ياسر بكر يكتب : أيام التفاريح
وليالي "الظيطة" !!
الشاعر فتحي سليمان |
كانت أيام وليالي الأعياد أيضا لحظات مختلسة
من "زمن الخوف" ففي احتفالات المولد النبوي الشريف كان يوم المولد هو
اليوم السنوي لتناول الحلوي المشكلة في صورة عروسة للبنات وصورة حصان للأولاد، كان
المستورون من أهل القرية يطهون في تلك المناسبة أطباق الأرز باللبن والمهلبية
وشطائر الزبدة والسكر، والزلابية والبقلاوة والعصيدة .
فإذا كانت أحوال القرية تشي بحالة مواتية من
الرخاء، ووفرة المحصول قام بعض المتنطعين بجمع أموالاً من بيوت القرية لإحياء ليلة
المولد "لزوم التفاريح" يدعون إليها الشاعر فتحي سليمان، والشاعر فتحي
سليمان فلاح من قرية "زاوية
جروان" مركز الباجور، وكان يحفظ السيرة الهلالية، ويجيد العزف على الربابة، وقد عاش طوال حياته فلاحاً يزرع أرضه، ورغم شهرته لم يعتبر روايته
للسيرة الهلالية مهنته، بل هوايته .
كان الشاعر فتحي سليمان يرتدي الزي الأزهري
العمامة والفراجية في أناقة يفتقدها عمدة قريتنا الحاج محمود أبو سليمان أخر العمد
المحترمين في تاريخ قريتنا .
كان الشاعر فتحي سليمان يجلس على أريكة في
جرن المولد عند كوبري السرود، ويبدأ الإنشاد معرفاً نفسه للمتلقي قائلاً:
" أنا الشاعر فتحي سليمان
لا بحب هيصة، ولا كتر كلام
يا سامع كلامي
خلي بالك معايا
حا أقولك نصيحة غالية في الأسعار
يقول الراوي:
يا سادة يا كرام
لكل مقام مقال
.. ولكل حدث حديث .
***
يقول الشاعر أبو سليمان :
أنا اللي ح غني
وأروي لكم أشهر الحكايات
وأبدأ كلامي بالصلاة على النبي
.. ما عليك ملام يا اللي تصلي على النبي
اللهم صلي على البدر التمام
مصباح الظلام ورسول الله الملك العلام
ابن زمزم المقام والمشاعر العظام
من كان يصلي بالليل والناس نيام
حتى تورمت منه الأقدام عليه أفضل الصلاة وأتم
السلام
.. العلماء العاملين وأولياء الله الصالحين
وحملة العرش أجمعين
والخضر وإلياس والمرسي أبو العباس
وأولياء الله من مشارق الأرض إلى مغاربها ..
لهم منا الفاتحة
من قرأ الفاتحة فتح الله عليه
ببركة بسم الله الرحمن الرحيم .
.. ويبدأ في رواية السيرة الهلالية .. لكن
أهل القرية سرعان ما عزفوا عن الشاعر؛ إذا يبدو أن رواياته التي ترسم صورة البطل
حامل القيم القديمة عن البطولة والفروسية وإرادة المقاومة لم تعد تستهويهم في
"زمن الخوف"؛ فانصرفوا عنه إلى لون أخر من الغناء، وأصبح المطرب محمد
فايد مغنيهم المفضل بما تحمله أغانية من قيم بديلة.
