الخميس، فبراير 28، 2013

ياسر بكر يكتب : يوم جلس الســادات القرفصـاء.. !!



اليوم : 18 يناير 1977

لم يكن في الأفق ما ينذر بيوم غير عادى من أيام الوطن، شمس الشتاء الشاحبة تبعث أشعتها  على استحياء عبر السحب المتناثرة في سماء مصر المحروسة .. القاهرة تصحو..، تتثاءب في كسلها المعتاد ..، وتتمطى لتنفض عن عيونها آثار نوم ليل الشتاء الطويل، .. تبدو ملامح الوجوم علي  باعة الفول المدمس والبليلة بعد أن أخبرهم التجار بزيادة الأسعار، .. صيحات باعة الصحف تعلن عن قرارات الحكومة لخفض العجز، ومنع التضخم وارتفاع الأسعار، .. تتسارع الأيدي للحصول علي نسخة من صحيفة تسابقها الأعين لمعرفة الجديد .. ؛ يسقط الجميع في بئر الصدمة .. البعض يفرك عينيه من هول ما يقرأ، .. والآخر تنتابه حالة امتزجت فيها مشاعر الغضب بالإحساس بالمرارة !!

.. كان مبعث هذه المشاعر أن الحكومة تجاهلت وعودها الكثيرة بالرخاء بعد انتهاء الحرب وتسخير موارد الدولة لخدمة المجهود الحربي، وباغتت المواطن برفع أسعار السلع الأساسية ضمن تحركاتها لتطبيق برنامج تقشف برعاية صندوق النقد الدولي الذي اشترط لحصول مصر علي قرض عدة وسائل منها : تخفيض الدعم، وتقليل النفقات العسكرية والمدنية وخفض أعداد الأيدي العاملة في القطاع الرسمي للدولة.

.. وبمقتضى تلك الشروط، سلكت الحكومة الطريق السهل لحل مشكلتها؛ فاختارت أن تضع يدها في جيب المواطن لتسرقه !!؛  من خلال تحميل الفقراء من المصريين أعباء مالية تقترب من 500 مليون جنيه سنويًا، تدفع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، على شكل زيادة في أسعار جميع السلع الضرورية،  باختصار حدثت زيادة مباشرة في أسعار الخبز والسجائر والبنزين والبوتاجاز والسكر والدقيق الفاخر والذرة والسمسم والحلاوة الطحينية والفاصوليا واللحوم المذبوحة والشاي والأرز والمنسوجات والملبوسات بنسب تتراوح ما بين 30 %  إلى 50 %.، بدلاً من أن تفرض ضرائب على أصحاب الدخول الانتهازية والطفيلية الكبيرة، وتقضى على منافذ التسرب المالي والتسيب الاقتصادي والانحراف في الجهاز الحكومي والقطاع العام وترشد أنفاقها، وتقضى على مظاهر الإسراف مما يوفر أموالاً تساعد على دعم السلع الضرورية للشعب للحد من موجة الغلاء .. وقبل ذلك كله  تصدر قانوناً جديداً للضرائب يحقق العدل الاجتماعي .

الحدث :

في مساء يوم 17 يناير 1977 وقف د. عبد المنعم القيسوني – نائب الوزراء ورئيس المجموعة الاقتصادية – أمام مجلس الشعب، ليعلن عن قيام الحكومة باتخاذ مجموعة من القرارات الاقتصادية التي وصفها بـ "الحاسمة والضرورية" التي تهدف إلى خفض العجز في ميزان المدفوعات، وذلك تحت ضغط الصندوق والبنك الدوليين، ومن أجل توقيع اتفاق معهما، وأنهى د . القيسونى كلامه قائلا :

" كان علينا أن نضغط المصروفات والدعم حتى نصل بالميزانية إلى ما يقرب من التوازن وليس هناك بد من مواجهة الحقائق ومحاولة العلاج قبل أن يستفحل الأمر فلو ظلت الأسعار ثابتة فسنجد أن كل موارد الدولة تستهلك في الدعم،  بالرغم من أن الإجراءات التي اتخذت تبدو كبيرة إلا أنها لا تصحح المسار الاقتصادي وسنحاول الحصول على قروض".

.. كانت المحصلة الرئيسية لهذه  الحزمة من القرارات :
1 ـ زيادة الرسوم الجمركية بما يكفل زيادة الإيرادات السيادية بنسب تراوحت بين 25 % و100 %
2 ـ زيادة الضرائب على المشروبات الروحية والسجائر والمعسل .
3 ـ فرض رسوم إنتاج واستهلاك جديدة على بعض السلع
4 ـ إلغاء الدعم أو خفضه لبعض السلع مثل الدقيق الفاخر، والذرة، والسكر، والشاي، والشحوم الحيوانية، والأرز، والغزل والنسيج .

اعتراضات

داخل الحكومة :

كانت هذه التوصيات مثار اعتراضات داخل الحكومة وحزب مصر الاشتراكي ( الوسط )، خاصة تلك التوصية الرابعة الخاصة بإلغاء الدعم، غير أن تلك الاعتراضات لم تفلح !!، فقد كان هذا الدعم يكلف الحكومة 277 مليون جنية وهو مبلغ كاف لمساعدة الحكومة في تدبير ربع العجز الذي عانت منه الميزانية، وتذرعت الحكومة في دفاعها عن قراراتها بأنها اعتمدت 68 مليون جنية زيادة عاجلة في الأجور ورفعت حد الإعفاء الضريبي إلى 500 جنية .

انتفاضة الشارع :


.. ومع إعلان تلك القرارات في الصحف الصادرة صباح يوم الثلاثاء 18 يناير ، بدأت نتف الغضب المتناثرة في الصدور تتجمع  لتصبح بركاناً، .. ومع ساعات الظهيرة تجمعت أعداد كبيرة من الطلبة والعمال والموظفين في ميدان التحرير ومنه توجهوا إلى مجلس الشعب ليعلنوا غضبهم، .. ومع غروب الشمس بدأت الأحوال تهدأ، وبدأ الطلبة والعمال و الموظفون ينصرفون إلي منازلهم، .. لكن فجأة  وبعد السابعة مساء بدأت تظهر مجموعات مريبة مسلحة بمعاول الهدم والكيروسين وكرات القطن، وبدأت تقود عمليات الإحراق والتدمير والسلب والنهب؛ .. وسقط الشارع تحت سيطرة قوى أخرى أداتها المشردون  وقطاع الطرق ومحترفي الجريمة .
 

يوم جلس السادات
القرفصـاء.. وبكى:
ــــــــــــــــــــــــــــــ


   كان الرئيس السادات في ذلك اليوم يستمتع بشمس أسوان الدافئة، وينفث دخان الغليون، وينظر إلى نيل مصر من شرفة استراحة رئاسة الجمهورية حين تناهت إلى مسامعه هتافات جماهير أسوان الغاضبة ضده، والتي زحفت صوب الاستراحة، وهي تحطم ما يصادفها من أقواس النصر المقامة على طول طريق الاستراحة؛  ما جعل رجال حراسته يقررون ضرورة عودته إلى القاهرة، واضطروا إلى وضعه في عربة أتوبيس، افترش أرضها هو وأسرته ورجال حاشيته، حتى تبدو السيارة فارغة لا تحمل غير سائقها، وكان السادات يبكي بمرارة، وهو جالس القرفصاء على أرض الأتوبيس حتى وصلوا به إلى المطار.*(1)
 

الجيش يتصدى
لأعمال التخريب:
ــــــــــــــــــــــــــ

   .. ومع تفاقم الأوضاع، أصدر السادات أوامره بنزول الجيش لحماية منشآت الدولة، لكن المشير الجمسي اشترط قبل نزول القوات إلى الشارع إصدار بيان يفيد تراجع الحكومة عما اتخذته من قرارات، وأكد على الضباط بعدم الإساءة إلى أي مواطن أو توجيه طلقة واحدة من سلاح الجيش ضده قائلاً:

« إننا مع رجل الشارع ونبضه، وليس معنى إدانتنا لفئة من المخربين الذين حاولوا تدمير مرافق البلد أننا نتخلى عن تأييدنا للمواطن وحقوقه المشروعة».

الحدث في صحافة القاهرة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


   صدرت صحف القاهرة الثلاث صباح يوم 19 يناير (الأهرام ـ الأخبار ـ الجمهورية) وفي صدر صفحاتها العناوين الآتية:

• مظاهرات في القاهرة والإسكندرية تحاول تخريب المرافق.
• قوات الأمن تتصدى لعناصر التخريب وتفرقهم بالقنابل المسيلة للدموع.
• تقرير كامل عن حوادث الشغب في القاهرة والمحافظات.
• احتراق جميع ملاهي شارع الهرم، المتظاهرون استولوا على أجهزة التليفزيون والخزائن.

   .. وذكرت الصحف أن المتظاهرين أشعلوا النار في عدد من سيارات الأهالي والشرطة والمطافئ، كما حاولوا إشعال النيران في بعض المنشآت والمباني العامة والفنادق وأقسام الشرطة ومراكز الإطفاء والمستشفيات ودور الصحف، كما هاجمت مجموعة مخازن ورق أخبار اليوم وأشعلوا فيها النيران، وقد تصدت قوات الأمن لهم واشتبكت معهم بالعصي والقنابل المسيلة للدموع، كما استخدم المتظاهرون الطوب الذي حطموا به زجاج سيارات المارة.

   .... وذكرت الصحف أن الأحداث قد بدأت في المنطقة الصناعية بحلوان، حين امتنع عمال الوردية الأولى لشركة الحرير الصناعي وعمال مصنع 45 عن العمل، وخرجوا في مظاهرة تصدت لها قوات الأمن عند طرة وأوقفتها، وتوقفت المواصلات العامة بين حلوان وطرة بسبب الأحجار الضخمة التي تناثرت على الطريق والتي انتزعها المتظاهرون من الأرصفة.

    وبعد الظهر تجمعت أعداد كبيرة من الطلبة والعمال في ميدان التحرير، ومنه توجهوا إلى مجلس الشعب، حيثُ حاولت قوات الأمن تفريقهم لكنهم رفضوا، مما اضطر قوات البوليس لاستخدام القنابل المسيلة للدموع، إلا أنهم عادوا وتجمعوا في ميدان التحرير وقذفوا مبنى الجامعة الأمريكية بالأحجار، ومنه إلى شارع سليمان، حيثُ أحدثوا تلفيات بواجهات المحلات التجارية، واتجه بعضهم ناحية فندق شبرد وكازينو قصر النيل في محاولة لإشعال النار فيهما، واتجهت مظاهرة أخرى باتجاه ميدان العتبة، حيثُ جرت محاولة لإشعال النار في مبنى مطافئ القاهرة وقسم شرطة الموسكي، وحاولوا اقتحام مبنى قيادة النجدة، واعتدى المتظاهرون على مقر حزب مصر في العتبة، وأنزلوا العلم من فوقه واللافتة المكتوب عليها اسم الحزب، وحطموا نوافذ المقر ثم اقتحموا المبنى وأخرجوا ما به من وثائق ومستندات وبعض الأثاث وأشعلوا فيها النيران.

   كما جرت محاولات لإشعال النيران في قسم شرطة السيدة زينب، وقام المتظاهرون بإشعال النار في مجمع استهلاكي بأبو الريش بعد نهب محتوياته والدرب الأحمر ومديرية أمن القاهرة، ولكن قوات الأمن تصدت لهم وتمكنت من تفريقهم.

   وفى شبرا اتجهت مظاهرة إلى قسم الساحل في محاولة لإحراقه!!

وفى الجيزة:

 
   اتجهت مظاهرة من مدينة الطلبة بإمبابة إلى شارع السودان حتى ميدان الكيت كات، حيثُ قاموا بإشعال النار في بعض الأكشاك وسيارات التروللي باص، وعندما حاولوا الاتجاه إلى كوبري الزمالك تصدت لها القوات، بينما اتجهت مظاهرة أخرى إلى كوبري الجلاء وحطمت واجهة فندق شيراتون، وفى المنيب قام المتظاهرون بقطع الطريق المؤدي إلى الصعيد بوضع جذور الأشجار وإشعال النار فيها.

في الإسكندرية:

   اجتاحت المظاهرات المدينة منذ الصباح وحتى ساعة متأخرة من الليل، وأشعلوا النار في عدة أحياء بالمدينة، كما اقتحموا عدداً من أقسام الشرطة وأشعلوا فيها النيران، وأحرقوا نقطة شريف وسينما أوديون ومبنى الشركة العربية للشحن ومبنى الاتحاد الاشتراكي بالمنشية ومجمع الخضر والفاكهة بشارع إبراهيم الشريف، وحاولت بعض المظاهرات اقتحام سنترال المنشية، وحاولت مظاهرة اقتحام الميناء، ولكن قوات الأمن تصدت لهم، وقد ساعدت الأمطار الغزيرة التي تعرضت لها المدينة على تهدئة الموقف!!

في المنصورة:

تحطيم فيلا المحافظ وحرق بعض أثاثه.

في السويس:

اقتحم المتظاهرون نقطة شرطة المثلث واستولوا على الأسلحة والذخائر، وأطلقوا النار بطريقة عشوائية.

صحف القاهرة في 20 يناير:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


    تقرير كامل «للأهرام» عن حوادث الشغب في القاهرة والمحافظات

في مواجهة المظاهرات العنيفة التي حولتها عناصر منحرفة إلى أعمال تخريب دامية شملت كل أحياء القاهرة ومرافقها ومنشآتها، نزلت وحدات من المشاة الميكانيكية وقوات الصاعقة والشرطة العسكرية إلى الشارع للمعاونة مع قوات الأمن المركزي والشرطة في التصدي لأعمال التخريب والنهب.

   وقد استخدمت قوات الأمن المركزي الذخيرة الحية لأول مرة في تفريق المظاهرات.

احتراق ملاهي
 شــارع الهرم:
ـــــــــــــــــــــــ

 
   احترقت كل الملاهي والكازينوهات عن آخرها خلال ساعات.. استمرت مكافحة النيران في الباريزيانا ورمسيس والأندلس حتى منتصف الليل، لم يترك المخربون أي محل في الشارع دون اقتحامه ونهب محتوياته من السجاد وأطقم الصيني والموائد والكراسي والآلات الموسيقية وملابس الفنانات، أما مخازن الويسكي والبيرة فقد أشعلوا فيها النار، ونشرت مجلة  «روز اليوسف» على صدر صفحة غلافها الصادر في 24 يناير صورة لامرأة فقيرة تحمل صندوق بيرة من غنائم شارع الهرم مع عنوان: «أسبوع الحرائق».

بيان النائب العام:
ــــــــــــــــــــــــــ


    نشرت صحف القاهرة الصادرة في 22 يناير في صدر صفحاتها الأولى بيان النائب العام عن حوادث التخريب، حيثُ أوردت الصحف أنه:

« في العاشرة من مساء الجمعة 21 / 1 أذاع المستشار إبراهيم القليوبي النائب العام النتائج التي توصلت إليها تحقيقات النيابة في حوادث القتل والتخريب والإتلاف التي وقعت أثناء المظاهرات في الأسبوع الماضي، وأعلن النائب العام أنه تم القبض على 1270 شخصاً في جميع أنحاء الجمهورية بتهمة التجمهر، وما نتج عنه من إتلاف وحريق وقتل وشروع في قتل وغيرها من الجرائم التي تتراوح عقوبتها ما بين الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة، كما صدرت قرارات بحبس 1063 شخصاً منهم حبساً مطلقاً وأفرج عن الباقين بعد سؤالهم.

   وذكر بيان النائب العام أن من بين هؤلاء الأشخاص 160 من الأحداث الذين تتراوح أعمارهم ما بين 12 و13 سنة، وقد صدرت الأوامر بإيداعهم إصلاحيات الأحداث لحين الانتهاء من التحقيقات، أما الأحداث الذين تقل أعمارهم عن 12 سنة فقد سلموا لذويهم كما يقضي بذلك القانون.

    وأعلن النائب العام أن عدد القتلى في حوادث التخريب الأخير وصل إلى 79 قتيلاً منهم 44 قتيلاً في القاهرة و17 قتيلا في الجيزة و12 قتيلا في الإسكندرية و5 قتلى في السويس وقتيل في المنيا، أما المصابون فقد وصل عددهم إلى 566 مصاباً إما بالأعيرة النارية أو نتيجة للضرب بالطوب منهم 363 من الأهالي و203 من رجال الشرطة.

وأوضح النائب العام أن اللجان التي شكلتها النيابة لم تنته من حصر التلفيات وتقدير قيمتها».

 المتهمون:
ــــــــــــــــ

    قدمت النيابة متهمين في تنظيم أسمته «حزب العمال الشيوعي» ومتهمين ممن يسمون أنفسهم بـ «الناصريون»، وقلة من الماركسيين، وأعضاء بارزين في حزب التجمع الوطني (اليسار)، وضمت إليهم أسماء لا يمكن اتهامها بممارسة الشغب أو التحريض عليه مثل الأساتذة يوسف صبري، وفليب جلاب، زهدي العدوي، الصحفيين بـ (روز اليوسف)، وعبد القادر شهيب (محرر تحت التمرين)، حسين عبد الرازق (الأخبار)، محمد سلماوي (الأهرام)، صلاح عيسى (الجمهورية)، الأستاذ إبراهيم عبد الحليم رئيس تحرير مجلة دراسات اشتراكية (دار الهلال)، الأستاذين نبيل الهلالي، وزكي مراد المحاميين، والدكتور رفعت السعيد، والأستاذ محمد الجندي مدير دار الثقافة الجديدة، والأستاذ حليم طوسون مندوب اتحاد العمال العالمي.

تحريات المباحث
.. نكـتة سخـيفة:
ـــــــــــــــــــــــــ


    جاءت تحريات مباحث أمن الدولة أقرب إلى «النكتة السخيفة»؛ مما جعلها مثار سخرية رجل الشارع، فضلاً عن المحامين الذين هلهلوا تلك التحريات؛ فقد قدمت المباحث حزباً أسمته حزب العمال الشيوعي المصري بصفته مسئولاً عن الحرائق وعن مؤامرة قلب نظام، وكان عدد الذين قدمتهم 120 متهماًً منهم 109 تلاميذ، أي أنها قدمت حزب «تلامذة» يريد قلب نظام الحكم!!

   .. وكانت الأدلة التي قدمتها المباحث للنيابة تعتمد على تقارير أعدها بعض الضباط من وحي الخيال، وقد خلت من تحديد للزمان أو المكان بالنسبة لأي متهم، وكانت المضبوطات مثار سخرية الجميع، عندما فضت الأحراز بمعرفة المحكمة؛ حيثُ تبين أنها حوت مجموعة من الكتب، منها على سبيل المثال  رواية «الأم» لمكسيم جوركي، وأعداد من مجلتي «الطليعة» و «روز اليوسف»، وتسجيل صوتي لأغنية بصوت الشيخ إمام عيسى من كلمات أحمد فؤاد نجم، ومجموعة من الصور الفوتوغرافية حصل عليها الضباط الذين أجروا التحريات من مصوري الصحف الذين قاموا بتغطية الأحداث!!

   .. كان المثير للسخرية أن تحريات المباحث قد تضمنت أسماء لمتهمين قد توفوا قبل الأحداث بشهور ومتهمين خارج البلاد منذ سنوات!!

   وكان السخف الذي بلغ حد الجنون هو توجيه الاتهام للصحفيين الذين أُلقي القبض عليهم في الشوارع، أو اعتقالهم من منازلهم أو مكاتبهم بالتواجد في مواقع الأحداث.

   ومع تلك النوعية من التحريات التي أُجريت بدوافع شريرة؛ انزلقت قدم النيابة في اتهامات لم تستطع إقامة الدليل عليها؛ فقد ورد في مرافعة النيابة بجلسة 21 فبراير: (أنه «سوف يكون» هناك علاقة بين التنظيمات الشيوعية والمحرضين)، ورغم مرور 30 يوماًً على بدء التحقيقات، لم تنجح في إيجاد دليل على تلك الصلة.

   . وأعادت النيابة حبس المتهمين في القضية رقم 10 لسنة 1975 بنفس التهمة، التي سبق أن برأهم منها القضاء، وهي الانتماء للحزب الشيوعي المصري، بالمخالفة للمبدأ القانوني بعدم جواز محاكمة مواطن مرتين عن تهمة واحدة!!
 

المتهمون:
    ــــــــــــــــ

  

 وقد أسفرت تحقيقات نيابة أمن الدولة عن إحالة 172 متهماً إلى المحاكمة، هم:

   1 ـ أحمد عزت عامر 2 ـ محمود حسن الشاذلي 3 - طلعت معاذ رميح 4 - محمد فريد سعد زهران 5 ـ كمال خليل خليل – 6 ـ أمير حمد سالم 7 - أحمد بهاء الدين شعبان (هارب) 8 - أحمد مصطفى إسماعيل 9 - حلمي مبروك عباس 10- سيد أحمد حفني 11 - مصطفى علي الشبلي 12 - نادية محمود محمد 13- محمد محمد فتيح (هارب) 14- عبد الحكيم تيمور الملواني 15- محمد هشام عبد الفتاح 16- خالد عبد الفتاح إبراهيم 17 - أحمد محمد صديق 18 - فاروق إبراهيم حجاج 19 ـ محمد شهاب الدين 20 - شهرت محمود أمين العالم 21 - أحمد حمدي عبد اللطيف 22 - راندة عبد الغفار 23 - نجوى عبد الغفار البعثي 24- شوقية الكردي نصر شاهين 25 - فاتن السيد عفيفي 26 - رزق الله بولس رزق الله 27 - محمد الطيب أحمد علي 28 - ماجدة محمد عدلي 29 - عمر محمود عبد المحسن خليل 30- سميحة أحمد أحمد الكفراوي 31 - محمود مدحت محمد علي 32 - أسامة خليل 33 - إكرام يوسف خليل 34 - محمد نعيم صادق دراج 35 - مسعد السيد صالح الطرابيلي 36 - ثناء الله محمود محمد 37 ـ محمد حنفي عبد الرحمن 38 - السيد مصطفى فرج مصطفى 39 - محمد رفيق الكردي 40 - محمد أبو المكارم احمد طه 41 - صبري رزق علي سكرانة 42 - مجيد رزق علي سكرانة 43 - عاطف عبد الجواد 44- محمد حسن محمد بنوان 45- محسن محمد عبد الحميد 46 - شوقي الكردي محمد نصر شاهين 47 - محمد كمال محمد عبد الفتاح 48 - قنديل محمد يوسف منصور 49 - محمد عيسى غانم 50 - صلاح الدين يوسف عبد الحافظ 51- طارق محمد إبراهيم 52 - عماد حسن صيام 53- أحمد زكي أحمد محمد 54- رحمة محمد رفعت محمود 55 ـ عدلي محمد أحمد عليوة 56- إبراهيم عطية البار 57- لطفي عزمي مصطفى 58 - رمضان صالح أحمد سيد 59 - محمد أحمد إبراهيم 60 - حمدي عبد الفتاح مبروك 61- رضوان مصطفى رضوان الكاشف 62 - محمد عواد شفيق احمد 63 - محب مشيل يوسف 64 - أحمد محمد فتيح 65 - ممدوح عتريس عطية 66- محمود سيد البطار 67- سمير يوسف غطاس 68 - عطية السيد عياد 69 - حسني محمد محمود عبد الرحيم 70- محمود محمد محمد رجال 71 - محمد خالد عبد الحميد 72 - سلوى ميلاد يعقوب 73 - أحمد نصر احمد أبو بكر 74- محمد فكري عبد الظاهر منصور 75- السيد الدماطي 76 - رجب محمود جمعة 77 - محمد خالد إبراهيم جويلي 78 - منصور عطية رمضان 79- محمد حسن خليل 80- محمد رزق محمد الميرغني 81 ـ خالد محمد السيد الفيشاوي 82 - خليفة شاهين خليفة 83 - جمعة راشد جمعة 84 - محمد عوض خميس عوض 85 - زكى مراد إبراهيم 86 - محمود محمد توفيق87 - مبارك عبده فضل 88 ـ سيف الدين محمد صادق 89 - محمد علي عامر الزهار 90 - عبد القادر أحمد شهيب (هارب) 91 - رشدي أبو الحسن 92 - معتز محمد زكي 93 - محمد هاني محمد الحسيني 94 – ماهر علي بيومي 95 ـ عبد المنعم عبد الحليم أبو النصر96 - فاروق عبد الحميد عبد الموجود 97 - إبراهيم متولي نوار 98- نادر عبد الوهاب أحمد عناني 99 - محمد سيف الدين أحمد عبد الكريم 100- جميل إسماعيل حقي سالم 101 - مجدي طه فتح الله شرابيه 102 - محمد إبراهيم عويس 103- محمد محمد عطا العفيفي 104 - عريان نصيف ناشد 105 - جابر عبد العزيز ندا 106 - شبل السيد سالم 107- عبد الله السيد هاشم المغربي 108 - بهنسى إبراهيم عبده الشهاوي 109 - محمد عبد الله محمد 110 - ماهر سمعان غبريال 111- زهدي إبراهيم العدوي 112 - حسن علي أبو الخير 113- سمير عبد الباقي عوض 114- سيد عبد العظيم حسن 115- محمد محمود البرمبالى 116- فاروق علي ناصف 117 - عادل محمد الجردوح 118- قطب حمزة قطب 119 - فاروق أحمد رضوان 120- فاروق علي ثابت 121- نصيف حنا أيوب 122 - محمد أحمد عيد (الشهير بحمدي عيد) 123- محمد محمد فتحي عبد الجواد 124- محمد كمال عواد 125 - علي عبد الرازق محمد السيد الشربتلي 126 -عبد الرازق محمد السيد الشربتلي 127 - جلال محمد السيد خليل 128 - حامد السيد رمضان 129 - حسن بركات سيد رزق 130 - صلاح محمد محمد يونس 131- موسى زكريا موسى 132 - محمد سيد علي سعد 133- عبد المنعم علي حنفي 134 - قدري محمد علي 135 - الفونس مليكة ميخائيل 136- محمد محمد إدريس 137- أحمد فهيم إبراهيم الرفاعي 138 - عبد السلام السيد محمود 139- عبد الحليم عبد الدايم 140- صلاح الدين حنفي رمضان 141- صلاح محمد عبد القادر 142- رفاعي محمود رفاعي 143 - أحمد رضوان أحمد 144 ـ رجب محمود رفاعي 145 - عبد الصبور عبد المنعم 146- إبراهيم أحمد هلال-147 ـ غريب نصر الدين عبد المقصود 148 - مجدي عبد الحميد فرج بلال 149 - حسين محمد حسين عبد الرازق 150 - حمزة مصطفى العدوي 151 - رفعت بيومي محمد علي 152 - محمد شريف أحمد 153 ـ أحمد عثمان عبد اللطيف 154 - أبو المعاطي سليمان السندوبي 155 - زين العابدين فؤاد عبد الوهاب 156 - عزت عبد الحميد صبرة 157- صلاح السيد متولي عيسى 158- أحمد فؤاد نجم 159(هارب) - حمدي ياسين عكاشة 160 - حسين محمد محمود معلوم 161- سيد عبد الغني عبد المطلب 162- أحمد عبد الرحمن الجمال 163 - أحمد مبروك محمد 164 - محمد محمود جاد النمر 165- عبد الرحمن رياض الكريمي 166 - آمال حسين حافظ 167 - محمود محمد مرتضى 168- حسين عبد الستار سيد أحمد 169- مصطفى محمد مصطفى الخطيب -170 عبد الخالق فاروق حسين 171- مجدي تاج الدين خطاب 172 ـ عفيفي فؤاد صليب.

