آثمة !!
.. وحالت الظروف جميعها دون استمرار " الحرس الحديدى " باسمه القديم، وتغيرت قيادته، بعد أن تردت أمور د . يوسف رشاد المطعون فى شرفه، وطلاقه من ناهد رشاد، بعد فضائح عديدة، ووجدت ناهد رشاد عند الملك فاروق المطلق أيضا بعضاً من السلوى جعلها تحلم بتاج ملكة مصر، بعد أن وعدت يوسف رشاد بالزواج من سيده،.. لكن فى دنيا البشر من يضع البدايات، لا يستطيع أن يحكم النهايات، فقد أتت الرياح بما لا تشتهى ناهد؛ فقد أفاقت على صدمة زلزلت كيانها بخطوبة الملك لناريمان، وبرغبة الأنثى فى الانتقام أصبحت عين ضباط الانقلاب داخل القصر، والتدخل لصالحهم فى الوقت المناسب؛ فقامت باستبدال المنشورات التى ضبطها البوليس السياسى فى وحدات الجيش بيوميات تسيير الأعمال فى تلك الوحدات، واستمرت فى أداء هذا الدور بتخدير الملك حتى فى ليلة 23 يوليو، وإيهامه أن كل شئ على ما يرام وأنه ليست ثمة داع للقلق .
من هو ناصر ؟!:
ــــــــــــــــــــــــــ
نشأ عبد الناصر طفلاً يتيماً لأمه فى حارة اليهود بحى الخرنفش ، وهى حارة منعزلة بطبيعتها وطبيعة ساكنيها، ذكر الدكتور على شلش في كتابه تاريخ اليهود والماسونية في مصر ـ الصادر عن دار الكتب والوثائق القومية ـ ص 163:
(أن سيدة يهودية تدعى مدام يعقوب فرج شمويل ، كان عبد الناصر يدين لها بالفضل ؛ لأنها هي التي رعته في طفولته وبعد وفاة أمه ، وكانت تعامله كأحد أبنائها .).
فنشأ طفلاً منطوياً ..وتبلورت صفة الصمت والكتمان والتخفى وتأصلت فى شخصيته بانضمامه إلى العديد من التنظيمات السرية فى آن واحد ؛ فهو قائد تنظيم الإخوان المسلمين داخل الجيش الذى اتخذ لنفسه اسما حركيا (البكباشى عبده )، وعضو جماعة "الإخوان المسلمين "  الذى اتخذ لنفسه اسماً حركيا " عبد القادر زغلول " وهو عضو "حدتو" الذى اتخذ لنفسه اسما حركيا ( موريس ) حتى أصبح لغزاً ؛ ويقول فريا ستارك فى كتابه بعنوان : "غبار على أقدام الأسد " الصادر فى لندن سنة 1961 :
( .. ويشاع أنه ـ أى ناصر ـ كان على علاقة بالمخابرات البريطانية، و"إخوان الحرية" وهى المسئولة عن العمليات البريطانية لمواجهة دعاية المحور فى الشرق الأوسط " .
.. ويذكر البروفيسر فاتكيوتس فى كتابه بعنوان : " عبد الناصر وجيله " أن :
" لقد سجلت تقارير البوليس السياسى بقاء عبد الناصر فى " مصر الفتاة " حتى عام 1938 عندما كانت تقوم بالتحقيقات حول محاولة اغتيال النحاس باسا زعيم الوفد الذى قام بها عضو "مصر الفتاة " عز الدين عبد القادر فى 28 نوفمبر 1937، وتضمنه التقرير المحفوظ فى المحكمة العليا برقم 143/ لسنة 1938 عن جمال عبد الناصر المقيم فى 2 خميس عدس ـ الخرنفش ."
الغريب فى الأمر أن مصر الفتاة كانت تنظيماً وطنيا وإسلامياً معادي لبريطانيا و" الأخوان المسلمين " والشيوعيين، ومع ذلك أحتفظ ناصر بخطوط اتصال بهم جميعاً فى آن واحد؛ وهو ما يؤكد أنه لم ينضم فى واقع الأمر لأيهم بل كان انضماماً صورياً؛ بهدف اختراقهم لحساب طرف آخر لم يكشف عنه إلا بعد الانقلاب !!
كل هذا أضفى هالات من الغموض على شخصية عبد الناصر، فإذا ما أضفنا إليها العلاقة الغامضة بإسرائيل ؛ فحينما كان رئيس أركان حرب الكتيبة السادسة مشاة ضمن القوات المٌحاصَرة في بلدة عراق المنشية قطاع الفالوجا ، كان يتحدث عبر خطوط الجبهة مع اليهود المٌحاصِرين للفالوجا ، ويتلقى هدايا البرتقال والشيكولاتة من إيجال يادين الذي كان رئيساً لأركان حرب جنوب فلسطين .. وخاصة إذا وضعنا فى الاعتبار أن الكتيبة السادسة مشاة بقيادة عبد الناصر هى التى أطلقت النيران على العقيد البطل أحمد عبد العزيز !!
وعززت تلك الهالات من الغموض وظلال الريبة أن عبد الناصر دخل العديد من الحروب انتهت جميعها بالهزيمة أو الانسحاب دون تحقيق هدف بل كان ضررها أبلغ، كان عبد الناصر يدرك قدراته جيداً ، ويعرف أنه لا يستطيع تحقيق انتصار، لكنه كان مدفوعا إلى سياسة "المهرجان " وسياسة المهرجان تعنى لعب دور الدول الكبرى لتدفع له الدول الكبرى مقابل التدخل فى اليمن والجزائر والكونغو دعماً للمصالح الأمريكية، ودخلت مصر فى الحلقة المفرغة التى شار إليها كوبلاند :
"كان استمرار المهرجان ضرورياً للحصول على الدعم ، كما أصبح الحصول على الدعم ضرورياً لتمويل المهرجان".
 وانتهى المهرجان بكارثة 1967 ، فقد كانت نفقات المهرجان أكثر من عائداته بكثير، وكان على ناصر أن يختار بين أمرين كلاهما مر، .. كان الأمريكان قبل قطع المعونة يقدمون معونة للشعب المصرى تمثل 80 % من رغيف الخبز الذى يأكله، يقول كوبلاند :
" فى البلدان التى تبدو حالتها ميئوس منها من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، ليس أمام القائد المحلى سوى أن يهتف يسقط الاستعمار، وتهتف له الغوغاء بينما بلدهم يسير نحو الدمار، أو أن يقبل المعونة، ويرضى بدور العميل للاستعمار بدون أدنى شك "
عاش ناصر الأزمة بأبعادها بعد أن ذاق طعم الهزيمة وعرف آخر خدمة الغز .. !!، بينما كان للشعب المصرى رأى آخر التى لخصه فى نكتة مفادها أن : 
" الشعب لم ينهزم .. إنما تعرض قادته الذين خدعوه وضللوه لحالة اعتداء جنسى !!"
.. كانت النكات توجع ناصر وتمرغ كبريائه المزعوم فى أوحال الهزيمة لدرجة أنه فى أول خطاب له بمجلس الشعب بعد الهزيمة طالب الشعب بأن يكف عن النكات بزعم استغلالها من قبل أعداء الوطن !!
ولخصها الرئيس الأمريكى جونسون فى لقائه بالسفراء العرب ، عندما قال مخاطباً كلبه :
" جارى المشاغب يا كلبى يزعج جيرانه فأعطوه علقة، والآن يريدنى أن أتدخل وأنقذه "

ثقافة ناصر :
ـــــــــــــــــــــ
لم بكن عبد الناصر هو المثقف الموسوعى التى حاول "دراويش الناصرية " تسويق صورته فى إطار "أسطورة الزعيم " وإكسابها طابعاً خلاباً يجتذب الجماهير ويكتسب تأييدها.. ؛ فقد ثبت للباحثين بما لا يدع مجال للشك تزوير كارت الاطلاع الخاص بناصر فى الكلية الحربية ، ويؤكد البروفيسور فاتكيوتس أن :
 ( ذكر أحد مدرسى عبد الناصر وهو السيد نجيب إبراهيم أن جمال قرأ سلسلة العبقريات للكاتب عباس محمود العقاد، مثل سيرة عمر بن الخطاب وسيرة سعد زغلول ورواية توفيق الحكيم "عودة الروح" ، والسيرة الذاتية لطه حسين (الأيام)، وقرأ أيضا حياة فولتير، وروسو، ونابليون، والإسكندر، جاريبالدى ، وغاندى، وهانيبال .)
.. لكن شمس بدران فى مذكراته ( غير المنشورة حتى الآن ) يذكر أن عبد الناصر قرأ كتاب : " الذئب الأغبر مصطفى كمال أتاتورك " من تأليف الكابتن هـ. س . أرمسترنج، وكان يحفظ بعض فقراته عن ظهر قلب وكان يعتبرها النمط الأمثل لأسلوب الحكم !!
وهى قراءات عادية لا تصنع مثقفاً من طراز فريد قادر على قيادة شعب يتطلع إلى التغيير فى ظل أول حاكم مصرى منذ ألاف السنين !!.. فلم يكن ناصر يجيد سوى العمل السرى فقط ، ولا شئ آخر !!
العمل السرى :
ـــــــــــــــــــــــ
كان عبد الناصر يستند فى أسلوبه فى الحكم إلى حشود الجماهير غير المنظمة سياسياً ( الغوغاء )، وسيطرة الجيش على الدولة والمجتمع وإقصاء الجماعات الأخرى .
يقول كوبلاند : كان رأى ناصر عن "القيادة" أو " النخبة الطبيعية " قد وصل إلى حكومتنا ليس عن طريق ميد بل عبر قناة " هيكل ـ ليكلاند " ؛ قال عبد الناصر للسفير الأمريكى كافرى : 
" إن إعطاء المصريين حريتهم بسرعة هو أشبه بترك أطفالاً يلعبون فى الشارع تحت رحمة الظروف "
.. وقد بدا ذلك واضحاً فى تشييد الصروح الضخمة لهياكل الديمقراطية الزائفة؛ فعندما أعلن ناصر قيام الاتحاد الاشتراكى فى يناير 1963 شكل أمانته العامة من أهل الثقة ( 9 ضباط و3 مدنيين )، لكن ذلك لم يدخل الأمان إلى نفسه؛ فبدأ إنشاء التنظيم الطليعى فى يونية 1963، وكان الهدف منه تكوين الجهاز السياسى للتنظيم أو نواته الصلبة ، وكانت الفكرة تتشابه مع تنظيم رابطة الشيوعيين اليوغسلاف وقد أرسل ناصر صلاح الدسوقى لدراستها فى يوغوسلافيا، وكان أهم عمل من أعمال التنظيم الطليعى كتابة التقارير السرية عن اتجاهات الرأى العام .
ولما علم المشير عامر بـ " التنظيم الطليعى " أمر شمس بدران بتشكيل تنظيم طليعى موازى  فى القوات المسلحة .
.. حكم ناصر الدولة بالخوف، ولم يعد هناك ما يُخيفه سوى الخوف ذاته؛ كان عبد الناصر قليل الثقة فى لجان الاتحاد الاشتراكي التى كان يراها : " لجان فى الهواء ، ليست لها أى فاعلية، كما اعترف أنه لا يثق فى لجان رعاية الشباب".
وقد اقترح شعراوى جمعة فى جلسة الثلاثاء 5 يناير 1965 الأخذ بنظام " الكادر السياسى" وهى فكرة قائمة على استمرار الاتحاد الاشتراكى كتنظيم قائم يعمل علانية وتشكيل كيان سياسى داخل الاتحاد الاشتراكى فى هيئة لجان سرية فى الأمانات الفرعية وفق خطة تجنيد يكون عمل الكادر السياسى سريا .

الصورة الذهنية لناصر :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يكن عبد الناصر ذو ماضى عسكرى عريق، ولم تكن قدمه قد ترسخت فى رتبة البكباشى التى حصل عليها فى 24 يناير 1954 قبل موعد استحقاقها ضمن إنعام ملكى بمناسبة سبوع ولى العهد ( اختفت أغلب الأوراق من ملف ناصر )، ولم يكن أيضا من أسرة عريقة يمكن الارتكان على تاريخها؛ فكانت الصورة الذهنية التى تم تقديمه بها للجماهير فى المنشية فى 26 اكتوبر 1954 ، والتى تمت صياغتها فى أقبية C. I . A . هى صورة البطل الشعبى الذى لا يخشى الموت، وفى لحظات الاستحواذ على عقول الجماهير تحت وطأة التأثيرات الانفعالية، قام بتمرير رسالته :
" لقد علمتكم الكرامة .. وزرعت فيكم العزة . "
وبممارسة معالجة نقدية لمضمون الكلمات؛ للوقوف على حقيقة الموقف يتبين مدى الهراء .. فمتى وأين حدث ذلك من جانب ذلك الفتى الغر ( 36 سنة ) لشعب ضارب فى عمق التاريخ بحضارة عمرها سبعة آلاف سنة ؟!
.. وما معنى الكرامة لطفل نشأ عائلاً فى بيت سيدة يهودية كانت صديقة لأمه ؟!، وقد تربى عائلاً فى بيت عمه خليل؟! وتربى من أموال الهبات التى كان يمنحها باشا قرية الأخماس بالبحيرة لوالده البوسطجى الفقير!!، وأين كانت كرامته عندما اصطحبه  ابراهيم عبد المجيد باشا ( وزير المواصلات ونائب أبنوب ) فى سيارته ليتوسط له فى دخول الكلية الحربية، وأمره أن يركب بجوار السائق .. فلو كان للكرامة أثر فى نفسه لضحى بحلمه فى دخول الحربية، وما ارتضى الدنية بالركوب بجوار السائق !!
لكنها الصورة التى صنعها لينبارجر وحرص عبد الناصر عليها منذ الوهلة الأولى؛ فبدت صورته مهيبة وساعده على ذلك سمات جسمانية تمثلت فى قامته الفارعة وعرض منكبيه ، قليل الكلام وهى سمة اكتسبها من العمل السرى ، جهورى الصوت إذا تحدث ، فلا مانع من استغلال تلك السمة فى خطابات عنترية بكلمات جوفاء تنتزع التصفيق وتجتذب التأييد وتدفع بالجماهير بما لا يحقق مصالحها على المدى البعيد .. ولا مانع من النوم فى أحضان الأمريكان ومطارحتهم الغرام سراً، والمجاهرة بعداوتهم جهراً .." ويشربوا من البحر ، وإذا معجبهمش البحر الأبيض، يشربوا من البحر الأحمر ".

كان ناصر ينفذ بنود قانون " الغرام الأمريكى  " ، فلا مانع من شتم الأمريكان ومهاجمتها فى العلن من آن لآخر حتى تظل المصالح الأمريكية محمية، والروابط الخفية قائمة وفاعله !!
وأحاط ناصر نفسه بجيوش من مؤلفى الأغانى والملحنين والمطربين وقد بلغت حصيلة الأغانى التى تتغنى به فى أرشيف الإذاعة المصرية  1142 أغنية من أول أغنية "يا جمال يا مثال الوطنية " ، غداة يوم حادث المنشية إلى أغنية "الوداع يا جمال يا حبيب الملايين " يوم موته والذى ارتجل كلماتها ولحنها الشاعر عبد الرحمن عرنوس الأستاذ بمعهد الفنون المصرية والتى غناها مجموعة من شباب المهاجرين البورسعديين الذين كونوا فرقة أطلقوا عليها اسم : "شباب البحر ".
.. ولأن الإذاعة لم تعد كافية فى حشد الجماهير وازدياد الحاجة إلى المؤثرات البصرية فى ترسيخ الصورة والتلاعب بالوعى فضلً عن دراسات أكدت " قدرة التليفزيون على تعميق الإيحاء "  .. كان المصريون لا يعرفون شكل الحاكم إلا من بعض الصور التى تنشر فى الصحف، ولا يسمعون صوته إلا أحيانا عبر المذياع .. ، فكان إنشاء التليفزيون فى عام 1960 الذى نقل لهم الزعيم بالصوت والصورة ليصبح وجوداً حياً فى منازلهم يعيش بينهم، وتفنن خبراء التليفزيون عبر خداع الصورة من جعل  عبد الناصر شخصية أقرب إلى الأسطورة وإظهاره فى صورة الزعيم القادر على تحقيق المستحيل ،وإثارة حماس الجماهير وحناجرها بإشارة من يده .
 
طبيعة الانقلابات :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من طبيعة الانقلابات المدعومة، والمصنوعة أن تركب حركة جماهيرية موجودة بالفعل لإجهاض الثورات الحقيقية، وأن تتخذ لنفسها لافتات ضخمة من شعارات إقليمية وطنية تخفى حقيقتها، ولم يكن ضباط الانقلاب لديهم أدنى معرفة بذلك؛ فقد قفز الضباط إلى السلطة ولم يكن لديهم أى خبرة بالحكم أو ممارسته أو أى فكر ثورى ينير لهم الطريق، وهو ما جاء تقرير جيمس ايكل برجر خبير وزارة الخارجية الأمريكية بالأنظمة العسكرية فى الدول النامية والذى ذكر فيه أن ضباط الانقلاب ليس لديهم أى دراية بطبائع الأمور ،وأنهم أشبة بأفراد عصابة روبن هود المرحة !! .. ولم يكن أمام ضباط الانقلاب من خيار سوى السطو على المشروع السياسى والاجتماعى  لحزب الوفد من احترام للدستور وإعادة الحياة النيابية والعودة إلى ثكاناتهم لأداء المهمة المقدسة فى حماية الحدود وهو ما ذهب كله أدراج الرياح بعد أزمة مارس 1954.
.. ورغم اعترافهم أن القضية الفلسطينية لا تعنيهم، فقد رفعوا شعار العداء لإسرائيل ، رغم أن الاتصالات من أجل التسوية لم تنقطع بينهم وبين الصهاينة من شهر أغسطس 1952 وحتى توقيع اتفاق كامب ديفيد ، وقد اعترف ناصر بوجود اسرائيل فى مؤتمر باندوج الذى أقر بالموافقة على قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين وهذا موجود فى وثائق المؤتمر عام 1955 .
وبعد هزيمة ناصر فى 67 بدأ يجرى اتصالات باليسار الصهيونى من حزب المابام، وجماعة ناحوم جولدمان رئيس المؤتمر الصهيونى العالمى وبمجموعة مجلة " نيو أوت لوك " التى يرأسها سمحا فلابان وكان يتولى تلك الاتصالات أحمد حمروش وبعض الشيوعيين اليهود المصريين مثل هنرى كورييل ويوسف حزان .
فأسطورة الصراع العربى الاسرائيلى التى بنت عليه الانقلاب كذبته ، كان استمراراً لإدارة الوفد للصراع؛ فقد أغلق قناة السويس فى وجه الملاحة والتجارة الإسرائيلية بعد عقد الهدنة المصرية الإسرائيلية فى رودس، وفى عهد حكومة الوفد الأخيرة شددت إجراءات تفتيش السفن المحايدة بعد أن تبين استخدام إسرائيل لها فى شحن السلع وشددت إجراءات الرقابة على إرسال البترول إلى إسرائيل عبر قناة السويس وشددت الحصار على إسرائيل من البحر الأحمر ففى يناير 1950 تم الاتفاق بين حكومة الوفد والسعودية على أن تنزل قوات مصرية فى جزر تيران وصنافير اللتين تتحكمان فى خليج العقبة ونصبت المدافع المصرية فى رأس نصرانى مما أدى إلى عزل إسرائيل وعجزها عن إقامة علاقات اقتصادية مع الدول الإفريقية الواقعة على ساحل البحر الأحمر .
وقد انتهى هذا الحصار نتيجة لحرب 56 التى هُزم فيها النظام الناصرى، واضطر فيها لمنح الكيان الصهيونى ممراً بديلاً عن قناة السويس عبر المياه الإقليمية المصرية فى خليج العقبة وتحت رعاية قوات الأمم المتحدة !!
كانت حكومة الوفد ترفع شعار "الوحدة العربية"  وتتخذ من الجامعة العربية إطار لها، لكن "فكرة القومية" لم تكن متضحة بما فيه الكفاية وكان الآراء مختلفة حولها، ولم يكن شعار القومية العربية سوى جزء من خديعة الأمريكان، فلم يكن ناصر يعرف شيئاً عن العروبة أو القومية العربية .. وإنما تمت صياغة الشعار بمعرفة الأمريكان، وهو ما يلخصه كوبلاند بقوله : ( ولابد من إدراك حقيقة مهمة جداً وهى أن فكرة "القومية العربية " ليست إلا جزء من أسطورة ناصر إلا أن كون مفهوم مصر "رائدة العرب "  قد غدت جزء مهماً من الأسطورة !!)
ونأتى إلى ادعاء البطولة فى "كسر احتكار السلاح" التى نسبت إلى عبد الناصر عقد صفقة الأسلحة الروسية التى أطلق عليها الأسلحة التشيكية، وأحيطت بهالات من البطولة، كانت فكرة الوفد، وقد أخذ فى تنفيذها فى أخر حكومة له، وأرسل فى ذلك لجنة إلى أوربا فى سبتمبر وأكتوبر 1951 برياسة مصطفى نصرت وزير الحربية الوفدى، غير أن الظروف لم تسمح بإتمامها فى إطار حماية أمن إسرائيل وضمان تفوقها العسكرى .
وإذا وقفنا على حقيقة الأمر نجد أن تلك الصفقة تأتى فى سياق الخداع، فالذى سهله هم الأمريكان والذى صاغ بيان إعلانها هم عملاء C. I . A  فى القاهرة ، ولم تكن فى حقيتها سوى أسلحة متواضعة الإمكانيات ولا تصلح إلا لتسليح قوات البوليس !!
خلاصة القول أن الناصرية لم يكن لها مشروعها الوطنى وانتهت إلى كارثة، حقق ناصر الكثير من الإنجازات، لكنه أسرف فى إعطاء الأمانى للشعب وعجز عن تحقيقها، وعجز عن تحقيق الهدف الذى يُقام من أجله أى نظام وهو حماية حدود الوطن !! تسلم جمال عبد الناصر مصر وهى محتلة بالإنجليز ، وجاهد حتى حصل على جلائهم منها بعد تقديم تنازلات فى معاهدة 1954 ولما جاءت الفرصة استرد جميع التنازلات .. لكنه قبل أن يموت تركها محتلة إسرائيلياً بعد هزيمة 67.
وبعد هزيمة 1967 ، وفى أول اجتماع لمجلس الوزراء أعترف ناصر  بسقوط النظام ، وأكد أنه : " ليس معنى أن الشعب تمسك بنا أن النظام لم يسقط "

هل كان ناصر وطنياً ؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد هزيمة 67 كان الوجع يلف مصر بصوت الآهات ، وكان الطلبة يتغنون بصوت مبحوح مذبوح  : " أشعار تمجد، وتماين .. حتى الخاين ، وان شا الله يخربها مداين .. عبد الجبار " .. ولم يكن عبد الجبار هذا سوى الاسم الحركى لعبد الناصر ، وكانت أول مرة يتهمه الشعب بالخيانة، كان الجميع يتفهم أنها كلمات تحت تأثير انفعالاتنا فى ظل أنين الوجع ولعق الجرح النازف من الأحشاء .
وبعد موت ناصر بكاه الشعب بحرقة، ثم عاد ليمسح دموعه ويتندر على ممارسته فى سخرية من خلال النكات الجارحة والتى تحمل فى طياتها أحيانا بذاءة، وصدرت جريدة الأخبار وعلى صدر صفحتها الأولى مربع يحمل صورة ناصر وإلى جوارها عنوان : " جمال عبد الناصر مؤسس مصر الثورة " ، وكتب توفيق الحكيم مقالاً بجريدة الأهرام يدعو إلى اكتتاب شعبى لإقامة تمثال لناصر على قاعدة ميدان التحرير، وكانت المفاجأة رسالة من مبعوث مصرى بالخارج يقول للحكيم : " ليس مكان التمثال الطبيعى قاعدة ميدان التحرير ، ولكن على قاعدة فى دولة إسرائيل ، ودعى صاحب الرسالة الحكيم أن يقارن بين خريطة مصر عندما تولاها ناصر وخريطة مصر يوم رحيله ، واختتم رسالته قائلا :  ماذا نكتب على قاعدة التمثال ؟! ".. لم يستطع الحكيم جمع جنيها واحدا، وفشل المشروع .
أساء الكثيرون إلى ناصر ؛ فاتهمه البعض بأنه ابن لسيدة يهودية، واتهمه البعض بالعمالة لإسرائيل وأنه تم تجنيده أثناء حصار الفالوجة وكلها اتهامات تنطوى على حالة من السفه والجهل، فوالدة ناصر هى السيدة / فهيمة محمد حماد من كريمات الأسر الصعيدية التى كانت تقطن الإسكندرية وتعمل فى تجارة الفحم، وناصر كان ـ وما يزال رغم الاتهامات التى طالت ذمته المالية ولم يتم حسمها بمعرفة جهة قضائية ـ ضابطاُ وطنياً ومصرياً شريفاً حتى النخاع أراد أن يستغل ظهور الأمريكان على المسرح الدولى كقوة لتحقيق مصلحة بلاده، ونظراً لفارق الخبرة والقدرات والإمكانيات تلاعبوا به ؛ فمنوه تارة ، ووعدوه أخرى، وخوفوه ثالثة، وقضوا عليه أخيراً بهزيمة 67 ، وتركوه يموت !!

السادات :
ـــــــــــــــ
فى جنازة ناصر حضر الملك فيصل وصهره كمال أدهم مدير المخابرات السعودية والتى تعد إحدى غرف C. I .A. فى المنطقة ، وهمس أدهم فى أذن صديقه القديم أنور السادات : " حان الوقت ."
كان السادات يدرك حجم المأزق، ويسعى إلى تسويغ وتسويق نفسه لدى الشعب المصرى وهداه تفكيره بعد حلف اليمين الدستورية إلى الانحناء أمام تمثال عبد الناصر قائلا : « لقد جئت إليكم على طريق عبد الناصر»، وهو ما أثار استياء الشعب المصرى المتدين بطبعه والذى يكره الوثنية، ويعتبر التمثال صنم ؛ فأدرك البسطاء أنهم أمام شخص فهلوى يلعب بالبيضة والحجر، أو كما يقول أولاد البلد :  "ابن حنت " واطلق البعض النكتة الشهيرة : " والله ونلتها يا خيشة "، أو كما جاء فى تحليل الخبراء " بهلوان سياسى " .
وبدأ السادات يركز على أن اسمه محمد، فقد اشتهر السادات منذ عرفه المصريون متهماً فى قضية مقتل أمين عثمان باسم أنور السادات، وبعد توليه السلطة بدأ يُلقب ثلاثياً محمد أنور السادات فى إشارة إلى أنه يتسمى باسم النبى محمد، تمهيدا لما سيلقب به فيما بعد : «الرئيس المؤمن»، والذى يستهل خطابه بآيات من القرآن الكريم، كما استخدم ألفاظا شعبية من قاموس صديقه الكاتب الشعبى زكريا الحجاوى فى مغازلة للبسطاء ودغدغة مشاعرهم لكسب تعاطفهم.
السادات ، .. من الرئيس المؤمن إلى الرئيس المُدمن

ولم يغفل السادات دور الصورة الفوتوغرافية فى رسم الصورة الذهنية التى يريدها، فنشرت له الصور بالعباءة والجلباب البلدى، وظهرت زوجته جيهان وهى ترتدى ملابس القرويات فى ميت أبو الكوم .
.. ثم كانت رسالة أخرى مفادها ، أن السادات مراقب طول الوقت ، وأن ثمة كاميرات وميكرفونات فى غرفة نومه، وتمكن السادات من إدخال خبراء الأمريكان فى هيئة مهندسى ديكور ألمان لتغيير ديكورات منزله بما يليق بمكانة الرئيس .
.. ثم كانت الرسالة الثالثة والأهم قبل عيد ميلاده فى 25 ديسمبر 1970، وكان مفادها :  " أن تطلب سكرتارية الرئيس من اللجنة المركزية كشف بأسماء من يرغبون فى حضور الاحتفال، وكانت التعليمات لقائد الحرس ألا يترك الرئيس يغيب عن عينيه لحظة، ولا يجعل أحد يخلو إليه " ، وأمكن للخبراء رصد أبعاد المؤامرة وأفرادها فى ذلك اليوم حتى كانت ليلة 15 مايو، فتم إسدال الستار على آخر فصولها .
كان السادات بدون ظهير شعبى ؛ فرتب الملك فيصل إجراءات المصالحة بين السادات والإخوان المسلمين فى صيف 71 فى استراحة جناكليس، اعتمد السادات على ترويج الإخوان له بصفته الرئيس المؤمن والمقابل تشويه صورة عبد الناصر، ولكى تتطابق واجهة الصورة مع خلفيتها كان لابد من طرد السوفييت الملحدين؛ففى نهاية يونيو1972 زار سلطان ابن عبد العزيز مصر ومعه كمال أدهم، .. وفى 8 يوليو 1972 قدم السادات هدية مجانية للأمريكان بإعلانه طرد الخبراء الروس !!
..  ساعد الظرف التاريخى السادات على تحسين صورته بالانتصار العظيم فى أكتوبر 1973، لكنه حوّله إلى حالة من الاستعراض الشخصى بلبس البذات العسكرية للأسلحة المختلفة، بما يتفق وكل مناسبة ، وهو ما كان مثار سخرية الشارع ، الذى عبر عنها فى صورة نكتتين، وهما أن السادات عندما ذهب إلى مركز تنظيم الأسرة لبس "لولب"، وعندما ذهب إلى مركز رعاية الطفولة لبس "بامبرز".

 
فالسادات لم يُحسن استغلال النصر التاريخى يإصلاحات اجتماعية، فبدأ المواطن البسيط يفقد الثقة فى أحاديث السادات عن الرخاء القادم حتى اندلعت مظاهرات 18 و19 يناير 1977 التى كان السادات يُصر حتى أخر يوم فى حياته على تسميتها بـ "انتفاضة الحرمية " ، والتى اضطر الجيش للنزول لاحتواء الموقف وحماية مؤسسات الدولة بعد إعلان تراجع الحكومة عن قرارتها، ولما كان من الصعب تصور إمكانية استخدام الجيش مرة أخرى فى حالة ظهور قلاقل فى الشارع على النحو الذى استخدم فى يناير 1977، وكان النظام فى حاجة إلى قوى تساعده خصوصاً فى الشارع وهنا جرى استدراج بعض القوى من التيار الدينى ليكونوا حلفاء للنظام وبالطريقة التى أشرف عليها عثمان أحمد عثمان رئيس المقالون العرب ومحمد عثمان إسماعيل محافظ أسيوط وأمين عام الاتحاد الاشتراكى وراح الاثنان يقدمان الدعم لبعض الجماعات الإسلامية، وبعد غزو السوفييت لأفغانستان تم توريد أفراد من تلك الجماعات سراً بمعرفة C. I .A.  كمرتزقة للقتال هناك .
كان الأمريكان يشعرون ببطء السادات فى إنجاز ما يطلب منه، فأبرزوا له أول كروت الضغط فنشرت جريدة الواشنطن بوست فى 24 فبراير 1977 ( بعد شهر من الانتفاضة بينما السادات مازال يلعق جرحه ) على صدر صفحتها الأولى أن : "كمال أدهم كان طوال الستينات يمد السادات بدخل ثابت "، وكان لابد على السادات لإنقاذ حكمه من زيارة القدس  .
وبدأ الأمريكان خداع السادات بنفس خداع ملوك افريقيا البدائيين بالخرز الملون والملابس المزركشة، ولم يكن الخرز الملون والملابس المزركشة سوى مخايلات الصحف الغربية ومحطات التليفزيون، وبدأ السادات يفقد مع كل حديث صحفى ومع كل برنامج تليفزيونى قطعة من ملابسه وركن من أركان قضية الحق العربى ، حتى جردوه من كل شئ وأصبح كارتاً محروقاً؛ فتخلوا عنه؛ فلا أمريكا تقبل الضغط على إسرائيل لحل قضية النزاع فى الشرق الأوسط، ولا هى موافقة على حل المشاكل المالية بيننا وبينها، وتملصت إسرائيل من تنفيذ الشرط الثانى وهو الجزء المتعلق بالحكم الذاتى للفلسطينيين باستحداث الحكم الذاتى للأفراد وليس للأرض، والقدس لن تعود مرة أخرى مدينة مقسمة وسوف تكون العاصمة الأبدية لإسرائيل، ولا عودة لحدود 67 ، ولا عودة للاجئين ، ولا دولة فلسطينية !! .. خسر السادات كل رهاناته !!
.. وراح يدخن الحشيش ، وينتابه لحظات يتلهف عليه حسبما جاء فى كتاب : " الحجاب VEIL  " لبوب وود ورد المقرب من دوائر المخابرات المركزية حيث قال فى ص 36 : " SADAT smoked dope and had anxiety attaks "، فى محاولة لتفسير عصبية السادات وسبه لخصومه وإفشاء أسرار تتعلق بمساعدة أمريكا للمجاهدين فى أفغانستان وهو أمر كانت تخفيه فى توازنات علاقتها مع الاتحاد السوفييتى، وكذلك تزويد أمريكا للأفغان المناوئين لنظام كابول بالأسلحة .
.. ولأنه جاب آخره ، ولم يعد لديه سوى البروباجدا فاستقدم فريق من خبراء الصورة الذهنية الألمان لمنحه قبلة الحياة ، واقترح هؤلاء تصوير السادات يربت على كلبه فى محاولة لتصويره فى صورة الرئيس الرحيم، الرفيق بالحيوان ، وهى صورة تستهوى القارئ الأوربى لكنها أصابت القارئ المصرى بالنفور فالكلب فى عرف البعض حامل للنجاسة !!، ويعد من نواقض الوضوء فى بعض المذاهب الإسلامية .
لم يحقق الســادات الصــورة المنشودة؛ فأصبح على حــد تعبير المراجـع الأجـنبية " منبوذ اً     Out cast" ، وهو ما جعل السادات يستنسخ تجربة محمد نجيب بدعوته للمصور فاروق إبراهيم مصور" أخبار اليوم "  فى مارس 1981 لتصوير يوم فى حياته من خلال صور ظهر فيها بالملابس الداخلية، وأيضا وهو يحلق ذقنه ويمارس رياضة اليوجا، والسباحة فى حمام السباحة بقصره، الغريب فى الأمر أن الصور كانت موضع سخرية الشعب المصرى الذى أطلق تعبيره اللاذع " خيشة " فلم يفلح السادات فى كسب ثقته وتحسين صورته أمامه، فبينما كان السادات يمارس رياضة السباحة فى حمام قصره كانت المياه لاتصل إلى المنازل إلا فى ساعات قليلة من النهار، ولا تصل إلى الأدوار العليا فى المنازل مطلقاً والشوارع غارقة فى مخلفات الصرف الصحى .
أصبح السادات عبئاً على الجميع؛ وبدأ الأمريكان يتخوفون ردود أفعاله غير المتوقعة؛ فقرروا إنهاء اللعبة، وتغيير اللاعب .. ، وقد أعلن الشعب المصرى رأيه صراحة فى السادات بعد اغتياله؛ فلم يهتز حزنا عليه، ولزم منازله فبدت الشوارع شبه خالية؛ ليتم التغيير وانتقال السلطة بسلاسة وليترك السادات يوارى التراب دون مشيعين .
***
بعد مقتل السادات أجرت جهات سيادية وأجهزة عالمية تجارب إستراجعية على نموذج مجسم  للمنصة مع اختلاف أوضاع الحراسة فى كل الاحتمالات، وانتهت جميعها إلى النتيجة التى حدثت فى الواقع؛ بما يقطع بأن التخطيط تم بمعرفة جهة عالية الاحترافية، وأن التنفيذ تم بمعرفة تنظيم الجهاد الذى ربما أمكن اختراقه بمعرفة تلك الجهة !! .. وربما يكون الاختراق عبر وسائط قريبة من " فكر الجهاد " أو أن الاختراق تم عن بعد عبر وسائط يصعب تتبعها بحيث لا يشعر المنفذون الأصليون بوجود تحريض خارجى على الإطلاق ..
اتهمت أسرة السادات جهات خارجية بالضلوع فى قتله، لكنها عادت وعدلت عن اتهامها لأسباب مصلحيه .
الأمريكان لا يظهرون فى مسرح الجرائم أبداً ؛ ولا يتركون ورائهم بصمة، ولا شاهد، فقد استنفذوا أغراضهم من الكولونيل حسنى الزعيم، وقادوا انقلاباً ضده بقيادة سامى الحناوى، وتركوه للجيش السورى لينفذ فيه حكم الإعدام بالنيابة عنهم .

مبارك :
ـــــــــــ

 
الصدفة وحدها هى التى أتت بمبارك إلى كرسى الحكم؛ فقد جاء من وسط دوامات الدم وعواصف اللهب، ومنذ اللحظة الأولى لم يترك مبارك فرصة للتلاعب بوعى المصريين إلا واغتنمها، فبعد أداء اليمين الدستورية لم يستطع حبس دمعة ذكورية عزيزة، دائما ما يطلقها الساسة لاجتذاب تعاطف الجماهير مبدياً أنه ما كان يدور بخلده أن يقف هذا الموقف بعد نهاية درامية للسادات .
.. ولم ينطلى ذلك على الشعب المصرى فهو يرى مبارك  مجرد موظف بدرجة رئيس جمهورية، ذو خلفية عسكرية ولا يجيد سوى التحدث بلغة "القشلاقات"  Parracks وهى لغة خشنة تفتقد الأدب والتهذيب ، ولم يبذل أدنى جهد لتغيير هذه الصورة فهو يدرك حقيقة قدراته، فهو أخير دفعته فى الكلية الجوية، وهو دائما فى آخر الصف وذيل السرب، وعندما عينه السادات نائباَ للرئيس كان موضع نكات وقفشات وسخرية رجالات الدولة المقربين من الســادات لدرجة أن أحـدهم أطلق علية لقب : "الأفندى أبو نوتة"، لأنه كان يمسك بأجندة طوال الوقت يدوّن فيها كل ما يقوله السادات فى اصطناع للطاعة وتعويض نقص القدرات وبطئ الفهم ، هو ما حاول إخفائه بقناع باهت وابتسامة لزجة ، أثارت سخرية  رجل الشارع الذى وصفه بـ  "البقرة الضاحكة  La vache qui rei." .

و تكن لمبارك صورة مشرقة يقدمها لشعبه حتى الضربة الجوية، فهو ليس قائدها الأوحد، كما أن وراءه الكثير الذى حاول طمس تفاصيله؛ .. ولأن الحقائق يمكن إخفائها بعض الوقت، لكنها لا تموت؛ فقد حكى لى الأستاذ عبد المنعم أحمد محامى السيدة نعيمة محمد مرسي مبارك، المقيمة في قرية كفر مصيلحة ( والدة مبارك ) تفاصيل الدعوة القضائية رقم 20 لسنة 1960 أحوال شخصية محكمة شبين الكوم الجزئية ضد النقيب محمد حسني السيد مبارك للحصول على نفقة شهرية لإطعام إخوته الصغار (سامية - سامي - فوزي - عصام ) .
لا نهدف بذكر تلك الواقعة إلى معايرة الناس بظروفهم المعيشية أو واقعهم الاجتماعى ، ولكننا نراها ذات مغزى فى سبر البعد النفسى لرجل حكم مصر 30 عاماً ـ لذا لزم التنوية ـ  ، فهو يفتقد النخوة، والحرص على الكرامة الشخصية، فهو يتقبل الإهانة من الأعلى الذى يمتلك سلطة إصدار الأوامر، ويمارس إذلال الأقل الذى يتلقى الأوامر، وإذا قارنا موقفه هذا بموقف العامة من أواسط الناس؛ لتبينا الفرق؛ فالمصريون العاديون يأنفون من الوقوف فى المحاكم من أجل إطعام ذويهم بل يقولون دائماً بالفم المليان : ( الكتف ميه، والكتف زاد ) ، وبطبق ذلك عليه عندما ارتضى لنفسه القيام بدور كومبارس فى فيلم "وداع فى الفجر" بطولة شادية وكمال الشناوى وإخراج حسن الإمام من إنتاج كمال الشناوى عام 1956،وأيضا عندما قبل أن يصدر طابع بريد من كيان معاد، يؤكد أنه تفانى فى خدمة الأعداء، وهو الذى لم ينف تصريحات العدو بأنه كنزهم الاستراتيجى وحارس أمنهم الشخصى على مدى ثلاثين عاماً، وهو الذى قبل الصورة المهينة التى ظهر بها فى المحكمة متمارضاً مستلقياً على قفاه يعبث بأصبعه فى أنفه.   
بما يجعل السؤال مسوّغاً ومقبولاً .. كيف لمن لم يستطع الحفاظ على كرامته الشخصية أن يحافظ على كرامة وطن ؟

رفع مبارك شعار النزاهة وطهارة اليد وأن الكفن ما لوش جيوب، وهو شعار اشتاق إليه المصريون كثيراً، لكنه حول مصر إلى عزبة خاصة، وأراد أن يورثها لابنه، وأذاق المصريون من أمرهم عسرا بالطوارئ والإفقار والتعذيب والتجويع والتزوير والفساد والإفساد .. مع تزايد الضغوط على الناس كان الأمريكان يشعرون بالخطر على مصالحهم وأمن إسرائيل؛ فكانت دعوة عماد أديب لمبارك وأسرته إلى ما اسماه بـ " الخروج الآمن " لخروج مبارك وأسرته من الحكم بعد حصولهم على ضمانات تمنع ملاحقتهم قضائياً عما ارتكبوه من جرائم فى حق البلاد، وهى دعوة ذات مغزى فأديب يحظى برعاية مباشرة من واشنطن ، ووثيق الصلة بدوائر صنع القرار فى مصر ووثيق الصلة بدوائر الحكم والمال السعودية. ثم تلا ذلك خطاب أوباما الذى ألقاه فى جامعة القاهرة 2009 متضمناً  ( فى نسخته الأصلية ) فقرة يناشد فيها أوباما أن يعتزل ويستريح .. وقد توسط د.عبد المنعم سعيد لدى الأمريكان لحذف تلك الفقرة، وجرت مكافئته على ذلك بمنصب رئيس مجلس إدارة جريدة الأهرام ،. وفى 25 يناير 2011 انتفض الشعب ، ولم يضع الجيش الفرصة فحول هبة الجماهير إلى انقلاب عسكرى ناعم ضد مشروع التوريث مُغلف بغطاء من إرادة شعبية !!
د. مرسى :
ــــــــــــــــ
جاء الرئيس مرسى  إلى الحكم بإرادة شعبية حرة عبر صناديق الاقتراع الحر المباشر فى سابقة هى الأولى من نوعها فى تاريخ مصر، .. كانت أولى العثرات التى صادفته جهل من صاغ له أول خطاباته عندما ضمّن عبارة الاستهلال كلمة : " عشيرتى " ؛ ولأن مصر لم تعرف نظام العشائر؛ فقد حمل المتربصون الكلمة معنى الجماعة، وذهبوا أنه خطاب خاص بجماعة "الإخوان المسلمين "، وتوالت العثرات بلجاجة الخطاب وافتقاده للرصانة بتضمينه عبارات من نوع : " هما صبعين ، ثلاثة، أربع، خمس صوابع بيلعبوا فى حارة سد " .. ، و" الواد بتاع سكينة الكهرباء ، اللى بياخد عشرين جنية عشان يقطع الكهربا" !!.. كانت لغة الخطاب مادة ثرية لإشاعة روح السخرية من الرئيس وإهانته .
لا ننكر الإنجازات التى قام بها الرئيس د .محمد مرسى وحكومة د . هشام قنديل من أهمها : البدء فى مشاريع الاكتفاء الذاتى من الغذاء والدواء والسلاح وتنوع مصادره، وإعطاء الإشارة لإنتاج أول سيارة مصرية، ومشاريع نقل التكنولوجيا الصينية والماليزية والتركية والروسية إلى مصر عبر الاستثمار ، كان الإعلام المناوئ للرئيس ونظامه سرعان ما يقوم بإعداد "تقويمات سلبية موازية" تعيد المنظور إلى سابق وضعه العادى والمألوف من حيث السخرية من الرئيس وإهانة النظام وتسفيه إنجازاته .. وعندما كان التليفزيون يعرض مادة فيلمية لتلك الإنجازات فسرعان ما يأتى صوت المذيع ليصحح للمشاهد ما ينبغى أن يراه ـ وليس ما يراه بالفعل ـ وإزالة التشوش الناتج عما يراه وإعادته إلى حظيرة التفكير التقليدى المغروس فى قنوات الإعلام التى تم توظيفها لإهانة الرئيس وهدم النظام !!
ومن الأمثلة البسيطة على تسفيه جهود الرئيس موضوع صحفية جريدة "الوطن"  شيماء عادل  التى اعتقلت فى السودان لعدم حصولها على تصريح من السلطات السودانية بمزاولة المهنة على أرض السودان، وتدخل الرئيس مرسى أثناء زيارته للسودان للإفراج عنها، وأعادها إلى مصر على طائرة الرئاسة، وبدلاً من تثمين فعل الرئيس ، تم بخسه بوصفه اتفاق من "إخوان مسلمين مصر" و"إخوان مسلمين السودان" للقبض على الصحفية، والإفراج عنها بواسطة من الرئيس لكسب التأييد الشعبى لحكمه، .. وبل وذهب البعض أن السلطات السودانية كانت بصدد الإفراج عن الصحفية ولا فضل للرئيس !!
ومثال آخر أكثر سوءا فى الإساءة لمؤسسة الرئاسة بأكملها ، وهو ادعاء صحفية " اليوم السابع " عبير عبد المجيد بحق د. ياسر على ( المتحدث الرسمى لرئاسة الجمهورية ) من أنها تزوجها زواج فاسد انتحل فيه البعض صفة موثق العقود، ولم تستطع المدعية إثبات ما جاء بادعائها ، وثبت أنها مأجورة، ..ولم تحصل على باقى أجرها !!
.. لم يكن الأمر مجرد عبث بعض العابثين الذين أشار إليهم الرئيس بكلمة " أصابع " ، فقد كان الرئيس ضحية لتقارير مضللة أخفت عنه تدابير " الثورة المضادة " والتى كانت ممارستها استنساخ لـ " العملية أجاكس " ضد مصدق فى إيران كما يقول الكتاب . والكتاب هنا هو كتاب بعنوان : " ضد الانقلاب  " الذى نشره  كيرميت روزفلت فى سبتمبر عام 1979 بعد سقوط الشاة، واعترف فيه بدوره فى خلع مصدق، لكن وبعد استيلاء الطلبة الإيرانيين على السفارة الأمريكية فى طهران تم سحب الكتاب من الأسواق وإعدام نسخه .
.. و" العملية أجاكس "  التى جرى استنساخها فى القاهرة كان يقودها على الأرض أجهزة ذات قدرات مالية ومعلوماتية عالية، وذات قدرة على تقديم الدعم الفنى والمالى للمنفذين على الأرض، فعمت الفوضى وساد الانفلات وجرائم الترويع والسطو على المساكن وسرقة السيارات واختطاف الأطفال والتحرش بالنساء، وتفاقمت أزمات الخبز والوقود . . كان الواقع الثورى أكثر هشاشة، و كان واقع الناس أكثر تمزقاً وقابلية للانقلاب على النظام طلباً للأمن والاستقرار .
وهو ما أجادت قوى الثورة المضادة استخدامه ، وسخرت كل شئ فى سبيله؛ فكان المتبع فى مجال الحصول على المعلومات هو الخطة الأمنية المعروفة باسم : "عيون المدينة" باستخدام البوابين وسائقى التاكسىى والشحاذين والباعة المتجولين كمصدر للحصول على المعلومات، بل وصل الأمر إلى "التجسس عبر صناديق القمامة" باستخدام شركات بعينها .
أما التنفيذ على الأرض فقد استخدام مت فيه جيوش العاطلين والأشقياء والمسجلين جنائياً، وبعض موظفى الدولة الذين اتسعت دائرة عصيانهم المدنى، وزادت مطالبهم الفئوية، وقد استخدم الإعلام فى التوجيه العام وقادت عناصر من الجيش والشرطة عملية التوجيه الخاص، واسُتخدمت جبهة " الإنقاذ " كغطاء سياسى وإعلامى لما يجرى فى الخفاء، كما اسُتخدمت حركة " تمرد " لإضفاء الشرعية القانونية على التحرك من خلال أوراق افتقدت دقة التوثيق، وقادت بعض الائتلافات الدعوة إلى تظاهرات 30 يونيو .
وفى 23 يونيو ، تحركت وحدات من الجيش إلى الأماكن المعدة للسيطرة على المدن المهمة تحت شعار بث  الطمأنينة فى نفوس الجماهير، وحماية منشآت الدولة مما قد يحدث من انحرافات بعض المتظاهرين، .. لكن مع منتصف نهار 3 يوليو اتضح أن للتحرك غرض آخر .
السيسى :
ـــــــــــــــ
حملة ضخمة من التسريبات سبقت السيسى فى الوصول إلى كرسى الرئاسة بصورة معلنة، .. تسريبات تحمل بصمات من صنعها وتشى صياغتها أنها تمت فى أروقة مؤسسات تحترف إنكار وجودها، وإخفاء تأثيرها ؛ بحيث تبدو أساليب السيطرة التوجيهية التى تمارسها مألوفة أو شبة عادية، جاء فيها : " السيسى معاناة .. السيسى عذاب"، و " الشعب اتعود ياخد كل حاجة ببلاش "، و " أى ضابط هيقتل مش هيتحاكم .. بقولكوا أهه "، و" يعنى إيه واحد ولا واحدة ماشى وحاطط تليفون على ودنه وعمال يتكلم .. لو بإيدى الأمر أدفع اللى بيتكلم واللى بيستقبل "، وكلها تحمل رسائل سلبية، وتلصق صفات سلبية بأفراد من الشعب المصرى، وتحملها نتائج فشل حكومات متعاقبة، وتتناول تلك الصفات بالقياس الصارم للسلوكيات الصغيرة فى كل انحرافات الأخلاقية فى الوقت الذى تتجاهل جوهر المتغيرات الاجتماعية بمعناها العام والواسع، وما ترتب عليها من سوء التقسيم الاجتماعى الذى حرم من تناولهم السيسى من أفراد الشعب من ثروات بلادهم وما تبع ذلك من حقهم فى التعليم المناسب والإعداد الجيد للحياة، والخدمات التى تليق بإنسانيتهم ؛ فأصبحوا من وجهة نظر التسريبات مُعوقِين !! 
.. لم تقتصر التسريبات على تلك التصرفات ، لكنها استلهمت الأسطورة؛ فتم إضفاء الأسطورة على شخصية السيسى ـ  البطل الشعبى مبعوث العناية الإلهية القادم للإنقاذ ـ بالحديث عن رؤى المنام ، " سيف مكتوب عليه باللون الأحمر: لا لإله إلا الله " ، و " وساعة أوميجا خضراء كبيرة "، و " رأيت الرئيس السادات .. وقال لى : أنا كنت رئيس جمهورية، وقلت له : وأنا هبقى رئيس جمهورية" .. ولم يكن إضفاء الأسطورة كما هو متعارف عليه فى علوم الإعلام سوى إدخالها بطريق غير محسوس إلى الوعى الشعبى فى محاولة لتبرير وتفسير الواقع ، وإضفاء عليه طابعا خلاباً يستهوى الجماهير، ويجتذب تأيدها . 
.. وزادت حدود أسطورة البطل الشعبى لتدخل دائرة أوسع، هى دائرة البطل القومى الذى يهب لنجدة الجيران فجاءت كلماته : " مسافة السكة" و " فركه كعب ".

.. كان السيسى يحرص على التكرار والتوكيد فى كل كلمة، وأحيانا القسم بطريقة  يشوبها الغموض، .. وكلها دلائل ذات مغزى فى علوم الإعلام !!
 
ولإكمال العنصر اليومى للسيطرة كان لابد من دعم الأسطورة التى تحظى بعناية فائقة وهى : أنه لا تدخل من القوى أو المجموعات أو الآراء الخاصة فى دوائر صناعة القرارات الهامة فى البلاد؛ فجاءت حدوتة " أسر قائد الأسطول الأمريكى ".
ومع تركه لمنصبه العسكرى ، حاول الاقتراب من الموطن العادى باستنساخ صورة ذهنية مألوفة فى الإعلام الغربى، لكنها غير مألوفة لشعب مصر من خلال صورة له على دراجة فى أحد الشوارع الخالية ..، ولم تحظى الصورة بقبول فالدراجة ثمنها يمثل مرتب أحد كبار موظفى الدولة من الطبقة الوسطى لمدة ثلاث سنوات ونصف فى حال افترضنا أن راتبه 1000 جنية فى الشهر.. وأين الشوارع التى تصلح لركوب الدراجات ؟! .. بما أعطى إشارات إلى أن السيسى لم يعطى العيش لخبازه !! .
.. ثم صورة أخرى فى أحد البنوك للتبرع بنصف ثروته، .. ثم ثالثة مع الحاجة زينب التى تبرعت بقرطها من أجل مصر، وحكاية الحاجة زينب مستنسخة من حكاية خالتى أم محمد فى العشرينيات من القرن الماضى عندما بدأ الاكتتاب من أجل إنشاء تمثال نهضة مصر ؛ فنشرت إحدى المجلات أن خالتى أم محمد ادخرت بيضات من بيض دجاجة واحدة تملكها وباعتها بقرش صاغ، و تبرعت به من أجل التمثال الرمز، وراحت المجلة تشيد بالحس الوطنى لامرأة فقيرة من أهل مصر !!
.. وصورة رابعة مع طفلة تبرعت بما فى حصالتها لمصر وهى أيضا مستنسخة من صورة للرئيس عبد الناصر فى الستينيات من القرن الماضى مع طفل تبرع بمصروفه للمجهود الحربى قبل هزيمة يونيو 1967..
كانت تلك الصور الذهنية محاولة لإيجاد المعادل الموضوعى للتسريبات؛ فكما أن البعض من وجهة نظر التسريبات أشرار ومُعوقِين؛ فإن البعض الآخر من وجهة نظر الصور طيبين ومتفانين ومشاركين بإخلاص رغم ضيق ذات اليد !!

.... ولم تكن الصور الذهنية أفضل حالاً أو أحسن حظاً مما سبقها من تسريبات، أو أساطير .. فلم تلق قبولاً !!
***
فصناعة الصورة الذهنية هى صناعة الوهم إذا ما نجحت فى إحداث حالة من " خدر الوعى " والتأثير التسكينى  للوعى النقدى وتوليد حالة من "السلبية الفردية" التى تعوق الفعل، وهو هدف تسعى إليه بعض أجهزة الإعلام من أجل استمرار النظام، ولكنها أيضا "صناعة الخطر" إذا ما فشلت تلك الأجهزة فى تغييب الجماهير عن بؤس واقعها؛ فيتحول " التضليل الإعلامى " إلى مادة لوقود الغضب خاصة إذا لم يواكبه تحسن ملموس على كافة الأصعدة على الأرض ينتشل الجماهير من معاناتها فى الحصول على احتياجاتها المعيشية، ويجعل من خيوط السيطرة الاجتماعية والهيمنة السياسية دقيقة وغير مرئية، و يمتص طاقة رد الفعل الإنسانى، ويباعد بين الجماهير وبين ظهورها بإرادة اجتماعية فى مسار العملية التاريخية بعد أن تعلمت من تجاربها السابقة .
.. الشعب المصرى .. مازال ينتظر " الأمارة "، فى ظل حالة من التوجس ساد فيها الرأى الأوحد، وعلا صخب الوجع والاحتجاج مواقع التواصل الاجتماعى، وخرس صوت النكتة السياسية، وشحبت صورة الكاريكاتير السياسى حتى تلاشت خطوطه .. وكلها علامات تنذر بالخطر .