وقد أثر الشاعر فتحى سليمان على العديد من أدباء وشعراء المنوفية
الذين كان يحضرون حفلاته وهم فى مرحلة الصبا والشباب ومن هؤلاء الشاعر محمد عفيفى
مطر الذى تحدث عن شخصية الشاعر فتحى سليمان وتأثيره بإعجاب شديد فى أكثر من موضع،
لكن تأثير الشاعر على الروائى فتحى إمبابي فاق حدود الاستمتاع بالسيرة الهلالية برواية الشاعر إلى حدود توظيف
رواية الشاعر فتحى سليمان فنيَّاً فى بنائه الروائى الذي يتناول "تغريبة
المصريين" فى ليبيا فى سبعينيات القرن الماضى فى روايته بعنوان : "مراعى
القتل"، حين اختار بطل الرواية عبد الله من مريدى الشاعر فتحى سليمان، وممن تلبستهم البطولة الهلالية التى رباهم
عليها بينما كانوا يعيشون في ظروف أقرب للمذلة والمهانة منها للعزة والكرامة!!
من حسن الطالع
أن إحدى شركات الكاسيت بطنطا ـ محافظة الغربية حفظت لنا 36 ساعة من تسجيلات الشاعر
فتحي سليمان مكنت الباحث سيد
اسماعيل ضيف من إعداد دراسته الماتعة بعنوان : "آليات السرد بين الشفاهية
والكتابية.. دراسة في السيرة الهلالية ومراعي القتل".
كان يسبق "ليلة التفاريح" انتهاء أهل
القرية من أعمال موسم الزراعة، فتطبخ ربات البيوت وجبة دسمة يكون الظفر "الطير
المطهو" أهم مكوناتها، وغالبا ما يكون البط (باعتباره من عطايا النهر) تمشياً
مع الموروث التاريخي لاختلاط الحضارات المرسوم على المعابد الفرعونية، ويسمون ذلك
اليوم "يوم مسح السلب"، والمقصود بـ "السلب" هنا الأمعاء التي
يتم تغذيتها بطعام دسم بعد فترة من الطعام الجاف والخشن المكون من البتاو المقمر
والمش والبصل أو طبيخ الخبيزة والبصارة والرجلة الفلاحي "نبات عشوائي ينبت
بين المزروعات" .
.. كان أهالي القرية يطلقون على مساء يوم
الخميس .. ليلة الجمعة .. "ليلة الزيطة"؛ فيتجمع شباب القرية في منطقة
كوبري السرود حيث توجد حوانيت البقالة؛ فيشترون منها الحلاوة الطحينية والسميذ والعسلية
والفول السوداني ولوازم الكيف من قراطيس الشاي والسكر وأكياس الدخان والسعوط وعلب المعسل
والسجائر المكن بنظام الفرط أو بالعلبة، وما يلزمهم من باعة القصب وباعة البرتقال أوالبلح
الأمهات والتين البرشومي وغيرها من فواكة الموسم، ويعودون إلى ذويهم لقضاء ليلة هنية،
وقبل الفجر تخرج
النسوة تتغندرن لملئ الجرار لزوم حمام الهناء، وتستقبل الترعة الجارية أفواجاً من
الرجال عراة يغطسون في مياهها ليتطهرون ثم يصلون الفجر؛ لتنتهي "ليلة الزيطة"؛ وتشرق شمس
يوم جديد .
.. قبيل رمضان تنتفض القرية من ركودها،
بالإستعداد لرمضان بشراء الياميش الذي كان مقصوراً على صنفين فقط هما البلح الأبريمي، والفول السوداني، كانت مظاهر البهجة
في رمضان مقصورة على لهو الصغار بالفوانيس الصفيح المضاءة بالشموع، وأداء الكبار
لصلاة التراويح.
.. كنت لا أعرف حتى عقدين من سنوات مضت لماذا
عندما يأتي شهر رمضان أو يرد على خاطري في غير أيامه تستدعي الذاكرة صورة فانوس من
الصفيح بابه مخلوع، .. وشمعته مطفأة بفعل الريح، وظلت تلك الصورة تفزعني بشكل
متكرر لسنوات في كوابيس منامي !!
في لقاء مع الصديق الأستاذ الدكتور عادل صادق
أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس حكيت له عن ذلك الكابوس؛ فقال لي :
ـ "أن ذلك الحلم يعني سيطرة حالة من
الخوف نتيجة فقدان أحد أشكال الحماية، وأن تلك الحالة مرتبطة بحدث وقع في شهر
رمضان".