قرار الاتهام:
ـــــــــــــــــــ


   وجاء في قرار الاتهام في قضيتي ِالنيابة العامة التي قيدتا برقم 1844 لسنة 1977، ورقم 67/1977 كلي وسط قسم عابدين بوصف الاتهامات التي نسبت لمن شملهم قرار الاتهام بأنهم في غضون المدة من أواخر 1973 وحتى منتصف شهر مايو بجمهورية مصر العربية:

أولا: المتهمون من الأول وحتى الحادي والثمانين

   أنهم أنشأوا منظمة ترمي إلى قلب النظم الأساسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة والهيئة الاجتماعية باستعمال القوة والإرهاب والوسائل الأخرى غير المشروعة، بأن شكلوا منظمة شيوعية سرية باسم حزب العمال الشيوعي المصري تروّج لهذا النظام السياسي المقرر والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية السائدة في البلاد عن طريق دعوة الجماهير بواسطة النشرات السرية وغيرها من أساليب الدعاية المثيرة إلى القيام بثورة شعبية للإطاحة بالسلطة الشرعية وفرض النظام الشيوعي بالقوة، بأن دبرت وشاركت عناصرهم في إطار تنفيذ المخططات الهدامة لحزبهم في التجمهر وقيام المظاهرات والاضطرابات على نطاق شامل خلال يومي 18و19 يناير 1977 بإثارتها جماهير الدهماء بالهتافات والنشرات وغيرها من ألوان الدعاية المغرضة، ودفعها إلى ارتكاب جرائم التظاهر والتخريب ومقاومة السلطات وسواها من الجرائم الجسيمة التي وقعت خلال هذين اليومين، وشملتها تحقيقات النيابة العامة المشار إليها بالأوراق مستهدفين من ذلك إشعال ثورة شعبية تقضي على نظام الحكم القائم، وتفرض الشيوعية بالعنف والإرهاب وخاب أثر محاولتهم نتيجة إحباطها بما تم اتخاذه من تدابير الأمن والنظام.

 ثانياً: المتهمان الثاني والثمانون والثالث والثمانون

   أنهما اتصلا بمنظمة حزب العمال الشيوعي المصري لأغراض غير مشروعة وبهدف التشجيع والمعاونة وأجريا اتصالات منظمة ببعض عناصره لتبادل النشرات ومطبوعاته السرية مع عدد من منظمات الرفض العربية الأخرى، كما أمدا هذه العناصر بمبالغ مالية بقصد دعم نشاط الحزب في البلاد.

ثالثا: المتهم الرابع والثمانون

   أنه اتصل اتصالا غير مشروع بمنظمة حزب العمال الشيوعي بقصد التشجيع والمعونة بأن آوى عددا من عناصره الصادر بشأنهم أوامر الضبط والتفتيش بقصد تمكينهم من الهروب ومواصلة نشاطهم التنظيمي في خدمة أهداف الحزب.

رابعا: المتهمون من الخامس والثمانين حتى الثاني والعشرين بعد المائة

   أنهم انشأوا منظمة ترمي إلى قلب النظم الأساسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة والهيئة الاجتماعية، وكان استعمال القوة والوسائل غير المشروعة ملحوظاً في ذلك، بأن شكلوا منظمة شيوعية باسم الحزب الشيوعي المصري ترمي إلى القضاء على الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة عن طريق مناهضة السلطة الشرعية والدعوة لإقامة تنظيمات معادية لمحاربتها، وتأليب الجماهير ضدها بالنشرات السرية وغيرها من وسائل التشهير والدعاية، التي تشتمل على تحبيذ الإضراب والتظاهر بهدف تغيير السلطة بهذه الوسائل وتحقيق النظام الشيوعي.

خامسا:المتهمون من الأول حتى الثاني والعشرين بعد المائة، والمتهمون من الثاني والثمانين للرابع والثمانين أيضا

    أنهم روجوا لتغيير مبادئ الدستور الأساسية وهدم النظم الأساسية الاقتصادية والاجتماعية للهيئة الاجتماعية، باستعمال القوة والعنف ولوسائل الأخرى غير المشروعة، بأن انضموا لمنظمة حزب العمال الشيوعي المصري – والحزب الشيوعي المصري واللتين تروجان بوسائل الدعاية والإثارة سعياً في فرض النظام الشيوعي،  وحاز بعضهم نشرات ومطبوعات ومحررات أخرى صادرة عن هاتين المنظمتين، تتضمن التحبيذ والدعاية لمبادئهما وأهدافهما بقصد ترويجها وتوزيعها بين أفراد الجمهور.

 سادسا: المتهمون من الثالث والعشرين بعد المائة حتى المتهم الأخير

   أنهم أذاعوا عمداً بيانات وشائعات كاذبة ومغرضة، وبثوا دعايات مثيرة ضد نظام الحكم القائم وحرضوا علانية على كراهيته والازدراء له عن طريق إصدار مجلات الحائط ووضع الملصقات وتوزيع النشرات وبواسطة الخطابة وإلقاء الأشعار في الاجتماعات والندوات العامة وبترديد الهتافات والشعارات المناهضة في المسيرات والمظاهرات والتجمعات الشعبية، وذلك بهدف التشهير بالسلطة الشرعية والتنديد بمختلف سياساتها، والطعن في قدرتها على الاضطلاع بمسئولياتها، على نحو من شأنه إثارة البغضاء ضد النظام القائم وتكدير السلم العام، وحاز بعضه محررات ومطبوعات معدة للترويج والتوزيع على أفراد الجمهور، وتشتمل على التحريض والإثارة، وكان ذلك في زمن الحرب.

سابعا: المتهمون من التاسع عشر بعد المائة حتى السابع والخمسين بعد المائة أيضا

   أنهم ارتكبوا جريمة محاولة قلب نظام الحكم المقرر في البلاد بالقوة، وما نشأ عنها من الجنايات المشار إليها بالتهمة الأولى، وأنهم انضموا إلى غيرهم من العناصر الشيوعية في إحداث الاضطرابات والقلاقل يومي 18و19 من يناير 1977 بمساهمتهم في تدبير وقيادة مظاهرات ومسيرات تألفت خلال هذين اليومين قاصدين من ذلك إشعال فتنة عامة تفضي إلى اندلاع ثورة شعبية للإطاحة بالسلطة الشرعية.

ثامنا: المتهمون من الحادي والعشرين حتى التاسع والعشرين والسابع والستين بعد المائة حتى المتهم الأخير أيضا

   أنهم خلال الفترة اللاحقة على نفاذ أحكام القانون رقم 2 لسنة 1977 بشأن حماية أمن الوطن دبروا وشجعوا وشاركوا في تجمهر يؤدى إلى إثارة الجماهير بدعوتهم إلى تعطيل تنفيذ القوانين واللوائح، بهدف التأثير على ما أرسته السلطات الدستورية ومعاهد العلم لأعمالها، باستعمال القوة والتهديد باستعمالها؛ وذلك ببث الدعايات المثيرة وبترديد الشعارات والهتافات العدائية وترويج بعضهم لنشرات سرية بقصد حمل الجماهير على التجمهر والتظاهر ضد السلطات بالقوة والعنف، مستهدفين تجدد أعمال الفوضى والإرهاب وتعطيل الدراسة بالقوة، وشارك بعضهم في مظاهرات ومسيرات تألفت لهذا الغرض.

الحكم:
ـــــــــــ


    .. وبجلسة 19 إبريل سنة 1980 صدر حكم محكمة أمن الدولة العليا برئاسة المستشار حكيم منير صليب رئيس المحكمة، وحضور السيدين الأستاذين علي عبد الحكيم عمارة وأحمد محمد بكار – المستشارين بمحكمة استئناف القاهرة، والسيد الأستاذ إبراهيم هنيدي وكيل النيابة، والسيد أحمد محمد رمضان أمين سر المحكمة،. وقضت المحكمة:

أولا- بانقضاء الدعوى الجنائية بالنسبة للمتهم الخامس والثمانين زكي مراد إبراهيم بوفاته.

ثانيا – البراءة غيابيا بالنسبة للمتهمين السابع أحمد بهاء الدين شعبان والثالث عشر محمد فتيح والتسعين عبد القادر أحمد شهيب والثامن والخمسين بعد المائة أحمد فؤاد نجم وحضوريا للباقين.
ثالثا – برفض الدفع بعدم جواز نظر الدعوى أمام هذه المحكمة بوصفها محكمة أمن دولة عليا.

 رابعا – برفض الدفع ببطلان أمر الإحالة.

 خامسا – برفض الدفع ببطلان إذن الضبط والتفتيش الصادر من رئيس نيابة أمن الدولة العليا بتاريخ 19/1/1977.

 سادسا – بقبول الدفع ببطلان الإجراءات التي قام بها رجال الأمن القومي في الدعوى رقم 10/1975 حصر أمن دولة عليا.

 سابعا – بمعاقبة كل من المتهمين الثالث طلعت معاذ رميح والثامن أحمد مصطفى إسماعيل والرابعة والعشرين شوقية الكردي نصر شاهين والخامسة والعشرين فاتن السيد عفيفي والسادس والعشرين رزق الله بولس رزق الله والثامنة والعشرين ماجدة محمد عدلي والتاسع والعشرين عمر محمود عبد المحسن خليل والرابع والأربعين محمد حسن محمد والخامس والخمسين عدلي محمد أحمد عليوة والحادي والثمانين خالد محمد السيد الفيشاوي والتاسعة والستين بعد المائة إيمان عطية محمد بالسجن لمدة ثلاث سنوات والغرامة مائة جنيه، وبمعاقبة كل من المتهمين العاشر سيد أحمد حفني والخامس عشر محمد هشام عبد الفتاح إبراهيم والسابع والخمسين لطفي عزمي مصطفى والسابع والثمانين مبارك عبده فضل والثاني والعشرين بعد المائة محمد أحمد عيد والثالث والعشرين بعد المائة محمد فتحي عبد الجواد والرابع والستين بعد المائة محمد محمود جاد النمر والسبعين بعد المائة حسين حافظ جامع بالحبس مع الشغل لمدة سنة واحدة وتغريمه خمسين جنيها وببراءتهم من باقي التهم المسندة إليهم.

 ثامنا – ببراءة باقي المتهمين من التهم المسندة إليهم.

 تاسعا – مصادرة المضبوطات ما عدا الكتب.


صفعة على وجه السادات:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


    جاء الحكم فيما قضى به بمثابة الصفعة على وجه الرئيس السادات الذي تجاوز حدود اختصاصاته بالتحدث عن قضية قيد العرض على القضاء، ولم يكتف بذلك فلم يترك خطاباً أو مناسبة دون الانتقام اللفظي من المتهمين ووصفهم باللصوص والتحريض علناً على قتلهم بقوله: «اقتلوهم حيثُ ثقفتموهم»، وتهديداته المستمرة لهم بقوله « بتوع انتفاضة الحرامية دول.. أنا ها عرف أوريهم ».

    .. كان السادات قد أرجع أسباب الانتفاضة إلى الحقد، وشخّصه بأنه خطر يهدد وحدة البلاد ويتنافى مع الطبيعة المصرية، وأنه يجب التسلح ضده والخلاص منه بأي ثمن وبشتى الوسائل، لم يكن السادات يدري بكلامه عن «الحقد» أنه يدين عصره، ويصمه من حيثُ أراد الدفاع عنه؛ فجرثومة الحقد هي «الظلم الاجتماعي».

   .. أدخل الرئيس السادات كلمة الحقد إلى القاموس السياسي المصري، وتداولتها الأقلام الصحفية وميكروفونات الإذاعة المسموعة والمرئية، بحيث أصبحت العملة الشرعية لتوصيف الحالة في يومي 18 و19 يناير في نفاق رخيص للحاكم، حتى جاء الحكم لينسف أكاذيب الرئيس السادات، ويصم عصره، ويفضح من نافقوه؛ فقد جاء بالحكم الأسباب الحقيقية للانتفاضة الشعبية التي أوجزها في:

    « ومن حيثُ إن المحكمة سوف تتولى استعراض كل دليل من أدلة الثبوت ومناقشته وتمحيصه؛ لتستبين مدى سلامة هذا الدليل وجديته ومطابقته للقانون، حتى تستخلص عقيدتها حول توافر أركان الجريمة المسندة للمتهمين؛ ولتعمل فيه حكم القانون لتقضي في الدعوى، بما يطمئن إليه وجدانها ويتحقق به العدل على هدي من الواقع والقانون، ومن حيثُ إن المحكمة وقبل مناقشتها لأدلة الثبوت لابد لها أن تعرض بالبحث والدراسة لأحداث يومي 18و19 يناير، تلك الأحداث التي أورد قرار الاتهام أن المتهمين المنتمين إلى حزب العمال الشيوعي قد حرضوا عليها وشاركوا فيها سواء بالتجمهر أو قيادة المظاهرات، وما صاحب ذلك من تحريض وتخريب وإتلاف وجرائم أخرى عديدة، ولكن المحكمة وهي تتصدى لتلك الأحداث بالبحث والاستقصاء، لعلها أن تستكشف عللها وحقيقة أمرها، لابد أن تذكر ابتداء أن هناك معاناة اقتصادية كانت تأخذ بخناق الأمة المصرية في ذلك الحين، وكانت هذه المعاناة تمتد لتشمل مجمل نواحي الحياة والضروريات الأساسية للإنسان المصري؛ فقد كان المصريون يلاقون العنت وهم يحاولون الحصول على طعامهم وشرابهم ويجابهون الصعاب، وهم يواجهون صعودا مستمرا في الأسعار، مع ثبات مقدار الدخول ثم إن المعاناة كانت تختلط بحياتهم اليومية، وتمتزج بها امتزاجا، فهم مرهقون في تنقلهم من مكان إلى آخر بسبب أزمة وسائل النقل، وهم يقاسون كل يوم وكل ساعة وكل لحظة من نقص في الخدمات وتعثر فيها، وفوق ذلك كان أن استحكمت أزمة الإسكان، وتطرق اليأس إلى قلوب الناس والشباب منهم، خاصة من الحصول على مسكن، وهو مطلب أساسي تقوم عليه حياتهم وتنعقد آمالهم في بناء أسرة ومستقبل، وسط هذه المعاناة كان يطرق أسماع المصريين أقوال المسئولين والسياسيين من رجال الحكومة في ذلك الوقت تبشرهم بإقبال الرخاء، وتعرض عليهم الحلول الجذرية، التي سوف تنهي أزماتهم وتزين لهم الحياة الرغدة الميسرة المقبلة عليهم، وبينما أولاد هذا الشعب غارقون في بحار الأمل التي تبثها فيهم أجهزة الإعلام صباح مساء؛ إذ بهم وعلى حين غرة يفاجأون بقرارات تصدرها الحكومة لرفع أسعار عديد من السلع الأساسية التي تمس حياتهم وأقواتهم اليومية.. هكذا دون إعداد أو تمهيد، فأي انفعال زلزل قلوب هؤلاء، وأي تناقض رهيب بين الآمال وقد بثت في قلوبهم، قبل تلك القرارات، وبين الإحباط الذي أصاب صدورهم، ومن أين لكل هذا الشعب ومعظمهم محدود الدخل أن يوائموا بين دخول ثابتة وبين أسعار أصيبت بالجنون؟! وإذ بفجوة هائلة تمزق قلوب المصريين ونفوسهم بين الآمال المنهارة والواقع المرير، وكان لهذا الانفعال وذلك التمزق أن يجدا لهما متنفسا؛ وإذ بالأعداد الهائلة من هذا الشعب تخرج مندفعة إلى الطرقات والميادين وكان هذا الخروج توافقيا وتلقائيا محضا.

   وإذ بهذه الجموع تتلاحم هادرة زاحفة معلنة سخطها وغضبها على تلك القرارات التي وأدت الرجاء، وحطمت الآمال، وحاولت جهات الأمن أن تكبح الجماح، وتسيطر على النظام، ولكن أنى لها هذا، والغضب متأجج والآلام مهتاجة، ووسط هذا البحر الهادر، وجد المخربون والصبية سبيلا إلى إرضاء شهواتهم الشريرة، فإذا بهم ينطلقون محرقين ومخربين ومتلفين وناهبين للأموال وهم في مأمن ومنجاة.

    وقد التهبت انفعالات هذه الجموع وتأجج حماسهم، عندما تعرض لهم رجال الأمن المركزي بعصيهم ودروعهم وقنابلهم المسيلة للدموع، فكان أن اشتعلت الأحداث، وسادت الفوضى، ولم يكن من سبيل لكبح الجماح وإعادة الأمن والنظام إلا فرض حظر التجول ونزول رجال القوات المسلحة إلى الميدان، وأمكن حينئذ وبعد جهد خارق استعادة الأمن والنظام، والذي لا شك فيه، وتؤمن به المحكمة، ويطمئن إليه ضميرها ووجدانها أن تلك الأحداث الجسام التي وقعت يومي 18و19 يناير 1977 كان سببها المباشر والوحيد هو إصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار، فهي متصلة بتلك القرارات اتصال المعلول بالعلة والنتيجة بالأسباب، ولا يمكن في مجال العقل والمنطق أن ترد تلك الأحداث إلى سبب آخر غير تلك القرارات؛ فلقد أُصدرت على حين غرة، وعلى غير توقع من أحد، وفوجئ بها الناس جميعا بمن فيهم رجال الأمن، فكيف يمكن في حكم العقل أن يستطيع أحد أن يتنبأ بها، ثم يضع خطة لاستغلالها، ثم ينزل إلى الشارع للناس محرضا ومهيجا، إن هذا الفرض غير مقبول ولا معقول، ذلك أنه لم يقع أي فاصل زمني بين إعلان القرارات وخروج الناس، فما كادوا يقرأون ويسمعون، حتى خرجوا مندفعين من تلقاء أنفسهم، لم يحرضهم أحد، ولم يدفعهم فرد أو تنظيم ليعلنوا سخطهم وغضبهم، وهذا التلاحم الزمني بين إعلان القرارات واندفاع الجماهير ينفي تماما احتمالات التحريض والإثارة أو استغلال الموقف أو ركوب الموجة؛ لأن فردا مهما بلغ من قوة ودراية وتنظيم، ومهما كانت سرعته ودقة تخطيطه لا يستطيع أن يحرك هذه الجموع الحاشدة في لحظات، ولا يسيطر على مشاعرها ليوجهها إلى تحقيق أغراضه، ثم هو لا يستطيع أن يدفعها لتقوم بأعمال الحرق والتخريب والنهب والإتلاف، ذلك أن مثل هذه الأعمال الشريرة لابد أن تصاحب بطريق اللزوم العقلي والتلقائية المحضة، لابد أن تصاحب مثل هذه الاضطرابات الأمنية الكبيرة، فيقع الكثير منها بحكم اندساس اللصوص والمنحرفين؛ ليمارسوا نشاطاتهم في ذلك الخضم الهائج آمنين مطمئنين أن يمسك بهم أحد، وإذ ادعت سلطة الاتهام أن هناك من المتهمين من حرضوا على تلك الأحداث، مما أدى إلى اشتعالها، ووقع ما صاحبها من جرائم، وإنهم كانوا يريدون إشعال الثورة الشعبية فإن قولها هذا لا يساير مقتضيات المنطق، كما أن مجريات الأحداث في هذين اليومين لا تتفق مع هذه المقولة بل تناقضها تماما من ناحية أسبابها وما وقع فيها من أفعال».

   .. كما أرسى الحكم مبدأين قانونيين في غاية الأهمية، فيما يتعلق بالصور الفوتوغرافية والإبداع كأدلة اتهام في القضايا المنظورة أمام القضاء:
 

أولاً ـ الصور الشمسية

     بالنسبة إلى الصور الشمسية التي قدمت في الدعوى تدليلا على ثبوت الاتهام قِبل من أسندت إليهم التهم، فإن تلك الصور يمكن اعتبارها من قبيل قرائن الأحوال، التي لابد أن تتضامن مع أدلة أو قرائن أخرى، بما يعززها ويدعمها من خلال هذا التقييم لتلك الصور الشمسية، فإن المحكمة عرض لها بالبحث والمناقشة، وقد استبانت من مطالعتها لتلك الصور أنها قد التقطت لجمع غفير من الناس دون تمييز من بينهم وجها لأحد الأشخاص بدا صاحبه كأنه محمول على الأعناق، إلا أن المناظرة التي أجرتها المحكمة لتلك الصورة ومقارنة ذلك الشخص المحمول بالمتهم قد أسفرت عن عدم إمكان القطع بأن الصورة هي لذلك المتهم بل إن المناظرة والمقارنة لم ترجح احتمال أن يكون المتهم صاحب الصورة، ونفس هذه النتيجة قد كشفت عنها مناظرة لبعض الصور المقدمة في الدعوى، هذا بالإضافة إلى ما هو معروف من إمكان إحداث تغيير وتعديل في الشكل والملامح تقيمها الأساليب العلمية الحديثة، وفضلا عن ذلك فإن تلك الصور لا تنبئ بذاتها عن مكان وزمان وملابسات التقاطها؛ فلا يمكن القول مثلا وعلى وجه القطع واليقين إن هذه الصورة أو تلك قد التقطت يومي 18و 19 يناير 1977 وإنها صورة مظاهرة كانت في هذا الشارع أو ذاك من شوارع القاهرة وأن تلك المظاهره كانت معادية لنظام الحكم القائم في البلاد.
   .. كما أن تلك الصور ومع الفرض الجدلي المحض أنها خاصة بالمتهمين الذين نسبت إليهم فإنها لا يعتد بها في مجال التدليل على أنها التقطت في زمان معين هو يوما 18و19/1/1977 أو غيرهما من الأيام وفى مكان معين هو شوارع القاهرة وميادينها وفى مناسبات وملابسات، فضلاً عن كونها لم تفصح يقينا عن أنها خاصة بالمتهمين المنسوبة إليهم، ولم تنبئ أن هؤلاء المتهمين ينتمون لهذه المنظمة أو تلك، وان هدف المنظمة هو الإطاحة بالنظم الأساسية للمجتمع عن طريق استعمال القوة والإرهاب، وبالتالي، فإن المحكمة في مقام التدليل على ثبوت الاتهام تطرحها طرحا .

ثانياً ـ قصائد الشعر

.. بالنسبة لكلمات القصائد التي نسبت إلى أحد المتهمين وطبقا لما هو وارد في أوراق الدعوى حافلة بالمتشابهات والرمز، لدرجة أن النيابة العامة وصفت واحدة من تلك القصائد بالغموض، وهى قصيدة كتبت بمناسبة زيارة «ابن الهرمة»، كما استوضحت المتهم في كثير من الأسئلة ما يقصده بهذه العبارة أو تلك، مما يشعر أن المعنى فيه خفاء ويحتاج للشرح، ويحتمل التأويل، ومادامت قصائد المتهم على هذا المنوال من النسيج اللفظي؛ فلا ينبغي بحال اعتصار كلماتها لانتزاع دليل منها على مناهضة المتهم للنظام القائم وعلى قيامه بالتحريض على كراهيته والازدراء له، وينبغي حملها على حقيقتها باعتبارها كلمات لشاعر اتسم بجموح الخيال، ولا عجب في ذلك فالشعراء في كل واد يهيمون.

***
   .. جاء حكم المحكمة انتصاراً للإرادة الشعبية للجماهير التي خرجت للدفاع عن حقها في الحياة الكريمة، وتصديا لرغبة الحاكم في الانتقام منهم، وسجنهم، كما جاء الحكم إدانة للاستبداد والظلم الاجتماعي في عصر السادات.

   .. يرحم الله القاضي الجليل منير حكيم صليب الذي لم يُعر اهتماما لإغراء السلطة ولا لوعيدها، وأصدر حكماً تاريخياً يضاف إلى السجل الناصع في تاريخ قضاء الوطن لا يضاهيه سوى حكم شيخ الإسلام العز بن عبد السلام (بائع الأمراء).   


للمزيد من المعلومات، راجع كتاب " صناعة الكذب " : 

الثلاثاء، فبراير 19، 2013

ياسر بكر يكتب :.. ليلة بكى عبد الناصر !!



.. وتعفنت الجثث على رمال سيناء
ظهيرة يوم الجمعة 9 يونيو، وبعد صلاة الجمعة التي زف خطباء المساجد للمصلين خلال خطبتها أنباء نصر أصبح على مقربة من أطراف الأنامل، بعد أن أكدته الأنباء في صدر صحف القاهرة هذا الصباح، ونقل راديو صوت العرب إليه عبر ميكرفونه صوت دقات بيادات الجنود المصريين على أعتاب تل أبيب .. تناول شعب مصر طعام الغداء، وخلد إلى الاسترخاء في ساعات القيلولة بعد أن وضع بشائر النصر تحت وسادته .


.. ومع نسمات قبيل الغروب وفي تمام الساعة السابعة والنصف، لم تكن المفاجأة في الحسبان، فقد أفاق شعب مصر من سكرة الأوهام على كابوس الهزيمة، ينقلها إليه صوت عبد الناصر مختلطاً بالحشرجة التي تكاد تصل إلي حد البكاء مثل النساء على وطن لم يستطع الحفاظ عليه مثل الرجال !!

كان عبد الناصر يكذب بما لا يليق بكرامة القائد ولا يتفق مع مبادئ الشرف العسكرى؛ ليبرر الهزيمة التي صنع بيديه أسبابها صنعاً وانتقى خسائرها على عينه مختاراً أن يتلقى " الضربة الأولى" وآلا يكون البادئ بالهجوم، وبهذا القرار قطع نصف الطريق إلي الهزيمة قبل أن تطلق إسرائيل طلقة واحدة !!، .. وبالتأكيد لم يكن عبد الناصر جاداً فيما أبداه من رغبة التنحي؛ فمن يريد التنحي لا يحدد المهام العاجلة، ولا يضع الخطط المستقبلية، ولا يفرض وصايته على الشعب باختيار من يخلفه وكأن مصر إقطاعية ورثها عن أبوه .. علي الرغم أنه  لم يكن يملك سلطة تعيين رئيس جمهورية خلفاً له، ولم يكن ذلك من حقه طبقاً للدستور الذى كان معمولاً به آنذاك ؟!!!

الحدث :

في تمام الساعة 45 : 8 ( حسب التوقيت الصيفي لمدينة القاهرة )، صباح يوم الاثنين  5 يونيو 1967 قام الطيران الإسرائيلي بالهجوم علي المطارات المصرية علي موجتين،  استهدفت الموجة الأولي المكونة من 185 طائرة عشر مطارات في وقت واحد، وهي مطارات : العريش، جبل لبني، بير جفجافا، بير تمادا، أبو صوير، كبريت، أنشاص، غرب القاهرة،بني سويف ، فايد؛ فقد تحدد زمن إقلاع الطائرات بحيث تكون فوق أهدافها في وقت واحد لتحقيق أكبر قدر من المفاجأة، بينما كانت الأوامر للجيش المصري بتقييد النيران، وعدم التصدي لأي طائرة في السماء لحين وصول طائرة المشير عامر لمطار بير تمادا .

وفي تمام الساعة 45 : 9 عادت الموجة الثانية من الهجوم المكونة من 165 طائرة لتضرب مطارات : المنصورة، حلوان، المنيا، ألماظة، الأقصر، الدفرسوار، حور غادة ، رأس باناس، مطار القاهرة الدولي ، وقبل غروب نهار الاثنين عادت الطائرات الإسرائيلية إلي تلك المطارات؛ لتعيد قصفها مستخدمة قنابل ذات مفعول خاص وتنفجر بعد فترة من الوقت وتحول دون إتمام محاولة الإصلاح .

وأصبح الجيش علي أرض سيناء المكشوفة في العراء، ودون غطاء أو دعم من سلاح الطيران، ليجد الجنود أنفسهم صيداً سهلاً للطيران الإسرائيلي بحصدهم بمقذوفات النابلم؛ فقد أرسلتهم القيادة السياسية إلي هناك بأسلحتهم الثقيلة، ولكن بدون ذخائر؛ لأن المهمة كانت في رأس القيادة العليا لم تكن سوى مسرحية سياسية " لتهويش " أمريكا وإسرائيل معاً.

..  ومع الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم الثلاثاء 6 يونيو أصدر الرئيس عبد الناصر قرار بانسحاب القوات من سيناء، وطلب من المشير عامر إعداد خطة لذلك، لكن ضيق الوقت حال دون إنجاز تلك الخطة، فتم الانسحاب العشوائي؛ مما زاد من حجم الخسائر أثناء انسحابها للخلف خاصة عند اجتيازها المضايق .



خسائر الحرب :



احتلت إسرائيل سيناء ومرتفعات الجولان والضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة .

وبلغت خسائر القوات الجوية المصرية في 170 دقيقة 309 طائرة حربية من أصل 340 طائرة، منها 30 طائرة من قاذفات القنابل البعيدة المدى تي يو 16، و 23 محطة رادار، وعدد من قواعد الصواريخ أرض جو، واستشهد حوالي 100 من الطيارين البالغ عددهم 350 طياراً بينما كان معظمهم يحاول سحب الطائرات نحو المدرجات .



واستشهد 9800  رجل وأُسر 3799 رجل ( 481 ضابط ـ 3280 جندى ـ 28 مدني )، بينما كان الجرحى بالآلاف، وفقد الجزء الأكبر من عتاد الجيش، وتقول الإحصائيات عن هذه الخسائر أنها بلغت 17 % في الأفراد من القوات البرية، أما معدات القوات البرية فقد كانت 85 % .



ولم تخسر القوات البحرية شيء، لكنها أُجبرت علي التراجع إلي ميناء الإسكندرية، وإخلاء ميناء بورسعيد .

الحدث في صحافة القاهرة:
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   مع ظهيرة يوم الاثنين 5 يونيو 1967 التفت الجماهير العريضة في الشوارع حول أجهزة المذياع؛ للاستماع إلى البلاغات العسكرية التي أعدها الأستاذ محمد حسنين هيكل، كان كل بلاغ من البلاغات 16 يحمل إليهم بشرى؛ فيهللون ويرقصون فرحاً، ومع صباح يوم الثلاثاء صدرت صحف القاهرة الثلاث (الأهرام ـ الأخبار ـ الجمهورية)، وعلى صدر صفحتها الأولى العناوين التي صاغها الأستاذ محمد حسنين هيكل بالاتفاق مع الرئيس عبد الناصر كالآتي:

6 يونيو:

• قواتنا توغلت داخل إسرائيل بعد معارك عنيفة.
• أسقطنا 86 طائرة للعدو، بيانات إسرائيل تعترف بالخسائر الفادحة والتقدم العربي الجبار.
• حطمنا 3 هجمات في اتجاه الكونتيلا وأبو عجيلة وخان يونس وتراجع العدو.
• دمرنا 11 طائرة للعدو وهي تحاول قذف مطارات القاهرة والعريش والقناة.
• إسرائيل تفشل في محاولة لتعويق الملاحة في القناة.
• أخبار الانتصارات في الجبهة المصرية في سيناء وشرم الشيخ.
• الاتحاد السوفييتي يعلن أن تدخله متوقف على التدخل العسكري من الغرب.

7 يونيو:

• قواتنا تطارد في عنف وشجاعة مقاتلات أمريكا وبريطانيا.
• طائرات كانبيرا البريطانية بعلامتها الرسمية تشترك في عمليات الضرب الجوي في سيناء.
• 32 طائرة أمريكية تركت قاعدتها في ليبيا لدعم طيران العدو.
• معارك ضارية مستمرة عند العريش وأبو عجيلة والقسيمة.
• كبدنا العدو خسائر فادحة في الطائرات منها 9 فوق أبو عجيلة وخان يونس وأسرنا 8 طيارين.
• هجوم جوي مصري على كل مواقع القتال.
• البوارج العربية ضربت قلب تل أبيب.
• قتال وحشي مستمر بالليل والنهار.
• قطعنا علاقتنا مع أمريكا رأس المؤامرة.
• وقف الملاحة في قناة السويس.

8 يونيو:

• القتال مستمر بضراوة عنيفة.
• تمركزت قواتنا في خط دفاعي في سيناء.
• أسقطنا 25 طائرة في سيناء والسويس وشرم الشيخ.
• أبدنا إبادة تامة مجموعات من قوات مظلات الأعداء حاولت النزول في خط دفاع سيناء.
• حطمنا محاولة إنزال جنود مظلات في شرم الشيخ أثناء عملية تجميع قواتنا.

9 يونيو:

• وقف إطلاق النار.
• مجلس الأمن يعقد اجتماعاً طارئاً لتقرير وقف الحرب.
• حاربت قواتنا في جميع المواقع معارك لم يسبق لها مثيل في عنفها وضراوتها.
• قوات أمريكا وبريطانيا الجوية اشتركت بأعداد ضخمة لحماية العدو.
• المعارك مستمرة في سيناء.

البداية.. دائما كذبة:
ــــــــــــــــــــــــــــــ

    .. دائما ما تكون البداية كذبة، تورط الجيش المصري في مستنقع اليمن بكذبة أطلقها أحد العملاء اليمنيين المقيمين بالقاهرة في رعاية الأجهزة الأمنية، ووجد فيها الرئيس عبد الناصر الفرصة لإثبات زعامته في الشارع العربي وكسر حالة العزلة التي يعيشها بعد الانفصال عن سوريا.

    كانت الكذبة تقول: « إن الأمير بدر قد قتل، وأن أغلبية القبائل مؤيدة للانقلاب العسكري بقيادة العميد عبد الله السلال ».

   وفي 29 سبتمبر 1962 سافر العميل إلى اليمن مع كتيبة من الجيش المصري في ثياب مدنية، التي ارتدت الملابس العسكرية اليمنية فور وصولها إلى صنعاء.

   وفي صنعاء، كانت في انتظارهم المفاجأة، فالأمير بدر لم يقتل ونجح في الهروب إلى السعودية عبر الجبال، وبدأت السعودية في تنظيم القبائل للانقضاض على ثوار صنعاء.

   وبدأت المعارك وحوصرت صنعاء، وفكر أفراد الكتيبة في الهروب إلى عدن؛ لأن الانجليز سيكونون أكثر رحمة بهم من رجال القبائل؛ فقد دخل رجال القبائل إلى موقع مصري خارج صنعاء، وذبحوا كل الجنود وأخذوا رءوسهم، وفوجئ الجنود المصريون برفاق السلاح وهم جثث بلا رءوس.

   لم يكن رجال القبائل وحدهم في مواجهة الجيش المصري، فذلك يفوق قدرتهم، فالحقيقة أن الجيش المصري قد وقع في قبضة تحالف ثلاثي يشرف عليه في الخفاء تخطيطاً وتمويلاً المخابرات المركزية الأمريكية وتجار السلاح ورجال البترول، وتعضدهم غرفة عمليات في لندن مزودة بالخرائط الكاملة للجيش ومسرح العمليات، ويديرها روبرت كومر مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي.

   نجح كومر في إنهاك الجيش المصري في اليمن، وإهلاك معداته، وشغله عن مشاريع التدريب، وخاصة أن القيادة المصرية التي لعبت بالنار، لم تكن تعرف الكثير عن أرض اليمن، ولا عن طبيعة العادات والتقاليد التي تحكم عقلية رجال القبائل.
   استطاع كومر استنزاف الجيش المصري، وبدأ يفكر في توجيه الضربة القاضية له؛ وتحول تفكيره نحو سيناء؛ فكانت الكذبة الثانية!!

 الكذبة الثانية:
ـــــــــــــــــــــــ

   بدأت تداعيات هزيمة 5 يونيو 1967 بمعلومات مكذوبة عن حشد للقوات الإسرائيلية على الحدود السورية للاعتداء عليها، ففي مساء 13 مايو وصلت رسالة لاسلكية من اللواء أحمد سويدان رئيس أركان الجيش السوري إلى الفريق أول محمد فوزي تفيد:

   « إسرائيل استدعت الجزء الأكبر من قواتها الاحتياطية، وتحشد جزءاً كبيراً من قواتها أمام الجبهة السورية، يقدر بحوالي خمسة لواءات، وأنها تنوى الهجوم على سوريا مع استخدام قوات مظليين بكثافة، ومن المنتظر أن يكون هذا الهجوم بين 15 ـ 22 مايو 1967».

   وفى 14 مايو بتكليف من المشير عامر سافر الفريق أول محمد فوزي رئيس الأركان إلى سوريا للتأكد من حشد القوات الإسرائيلية والتنسيق العسكري بين مصر وسوريا.

   تفقد الفريق أول فوزي قيادة جبهة سوريا وبحث مع المسئولين الموقف لمعرفة مدى صحة المعلومات التي وصلت من سوريا والاتحاد السوفييتي وكانت النتيجة كما قال:
   « أنني لم أحصل على أي دليل مادي يؤكد صحة المعلومات، بل العكس كان صحيحاً، إذا شاهدت صوراً فوتوغرافية جوية عن الجبهة الإسرائيلية التقطت بواسطة الاستطلاع السوري يومي 12، 13 مايو 67 فلم ألاحظ أي تغيير للموقف العسكري العادي».*(1).

   ورغم التأكد من عدم صحة المعلومة، ورغم تأكيد الأمم المتحدة التي كان لها مواقع مراقبة على طول خط الحدود السورية الإسرائيلية بأنه لا يوجد ثمة دليل على وجود تلك الحشود، ورغم أن المصادر الإسرائيلية أذاعت أنها وجهت الدعوة للسفير السوفييتي في تل أبيب للقيام بزيارة للجبهة؛ ليتأكد من حقيقة الوضع بنفسه، فقد أصبحت المعلومة في حكم المؤكدة لدى القاهرة بسب تأكيد الاتحاد السوفيتي لها.

حقيقة المعلومة المكذوبة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

     ظلت المعلومة المكذوبة، تشكل لغزاً من الألغاز الكبيرة في هزيمة يونيو 67 إلى أن كشفت عنها الوثائق الإسرائيلية؛ فقد كشفت دراسة أعدها قسم التاريخ في هيئة الأركان الإسرائيلية بعنوان: «أشكول أصدر أوامرك»، من إعداد عميد الاحتياط عامي جالوسكا، الذي شغل مناصب عليا في الجيش والشرطة وديوان رئيس الوزراء، وكان من ضمن فريق المفاوضات مع الفلسطينيين، وقد حصل الباحث بهذا الدراسة على درجة الدكتوراه من جامعة القدس، وهي مصنفة على أنها سرية جداً.
   كشفت الدراسة في فصل مثير الستار عن زيارة رابين لإيران في أول مايو 67، وذكر أن الشاه محمد رضا بهلوي ضغط على إسرائيل لمناوشة القوات المصرية في سيناء، ودفع مصر لسحب المزيد من قواتها في اليمن؛ لأنه كان يخشى من المد الناصري في اليمن على دول الخليج وإيران، وكان يرى أن مصر تشكل عائقاً لمد النفوذ الإيراني في الجزيرة العربية.

   وذكر رابين أن عدم استجابة إسرائيل للشاه أثارت لديه الشعور بالخجل والندم، لكن الشاه لم يعدم الحيلة في تحقيق أغراضه، والدفع بالأمور إلى حافة الهاوية؛ عبر تسريب معلومات استخباراتية مكذوبة بشأن نوايا إسرائيل مهاجمة سوريا، ونجح الشاه فيما أراد. *(2)

مظاهرة عسكرية:
ــــــــــــــــــــــــــــ

   وفي 14 مايو أصدر عبد الناصر قراراً بالتعبئة العامة، لتنفيذ الخطة الدفاعية الموضوعة (قاهر)، واتخذت الإجراءات التي تتطلبها التعبئة العامة لرفع مرتبات الوحدات إلى مرتبات الحرب، وإنشاء وحدات جديدة سبق تحديدها في خطة التعبئة.

   وتحركت قوات الجيش المصري في طريقها إلى سيناء في مظاهرة عسكرية متعمدة تحت عيون المواطنين والأجانب، تشيعها زغاريد النساء، وأخذت وسائل الإعلام في نشر هذه التحركات، بما يتعارض مع أبسط مبادئ وإجراءات الأمن الحربي، فالجيش ذاهب في نزهة قصيرة لإلقاء إسرائيل في البحر.

   وتحولت المظاهرة العسكرية إلى حرب حقيقية، لم تكن مصر والدول العربية جاهزة لخوضها، بينما كانت إسرائيل تعد لها منذ عام 57 نهاية حرب 56 التي خسرتها مصر، ولم يحفظ ماء الوجه للحكام الجدد من ضباط انقلاب يوليو 1952 سوى تدخل الأمريكيين والسوفييت، الذي صنع من البكباشي جمال عبد الناصر بطلاً شعبياً.

سحب قوات الطوارئ الدولية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   وفى 16 مايو أرسل الفريق أول محمد فوزي بتعليمات من المشير عامر خطاباً الجنرال ريكي يطلب فيه سحب هذه القوات من مراكزها على الحدود الشرقية على الفور، وكان رد ريكي الفوري أنه يجب الرجوع في هذا الطلب إلى يوثانت باعتباره موضوعاً سياسياً، وهو صاحب القرار فيه.

    ووافق عبد الناصر على إرسال الطلب عن طريق وزارة الخارجية، وكان الطلب سحب قوات الطوارئ المتمركزة على حدودنا الشرقية فقط، ولكن يوثانت أثار نقطة هامة كانت مثاراً للجدل، فقد كان يرى إما أن تنسحب جميع قوات الطوارئ الدولية الموجودة على حدودنا الشرقية وشرم الشيخ وقطاع غزة باعتبارها نظاماً متكاملاً، أو لا يتم سحبها، وتبقى في مواقعها، وكان القرار الذي اتخذته مصر هو سحب كل قوات الطوارئ، وصدر قرار يوثانت بسحبها في 18 مايو.


عبد الناصر يؤكد:
«ما فـيش حـرب»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
  
   وفي يوم 23 مايو طلب عبد الناصر أن يجتمع بالطيارين في قاعدة أبو صوير، في عملية أقرب إلى الدعاية منها إلى أي شيء في وجود المشير عامر والفريق عبد المحسن كامل مرتجى، قال عبد الناصر:

   « إسرائيل لن تحارب؛ لأنها كانت تقول: لو صعدنا العمليات الفدائية، ستقوم بحرب وقائية، وصعدنا ولم تفعل.. كانت تقول لو حشدنا في سيناء، وحشدنا في سيناء، ولم تفعل.. لو أغلقنا خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية.. وأنا هنا لأعلن للعالم كله.. غلق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية.. وأيضاً مش حتحارب ».

   وبعد انتهاء عملية التصوير، وخروج الصحفيين، سأل أحد الطيارين برتبة ملازم الرئيس:

ـ أفندم، سيادتك أعلنت إغلاق خليج العقبة.. ده معناه حرب.. إحنا دلوقتي جاهزين.. فتصدر لنا أوامرك وإحنا نعمل أي حاجة.
أجاب الرئيس:
ـ ما فيش حرب.. الموضوع سياسي.. وحيتحل سياسي..».*(3)
 

إغلاق خليج العقبة:
    ــــــــــــــــــــــــــــ

   وفى المساء تم إعلان غلق خليج العقبة.

برقبتي يا ريس:
ـــــــــــــــــــــــــ

   رواية أخرى وردت على لسان الرئيس أنور السادات، فقد ذكر السادات أن عبد الناصر جمع لجنة تنفيذية عليا في أواخر مايو 67 مكونة من المشير عامر وزكريا محيي الدين وحسين الشافعي وأنور السادات وعلي صبري وصدقي سليمان رئيس الوزراء وقال لهم:

« إن حشودنا في سيناء تجعل الحرب محتملة 50 %، أما إذا أقفلنا المضايق، فالحرب مؤكدة مائة في المائة»، ثم التفت إلى عامر وقال له:

ـ «هل القوات المسلحة جاهزة يا عبد الحكيم؟».

فوضع عامر يده على رقبته، وقال:

ـ «برقبتي يا ريس.. كل شيء على أتم استعداد».*(4)

    لكن يبدو من رواية السادات الذي خانته ذاكرته في مواقع كثيرة وأحداث كثيرة، بما يجعل من روايته لا تستقيم مع المصادر التاريخية الأخرى ممثلة في صحف القاهرة الصادرة صباح 24 مايو 1967 وشهادات قادة حرب يونيو أمام محكمة الثورة،؛ مما يجعلنا نلتفت عن تلك الرواية لعدة أسباب منها:

   1 ـ من الواضح أنها شهادة مجروحة الغرض منها الإساءة للمشير الذي انتقل إلى جوار ربه دون أن تتاح له فرصة محاكمة عادلة يدافع فيها عن نفسه؛ لما سبق أن ذكره بعض الشهود من أن المشير أهانه بلفظ جارح (مبقاش إلا أنت ياابن... اللي هتعلمني شغلي)، عندما عاتبه في سحب القوات بدون خطة، وبسبب حرصه الدائم على مجاملة عبد الناصر.

   2 ـ أن قرار إغلاق المضايق اتخذ في يوم 21 مايو وأعلنه عبد الناصر أثناء لقاء بالطيارين في قاعدة أبو صوير يوم 23 مايو، والذي قال فيه للطيارين: «ما فيش حرب»، وأنه لو كان ثمة اجتماع من هذا القبيل؛ فلابد أن يكون سابقاً على ذلك التاريخ بيوم أو عدة أيام، وليس في أواخر شهر مايو كما يدعي السادات.

   3 ـ أن ثروت عكاشة قد ذكر في هذا السياق أن عبد الناصر قد اتخذ قرار إغلاق المضايق منفرداً، فقد ورد في مذكراته:

«.. وعندما دعا الرئيس جمال عبد الناصر أعضاء اللجنة التنفيذية العليا وبعض كبار المستشارين المسئولين للتشاور معهم، لم يكن الأمر في الحقيقة غير إبلاغهم بما قرره، إذ كانت الإجراءات قد اتخذت قبل دعوتهم». (5)
   4 ـ أن صلاح نصر قد ذكر في مذكراته أن قرار إغلاق الخليج لم يكن وليد الساعة وفقاً للأحداث التي كانت جارية والتي جرتنا للحرب فحسب، بل كان أيضا من الأغراض التي كانت تحت ذهن الراحل جمال عبد الناصر منذ أواخر عام 1966، وسط جيشان من الانفعال، والتأثيرات النفسية أساسها هدفان رئيسيان:

   أولهما: الرد على دعاية بعض الدول العربية المضادة بأنه كان يحتمي وراء القوات الدولية، وأن أقواله أكثر من أفعاله.
  
   ثانيا: مشاكسة الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية على موقفها الداعم لإسرائيل.* (6)

   5 ـ أن حسن التهامي ذكر في مذكراته أن عبد الحكيم عامر قد دفع حياته ثمناً لإصراره على التحقيق في أسباب الهزيمة التي كان متأكداً أنها صنعت على أيدي عبد الناصر، حيثُ لفظ أنفاسه بين يدي الليثي ناصف؛ مما سبب إصابة الليثي بصدمة عصبية لم تفارقه حتى أرسله السادات للاستشفاء في لندن، وهناك سقط من الدور العاشر ومات ومعه سره وسر قتل المشير. *(7)

ورقة الحرب:
ــــــــــــــــــــ

   وبإعلان غلق المضايق قدم عبد الناصر على طبق من ذهب إلى إسرائيل الورقة التي تطلبها لبدء الحرب ضد مصر، وتستند عليها سياسياً وإعلامياً على المستوى الدولي كغطاء لهجومها المنتظر، فقد كانت تريد الحرب لكنها دائماً تنقصها الذريعة كي تبدو دائماً في دور الضحية التي تنال الاستعطاف.

تقديم الذريعة:
ـــــــــــــــــــــ

    قدم عبد الناصر لإسرائيل الذريعة التي كانت تنقصها لخوض الحرب ضد مصر، بعد أن فشلت في إيجادها أو محاولة اختلاقها على مدى شهور، فحاولت مرة اصطناعها بالإغارة على قرية «السموع» الأردنية يوم 13 نوفمبر 66 بحجة تدمير قواعد الفدائيين الفلسطينيين، وخسرت الأردن سبعين رجلاً بين قتيل وجريح، وعبرت الأردن عن خيبة أملها في كل من مصر وسوريا، لأنهما لا تتحملان مسئوليتهما في الصراع ضد إسرائيل، والحقيقة أن إسرائيل قامت بالإغارة ردعاً للأردن، ولاختبار رد فعل كل من سوريا ومصر بصفة خاصة والدول العربية بصفة عامة، ومدى قدرتها على العمل المشترك على ضوء قرارات القمة العربية، واطمأنت إسرائيل إلى رد الفعل السلبي من جانب العرب.

     ووجهت إسرائيل الاتهامات لسوريا بزعم أنها تقوم بتشجيع أعمال الفدائيين داخل الأرض المحتلة، وفي 7 أبريل 67 حدث اشتباك بالنيران على الحدود السورية تدخل فيه الطيران الإسرائيلي والسوري، وفقدت سوريا 6 طائرات، الأمر الذي وضع مصر في موقف حرج لارتباطها باتفاقية دفاع مشترك مع سوريا.
    واستمرت إسرائيل في خلق التوتر، لكنه لم يصل إلى الذريعة لنشوب حرب، ففي 12 مايو 67 أعلن الجنرال إسحاق رابين من إذاعة إسرائيل: «أننا سنشن هجوماً خاطفاً على سوريا، وسنحتل دمشق لإسقاط نظام الحكم فيها ثم نعود»،  لكن تهديدات رابين كانت مجرد كلام يكذبه الواقع الملموس على الأرض.

الجيش مقيد تحت أقدام العدو:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   من خلال مجموعة من التصرفات لحكمة رجال الحكم والدولة وضع عبد الناصر الجيش مقيداً في سلاسل العجز تحت أقدام العدو؛ ففي 23 مايو قدم السفير الأمريكي بالقاهرة إلى محمود رياض رسالة من جونسون بتوقيعه إلى الرئيس عبد الناصر، يؤكد فيها حسن النوايا وأهمية تجنب القتال مشيراً إلى أن المنازعات لا يجب أن تحل بالاجتياز غير المشروع للحدود بالقوات المسلحة، ومقترحاً أن يقوم نائبه ـ هيوبرت همفري ـ بزيارة المنطقة لإجراء مباحثات مع الرئيس جمال والزعماء العرب وكذا زعماء إسرائيل إذا مرت تلك الأيام بغير قتال.

   وحضر يوثانت إلى القاهرة لمقابلة عبد الناصر في إطار عمل السكرتير العام لتهدئة الأوضاع بعد سحب قوات الطوارئ ودخول القوات المصرية إلى شرم الشيخ وبعد أن وافق عبد الناصر على مقترحات يوثانت، وجه إليه سؤالاً:
سيادة الرئيس: إن الإسرائيليين متخوفون من قيامكم بهجوم عسكري ضدهم، هل تعدني بأن مصر لن تهاجم إسرائيل؟

   رد عبد الناصر قائلاً: نحن لم نعلن في أي وقت أننا سنهاجم إسرائيل. إن إسرائيل هي التي هددت رسمياً بغزو سوريا، وما نفعله هو إجراء دفاعي لمنع هذا التهديد من أن يصبح حقيقة. وعلى ذلك (لن نكون نحن البادئين بالهجوم).
غادر يوثانت القاهرة في يوم 25 مايو متفائلاً بعد ما قبلت مصر مقترحاته والتأكيدات التي حصلت عليها من عبد الناصر، فلم تكن رحلته سوى جزء من الخداع السياسي الأمريكي فقط، بل كان من نتائجه الهامة التي أبلغت إلى إسرائيل وأمريكا ـ في حدود عمل السكرتير العام ـ أن مصر لن تكون البادئة بالهجوم.

   وفى فجر يوم 27 مايو أيقظ السفير السوفييتي بالقاهرة عبد الناصر من نومه لإبلاغه رسالة هامة من القادة السوفييت يطلبون فيها ألا تكون مصر هي البادئة بإطلاق النيران، وذكر أن الرئيس جونسون قد أبلغ الكرملين بأن مصر ستقوم بالهجوم في فجر هذا اليوم.

   وتلقى د. محمود رياض وزير الخارجية رسالة مماثلة تحمل تهديداً سافراً حيثُ جاء فيها: « إن على مصر أن تتحمل نتائج عملها إذا بدأت بفتح النيران».

   وإمعانا في الخداع أبلغت أمريكا مصر يوم 3 يونيو باستعداد جونسون لاستقبال زكريا محيى الدين نائب رئيس الجمهورية، وأعلنت القاهرة عن هذه الزيارة التي تبدأ يوم 5 يونيو، بينما كان هو اليوم الذي حددته إسرائيل للحرب.

   هكذا نجح الخداع السياسي الأميريكي في كشف نوايا عبد الناصر من أن مصر لن تبدأ عملاً عسكرياً ضد إسرائيل.


   .. بتصرفات صبيانية بلغت قمة العبث، وضع عبد الناصر الجيش مقيداً في سلاسل العجز تحت أقدام العدو!! وقد وصف عبد الناصر أسبابها في حوار مع عبد اللطيف البغدادي بقوله:

« أصلي لقيت العالم العربي نايم ويائس.. فحبيت أصحيه ».*(8)

مش خرع زي إيدن:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

   في يوم 28 مايو 1967 عقد عبد الناصر مؤتمراً صحفياً مع مندوبي الصحف ووكالات الأنباء، وتم نقله على الهواء إلى الجماهير عبر وضع مكبرات الصوت في الميادين والساحات الشعبية، وأجاب عبد الناصر عن 44 سؤالاً، قال عبد الناصر العديد من التصريحات التي تعجب العوام:

ـ لن أتزحزح ولن أقبل أي مساومة.
ـ سندافع عن سيادتنا إذا تدخلت أمريكا عسكرياً.
ـ إنني أتوقع هجوماً إسرائيلياً في أي لحظة.
ـ أي اعتداء سنواجهه بحرب شاملة.
ـ بريطانيا لم تتعظ من حرب 56.
ـ أمريكا تثير ضجة مفتعلة بانحيازها الكامل لإسرائيل.
ـ سوف نُلحق بالمعتدين أضراراً لا يتصورونها.
ـ أنا مش «خِرع» زي إيدن بتاعكم ولسه محصلتش 50 سنة وصحتي كويسة والحمد لله.

   كان هذا جواب عبد الناصر رداً منه على سؤال لأحد الصحفيين الأجانب الذي سأله عما إذا كان لا يزال في مقدوره مواجهة معركة عسكرية، كما واجهها أثناء أزمة السويس بعد أن كبر سنه الآن.

مقــال هـــيكل عن
« الضربة الأولى»
ــــــــــــــــــــــــــــ

   كانت كتابات هيكل تمثل من وجهة نظر الكثيرين الرؤية الأيديولوجية المعتمدة لدى عبد الناصر، فما كان يكتبه هيكل يبدو كما لو كان عبد الناصر قد قاله، وكانت أجهزة الاستخبارات تقوم بترجمة تلك المقالات وتحليل محتواها لتوضع على مائدة متخذي القرار.

   وكتب هيكل عن الضربة الأولى في مقاله «بصراحة» بتاريخ 26 مايو، بعنوان: « الصدام بالسلاح محتم.. لماذا؟»:

« إنه لا بد لنا أن نتوقع أن يوجه العدو إلينا الضربة الأولى في المعركة، لكنه يتعين علينا ونحن ننتظر الضربة الأولى من العدو أن نقلل إلى أقصى حد مستطاع من تأثيرها ثم تكون الضربة الثانية في المعركة، وهي ضربتنا الموجهة إليه رداً وردعاً ـ ضربة مؤثرة إلى أبعد حد مستطاع..».

كان المقال أشبه بنكتة حمقاء، فلم يحدث في التاريخ أن أعلنت دولة إستراتيجيتها في الحرب علناً!!

اجتماع 2 يونيو:
ــــــــــــــــــــــــــ

   وفي 2 يونيو اجتمع عبد الناصر بقادة القوات المسلحة بمقر القيادة، وكان تقديره للموقف قد تغير عن التقدير السابق الذي أعلنه في لقائه بالطيارين في قاعدة أبو صوير، فقد أعلن للمجتمعين أن:

   « إسرائيل ينتظر قيامها بعملية هجومية ضد مصر خلال 48 ـ 72 ساعة وتوقع أن تبدأ عدوانها بتوجيه ضربة جوية ضد قواتنا الجوية ووسائل الدفاع الجوى للحصول على السيطرة الجوية، وأثناء المناقشة قرر قبول تلقي الضربة الأولى لأسباب سياسية حتى لا يكون بدء الحرب من جانبنا، وطلب الاستعداد لمواجهة الموقف وتقليل الخسائر.

   اعترض الفريق صدقي محمود على هذا القرار وبعد أن طالت المناقشات، التفت عبد الناصر نحو المشير الذي قال: طيب يا صدقي تحب تضرب الضربة الأولى وبعد كده تحارب أمريكا؟، ورد الفريق صدقي: إذا كان الوضع كده يبقى أمري إلى الله.

   وسأل عبد الناصر الفريق صدقي محمود عن نسبة الخسائر عند تلقي الضربة الأولى، فكان رده أنه يتوقع أن تكون ما بين 10ـ 15 %، فذكر الرئيس أن هذا يرضيه، كانت تقديرات الفريق صدقي محمود مبنية على تقارير المخابرات العامة والمخابرات الحربية التي تبين ـ فيما بعد ـ أنها كانت قاصرة ومضللة!!

مأساة المشير عامر:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

   ورغم أسباب الهزيمة التي صنعها عبد الناصر بيديه صنعاً، واختار خسائرها على عينه، فلا يمكن إعفاء المشير عامر منها؛ فقد كان عامر برتبة رائد عند وقوع انقلاب يوليو 52 وبعد أقل من عام رقي إلى رتبة اللواء مع تعيينه قائداً عاما للقوات المسلحة في 18 يونيو 53، ثم ترقى بعد خمس سنوات إلى رتبة المشير في 20 نوفمبر 1958، وبعد الانفصال عن سوريا قام عامر بترقية نفسه ليصبح نائباً للقائد الأعلى للقوات المسلحة.

   كانت ترقية عامر إلى رتبة المشير مثار سخرية العسكريين في العالم، فقد حدث في مساء يوم 4 مايو 1967، عندما استقبل عبد الناصر الـ « فيلد مارشال» مونتجمري، ومن المفارقات الطريفة أن المشير عبد الحكيم عامر كان بصحبة عبد الناصر في استقباله، وعندما رأى مونتجمري رتبة المشير والنياشين المعلقة على صدر عامر، أخذه الذهول طويلاً، لكن عبد الناصر قدمه له من جديد قائلاً: أعرفك بـ «فيلد مارشال » عبد الحكيم عامر، فسأله مونتجمري على الفور: في أي حرب حصلت على اللقب يا سيدي؟!

    كان لدهشة الرجل أسبابها المنطقية، وخاصة أنه من المستقر عليه في التقاليد العسكرية أن رتبة المشير لا تُمنح إلا لقائد عسكري خاض حرباً بفكر جديد، وانتصر فيها، بحيث يصبح هذا الفكر فتحاً جديداً وإضافة حقيقية إلى مجال العلوم العسكرية.

    وســاد صمت طويل وبارد لم تقطعه إلا كلـمات الترحيب بالضيف الإنجليزي والحديث عن انطباعاته حول مصر بعد ٢٥ عاماً من انتهاء الحرب العالمية الثانية.

الصراع بين الرئيس والمشير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   بعد الانفصال بين مصر وسوريا.. على أثر انقلاب عسكري في سوريا في 28 سبتمبر 1961، الذي كان ضربة قوية لفكرة الوحدة العربية وهزيمة للقومية العربية وتقليصاً لدور مصر وتخفيضاً لشعبية عبد الناصر؛ نشأ صراع داخل القيادة في مصر، فقد حمل عبد الناصر مسئولية الانفصال الأدبية والسياسية والعسكرية للمشير عامر، وحصل لوم أدبي ولم يظهر الخلاف بينهما على السطح، ولم يكن معروفاً إلا لرجال « المطبخ » الذين يعملون مع الرجلين، ومن هنا نشأت عقدة بين عبد الناصر وعامر..

   .. وراح المشير عامر يوسع في سلطاته وصلاحياته بحجة ضمان أمن القوات المسلحة لضمان أمن الثورة؛ فقد أصبح رئيساً للجنة الاقتصادية العليا ورئيساً للجنة السد العالي ورئيساً للجنة تصفية الإقطاع ورئيساً لاتحاد الكرة، بالإضافة إلى قيادة الجيش ونيابة رئيس الجمهورية.

   وأصبح الجيش المصدر الرئيسي لتعيين الوزراء والمحافظين ورؤساء مجــــالس الإدارات ووكـــلاء الوزارات والسفـراء، وكانت المناصب العـليا لا تشغل إلا بضباط المخابرات العامة أو الحربية، وزاد نشاط المباحث الجنائية العسكرية في إحكام قبضتها على كل عناصر المجتمع.

   وتدخل الجيش في شئون هيئة الإصلاح الزراعي والإسكان والثروة السمكية وهيئة النقل العام ومؤسسة المطاحن وشركة منجنيز سيناء وجريدة الجمهورية واتحاد الكرة وأعمال البوليس ومباحث أمن الدولة ولجنة تصفية الإقطاع التي مثلت قمة الإرهاب والإذلال للأسر العريقة؛ فاقتحمت منازلهم ليلاً وروَّعت الأطفال، وانتهكت حرمة مخادع النساء استناداً إلى ادعاءات لا سند لها من الحقيقة، وكانت مأساة عائلة الفقي في قرية كمشيش النموذج الصارخ لتلك الممارسات، حيثُ أجبر جنود الجيش رجال الأسرة على ارتداء ملابس النساء، ووضعوا ألجمة الخيل في أفواههم وأجبروهم على أكل علف الحيوانات على الملأ من أهل القرية.

   ولم تنجُ الأندية الرياضية من الإفلات من قبضة الجيش؛ فقد روى الفريق أول عبد المحسن كامل مرتجى قصة تكليفه برئاسة النادي الأهلي للمرة الأولى سنة 1965، أثناء الأزمة التي تدهور فيها مستوى فريق كرة القدم بالأهلي حتى بات مهدداً بالهبوط لدوري الدرجة الثانية، فقال:

   إن المشير عامر زاره في مقر القيادة حيثُ كان قائداً للقوات البرية، وطلب منه أن يصطحبه إلى منزله في الجيزة، وفى الطريق مرا على النادي الأهلي وقال له: من بكره أنت رئيس النادي، فرد بأن محافظ القاهرة صلاح الدسوقي رئيس للنادي، أبلغه المشير بأنه سيترك المنصب له، فقال له إن مسئولياته في الجيش تحول بينه وبين رئاسة النادي، فكان رد المشير إن هذه أوامر الريس لإنقاذ النادي الأهلي من الهبوط! في نفس الوقت كان قائد الطيران رئيساً لنادي الطيران وقائد البحرية رئيساً للنادي الأولمبي!!

تهديدات المشير:
ـــــــــــــــــــــــــــ

   كانت التهديدات غير المباشرة تصل إلى عبد الناصر بإبعاده إلى يوغوسلافيا، بمعنى نفيه إلى بلجراد، وكان عبد الناصر على ثقة من جدية هذه التهديدات وإمكانيات عامر في تنفيذها، وترحيب السوفييت بمثل هذا العمل الذي سيسهل لهم السيطرة الكاملة على قائد مثل المشير، وتصبح مصر أمامهم مدينة بحقوق كثيرة، فيسهل عليهم إنشاء القواعد العسكرية على أرضها.

شلة المشير:
ــــــــــــــــــــ
   كان المشير يردد في جلساته الخاصة أن وجود عبد الناصر مرتبط برضائه عنه وحمايته له، فيرد أفراد الشلة في نفاق مدفوع الثمن، وهم ينادونه: «يا ريس» إلى متى تترك هذا الرجل يا ريس؟

ويقول آخر:
ـ آن الأوان يا ريس تأخذ مكانك الحقيقي، كفايه كده عليه.
.. ويضحك المشير عامر في سعادة محاولاً إخفاءها ويقول:
ـ اختشي يا واد منك له، إيه اللي جرى لعقولكم».*(9)

   .. وظل هذا الصراع قائماً ويتعمق تدريجياًً، حتى أصبحت له أبعاد أخرى عرقلت وضع إستراتيجية عسكرية للدولة إلى أن دخلت مصر حرب 67 .

أكاذيب عبد الناصر:
ـــــــــــــــــــــــــــــ

   ذكر عبد اللطيف البغدادي في شهادته كيف تم الاتفاق على الكذب بين عبد الناصر والمشير عامر في غرفة العمليات ظهر يوم 5 يونيو قائلاً:
«وعندما رآني (يقصد عبد الناصر) أشار لنا جميعاً قائلاً:
ـ ياللا نروح ونسيب عبد الحكيم يشتغل..

   وعندما هممنا بالانصراف توقف عند الباب واستدار إلى عبد الحكيم وقال له:
ـ يا عبد الحكيم طلع حاجة للجرايد..
فرد عبد الحكيم متسائلاً:

ـ نقول أسقطنا مائتي طائرة..

فقال عبد الناصر:

ـ بلاش نقول نص العدد.. نقول إننا توغلنا في الأراضي الإسرائيلية، وسأجعل هيكل، يقصد محمد حسنين هيكل يكتب هذا البلاغ».*(10)

   ويضيف البغدادي لم يقتصر الكذب على عدد الطائرات بل تعداها إلى جنسية الطائرات المشاركة في الهجوم، فقد أخبر المشير عامر الرئيس عبد الناصر أنه تم إسقاط طائرة أمريكية في ترعة الإسماعيلية، وطلب الرئيس عبد الناصر الاتصال بالمهندس مشهور أحمد مشهور للتأكد، وسرعان ما أخبرهما المهندس مشهور أن الطائرة إسرائيلية*(11)، ومع ذلك أصر عبد الناصر على الكذب في خطاب التنحي!!

   لم يكن البغدادي وحده هو الذي أدلى بشهادته عن أكاذيب عبد الناصر، ولكن مصادر العدو الإسرائيلي التقطت مكالمة دارت بينه وبين الملك حسين للاتفاق على صيغة الكذب أيضاً:

« ـ عبد الناصر: إذن ستنشر جلالتك بياناً عن تدخل الأمريكيين والإنجليز.
ـ حسين: (جواب غير مسموع).
 ـ عبد الناصر: والله، أقول إنني سأنشر بياناً، وستنشرون بياناً، وسنحرص على أن يعلن السوريون أيضا أن الطائرات الأمريكية والإنجليزية تهاجمنا انطلاقاً من حاملات الطائرات التي تملكها، سننشر إذن هذا البيان. سنؤكد تماماً على هذه النقطة.
ـ حسين: تمام.. ممتاز.
ـ عبد الناصر: هل توافق جلالتك؟
ـ حسين: (جواب غير مفهوم).
ـ عبد الناصر: ألف شكر، لا تستسلموا. نحن معكم من كل قلوبنا، أطلقنا اليوم طائراتنا على إسرائيل، وهي تقصف المطارات الإسرائيلية منذ هذا الصباح.
ـ حسين: ألف شكر. بالسلامة». *(12)

لامبالاة بالهزيمة:
ـــــــــــــــــــــــــــ

   ذكر ثروت عكاشة في مذكراته أنه: «في ساعة متأخرة من ليلة الخميس 8 يونيه، اتصل بي المرحوم صلاح نصر، وأبلغني أن عبد الحكيم عامر عقد العزم على الانتحار، فغادرت بيتي وذهبت إلى القيادة، ولقيت صلاح نصر، ولفني وإياه صمت الذهول، وفيما نحن كذلك إذا بالباب يفتح فجأة وإذا وزير الحربية شمس بدران يباغتنا بقوله:

ـ «أما اتخمينا حتة خمة!».

ولم تحرك العبارة منا ساكناً، فأردف يقول:

ـ « لم أنتم هكذا حزانى، هل أنتم في مأتم؟ أطلب لكم قهوة سادة!!». *(13)

السفينة ليبرتي:
ــــــــــــــــــــــ

   .. ذكرت صحف القاهرة في إطار «صناعة الكذب» شائعة مضمونها أن السفينة الأمريكية ليبرتي قد قامت بالتشويش على أجهزة الرادار المصرية وحالت دون أدائها لمهامها، وتلك كذبة أخرى تدعو إلى السخرية أكثر من أي شيء آخر، فحقيقة الأمر لم تكن هناك أجهزة رادار مع تمام الساعة التاسعة إلا خمس دقائق من صباح يوم 5 يونيو؛ فقد قصفتها الطائرات الإسرائيلية.

    .. وليبرتي كانت إحدى سفن التجسس الأمريكية التي تحمل علامة GTR5 وهي اختصار لكلمات General Technical Research أي «سفينة بحث تقني عام»، وهو التغطية البحثية والعلمية التي كانت تستخدمها كثير من سفن التجسس الأمريكية التابعة لوكالة الأمن القومي التي تمخر عباب المحيطات، وقد أغرقتها إسرائيل عن عمد في البحر المتوسط يوم 8 يونيو؛ لأن السفينة رصدت عمليات إعدام جماعية لمئات الأسرى المصريين بسيناء، وأن إسرائيل أرادت ألا يكون هناك شهود على جريمتها بحق الأسرى العزل حتى لو كانوا حلفاءها الأمريكيين.

قتل الأسرى المصريين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   في التاسعة وخمس دقائق رصد طاقم السفينة قيام وحدات من الجيش الإسرائيلي بارتكاب إحدى مجازر القتل الجماعي لأسرى الجيش المصري، مع حلول منتصف النهار، كانت المجزرة لا زالت دائرة بعد أن ضاق الإسرائيليون بهؤلاء الأسرى الذين باتوا يشكلون عبئاً لا يمكن تحمله؛ فليس هناك مكان لإيوائهم، ولا وسائل لنقلهم إلى إسرائيل، ولا عدد كاف من الجنود الإسرائيليين لحراستهم والإشراف عليهم، لذا كان الحل الأمثل قتلهم والتخلص منهم على الفور.
 وقد ذكر شهود عيان ممن نجوا من على ظهر السفينة «ليبرتي» بأنهم شاهدوا بأعينهم تفاصيل عملية الإبادة، مثل إجبار ما يقارب من ستين جندياً مصرياً على الوقوف في صف واحد بجوار مسجد العريش، ثم إطلاق النار عليهم دفعة واحدة من البنادق الرشاشة الإسرائيلية، وكيف تحول رمل الصحراء تحت أقدامهم إلى بركة من اللون الأحمر.

جونسون يغرق
السفينة وسرها:
ـــــــــــــــــــــــــ
   ظلت هذه التفاصيل طي الكتمان في مخازن وكالة الأمن القومي التي عُرف ـ فيما بعد ـ أنها كانت تراقب عن كثب كل تفاصيل عملية قصف السفينة ومتأكدة أن قصف السفينة لم يتم بطريق الخطأ، كما ادعت إسرائيل التي طلبت من جونسون «دفن الموضوع»!!

روح شاكيد
ــــــــــــــــــ

   .. وقد أوضح مقطع في الفيلم الإسرائيلي «روح شاكيد» لا يزيد على ثلاث دقائق تلك الجريمة، من خلال عرض مهمة الفرقة الإسرائيلية في مطاردة كتيبة كوماندوز مصرية مفككة كانت تقاتل الإسرائيليين في غزة، وانسحبت بشكل غير منظم إلى صحراء سيناء، وهناك قامت الفرقة الإسرائيلية بقتل 250 منهم بعد استسلامهم بالقرب من مدينة العريش.

صناعة الكذب
في خطاب الرئيس:
ــــــــــــــــــــــــــــــ

   في استمرار لمسلسل الكذب قال عبد الناصر في خطابه وبعد فقرات من الهدهدة ودغدغة المشاعر:

« لقد كانت هناك مفاجآت تلفت النظر:
أولها ـ أن العدو الذي كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب..

الأمر الذي يقطع بأن هناك تسهيلات تفوق مقدرته وتتعدى المدى المحسوب لقوته قد أعطيت له..

ثانياً ـ العدو غطى في وقت واحد جميع المطارات العسكرية والمدنية في الجمهورية العربية المتحدة.. ومعنى ذلك أنه كان يعتمد على قوة أخرى غير قوته العادية لحماية أجوائه من أي رد فعل من جانبنا.. كما أنه كان يترك بقية الجبهات العربية لمعاونات أخرى استطاع أن يحصل عليها.

ثالثاً ـ الدلائل واضحة على وجود تواطؤ استعماري معه.. نحاول أن نستفيد من عبرة التواطؤ المكشوف السابق سنة 1956 فيغطي نفسه هذه المرة بلؤم خبيث.. ومع ذلك فالثابت الآن أن حاملات طائرات أمريكية وبريطانية كانت بقرب شواطئ العدو تساعد مجهوده الحربي.. كما أن طائرات بريطانية أغارت في وضح النهار على بعض المواقع في الجبهة السورية وفي الجبهة المصرية.. إلى جانب قيام عدد من الطائرات الأمريكية بعمليات الاستطلاع فوق بعض مواقعنا».

   .. كان عبد الناصر يكذب، وكان متأكداً أن جيش الدفاع الإسرائيلي دون أي معونة خارجية هو الذي مرغ أنفه في وحل الهزيمة.

من «النكبة» إلى «النكسة»
الحرب في الفكــر الصـهيوني:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   اعتمدت الصهيونية العالمية على «القوة المسلحة» لإنشاء دولة إسرائيل، فقد أنشأت في وقت مبكر جداً في فلسطين أول منظمة عسكرية سميت «الهجاناه»؛ فكانت نواة الجيش الإسرائيلي الذي أعلن تكوينه ووجوده فور إنشاء الدولة.
وكان شعار بن جوريون الذي أطلقه حينئذ: «بالدم والنار سقطت اليهودية، وبالدم والنار تعود من جديد»، وكان ذلك تأكيداً لقرار من الصهيونية العالمية يقضى بأن «الحرب هي الوسيلة الوحيدة لإنشاء الدولة»

   وجاءت حرب 1967 بنتائجها الأليمة، وأصبح بن جوريون ـ نبي إسرائيل المسلح ـ أكثر وضوحاً في التعبير عن أهمية القوة العسكرية لتحقيق التوسع الذي تريده إسرائيل: «حدود إسرائيل تكون حيثُ يقف جنودها».

   .. وبنظرة فاحصة لكل الجولات التي خاضتها إسرائيل لم تخرج بيدها فارغة حتى وهى مهزومة في 73؛ في عام 48 استولت على أرض عربية بزيادة 30% على نصيبها في قرار التقسيم الصادر من الأمم المتحدة في نوفمبر من العام السابق. بالإضافة إلى قرية أم الرشراش المصرية وهي بلدة حدودية مصرية مع فلسطين ـ كما ورد في الوثائق الدولية والحدود السياسية المصرية الفلسطينية، وطبقا للفرمان العثماني الصادر في عام 1906 ـ وتقدر مساحتها

بـ 1500 كيلومتر مربع. وبعد توقيع اتفاقية الهدنة بين مصر وإسرائيل في رودس في يوم 24 فبراير 1949، قامت بعض العصابات اليهودية بقيادة إسحاق رابين في ليلة 10 مارس 1949 بالهجوم عليها في عملية بربرية اسمها الحركي (عوفيدا)، وقتل جميع أفراد حاميتها من رجال البوليس المصري، واحتلوها وحولوها إلى ميناء إيلات والذي تأسس سنة 1952.

   وفي عام 1956 وبعد العدوان الثلاثي وتوقف النيران في سيناء، أعلن بن جوريون في الكنيست: «أن السيادة المصرية على سيناء قد سقطت وأصبحت سيناء جزءا لا يتجزأ من إسرائيل»، إلا أن الظروف الدولية لم تكن مواتية لتحقيق أطماعها بعد أن اضطرت وحليفتيها إنجلترا وفرنسا تحت ضغط كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والمجتمع الدولي إلى الانسحاب من الأراضي المصرية؛ فقد وقفت الولايات المتحدة ضد هذا العدوان الذي تم تدبيره ـ تدبيراً وتنفيذاً ـ سراً من وراء ظهرها، كما وقف الاتحاد السوفييتي موقفاً حازماً بإنذار قوي هدّد فيه بعمل عسكري حاسم ضد الدول الثلاث.

   .. كانت صدمة إسرائيل عندما اضطرت للانسحاب من سيناء وقطاع غزة بعد انسحاب القوات الإنجليزية والفرنسية من بورسعيد، لكنها رأت في انتزاعها حق الملاحة في خليج العقبة وتأمين حدودها بمظلة دولية تعويضاً كافياًً عن اشتراكها في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 بعد أن قررت الأمم المتحدة وضع قوات طوارئ دولية في شرم الشيخ وعلى حدودنا الشرقية وعلى حدود القطاع الفلسطيني في غزة التي كانت تديره مصر.
كما حصلت إسرائيل على نصيبها في الغنائم بحصولها على المدمرة المصرية «إبراهيم الأول» التي اشترتها مصر من انجلترا عام 1942 وضمتها إلى الأسطول الملكي المصري، وفي حرب 56 أسرتها البحرية الفرنسية، وسلمتها لإسرائيل التي أطلقت عليها اسم «إيلات»، وهي المدمرة التي دمرتها البحرية المصرية أمام شواطئ بورسعيد في أكتوبر 67.

   وفى 67 احتلت إسرائيل سيناء ومرتفعات الجولان والضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة.

   وفى 73 ورغم الهزيمة الساحقة لإسرائيل فإنها أيضا لم تخرج بيدها فارغة، فقد نجحت في تجريف أرض الثغرة من الثروة الحيوانية والحاصلات الزراعية والموارد المعدنية وتفكيك المصانع ومصافي البترول ونقلها إلى إسرائيل، وما عجزت عن نقله؛ قامت بتدميره، إلى أن جاءت اتفاقية كامب ديفيد لتقدم لها ما عجزت عن الوصول إليه بالحرب من حدود آمنة تدخل في نطاقها أم الرشراش المصرية!!

***

    ذهبت هزيمة يونيو 67 إلى هامش التاريخ في صفحة مجللة بالسواد من سجل الوطن، وانتقل عبد الناصر إلى رحاب الله، لكن درس الهزيمة ظل ندبة سوداء في وجدان الأمة التي يؤمن ضميرها أن عبد الناصر أضر بمصالحها في مواضع كثيرة؛ استجابة لحالة من الهوس الشخصي لزعامة الأمة دون الأخذ بأسبابها؛ فقد تسبب في خفض سقف المطالب العربية من فلسطين التاريخية إلى حد المطالبة بالأرض المحتلة في تلك الهزيمة، ومازالت إسرائيل تماطل؛ فحدود إسرائيل دائماً تكون حيثُ يقف جنودها!!

   .. قد يقول البعض إن الأمة مصدر السلطات، وقد تمسكت بعبد الناصر رغم الهزيمة في أسرع استفتاء شعبي في التاريخ،. لكن الحقيقة أن الشعب لم يكن يعلم حجم الكارثة حتى وفاة عبد الناصر، ولو أنه علم ربما كان له رأي آخر....!! وكان عبد الناصر يدرك ذلك، وأكده في جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 26 يوليو 67 بقوله:

 « لقد سقط النظام يوم 9 يونيه، وأنا لا أوافق من يقول إن المظاهرات التي جرت كانت إعراباً عن الثقة بالنظام ». *(14)

 روابط ذات الصلة :


http://hekiattafihahgedan.blogspot.com/2010/09/v-behaviorurldefaultvmlo.ht 
 

 للمزيد من المعلومات راجع كتاب " صناعة الكذب " :