وقلت :
ـ " توفى والدي في يوم الثلاثاء 10
رمضان 1376 الموافق 9 أبريل 1957".
قال الأستاذ الدكتور عادل صادق :
ـ "لقد وضعت يدك على العقدة .. لن
يعاودك ذلك الكابوس مرة ثانية" .
قلت ضاحكاً:
ـ "جعلتها عقدة يا دكتور!!"
قال الأستاذ الدكتور عادل صادق بجدية وحزم:
ـ ".. ومن منا لا يخلو من بعض العقد أو
بعض المرض العقلي؛ فالنفس البشرية خضم هائل، ولن يستطيع باحث أو الطبيب أن يغوص في
أعماقها أو يثبر أغوارها طالما أنه بشر." .
.. وبالفعل لم يعاودني ذلك الكابوس.
في طفولتي بدأت معاناتي بوفاة والدي، وبدأت
معها معاناة الأهل معي في شهر رمضان؛ فقد بكيت وأصررت أن أرى "السحور"
ولما أيقظتني أمي في ساعة السحور .. أنكرت عليها ذلك قائلاً :
ـ " ده مش السحور !! ده أكل !!".
وتفتق ذهن أمي عن حيلة تجعل من شخصية المسحراتي
ما يقرب إلىّ فهم معنى السحور؛ فعندما جاء مسحراتي شارعنا الشيخ عفيفي أبو النور..
قالت أمي:
ـ "ده السحور ."
واعترضت على خداع الأم ، وقلت :
ـ " ده عم الشيخ عفيفي .. مش
السحور!!".
واسقط في يد أمي، وضاق صدرها ؛ فصفعتني ..
وبكيت، وانتزعني أخي الكبير كامل من بين يديها، وراح يسترضيني ويحاول أن يقرب لي بين صور الأشياء، ويقارب لي بين ما أعرف وما لا أعرف ..
كان أخي كامل مقبلاً على الحياة متفاعلاً مع
أيامه رغم قسوتها؛ فقد اضطر لترك دراسته في كلية العلوم ـ جامعة القاهرة، والتخلي
عن حلمه في أن يصبح كيمائي والالتحاق بمعهد المعلمين المتوسط بعد وفاة والدي؛
ليصبح أحد معلمي التعليم الابتدائي .
ولأن أخي كامل ممن يصنفون تحت مسمى "شخصية
فعالة بصورة زائدة hyperactive"؛ فقد التحق
بهيئة التحرير، وانضم إلى الحرس الوطني وأصبح له سمت وهيئة الضباط .
كان للعيد
في قريتنا مذاق خاص؛ فأيامه ساعات مختلسة من "زمن الخوف" .. كنا نسهر
أمام دكان الحلاق عبد الفتاح عمار في انتظار الدور لنحلق حلاقة العيد، ونجلس أمام
دكان الخياط عم طايع في انتظار استلام ثوب العيد، كان بعض الصبية يتوددون للخياط للحصول
على أولوية في استلام الثوب بمساعدته في تركيب الأزرار .
في ليلة العيد كنا نحتضن ثوب العيد والحذاء
القماش الذي اشتريناه من باتا بسبع قروش في انتظار نسمات العيد وسماع تكبيراته؛.. ليبدأ
يوم من أيام "التفاريح" .
***
أوراق من كتابي : "حكايات من زمن الخوف"
.. لكني كنت لا أستطيع أن أتفهم لماذا يصر الرجال في
قريتنا على زيارة المقابر؟! .. وأخيراً توصلت إلى أنها حالة من الانحياز الأبلة ضد
الذات من خلال خلط الحزن بساعات الفرح، واستحضار الموت إلى قلب الحياة !!
***
أوراق من كتابي : "حكايات من زمن الخوف"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق