الاثنين، أغسطس 31، 2020

"لمصر .. لا للأقباط" .. تأملات في أحوال الجماعة الوطنية ـ ياسر بكر

 "لمصر .. لا للأقباط" .. تأملات في أحوال الجماعة الوطنية ـ ياسر بكر 

 


الكتاب دراسة في التاريخ الاجتماعي لأحوال الجماعة الوطنية في مصر من خلال المناهج العلمية الرصينة والمعتبرة والمعتمدة في الجامعات المصرية والعالمية بما يجعله مساهمة جادة وموضوعية تلتزم بالاحترام الواجب للأديان السماوية المنزَّلة بكتب ورسل (اليهودية ـ النصرانية ـ الإسلام) .. ويعد إسهاما بناء في نقد الخطاب المزدوج بشقيه المضمر والمعلن بما لكلاهما من مجالاته ودوائره وسلبياته التي تسهم في إنتاج الطأفنة وإشعال الفتنة .. ودور الممارسات العرفية برعاية بعض رجال الأمن ورجال الإدارة وعلية القوم من الجانبين في "جلسات مصاطب" منبتة الصلة بالقانون الوضعي يتم فيها تبادل كلمات الود وتبويس اللحى وعناق القساوسة والشيوخ وتطيب الخواطر ودفع التعويضات للمضارين !!

ويعد الكتاب اقتحاماً علمياً  لتفنيد ما يروجه بعض المستشرقين وتابعيهم من المشارقة وبعض رجال الكهنوت من مطاعن وافتراءات على القرآن الكريم ونبي الإسلام الكريم ورسوله الأمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ودون مساس بالمسيحية أو لمز في معتقدات الكنيسة اليعقوبية  أو يحمل أذى أو يجرح مشاعر أخوتنا الأقباط !!

كما يعد الكتاب تفنيداً وثائقياً لبعض الأكاذيب التي ادعاها الناشطين الأقباط في إطار التحرش بجامعة الأزهر والدعوة لإنشاء جامعة قبطية في مصر بالإدعاء المكذوب أن الأزهر كان يحتوي على "رواق للأقباط " دون أن يقدموا سنداً ولا مستنداً ولا وثيقة على ذلك أو أين مكان هذا الرواق؟!!،  ومن مشايخه ؟!! وهل كان على رأسه شيخ أم كاهن ؟؟ .. وما العلوم التي كانت تدرس فيه ؟!! هل كانت علوم إسلامية أم مسيحية ؟!! وهل كان طلابه من حفظة القرآن الشرط الأساسي للالتحاق بالأزهر أم تم استثناؤهم من ذلك الشرط !!!.. أسئلة كثيرة لم نعثر لها على إجابات، ولم نجد لذلك الادعاء أثراً في الواقع أو في كتابات الرحالة والمؤرخين، وأمام استشعار قيادات الكنيسة الخزي من وقاحة الكذبة ؛ تم ابتلاعها في صمت ولم تعد تتردد !!.

كما يقوم الكتاب بمناقشة علمية وموضوعية هادئة وعاقلة وجادة ومنضبطة وبعيدة عن لغة الانفعال لبعض حوادث الاحتقان الاجتماعي في تاريخ الوطن التي تم إلباسها ثوب الطائفية واشعل وقودها رجال الدين من الجانبين بتأجيج مشاعر الإحساس بـ " العار الاجتماعي" بين بسطاء كلا الجانبين، .. وقد التزم الباحث بأدب "الخطاب الإسلامي" بما ينطوي على ما يعتقد أنه الحق والحياد والموضوعية وعدم مجاملة طرف على حساب الأخر

الكتاب يقدم صورة جيدة في الدعوة إلى حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية .. واحترام معتقدات الآخر ودور عبادته ، .. فالدين للديان جل جلاله لو شاء الله وحد الأديان .. ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة .

الجمعة، أغسطس 28، 2020

حكايات تافهه جداً: كتاب" فــئران المركب".. دراســة في التاريخ الاجتم...

حكايات تافهه جداً: كتاب" فــئران المركب".. دراســة في التاريخ الاجتم...:    كتاب" فــئران المركب".. دراســة في التاريخ  الاجتماعي ـ ط 2، ياسر بكر .. بصيغة Word   فئران المركب !!     (دراسة ...

كتاب" فــئران المركب".. دراســة في التاريخ الاجتماعي ـ ط 2، ياسر بكر .. بصيغة Word

 

 كتاب" فــئران المركب".. دراســة في التاريخ 
الاجتماعي ـ ط 2، ياسر بكر .. بصيغة Word

 


فئران المركب !!

 

 

(دراسة في التاريخ الاجتماعي)



 

ياسر بكر

(E. Book) 


 مكان النشر : مصر

تاريخ النشر : يونية 2020

الطبعة الثانية : يوليو 2020

عدد الصفحات :212 صفحة

***

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

 

 

 

الإهداء :

ــــــــــــــــــ

إلى روح الطــــاهرة د. عفـــــاف جمعــــة


زوجتي ( يرحمها الله) .. افتقـــدك كثيراً

 

ياسر بكر

 

 

 

 

مقدمة :

ـــــــــــــ

  

 

        «أنا لا أنظر من ثقب الباب الى وطني . .

لكني أنظر من قلب مثقوب . .

وأميز بين الوطن الغالب . . والوطن المغلوب. .

...

...

 

       اللهُ لمن يتنصتُ في الليل على قلب!

أو يسترق السمع الى رئتيه !

وطني لم يشهد زورا يوما..

لكن شهدوا بالزور عليه..

...

...

        ها أنا واقف فوق أنقاض عمري . .

أقيس المسافة مابين غرفة نومي . . وقبري !

وأهمس : وا آسفاهُ . .

 

لقد وهن العظمُ ، واشتعل الرأسُ ، واسودّت الروح  .

من فرط ما اتسخت بالنفاقْ . .

سلام على هضبات الهوى»*(1)

 

***

    

     .. نظرت من ثقب القلب إلى وطني؛ .. فتمزقت نياط القلب، ونزف دماً !! 

 

     .. وكان هذا البحث  الذي فرض موضوعه على طاولة الدراسة !!.

 

      ..  كان انتشارا وباء «كوفيد 19» في مصر مع مطلع هذا العام حدثاً كاشفاً عن حالة من العوار المزري في أخلاقيات المصريين، وسلوكهم الشائن الموصوم بـ «العيب»، والمدموغ بـ «اللامبالاة والأنا مالية» الذي كشف عن داء عضال ينهش في كيان المجتمع، وينبئ عن حالة وصفها كارل مانهيام باسم : «حالة الأنوميا Anomie» وتعني : «خواءً اجتماعيا»*(2) وتتلخص أعراضها في تفكك الروابط بين الفرد ومجتمعه، وتعرض البنية المجتمعية للتكسر والتحلل، وشيوع الجريمة والفوضى والتفكك الأسري والانهيار الحضاري لأن الوجود الفردي لم يعد راسخ الجذور في وسط مجتمع ثابت ومتكامل وموحد، ويفقد الشطر الأكبر من نشاط الحياة معناه ودلالاته واتجاهه، حتى وإن ظلت هناك قوة تحمل اسم «الدولة» تبطش بالمستضعفين حفاظاً على هيكل السلطة .. ولكن بنية المجتمع باتت بنية عقيم مصابة بحالة من فقدان المناعة .

 

     .. وكي لا يكون الكلام مرسلاَ، ومطلقاً على عواهنه، أو مجرد توهمات تحت تأثير حالة مزاجية عارضة نستشهد بدراسة علمية جرت بمعرفة مركز الدراسات الاجتماعية بجامعة القاهرة برعاية وزارة التنمية الإدارية ومركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء بعنوان: «الأطر الثقافية الحاكمة لسلوك المصريين واختيارتهم .. دراسة لقيم النزاهة والشفافية والفساد»*(3) .

 

      .. أكدت الدراسة أن «التغيرات التي شهِـدها المجتمع المصري تركت آثارا كبيرة علي سلوكِـيات المواطنين ومنظومة القِـيم وشكل الأطر الثقافية والاجتماعية»..

 

      .. وجاءت أزمة وباء كورونا لتكشف أعراض تلك الحالة من «الخواء الاجتماعي» التي لم تعد خافية على أحد .

 

       .. ولأن البحث في «التاريخ الاجتماعي للمصريين» أقرب إلى دخول المتاهة لكونه مثل حلقة كبيرة محكمة لا تعرف أين نقطة البداية فيها .. النقطة التي تمنحك مساهمة عادلة في الحصول على بدايات ومنطلقات علمية وتاريخية وعملية ومنطقية للبحث، .. وكان افتقاد تلك النقطة سبباً أوقع الكثيرين من الباحثين في جدلية أشبة بإشكالية البيضة والكتكوت، وأسبقية أيهما في الوجود!!

 

      .. خاصة أن التاريخ المصري بصفة عامة اقتصر في أغلبه على التأريخ للملوك والحكام والقادة من منطلقات الفخار الوطني الزائف والمزعوم والمتوارث، وأغفل كل ذكر للبشر العاديين .. رجالأ ونساء .. في الريف والحضر أو ما يسميه البعض: «التاريخ من أسفل البناء الاجتماعي» أي تاريخ «الأنفار»، .. وكان المورخون القدامي يتحرجون من تناول سير هؤلاء وتاريخهم الاجتماعي ـ إن لم يكن حتى الآن ـ لأسباب بعضها يرجع إلى منطلقات ساذجة تتعلق بالعيب والحرام والتمييز والتهميش!!، وبعضها يرجع إلى ندرة الوثائق قبل أن يتمكن بعض الباحثين من الاطلاع على سجلات المحاكم الشرعية في مصر، ووثائق الأوقاف الأهلية، وسجل ومحتوى الفتاوى في دار الإفتاء المصرية، والاطلاع على سجلات الدواوين مثل «ديوان الجهادية»، و«ديوان تفتيش الصحة» و«ضبطية مصر»، و«مجلس الخصوصي» و«محافظة مصر» و«شورا الأطباء» ودفاتر الأثمان (كانت مصر المحروسة مقسمه إلى 8 أقسام شرطة)، وكذلك الإطلاع على سجلات البوليس المصري وتقاريره السنوية، وتراخيص مزاولة البغاء، وسجلات المتابعة الصحية للمشتغلات به، ومكاتبات ديوان الصحة إلى حلاقين الصحة والقابلات، .. إضافة إلى «التاريخ الشفهي» الذي تم نقله عن المعايشين للأحداث، والذي يعد إطاراً داعما لـ «التاريخ الموثق»، وأعطى دفعة في دراسة التاريخ الاجتماعي المصري، والذي قدم معلومات كثيرة ـ بعضها يفتقد الدقة لما للتشافهية من سيولة ومرونة وميوعة ـ عن الممارسات اليومية في الحياة وفي البناء والمنشأت وازدهار الحواضر والمنازل والقصور والمدن والأحياء، والأسواق، والحمامات الشعبية، والمأكولات وفن الطبيخ وتقديم الطعام، والملبوسات، والمشروبات، والأثاث، والآلات الموسيقية، والمفروشات، ووسائل المواصلات، والأوبئة والمجاعات، والبغاء، والجريمة، والعصابات، والفتونة، ونظام الرقيق، والمحظيات، والرقص، والغوازي، والمخدرات، والغجر، والشائعات، والنميمة، والبذاءات، والفكاهة، والضحك، والاحتفالات والأعياد، والعديد على الأموات وطقوس الجنائز وسرادقات العزاء، والأغاني، وأسمطة الأفراح، والسخرية، والتهكم، والعشوائيات، والمنبوزين ... ألخ، والتي فتحت الطريق أمام الباحثين في التاريخ الاجتماعي لاكتشاف المجتمع المصري من الداخل بمستوياته المتعددة وصوره الكثيرة حيث تعتبر دراسة التاريخ الاجتماعي ظاهرة معقدة ومركبة لتشابك وتفاعل ظواهر الحياة الاجتماعية ـ الإنسانية وتنوع روابطها وعلاقاتها مع غيرها من الظواهر، لكنها تعد ـ حسب بعض مدارس التأريخ ـ المدخل الحقيقي لكتابة التاريخ بصفة عامة.

 

       ويرى د. عبد العزيز نوار :

      «أننا لسنا من أنصار ذلك التحيز بأن «التاريخ الاجتماعي» هو  المدخل الحقيقي إلى التاريخ بصفة عامة، وإنما نقول أن العملية التأريخية تحتاج إلى كافة الأدوات، وكافة المصادر العلمية حتى يمكن كتابة التاريخ كتابة صحيحة لا خلاف جوهري عليها، وإذا أخذنا بالمنهج العلمي البحت، وهو (المنهج الاستردادي) الذي استقر عليه المؤرخون في دراسة التاريخ نجد أنفسنا أمام قضايا ذات منهج إنساني لا تستجيب له، وهذه القضايا الإنسانية هي التي تبعد التاريخ عن المنهج العلمي قليلاً؛ لذا كان لـ «التاريخ الاجتماعي» دور هاما في إكمال الصورة عن طبيعة الحياة في عصر ما .».*(4)

 

«القراءة الشعبية للتاريخ» :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

          ومن ثم برزت بعض المدارس التأريخية داعمة للاتجاه إلى «القراءة الشعبية للتاريخ» الذي صار في مواجهة مع ما يكتبه المؤرخون المحترفون، سواء في العصور السابقة أو في عصرنا الحالي، من مؤلفات تعكس مواقفهم الفردية وآراءهم الشخصية وانحيازاتهم الطبقية؛ فالقراءة الشعبية في حقيقتها تفسير جمعي للتاريخ  لصالح الجماعة في مواجهة الحقائق التاريخية المجردة الذي تتسم بها دراسات المؤرخين الأفراد وكتاباتهم، وبعبارة أخرى، فإن هذا النمط من «القراءة الشعبية للتاريخ» لا يسعى إلى كشف حقائق التاريخ التي وقعت في «الماضي»، وإنما يسعى إلى تفسير التاريخ لصالح الجماعة في «الحاضر» وفي «المستقبل».

 

    «التاريخ الجديد» ..

    أو «الثورة التاريخية» :

     ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

       .. وقد مكث المؤرخون زمناً طويلاً يتجاهلون الموروث الشعبي، أو القراءة الشعبية للتاريخ بروح من التعالي والغطرسة التي جعلتهم يشيحون بوجوههم عما ظنوه ضرباً من ضروب العبث والخرافة التي تناسب عقول العامة وإدراكهم، لكن حركة التاريخ التي أفرزت التطورات التي أدت حركات التحرر الوطني والاعتراف بحقوق الشعوب في إدارة شئونها أدت إلى بروز اتجاهات جديدة في الدراسات التاريخية تهتم بنشاط الإنسان في مجالات الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والفن والدبلوماسية، ونظم الحكم والمؤسسات والطبقات، وما إلى ذلك، وكانت مثل هذه الاتجاهات الجديدة في الدراسات التاريخية، والتي اصطلح على تسميتها بـ «التاريخ الجديد» نتاجا للتطورات التي جرت على العالم فيما بين الحربين العالميتين وبعدهما، وتمثلت نتيجة هذا كله فيما أطلق عليه «الثورة التاريخية»، وهي ثورة صامتة حققت من التقدم في مجال المعرفة التاريخية في الربع الأخير من القرن العشرين ما لم يتحقق طوال تاريخ التاريخ بأسره منذ كان وليداً في حجر الأسطورة إلى أن صار علما له فلسفته وتاريخه ومناهجه.

 

       .. وكان من نتائج «ثورة التاريخ الصامتة» أن تطورت مناهج البحث وأدواته من ناحية، وتغيرت النظرة إلى المصادر التاريخية التي يعتمد عليها الباحثون من ناحية أخرى، وتخلت النظرة القديمة للتاريخ باعتباره مرادفا لسير الحكام وحروبهم عن مكانها لنظرة جديدة ترى في التاريخ مرادفاً لمسيرة البشر الحضارية على هذا الكوكب عبر الزمان، وترى أن كل ما حققه الإنسان أو تطلع إليه بأمل أو فكر فيه جدير بالدراسة والتسجيل والبحث والفهم، ومن ثم فإن كل الأفعال البشرية خيرا كانت أو شراً.. حروباً أو إنجازات .. ثقافة وفنا أو زراعة وصناعة.. طموحاً أو يأساً .. رفعة أو ضعة.. كلها جديرة بأن ينظر فيها الباحثون والدارسون علّهم يفهمون قصة الوجود الإنساني على هذا الكوكب والقوانين التي تحكم هذا الوجود.

      .. لكن أهم ما تمخضت عنه هذه الثورة الصامتة أن التاريخ لم يعد علم ينتمي للماضي إلا من حيث موضوعه، ولكنه صار علما ينتمي للحاضر والمستقبل من حيث هدفه وفائدته.

     ولم تعد مهمة المؤرخ أن يعيد «تصوير الماضي» وأن يحكي «ماذا» حدث، وإنما صارت مهمة المؤرخ أن يفهم «لماذا» حدث وما حدث، ومدى تأثير هذا الذي حدث في الماضي على حاضر الجماعة الإنسانية ومستقبلها، ولأن الدراسات التاريخية الحديثة تحاول أن تفهم الإنسان بوصفه فرداً في جماعة إنسانية، فإن المصادر التاريخية التقليدية لم تعد كافية لتحقيق هذا الفهم، ومن ثم كان لابد من البحث في «مناطق» أخرى غير تلك التي تعود عليها المؤرخون حيث أن المصادر التاريخية التقليدية الحوليات والمدونات التاريخية والوثائق والآثار وشهادات المعاصرين والمذكرات،.. وغيرها، لم تعد هي فقط المصادر التاريخية المحترمة، فقد أخذ عدد متزايد من المؤرخين يبحث في «مناطق» وجدانية وعاطفية هي ما يتضمنه الموروث الشعبي الذي يمثل «القراءة الشعبية للتاريخ».* (5)

       .. ووهو ما سبق إليه أبن خلدون المؤرخون المحدثون في مقدمته :

 

        «أن حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال..».

 

     وكان من الضروري لوضع تصور علمي لفهم «التاريخ الاجتماعي» أن نتوقف أمام مصطلحات : المجتمع، .. والتاريخية، .. والانهيار الحضاري ودوره في إحداث «الخواء الاجتماعي».

 

 

تعريف المجتمع :

ـــــــــــــــــــــــــــ

 

.. ونقصد بالمجتمع في أبسط تعريفاته ذلك الكيان المعنوي القائم على القيم والأخلاق التي ارتضاها لذاته وتنظيم علاقته.. وبذا يختلف مصطلح «المجتمع» عن مصطلح «السكان» .

 

معنى التاريخية :

ـــــــــــــــــــــــــــ

 

        التاريخية تعني من بين ما تعنيه من مفاهيم كثيرة ان الإنسان هو صاحب الحاكمية في فهم واقعه وتغييره بعدما يصبح قادراً على تجاوز المطلقات، ومناقشة المُسلمات في صناعة الأحداث وبناء المؤسسات .. أي أن الإنسان هو باني الحاضر في مواجهة تحديات متغيرة؛ لأن التغيير حقيقة من حقائق الوجود، ولابد أن تكون فاعلية الإنسان مقولة وجودية مناظرة، وبين حركة الواقع وفعالية الإنسان إنتاجاً ووعياً تكون حركة المجتمع ببنيته الفكرية الأشمل والمتغييرة .

 

        .. وتعني أيضاً نفي للأسطورة التي هي فكر خارج عن الزمان والمكان، وتأكيد لتاريخية الفعل والعقل والشروط المؤثرة فيهما، وأن الأطر المعرفية والقيمية الحاكمة ظاهرة تدخل في بنائها عوامل كثيرة نفسية وتاريخية وسوسيولوجية وثقافية؛ فلكل عصر فكره ورؤيته حسب تفاوت حركة عملية التغير الاجتماعي ..  ونعني بالتغير الاجتماعي دعوة العقل المتطور في ارتقاء مطرد إلى فهم واقع في صيرورة دائمة، ومن ثم لابد من ملاحقة الواقع المتغير وتقنينه وفق منهج معترف به له شروطه، ويمكن التعبير عنه بلغة أو فكر مشترك .

         

      .. كما تعني أيضا تجدداُ إبداعياً في الفكر والقيم لإنسان فاعل ناشط، وأن الإنسان ليس مادة جامدة جرت صياغتها مرة وإلى الأبد وتورث بحالتها لتصبح كياناُ مكرراً !!

 

     .. وتاريخية  القيم  سواء كانت  قيم اجتماعية  أو إبستيمية Epistemological*(6) تعني أنها نسبية وليست مطلقة .. إنها نسبية قياساً على تكوين الذهن وعلاقات هذا الذهن بمحتواه مع عالم الموجودات التي تحيط بالإنسان، وتدخل إطار وعيه بتاريخها الفعال وواقعها المؤثر وقدرتها على تجاوز الأنية .. وأن هذه النسبية هى منطلق البحث باعتبار القيم ظاهرة إجتماعية في المرجع، وليس المنطلق نقطة بدء خارج المجتمع .

 

     .. وحين نتحدث عن تاريخية النسق القيمي فإننا نعني أن هذا النسق نتاج فعالية الإنسان في إطار بعدي الإنتاج والوعي المتواكبين او المتلاحقين في الزمان واالمكان، وهذا النسق له طبيعة ما اصطلحنا على تسميته بالنظام الاجتماعي وأول خصوصيات التغير ، وليس شرطاً أن يكون التغير نحو التقدم أو الأفضل لكن من الممكن أن يكون نحو الأسوأ المتخلف .

 

    .. ولا شك أن الوقع المصري ليس على ما يرام .. ولا شك أن أخلاقيات المصريين تعاني أزمة طاحنة انعكست بجلاء في سلوكهم اليومي .. كانت الأحداث الأخيرة على كافة الأصعدة والمناحي كاشفة لها، وليست ـ كما يدعى البعض ـ منشأة لها، .. فالذي لا شك فيه أن مصر سقطت منذ قرون طويلة  مضت في قبضة الانكماش والانهيار الحضاري.

 

الإنهيار الحضاري :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 

      الإنهيار الحضاري هو حالة الجفاف التي تصيب الحياة العقلية، والتوقف الفعلى للعقل التأملي الفعال الذي يطرح على مائدة البحث شتى معضلات الوجود الكوني والاجتماعي ويشحذ الاجتهاد المعرفي ويدفعة للأكتشاف وترجمة الكشوف العلمية والمعرفية في مبتكرات تفتح سلسلة منها قنوات ومسارات لتدفق الفعل الحضاري .*(7)

 

      .. وهى حالة من الموات تنذر بأن التاريخ الاجتماعي والمعرفي للأنسان يعاني حالة من الجدب التي تجعله غير قادر على التفكير والإبداع والابتكار والتجديد في شتى مناحي الحياة، وتقديم المبادرات الحضارية والارتياد المستمر للمجاهل للتحرر من من حالة الركود الحضاري، .. ولا تصبح للحياة العقلية قيمة تتعدى الإطناب والتفصيل والرطانة والطنطنة على هامش ما يملكة من معارف قديمة وإجابات معلبة ونماذج وقوالب جاهزة.

 

       .. وحتى لا ننزلق بقصد أو بغير قصد إلى إشكالية البيضة والكتكوت، وأسبقية أيهما في الوجود !!، بما لا طائل من ورائه؛.. لن نناقش أيهما نتج عن الأخر أو تخلف عنه : الانهيار الحضاري أم التردي الأخلاقي ؟!!

 

      .. ومثلما شهد «التحقيب» أو «الإطار الزمني» نقطة البداية لتاريخ مصر الحديث باعتباره سجلاً للأحداث ومحاولة لفهم دلالاتها ؛ سنحاول تطبيق ذات المنهج على «التاريخ الاجتماعي المصري» في محاولة لفهم ماذا حدث للمصريين ؟!!

 

النهر .. والحاكم !!

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

       في شهادتي على العصر (من ثلاثة أجزاء) بعنوان: «حكايات من زمن الخوف» تحدثت عن ثقافة الخوف في حياة المصريين، وأنا واحد منهم؛ وقد عشت طوال حياتي أسيراً للخوف؛  ففي كل الحقب والأطر الزمنية يظل القاسم المشترك لعقدة الخوف عند المصريين هما المرجوان المرهوبان في مصر وهما : النيل والحاكم؛ فالحياة الاجتماعية في مصر مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بجود النيل وشحه، لذا كان النهر محط اهتمام المصريين من خلال ثنائية تجمع بين الحب والخوف؛ فألبسوه ثوب القداسة، وجعلوه إلهاً في عصور الوثنية، وجعلوه «النهر المؤمن» و«من أنهار الجنة» في عصر التوحيد، وما فعله المصريون مع النهر خلعوه على الحاكم حذو القدم بالقدم مع أن حكام مصر في أغلب العصور كانوا من الغرباء عنها أو من أسوأ أبنائها .

 

ثقافة الخوف :

ـــــــــــــــــــــــ

 

         المصري يعيش دائما أسيراً لعقدة الخوف سوء من المجهول الذي يعني الخطر (الغيب ـ النهر ـ الجبل ـ الليل) أو من الحاكم سواء كان مصرياً أو من الفرس أو اليونانيين أو الرومان أو العرب أو الأتراك أو المماليك، ولا يشعر ببعض من الراحة المؤقتة إلا إذا سقط جلاده تحت سنابك خيل خصم له، واضطر إلى الفرار، .. ولم تكن تلك الراحة تزيد ـ كما ذكر في موروثه الشعبي ـ عن كونها راحة الانتقال من خازوق إلى خازوق!!، .. وكان المصري ـ من منطلق المذلة وإيثار السلامة ـ يعشق التقرب للحاكم الأجنبي بالتنكر لمصريته، ويشارك في السخرية منها، ويلعن أهله وناسه لأنه لا يستطيع أن يحتمي بتاريخه ولا بأهله ولا بنفسه ولا ببني شعبه ولا بحضارت السابقة، فإما أن يشارك  التنكر لها، والنكير بها وينسلخ عن ذاته التاريخية ليبدأ طريق الصعود الفردي متوحداً مع الخصم، وإما أن يلزم الصمت الذليل ليبقى حيث هو!!

 

     .. ومع زيادة الخوف من السلطان الأجنبي ورموزه شاعت ثقافة الرعب يتغذى عليها المصري منذ طفولته، وبات الخوف أكبر خصم وأخطر عدو حل في المصريين يقوض كل محاولات النهوض، واستنهاض الهمم لبناء الأمة!! 

 

وقدر رصد علماء الحملة الفرنسية في كتاب "وصف مصر" أن المصريين يتمتعون بقدرة هائلة على (الثبات الانفعالي

Emotional Constancy)،والثبات الانفعالي هو قدرة الشخص على التحكم في انفعالاته والمحافظة على الهدوء والاتزان مهما كانت الضغوط المحيطة به؛ فالمصريون لا يكشفون عن ما يعتمل في نفوسهم عن طريق قسمات ملامحهم وتعبيرات وجوههم؛ فصورة الوجة ليست مرآة لأفكارهم فشكلهم الخارجي في كل ظروف حياتهم يكاد يكون هو نفسه .. إذ تغلب عليه حالة من الموات .. إذ يحتفظون في ملامحهم بنفس الحيدة وعدم التأثر سواء حين تأكلهم الهموم أو يعضهم الندم أو كانوا في نشوة من سعادة عارمة وسواء كانت تحطمهم تقلبات غير منتظرة أو كانت تنهشهم الغيرة والأحقاد أو يغلون داخلهم من الغضب أو يتحرقون للإنتقام ، وأرجع العلماء  ذلك إلى الاعتقاد في القضاء والقدر، كما تعود إلى تعرضهم دوماً لنزوات الطغاة الذين يعم ظلمهم البلاد ؛ ففي كل يوم تنشأأخطاء وبشاعات جديدة تصبح الغفلة معها بالنسبة للمصريين نوعاً من الحيلة لمواجهة هذا العسف ويحاول من خلالها أن يتفادى الخطر .. بما يجعل المصري أمام حالة من التسليم المستعذب للألم ؛ فالشكاوي والصيحات أمور لا فائدة منها أمام جبروت الطغاة !!

وتلك العوامل تكشف عن أسباب الرياء الذي نجده في أفراد المجتمع ؛ فالمصري يلقى الهوان في طاعة الكبار وأصحاب كل صاحب سلطة ؛ فالمصري يحمل بين جوانحة روحاً منكسرة تشي عن نفسها في كل حركاته و إيماءاته؛ فيتذلل ويتحسس كلماته مع كل من يخشى قوتهم ونفوذهم ، وعندما تتاح له فرصة الترقي الاجتماعي أو أن يدرج في مصاف الأثرياء ؛ فإنه يعمل على إشعار البؤساء الذين يأتمرون بأمره بوطأة استعلائه وتحكمه !!

 

      .. التخويف أداة الغاصب لاستمرار الهيمنه،  .. والخوف والحيلة أداة المصري للسلامة؛ فابتدع المصري في سبيل بقائه حيلة تعتبر قيمة أساسية قي حياته ألا وهي التوحد مع السلطة أو الخصم ظاهراً، وإضمار السخرية منه واهانته بالنكات التي كان يطلق عليها «الأضاحيك»، ولكل من المُعلن والمُضمر دوائره ومجالاته!!؛ بما يعني نمط من الحياة ذات وجهين هو جذر «الفهلوة» أو «الشخصية الفهلوية» في مصر !!

 

       .. وتزخر أدبيات الشعب المصري وموروثاته الشعبية بروح تجمع بين «الفهلوة» و«الأونطة» و«الخبث» و«البلوتيكا» و«العبطية» و«الاستعباط» التي لم تحقق مردواً ذا قيمة على مدى التاريخ!!

 

والله الموفق والمستعان

 

ياسر بكر

 

 

الأسكندرية ــ 25 يونية 2020



الفصل الأول :

ــــــــــــــــــــــــ


الرصــــد المـيداني

.. وتوثيق الشهادات !!

     

 

 .. «يموت الزمار وأصابعه تعزف»!!

 

       .. مثل شعبي مصري أخذ طريقه إلى العالمية بصياغات جديدة متعددة ومتنوعة بعد إصدار الكتابة الإنجليزية فرانسيس ستونر سوندرز  لكتابها بعنوان : «من الذي دفع للزمّار!? Who Paid the Piper»، وكلها تدور حول معنى واحد هو أن : «الخلود للزمار مع زفرة الموت في نغمة لحنه الأخير»، الكتاب يتناول الأساليب المخفية والمخطط لها لإحداث التغيير في فكر ومعتقدات وسلوك بعض الشعوب عبر وسائل يبدو وجودها طبيعياً وأداؤها منطقيا.

 

        .. المثل الشعبي المصري يُطلق على كل من تحكمت فيه خصلة من الخصال أو عادة من العادات؛ فصار لها أسيراً، وأصبحت جزء من تكوينه العقلي والنفسي والسلوكي والاجتماعي لا يستطيع منها فكاكاً، ولا يروم عنها إقلاعاً، .. وقد شاءت إرادة الله أن أقع في دائرة مرمى هذا المثل الشعبي بكل ما يحمله من معاني؛ فقد عشقت الكتابة، واحترفت التحقيق والاستقصاء الصحفي،.. وكنت واحداً من رواد «الإعلام البديل Alternative media» في ظل التحدي الذي جلبته شبكة الأنترنت، وأحد الخبراء في توظيف برامج التواصل الاجتماعي في العمل الصحفي بعد انتقاء محتواها وتمحيصه وامتحانه وفلترته وبلورته وتنقيحه وصياغته في قوالب صحفية .. تلك البرامج التي تلبس أثواب «الحميمية الالكترونية الخادعة والتواصل الاجتماعي الافتراضي»، وتمثل ستاراً كثيفاً من العتمة والدخان الذي تختفي خلفه أشباح كثيرة، وتلعب من وراءه أصابع كثيرة قذرة تقوم بأعمال مخابراتية في التنصت والتجسس وجمع المعلوملت والإفادة منها في التحكم والسيطرة والتوجية وتمرير الرسائل المحملة بالهوى والغرض بما يخدم أهدافها وتوجهاتها !!، .. وكنت أحد رواد الصحافة الالكترونية بما تحمله من تشاركية وتفاعلية !!.. ومارست وتمرست بالبحث العلمي وأساليبه ومناهجه؛ فصرت زمار الحي الذي قد لا يطرب!!، لكني لم أكذب على أهل الحي، .. ولم أخدع أو أخون أحداً من أهله وناسه في زمن صارت فيه الخيانة «لُعبة»، والغربة في الحياة «هُوية» اجبارية، والموت «ميتة الشبح» في الغربة رسالة تحمل في طياتها الوعيد والعقاب لكل من عشق الحرية، وانفصل عن القطيع، وغرد خارج السرب!!

 

         .. قد أكون أنا الزاعق في البرية يرتد إليّ صدى صوتي دون مجيب!!، .. والمؤذن في مالطة التي لا يفهم الكثيرون من أهلها مغزى «الحيصلة» و«الحيعلة» في نداء الحق لكن الآذان فرض كفاية، وما لا يصح إلا به الواجب؛ فهو واجب، .. وإجابة نداء الحق فرض عين على كل من سمع النداء، .. وقد أكون أنا الحالم محترف الممارسات العبثية بحثاً عن أوهام الوطن والبطولة والشجاعة والوطنية!!،  .. وقد أكون الخائف الذي يجد في صفيره مؤنساً، .. وقد أكون أنا الغراب النوحي الناعق  بالخراب!!، .. وقد أكون أنا البوم ذو النُهام في مجالس علية القوم وأوباش الناس !!.. لكن في كل الأحوال لم يكن الماضي يحمل لي سحراً أو أبهارا، بل كان يحمل الكثير من أوجاع النفس ومرارة الذكريات، .. كنت دائما شغوفاً بالمستقبل؛ فتحدثت عن عوالم افتراضية في الديمقراطية الرقمية والتعليم الإلكتروني والجرائم الكترونية،  .. ولاقيت الكثير من السخافات ما لا يحتمله بشر، .. ومع ذلك أؤكد أنني لست في خصومة مع أحد، .. ولكني مهموم  بحالة الانهيار الحضاري والتأخر العلمي في وطني، وإصرار الأهل على بقاء الحال كما هو عليه !! .

 

        .. ولأني من المحتمل أن أكون هذا كله؛ فقد حملت قلمي وأوراقي وألة التصوير؛ لأصنع «وثيقة للتاريخ» من سماء وطني الحقيقي فيما بقي من أيام العمر عن وطني المتوهم أو المتخيل!!.. وطني الحقيقي ليس أرضاً لها حدود وخريطة ومتحف وتجمع سكاني!! وطني لا يحمل في مقوماته سمات التاريخ وقواعد الجغرافيا ومبادئ التعداد الإحصائي للسكان؛ .. الكتابة وطني .. ففي زمن الكتابات العابرة للحدود تصبح الكتابة وطن من لا وطن له؛ فلم أعد أنخدع بالوطن القادم بالأشعار، ولم يعد يهزني الهتاف بحياة ما أسموه زوراً بـ «الوطن»؛ .. أنا وأنت الوطن !!.. ومن بعدنا يبقى التراب والعفن، إن لم يكن ما أسموه زوراً بـ «الوطن» أنا وأنت، وإذا لم نحيا كراماً؛  ويكون الوطن بنا كريماً وآمناً ومحترماً وحًراً؛ .. فلا عشنا.. ولا عاش الوطن!!

 

مفهوم الأمن القومي :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

        الكثير من جرائم الغصب والعدوان والقمع والقهر الإنساني والاجتماعي وانتهاك الأجساد والحقوق تتم تحت ذرائع ومزاعم حماية «المصالح العليا» و«الأمن القومي» رغم أن مفهوم الأمن القومي العربي حتى الآن غير محدد المعالم؛ فلم يتبلور المفهوم لكي يصير حقلا علميا داخل علم السياسة تطبق عليه قواعد نظرية المعرفة، بدءا من وضع الفروض، وتحديد مناهج البحث الملائمة، واختيار أدوات التحقق العلمي، وقواعد الإثبات والنفي، وإمكانية الوصول إلى نظرية عامة والوصول إلى قانون يحكم ظاهرة الأمن القومي العربي، وما يتم تداوله هو عبارة عن ترجمات حرفية منقولة من اللغات الإنجليزية (National security)  أو الفرنسية (Securete Nationale)   أو الروسية أو العبرية؛ وتلك المصطلحات قد بدأ تداولها مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حينما أنشئ مجلس الأمن القومي الأمريكي عام 1947، وتمت صياغتها على أساس توحد القيم الأمريكية مع الغايات الأمريكية في عالم مابعد الحرب، وكذلك الرد السوفييتي على تلك الممارسات في إطار الحرب الباردة أو المفاهيم التوراتية التي صاغها الكيان الغاصب لأرض فلسطين .

 

       **  «الأمن القومي»  في دائرة المعارف البريطانية يعني:

 

        «حماية الأمة من خطر القهر على يد قوة أجنبية»..

 

       ** والأمن القومي من وجهة نظر هنري كسينجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق يعني:

 

 

      « أي تصرفات يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ حقه في البقاء.».

 

       .. ولم نجد تحديداً دقيقاً لمفهوم الأمن القومي العربي، ففي ميثاق جامعة الدول العربية والذي وضع عام 1944 وأنشئت الجامعة على أساسه في مارس عام  1945 نجده قد خلا تماماً من أي إشارة، لذلك لم يأت ذكر لمصطلح «الأمن القومي العربي» رغم التوسع في استخدامه بشكل مفرط ومُسف، وتداوله عبر مختلف قنوات وسائل الاتصال، بصورة تجعلة يحمل الكثير من المضامين والدلالات المتضاربة والمتناقضة، والتي تحمل في الأصل هموم وتطلعات مستخدمي هذا المصطلح بشكل يغلب عليه التقدير والبعد الذاتي للأمن القومي .

      بما يجعل المصطلح معقداً وغامضاً وغير مفهوم وغير متفق عليه، رغم أن الله سبحانه وتعالى قد أهدى لنا مفهوم «الأمن»  في القرآن الكريم في قوله - سبحانه وتعالى -: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِنْ جُوعٍ وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ*». فالأمن هو ضد الخوف، والخوف بالمفهوم الحديث يعني التهديد الشامل، سواء منه الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، الداخلي منه والخارجي، لكن الفكر السياسي العربي مازال غافلاً عن المفهوم القرآني لمعنى الأمن، غارقاً في سفسطات منقولة عن الآخر، ولم ينتهِ بعد إلى صياغة محددة لمفهوم  «الأمن القومي العربي» تواكب تحولات المناخ الإقليمي والدولي وتوازناته وانعكاسها على تصور وأبعاد هذا الأمن، وإن هذا الموضوع ما زال مطروحاً للتحليل ومفتوحاً للمناقشة رغم كل ما كتب عنه.

 

         .. وكلا الأمرين (المصالح العليا والأمن القومي) يحظيان بعناية فائقة من النظم القائمة .. ومن العناصر التي تستخدمها تلك الأنظمة المتتابعة للحفاظ اليومي علي نظام السيطرة تلك الأساطير التي لا غنى عنها لتأمين «الخضوع الشعبي» .. والتي أسماها جورج أوريل في روايتيه «العام 1984» ، و«مزرعة الحيوان»: «الأساطير الرسمية» للتلاعب بوعي الشعوب .. والتي رأى أوريل أن وسيلة التلاعب الرئيسية بالوعي يتم من خلال خداع اللغة؛ بابتكار لغة جديدة تتغير فيها معاني الكلمات المعروفة، وتختلف في مفاهيمها عما نعرفه، ويتم وضع المعاجم لتلك اللغة المراوغة، وأطلق عليها هربرت أ . شيللر في كتابه بعنوان: «المتلاعبون بالعقول  The Mind Managers»  الأساطير الخمس التي تؤسس لبنية ومضمون عمليات التلاعب بالعقول و «الوعي المعلب»، والتي أسماها سيرجي مورزا / قرة في كتابه بعنوان: «التلاعب بالوعي»  أساليب تكوين الإنسان الزومبي  Zumbi، وأسماها د . فليب تايلور «قصف العقول» في كتابه الذي حمل في نسخته الأصلية اسم : « Munitions of the Mind, War Propaganda form the ancient world to the nuclear age» ، وأسماها نعوم تشوميسكي «الأوهام الضرورية»  في مؤلف بعنوان: «الأوهام الضرورية: أساليب التحكم في المجتمعات الديمقراطية Necessary Illusions: Thought Control in Democratic Societies» ، وفي مؤلف ثان بمشاركة إدوارد هيرمان بعنوان: «صناعة الإجماع consent manufacturing»، وفي مؤلف ثالث بعنوان: «الإستراتيجيات العشر للتلاعب بالشعوب بواسطة الإعلام  Strategies of Manipulation by The media»، والتي أسماها ادوارذ بارايز  Edwards Barays بـ «هندسة الموافقة Engineering Of Consent» .

 

       .. لذا تركت مقعدي من خلف النافذة لأرصد الحقيقة؛ .. لم انتظر أن يغرقني طوفان الأكاذيب وجحافل الزيف؛ فالكذبة تسافر حول العالم بسرعة البرق بينما الحقيقة لا تزال تلبس نعليها، والدعاية البارعة يمكن أن تضلل الناس، وتخفي الحقيقة مهما كانت ساطعة، .. وتفرض الظلام وقت الظهيرة، ..  تنقلت من الأقصر إلى الدقهلية إلى الشرقية إلى القاهرة .. شاهدت المأساة في مستشفى الزهراء الجامعي ومستشفى أحمد ماهر التعليمي ومستشفى المنيرة، ومعهد القلب ومعهد السرطان وقصر العيني الفرنساوي، ومستشفيات الحميات في إمبابة والعباسية ومستشفيات العزل الصحي في الدخيلة والعجمي والباجور ـ منوفية، وتجولت في بعض مناطق انتشار الوباء (كرداسة وعزبة النخل وامبابة والوراق) اللتي خضعت للعزل الصحي، وسمعت أنات الموجوعين واستغاثات المكلومين طلباً للعون المعيشي والرعاية الطبية .. وساعدني بعض الأصدقاء بتقارير إخبارية يومية خصوني بها عما يحدث للمصريين .

 

       .. ورأيت الأجهزة التي فشلت في رفع القمامة من الشوارع لأكثر من نصف قرن، وقد عجزت عن التخلص الآمن من النفايات الطبية التي أصبحت أحد أسباب الانتشار الواسع للوباء !!

 

     .. وشاهدت بعيني وسمعت بأذني وسجلت عبر وسائط الـ «مالتي ميديا» شهادات كثيرة عن ترك الأبناء جثث أبائهم وأمهاتهم دون دفن في المستشفيات؟!، وكان من بين تلك الشهادات شهادة الدكتورة شرين إسماعيل استشارى التخدير والعناية المركزة بمستشفى النجيلة للعزل التي لم تتردد لحظة واحدة للتقدم لتغسيل وتكفين أول حالة لسيدة تتوفى فى مستشفى النجيلة للعزل، على الرغم من ابتعاد جميع الطبيبات وقلقهم، إلا أن الدكتورة شيرين إسماعيل مدت يدها وتحملت المسئولية .

 

      تقول د. شرين: لم أفعلها من قبل وكانت أول مرة أقوم بالغسل، أبلغنى مدير المستشفى أن أتولى غسل السيدة وأكفنها، وكان مترددا فى الطلب لأننى لست صغيرة فى السن وجميع الفريق الطبى النسائى رفض، وكانت المشكلة فى وفاة السيدات أن الأمر حرج، وممنوع يدخل عليها خلاف سيدات، كما يحظر دخول أحد من خارج المستشفى، ويتعرض لمخاطر العدوى، وافقت ولم أتردد، وأبديت استعدادى لتحمل المهمة، وقلت لزملائى لن نترك مسلمة غير مجهزة للدفن حسب الشريعة.

 

      وفجرت د. شرين مفاجأة قائلة: «عندما ماتت السيده الحالة الأولى بالمستشفى تنكر لها أولادها ورفضوا استلام الجثة، وقالوا بالحرف الواحد:

      

    ـ «إرموها فى أى حفرة فى الصحرا .».

  

    .. كانت صدمة بالنسبة لنا كطاقم طبى بالمستشفى، وكنا بمثابة أهلها وهى مسئولية، سيدة توفت مصابة بكورونا والغسل فرض شرعي، وعندما شاهدتانى الممرضتان منة الله ووفاء جهزت نفسى، أبديا إستعدادهما للمشاركة، وارتدينا البدل الواقية والجوانتيات والزى الطبى الكامل مع التعقيم، وتقبلنا أن نأخد المخاطر العدوى، وجمعنا معلومات حول الغسل، والتزمنا ببروتوكول وزارة الصحة، وحفظنا الخطوات الإسلاميه، والحمد لله نجحنا فى المهمة، وغسلنا السيدة باستخدام الماء الطاهر وماء ورد ومسك، والكفن مكون من ثلاث طبقات، ووضعنا جثمانها داخل الكيس الأسود، ثم فى تابوت «صندوق خشب»، واستغرق الأمر معنا قرابة نصف ساعه، وصلى عليها جميع الطاقم الطبى والتمريض ورجال الإسعاف فى بهو المستشفى.

 

    .. وسمعت كيف هرب الأهل من مريضة أصابتها محنة وباء الكورنا  «19ـ Covid» ، وتركوها دون رعاية حتى ماتت وحيدة ولم يدري احداً بها حتى أخبرت رائحة الموت عن نهاية المأساة!!،.. واستقصيت قصة الطبيبة شهيدة كورونا د. سونيا عبد العظيم عارف التي ظل جثمانها عالقا مابين قريتها «ميت العامل»، حيث مسقط رأسها، وقرية زوجها «شبرا البهو»، لرفض أهالي القريتين دفن جثمانها في مقابرهم، واستمرت المفاوضات أكثر من 3 ساعات!!، والتي تمت موارة جسدها التراب تحت سناكي وفوهات البنادق وقنابل الغاز في حراسة مصفحات الشرطة، وقرأت عن واقعة تمزق نياط القلب ويندى لها جبين الإنسانية شهدتها مستشفى كفر الدوار بالبحيرة، والذى خصص للحجر الصحى للمصابين بفيروس كورونا؛ فقد رفض أهل أحد المتوفين بسبب الفيروس تسلم جثته رغم بقائها داخل ثلاجة المستشفى لأكثر من عشرة أيام خوفا من العدوى، وتواصلت إدارة المستشفى معهم أكثر من مرة لتسلم جثته، ولكن دون جدوى، مما اضطرها إلى إبلاغ النيابة العامة، التى أمرت بدفن المتوفى بمقابر الغرباء .

 

      وقرأت على موقع «أخبار الكنيسة» على موقع فيسبوك في 15 يونيو 2020عن وفاة مواطن مسيحي بقرية القرايا بالاقصر بعد إصابته بفيروس كورونا، وغاب الأهل عن أداء الواجب؛ فاستعان الشاب المسيحي بجيرانه المسلمين لدفن والده شهـيد «كـــورونا»؛ فتوجهوا إلى المستشفى، ورافقوا الجثمان إلى دير مقبرة الشهداء بقرية القرايا بالاقصر، وتم إجراء المراسم القبطية عليه، ثم قاموا بدفنه وفق الإجراءات الوقائية !!

     ..كنت أرى من ـ وجهة نظري ـ أن هذه الظاهرة تحمل معها تحللاً خطيراً في البنى الإدراكية لأعظم فكرة وجودية هى فكرة الحياة والموت، وإسقاط لجدار القدسية الذي كان يلف الموت عبر الزمن، وابتذالاً واضحاً لحرمة "الموتى".

 

     .. ورأيت المرضى أمام أبواب المستشفيات دون علاج!!، وقرأت شهادة زميلى الصحفي الأستاذ محمود رياض (يرحمه الله) الذي أصر على كتابة شهادته للتاريخ بما تحمله من مرارة الإهمال .. والقتل بالترك، وتبلد مشاعر أشباة الآدميين وغلظة قلوبهم!!، وأعدت قراءة شهادة زوجتي أ. د.عفاف جمعة (يرحمها الله) في كتابها بعنوان : «يوميات الغرفة 7023» *(1) الذي سجلت فيها شهادتها قبل كرونا بشهور عن عدوى المستشفيات Infection  Nosocomial بصفة عامة؛ فقذارة المستشفيات في مصر موروث تاريخي .. بالرجوع إلى بعض المطبوعات في دار الكتب المصرية التي ألفها كلوت بك وبعض الأطباء وبعض المكاتبات والمواد الأرشيفية المحفوظة عن سير العمل، وجدنا في الحوافظ ما يندى له الجبين؛ فمنذ وقت مبكر من عام ١٨٤٨م  كان يتم تبديج شكاوى منتظمة بشأن الرائحة النتنة في المستشفيات، وهى الرائحة التي اشتهرت بين المرضى باسم «عفونة الاسبتاليات»، وبعد تسع سنوات كان تدبيج التقارير عن القذارة والرائحة النتنة في المستشفيات والملاءات القذرة التى لا يتم تغييرها بعد كل مريض مازال مستمراً !!

 

      وقد حكى على باشا مبارك عن هذا في مذكراته بعنوان: «حياتي»*(2) من خلال تجربة شخصية عندما كان تلميذا في مدرسة القصر العيني والذي صار ـ في وقت لاحق ـ علىّ باشا مبارك بعد أن انتقل إلى مدرسة المهندسخانة، يقول مبارك في مذكراته:

 

      «دخلت مدرسة قصر العيني، وأنا في سن المراهقة ، وصرت في فرقة برعي أفندي، فوجدت المدرسة على خلاف ما كنت أظن ، والتربية والتعليم غير معتنى بها؛ إذا كان كل اعتنائهم بتعليم المشي العسكري، فكان ذلك في وقت الصبح والظهر وبعد الأكل وفي أماكن النوم ، وكان جميع المشرفين على التلاميذ يؤذونهم بالضرب وأنواع السباب والإهانة من غير حساب ولا حرج ، مع كثرة الأغراض والإعراض عن الاعتناء بشؤونهم مما يختص بالمأكولات وخلافها، وكانت مفروشاتهم حصر الحلفاء وأحرمة الصوف الغليظ من شغل بولاق وطعامهم من الطبيخ الردئ.

        وكان لتغير الهواء المعتاد أن اعترتني الأمراض وطفح الجرب على جسمي، فأدخلوني المستشفى ، فتراكمت عليّ الأمراض حتى أيسوا من حياتي.

 

         فعزمت على ترك المدرسة لما رأيته من الشدائد وعدم التعليم وما لحقني من الجوع في المستشفى حتى كنت أمص العظم الذي يلقيه الأكلون، لكن فكرت في عاقبة الهرب».

 

   .. وقد رصدت أ. د. عفاف جمعة (يرحمها الله) في كتابها أحوال إنهيار القطاع الطبي، وتراجع دور الدولة في الرعاية الصحية (في إحصاء سنة 2018 : عدد المستشفيات الخاصة في مصر1157، والمستشفيات الحكومية 691)، إضافة إلى ضعف مستوى الأطباء والتمريض في مصر!!

 

بيانات نقابة الأطباء :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

    .. كانت بيانات نقابة الأطباء فئوية بدوافع انتخابية في المقام الأول، ولم تأخذ الصبغة الوطنية للمرور بالوطن وناسه من عنق الأزمة بل سعت «نقابة الأطباء» لاختطاف دور الدولة بفرض بعض تصوراتها التي تفتقد إلى سند من المعلوماتية على القائمين في وزارة الصحة، وهو ما لم تعره الدولة اهتماما؛ .. فاقتصرت بيانات النقابة بعد لقاء رئيس الوزراء بنقيب الأطباء على الإعلان عن وفيات الطواقم الطبية من الأطباء التي بلغت 100 طبيباً تقريبا، وإصابة 3000 طبيب، وهى نسبة تفوق المعدلات العالمية !!*0(3)

 

        .. في لقاء السيد الدكتور رئيس الوزراء بنقيب الأطباء أفهم رئيس الوزراء النقيب : أنه يتحدث من فراغ في الفراغ دون الارتكاز على قاعدة معلومات، .. وأن إدارة دولة يختلف كثيراً عن أحاديث الاستقطاب في تجمع انتخابي !!

     .. في 23 يونيو 2020 صرح المتحدث باسم مجلس الوزراء أن غياب بعض الأطباء عن مواقع عملهم الحكومية كان السبب في تزايد أعداد وفيات كرونا!!

 

أسباب الخسائر الكبيرة

بين أفراد الطواقم الطبية !!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

       كان السبب المباشر في وفيات هذا العدد من الأطباء أمرين: أحداهما متعلق بتدني الكفاءة المهنية والفقر العلمي للطبيب المصري، والثاني مرتبط بجشع وانهيار المنظومة الأخلاقية المهنية للأطباء .

 

السبب الأول :

ــــــــــــــــــــــــ

       أنتج تدني الكفاءة المهنية والفقر العلمي للأطباء حالة من الجهل بدت مظاهرها في التعامل برعونة مع الجائحة، وإهمال الإجراءات الاحترازية والوقائية في التعامل مع المرضى مما جعل بعضهم يصابون بـ (High Viral Load  حمولة فيروسية عالية)، وكانت الوفاة نتيجة طبيعية لذلك.

 

السبب الثاني :

ـــــــــــــــــــــــ

 

      مرتبط بحالة الجشع التي أصابت الأطباء في مصر بحالة من السُعار في استغلال المرضى وابتزاز أموالهم دون وازع أو رادع من أخلاق أو ضمير أو احترام لقوانين الدولة، وتعليمات وزارة الصحة، ودون سداد للضرائب المستحقة عليهم، حتى أن أحد الأطباء قال صراحة : « الطب مهنة .. مش صدقة، ومش وقف خيري، وحياة الطبيب مش صدقة جارية، .. والدكتور اللي مش هيبقى غني في زمن كورنا .. مش هيشوف الغني في حياته.»!! .. كان هذا منطق الأطباء ومنطلقاتهم في التعامل مع الجائحة؛ فتسربوا مثل النمل من المستشفيات الحكومية للعمل في المستشفيات الخاصة التي ضربت عرض الحائط  بالأسعار التي حددتها وزارة الصحة؛ فرفضت تلك المستشفيات قبول المريض في حالة الاشتباة بكورونا قبل إيداع 400 ألف جنية تحت الحساب في خزينة المستشفي، .. وتحت إغراء المال وسطوته كان بعض هؤلاء الأطباء يعمل لمدة 15 ساعة يوميا (ثلاث دورات متتالية)، وكان محتملاً أن يصاب بعضهم بـ (Hyper Immune Response Cytokine Storm Syndrome الاستجابة المناعية المفرطة متلازمة عاصفة السيتوكين)، وكانت الوفاة متوقعة !!

 

       .. وعاصفة السيتوكين هي سلسلة من الاستجابات المناعية المبالغ فيها، ويحتوي الجهاز المناعي على العديد من الأجزاء المختلفة التي تساعد على محاربة العدوى، ويتضمن العديد من الخلايا التي تتواصل مع بعضها البعض عبر جزيئات الإشارة، والمعروفة باسم السيتوكينا .

 

حجة « البليد» :

ـــــــــــــــــــــــــــ

 

     الكلام عن «نقص معدات الوقاية»، وافتعال الأزمات مع الدولة يندرج تحت مسمى حجة «البليد»؛ فقد شاهدنا عبر شاشات التلفاز الأطباء الإيطاليين والأسبان والأمريكان يرتدون أكياس القمامة السوداء بديلاً عن بدل الوقاية، ويستعيضون بقطع الشاش المبطن بالمناديل الورقية عن الكمامات الطبية، ويستخدمون أكياس البلاستيك بديلاً عن القفازات!! 

 

كل البروتوكولات غير مؤكده

 .. وكل الاختبارات غير مؤكده :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

       وجاءت شهادة د. حسام بدراوي بتاريخ 25 يونية 2020 بعنوان : «انا مصاب .. غير مصاب» دامغة وداعمة لما سبق أن أكدناه عن تدني الكفاءة العلمية والمهنية للطبيب المصري ؛ مما حدا به أن يطلب المشورة من زملاء أطباء في أمريكا وألمانيا، .. وكان الصادم في شهادة د. بدراوي تأكيده أن : «كل البروتوكولات غير مؤكده،  .. وكل الاختبارات غير مؤكده»، والتي جاء فيها:

      «اتصل بي المسئول عن المعمل الذي أجري الاختبار والمسحة التي اكدت إصابتي طالبا إعاده الاختبار., السبب ان نتيجه اختباري كانت في الحقيقه ايجابيه بضعف، .. وبحثت عن معني ذلك في المراجع الطبية؛ فلم اجد !!، ووافقت علي إعاده الفحص والمسحه لي ولزوجتي، وللعجب اكدت إعاده التحليل ان زوجتي مصابه وأن اختباري سلبي!!

               سألت د. مؤمنه كامل الخبيرة في التحاليل الطبيه، فردت قائله:

 

      «لا يوجد نتيجة اسمها ايجابي ضعيف weak positive؛ لأن الاختبار يتم علي عائله فيروس السارز التي تحتوي علي الكوفيد ١٩ الذي هو احد افرادها..، والاختبار التاني علي N gene الذي تم التعرف عليه في الكوفيد ١٩، في بعض النتائج يكون الاثنين إيجابيين، وفي حالات أخري يكون الـN gene هي فقط الايجابيه، والأخيره تكون الأعراض قليله جدا لدرجه ان المريض لا يشتكي، ولكن يفضل أنه يعزل في المنزل لمدة إنتهاء فتره حضانه المرض؛ لذلك فلا تفسير علمي لنتيجتك لاننا نختبر البي سي آر( بوليميريز تشين ري أكشن(PCR) وليس سلسله الچينات (sequence).

 

       إذن أنا لست مصابا ولكني مخالطا ، وطبعا ولمده ٥ أيام بعدها تعاملنا انا وزوجتي اننا مصابان فلم يكن بيننا حواجز ولا عزل، والآن وبعد مرور ١٨ يوم لم تظهر أعراض الا في يومين فقط، ولم تتحول الاجسام المضاده في جسدينا إلي ايجابي بعد.

 

       اضطررنا إلي إضافه العلاج بكورتيزون حتي نتجنب عاصفه السيتوكين التي قد تجدي في خلايا الرئه بناءا علي نصيحه النموذج الالماني في العلاج الذي نقله الينا طبيب زوجتي د. تامر عويس، والذي يعتبر من أمهر جراحي القلب في المانيا، والذي تحولت المستشفي التي يعمل بها إلي استقبال حالات الكوفيد ١٩ في شرق المانيا، ولم تحدث عندهم اي وفيات.

 

     وكان ذلك أيضا هو رأي صديقي د أسامه حمدي مدير مركز چوزلين لعلاج السكر جامعه هارفارد في بوسطن، والذي يستقبل حالات الكوفيد ١٩ التي تعاني من مرض السكر.

 

           ما يثير الحيره ان كل البروتوكولات غير مؤكده وان كل الاختبارات غير مؤكدة، ولكن نصيحتي للجميع ان يتجنبوا المستشفيات الا في الضروره القصوي.

 

       النتيجه النهائية أنه لا يوجد من يعرف الحقيقه كاملة، ولكننا لابد أن يكون لدينا طريقا نسير عليه وتختاره.» .

 

شهادة ثانية لطبيبة :

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

    .. وارتأيت أنه من المفيد إثبات شهاد د . منى مينا وكيل نقابة الأطباء السابق التي نشرتها على الموقع الالكتروني : «درب» بعنوان : «قارب لنجاة الوطن»؛ لكونها طرحت بعضاً مما تصورت أنه المشـكلة، وعرضت بعضاً مما اعتقدت أنه حلول !!.. جاء فيها:

 

       «حاولت وحاول الكثيرون غيري من الغيورين على الصالح العام ببلادنا، إطلاق التحذير تلو التحذير، كمحاولة منا للتنبيه لحجم الخطر المتوقع، مع إجراءات مواجهة كورونا التي رأينا أنها غير حازمة بدرجة كافية، وغير مواكبة للأرقام التي ترتفع باطراد منذرة بمخاطر شديدة على الصحة .. وأرواح المواطنين .. والاقتصاد .. وكل شئ …

      أما وأن هذه الصرخات لم تجد من يستمع لها، حتى أدركنا الطوفان بالفعل، فما ارجوه هو أن نحاول معا البحث عن «قارب نجاة للوطن» .. حتى لا نغرق جميعا في الطوفان ..

 

       لم يعد عندنا جميعا «ترف» الخلاف .. ولا يوجد أي معنى لأي معارك جانبية … علينا جميعا أن نحاول النجاة ببلادنا وأهلنا .. وإلا فالقادم مرعب ..

لذلك أرجو:

 

       1  ـ نفي أي فكرة عن تخفيف الحظر أو تخفيف الإجراءات الاحترازية، بالعكس المطلوب تشديد الإجراءات الاحترازية، وإغلاق المولات وكل المحال التجارية فيما عدا محال الطعام والصيدليات، وإغلاق الفنادق، وإغلاق كل المؤسسات الحكومية غير الضرورية، وإغلاق كل أنشطة القطاع الخاص غير الضرورية مع تعويض حكومي للعمالة اليومية .. ويجب أن ينتبه السادة رجال الأعمال والقلقون على خسائر الاقتصاد وقطاع السياحة، أن أي تراخ في إجراءات الحظر ، ستكون له خسائر أقدرها بمئات الأضعاف للخسائر الفورية الناتجة عن تشديد الحظر .. والتي يحاولون تفاديها ..

        2 ـ إيقاف كل الإجراءات العلاجية غير الضرورية، إيقاف حملات صحة المرأة وفحص الثدي وما شابه، وإيقاف عمليات قوائم الانتظار إلا العاجل والضروري الذي يسبب تأجيله خطورة على صحة وحياة المريض، وذلك لتخفيف العبء على المستشفيات، والأهم لعدم إعطاء الفرصة للمزيد من انتشار العدوى وسط تزاحم المرضى في المستشفيات في أي إجراء طبي غير ضروري .

       3  ـ تشكيل قيادة مركزية للأزمة، تعبر الحواجز التي لا معنى لها حاليا بين مستشفيات الصحة أو الجامعة او الجيش أو البترول أو الكهرباء أو …. لتوحيد خطة المواجهة ولتعبئة كل الموارد والإمكانيات في اتجاه واحد، حتى لا تكون هناك جزر منعزلة وقت وجود أزمة بهذه الخطورة .

 

      وطبعا من الهام والضروري دخول مستشفيات كل القطاعات الحكومية (الجيش والشرطة والبترول والكهرباء والسكة الحديد وغيرها) في خطة الإنقاذ، مع تجنيب بعض المستشفيات في كل محافظة، أو بعض الأقسام المعزولة بمداخل ومخارج وفرق طبية مستقلة في المستشفيات العامة، لعلاج الحالات المرضية الطارئة والحرجة الأخرى التي لا يمكن تأجبلها، مثل حالات الغسيل الكلوي، والأورام، وحالات الطوارئ بكل أنواعها (الولادات - الكسور – الحروق - الحوادث – الأزمات القلبية والدماغية.. إلخ )

 

      على أن تكون هذه الخطط معلنة بشكل واضح في كل وسائل الإعلام بعد أن توضع لها آليات تنفيذ تفصيلية؛ حتى يتجنب المريض «التوهان» بين الكثير من المستشفيات بحثا عن الخدمة العلاجية التي يبحث عنها؛ فالمزيد من التجول بين المستشفيات معناه المزيد من فرص نشر العدوى أو التقاطها .

 

      يجب أن نلاحظ أن الخطط المعلنة الواضحة الجادة تهدئ بعض الشئ من قلق وفزع المرضى وأهاليهم، بعكس حالة التخبط التي أخشى أن تقودنا إلى ما لا يحمد عقباه .

 

          4 ـ تخصيص أماكن عزل غير علاجية، مثل الفنادق وبيوت الشباب والمدن الجامعية، لعزل الحالات الإيجابية التي لا تعاني من أعراض أو تعاني من اعراض بسيطة، على ان يتوافر في هذه الأماكن الحد الادنى من ظروف الإقامة الآدمية المقبولة، ذلك لتخفيف العبء عن المستشفيات بالنسبة للحالات البسيطة التي لا تحتاج لعلاج، ولكن ظروف منازلهم لا تسمح بالعزل المنزلي، لا يجب أن ننسى ظروف الأغلبية من المواطنين، حيث يصعب جدا أن نطالب المريض بإيجاد غرفة مستقلة بحمام أو حتى مجرد غرفة مستقلة، ولذلك فهناك خطر عال أن تتحول حالات العزل المنزلي لحالات نقل العدوى لباقي أفراد الأسرة، على أن تكون هذه المعازل تحت إشراف طبي بسيط، هدفه المتابعة والتقييم لنقل أي حالة تتدهور للمستشفى، وإخراج الحالات بعد الشفاء وعدم وجود خطر نقل العدوى .

 

وفي حال عجز الفنادق وبيوت الشباب والمدن الجامعية عن الاستيعاب، يمكن استخدام ساحات النوادي والملاعب في إقامة أنواع من المعسكرات السريعة المؤقتة …

       ولنتذكر ..استيعاب المرضى في الخطط الممكنة - حتى لو كانت متواضعة المستوى - أحسن بكثير من تركهم على أبواب المستشفيات في حالة الفزع من نقل العدوى لأهاليهم .. والفزع من احتمال أن تتدهور حالتهم الصحية دون أن يجدوا من يعتني بهم .

 

        5  ـ توفير كميات إضافية من كواشف تحليل PCR عن طرق الشراء او التصنيع أو طلب الدعم، المهم أن تتوافر إمكانية التوسع في التحليلات، لأن عدم وجود إمكانية للتحليل معناه أننا نحارب عدوا غير مرئي في الظلام ..

 

       6  ـ يجب أن يكون واضحا أنه مع العجز الذي نعاني منه حاليا في العديد من الإمكانيات، فالعجز الأفدح والاخطر هو العجز في الأطقم الطبية، التي تتهاوى حاليا بالفعل، لذلك يجب أن نحاول الحفاظ على أطقمنا الطبية بكل السبل، يجب توفير وسائل الحماية الشخصية بشكل حقيقي، ويجب أن نتذكر ان توفير الكمامات والبدل الواقية وما شابه ـ مهما كان مكلفا ـ فهو أقل كلفة بكثير جدا من فقدنا لأطقمنا الطبية في هذا الوقت الحرج، ويجب توفير فحوص PCR لكل من خالط حالة إيجابية بدون حماية كافية دون اشتراط ظهور أعراض مرضية، وكل من تظهر عليه أية أعراض مرضية، ويجب مراعاة أوضاع سكن الأطباء وأطقم التمريض (مراعاة المسافات بين الأسرة – تعقيم السكن بشكل منتظم - تعقيم فرش الأسرة) حتى لا يتحول السكن لبؤرة نقل عدوى بين الأطقم الطبية، ويجب توفير أماكن عزل وعلاج لأي عضو فريق طبي مصاب، ولأهاليهم أيضا،  حيث إن إحدي أكبر مشاكل الفرق الطبية حاليا هي نقلهم العدوى لأهاليهم .

 

        7  ـ يجب الاهتمام بحملات توعية مستمرة ومتنوعة الوسائل للمواطنين، ولعل الرسالة الأقوى التي ستقنع المواطن بضرورة عدم التهاون، هي اتخاذ الدولة لإجراءات احترازية جادة وحازمة، كما يجب فرض لبس الكمامات في كل المصالح الحكومية التي سنحتاج لتركها تعمل، والمحال ووسائل المواصلات، مع تركيز وسائل الإعلام على شرح ضرورتها، وطرق صنع الكمامة القماشية من أي أقمشة قطنية في المنزل، مع تدعيمها بمنديل ورقي لرفع نسبة الحماية، وذلك كحل غير مكلف حتى لا تكون الكمامة عبئا ماديا جديدا على المواطن في الظروف الصعبة الحالية.

 

          يلاحظ طبعا أن الكمامة القماشية صالحة للاستخدام العام وليس لاستخدام الفريق الطبي داخل المستشفيات، حتى المرضى داخل المستشفيات وفي ساحات الانتظار يجب أن يلتزموا بلبس الكمامة الطبية العادية .

 

       8  ـ فتح مجال التطوع للشباب الراغبين في تقديم دعم لدور المسنين والأيتام، طبعا مع تلقيهم تدريبات بسيطة على المطلوب، ومن الممكن أن تمدهم الجمعيات الأهلية بوسائل الحماية الشخصية .

 

       ختاما …

 

     هذا االوطن الذي نحاول إنقاذه هو وطننا جميعا ..

 

    مئات المرضى الذين يترددون جزعين فزعين على المستشفيات هم أهالينا..

 

     لا يوجد أي معني لأي خلافات أو مزايدات أو معارك جانبية الآن …

 

        أتمنى أن تجد هذه الصرخة وغيرها من اجتهادات المخلصين العديدين الغيورين على وطنهم آذانا صاغية ….

 

       لعلنا ننجو …» .

 

شهادة صحفية :

ـــــــــــــــــــــــــ

 

   .. وارتأيت أنه من المفيد أيضاً تسجيل شهادة زميلي الأستاذ أسامة دواد الصحفي بـ «جريدة العربي»، ومندوب الجريدة في وزارة الصحة المصرية التي من المفترض أنها المعنية بالأمر بما يضفي على الشهادة الكثير من المصداقية .. صاغ الزميل شهادته في شكل مقال صحفي على موقع : «أخبار الطاقة» بتاريخ 7 يونية 2020 بعنوان:« نيران كورونا ولا جنة المستشفيات الخاصة!! .. رحلة مريض للوصول إلى سرير مستشفى أقل مشقة من الصعود إلى القمر»، والذي جاء فيها بلفظها ونصها بالحرف الواحد :

 

      «خارج كل القواعد والقوانين والدساتير وضد الإنسانية والمعايير الأخلاقية والمهنية وبعيدًا عن أى نوع من أنواع الرقابة أو المتابعة تعمل المستشفيات الخاصة.. أو كما يجب أن توصف الدكاكين الخاصة.. تسير المستشفيات فى مصر.. طبقا لقواعد الابتزاز والانتهازية بل ولا أكون متجاوزًا إن قلت واللصوصية.. تتسلل بأصابعها إلى جيوب الفقراء فى بر مصر تنتزع كل ما فيها، وتنتقل بهم من تحت مظلة الستر إلى قائمة المدينين بمبالغ باهظة.. ثمنًا لدخول مرضاهم للعلاج الوهمى بها، والتى يتأكد لنا يوميًا أنها تعمل خارج سلطة الدولة وفى ظل - ربما - حماية ودعم من بعض العناصر بوزارة الصحة.

 

       ليست تلك مقدمة لموضوع صحفى أبتغى من خلاله الخروج بقلمى من حالة الإحباط والاكتئاب التى أمر بها نتيجة لكل ما يدور حولنا،.. وليست اصطناعًا للشجاعة للتغلب على حالة الخوف من أن ينزلق القلم ناقدًا فى أمر ينتهى بى إلى حيث أخشى خاصة أننى عبرت الـ55 عامًا، وقد تخليت عن بعض العناد والجدال والإصرار على سبر أغوار بؤر الظلم والفساد التى أكاد أجزم بأنها قد تتحصن بما لم يتحص به أصحاب المظالم والمقهورين.

 

       ولكن ما أسجله الآن هو رصد رحلة مريض مصاب بكورونا داخل سيارة إسعاف بصحبة ابنتيه اللتين هما كل أهله بعدما تخلى الأخ والصديق عن مساندته فى رحلة مرض بدأت بالقلب وقرح الفراش وانتهت بفيروس كورونا اللعين .. خطوط سير الرحلة هى مكالمات هاتفية على مدار أكثر من 24 ساعة بينى وبين ابنة مريض ليس له من الدنيا سوى فتاتين.

 

      بدأ الاتصال من أصدقاء يتحدثون عن مريض تخلص منه مستشفى عين شمس التخصصى بعدما اكتشف أنه مصاب بمرض كورونا وعلى أساس أنه يعالج من مرض القلب وقرح الفراش، ولكن بعد ثبوت إصابته بالفيروس عليهم أن يذهبوا به إلى أى مستشفى يتوافر به رعاية مركزة لا يشترط فيها التنفس الصناعى .. وعلى ما يبدو أن كورونا كان كلمة السر التى جعلت عين شمس التخصصى تلفظ الرجل خارجها.

 

        بقوة وغلظة القرار التى تغلبت على نعمة الرحمة والشفقة، تم وضع الرجل - وسط توسلات وبكاء ابنتيه الذى لم يكن له أى تأثير على قلوب تحجرت وتصلدت بعدما انتزعت منها أبسط معانى الرأفة - فى سيارة إسعاف ليتم نقله إلى أى مكان خارج المستشفى وهناك بدأت رحلة الاتصالات والتواصل مع عشرات المستشفيات منها «قها» الذى أكدت إدارته وجود سرير للمريض لكنه ما لبث أن اعتذر بعد وصول الإسعاف بالمريض إليه بأن السرير قد تم شغله.

 

      بالتواصل مع أحد المستشفيات الخاصة بمنطقة النزهة الجديدة جاء الرد بأن برنامج علاج كورونا يتكلف 300 ألف جنيه خلال عدد من الايام .. وهو رقم يجعل الرغبة فى الموت تتغلب على حب الحياة!، طالما أن العلاج يتطلب ما لا يستطيع تحمله كل الشرفاء على أرض الوطن.

 

      كان القائمون على الإسعاف وعبر اتصالاتهم الرسمية والخاصة أيضًا قد توصلوا إلى سرير بمستشفى الإعلام التخصصى بشارع السودان بالمهندسين.

 

     سارت الإسعاف تنشر بسارينتها جوًا من الاستعراض الذى تنتبه له الآذان وترتعد منه قلوب نفوس تستتر بحوائط البنايات الشاهقة وسط الشوارع الخالية من المارة بفعل الحظر الكورونى الذى تحول إلى أسلوب حياة.. انسابت الإسعاف عبر الشوارع والميادين والكبارى لتصل إلى مستشفى ثان وثالث حتى وصلت إلى مستشفى الإعلام التخصصى بشارع السودان بالمهندسين، طلب المستشفى من الفتاتين ابنتى المريض سداد مبلغ 50 ألف جنيه تحت الحساب لتغطية تكاليف علاج المريض والذى لن يقل فى اليوم الواحد عن 25 ألفًا، على أن يراعى سداد مبالغ إضافية قبل بدء اليوم الثالث.

 

       قررت احداهن الاستفسار عن قائمة الأسعار التى حددتها وزارة الصحة والتى تتراوح ما بين 7 و10 ألاف جنيها مقابل كل يوم فى الرعاية لكنها صدمت بجواب الموظف الغارق فى التهكم: روحى إبحثى عنها!!

 

      لم يكن أمام فتاتين - يعتصرهما الحزن والذبول، وحالة أب يقاوم الموت متشبثًا رغم حالة الوهن بالحياة - بدٌ من الرضوخ والالتزام بقرار الابتزاز الذى فرضه المستشفى عليهما.. خاصة أن الخيار الآخر هو تركه فريسة لتدهور حالته الصحية، بينما كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة والنصف صباحًا.

 

        تسلم مسئولو حسابات المستشفى مبلغ 45 ألف جنيه هو كل ما تم تدبيره من تحويشة العمر أو الاقتراض.. تفاجأت الفتاتان بحسابات المستشفى تقدم لهما إيصال توريد يحمل رقم 2338 فى 4 يونيو 2020 بمبلغ 45 ألف جنيه باسم المريض ع. م. ث والمفاجأة أن الإيصال صادر من مركز سيتى للقلب والحالات الحرجة ــ كورنيوفا ميدكال سيتى كات للخدمات الطبية، وهو اسم جهة أخرى ربما تكون كيانًا وهميًا غير المستشفى أو الدكان الطبي.. استفسرت الفتاة عن الجهة الصادر عنها الإيصال فقال إنها الجهة التى نأتى منها بالمستلزمات الطبية والأدوية.

 

       سألته الفتاة لكنه إيصال عادى وليس ضريبيًا؛ وبالتالى قد تكون هذه الجهة لا وجود لها.

 

     .. جاء رد الموظف بغلظة يكتنفها عدم مبالاة بأى محاسبة أو مساءلة لو تطور الأمر راميًا فى وجهها بخيار لا يصدر إلا عمن يأمن العقاب.. هل تريدين إنقاذ والدك؟!،.. ولا تحبى تشوفى مستشفى تانى؟!،.. جاءت إجابته بعنف - دون وضع اعتبار أنه يتعامل مع فتاة تشعر بالانكسار، وقد تكفلت بأن تتولى السعى بوالدها لإنقاذه وهو طريح الفراش ـ وكأنه يثق بخبرة مصاصي الدماء أنه لن يكون أمامها إلا الخضوع والقبول بالأمر الواقع.

 

      .. وإن كان هذا حدث مع مريض استطاعت أسرته تدبير تلك المبالغ الضخمة فكيف لآلاف المرضى ممن لا يستطيعون تدبير أى منها؟

 

      كانت الاتصالات بينى وبين ابنة المريض، وبينى وبين قيادات فى وزارة الصحة نصحونى بأن ألجأ للرجل الأول والأوحد والأقدر والمنوط به التدخل فى تلك الأمور أو كل أمور وزارة الصحة، وهو الدكتور خالد مجاهد المتحدث الرسمى.. لكن ومن خلال تجارب سابقة أعلم أن الوصول لأمين عام الأمم المتحدة أسهل وأيسر من الوصول إلى هذا المتحدث الرسمى الذى يقتصر عمله على إصدار بيان يومى بعدد الإصابات والوفيات بكورونا؛.. فكان رد المسئولين قد أجاب لى عن كل التساؤلات التى كانت تتوارد على ذهنى.. وأهمها لماذا تضخمت وتغولت الدكاكين الخاصة، والتى تعمل تحت مسمى مستشفيات خاصة، وكأنها تعيش تحت الحماية والحصانة والدعم؟

 

      ولماذا تترك وزارة الصحة تلك المستشفيات تنفرد بأهالى المرضى انفراد الذئب بالشاة بعدما استعصى عليهم الوصول إلى سرير بمستشفى حكومى؟!.

 

      وكيف أن تلك المستشفيات قد تحصنت من قرارات كان يجب تفعيلها وقت الكوارث والجوائح ومنها بالطبع كورونا حيث كان يجب انتزاع المستشفيات المخالفة، ووضعها تحت تصرف وزارة الصحة باعتبار أن المخالفات فى تلك الأوقات تعد تلاعبًا بالأمن القومى للدولة وقت الخطر؟

 

       لم أتعجب وأنا أرى المستشفيات أو الدكاكين الخاصة تخرج لسانها لآخره للمرضى وذويهم، ولكل من يتجرأ ويريد اللجوء لوزارة الصحة التى لم يبق من اسمها إلا قشور تغازل بها منظمة الصحة العالمية أكثر مما تؤديه لصالح الوطن المصاب بكورونا.. ولتترك تلك المستشفيات تفرض من أسعار ما تنوء به كواهل الشعب.

      ليصبح الحل الأكثر فاعلية ووجاهة.. هو التضرع إلى الله أن يمن علينا بنعمة الصحة أو الموت فورا حتى نكون فى مأمن من الوقوع فريسة السقوط فى مستنقع دكاكين اللا صحة!.!

 

نقص الدواء في الصيدليات :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

      في جريدة «الأخبار» بتاريخ 22 يونية 2020 كتب الزميل الصحفي الأستاذ محمد حسن البنا رئيس تحرير «اأخبار اليوم» الأسبق مقالاً بعنوان : «ربما الأخير» .. جاء فيه :

 

        «احتمال إصابتى وزوجتى وابنتى العروس بفيروس كورونا قدر محتوم نواجهه رغم ما إتخذنا من إجراءات احترازية .. لكن العجيب أن منظومتنا الصحية فشلت فى إيجاد العلاج المناسب، وفشلت فى إجبار شركات الدواء على توفير بروتوكولات العلاج؛ فتجد الزحام الشديد على صيدليات الحكومة التى انفردت بصرف العلاج فى مشهد يكرس إصابة السليم بالوباء، وتبين لى أن هناك «مافيا للدواء» لم تقدر عليها الحكومة بعد، ومازالت هذه المافيا تعربد فى ربوع مصر، رغم أن أدوية بروتوكول العلاج محلية الصنع.

 

          لا أجد مبررا لأن يكتب لنا الطبيب العلاج المطلوب، وتسأل فى الصيدليات فلا تجده، والرد واحد عند الصيدليات : لا يوجد، غير متوافر.. تسألهم: عايز البدائل، .. ويردون : لا توجد أيضا!! .. أعيش دون تناول العلاج الذى كتبه الطبيب «زيثرو ماكس، فيتاسيد، بنادول، فيتاماكس، واسيستيل سيستين»، ولا حتى بدائلها «ميجافين، ونانا زور، وتليفاست، وريفيروس».

 

       هذا عيب خطير يجب أن تلتزم الدولة بمواجهته من أجل صحة أبنائها . . ناهيك عن الجبروت الذى أصاب معامل التحاليل والاشعة؛ مما يؤكد أهمية إعادة النظر فى منظومتنا الصحية .. ربما يكون مقالى هو الأخير؛ فليأذن لى القارئ العزيز وأخى رئيس التحرير فى التوقف قليلا.».

 

بعض شهادات

 «المواطن الصحفي» :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

         .. وارتأيت أنه من المفيد أذكر 3 شهادات لبعض ممن ينطبق عليهم وصف «المواطن الصحفي» وهو المواطن الذي لا يحترف العمل بمهنة الإعلام، لكن شاء القدر أن يتواجد في موقع الحدث لحظة وقوعه؛ فسارع إلى تسجيله ونقله إلى الدنيا كلها .

 

الشهادة الأولى :

ــــــــــــــــــــــــ

 

       الشهادة الأولى للمواطن معتز عاطف عبد الدايم، والتي نشرها على صفحته الخاصة على موقع «فيسبوك» بعنوان «إلي من يهمه الأمر في مصر»، ..وجاء فيها :

      «تجربه شخصية لي أود أن أعرضها لكي يعرف المسئولين ما يحدث في مصر .

 

      مساء الثلاثاء ٢٦ مايو إكتشفت مرض أخي رامي، وظهور علامات مرض «الكورونا»، عليه أخذته وتوجهت فورا لـ «مستشفي كليوباترا» لعمل الفحوصات اللازمه ومع علم المستشفي بحالته رفضوا إستقباله بحجه انه لا توجد أماكن .

 

        وبدأت المعناه التي لا يتحملها بشر .. أخي في حاله خطرة، وأخذته إلي «مستشفي الحياه»، ودخلنا الطوارئ فإذا بالمنظر المذهل أن عشرات المرضي بالكورونا، وفِي حالات متأخره يقفون مع ذويهم في انتظار أي شخص يستقبلهم أو يوجههم لما يفعلونه !!

 

       .. وأخيراً خرج إلينا طبيب شاب مسئول عن الطوارئ، ونهرنا وطردنا خارجها .

 

      .. وكانت هناك حالة حرجة جدا لرجل، ومع ضغط الطبيب، وصلفه أخذته عائلته، وخرجوا الي سيارتهم ووضعوه بالخلف !!

 

       .. أخذت أخي وتوجهت مسرعا إلي «المستشفي السعودي الألماني»، وهالني مارأيت من أعداد المرضى في قسم الطوارئ، وحاولت جاهدا ان إنقاذ أخي بمحاولاتي مع الموظفين إلا أنهم أصروا علي دفع مائة ألف جنيه مصري قبل ان يقبلوا الحالة !!

 

     .. قولت لهم : « ياجماعه الفلوس حاجيبها شوفوا أخويا، والفلوس حاجيبها.»، لكنهم رفضوا التعامل مع الحالة قبل سداد النقود !!

 

     .. توجهت علي الفور الي مستشفي مصر الدولي بعد عده إتصالًات التي قبلت الحاله، وأدخلوها فوراً الي العنايه المركزه .

***

       أخي انتقل إلى رحمه الله .

 

      .. ولم يبق أمامي سوي أقدم شهاتي عما حدث للتاريخ .

 

الشهادة الثانية :

ـــــــــــــــــــــــــ

         الشهادة الثانية للمواطن لؤي قهوجي، والتي نشرها على صفحته الخاصة على موقع «فيسبوك»، ..وجاء فيها :

      «منذ الأمس .. كلمتان في صدري، وفي نهايتهم سأطرح بعض الأسئلة .. مجرد أسئلة إفتراضية مش حقيقية إلا إنني سأطرحها لأمنع مخي من الإنفجار .. ليس إلا !!

 

     طنط أميرة (والدة صديقي حسن المُتغيب لأسباب قهرية خارجة عن إرادته) فقدت وعيها داخل عربية المترو في محطة حمامات القبة في الساعة 1:30 ظهراً

 

      عرفت الخبر الساعة 2:35 ظهراً بالضبط، واتحركت على الفور من مكاني ووصلت الساعة 3 ظهراً .

 

        .. استدعينا لها الإسعاف التي وصلت بعد حوالي ساعة ونص، ونقلتها إلى مستشفى الدمرداش بعد ما كانت متجهة إلى مستشفى الزيتون بين الساعة 3 و3 :15  بعد ملاحظة درجة حرارتها واشتباه المسعف انها حالة كورونا.

     

       .. استقبال مستشفى الدمرداش كان مزدحماً والجو كان حار على حالة فاقدة للوعي وحرارتها عالية وبتعرق بغزارة، .. والزحام يزيد من قابليتها لالتقاط عدوى .. والمخاطرة بتركها والجري في المبنى بحثاً عن طبيب جعل استمرارها لحظة واحدة في طوارئ المستشفى مخاطرة كبيرة، وحملناها خارج المستشفى إلى سيارة أحد الأصدقاء؛ .. فالسيارة على الأقل فيها تكييف قد يساعدها حال احتمال إصابتها بإجهاد حراري أو ضربة شمس، وبها مقعد يمكن فتحه ليصبح أقرب للسريربما يجعلها شبه مستلقية، .. وانتقلنا إلى حميات العباسية، وكان نفس الإهمال !!.

    .. في هذا الوقت، وأثناء التردد على المستشفيات من الدمرداش لحميات العباسية للمستشفى الإيطالي للقاهرة الفاطمية رجوعاً للمستشفى الإيطالي تاني من الساعة 3 ونص إلى الساعة 5 العصر - قبل انتهاء بطارية تليفوني - كنت في مكالمات متصلة مع بعض الأصدقاء من الأطباء في محاولات لفهم حالتها، وإلى أين نتوجه؟!!، لعلمي المسبق أن المستشفيات بؤر عدوى، وفكرت أجرب إحدى الصيدليات .. كل الذين اتصلت بهم مشكورين نصحوا بما هو متاح لهم في إطار معرفتهم، ووفقاً لما ذكرته لهم من أعراض أثناء محاولاتنا مع المستشفيات والصيدليات، .. والنصائح تركزت في ضرورة قياس ضغطها وعمل كمادات باردة وحقنها بخافض للحرارة مع مراعاة إخطار الطبيب أو الممرض بأي حالة مرضية عانت أو تعاني منها.. لم أكن مهتم بأي تشخيص للكورونا بقدر ما كنت مقتنع انها حالة إجهاد حراري،.. وانتهت كل محاولات إنقاذها بوفاتها في العربية أثناء محاولتي التفاوض داخل صيدلية على ان يقوم أحدهم بحقنها بخافض للحرارة ومحلول بعد قياس ضغطها في وقت بين الساعة 5:30 والساعة 6 .

     

.. أسئلتي المغرقة في الذاتية هى:

 

     من الذي يقرر تشخيص الحالات؟! – أغلب الحالات – يتم لفظها وتحويلها إلى أماكن أخرى بدون إلقاء نظرة مدققة عليها؟ .. هل هو أمن المستشفى؟! أم إدارة المستشفى؟!؛ فيبدو أن وزارة الصحة ضيف شرف في هذه الأزمة!!

 

      لم يتكلم معي مسئول طبي واحد!! أو يقوم بفحص الحالة!! أو يقول لي احتمالات الأعراض التي تبدو على السيدة!! أو يعتذر لي بسب عدم وجود أماكن شاغرة أوامكانيات  متاحة!! أو ما يمكن أن أقوم به من رعاية منزلية!!

 

      .. هل لو كنت احتجزت أحد أفراد الطقم الطبي في الدمرداش أو عين شمس أو حميات العباسية بسلاح أبيض لأجد طبيب يتكلم معي .. هل كانت والدة حسن ستبقى على قيد الحياة؟!! .. ربنا يكون في عون الأطباء وأطقم التمريض لما يتعرضون له من مخاطر كل ساعة وسط سياسات تتعمد أن تقذف بهم للموت مع سبق الإصرار، وأعلم تماماً ان ملف الكورونا في مصر هو مجموعة تعليمات صارمة من جهات سيادية لا علاقة لها بالصحة العامة ولا بوزارة الصحة ولا نقابة الأطباء، والأطباء إذا اتيحت لهم الفرصة سيتحدثون عن مهازل عايشوها يوميا تخص تعرض لمتاعب كثيرة .. لكن في اللحظة ماذا أفعل، وأم صديقي الغائب تنازع الموت، وكل دقيقة في مفاوضات سواء مع أمن المستشفيات أو التمريض أو الصيدليات بتفرق؟!!

 

     .. هل لو كنت اقتحمت بوابة المستشفى الإيطالي بالعربية كان ممكن يكون فيه فرصة يتعاملوا معها باعتبارها حالة ضربة شمس أو إجهاد حراري محتاجة مجرد خافض للحرارة وكمادات باردة وشوية محاليل؟!!

 

     .. الصيدليات التي ذهبت إليها .. هل كان مفروضاً أن أدخل كل صيدلية للبحث عن جهاز قياس ضغط لأتأكد بنفسي عن وجوده من عدمه؟!!

 

      .. أنا لا أتكلم عن سرير عناية مركزة، ولا جهاز تنفس صناعي، ولا عينة  PCR، ولا أسطوانة أكسجين ..  لم نكن محتاجين حاجة من هذه، وأكدت في كل مكان ذهبت إليه «أربع مستشفيات وصيدليتين» على أن هذا ليس مطلبي ... انا أتكلم عن حقنة خافض للحرارة - كمادات باردة - محلول سواء ملحي أو جلوكوز بحسب ضغطها الذي لم نستطع قياسه؛ لأن أجهزة قياس الضغط ملم تكن متوافرة في الصيدلياتبزعم أن المستشفيات سحبته، تذهب إلى المستشفيات لا يستقبلونك !!

    .. ماذا لو نجحت في أقناع أحد في مستشفى القاهرة الفاطمية ـ حتى بعد ما نبضها وتنفسها توقفوا ـ أن يقوم طبيب بفحصها في السيارة لنعرف ما إذا كانت مازالت على قيد الحياة أم توفيت؟ .. لم يحدث لأن باب المستشفى كان مقفول بجنزير .. لو كنا اقتحمناه بالسيارة لكان ممكناً !! 

       .. لماذا جاء طبيب المستشفى الإيطالي ليتأكد من وفاتها؟!!  لماذا لم يأت قبل ساعة عندما كانت على قيد الحياة ليسعفها ؟!!

 

        السيدة الآن في رحاب الله، .. وهذه شهادتي عما يحدث في مصر .

 

الشهادة الثالثة :

ــــــــــــــــــــــــ

 

       هى شهادة المواطن محمد نور الدين التي سجلها على صفحته الشخصية على موقع «فيسبوك»، وجاء فيها :

 

       « خرجت قريبتي من المستشفى بعد دفع 270 ألف جنية مع التوقيع على تعهد بإخلاء مسئولية المستشفى بعد 9 أيام في الرعاية المركزة بمستشفى خاص صغير، وبدون جهاز تنفس صناعي، وقبل الشفاء الكامل من كرونا؛.. لعدم معرفة سقف المصاريف المتوقع.».

 

      .. كانت هذه بعض الشهادات الكاشفة عنما يحدث في مصر !!

 

***

 

      .. وسمعت الحكايات عن نذالة الجيران الذين ابُتلي جارهم بمحنة الوباء؛ فقطعوا عنه المياة والكهرباء، ومنعوا عمال توصيل السلع والخدمات من توصيل الطعام  والدواء إليه!!

 

      .. وسمعت الحكايات عن أطباء مستشفيات «العزل الصحي» الذين منعهم الجيران من دخول منازلهم حين عودتهم إليها في أوقات راحتهم !!

 

      .. وسمعت الحكايات عن انتهازية «سماسرة الطب»، والمتاجرين بأوجاع الناس، .. ونذالة تجار الموت من المغسلين والترابية وحراس الجبانات وجشع بائعي الأكفان، وامتناع سائقي سيارات نقل الموتى عن حمل جثامين شهداء الوباء؛ ليتم نقلهم بسيارات نقل مكشوفة بما لا يتفق مع آداب تكريم الأموات، وحقوق وكرامة الأحياء، في ظل غياب كامل للطب الوقائى بوزارة الصحة فى التعامل مع وفيات الوباء .. لا يوجد طب وقائي يقوم بتغسيل الموتى فى العزل المنزلى، ولا تكفينهم من متخصصين، ولا سيارة اسعاف لنقل الجثمان !!

 

        .. وتابعت التقارير اليومية لوزارة الصحة عن أعداد المصابين بفيروس كورنا، والتي كنت أتشكك في صحتها، والتي أجملت عدد المصابين بالفيروس في مصر بـ 35 ألف مصاب، وهو ما ظهر كذبه جلياً عندما أعلنت وزارة الصحة أن لديها 600 ألف متبرع بالبلازما من المتعافين من كورونا؛ فكيف يكون عدد المصابين 35 ألف مصاب، وعدد المتعافين 600 ألف متعافي !!

 

     .. وتابعت عبر مواقع «التواصل الاجتماعي» السخرية من استخدام «الكمامة الدوارة الناقلة للعدوى» التي يقوم السائق بتوزيعها على الركاب في الميكروبصات  ليجمعها في نهاية الخط لتوزيعها على الركاب الجدد، وتناوب المواطنين للكمامات عند دخول المصالح الحكومية .. وهي سخرية تحمل في طياتها سخفاً من مواطنين فقراء وبسطاء وقليلي الحيلة ومن سلوكيات ناجمة عن الفقر وهشاشة الحياة وتعرضها للخطر جراء نقص التعليم وضعف الجوانب المعنوية المتصلة بالتهميش والاحساس بالدونية بما يستلزم مد يد العون لهم في زمن « الوباء» أو «الفناء الكبير» أو «الموت الأسود»!!

 

سلاح الفُتيا :

ــــــــــــــــــ

 

        .. ولم يكن سلاح الفتيا غائبا عن الساحة في دعم الدولة في غيها؛ فقد أصدر مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية فتوى جاء فيها:

 

       « في ظلِّ سّعي البشريّة الدؤوب؛ للوصول لعلاج أو لقاح يُنهي أزمةَ جائحة فيروس كورونا، ويخفِّف آلام المُصابين به؛ دعت الأجهزة الطبية المُتعافين من هذا الدّاء للتبرع ببلازما دَمِهِم لمساعدة المُصابين؛ لاسيما الحالات الحرِجة منهم؛ نظرًا لما تحتوي عليه بلازما المُتعافي من أجسام مُضادَّة للفيروس قد تُسهِم بشكل كبير في تحسن تلك الحالات.

 

       وأضاف المركز أن استجابة المتعافين لهذه الدَّعوة واجبٌ كفائيٌ إنْ حصل ببعضهم الكفاية، وبرئت ذمتهم، وإنْ لم تحصل الكفاية إلَّا بهم جميعًا تعيَّن التَّبرع بالدم على كل واحد منهم، وصار في حقِّه واجبًا ما لم يمنعه عذر، وإنْ امتنع الجميع أَثِم الجميع شرعًا؛ وذلك لِمَا في التَّبرع من سعي في إحياء الأنفس.

   

 وأورد أن التبرع بالبلازما للمصابين بفيروس كورونا المستجد نوع من الشَّكر العملي على نعمة العافية بعد البلاء، والشّفاء من عُضال الدّاء.

 

     .. وأشار إلى أن امتناع المُتعافي عن التَّبرع مع قُدرته يعد شُح نفسٍ، «وضعف يقين، وأَثَرة وأنانية، ولا شك هي أمور مذمومة، مذموم من اتصف بها آثم».

     وذكر مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية أنه إذ يُبيّن حكم تبرع المُتعافين بالبلازما يهيب بهم جميعًا «أن يتنافسوا في أداء هذه الفريضة ونيل أجرها العظيم»..

 

       .. وأطلقت دار الإفتاء المصرية عبر منصاتها على مواقع السوشيال ميديا وموقعها الإلكتروني ومختلف وسائل الإعلام، مبادرة مماثلة بعنوان: «ومن أحياها» لحث المتعافين من فيروس كوفيد 19 المستجد «كورونا» على التبرع ببلازما الدم لعلاج المصابين.

 

          وقالت دار الإفتاء: إن إطلاق مبادرة «ومن أحياها» لحث المتعافين من فيروس كوفيد 19 «كورونا» على التبرع ببلازما الدم لعلاج المصابين يأتي في إطار الدور الحيوي الذي تقوم به دار الإفتاء المصرية في التعريف بموقف الشريعة الإسلامية من المستجدات والنوازل، ومنها فيروس كوفيد 19 المستجد «كورونا»؛ لتحقيق التكاتف والتعاون التام بين أبناء المجتمع، والوقوف معًا في صف الجهود التي تقوم بها الدولة في علاج مصابي فيروس كورونا.

 

       ,, الغريب في الأمر أن العلاج بالبلازما مازال في طور «التجريب»، ولم تثبت فاعليته، وقد توفي بعض الذين تم حقنهم بالبلازما، .. الأغرب من ذلك أنه لم يصدر أمثال تلك الفتاوى لحث أصحاب المستشفيات الخاصة أو القائمين على القطاع الطبي الحكومي على دعم المرضى !!؛ بما جعل الفتيا غير متوازنة، وأضعف ثقة المواطن فيها وفي القائمين عليها، فرفض الكثير من المواطنين المتعافين من الوباء التبرع بالدم، وفضلوا بيعه لحسابهم الخاص بسعر 30 ألف جنية للكيس!!

 

     .. وكان الأغرب أن بعض الأشقياء والمغامرين اصطنعوا شهادات مزورة عن اصابتهم بكرونا ليتثنى لهم التربح من التجارة الحرام !!

 

       .. وقرأت بعضاً من شهادات شيخ الأزهر عن تلك الأخلاقيات والسلوكيات والتي اختتم إحداها بقوله: كأن فيرس كورنا يصور لنا في الدنيا مشهد من مشاهد يوم القيامة التي حدثنا عنها القرآن  «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَـحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِىء مِنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) . صدق الله العظيم ( سورة عبس)

      ..  وكلام فضيلته للأسف ينطوي على خلط المفاهيم القرآنية بما دونها؛ فقد جاء ما قاله في وصف الحق سبحانه وتعالى لـ «الصاخة»  والصاخة يوم القيامة، وهي في الأصل الصَّيحَة التي تكون فيها القيامة تصخُّ الأسماع أي تُصِمُّها، ووباء كورونا ليس يوم القيامة، لكنه مجرد حدث من عوارض الدنيا إلى زوال، وتأويل فضيلته مجرد نمط  من أنماط التلاعب بوعي الناس لوصم الناس دون محاولة لإخضاع السلوك المتردي لبعضهم لمناهج علمية تكشف عن أسبابه، ولا تعفي القائمون على الأمر من مسئوليتهم .

 

     .. ولو قام اليابانيون بوصف الـ «بيكا دون» الناجمة عن إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما ونجازكي بـ «القيامة»، وعاشوا في إطار هذا التصور؛ لما كان لليابان ذكر في عالم اليوم !!

    

      .. ولو قام الفيتناميون بوصف حرق أبنائهم بالنابالم  الذي استخدم لأول مرة بيوم القيامة لما كانت فيتنام أحد النمور في عالم اليوم!! .. تلك المأساة التي جسدتها الصورة  التي التقطها المصور الأمريكي  نيك أوت للطفلة الكورية فان كيم فوك .

 

     .. المقارنة بين دور الأطباء في دولة الأمس أثناء وباء الكوليرا سنة 1947، ودور الأطباء في الدولة الأن في وباء كورونا 2020 للأسف ليس في صالح أطباء اليوم !!

 

      كل هذا كان حرياً بالدراسة العلمية الجادة التي انتجت السؤال :

        ماذا حدث، ويحدث للمصريين ؟!! ، وهل ما حدث ويحدث حالات فردية أم نتاج تفكير اجتماعي جماعي معيب ضارب الجذور في بنية المجتمع؟!!، وكيف تشكل ذلك النمط من التفكير، وما الأطر الثقافية الحاكمة لسلوك المصريين واختيارتهم؟!!

 

التفكير الاجتماعي :

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

      كلمة «اجتماعي Social» في معناها العام :

    «كل سلوك أو موقف يتجة بطريقة شعورية أو لا شعورية نحو الآخرين.».

      ويقصر البعض الكلمة في معناها الخاص على :

      « السلوك المنظم والمحدد الأهداف الذي تسلكة جماعة متماسكة .».

 

       .. والتفكير الاجتماعي : هو محصلة التفكير المشترك لأعضاء الجماعة في المشكلات التي تواجههم  وأساليب تحليل هذه المشكلات والتغلب عليها، وكلما كان هذا التفكير علميا وموضوعيا  وديمقراطيا ومنفتحاً على العالم كلما كان الأقرب إلى العقلانية والصواب والمنطق، وكلما كان هذا التفكير ساذجاً وسطحياً وعشوائياً ومرتبطاً بأفكار سافلة وقيم متخلفة؛ كان التفكير منحطاً ومشوشاً وشائهاً  .

 

***

 

   .. وجلست لأكتب عما حدث للمجتمع المصري من «تشرذم» و«تشظي» وفقدان اللُحمة والحميمية، وسيادة «الأنا» وغياب «النحن»، وغلبة المصالح الفردية على المنفعة العامة!!.. كان يعتصرني إحساس بالألم والمرارة وكنت أستشعر أن عملية الكتابة نوع من"الانسحاب إلى الذات" فقد .. كان يسترعي انتباهي أمرين أن:

 

 

1ـ أن المدن المصرية أصبحت أقرب إلى "حدائق حيونات بشرية The Human Zoo" ..  تسودها العدوانية والعنف والانفجار الجنسي والأنانية والفساد البنيوي الضارب الجذور في التاريخ!!.. أو أنها صارت "مقابر" حيث تغييب فيها جميع ملامح الحياة الإنسانية، وتخلو من روحها، ومن صور التلقائي بين الناس .

 

 

 

2 ـ أن القرية المصرية قد تحولت إلى "مجتمع للفُرجة" فقط دون مشاركة فاعلة، .. وصارت الحياة في القرى أنماطاً من "التنطع" بغطاء من "الورع الكاذب" والمفضوح في ظل ضعف الروابط المجتمعية وتفشي التضامن الظاهري غير المنتج والقائم على المنفعية والمصلحية ومبدأ الاسترزاق و"بذل الجهد الأقل" !!

 

 

 

   .. وكانت المفاضلة بين عنوانين ليحمل أحدهما لافتة الكتاب :«الساقطون من قعر القفة» و«فئران المركب»، واخترت العنوان : «فئران المركب» .. ليرمز إلي ما استقر في عقيدتي من توصيف لحالة «الخواء الاجتماعي» التي تتلخص أعراضها في تفكك الروابط بين الفرد ومجتمعه، وتعرض البنية المجتمعية للتكسر والتحلل، وانتشار الجريمة وتفشي الفوضى والتفكك الأسري والانهيار الحضاري، ومصطلح «فئران المركب» من نتاج العامية المصرية، وأمثالها الشعبية لنعت أولئك الأفراد الذين يجدون مصاعب في الإندماج مع مركّب القوة في مجتماعاتهم، ويعانون طبقا لسياسات معلنة أوغير معلنة من مخاطر الاستبعاد عن نطاق المشاركة السياسية والاقتصادية بما يعني «قضم» حقهم في التمثيل السياسي، و«كبح» حقهم في التعبير عن هويتهم الثقافية والدينية عموماً، والتمتع المتساوي بمنافع المجتمع وثرواته، وهى تمثل حالة من غياب العدالة التي ينتج منها عدم المساواة والإحساس بالظلم وفقدان الثقة بالمجتمع؛ فيسقطون الاعتبارات الاخلاقية، وينتهجون أساليب فردية ربما تنطوي على مخالفة الشرائع والقوانين يرون أنها تحقق أمالهم، وتلبي أحتياجاتهم وتحقق مصالحهم دون أن يراعوا في أهلهم إلا ولا ذمة، .. ويقومون بنفس أفعال «فئران المركب» التى تغرق؛ فيقفزون من المركب الغارقة لمركب اخرى لا يبكون على شيئ، ولا يهمهم الا مصلحتهم فقط .

 

 بين تفكير «فئران المركب»

وأيدلوجـــية «ذئاب الغابة» :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

             

      المسافة بين تفكير «فئران المركب» وأيدلوجـــية «ذئاب الغابة» أضيق من أى تخيل؛ فمع بداية أزمة وباء كرونا ألقي بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني خطابا مرعبا دعا فيه الناس وخاصة كبار السن إلي وداع أحبابهم، واستقبال الموت الذي سيأتي به الفيروس، وتحدث عما أسماه بنظرية «مناعة القطيع herd immunity» وجوهر هذه النظرية المتوحشة التي تروج لها الرأسمالية الأكثر توحشا هي معاملة الفيروس بمنطق (دعه يعمل .. دعه يمر)، بمعني؛ فلندع عوامل الانتخاب الطبيعي تؤتي أثرها لتموت جحافل الضعفاء حتي تكتسب أقلية الأقوياء مناعة في المستقبل ضد الفيروس ويكون بوسعها أن تقاومه مقاومة طبيعية،  وهذا الكلام ليس جديدا علي منظري الوحشية الانسانية؛  فمن قبل تحدث آدم سميث الأب الروحي للفكر الرأسمالي في كتابه (ثروة الأمم) عن الأيدي الخفية invisible hands التي تحرك الاقتصاد نحو التقدم، وأنه لا يجب وقف عمل القوانين الطبيعية، وتحدث ويليام جيمس فيلسوف البراجماتية عن وظيفة الدولة كحارس لشطآن النهر حتي ينساب تياره دون عوائق .

 

        .. والحقيقة أنه منذ أن أصدر فرنسيس فوكوياما كتابه بعنوان: «نهاية التاريخ» الذي أعلن فيه الانتصار النهائي لـ «الديمقراطية الليبرالية»  بشقيها الاقتصادي «السوق» والسياسي «الديمقراطية»، والمؤسسات الدولية لا ترضى بديلا عن انتهاء دور الدولة في البلدان النامية؛ بحيث لا يصبح لها دور سوى إصدار العملات النقدية، ومراقبة حركة النقد، وحماية الملكية من أي اعتداء.*(4)

 

***

 

      .. قد تكون هذه «زفرة الموت في نغمة لحني الأخير» .. تحملها «إرادة المصداقية» مع النفس والأهل في الوطن بما تنطوي عليه من «سر الخلود» و«عبق الشهادة» .

 

     .. ويظل المجد للزمّار .. والخلود للحقيقة التي ارتدت «عباءة الوثيقة» مكتوبة مقرؤء كانت أو محكية مسموعة أو مصورة مرئية أو جامعة لكل تلك الوسائط .

 

     .. وثيقة قد تنقل في يوما ما «تاريخ ما جرى» للأجيال المقبلة من رحم الغد .

 

الفصل الثاني :

ــــــــــــــــــــــــ

ماذا يحدث للمصريين ؟!!

      

في الربع قرن الأخير،  ومنذ سنة 1995م  كانت تسترعي انتباهي التحولات الجامحة، والمنعطفات الحادة والتغيرات الخطيرة في أخلاق المصريين، كان الإرهاب الأسود ينشر جناحيه في سماء الوطن .. في هذا السنة جرت محاولة الاغتيال الفاشلة للرئيس حسني مبارك، وكان كل يوم تفجير هنا، وتدمير هناك، وكانت دماء الأبرياء تختلط بتراب الوطن، .. وكان حادث الأقصر المروع في نوفمبر 1997، والذي لم يكشف النقاب عن مرتكبيه حتى الأن، .. ثم كان حريق قطار الصعيد!!  .. كان الحزن يخيم على سماء الوطن .. ويعشش في كل بيت بعد ارتقاء الكثيريين من أفراد الشرطة شهداء.

 

     .. وكان مما يسترعي الانتباه سلبية المواطن المصري الذي ترك الدولة، وجهاز الشرطة يخوضان معركة الإرهاب دون دعم منه بحجة أن : «اللي حضر العفريت يصرفه، .. وإن معرفش يصرفه .. يستحمل أذاه» ؛ بما يعني أن الدولة هى صناعة الإرهاب ، وهي من يكتوي بناره !!

 

       كان رأي المواطن المصري ينطوي على بعض الصواب، والكثير من الخطأ والالتباس وعدم القدرة على التمييز بين مصالح الوطن، وأمنه وخطأ حاكم فرد!! .. كان رأي المواطن المصري تعبيراً عن حالة من الغضب والاستياء مما فعله الرئيس السادات عندما أطلق العنان لجماعة «الإخوان المسلمين» في الحياة العامة، وقدم لهم ما يجدد شباب التنظيم الذي شاخ في سجون الناصرية بتكوين «الجماعات الإسلامية» المصنوعة حكوميا بدعم الأجهزة الأمنية وبتمويل سعودي، والتي سرعان ما أصبحت رافداً هاماً من روافد «الإخوان المسلمين»، وضربت المجتمع المصري وأصابته بأعراض التخلف البدوي القادم من فجاج الصحراء عبر ممارسة تنطعات الفكر الوهابي التي أعادت مصر عقود إلى الوراء، وكانت خطتها تقوم على تأسيس أكبر عدد من المعاهد الأزهرية والإيعاز لطلابها بالتصادم مع الطلبة اليساريين والأقباط، وقد حظيت تلك الخطة بدعم المهندس عثمان أحمد عثمان بتوفير دعم مالي سخي خصماً من الوعاء الضريبي لشركة «المقاولون العرب»، ود. محمود جامع وعلوي حافظ ومحمد عثمان اسماعيل وأحمد كمال أبو المجد وعدد من الإعلاميين كان على رأسهم المذيع أحمد فراج الذى استقدم فضيلة الشيخ متولي الشعراوي (يرحمه الله) من السعودية ليكون رأس حربة هذا المشروع.

 

         وكانت الخطة قائمة أيضاً على تحجيم معتنقي الفكر اليساري وإبعادهم عن مواقع المسئولية والإعلام والفكر في المجتمع المصري والصدام مع الأقباط وتسفيه معتقدات دينهم والتضييق عليهم في كنائسهم.

 

        كان الرجل الأهم في تنفيذ الخطة هو الشيخ محمد الغزالي الذى أفتى بعد ذلك بقتل د. فرج فودة في عهد الرئيس حسني مبارك!!، وكان للدكتور يوسف القرضاوي فيها دور موسمي عبر إلهاب المشاعر في خطبتي العيدين في ساحة ميدان عابدين، وإصدار الفتاوي التي تخدم التوجه المنشود .

 

        .. كان مكمن الخطورة في ذلك أن الرئيس السادات (يرحمه الله) ـ في لحظة غفلة سياسية ـ خلط سماحة الدين بديناميت السياسة، وصنع منهما وحشا أسطوريا شرسا له ألف وجه ومليون قناع وألف ذراع .. لم يرتوي ذلك الوحش من دماء ضحاياه الذين كان أحدهم الرئيس السادات، وظل متعطشاً للمزيد .

 

             .. وتزامن هذا مع تحول مصر إلى سياسة «الانفتاح الاقتصادي» وما انتجته من نمط «الاستهلاك المتوحش» في ظل فساد الطبقة العاملة المصرية التي تعودت أن تحصل على الكثير من المكتسبات المالية دون بذل جهد في العمل أو تحقيق إنتاج حقيقي؛  .. ودخلت مصر إلى عاصفة النار ودوامات الدم .. ولم تستطع الخروج منها إلى الآن !!

       .. وفُرض على البلاد قانون الطوارئ عشية اغتيال الرئيس السادات ومازال سارياً حتى الأن، مما سهل على الدولة وضع المواطنين لاحقا أمام حتميتين : «إما الخصخصة أو الموت جوعاً».

 

       .. وفي ظل نظام الخصخصة تم تسريح «جحافل العمال والموظفين» من المصانع والشركات والكثير من أجهزة الدولة لينضموا تحت مسمى «عمالة زائدة» إلى قطاع الخدمات بأجور متدنية جعلت سلوكهم أقرب إلى أخلاقيات البلطجية واللصوص والمحتالين والمتسولين والعاهرات في ظل انخفاض دخل الأسرة بما جعلهم يفقدون الأمن الاجتماعي والأمن الاقتصادي!!

      .. وأصبح المواطن يعاني من التوجس خوفاُ على نفسه ورزقه من تداعيات "الجريمة المتشابكة" والأمراض الاجتماعية (التسول، الدعارة، تجارة الممنوعات)، والمستويات المتدنية في الصحة والتعليم والتنمية المحلية .

  

       .. كانت  مجاهرة المواطن بمثل هذا الفكر أن: «اللي حضر العفريت يصرفه، .. وإن معرفش يصرفه .. يستحمل أذاه»؛ بما يعني أنه ليس مع الدولة في معركتها!!،  وأنه انسلخ عن سياساتها وممارستها !!،.. وأن رأيه يمثل صيحة احتجاج في المصادر المعلنة للمعلومات والأحاديث العامة لن يستمع إليها أحد؛ .. بما يحمل الكثير من التغييرات في ثقافة وأخلاق وسلوك المصريين، ويؤكد  أننا مجتمع في أزمة، وأن ممارسة أفراد هذا المجتمع لأخلاق الأزمة أنتج سلوكيات تتمثل في أن أصبح كل فرد سجينا داخل جلده ويمارس اللامبالاة والأنا مالية والتدين القشري الظاهري دون أن يكون له مردود أخلاقي في السلوك، فلا حرج من ممارسة الكذب والنفاق وتقاضي الرشوة دون إحساس بالذنب؛ فالذين يمارسون ذلك النوع من التدين هم الكذابون بمنتهى الصدق والغشاشون بمنتهى الضمير والنصابون بمنتهى الامانة والخونة بمنتهى الاخلاص والداعمون لأعداء الوطن بكل سخاء والمخربون لبلدانهم بكل وطنيه، وهم لا يدافعون عن دينهم إلا إذا تأكد لهم أنه لن يصيبهم أذى من ذلك، ويوظفون النصوص الشرعية لأغراض السياسة وخدمة رأس المال واجتلاب المنافع، ويحولون النص الديني إلى ساحة للعراك السياسي على المصالح الضيقة؛ بما لا يمنع من الغش والكذب واللصوصية والتزوير وأكل حقوق الغير بالباطل .. لا يخجلون من الكذب ولا يستحون من العيب، .. ويفصِـلون بين المعاملات والعِـبادات، لا يجدون جرحاً في عدم الاتِّـساق بين أقوالهم وأفعالهم، وقد أفادت تقارير بعض الجهات الرقابية إلى أن الفساد يشكِّـل ظاهرة وأصبح سلوكاً يومياً.. وارتفعت نِـسبة تقاضي الرّشوة بين موظّـفي الدولة ووصلت إلى 55%!! في ظل ثقافة تروج للمثل القائل : «يكرهون الحرام، ويحبوا يغمسوا في مرقته!!».. يتساوى في هذا سكان «العشوائيات»، وسكان « الكمبوندات» .

 

        .. بما يعني أن المنظومة القيمية في المجتمع المصري أصبحت قِـيَـما مادِية بما قلل من معايير الثِّـقة بين الناس، وأن منظومة العدالة الاجتماعية قد شهدت خلَـلا غير مسبوق؛ فزادت حالات الفساد والرّغبة في الكسْـب المادّي السريع، سواء من خلال تقديم الخدمات المجانية في الهيئات الحكومية بمقابل مادّي، وهو ما يُـعرف بالرّشوة التي يتم إطلاق مسمى «الإكرامية» في إطار التلاعب باللغة وتطويعها لاستيعاب السلوكيات المستحدثة بما يحقق قبول الراشي ورضا المرتشي !!

 

        .. كانت التغيرات متنوعة ومتسارعة ولا حصر لها ولا تحيط بها الأوراق والدفاتر والتقارير، .. فإذا سرت على قدميك في شوارع القاهرة لمدة ساعة ستكتشف بعض مظاهر الانحطاط الأخلاقي الذي يتمثل في غياب مفهوم «المصلحة العامة»؛ فـ 60 % تقريباً من مساحة القاهرة تقريبا تشغلها المقاهي والمطاعم، ولم تعد لأرصفة المشاة فيها وجود، والجراجات العشوائية في الشوارع التي يسيطر عليها البلطجية برعاية فاسدين من مسئولي الأحياء وأفراد من الشرطة، .. وجميع التعاملات خاضعة للجشع وقلة الذوق والمساومة، .. والمسألة تتوقف على الشطارة سواء مع بائعي السلع أو مقدمي الخدمات من أمثال مكارية العصر «سائقي التاكسي»!!.

 

     .. كان سقوط «عمارات الموت» ومخالفات البناء عنوان الحقيقة على فساد المهندسين، ولم يكن الطب والأطباء بعيدون مهاوي السقوط في دائرة الانحطاط المهني والأخلاقي والسلوكي الذي أصاب أغلب شرائح المجتمع تقريباً؛ فكانوا مثالأ للجشع المادي وصفاقة التعامل في ظل غياب قواعد المحاسبة من نقابة الأطباء في ظل اللهث وراء تحقيق مكاسب انتخابية لتكتلات مشبوهة، .. وكانت ممارسات المستشفيات الخاصة أبشع مثال للتدني والانحطاط والابتزاز بعد تأكل القطاع الصحي الحكومي وعجزه عن تقديم خدمة منتجة وفعالة في ظل سياسات فرضها صندوق النقد الدولي !!

 

        .. وكانت كل الدلائل تشير إلى أننا أمام ظواهر غريبة بعضها وافد إلينا من المذاهب التي جاءت إلينا من فجاج الصحراء ومرابط البداوة وبعضها ضارب الجذور في عمق المجتمع المصري بما يحمله بزاميط الثقافة المصرية من تراكم الحضـارات وتداخل الثقافات (كلمة «بزاbizarre « وهى كلمة فرنسية الأصل بمعنى شاذ أو غريب الأطوار أو غير متناسق أو مفتقد التجانس، وتحولت الكلمة في النطق العامي المصري إلى «بزرميط» لتدل على نفس المعنى أي تم تحريفها لتنطق «بزرميط»)

 

    .. و«ثقافة البزرميط» التي يطلق عليها البعض تأدباً سبيكة من رقائق الحضارات (الفرعونية ـ الفارسية ـ اليونانية ـ الرومانية ـ القبطية ـ الإسلامية)، والخرافات والأساطير والأباطيل، وهو ما انعكس على فكر أهل البلد وظهر في تناقض الأمثال الشعبية المصرية من النقيض إلى النقيض، والتي يفيض بعضها بالخسة والنذالة دون ضوابط مثل المثل الشعبي : (اللي تغلب به .. ألعب به)؛ ولأن الثقافة الشفهية المتوارثة بما تمتاز به من ميوعة وليونة ومرونة تجعلها تتسع لكل الإضافات والاختزالات بما يخدم المصلحية والنفعية وكذلك الأمثال الشعبية التي يعد كليهما دستوراً غير مكتوب لفكر وسلوك الشعوب؛ فإنها تعد أُطر ثقافية حاكمة لسلوك المصريين واختيارتهم ورؤاهم المتنوعة لقيم النزاهة والشرف والنخوة والمرؤة والوطنية والنفعية والمصلحية والفساد .

 

عجز علماء الاجتماع

عن إيجاد تفسير مقبول :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

      يرى عالم الاجتماع د . أحمد زيدان : « أن سلوك المصريين نتاج حالة من الجدلية بين الفقر والفساد والاستبداد السياسي، والجوانب الأكثر عمقاً في العلاقة بينهم وهى الجوانب المعنوية التي تتصل بالاجتماع والثقافة والأخلاق.»

 

           بينما يرى المفكر د. عبد الوهاب المسيري :

 

         «أن الناس عندما يدركون أن الدولة تدار لحساب نخبة، وليس لحساب أمة؛ يصبح الفرد غير قادر على التضحية من أجل الوطن، وينصرف للبحث عن مصلحته الخاصة.».

 

       .. ويرى الفقية الدستوري د. نور فرحات :

 

     «أننا يجب أن نميز في تناولنا  للأخلاق بين الأخلاق الذاتية Ethics والأخلاق الموضوعية الإجتماعية Morals الأولي تهم الفرد ذاته والثانية هي معيار لاستحسان أو استهجان المجتمع لسلوك أفراده .

 

        والأخلاق الذاتية متعلقة بسلوك الفرد في ذاته مثل حضه على عدم الكذب حتي ولو خفي كذبه عن الآخرين، ونهيه عن السرقة حتي لو نجا بالمال، واشتهاء زوجة قريبه أو جاره ، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، .. وهذه كلها وغيرها من معايير الأخلاق الذاتية، وجزاؤها في الضمير .

 

       .. وتندرج قواعد الأخلاق الإجتماعية في مجموعة من الضوابط الاجتماعية الخاصة بالملبس ..  مثل نصحه على ألا يمش في الطريق عاريا ، والأقول مثل مراعاة آداب الحوار، ومنع الظلم وكف الإيذاء، وغيرها من الأفعال والأقوال التي استهجان المجتمع أو استحسانه

 

      .. والأخلاق الذاتية مرجعيتها التوافق مع الضمير، والأخلاق الموضوعية مرجعيتها موقف المجتمع دفاعا عن مصالحه وسعيه لعدم الحاق الضرر بأفراده.

 

      .. ولا تداخل بين القانون والأخلاق الذاتية، ولا تداخل بينه وبين الأخلاق الإجتماعية إلا عندما يسبب التنكر للأخلاق أذي ظاهرا للمجتمع .القانون لا يعني بالكذب إلا إذا اكتسب شكل التزوير أو شهادة الزور، ولا يعني باختياراتك الشخصية إلا إذا ألحقت أذي ظاهرا بالمجتمع، ولا يهتم القانون كثيرا بكذب الزوج علي زوجه ولكنه ينتفض في المجتمعات السوية اذا كذب الموظف العام علي مواطنيه .

 

         .. ويعد غياب الحدود بين هذه الضوابط السلوكية تعبير عن خلل مجتمعي .تدخل المجتمع فيما هو ذاتي، وتدخل القانون فيما هو خلقي صرف، وتدخل الأفراد والجماعات في تفضيلات الآخرين يستر خلفه خللا اجتماعيا أكبر في عجز الأفراد والقانون عن حماية المصلحة الحقيقية والحرية المصونة، وهذه العلاقة بين هذه المجالات المعيارية الثلاثة أشبه بالأواني المستطرقة؛ فالقانون المستبد تتبعه قيم أخلاقية مجتمعية مشوهة وهشة، والمجتمع المتسلط أخلاقيا يؤدي لضمور الاخلاق الفردية، ونمو الوعي الأخلاقي الذاتي يقلل الحاجة للضبط القانوني والمجتمعي.».

 

       .. ويرى عالم الاقتصاد د . عبد الخالق فاروق:

 

       « أننا امام (عالم سفلي) جديد وضخم تشكل بصورة أكثر عمقاً وشمولاً منذ بداية تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي سنة 1974، وأخذ طابعة المؤسسى  Institutional منذ تولى الرئيس حسني مبارك الحكم في البلاد في نهاية سنة ١٩٨١ حينما تحلقت جماعة رجال المال حول مائدته الأسرية لتخلق بذلك أسوأ شبكة سرية للفساد والإفساد، حيث اختلط المال الحرام بالسلطة وقراراتها، ولم يكتف بذلك، بل وأنه عبر سياسات معينة وقرارات جمهورية استهدفت إفساد أفراد وجماعات ومؤسسات ليتحول الأمر خلال ثلاثين عاماً إلى إفساد مجتمع بأكمله».

 

          و يرى عالم الاجتماع د . سيد عشماوي أن ما حدث للمصريين أمر يسبق تلك التواريخ، ويتعلق بالمنعطفات التاريخية الكبري في تاريخ مصر والتي تعلقت بالكينونة والصيرورة، بالقطيعة والاستمرارية، بالتقليد والحداثة، وأبرز تلك المنعطفات التاريخية:

 

        ـ الغزو العثماني لمصر سنة 1517 

        ـ حملة بونابرت 1798

         
       ـ محمد علي وبناء مشروعة الشخصي في مصر (1805 ـ 1849)

 

    
 .. وفي الدراسة التي أجراها مركز دراسات المستقبل بجامعة القاهرة برئاسة د. أحمد عبد الله زايد بعنوان:«الأطر الثقافية الحاكمة لسلوك المصريين واختيارتهم .. دراسة لقيم النزاهة والشفافية والفساد»، بدعم من وزارة التنمية الإدارية .. تعرضت الدراسة للتغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي واجهت المجتمع المصري منذ بداية الستينيات من القرن الماضي، وأدت إلى تغير بعض القيم بشكل قد يهدد مسيرة التنمية .

 

       وحظيت الدراســة بدعــم وزير التنمية الإدارية د. أحمـد درويش، ود. ماجد عثمان رئيس مركز دعم واتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصري ود. غادة موسى مدير مركز الحوكمة بالمعهد القومي للإدارة، وجاء في نتائج الدراسة تحت محتوى «النظرة لأخلاقيات المصريين»:

 

        • يري 88,9% من المصريين أن أخلاق الناس قد تغيرت هذه الأيام، بينما يرى 13,3 % أن هذا التغيير لم يكن بالشكل الكبير، ويرفض 5,8 %  مقولة أن الناس في مصر قد تغيرت أخلاقهم بفعل عوامل كثيرة، وأن 88,4 من المصريين يرون أن هذا التغير قد سار إلى الأسوأ، بينما عبر 11,6 بأن هذا التغيير كان للأفضل.

 

    • ويرى 80,5 % من العينة أن الأزمة الاقتصادية تمثل أحد الأسباب القوية لتراجع أخلاق المصريين، ويمثل ضعف الوازع الديني السبب الثاني في تغير أخلاق المصريين بنسبة 26,3 % .

 

***

        كان الأمل بالطبع أن يمدنا علماء الاجتماع بالتفسير والتحليل المطلوب لما طرأ على أخلاق المصريين، ولكن النتيجة كانت مخيبة للأمال؛ فكل التفسيرات المطروحة مجرد مخايلات لفظية، وطنطنات لا ترقى إلى مستوى الرأي العلمي، .. ويكاد يستحيل العثور على دراسة واحدة مستفيضة عن الحراك الاجتماعي في مصر خلال الخمسين عاماً الأخيرة، وعلاقته بما طرأ من تغير على أنماط السلوك والقيم .

 

       .. ولأن علماء الاجتماع في مصر مجبرون على دعم النظام القائم، وعدم الاصطدام به أو معاداته فهم مضطرون إلى «سياسة إمساك العصا من منتصفها»؛ لأسباب تتعلق بمواقعهم الوظيفية، وما تدره عليهم من مكاسب «التمرغ في تراب الميري» من ناحية، ومن ناحية أخرى إيثار السلامة في ظل قوانين الطوارئ الممتدة منذ 40 عام وحتى الآن، بما لا يكفل للبحث العلمي حريته؛ .. فكان من الصعب عليهم الجهر بتفسير علمي لما حدث للمجتمع المصري بعيداً عن الانتقاد السياسي للنظام القائم .. وهو خط أحمر !!

 

      .. وكانت كل التفسيرات المطروحة عنما حدث للمصريين مجرد قشور سطحية تتناول بعض مظاهر المشكلة يتم تداولها في إطار حالة من الخداع و«الدجل العلمي»  في صورة معلومات عن : «الانفتاح الاقتصادي سنة 1974»، و«الهجرة إلى بلاد النفط في السبعينيات من القرن الماضي»، و«ضرب المجتمع المصري بهوس الأخونة والمد الوهابي برعاية حكومية في بداية السبعينيات»، وما تبعه من نشأة «التطرف الديني»، ورفع الجماعات الإرهابية السلاح في وجه الدولة على مدى عقدين من الزمن، .. وقد تناسى هؤلاء أن القضية أعمق من هذا .. وأبعد من ذلك بكثير من حيث جذورها الضاربة في عمق التاريخ !!؛ فقد ذكر تقي الدين المقريزي تقريراً عن الحالة الاجتماعية للمصريين في سنة 808 هـ ـ 1405 م في كتابة بعنوان :«إغاثة الأمة بكشف الغمة» عما تعرض له المصريون من المجاعة والأوبئة وأرجع المقريزي ذلك إلى «سوء تدبير الزعماء والحكام، وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد» !!

 

      وبمناسبة الأستبيانات و قياسات الرأي .. أسرد واقعة ظريفة حكاها لي د. أحمد كمال أبو المجد وزير الإعلام الأسبق عن طبيعة «الاستبيان في مصر» .. قال :

 

       «كان فريق من باحثي الإذاعة المصرية يجرون استبيان عن المواد المقدمة إذاعيا، وبصفتي الوزير نزلت من مكتبي لأتابع عمل إحدى هذه اللجان، في منطقة شبرا، وسألت أحد المواطنين :

 

       ـ أنت بتسمع إيه من الإذاعة ؟!!

 

       فقال :

 

     ـ أنا بسمع القرآن الكريم وخطابات الرئيس عبد الناصر فقط !!

  

  .. وعندما استدرت سمعت صاحبه يعاتبه ساخراً :

 

     ـ بقى أنت بتسمع القرآن الكريم وخطابات الرئيس عبد الناصر فقط ؟!!

 

     فرد الرجل :

 

   ـ يا عم إحنا نقولهم اللي هما عايزينه، ولما يمشوا .. نسمع اللي إحنا عايزينه!!»

 

***

   

      كانت إجابات المواطن على أسئلة الوزير، وحواره مع صديقه تمثل حقيقة علاقة المواطن بالدولة، وتنطوي على «عين الحكمة» التي تعلمها من «رأس الذئب الطائر»؛ فقد كان إعلام الناصرية التعبوي يطنطن بعبارات العزة والكرامة، و«ارفع رأسك يا أخي  فقد مضى عصر الذل» ..  لكن المواطن المسكين والمخدوع لم يكن ليستطيع أن يرفع رأسه من طفح المجاري ومن كرباج المخابرات ومن خوف المعتقلات ومن سيف الرقابة ومن عيون المباحث.

 

       من ذلك المنطق اديرت عمليات الاستبيان واستطلاع الرأي في مصر!!، ولأن عمليات الاستبيان مطلوبة في الرسائل العلمية وبعض الجهات وترصد لها الميزانيات الضخمة كما أنها مطلوبة إعلاميا لتبرير بعض الأحداث الصادمة اجتماعيا .. كان الكثير مما يطرحه علماء الاجتماع مجرد تصورات وتخيلات وتوهمات تندرج مسمى «التضليل» و«التلاعب بالوعي»؛ فقد اقتصرت أبحاثهم على مجرد طرح استمارة استبيان مصممة بقوالب نمطية جامدة ومكررة علي عينات عشوائية من البشر يتم تفريغها وتصنيفها إحصائيا دون افتراض صدق هؤلاء البشر، أو معايرة منهجية لما أدلوا به من بيانات؛ بما ينطوي على مخاطر تغييب البعد الإنساني الدراسات الإنسانية.

 

        .. إننا ندرك جيداً الحالة التي وصلت إليها العلوم عموماً في مصر من خلال التصنيف العلمي الدولى لجامعاتنا، والعلوم الإنسانية في مختلف تفرعاتها خصوصاً، بالنسبة لجيل جديد مستهلك للمعرفة وغير منتجة لها على الإطلاق، وأفواج جامعية تهمها مكانتها المؤسسية أكثر مما يهمها البحث والمعرفة خصوصاً في مجتمعات متخلفة ومستهلكة واجترارية للمعرفة !!

 

البعد الإنساني

وفاعلية البحث الاجتماعي :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

     

      وأصبح طرح السؤال واجباً : عما إذا كانت العلوم المسماة إنسانية، هي فعلاً إنسانية؟! .. وهو ما أصبح محل شك !!؛ لوجود مجموعة عوامل تؤثر سلباً في إنسانية العلوم الإنسانية، وهى : المنحى الأكاديمي السائد والثقافة العارمة بدقة العلوم الطبيعية وفعليتها، والتوجة نحو حصر بحوث العلوم الإنسانية في منهجيات كمّية، وبيروقراطية البحث وتراجع تعليم الإنسانيات في التعليم ما قبل الجامعي، مع طغيان الفروع العلمية؛ فعندما تتراجع إنسانية العلوم الإنسانية يطغى الفكر الاستهلاكي ويسود الإرهاب الفكري والميداني، ويفقد الناس البوصلة والمعايير، ويألفون ما يعيشونه من معاناة، وتتحول هذه العلوم إلى مجرد بحوث بيرقراطية لا علاقة لها بالحياة أو الواقع كما يغيب عنصرا التمكين والتغيير الاجتماعي، ويؤدي ذلك إلى تعميم النمطية السلوكية في المجتمع وشيوع ثقافة الاستتباع .

 

       وتنطوي مخاطر تغييب البعد الإنساني على حدوث الاغتراب الثقافي والاجتماعي وامكانية اختراق المجال الثقافي، خصوصاً المجال السياسي، وهو ما يعطي الفرصة لخبراء «تدجين الشعوب» لممارسة مهامهم عبر أساليب «التلاعب بالعقول» الذين يعرفونها جيداً عبر «مقاربة الواقع والتأثير فيه»!!

 

       .. وبدلاً من أن يقدم علماء الاجتماع تشخيصاً حقيقياً لأمراض المجتمع وعلاجاً ناجعاً لأوجاعه .. راحوا يمارسون البروباجندا دعماً للنظام القائم في محافل الإعلام ومنتديات الكلام عندما يدعون للإدلاء بدلوهم في حادثة أو قضية تشغل الرأى العام عبر خدعة التفتيت والتجزئة !!

 

خدعة التفتيت والتجزئة

Fragmentation   :       

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

      يلجأ علماء الاجتماع وخبراء الإعلام إلى عمليات معروفة في مجال التضليل و«التلاعب بالوعي» عبر التفتيت والتجزئة Fragmentation، وهو تقسيم المشكلة الكاملة إلى مقاطعها المختلفة بحث لا يستطيع القارئ أو المستمع او المشاهد أن يربطها ويدركها ككل واحد، ويتحقق هذا التقطيع أو التهشيم أو التجزئة من خلال جملة من الأساليب التقنية: تقسيم المقالات في الصحف إلى أجزاء تنشر في صفحات متعددة أو على حلقات متباعدة، أو يقطعون النص والبرامج التليفزيونية بالإعلانات أو الفواصل، وتعد الإثارة احد أشكال تقطيع المشكلة وتجزئة المعلومة كي لا يحصل الإنسان على معرفة كاملة نهائية.

 

     هو نوع من تكنيك نشر المعلومات الذي يعد تجسيدا فعليا لـ «التحكم في الوعي» والذي يطلق عليه: «التجزيئي»  ويلاحظ باولو فرير أنه :

 

      «إحدى السمات المميزة للعمل الثقافي القمعي، والتي لا يدركها المتخصصون، والمخلصون، والسذج في وقت معاً، والمشاركون في النظام الدائر، هي التأكيد على النظرة التي تحصر المشكلات في بؤر Focalized View  بدلاً من رؤيتها بوصفها أبعاد كل واحد .».

      يرى شيللر أنه:

 

      «عندما يتم تجاهل قضية اجتماعية ما عن عمد وتقدم نقاط متفرقة متعلقة بها بوصفها «معلومات»  فإن النتائج مضمونة مقدماً، وهي في أحسن الأحوال العجز عن الفهم أو الجهل وفتور الشعور واللا مبالاة بالنسبة لأغلب الناس».

 

***

 

      والحقيقة أن المصريين عاشوا منذ سقوط الحضارة المصرية القديمة على أيدي الفرس في معزل عنصري ( أبارتهيد Apartheid )، ولم يكن لهم شأن في إدارة شئون بلدهم أو فاعلية في بناء مجتمعاتهم أو اختيار مستقبل حياتهم أو مشاركة في قضية قومية تجمع بينهم يشحذون لها طاقتهم ويدافعون عنها أو وسيلة لتجميع خبراتهم الاجتماعية في ضوء مصالح مشروعة مشتركة .

 

    وتعاقب الغزاة على مصر طوال تاريخها ( فرس ـ الأغريق ـ رومان ـ عرب ـ أتراك ـ فرنسيين ـ إنجليز) لهم السلطة والإدارة وعلى المصريين الطاعة والفلاحة !! حيث كان الفلاحون يمثلون السواد الأعظم من الشعب، وكانوا موضع احتقارالغزاة في تلك العصور، وقد قال ابن خلدون عن الفلاحة « إنها معاش المستضعفين ويختص أهلها بالمذلة» .

 

أحوال القرية المصرية

في العصر المملوكي  :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    

     من حسن الطالع أن ترك لنا المؤرخون العمالقة الذي حفل بهم العصر المملوكي من سنة ١٢٥٠ ـ ١٥١٧ مؤلفات عظيمة حفظت لنا دقائق التاريخ الإنساني للعصر الذي كتبت فيه من أمثال كتابات ابن حجر في مؤلفه:«الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة»، والمقريزي في مؤلفه : «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والأثار»، وابن فضل الله العمري في مؤلفه : «مسلك الأبصار في محالك الأمصار»، وابن إياس في مؤلفه : «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، والقلقشندي في مؤلفه : «صبح الأعشا في وقائع الانشا»، والسخاوي : «التبر المسبوك في ذيل السلوك»، وأبو المحاسن ابن تغر بردي في مؤلفه : « النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة»، وابن خلكان في مؤلفه :«وفيات الأعيان»، جلال الدين السيوطي في مؤلفه : «حسن المحاضرة بأخبار مصر والقاهرة» .. وقد ساعدت تلك المؤلفات في بعض ما اشتملت عليه على فهم طبيعة «الحياة الاجتماعية» في مصر .

 

      لا يمكن فهم التاريخ الاجتماعي للقرية المصرية في عصر سلاطين المماليك دون التعرض للتركيبة السكانية؛ فالفلاحين لم يكونوا نسيجاً دينياً واجتماعياً واحداً .. وكانت مكونات تلك التركيبة :

 

1 ـ الفلاحون :

ــــــــــــــــــــــ

 

        كان السواد الأعظم من سكان القرى من الفلاحين سواء كانوا مسلمين أو قبط؛ إذا انتشر المسيحيون في قرى مصر لدرجة أن غالب سكان بعض القري في صعيد مصر كانوا من المسيحيين، واقتصرت بعض القرى على المسيحيين فقط الذين حرصوا على المحافظة على عوائدهم واستعمال اللغة القبطية الصعيدية فيما بينهم، وكان نصارى بلاد الوجة البحرى أقل عدداً من نصارى الوجة القبلي، أما اليهود في القري فقد كانوا في حكم الأقلية النادرة لأن سكنى القري يرتبط في الغالب بالعمل وبالزراعة التي تحتاج إلى عزوة، وعدد كبير من الأفراد في العائلة الواحدة، في حين كان اليهود أقلية في مصر كلها؛ فكان الصعيد الأعلى من قنا إلى أسوان لا يوجد به من اليهود سوى عشرة أفراد .

 

           كان الفلاحون ينقسمون إلى :

 

          أـ الفلاحون «القرارية» وهم الفلاحون الأصليون من أهل القرية.

        ب ـ الفلاحين الطوارئ : وهم الفلاحون النازحون من جهات أخرى مرتحلين من قراهم الأصلية إلى قرى بديلة يجدون بها متوافراً من الأراضي الزراعية فيقومون بزراعتها على أن يلتزموا بدفع الخراج المفروض عليها .

 

2 ـ العربان المستفلحون :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

       العربان المستفلحون هم العربان الذين سكنوا القرى واتخذوا الفلاحة معاشاً لهم يزرعون الأرض، ويخرجون الخراج إلى الجهات المقطعة لهم أراضيهم، واندمج هولاء العربان المستفلحون في القري مع الفلاحين، وصار أكثرهم أصحاب معايش وأهل زراعة وفلاحة وماشية وضرع، وصار منهم مشايخ قرى وقضاة وفقهاء ريف وخولة بلاد، وبالتدريج بدأ هولاء العربان المستفلحون ينسون أصلهم وبداوتهم حتى صاروا معدودين في جملة فلاحي مصر .

 

         وعلى الرغم من ذوبان العربان المستفلحون في القرى وانخراطهم في الفلاحة واكتسابهم الكثير من العادات والتقاليد من الفلاحين «القرارية»؛ فإنهم ظلوا محتفظين ببعض عاداتهم وتقاليهم القديمة كما ظلوا على احتقارهم للفلاحين الذين كانوا في نظرهم يفتقدون عرق الرجولة، وظلوا على عدم احترامهم للسلطة وعدم الخضوع للنظام بالإضافة إلى عدائهم القديم للمماليك؛ فكانوا دائمي الخروج عليهم والامتناع عن دفع الخراج؛ مما استلزم إرسال الحملات لتأديبهم وقمعهم وردهم إلى حظيرة الطاعة، وكان أن أصدر السلطان صالح ابن محمد ابن قلاوون أن يُنادى في القرى بأن :

 

    « فلاحاً لا يركب فرساً، ولا يشتري سلاحاً، ولا سيفا، ولا رمحا».

 

المماليك :

ــــــــــــــــ

 

      المماليك هم الرقيق الذي اعتمد عليهم حكام الشرق الأدنى الإسلامي في صراعهم مع بعضهم البعض في ظل الفوضى التي اندلعت بعد وفاة السلطان الناصر صلاح الدين ، وكان أولئك الحكام يشترون المماليك من أسواق النخاسة صغاراً في سن الطقولة، وينشئونهم تنشة عسكرية سياسية خاصة ليكونوا عدتهم في الصراع المرتقب، وقد استولى المماليك على الحكم بعد وفاة السطان نجم الدين أيوب سنة 1249م .

 

       كان المماليك من عناصر مختلفة من الأتراك والمغول والصقالبة والأسبان والألمان والجراكسة .

 

        كان المماليك يشكلون نوعاً من (الإقطاع العسكري)؛ وكانوا جزءاً بسيطا من تكوين القرية بسبب قلة أعدداهم أو لخروجهم الدائم للقتال، .. كانت علاقة المقطع بالأرض لم تكن علاقة ود، ولم يكن يسمح للأمراء المماليك بالإقامة في إقطاعاتهم، كما أنهم أنفسهم لم يحبذوا هذا .. أما بالنسبة للماليك من الأجناد فكانوا يقيمون في وأوقات السلم في اقطاعاتهم لمباشرة الإدارة فيها وربما اضطروا إلى العمل بأيدهم في الحقول في بعض الحالات، ولم يكن السلاطين يعارضون ذلك شريطة أن يحضروا إلى القاهرة وقت الحاجة إليهم سواء للعرض العسكري أو للخروج في حملات حربية لقتال الأعداء أو إخماد فتنة أو تحصيل الخراج !!

 

        . . ووجد في القرى العبيد الذي وجدوا للخدمة والجواري اللائي وجدن للتسرية عند تجار الريف وعلماء الدين من المشايخ والفقهاء والقضاة.      

 

***

 

     كان طعام اهل القرى اليومي يتألف من المش والبصل والجبن القريش وخبز الذرة أو عيش الشعير، وكانت المطبوخات تتألف من أنواع محدودة تطهى جميعها بطريقة واحدة وكانت من الكشك والبسارة والبليلة والعدس أبو جبة والفول المدمس والملوخية والبامية والخبيزة والقلقاس، وكانت الحلوى مقصورة على الأرز باللبن أوالعصيدة أوالمفروكة أو المخروطة أوالنيدة!!

 

       .. وكان الفلاحون يقضون أوقات العمل في الحقل وليس عليهم ما يستر أجسادهم سوى أثمال بالية رثة ولبدة مشرمطة و أو خرقة مرقعة أومقطعة وفي غير أوقات العمل يلبسون الأردية التي كانت تصنع من الكتان ويلبسون فوقها الزمط وهو يشبة المعطف الطويل المسدود من الأمام ومتصل بطاقية تغطي الرأس، وكثيراً ما كان الفلاحون يرتدون فوق رداء الكتان عباءة سوداء من الصوف تسمى الجبة أو القباء وهي تشبة الزمط مع المبالغة في اتساع الأكمام، وكانوا يلبسون فوق رءوسهم « القحف» أو «الطرطور» أو «اللبدة» أو «القايف» ويغطونه بـ «الكر» وهو شال من الكتان، وكان الفلاحون يقضون أغلب أوقاتهم حفاة إلا أن بعضهم كانوا يرتدون في أقدامهم «الحدوة» وهو حذاء يصنع من الجلد وله سيور تغطي القدم من أعلى وهو أشبة بالصندل الفرعوني أو يلبسون أنواع أخرى من الأحذية تسمى بـ «الوطا» أو«المركوب» أو «البلغة» أو«الزربون» .. أما النساء فكن يرتدين القمصان القطنية وفوقها جبة من الصوف تشبة جبة الرجل وكن حليهن من الأطواق الفضية والدلات والأقراط والخلاخيل.

 

     كانت مساكن القري مبنية من الطين وتحتوي على زريبة للماشية وغرفة أو اثنين تسمى «قاعة» وفرن للخبيز و «كانون للطهي» وأثاث المنزل مكون من حصيرة وبعض الوسائد المحشوة بالتبن أو الليف ورحا وقفة وبعض الأدوات الفخارية مثل الزلعة والمترد والمحلبة والشالية والبرام وبعض أواني الطهى.*(1)

 

       كانت معاناة المصريين في القرى والحضر تفوق طاقة الاحتمال في العصر المملوكي؛ فقد شهد العصر المملوكي 61 مجاعة ووباء ما بين سنة ٦٦٢ـ 919 هـ ( ١٢٢٥  ـ 1513م ) في كل من عصر المماليك البحرية والمماليك الجراكسة .

 

        كانت المجاعات كثيرة ومترادفة بحيث لا  يمكن أن نتتبع كل منها على حدة، ولكنها جميعاً تشترك في كونها تحالفت مع ظلم الحاكمين وعبث العربان واللصوص والمماليك المفسدين لطحن جموع المصريين؛ فقد عاشت في مصر آنذاك طائفة كبيرة من سواد المصريين لا يكادون أن يحصلوا على قوت يومهم أو يجدون ما يستر أجسادهم فضلاً عن جماهير الفلاحين التي كانت حياتهم في عصر سلاطين المماليك تجسيداُ لمأساة تتضافر عليه كوارث الطبيعة، وظلم الحكام، وكان طبيعياً أن تبدو الحياة في نظر عامة المصريين مستحيلة وكريهة بسبب عوامل الإحباط المتحكمة في حياتهم اليومية .

        ولم يكن الناس يملكون إزاء تلك الكوارث ونوازلها سوى الاستسلام والتضرع إلى الله لكي يرفع عنهم الوباء والبلاء، ولم تعرف تلك الفترة ما نعرفه من إجراءات وقائية وعلاجية مثل عزل المصابين والحجر الصحي وإغلاق المناطق الموبوءة وغير ذلك من وسائل العصر الحديث لمقاومة الأوبئة .

 

       وفي غالب الأحوال كان الناس يفسرون هذه الكوارث تفسيراً دينياً وأخلاقياً خالصاً؛ فيرجعون أسبابها إلى غضب الله من جراء فساد الأخلاق وانتشار الفسق والفجور وسيادة الظلم وهنا يلجأ الناس ـ حكاماً ومحكومين ـ إلى الدين يتسربلون بردائه، ويكثر إقبالهم على العبادة .*(2)

 

مصر المحروسة

في العصر المملوكي :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

     

       تشكل مجتمع أهل المحروسة من أهل الدولة من المماليك، وأهل اليسار من التجار ومتوسطو الحال من الباعة والسوقة والفقهاء وطلاب العلم وأرباب الصنائع والمهن وذوي الحاجة والمسكنة والمعدمون المغلوبون على أمرهم من البلاصية والزعران والحرافيش والجعيدة والمشاعلية الذين كونوا العصابات

التي كانت تفزع الدولة وتقلق راحة الشعب .

 

      .. وكانت الدعارة من المهن التي تحظي برعاية الدولة المملوكية لأنها تفرض عليها ضريبة معينة تدر دخلاً للخزانة السلطانية؛ فقد كان على من ترغب في احتراف الدعارة أن تذهب إلى «ضامنة المغاني» التي كانت بمثابة النقيب لمن يحترفن الدعارة .

 

      قاسى أهل المحروسة الكثير مثل غيرهم من أهل مصر فكانت المجاعات الكثيرة التي سرعان ما تجر الوباء وراءها؛ ففي وقت المجاعة يموت الألاف من الناس؛ فتلقى جثثهم في الطرقات أوعلى صفحة النهر، وتأخذ الكلاب تنهش جثث الضحايا على حين يطاردها الأحياء لكي يأكلوها، ولا يجد الموتى من الغرباء من يدفنهم لاشتغال الأصحاء بدفن موتاهم والسقماء بأمراضهم !!  

 

        وبدأت عوامل الضعف تدب في جسد الدولة؛ فانهارت الزراعة، وتفسخ النظام الإقطاعي العسكري الذي تمت صياغة الدولة على أساسه، وتزايد معدل الضرائب بالشكل الذي أدى إلى تدهور الحرف والصناعات وخراب الأسواق وضمور التجارة وانهيار العملة، وكثرت مصادرة أموال الأغنياء، والتغول على أموال الأوقاف الأهلية، وصارت السلطنة عبء يهرب منه الجميع .

   .. وانتهت السلطنة بجثة طومان باي معلقة على باب زويلة وسط شماتة المصريين الذين أرهقتهم الضرائب والمظالم !!

 

مصر العثمانية :

ـــــــــــــــــــــــــ

 

     زادت معاناة مصر خلال الحكم العثماني بسبب عدم إعطائهم الاهتمام الكافي خاصة في مجال الصحة مما تسبب في انتشار أمراض عدة من قبيل الرمد والجدري والاستسقاء، فضلاً عن العديد من الأوبئة الفتاكة التي حصدت أرواح الآلاف.

 

      من بين هذه الأوبئة وباء الطاعون أو (الفناء الكبير) أو (الموت الأسود Black Death)، الذي ضرب القاهرة عام 1791،

 

       وبلغ عدد ضحاياه في اليوم الواحد ما بين 1500 و2000 حالة وفاة، حيث استطاع أن يفتك بثلث سكان القاهرة، وتسبب بازدحام الناس على الحوانيت في طلب المغسلين والحمالين، حتى أنهم كانوا يقفون طابورًا في انتظار المغسل أو المغسلة، ولم يعد لديهم شاغل إلا الموت وأسبابه؛ فالفرد في تلك الفترة إما مريض أو ميت أو معز أو راجع من العزاء ومراسم الدفن أو مشغول بتجهيز ميت .

    ضرب الطاعون مصر في العصر العثماني، واستمر تفشي المرض على نحو متقطع حتى وقت متقدم من القرن التاسع عشرـ وكشفت دراسة حديثة أن فيضان نهر النيل السنوي كان يجبر مستعمرات القوارض الناقبة ـ وبعضها مصاب بالطاعون ـ على الخروج مما جعلها في مماس مع البشر في بحثها عن غذاء*(3)، (4)

 

أسطورة شيخ

العرب همام :

ــــــــــــــــــــــ

 

       عاش شيخ العرب همام ابن يوسف في أوائل القرن الثامن عشر، وكان شيخ قبيلة الهوارة التي نزلت إلى صعيد مصر في سنة ١٣٨٠م  قادمة من المغرب، .. وفي صعيد مصر أمسكت بأسباب السطوة والنفوذ والثروة باستصلاح الأراضي وفلاحتها؛ فصارت من أقوى قبائل الصعيد بأسا وقوة وثروة وأكثرها استقراراً، ولم يكن همام سوى أحد المنتمين لـ «العربان المستفلحون» .

 

        ..  وترجع أهمية شيخ العرب همام إلى علاقاته بالهيئة الحاكمة في القاهرة، ونفوذه المستمد من سلطته كملتزم لمعظم أراضي الصعيد من المنيا إلى أسوان في ظل السيادة العثمانية إضافة إلى ما كان يستند علية من عصبية قبلية .

 

         وبرغم ما وصل إليه همام من سلطة ونفوذ وسيطرة على الصعيد فإن ذلك لا يدعو إلى المبالغات التي أحاطت به، وأنه فصل الصعيد عن الوجة البحري، واستقل به وأقام دولة منفصلة استمرت من ١٧٦٥ ـ ١٧٦٩ م  (١١٧٩ ـ ١١٨٣ هـ)؛ فدفاتر الالتزام بدار المحفوظات المصرية بالقلعة تؤكد أن همام في هذه الفترة كان يؤدي إليها بانتظام ضرائب الأرض التي أخذها بالإلتزام*(5)، وهذا لا ينفي وجود بعض التوترات بين همام والسلطة المركزية في الفترة من 1728 ـ 1773 م في إطار بعض حلقات الصراع الدائم والمستمر عبر تاريخ مصر بين السلطة المركزية فى القاهرة والقوى المحلية المختلفة سواء فى صعيد مصر أو على أطراف الدلتا.

 

      مات شيخ العرب همام، وجاء في أعقاب موته الغزو الفرنسي لمصر عام 1798، وقام بعض الرحالة الفرنسيين بزيارة الصعيد وسماع حكايته، وهم الذين صنعوا أكذوبة شيخ العرب همام ومشروعه للإستقلال الوطني وتأسيس جمهورية وذلك في إطار تبرير خيانة المعلم يعقوب ابن حنا، وتصويره في صورة المناضلين من أجل الاستقلال الوطني، وأنه صاحب مشروع وطني سبقه إليه شيخ العرب همام !!

     

       وجاء من بعدهم رفاعة رافع الطهطاوى فقال في كتابه الشهير بعنوان : «تخليص الإبريز في تلخيص باريس»:

 

       «.. ولكن لما كانت الرعية لا تصلح أن تكون حاكمة ومحكومة وجب أن توكل عنها من تختاره منها للحكم، وهذا ما حصل في زمن حكم الهمّامية فكانت الصعيد جمهورية التزامية».* (6)

 

       .. وفي إطار التضليل الاستشراقي الذي يمارسه المشارقة بالتبعية Affiliation، ونفي الخيانة عن المعلم يعقوب ابن حنا جاء كلام د. لويس عوض أيضا حول (جمهورية همام)، حيث أسهب لويس عوض فى وصف حركة التمرد، التى قام بها همام ضد السلطة المركزية فى القاهرة فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر بأنها كانت (جمهورية)، وأضاف لويس عوض فى كتابه الشهير بعنوان : «تاريخ الفكر المصرى الحديث» .. أن همام أصبح له إمارة تشتمل على الصعيد كله، وأصبح هو يُلقب بأمير الصعيد مثلما كان يُلقب الأمراء المماليك.

 

         وقد ذهب د.عوض أيضا إلى أن الجبرتي وصف همام بصفة الملكية حين لقبه : «بالأمير شرف الدين»؛ وقد فات على د. عوض أن لقب الأمير لم يستخدم للدلالة على الإدارة أو الملكية في العصر العثماني المملوكي الذي عاش فيه همام وانما استخدم بهذا المعني في عصر سابق له وهو العصر الفاطمي، وأن الجبرتي حينما لقبه بهذا اللقب إنما كان يقصد التفخيم فقط*(7) .

 

     حكاية شيخ العرب همام وضعتها في سياقها الصحيح وثوبها الحقيقي د. زينب أبو المجد عندما وصفتها بأنها : «أمبراطوية متخيلة» للملتزم الأوحد في صعيد مصر!!

    .. ففي عام 1785م ، رفع مسئول بارز في الدولة العثمانية تقريرًا مُزْعِجًا للسلطان في إسطنبول .. حمل التقرير حقائق مقلقة عن مصر - الجوهرة المضيئة في عرش السلطنة آنذاك - التي لم تكن ولاية موحدة خاضعة لسلطة الباب العالي، بل بلد منقسم لولايتين، إحداهما في القاهرة حيث يقيم الباشا الذي يرسله السلطان، والثانية تتمتع بحكم ذاتي في الصعيد٬ الذي لم يتيسر للسلطنة قط السبيل لغزوه والاستيلاء عليه.

 

      قدّم التقرير وصفًا مبتسرًا للنظام الذي يقبض على زمام الأمور في تلك الولاية، وفقًا لكاتبه أحمد باشا الجزار: أن هناك قبيلة عربية تحكم الصعيد. ومع أن تلك القبيلة تلتزم بدفع الخراج السنوي للسلطان؛ إلا أن نفوذ الوالي العثماني في قلعة القاهرة المحروسة يكاد يكون معدومًا عليها وعلى إقليم الصعيد*(8).

 

        أشار التقرير كذلك إلى هذا القائد الأسطوري الحاكم الآمر في هذه الولاية، باسم قبيلته الهَوَّارة، وقدم الجزار وصفًا لـ «إقليم شيخ العرب همام في إقليم الصعيد وما تحت يده من القرى الكثيرة وإيراداتها الوفيرة». وذكر تفصيلا: «تحت إمرته بشكل ثابت ودائم أربعة آلاف مقاتل يسيطر بهم على معظم قرى الصعيد ويلتزم بها بشكل وراثي أبا عن جد،.. وهم لا يحضرون إلى القاهرة بتاتا، ولا يغادرون إقليم الصعيد ويؤدون ما هو مطلوب منهم من الأموال والغلال المقررة على القرى الواقعة في دائرة التزامهم، ولا يعترضون على جمع الضرائب، فهم يقومون بأنفسهم سنويا بتعيين وإرسال عشرين كاشفا إلى المدن والقرى الواقعة دائرة التزامهم ليجمعوا حوالي ما يزيد عن الألف كيسة كإيرادات سنوية،.. ويقع تحت سيطرة شيخ العرب همام ميناء  القصير».

 

هز القحوف في شرح

 قصـيد أبي شـادوف :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

             في كتابة بعنوان : «هز القحوف في شرح قصيد أبي شادوف»*(9)،(10)  ينعت الشيخ يوسف الشربيتي الفلاحين بشتى أنواع النقائص والمذمات إذا يقول:

 

« أهل الفلاحة لا تكرمهم أبدا     ***  فإن إكرامهم في عقبة ندم

يبدو الصياح بلا ضرب ولا ألم *** سود الوجوه إذا لم يظلموا ظلموا»

    وفي موضع  آخر يقول :

 

«لا تسكن الأرياف إن رمت العلا *** إن المذلة في القرى ميراث

تسبيحهم هات العلف حط الكلف *** علق لثورك جاءك المحراث»

 

    .. وعن قسوة وغلظة الفلاحين وخشونة طباعهم، يقول : «أنهم لا يوقرون كبيراً ولا يرحمون صغيراً .. الرحمة فيهم قليلة والرأفة متروكة ذليلة»،.. يقول على لسان أحدهم :

 

«شحطط صحيبك ورخه ألف فرقلة *** واكويه بالنار حتى يلتقي علة

حتى يلين ويبقى قرص من جلة *** قوم اطعمة عدس وبسار وبسلة»

   

  .. ويقول في موضع أخر :

إن اللطـــافة لم تزل *** بين الأكــابر فاشية

فهل رأيتم في الورى ** قحفا رقيق الحاشية ؟!

 

        ومن أبيات الغزل في المحبوبة الريفية يقول :

 

«هباب فرن ابن عمي كيف كحيلاتك *** حبل طور ابن خالي كيف دلاتك

يا من عجنتي قلبي في وحلاتك *** ياريتني قــــرص جلــــة بين ادياتك»

 

      .. وتشبيه كحل الحبيبة بهباب الفرن ابن العم يبين منتهى العشق لأن النسوة في الأرياف في ذلك الوقت تهوى الأفران لأجل تدميس الفول وطبيخ البيسار وتقمير البتاو وتنفيض الثياب من القمل، وكذلك تشبية مدلاتها بحبل ثور ابن الخال، والدلات سلاسل من فضة تعلق على الأصداغ وترخى على الصدور ويجعل في أخرها من فضة وبرق !!

 

         وعن هباب كحل الحبيبة قال في موضع أخر :

 

لقد هبهبت لما رأتني كلابها *** فقلت مجيباً قد علاني هبابها

   

      وعن حياة أهل القري في بؤسهم ومعيشتهم اليومية التي تفتقد لأبسط مقومات الأدمية يرصد عدم وجود مراحيض بقوله: «أن عوراتهم على الفساق مكشوفة وثيابهم بالنجاسة محفوفة» .. و يقول:

 

«سألت بني الأرياف ما لبيوتكم *** مراحيض قالوا لا مراحيض للقوم

فقلت ماذا تصنعوا في نسائكم *** فقالوا جميعا نحن نخرا عل الكوم »

    

     .. وتظهر قصيدة أبي شادوف قسوة الحكم العثماني على الفلاح في جباية الملتزم لجباية الضرائب وعنف الكاشف وإلزام الفلاح بتقديم الطعام لهم والعلف لركائبهم والتكليف بالعونة «السخرة» بدون أجر:

 

«ولا ضــرني إلا إن عمي محيلبة ***  يوم تجي الوجــبة علي يحيف

ومن نزلة الكُشّـَاف شابت عوارضي*** وصار لقلبي لوعــة ورجيف

يوم يجي الديوان تبطل مفاصـيلي *** وأهُرُّ على روحـي من التخــويف

ويا دوب عمري في الخراج وهمه*** تقضى ولا لي في الحصاد سعيف

ويوم تجي العونة على الناس في البلد ***  تخبيني في الفرن أم وطيف»

 

      .. وقدم الشيخ الشربيني بعضا لما مر عليه من شعر الأرياف الذي ذكر أنه : «موصوف بكثافة اللفظ بلا خلاف .. ومشابه قي رصة لطين الجوالس» .. الذي جرى ذكره في بعض المجالس «قصيد أبو شادوف» المحاكي لبعر الخروف أو طين الجروف؛ فقال أنه: «وجده قصيداً ياله من قصيد كأنه عمل من حديد أو رص من قحوف الجريد»، وأضاف : «فالتمس مني من لا تسعني مخالفته ولا يمكنني إلا طاعته أن أضع عليه شرحاً كريش الفراخ أو غبار العفاش وزوابع السباخ يحل ألفاظه السخيمة، ويبين معانيه الذميمة، ويكشف القناع عن وجه لغاته الفشروية ومصادره الفشكلية ومعانيه الركيكة ومبانيه الكيكه ومقاصده العبيطة وألفاظه الحويطة وأن أتمه بحكايات غريبة ومسائل هبالية عجيبه، وأن أتحفه بشرح لغات الأرياف التي هي في معنى ضراط النمل بلا خلاف، وأشعارهم المغترفة من بحر التخابيط واشتقاق بعض كلماتها التي هي في الصفات تشبه الشراميط».

 

     .. قدم الشيخ الشربيني صورة مؤلمة لأوضاع الريف في عصره بأدق تفاصيلها التي أمتدت إلى تفاصيل ما يحدث بين المرأة وزوجها في فراش العشق .. بلغة انفعالية بمضمون فكاهي وأسلوب ساخر سهل يخلو في مواضع كثيرة من آداب السرد، لكننا نؤكد على أهمية تلك الوثيقة التي لم نستطيع أن نعرف شيئاً عن شخص كاتبها بما يفيدنا كثيرا،ً ويجيب على أسئلتنا : لماذ هذه الوثيقة ؟!! .. وتحت أي ظرف كتبت ؟!!، ومع ذلك لا بأس بغض النظر عن بذاءة اللغة وإسفاف القول فهي وثيقة لها أهميتها عندما تدعمها وثائق أخرى في رسم صورة للتاريخ الاجتماعي للمصريين في الوقت الذي كتبت فيه، والذي يرجح الباحثون أنها كتبت في سنة 1098 هـ ـ 1686 م في عصر الدولة العثمانية، . . بينما يرى همفري ديفيز أنه كتب في حدود سنة 1660م .

 

       بدأ الشيخ الشربيني القصيد بقوله :

 

«قال الفقير يوسف بن خضر * لله حمدي دائما وشكري

ثم الصــــلاة والسـلام أبدا * على رسوله الكريم أحمدا

كـــذالك كـل آله وصحبه  * ومن قفـاه بعدهم من حزبه

وبعـد إني ناظم أرجوزة * لطيفــــة مفـــيدة وجــــــيزة

تخبر عن حال ذوي الرزالة * كذا عوام الريف لا محالة»

 

     .. وأنهى الشيخ الشربيني قصيده بقوله :

 

«تم كتاب الهلس والتخريف *** وما جرى في وصف أهل الريف

جعلته جزأين باختصار *** فجاء كالزبلة في التيار

لكنه مع تقل المعاني ***  وخبط عشوا يا ذوي العرفان

ولفظه الكثيف  في المقال *** وحشوه مسائل الهبال

ولفظة جاء كما الحس في الخرا *** يا وجه الأصحاب حقيق لا مرا

فليس يخلو جمعه من فائدة *** من نكتة أو قصة مشاهدة

وأصل ما ألجأني لفعله *** وشرحه ونسخه ونقله

العارف الحبر وحيد الدهر *** وعالم الإسلام زاكي الفخر

شيخ إمام مصدر الطلاب *** وروضة العلوم والآداب

ومعدن الجود مع المطلوب *** أعني الإمام أحمد السندوبي

والله يرحم من قرأ كتابي *** هذا ويرشده إلى الصواب

ومن رأى فيه عيوبا وخلل *** وسدها فالشخص معدن الزلل

ولا تلمنى فالسماح أفضل *** وأعذر أخاك مكرها يا بطل

والحمد لله على التمام *** ثم صلاة الله مع سلام

على النبي الهاشمي أحمد *** والآل والأصحاب أنجم الهدى

ما غردت ساجعة الأطيار *** أو لاح برق في دجا الأسحار»

 

***

 

تعظيم حالة «الانقسام المجتمعي» :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

           .. ما جاء في قصيد الشيخ الشربيني يندرج تحت نمط : (تعظيم حالة «الانقسام المجتمعي») ، وإثارة نوازع الفرقة بين أفراد المجتمع الواحد بتحقير السواد الأعظم من أهل البلد من الفلاحين واستخدام أسلوب الفكاهة كأسلوب جاذب يبعث السخرية والألفة لكنه يؤدي غايته في تغذية الانقسامات السطحية أو الأفقية وتعميق الانقسامات الرأسية أو العمودية في المجتمع .

 

      والانقسامات السطحية مكتسبة واختيارية ووفق المستجدات وأطوار المجتمع والدولة بما فيها من الفقر والغنى .. التعلم والتخلف، والانقسامات الرأسية أو العمودية هي انقسامات موروثة لا خيار لنا بها لكونها عميقة وضاربة في جذور المجتمع ومكوناته وتاريخه، وهي الانقسامات التي تحدث على أساس الهويات الفرعية التي ورثها الناس من آبائهم، ولا إرادة لهم فيها كالطائفة والعرق والدين والمذهب.

 

      كان قصيد الشيخ الشربيني يصب في مصلحة «التتريك» أي صياغة مصر التركية تحت «الخلافة العثمانية» في ظل كراهية المصريين لذلك، وصراخهم بالصوت العالي :

 

« يارب يا متجلي : إهلك العثمانلي.».

     

     .. كان الشيخ الشربيني يدبج قصيده وينمق شروحه، وهو يعرف أنه يكتب عن إناس أميون لا يقرأون، وإذا قُرأ لهم لا يفهمون .. بما يعني أن الهدف من القصيد هو الاحتقار والتسفيه والتنقيص بغرض إعطاء الغازي وثيقة تعطيه الذريعة لإطلاق يده فيما يفعل !!

     

      .. في الوقت الذي أرتأي بعض المصريين في الزواج من الجواري الأتراك شرفاً لا يعدله شرف، مثلما فعل بعض «المصريين المتأوربين» بالزواج من الفرنسيات في زمن الاحتلال الفرنسى، والزواج من إنجليزيات في زمن الاحتلال البريطاني، .. و«الأمركة» في عصرنا الحالي، وكان ثمن هذا الشرف هو التحقير والقدح والذم في بني جلدتهم  .. وكان هؤلاء الذين «تتركوا» يقلدون العثمانيين الغزاة في لغتهم العربية الركيكة فيقول أحدهم: «إنتي يا راجل»، أو «خرسيس .. أدب سيس» أو «أبعدي شو يا راجل .. هفا .. هفا» أو «يوك» !!، ومع الاحتلال الإنجليزي لمصر أنعسكت هذه الظاهرة وظهرت فئة «الأتراك المتمصرين»  .

 

        وكان هؤلاء يشكلون مكون رئيسي لثقافة لـ «كولونياليزم» :

 

      «الخطير في هذا الأمر أن «ثقافة الكونياليزم» قد ذابت في الثقافة الوطنية، والفكر الوطني وأصبحت من أهم مراجع كتاباته ودراساته عبر شخوص من أمثال الشيخ يوسف الشربيني؛ فلم يكلف أحد نفسه بعد الاستقلال الوطني القيام بالمهمة التي قام بها نهرو ورفيقه في الكفاح أبو الكلام أزاد بكتابة التاريخ الصحيح للهند، وتخطي القوالب الجاهزة لـ «ثقافة الكولونيالزم»، وفضح الأكاذيب التي تم الترويج لها على مدى عقود .. ولم يكلف أحد نفسه في ظل الاحتلال إحياء «ثقافة المقاومة» مثلما فعل اليابانيون؛ فقد أعطى اليابانيون النظام السياسي الذي نشأ في اليابان متعاونا مع الأمريكان بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية اسم «كوزو أوشوكو»، وتعني «الفساد البنيوي» في احتقار شديد للنظام والمتعاونين معه من العملاء Comprador‏ الذين سرعان ما يتحالفوا مع الاحتلال ورأس المال الأجنبي تحقيقا لمصالحهم والاستيلاء على السوق الوطنية».

 

 .. وهؤلاء الذين قصدهم الشاعر بقوله :

 

كلابٌ للأجانبِ همْ ولكنْ . . . . على أبناءِ جلدتهمْ أسودُ

       

        .. ولأن «تطويع الإرادات» لإرادة الغازي والمحتل ومغتصب السلطة والحاكم المتغلب بالشوكة .. حرب سرية ويتوقف نجاحها على عدم السماح بقيام مقاومة منظمة في مواجهتها، وعدم السماح للجماهير بمعرفة مذاهب المتلاعب بوعيهم وتقنياته، ويتم بذلك تعظيم حالة «الانقسام المجتمعي» وتقسيم الجماهير إلى: «أولئك الذين معنا»، و «أولئك الذين ليسوا معنا» .. وتقديم المكافآت السخية لـ «أولئك الذين معنا»، ومقاطعة «أولئك الذين ليسوا معنا» .. أما أصوات الذين يشعرون بالنفور فيتم إغرق أصواتهم بضجيج الدهماء من خلال الاتهام بالتخوين والعمالة، أو على الأقل يتم وصفهم بـ «القلة المندسة» أو «القلة الحاقدة».

 

    أما الأشخاص الذين يقفون في منطقة الحياد، فيجب إغراقهم في الضجيج، بحيث لا يحظى الإنسان بفواصل كافية من الصمت؛ كى يركز ويكمل عملية التفكير حتى النهاية بالمعنى المترابط، وقد برزت في الغرب المعاصر ظاهرة عرفت بـ «ديمقراطية الضجيج»، وهؤلاء عادة ليس لهم أي تأثير في الواقع ولا يتم استدعاؤهم سوى لإظهار التأييد للوضع القائم فقط؛ لينصرفوا بعد ذلك إلى البقع المعتمة دون الحصول على شيء!!.

 

    يدخل تحت ما يسمى بـ «ديمقراطية الضجيج» إغراق الخبر الذي يستحيل تجنبه في تيار عشوائي من المعلومات الخالية من أي معنى والمبتذلة يقول شيللر:

 

   « كما تعيق الدعاية التركيز وتحرم المعلومة المقطوعة الصلة بالاتزان، فإن تقنية معالجة المعلومة الجديدة تسمح بملء الأثير بتيارات من المعلومات غير الضرورية، التي تعقِّد على الفرد أكثر عملية البحث اليائسة عن المعنى .».

 

التقسيم الأوربي

لتاريخ مصــــر :

ــــــــــــــــــــــــ

 

        بعد انتهاء حروب الإفرنج توقف البحث التاريخي في العالم العربي بفعل الركود الثقافي الذي أحاط بكافة جوانب الحياة العربية حتى القرن التاسع عشر على أقل تقدير، وعندما بدأت محاولات النهوض الثقافي والفكري من جديد كان لابد للرواد أن يتأثروا بالفكر والثقافة في أوربا، ولم تنج الدراسة التاريخية من تأثير الانبهار الذي جعل الكثير ممن تصدوا لكتابة التاريخ أتباعاً لهذه المدرسة، وفي خضم هذا الانبهار تمت ترجمة بعض المصطلحات واستعيرت تقسيمات التاريخ الأوربية، كما سادت الرؤية الاستشراقية !!

 

  .. وعندما نشأت الجامعة المصرية استمر الباحثون الذين لم تكن قدمهم قد ترسخت في البحث العلمي في هذا النهج الخاطئ الذي مازال مستمراً إلى يومنا هذا، وساد هذا المنهج في الكتب المدرسية التي تناولت تاريخ العالم الحديث على وصف القرون التلاثة من سنة ١٥٠٠ وحتى سنة ١٨٠٠ على انها فترة نشاط لنشوء ما يسمى بالعالم الحديث، ومن ناحية أخرى وصف هذا العصر بأنه عصر التمهيد للهيمنة الأوربية على العالم .

 

الروايات الاستعمارية

عن تاريخ مصــــــر :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

    

        .. واستقرت هذه الرواية وصارت الطريقة المألوفة لفهم الفترة مابين ١٥٠٠ و١٨٠٠، وبالطبع كان متنها وشروحها أوربية  المصدر وتهمل وتتجاهل معظم العالم خارج أوربا، وهو ما يلخصها المؤرخ البريطاني هوج تريفور ـ رابر Roper -Hugh travor منذ ٤٠ سنة في مقولة :

 

     «إن تاريخ العالم في القرون الخمسة الماضية بقدر ما له قيمة هو تاريخ أوربي وأعتقد أننا لسنا بحاجة للإعتذار إذا كانت دراستنا للتاريخ تتمحور حول المركزية الأوربية»

 

     كان ينظر إلى العالم غير الأوربي على أنه خارج التاريخ بشكل ما، وبأنه كان في حالة ركود وخمول حتى حانت تلاقية مع الغرب، ولا يزال لهذا المنهج مكانته في الدوائر الأكاديمية، ولا يزال هو المهيمن على هذا النوع من الدراسات واتفق المؤرخون والمفكرون على هذا الفهم لتاريخ العالم غير الأوربي وفي هذا الإطار اعتبرت تواريخ العالم القديم الأخرى من العالم فيما قبل القرن التاسع عشر، على أنها تواريخ الانحدار، وعندما تُذكر الحضارات الكبرى في سجل العالم الحديث أو ما قبل الحديث مثل الحضارة الصينية أو الإسلامية أو الهندية يرد ذكرها كأقاليم الانحطاط، والتي ينعدم لها أى دور فاعل في التاريخ أو مشارك في صناعته وفتح التاريخ صفحاته لهذه المناطق غير الأوربية في التاريخ فقط عندما اتبعت النموذج الأوربي، وهذا يعني أن شرط دخول تاريخ العالم الحديث هو أن تصبح أوربياً، وبعبارة أخرى تاريخ العالم الحديث هو تاريخ الغرب، وتاريخ كيفية تعلم الشعوب الأخرى من الأوربيين أو تقليدهم للأوربيين .

 

     

منهج  الانتشارية

Diffusion Approach :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

          المشترك في هذه الدراسات والكتابات هو منهج الإنتشارية Diffusion Approach، وهو منهج نشأ وتطور في علم الاجتماع لدراسة المجتمع والثقافة، ويقوم هذا المنهج على اعتبار أن الثقافة لها مركز وحيد تنتشر منه إلى بقية أنحاء العالم أو المجتمع وهذا المنهج يعتبر أن للثقافة مركزا وحيداً هو أوربا، ومنه تنتقل إلى أقاليم أخرى بدرجات متفاوتة من النجاح وتعزز هذا المنهج مع تطور الأمبريالية وبخاصة في طورها الأخير في القرن التاسع عشر وفي إطار هذا المنهج كانت دراسة الدولة العثمانية تعنون بقرنين أو ثلاثة من التخلف.

 

         وتبعاً لهذا النهج كُتب تاريخ البلاد التي كانت مستعمرة بطريقة توضح مدى التخلف والانحدار التي وصلت إليه قبل عصر الاستعمار الأوربي مباشرة واستمر هذا النهج في الكتابة حتى عقود قليلة مضت .

      في هذا الإطار ظلت كتابات تاريخ مصر تركز على الجوانب السلبية في هذا العصر، والكثير من هذا النوع من الدراسات  كان همه الأساسي إبراز الطبيعة المستبدة للحكم، وأحوال التهور والفوضى التي حاقت بالمجتمع والاقتصاد والثقافة والتعليم، ومن ثم صورت  القرون الثلاثة السابقة على الحملة الفرنسية على مصر ١٧٩٨م بأنها أقصى نقطة في الإنحدار في تاريخ مصر على الإطلاق؛ كانت السلطنة المستبدة أو قوة الدولة هى الفاعل الرئيسي تاريخياً والمهيمنة على النواحي كافة ولم تترك للمجتمع أى مساحة للحراك إلا قليلا، وتبعاً لذلك صورت العملية التاريخية عادة على أنها عملية من فوق إلى أسفل ـ بعبارة أخرى انصب الاهتمام على ابرز عدم قدرة مصر مواكبة التطورات التي شهدتها أوربا، ومن الصعوبة بمكان أن تجد لمصر أي حيز أو وجود؛ وعلى ذلك انتفى وجود أي دور فاعل لها في تاريخ العالم !!، والواقع أن هذه الكتابات قد أخفقت في عرض الحقائق التاريخية عن مصر؛ فلا يوجد بالكاد أي شئ مكتوب عن المجتمع أو كيفية تسير الناس لأمور حياتهم أو عن الاقتصاديات، وكيفية تدبير الناس لمعيشتهم ولكن تعكس طرق تعامل القوى الاستعمارية مع البلاد المستعمرة !! *(11)

 

 الحملة الفرنسية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

    

      الحملة الفرنسية لم تكن عملية حربية فقط؛ فقد كان لحكومة الإدارة كثير من التقارير والشهادات التي جعلتها تقرر بناء مركز استعماري خصب في مصر يعيد إلى الزراعة والصناعة في فرنسا ازدهارهما بعد فقدان فرنسا كل مستعمراتها الأخرى قبل ذلك، وقطع  طريق الإنجليز إلى الهند وكسر شوكتهم في الشرق إذ لا طريق غير وادي النيل للجيش الذي يناط به أداء هذه المهمة الخطيرة بتغير مجرى الأحوال في الهند، وكان بديهياً أن يفضى الاستيلاء على مصر متى أصبح الفرنسيون أصحاب الكلمة العليا في مرافئ إيطاليا وجزيرة كورفو وجزيرة مالطة والإسكندرية أن يصير البحر المتوسط بحيرة فرنسية، وكذلك اكتشاف أفريقيا ونهب مواردها*(12) (13)

 

       بدأ الفرنسيون حملتهم على مصر بزعم تخليص أهلها من ظلم المماليك واللعب بورقة الدين، وكان اللعب بـ «ورقة الدين» لعبة قديمة قدم التاريخ المصري بداية من فكرة «الفرعون الإلة» أو «الفرعون ابن الإلة» أو «الفرعون ظل الإلة»؛ فعندما جاء الإسكندر الأكبر إلى مصر كانت الأحلام تملأ رأسه وكان يسعى للخلود، ووجد الطريق السهل بادعاء بنوة الإلة أمون، وفتحت تلك الأسطورة أمام الإسكندر أحضان الشرق؛ فزيارة واحدة لمعبد أمون أغنته عن تشييد عشرات القلاع الحصينة؛ وفهم نابليون بونابرت «أصول اللعبة» مبكراَ، وعرف أن الطريق إلى قلوب المصريين يبدأ بالمسجد وينتهي بالضريح .. فأعلن أنه من أولياء الله .. وأصفياء الله .. والممثل الشخصي باسم الله، وادعى محبته لنبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .

 

       لكن بونابرت بينه وبين نفسه كان يؤمن بأنه دجال؛ ففي منفاه في جزيرة سانت هيلانة اعترف بأن ما فعله في مصر هو دجل من طراز رفيع وأضاف أن :

 

    «على الإنسان أن يصطنع الدجل في هذه الدنيا؛ لأنه السبيل الوحيد للنجاح».

 

      لم يكن المستشرق المحارب بونابرت وحده هو المتلاعب بوعي المصريين  فقد شاركه شيوخ الأزهر في اللعبة، وهم واعون بأبعادها؛ ولذا لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارهم ضحايا لعملية التلاعب بالوعي بل يمكن اعتبارهم «الجانب المقزز» فيها!!؛ ففي الوقت الذي قام فيه كبار شيوخ الأزهر بتشكيل الديوان الذي تولى مسئولية الحكم الصوري بعد استبدال العمامة الأزهرية بعمامة حملت ألوان العلم الفرنسي وتعليق الجوكارد La Médaille Jocard في عروة الفراجيات، وتلقي العطايا من بونابرت ..

 

        لم يثبت أن شيوخ الأزهر ثاروا أو حرضوا على الثورة إلا من أجل الجاماكية (الرواتب) أو الجراية (مقررات الخبز التي تصرف للطلبة والشيوخ).

 

       حكى الجبرتي على صفحات كتابه بعنوان : «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» وقائع الثورة ضد الفرنسيين، يقول الجبرتي : «فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم، وأصبحوا يوم الأحد متحزبين وعلى الجهاد عازمين، وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وآلات الحرب والكفاح، وحضر السيد بدر وصحبته حشرات الحسينية وزعران الحارات البرانية، ولهم صياح عظيم وهول جسيم، وذهبت تلك الجموع إلى بيت القاضي؛ ليخرج معهم إلى بونابرت لمطالبته بإلغاء الضرائب الجديدة إلا أنه خاف عاقبة الهوجة، فرجمه الثائرون بالحجارة والطوب، ولم يتمكن من الهرب من أيدي تلك الحشود»  . . لكن الحقيقة التي تجاهلها الجبرتي  أن الأصابع العثمانية وأعوان المخابرات البريطانية كانت وراء تحريك تلك الجحافل من الأوباش فلم يتعود المصريين الحركة دون قادة يحكمون حركتهم !!

 

يقول الجبرتي عن هؤلاء المشايخ : «وقد زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس وانهمكوا في الأمور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية ومشاركة الجهال في المآثم والمسارعة إلى الولائم في الأفراح والمآتم يتكالبون على الأسمطة كالبهائم فتراهم في كل دعوة ذاهبين، وعلى الخوانات راكعين وللكباب والمحمرات خاطفين، وعلى ما وجب عليهم من النصح تاركين‏» .

 

كان الفرنسيون على يقين أن المصريين لن يتحركوا من تلقاء أنفسهم لذلك استخدموا شيوخ الأزهر مقابل (جعل معلوم) في تدجين الرعية وكان الفرنسيون يرون في حالة الخمول التي يعيشها المصريين سببا كافيا لا نعدام مقاومتهم حتى لنظنهم بلهاء أو معتوهين ؛ فحركاتهم وأحاديثهم وأبسط أفعالهم ومسراتهم تشي بعدم اكتراث مذهللا يشغلهم طوال نهارهم سوى تدخين غلاينهم الطويلة والتي يطلقون عليها (شبكة الدخان) وشرب القهوة ويستخدم الأغنياء تبغ اللاذقية الفاخر مخلوطاً بخلاصة أوعصارة الخشخاش المطبوخ أما الفقراء فيقنعون بالتبغ المحلى مخلوطاً بنوع من عصارة القنب ـ الحشيش ـ للوصول إلى حالة من الخدر تنسيهم ألامهم ومضايقاتهم .. ويباع الأفيون في مقاهي القاهرة والأفيون هو نوع من المعجون المخلوط بالأعشاب !!

.. وأفاد أرخانات الأقباط بمقايضة المصالح الوطنية بمنافع طائفية بمباركة من البطريرك!!

وقد أجري علماء الحملة الفرنسية اختبار بسيط لمدى استجابة الشعب المصري للأحداث بوضع أحجار ضخمة أمام أبواب الحارات .. كان المصريون يتسلقون الأحجار أو يلتفون حولها لدخول الحارات دون أن يكلف أحدهم نفسه بالسؤال عن سبب وجودها أو من وضعها ؟!! أو لماذا وضعها ؟!! أو يكلف نفسه عناء إزاحتها !!

 

***

 

        تركت الحملة الفرنسية وراءها أكثر من 30 ألف قتيل من المصريين، إضافة إلى هدم الكثير من مبان القاهرة والاسكندرية التاريخية .. لكن أخطر ما خلفته الحملة من أثار هو فقدان الشعب المصرى الثقة في قادته الذين تركوه ساعة المحنة يواجه مصيره وحده، وشيوخ الأزهر الذين أكلوا على كل الموائد وباعوا أنفسهم للشيطان بفتاوى فاسدة مدفوعة الثمن!!

 

محمد على

« العنكبوت العجوز»:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

     

      على خلفية غامضة جاء الجندي الألباني المتواضع والعطِل من الثقافة محمد علي إلى حكم مصر، غير أن هناك ثلاث وقائع تدور أحداثها حوله، تكشف لنا طبيعة الجانب الخفي في حياة الرجل، وحقيقة الدور الذي أُسند إليه وعُهد إليه القيام به بدعم من قوى خفية؛ فمشروع محمد علي لم يكن سوى امتداد للمشروع الفرنسي الماسوني الذي انتهى بفشل الحملة الفرنسية على مصر، ولم يكن محمد علي سوى أحد رجال الماسون، بينما يرى إدوار دريو في كتابه بعنوان: «محمد علي ونابليون .. مراسلات قناصل فرنساً في مصر» أن محمد علي استهدى ـ فقط ـ بالمشروع النابليوني في مصر واتخذه دليلا للعمل !!

 

الواقعة الأولى :

ــــــــــــــــــــــــ

 

     الرواية تقول : إنه عندما صدرت الأوامر العلية العثمانية لمحمد علي بالتحرك بكتيبته إلى مصر لطرد الفرنسيين منها، تحركت قواته بينما تأخر هو عنها يومين لحدث طارئ ادعاه، وفي أثناء سيره للحاق بها وعند بلاد الشام خرجت عليه عصابة من قطاع الطرق كادت تفتك بها لولاً أن تصادف مرور ماتيو ديليسبس قنصل فرنسا في الإسكندرية، الذي كان في طريقه لاستلام عمله في بلاد الشام، ولا ندري إن كان هذا الحادث عفوياً أم مدبراً!!؛ فقد كان ماتيو ديليسبس هو أحد رجال الماسون، وكان سمساراً للمرابين اليهود في تسهيل منح القروض مقابل عمولات يتقاضاها !!

   كان هذا الحادث سبباً في توطد العلاقة بين ماتيو ديليسبس والضابط الألباني الصغير الذي لمع اسمه بعد عدة سنوات، وعندما مات ماتيو ديليسبس شمل محمد علي الحاكم الجديد لمصر ابنه الشاب «فردينالد ديليسبس»  بالعطف، وجعله المُربي الخاص لابنه سعيد الذي وافق ـ عندما جلس على أريكة الحكم ـ على منحه امتياز حفر قناة السويس بشروط مجحفة لمصر .

 

الواقعة الثانية :

ـــــــــــــــــــــــــ

   

       ولد محمد علي سنة 1769 ومات والداه في سنة 1773، وعمره 4 سنوات، فكفله عمه طوسون، إلا أن هذا العم قتل بأمر من الباب العالي بعد فترة وجيزة، فأصبح الغلام يتيماً قاصراً، ولم يجد من ينظر إليه سوى صديق لوالده يدعى جرجي براوسطة، فشفق عليه وعني بتربيته مع أولاده .

 

     ومما يحكى عنه في أيام صبوته أنه كان يتردد على رجل فرنسي مقيم في قولة اسمه ليون، وكان من كبار التجار فشفق عليه وأحب مساعدته، لما توسم فيه من الفطنة والنباهة، فكان يقدم له كثيراً من حاجياته ويسعفه بكل ما في وسعه حتى ألفه محمد علي كثيراً، وهذا سبب وثوقه في الأمة الفرنساوية واستخدامه أفراداً منهم في مصلحة البلاد. 

 

الواقعة الثالثة :

ـــــــــــــــــــــــــ

     ورد لمحمد علي مرسوم سلطاني بولاية جدة فتظاهر بالموافقة، وفي نفسه ألا يخرج من مصر، فقامت العساكر وطالبوه بالعلوفة؛ فاستجاب لمطلبهم وسار إلى منزله في الأزبكية، وهو ينثر الذهب على الناس فازادوا حباً له ولخورشيد باشا كرهاً .

 

      يقول جورجي زيدان ـ مؤرخ الماسونية ـ : « وبعد ثلاثة أيام لا ندري ما دار في أثنائها بينه وبين علماء البلاد ومشايخها سار المشايخ والعلماء جميعا إلى محمد علي في منزله ينادون بصوت واحد لا نقبل خورشيد باشا والياً علينا»؛ فقال ومن تريدون، قالوا:  «لا نريد أحدا سواك»، فامتنع أولاً، وجعل يرغبهم في خورشيد باشا، ويحملهم على الإذعان والسكينة، وهم لا يزيدون إلا إصراراً على طلبهم، فوافقهم فأحضروا له الكرك والقفطان وألبسوه إياهما!!، وبعثوا بذلك للباب العالي .

 

محمد علي

لم يكن نابغة :

ــــــــــــــــــــــ

 

       والحقيقة أن محمد علي لم يكن نابغة، فقد كان جنديا متواضعاً وعطلاً من الثقافة أمياً يجهل القراءة والكتابة حتى آخر يوم في حياته، ولم يكن مشروعه في مصر سوى استنساخ حرفي للمشروع الفرنسي ـ الماسوني الذي بدأه نابليون بحملته عليها .

   

      كان تهافت الباشا على جني ثمار مشروعه الخاص سبباً في التوسع الجائر برعونة ودون روية في التجنيد الإجباري ومشاريع السخرة؛ فتزايدت الدعارة بشكل غير مسبوق لما ترتب على التفكك غير المسبوق للحياة الأسرية الذي نتج عن سياسة التجنيد النهمة التي أجبرت الألاف من الرجال على التنقل من مدينة لأخرى، ومن منطقة لأخرى تاركين خلفهم الزوجات والأمهات والبنات فاضطر العديد منهن تحت وطأة الجوع أو لتجنب هلاك أبنائهن إلى العمل بالدعارة .

 

     كان جيش الباشا يشكل ضغطاً على ثروات البلاد وعلى النساء أيضا، .. ونتيجة حالة الفسق انتشر مرض الزهري بين الأنفار، ونساء المناطق المحيطة بالمعسكرات بما استلزم وضع نظاما صارما للسيطرة على حياة الجنود الجنسية ومنع دخول الزوجات والمحظيات والمومسات إلى المعسكرات، وهو أمر كان صعباً؛ فقد تم الكشف عن حالات كثيرة كان يتم فيها إخفاء النساء في ملابس الجنود لإدخالهن إلى الثكنات للترفية عن الضباط الأوربيين والأتراك وبل الجنود المصريين !!*(14)

 

       وانتشر الزهري بين طلبة المدارس العسكرية في القاهرة؛ فحين أبلغ كلوت بك بأن عدد الطلبة المصابين بالزهري في مدرسة واحدة ٣٠٥ أرجع ذلك إلى «عدم وجود أدب وإلى أفعال غير لائقة» وفي النهاية قرر كلوت بك أن جذر المشكلة يكمن في الدعارة وانتشار اللواط .

 

      وانتشرت الرذيلة على نحو ما تمثله العالمة كوتشوك هانم وتختها وظهرت ظاهرة «الخولات» في المجتمع المصري، وهم غلمان من المخنثين يرقصون في الشوارع بملابس نسائية .* (15)

 

          .. وانتهي الباشا ومشروعه إلى طريق مسدود، بسبب القسوة المبالغ فيها، وإهمال الاحتياجات الإنسانية، وعدم مراعاة الأبعاد الاجتماعية، وشعور سواد المصريين : أنها مشاريع الباشا وجيش الباشا وليست مشاريع من أجل مصر، وليس جيش مصر، وأنهم ليسوا أكثر من «وقود معركة» في دولة الباشا، وحروبه !!

 

الاحتلال الإنجليزي :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 

    وجاء الاحتلال الانجليزي إلى مصرليزيد ميراث أهلها من القهر والغصب والعدوان .. قال اللورد كرومر في كتابه بعنوان :«مصر الحديثة» أن مصر تحكم بثلاث كلمات تبدأ بحرف  C اللاتيني : «الكورباج Courbash، والسخرة Corvette، والفساد Corruption».

             يقول كرومر: أنه عندما جاء لورد دوفرين إلى مصر كان عاقداٌ العزم على ألا يحكم هذا البلد تحت أي ظرف من الظروف باستعمال الكرباج، وأصدر  منشور بذلك، وكانت النتيجة كارثية عندما لم يعد لمنظومة السخرة التي كانت مفروضة في ظل حكم الكرباج وجود، ورفض الفلاحون الذهاب إلى الأعمال بناء على طلب المديرين، ولم يعد بالوسع إجبارهم، ولم نعد قادرين على تطهير الترع وتوصيل المياه إلى الحقول، وبدأت الزراعة تنهار، ولم يعد في مقدورنا حماية شواطئ النيل في وقت الفيضانات العالية،.. وأدركنا الحقيقة التي مفادها أن الأمر قد يحتم جلد الشعب المصري لمنعه من الموت جوعاً .

 

       وعن الفساد البنيوي يقول كرومر:

 

       « لم يحدث أن كان هناك فساد في أي بلد من البلدان مثل الفساد الذي عشش في كل أنحاء مصر .. كان المصريون يقبلون الرشاوين، ويدفعونها بدءاً من الحمّار شبة العاري الذي يصيح مطالباً بالقشيش، ومروراً بالمطالبة بقرش أو قرشين من سائح فصل الشتاء، وانتهاء بالباشا عالى المقام الذي يمكنه الحصول على عونة عن طريق دفع مبالغ كبيرة معظمها أو كلها تقريباً على سبيل الرشوة، كان المقاول يرشي الوزير كيما يحصل على عقد بشروط مناسبة له هو، تم يقوم بعد ذلك برشوة كاتب الأشغال حتى لا يتحرى الدقة ما إذا كانت نصوص العقد قد نفذت تنفيذاً دقيقاً، .. وكان المرؤوس يرشى رئيسه طلباً للترقية، وكان مالك الأرض يرشي المهندس للحصول على المزيد من الماء لأرضه وحقوله أكثر مما يستحق، وكان القضاة يرتشون من المدعي والمدعى عليه في أى قضية من القضايا، وكان القرار يصدر لصالح ذلك الذي دفع رشوة أكبر، وكان مساحو الأراضي الحكوميون يرشون لتزوير قياسات الأرض، وكان مشايخ القرى يحصلون على رشوة نظير الإعفاء من السخرة ومن الخدمة العسكرية، وكانت الشرطة تحصل على رشوة من كل سيئ الحظ الذين تحتم عليهم الاتصال بها، وكان المسافر بالسكك الحديدية يجد أنه من الأرخص أن يدفع بقشيشاً للحارس أو المحصل بدلاً من أن يدفع ثمن التذكرة، وعلى سبيل التمهيد لرشوة المدير كيما يقوم بتحري مظلمة من المظالم كان يتحتم على الشاكي رشوة الأتباع الجياع الذين يتسكعون حول مكتب المديرية قبل إبلاغ الرجل الكبير شخصياً بالشكوى المقدمة.

    كان واقع الأمر أن تفشي الرشوة في المنظومة الإدارية المصرية كان بلا نهاية، وكانت الحياة الاجتماعية والحياة الرسمية المصريتان مشبعتين بالفكرة التي مفادها أن المطالب الشخصية والمصالح الشخصية المصرية أيضا، وبغض النظر عن عدالتها لا يمكن الوفاء بها بدون دفع بقشيش !!*(16)

 

الاستقلال الوطني :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

    

     .. ومع الاستقلال الوطني وجلاء الاحتلال الإنحليزي عن مصر بعد 72 عاما .. حكم ضباط حركة الجيش في 23 يوليو 1952 البلاد .. كان ضباط يوليو من صغار الرتب الذين اتيح لهم دخول الكلية الحربية بعد معاهدة 1936، وكانوا  ينتمون إلى الطبقة المتوسطة المتوسطة، وكان أغلبهم ينتمي لأصول ريفية، وكانت تجمع بينهم الثقافة العامة المتداولة في ذلك الحين بين طلبة المدارس الثانوية.

 

        استعان ضباط يوليو في البداية ببعض قدامى السياسيين وبعض الشخصيات من التكنوقراط إلا أنهم ارتأوا أن تلك التجربة لا تتحقق الأمال المنشودة؛ فتولوا أمور الحكم وأصبح في كل موقع ضابط من الجيش أطلقوا عليه :«مندوب قيادة».    

 

العسكرة :

ــــــــــــــــ

    

        .. كان ضباط يوليو بخلفيتهم العسكرية ينظرون إلى المؤسسة التي      انطلقوا منها باعتبارها حامية الدولة المصرية، وكانت تلك المؤسسة قادرة عبر ستة عقود على التطور والتأقلم وتبديل تحالفاتها للإبقاء على هيمنتها على المجتمع والدولة وتوجية السياسة  من وراء ستار عبر أربعة رؤساء للجمهورية (محمد نجيب، جمال عبد الناصر، أنور السادات، حسني مبارك) أتوا على خلفيات عسكرية وعبر تعيين ضباط متقاعدين في وظائف مدنية في الوزارات وإدارة المحافظات والهيئات المختلفة إضافة إلى تقنين هذه الأمور وشرعنتها عبر سلسلة من القوانين والمراسم الرئاسية ومنح الحصانة لهؤلاء العسكريين أثناء عملهم المدني وبعد تقاعدهم هذا إلى جانب استخدام الإعلام  والخطاب الرسمي لأخراج الهيمنة العسكرية في صورة المساهمة في تنمية المجتمع، وعلى اعتبار أن العسكريين أقدر من غيرهم في الإدارة .

 

       .. والحقيقة أن المؤسسة العسكرية بما تتمتع به من خاصية «الضبط والربط» هى المؤسسة الوحيدة التي حافظت على تماسكها ونقائها وقدرتها على الإنجاز وإدارة الأزمات قد ظللت بمعزل عن الفساد الضارب في المجتمع.

 

   ..  وكان لتجنب الدولة الصرعات القديمة  بين الجماعات الراديكالية ممثلة في الإخوان المسلمين والتيار الإسلامي من ناحية، والشيوعيين بتصنيفاتهم المختلفة من ناحية أخرى أن تم اعتقال كلا الفريقين، وتصفية هياكلها التنظيمية، واستئناس كوادرها في وظائف حكومية بمرتبات خيالية، وأخذت الدولة على عاتقها تلبية المطالب المعيشية للجماهير باعتبار أن المواطنين «عيال الدولة»، ويجب أن ترعاهم وتوفر لهم الرعاية الصحية والتعليم المجاني وتكافؤ الفرص في التوظف والترقي الاجتماعي في ظل سياسات الحزب الواحد ( هيئة التحرير ـ الاتحاد القومي ـ الاتحاد الاشتراكي).

 

      .. ولكون المواطنين «عيال الدولة» مارست الدولة سلطة رعوية أبوية في رعاياتهم وصياغة أفكارهم وضبط سلوكهم؛ .. فسارعت بإنشاء التليفزيون وإذاعة صوت العرب ووكالة أنباء الشرق الأوسط وجريدة الجمهورية ومؤسسة السينما، وأسرفت في الإنفاق على الثقافة الداعمة لنظامها بطباعة الكتب الاشتراكية، وكان شرط  التوظف هو الانضمام إلى عضوية الاتحاد الاشتراكي، وشرط الترقي في الوظائف العامة إلى المناصب القيادية هو الانضمام إلى منظمة الشباب أو التنظيم الطليعي أو التنظيم السري للثقافة، وكان شرط الترقية للوظائف العادية هو حفظ 5 فصول من الميثاق، والإجابة عن الأسئلة المطروحة في الحلقات النقاشية حول «برنامج 30 مارس».

 

          .. كانت المعطيات التي تكونت من خلالها الحكومات المتعاقبة لحركة يوليو ١٩٥٢، وحتى نهاية عصر الرئيس حسني مبارك في 11 فبراير 2011 والقنوات التي جرى في ظلها تكوين نخبها السياسية تنطوي على ضعف عنصر شرعيتها أو تلاشيه مما دفع بها لإحكام هيمنتها على المجتمع والتوسع في الممارسات الاستبعادية، والتوسع في تلفيق الاتهامات واغتيال السمعة و«المحاكمات الثورية» والعزل السياسي؛ وكان لابد من إعلام تعبوي يجيد التلاعب بوعي الجماهير لإقناعها بسياساته بعدما فشلت حكومات يوليو المتعاقبة في إعادة الدولة للمجتمع وإدماج مكوناته فيها بإحداث تغيير مهم في الأسس التي وزعت وتوزع في إطارها حصص القوة في المجتمع من منطلق المواطنة للجميع في إطار حقوق وواجبات متساوية في النصوص وفي الممارسة .!!
   

 

 الإعلام التعبوي

و«تدجين الجماهير» :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

         وقام الإعلام الناصري التعبوي بإغراق الجماهير في تيار سلبي من المعلومات المغلوطة  تدور كلها حول أن الشعب ينام قرير الأعين ملء الجفون ليصحو في الصباح ليجد على وسادته سجل حافل من الانتصارات على الاستعمار وأعوانه وقوى الرجعية والرأسمالية حققها لهم الزعيم الملهم جمال عبد الناصر وهم نائمون دون أن يبذلوا جهد ودون أن تسال قطرة من عرق أو دماء!!

 

       وظل المواطن يتعاطى الوهم في مناخ لا يزدهر فيه إلا كل منافق، وأصبح الشعار هو الطاعة والولاء قبل العلم والكفاءة؛ فتدهورت القيم، وهبط الانتاج وارتفع صوت الغوغاء على كل شئ، وعاش عبد الناصر 18 عاما في ضجة إعلامية فارغة، ومشاريع دعائية واشتراكية خائبة، ثم أفاق على هزيمة تقسم الظهر وعلى انهيار اقتصادي وعلى مائة ألف قتيل تحت رمال سيناء، وعتاد عسكري تحول إلي خردة ، وضاع البلد . 

     

      .. وأفاق المواطن على «مرارة الهزيمة» و«مسرحية التنحي» !!

 

***

 

             كان الهدف غير المعلن من عمليات غسيل الأدمغة عبر «صناعة الكذب» و«تزوير التاريخ» و«زرع الذاكرة الكاذبة» و«هدم الدفاعات النفسية» وصولاً إلى نشر «العدوى النفسية» وعمليات «افتضاض الضمير» وإحداث «التسمم السياسي» هو الوصول إلى «التلاعب بالوعي» و«تدجين الشعوب» وسلبها القدرة على التفكير والإبداع أو الحركة والفعل وتحويلها إلى كائنات «زومبية» تهتف للزعيم الذي ضللها عبر وسائل تم تدريب القائمين على الإعلام عليها في الاتحاد السوفيتي ضمن برامج «صناعة البطل» ومنها: 

 

«زرع الذاكرة الكاذبة»: 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

    قام فريق من الباحثين البريطانيين والكنديين بإجراء دراسة علمية حول «زرع الذاكرة الكاذبة»، وقد أظهرت نتائج الدراسة أن كثيرا من الناس يتذكرون أحداثا لم تقع قط، ومع ذلك فإنهم يبدون على ثقة من وقوعها من جراء عمليات الإلحاح والتكرار على مسامعهم بصياغات مختلفة في أوقات مختلفة أو خلط الآراء بالأخبار، وهو ما يؤدى إلى تكوين ذاكرة مزيفة .. الأمر الذي يؤثر على سلوك الناس ومواقفهم الاجتماعية والسياسية، وهو ما دعا الباحثين إلى التشكيك في دقة وصحة أقوال الشهود في استنادهم إلى الذاكرة أثناء التحقيقات الجنائية، وداخل قاعات المحاكم.

 

    نشر الباحثون نتائج دراستهم التي أشرفت عليها البروفيسورة كمبرلى وايد بجامعة واريك البريطانية في مجلة «ميمورى» لأبحاث الذاكرة، وخلصت الدراسة إلى:

 

      « أن الأشخاص الذين تقدم لهم معلومات متخيلة عن أحداث في بداية أعمارهم، ويقومون مرارا وتكرارا بتخيل أن تلك الأحداث وقعت لهم، ويتعرض نصفهم إلى التصديق بوجودها فعلا، وظهر أن نصف أفراد العينة المكونة من 400 فرد أجريت عليهم أبحاث «عملية زرع الذاكرة»، من الذين عرضت عليهم معلومات كاذبة عن حياتهم، اعتبروها جزءا حقيقيا من تاريخهم، وقال 30 % منهم إنهم: «يتذكرونها،  وتحدثوا بالتفصيل عن جوانبها»، بينما قال 23% من أفراد العينة إنهم: « يعتبرون تلك الأحداث جزءا من تاريخهم» .

 

 

هدم الدفاعات النفسية :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

   يبدأ المتلاعبون بالعقول في المقام الأول بتحطيم حالة «الدفاع النفسي» وتحضير الإنسان المستهدف بالتلاعب بتدمير منظومة القيم التي يعرف بها، ويعرّف بها، وأهمها هدم التصورات والأفكار وخلق تصورات ورغبات وأهداف جديدة وبنائها، وهذه البناءات «الخدمية» مؤقتة ومهمتها هي إحداث الخلط في الأفكار، وجعلها غير منطقية وخالية من الروابط، بما يسقط الإنسان تلقائيا في دوامة الشك في الحقائق الحياتية الراسخة، ويفقد القدرة على مقاومة التلاعب، ويلي عملية «هدم الدفاعات النفسية» عملية « العدوى النفسية»، و«افتضاض الضمير» .

 

«العدوى النفسية » :

ــــــــــــــــــــــــــــــ

   

        وبعد نجاح عملية «هدم الدفاعات النفسية» تبدأ مراحل عملية «العدوى النفسية»؛ بغرض «تدجين الشعوب» فمنذ نهاية القرن قبل الماضي راح عدد من العلماء الأوربيون من أمثال جوستاف لوبون يركزون على عملية الإيحاء في السلوك الاجتماعي في بناء فرضية «غريزة الرضوخ» أو «غريزة الخنوع »  لدى الإنسان، وكما أن للإيحاء جوانب إيجابية فإن له جوانب سلبية، وتستهدف عملية «التلاعب بالوعي» الجوانب السلبية فقط لعملية الإيحاء، والتي تهدف لجعل الإيحاء أداة فعالة في جعل العقل الباطن يلفظ بها بكل الوسائل عوامل الدفع الإيجابي في حياة الإنسان، ويتمسك بها بكل أسباب الهدم والتعاسة،  وقد أصدر الفسيولوجي النفسي الروسي ف . م . بيختيروف عام 1903 كتابه بعنوان: « الإيحاء ودوره في الحياة الاجتماعية» وصف فيه ظاهرة الإيحاء الجماهيري تحت تأثير «العدوى النفسية»؛ أي عند نقل المعلومة بمساعدة شتى المنظومات الرمزية، لم يكن الإيحاء لديّه مرتبطا مباشرة بالتلاعب بالوعي بل إنه يمثل عملية اقتحام للوعي !!

 

    والقدرة على الإيحاء ليست مقصورة على الأشخاص فحسب، بل يمكن أن تصدر عن الظروف والأماكن والأصوات والروائح والمناظر والأعمال الفنية على اختلاف أنواعها، وخاصة الموسيقية والتشكيلية، فكل هذه تملك تأثيرات إيحائية على من يدخل في دائرة نطاقها، وخاصة إذا استدعت إلى ذاكرته الواعية تجربة أو موقف شخصيا مر بالشخص المتلاعب به، وترك أثره في عقله الباطن .

 

   وقد روى لي أحد الأصدقاء الذين كانوا يعتنقون فكر الشيوعية، أنه بعد استنفاد كافة أساليب التعذيب الوحشي .. تم التأثير على إرادتهم في معتقل الواحات بإثارة الحنين إلى الأهل والمحبوبات عبر إذاعة أغانٍ بعينها عن الشوق والحنين، التي كان يبثها مسجل غرفة المأمور عبر مكبر الصوت، ومداعبة الذكريات  عبر مراسلات تم إملاؤها على ذويهم من قبل متخصصين في الأجهزة الأمنية، وعرض صور المقربين إليهم مع تمنياتهم بالخروج من المعتقل، ولمّ شملهم مع من يحبون إذا قاموا بتنفيذ التعليمات وكتابة الاعترافات المطلوبة .. وقد أسفرت تلك الممارسات عن حل الحزب الشيوعي.

 

 «افتضاض الضمير»:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

   عملية «افتضاض الضمير Conscience Defloration »، والتي يمكن تلخيصها في أن كل فراغ فكرى لا تشغله أفكارنا يغرى بالتمدد لأفكار منافية لنا ومعادية، وفى أغلب الأحيان فإن القائمين على عمليات «تدجين الشعوب»  لا ينتظرون الفراغ الفكري لاحتلاله بل يصنعونه من خلال إضعاف العلاقة باللغة، وقطع العلاقة بالتاريخ، وبخس الهُوية، والإساءة للدين (الأتاتوركية مثالاً)، وأيضا من خلال التأويلات الخاطئة عبر ما يسمى بفلسفة التأويل Hermeneutics وبما يعطي للموئل سلطة على النص تفوق سلطة مؤلفه !!

    

    .. وهذه القاعدة يعرفها جيدا المتخصصون في الصراع الفكري وإدارة عمليات «تدجين الشعوب»  من خلال ما يُسمى بـ « استئناس العقول » .

 

     وفي كثير من الأحيان يلجأ المتلاعبون لشغل الفراغ ـ مؤقتا ـ بأفكار غيرهم يستخرجونها من قبور التاريخ، وينفخون في جذوتها، أو يحقنونها بالحياة، بما يفصم وحدة الصف المعنوي في الوطن مثل الحديث عن هُوية مصر الفرعونية، ومحاولة دفعها إلى الصدارة عبر كتابات مشبوهة، ومن خلال محاولة إيجاد تفسر فرعوني لكل نواحي الحياة (الماسونية مثالاً)، بما ينطوي على طعن في الحضارة العربية التي تمثل أهم وأعمق رقائق الحضارات في مصر .. وكذلك إيجاد أسباب الشقاق والفتنة بين المسلمين والمسيحيين .. وبين السنة والشيعة في العالم الإسلامي .. وبين العرب والأكراد، وبين العرب والأمازيج !!

 

   وهذه القاعدة أيضا يعرفها جيدا المتخصصون في الصراع الفكري وإدارة حروب المعلومات و«تدجين الشعوب»  من خلال ما يُسمى بـ «خلق النماذج الذهنية المتناحرة ».

        قدم جورج أوريل في روايتيه التنبؤية بعنوان: «العام 1984»، و«مزرعة الحيوان» وصفاً خياليا للمجتمع الشمولي حيث كانت وسيلة التلاعب  الرئيسية هي اللغة؛ بابتكار لغة جديدة تتغير فيها معاني الكلمات المعروفة، كان أكثر المتشائمين يرون في خيال أوريل نوعاً من الجحيم أطلقوا عليه مُسمى: «الجحيم الأوريلى»، لكن الأحداث كانت أصدق إنباء من رؤى المتشائمين والمتفائلين!!

 

 « صناعة الإجماع » :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

      

     صناعة الإجماع أو هندسة الموافقة Engineering of Consent بمعنى جعل الرأي العام يوافق على أمور لا يرغبها بالأساس عن طريق وسائل دعائية ترفع شعارات المصالح العامة؛ فالشعارات التي تتحدث عن الصالح العام كفيلة دائما بالترويج لرؤى زائفة تستطيع خداع الرأي العام لخلق الحالة التي يطلق عليها « صناعة الإذعان  manufacturing of submission».

 

      وقد استخدم البعض تعبير «هندسة السلوك» للدلالة على إمكانية إحداث تغييرات عميقة وواسعة في السلوك البشري ومنهم ب. ف. سكينر عالم النفس الذي قال: إنها علم لتطوير الأساليب الفنية لخلق نماذج بشرية مختلفة، لكن ليون كاس فيلسوف الأخلاق وصف افتراض بعض العلماء القدرة على تغير الإنسان بالغرور المتناهي، وكان دليله على ذلك هو أن هؤلاء العلماء ليست لديهم المعرفة الكافية بتكوين المخ البشري، ولا كيفية عمل وظائفه، وخاصة أنه من المتعذر تماماً عملية التصوير أنسجة المخ بأشعة إكس، وكذلك يتعذر التعرف على ما يدور داخله المخ من نشاط من خلال الأقطاب الكهربائية التي تزرع بفروة الرأس، وأن أي تعديل  جراحي في المخ لا يمكن الرجوع فيه أو إعادته إلى وضعه الأول .

 

التسمم السياسى

Intoxication:

ـــــــــــــــــــــــــــ

  

يرى د. حامد ربيع أن ما حدث للمواطن المصري هو نوع من «التسمم السياسي Intoxication»  وهو من المصطلحات التي ظهرت في الأدبيات الفرنسية في أواخر الستينيات، وهو يدور حول :

 

    «زراعة أفكار معينة من خلال الخديعة والكذب بحيث يؤدي إلى تصور للموقف يختلف عن حقيقته، مما يترتب عليه عند اكتشاف ذلك نوع من الصدمة النفسية تؤدي إلى شلل نفسي، ومن ثم عدم القدرة على المواجهة، وهذا المعنى يكون التسمم السياسي مقدمة لمعركة أو لاحقاً لهذه المعركة، ويقدم بحيث يسمح بتحقيق النصر العضوي بأقل تكلفة ولاحقا بحيث يكمل الانتصار بالقضاء المطلق على الخصم بوصفه وجوداً ذاتياً يناضل في سبيل التمسك ببقائه الحضاري

    

     ويتفق ميشيل فوكو مع د . حامد ربيع في أن تلك العمليات هي أهم الوسائل لهدم ما أسماه بـ « رسم الذات  Self  Stylization»، ورسم الذات تعني:

 

 «ممارسة إنسانية عقلانية للحياة والحرية، وتجري تلك الممارسات بـ «تكنولوجيا الذات Self Technology» التي تسمح للأفراد بأن يؤثروا من خلال وسائلهم الخاصة، أو بمساعدة آخرين في عمليات محددة على أجسادهم وأفكارهم وسلوكهم وطريقتهم في الوجود، من أجل تحويل أنفسهم لتحقيق حالة محددة من السعادة والطهر والحكمة والكمال، أو اللا أخلاقية أي تحقيق حالة ما أو هدف ما» .

 

   وهي ما يطلق عليه الكاتب الأمريكي إسرائيل زنجويل: « بوتقة الصهر».

 

      وهى تماثل فكرة الهيمنة عند أنطونيو جرامشي:

 

     «نظام تسيطر فيه طريقة معينة للحياة والتفكير، وليس فيه إلا مفهوم وحيد للحقيقة، ينتشر في المجتمع بكل مظاهره المؤسسية والخاصة، ويصوغ بروحيته الأذواق والأخلاق والعادات والمبادئ الدينية والسياسية وكل العلاقات الاجتماعية وخصوصاً في ملامحها الثقافية والأخلاقية، فإن الهيمنة هي السيطرة التي يتم التوصل إليها بالموافقة أكثر من القوة من قبل طبقة أو فئة على بقية المجتمع» .

 

     ويرى د. نصر حامد أبوزيد الذي يبدو متأثرا إلى حد كبير بتجربته الشخصية أنه: «النسق الخطابي الذي فرضته آليات القهر السياسي والاجتماعي بوصفه «الحقيقة المطلقة»  الذي يعد الاقتراب منه بالنقد أو التحليل كفراً وإلحاداً وهرطقة »

 

   بينما يرى والتر ليبمان عميد الصحفيين الأمريكيين أثناء الحرب العالمية الأولى: «أنه الثورة في فن الديمقراطية، وأنه يمكن تطويعه لخدمة ما وصفه بـ «تصنيع الإجماع»، بمعنى يجعل الرأي العام يوافق على أمور لا يرغبها بالأساس عن طريق وسائل دعائية .. وأن الحديث عن المصالح العامة ـ من وجهة نظره ـ كفيل تماما بخداع الرأي العام»

 

***

 

     عاشت مصر كل تاريخها ـ تقريباً ـ محتلة، وكان المحتل يلجأ دائما إلى قهر وقمع أهلها لتطويعهم فيما يخدم أغراضه بالكرباج والجلد على العروسة والفلقة والعونة (السُخرة) بدون أجر، والتجويع بفرض الضرائب المبالغ فيها؛ فإذا ما برزت لدي الجموع إرادة جماعية للتغيير؛ فالبديل الجاهز هو «التلاعب بالوعي»؛ فقد تعرضت بلادنا لانتهاك ثقافي لا تزال أثاره تنخر فيه فقد قام الغازي باسئصال القيم الثقافية للشعب وإفقاره روحيا وقطع الصلة بماضية، وهو ما يعني سلبه ميراثة الثقافي والوجداني والجمالي، وعمدت الغازية إلى غرس ميولها واتجاهاتها وقيمها الاستعمارية في إعادة صياغة تاريخه بما يتوافق مع حالة التخلف التي يعيشها مجتمع يعيش على الانقياد للفظ الرنان إعجابا أو لسطوة السلطان خوفاً وإرهاباً!!

 

     .. وقد انتج هذا التاريخ الطويل من المعاناة والقمع والتجويع حالة من السلبية واللا مبالاة واللا أدرية قتلت في المواطن المصري روح  المبادرة أو المشاركة أو الاستجابة والتحدي .. وقد أمكن استنباط بعض أسباب هذه السلبية وتلخيصها فيما يلي :

       

       1 ـ فقدان الإحساس بالأمان الشخصي في ظل ممارسات بوليسية قمعية منبتة الصلة بصحيح القانون، والإسراف في الحبس الاحتياطي بدون ضوابط، والتوسع في المحاكمات العسكرية، وحرمان المواطن في بعض الأحيان من المثول أمام قاضيه الطبيعي .

 

       2 ـ فقدان الإحساس بالأمان الاجتماعي والاقتصادي والفكري في ظل حالة من الاستبداد السياسى والحرمان من تداول السلطة، وتعميق الشعور بالدونية والاغتراب.

 

      3 ـ فقدان الثقة في الإعلام التعبوي لما يروجه من مواد ممصوصة الحيوية تنطوي على «صناعة الكذب» و«تزوير التاريخ» بما يدعم النظام السياسي القائم، ويحقق «التعويض النفسي» الزائف للمواطن، وبما يقلل من الحس التاريخي الصادق ويزيد من غلبة مشاعر اليأس، والسقوط في إشكالية «اللا جدوى»، وشيوع مناخ يؤكد الفشل ويغرس اليأس والإحباط التي تلخصها عبارة «مفيش فايدة».

 

    4 ـ ضعف لُحمة التضامن الاجتماعي وانعدام الشعور بـ «النحن»، وتضخم الشعور بـ «الأنا» في ظل حالة من الانحياز الساحق للفردية .

 

   5 ـ غياب مشروع قومي يجمع الناس على المشاركة المشروعة، ويسهم في صياغة رأي عام عبر آليات ديمقراطية، ومن خلال وسائط تكفل حرية الاختلاف وترفض التسفيه والوصاية أو الحجر أو الإقصاء أو المصادرة وعدم الاعتراف.

 

    6 ـ اتساع الفجوة بين وسائل إعداد الفرد اجتماعيا وتأهيله والارتقاء بقدراته، وبين مقتضيات تطور المجتمع وتحديثه في ظل ضعف القيم الأخلاقية والاجتماعية والمعرفية والفكرية.

 

       7 ـ الشعور بالعجز وقلة الحيلة وتدني دخل الأسرة المصرية وزيادة نفقاتها التي تكفل لها حد معقول من الحياة الكريمة في ظل غلاء الأسعار، وانحسار مظلة الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية الحكومية، وانعدام الرقابة على الأسواق .. وترك الموطن فريسة لبيروقراطية وفساد الموظفين وجشع التجار وتغول المستشفيات الخاصة وتردي منظومة التعليم وابتزاز المدرسين، وبطء العدالة الناجزة !!، بما يجعله يلجأ لأساليب فردية، وربما غير قانونية لحل مشاكله الخاصة التي هى في واقع الأمر أزمة مجتمع بأكمله !! 

 

الفصل الثالث :

ـــــــــــــــــــــــــ

 

 

كوليرا 1947

 

.. وكرونا  2020 !!

 

   

 اجتاح وباء الكوليرا مصر في سنة 1947 .. كما يحدث هذه الأيام مع وباء كورونا 2020 .. الفارق الزمني بين الوبائين 73 سنة .. لم يتغير فيهم سلوك المصريين، وأنماط تفكيرهم فيها كثيراً من حيث يشكل المرض نوع من «العار الاجتماعي» يجب إخفائه، .. ولم تتغير سياسات الدولة الحاسمة والجازمة في محاصرة الوباء، وفرض إجراءات العزل داخل المستشفيات أو داخل كردونات (نطاق) العزل خارج القرى والمناطق السكنية الموبوءة وفق الامكانيات المتاحة.

 

        .. لكن الحدث المفجع والكاشف في مصر 2020 هو تدني الكفاءة المهنية للأطباء المصريين؛ فلا بروتوكولات علاج مؤكدة، ولا وسائل تشخيص مؤكدة، .. والعشوائية سيدة الموقف .. وكل شيئ حسب التساهيل، .. ويوم بيوم  .. إلى أن يأت الله بالفرج !!،  فضلاً عن تردي المنظومة الأخلاقية المهنية لبعضهم، والتي تمثلت في تغيبهم عن مواقع عملهم في المستشفيات الحكومية لهثاً وراء الثروة بالعمل في المستشفيات الخاصة، وافتعال الأزمات مع الدولة بزعم عدم توافر معدات الحماية في الوقت الذي كان فيه زملائهم من الأطباء الإيطاليين والأسبان والأمريكان يرتدون أكياس القمامة السوداء بديلاً عن بدل الوقاية، ويستعيضون بقطع الشاش المبطن بالمناديل الورقية عن الكمامات الطبية، ويستخدمون أكياس البلاستيك بديلاً عن القفازات!!

 

     .. وكذلك كانت المطالبة السفيهة في غير وقتها بامتيازات فئوية خاصة بزيادة «بدل العدوى».. وهى حالة لا يجب السكوت عليها ورصدها ضمن مواضع الخلل الذي أصاب المجتمع المصري في إطار تصحيح الاعوجاج ضمن الاقتحام العلمي الجسور والجرئ والمخطط له الذي تقوده الدولة للوصول بمصر إلى مواقع الصدارة في كافة المناحي.

 

       في أثناء جائحة وباء الكوليرا 1947 كان نضال الأطباء المصريون لاكتشاف مصل للوباء، جنباً إلى جنب مع البعثات الطبية الأجنبية للحد من انتشار الوباء وتفاقمه، حيث استطاع الطبيب المصري عبدالحميد جوهر من أساتذة كلية الطب أن يستخرج سم ميكروب الكوليرا غير مختلط بشيء، واستخدم الأرانب المنزلية لاستخراج المصل واللقاح.

 

      وكان التطعيم من الكوليرا الذي أعده د. عبد الحميد جوهر ليس ضمانًا ضد العدوى، إلا أنه كان يقلل من احتمال الوفاة إذا حدثت الإصابة، وقد انتقل المرض لنحو 240 من الأطباء والممرضات الذين كانوا يشتغلون في محاربته في مستشفيات القاهرة والمنصورة ودمياط ، لكن الأطباء المصريين ظلوا على عهدهم والوفاء بالقسم دون ضجر أو تبرم، ودون خذلان لأهلهم وذويهم.

 

        .. وقام العالمان المصريان الدكتور عبدالخالق والدكتور الحلواني بإعادة إجراء أبحاث العالم روجرس التي قام بتطبيقها عام 1902م أثناء وباء قرية موشا في مديرية أسيوط؛ للوصول إلى نتائج متعلقة بالعلاقة بين المناخ ودرجة الحرارة في وباء عام 1947م، وكانت الإحصائيات التي نشرت عن وباء كوليرا عام 1947م قد أظهرت أن المناطق شديدة الإصابة به في مصر هي المناطق شديدة الرطوبة، حيث كانت الإصابة في أحياء القاهرة الرطبة مثل بولاق ومصر القديمة أشد من الأحياء الجافة في حلوان، بينما كانت الإصابة في شمال البحيرة شديدة، وفي الإسكندرية كانت أشد.

 

     يروي الدكتور سيف النصر أبو ستيت في محاضرته عن الكوليرا التي طبعتها وزارة المعارف العمومية سنة 1948 قصة الكوليرا في مصر جاء فيها :

        «ضربت الكوليرا مصر عشر مرات في تاريخها الحديث في سنوات  1831، و 1834، و1850، و1855، و1865، و1883، و1895، و1902، و1947.* (1)

      .. في سنة 1831 جاء وباء الكوليرا ليضيف هماً جديداً لهموم محمد على باشا، ويقض مضجعه, ويهدده بانهيار مشروعه الشخصى في مصر .. كان الجدري يقضى على ما بين 50 إلى60 ألف طفل سنوياً، وكان مرض الزهري منتشرأ بأعداد مرعبة!!، .. ثم كانت الموجة الوبائية الأولى للكوليرا في عهد كلوت بك مؤسس مدرسة الطب (لم يذكر كلوت بك شيئاً عن إخفاقه أو عن مرض الكوليرا في كتابه عن مصر)، الذي حاول هو وتلاميذه القضاء عليها دون جدوي، حيث كان تقضي على 3 آلاف مواطن يوميًا حتي انحسرت فجأة، وفي العام التالي عام 1832م تم إنشاء مكاتب الصحة لأول مرة في مصر، وخاصة في دمياط ورشيد والعريش، وتم تشكيل المجلس الصحي الذي كان النواة الأولي لمجس الكروتينات والصحة البحرية، وعلى الرغم من ذلك فإن وباء الكوليرا الثاني عام 1834 تسبب في مقتل الآلاف، وكانت أشد موجات الوباء الموجة السادسة التي انتشرت في سنة 1865 واتسعت دائرتها لتشمل مكة المكرمة بالسعودية، وأنهت حياة 30 ألف حاج، حيث انتقل الوباء عبر إحدى سفن نقل الحجاج (الباخرة سدني) المتجهة للسويس، وقد كلفت سقطة أخلاقية لقبطان السفينة البلاد الكثير عندما أخفى عن سلطات ميناء الأسكندرية أن السفينة موبوءة بالكوليرا، وكان عدد ركابها 15 ألفًا من كافة أنحاء العالم، وعندما نزل الركاب المصريون في الإسكندرية، ومعهم الوباء الذي نقلوه إلى كل أحياء الاسكندرية؛ فمات حوالي 4 آلاف شخص، أي 22% من عدد سكانها، وانتقل إلى ربوع مصر؛ فكان يموت يوميا في دمياط 96 شخصا، وفي القاهرة حصدت 6 آلاف مواطن، بما يوازي 22 % من السكان، ثم انتقلت إلي كافة المحافظات وقدر عدد الوفيات عام 1865م بـ 60  ألفا من السكان في أقل من 3 أشهر من شهور الصيف.

 

      الموجة الوبائية السابعة التي انتشرت عام 1883م بعد الاحتلال الانجليزي بعام، وقد بدأت نواتها بمولد الشيخ أبوالمعاطي بدمياط مما أدي لوفاة 15 ألفا، معظمهم من أهالي بورسعيد والمنزلة والمطرية والدقهلية، وقد قدر عدد الذين ماتوا في الوجه البحري بنحو 36 ألف مواطن، ويوضح الدكتور سيف النصر أبو ستيت أنه في سنة 1883م اكتشف الطبيب الألماني كوخ علاج لميكروب الكوليرا، حيث جاء كوخ إلي مصر، ومكث بالمستشفي اليوناني بالإسكندرية وشرع في عمل أبحاث، ثم اتجه إلي الهند بعدها ليظهر علم الميكربولوجي للوجود، حيث أمكن التعرف علي طرق العدوي لوباء الكوليرا، ووسائل انتشاره وأمكن وضع قواعد لمكافحته والوقاية منه.

 

         الموجة الوبائية الثامنة كانت بين سنتي 1895-1896م، وكانت عدد الإصابات بها قليلة، ولكن عادات السكان المتوارثة في التعامل مع الأوبئة منذ العصر المملوكي باعتبار أن الإصابة بالوباء نوع من (العار الاجتماعي) مما جعلهم يخفون الإصابة بها، ويدفنون الموتي في منازلهم في سرية .

 

     الموجة الوبائية التاسعة كانت في سنة 1902م، والتي ضربت قرية موشا بأسيوط، وكان بسبب قيام العمدة بالتستر علي المرضى القادمين من مكة المكرمة بعد أداء فريضة الحج المباركة !!

 

       وقد انتقلت العدوى إلى للقاهرة بواسطة سيدة صعيدية كانت قادمة من موشا لزيارة أقاربها في القاهرة، وأدي الوباء لموت 34 ألفًا و595 مواطنًا، وبلغ عدد القري والنجوع والكفورالتي أصابها الوباء 2026 قرية ونجع وكفر.

 

         من حسن الحظ أن طه حسين قدم لنا صورة أدبية عن مأساة وباء موشا سنة 1902م  في الجزء الثاني من كتابه : «الأيام»؛ فنقل لنا صورة قلمية مؤلمة من حالة احتضار شقيقه الطالب بكلية الطب متأثراً بالكوليرا .. كان شقيقه يقوم بمعاونة الأطباء في كردون ( نطاق العزل الصحي) المجاور للقرية، وكتب أحمد شوقي في رثاء شهداء الوباء مقدراً ضحايا الكوليرا بخمسين ألف قائلاً :

 

«خمسون الفاً في المدائن صادهم

شِركُ الردى في ليلةٍ ونهارِ

ذهبوا فليت ذهابهم لعظيمة

مرموقة في العصر أو افخار»

 

         وكان من حسن الحظ أيضا أن قدم لنا الدكتور نجيب محفوط في مذكراته بعنوان : «حياة طبيب» تفاصيل طبية واجتماعية كثيرة عن مأساة موشا، .. وكيف ذهب إليها راكباً حماراً .. وعاش في الخيام وعشش الطين المسقوفة بسعف النخيل ليؤدي واجبه الوطني في مكافحة الكوليرا؟!*(2)

 

      يروي د. محفوظ في مذكراته :

 

     «في مستهل صيف عام 1902 ، تفشت الكوليرا بين الحجاج في مكة المكرمة؛ فقضت علي الآلاف منهم، وبينهم مصريين، وانتقل الوباء إلى مصر مع العائدين من هناك رغم إجراءات حجزهم في معازل بسيناء، ولكن ذلك لم يمنع انتقال الوباء فقتل 34 ألفا و595 مواطنا في مختلف أنحاء مصر.

 

     .. وكانت بؤرة الوباء بلدة «موشا» بأسيوط في أواخر شهر مايو 1902، ولم يكن عدد الأطباء كافيا لمقاومة الوباء ومكافحته؛ فقررت الحكومة تجنيد طلاب مدرسة الطب الذين تقدموا في الدراسة خاصة طلبة السنة النهائية لكي يسهموا مع الأطباء في مقاومة المرض، وتقرر وقف الدراسة في مدرسة الطب وتأجيل امتحاناتها، واستمر الأمر حتي أواخر شهر ديسمبر 1902.

 

      وقرية موشا علي مقربة من أسيوط ، وهي قرية صغيرة يسكنها بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف نسمة، وتقع علي مرتفع من الأرض وسط الحياض، وفي أثناء الفيضان تمتلئ الحياض، فتصبح القرية بأكملها أشبه يجزيرة تحيط بها المياه، ولا يتم الوصل إليها إلا علي متن القوارب، وفي الصيف بعد انحسار مياه الحياض .. تجف التربة، وتكثر فيها بسبب الحرارة أخاديد وشقوق يتعذر معها السير، ودرجة الحرارة فيها ترتفع حتي لتبلغ في الظل أحيانا 53 درجة مئوية .

 

        كان سبب دخول الكوليرا إليها عمدة القرية الذي كان عائداً لتوه من الحج، بعد أن قضى فترة الحجر الصحي، وهو علي حظ مناسب من الثقافة، وقد جلب معه عشرة صفائح مملوءة بماء بئر زمزم في مكة، وكانت زمزم في تلك السنة لحقها ميكروب الكوليرا، ولم يفطن الرجل إلي ذلك أو يتنبة له أطباء المحجر؛  فأذنوا له في نقل صفائح الماء معه، وهي محتوية علي رواسب عضوية تقوتت بها «ميكروبات» الوباء، ولما وصل العمدة إلي بلدته، وزع ماء الصفائح علي أهله ومحبيه؛ فصبوا منها في آبارهم التماساً للبركة، وما هي إلا أيام، وظهرت بينهم «الكوليرا» تحصدهم حصدا، فأقامت الحكومة حول القرية نطاقا من العسكر يمنعون الدخول إليها أو الخروج منها، وحشدت لمكافحة الوباء خيرة الأطباء، وعلي رأسهم «جودمان» وطبيب من الجيش سبق له أن كافح «الكوليرا» في الهند، وهو الدكتور «روانتري»، وكذلك جندت طلبة السنتين الثالثة والرابعة من مدرسة الطب، وقدرت لكل منهم خمسة عشر جنيها مرتبا شهريا، وهو ضعف مرتب الطبيب في الأحوال العادية في ذلك العهد» .

 

      كان نصيب نجيب محفوظ في التوزيع هو العمل في محطة القاهرة للسكة الحديدية ، وكانت مهمته يفحص المشتبه فيهم من القادمين في قطارات الصعيد، وعمل الإجراءات لشحن المهمات الطبية من القاهرة إلي «موشا»، ويؤكد د. محفوظ : «أنه بعد أسبوعين سئم العمل في هذا المكان عندما قرأ خبرا في صحيفة المقطم أن طبيبا مصريا توفي في «موشا» بالكوليرا أثناء تأدية عمله، فطلب من مصلحة الصحة نقله مكانه»، غير أن مدير عام المصلحة، وكان إنجليزيا اسمه «هوراس بنشنج» رد عليه بأن الطبيب البديل المطلوب لابد أن يكون ممن مارسوا مكافحة الأوبئة، فرد محفوظ : «يندر أن يكون في مصر طبيب كافح الكوليرا قبل اليوم ، فإن آخر وباء للكوليرا  في مصر كان في سنة 1882 .. منذ عشرين عاما»، واقتنع «بنشنج» ووافق علي سفر محفوظ، وأعطاه رسالة إلي الطبيب الإنجليزي المسئول في «موشا»  واسمه «جودمان».

 

البحث عن الأبار

الناقلة للعدوى :

ــــــــــــــــــــــــــ

 

     وصل «محفوظ» إلي «أسيوط»، ومنها انتقل الي «موشا» علي ظهر حمار في قافلة طبية تذهب إلي القرية يوميا الساعة السابعة والنصف حاملة الثلج والأطعمة علي الحمير، وحين سلم الخطاب إلي «جودمان» فقال له : «في القرية بئرا موبوءة هي العلة في استمرار الإصابات بالكوليرا، ولم نستطع العثور عليها بالرغم مما بذلناه من البحث، ولهذا السبب طلبت خبيرا للبحث عنها، وتلافي شرها، فأرسلوك إلي، وأنت تلميذ لم تتخرج بعد» .. يتذكر محفوظ ذلك ويقول:«ابتسمت، وابتسم هو أيضا لحسن حظي»، وسألني : «ماذا تقترح لحل هذه المشكلة؟»؛ فقلت: «سأحاول أن أعمل شيئا»؛ فقال : «وماذا تريد من الوسائل لمحاولتك ؟»؛ فقلت : «قائمة للوفيات وتواريخ حدوثها، وخريطة للقرية، ورسما بيانيا لسير الوفيات فيها، وكذلك أطلب الإذن في دخول المنازل لمعرفة موقع الآبار».، وسألني جودمان: «كم يوم يستغرق القيام بهذا العمل؟»، فقلت: «أسبوعين».

 

الثقافة الموسوعية

لأطــــــباء 1902  :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     كان الفارق بين الأطباء في مصر سنة 1902م والأطباء اليوم في 2020م أنه كان الطبيب المصري سنة 1902م مثقفاً ثقافة موسوعية تؤهله لأداء مهامه في البحث والتشخيص والعلاج والتعامل مع مرضاه والمتعاملين معه، وإجادة التواصل الإنساني والاتصال بالجماهير عندما تضطره الظروف لذلك، يحكي د .نجيب محفوظ:

 

     «ودخلت القرية حتى بلغت مسجدها وقت صلاة الجمعة، والناس في المسجد محتشدون؛ فطلبت من نائب العمدة أن يخبر الإمام بوجودي، ويستأذنه في أن ألقي كلمة في الناس بعد أداء الصلاة، وأن ينبههم إلى أني تطوعت لخدمتهم بديلاً عن الطبيب الذى مات شهيد الواجب فاستجاب الإمام، وشرحت للمصلين أسباب الكارثة التي تسببت في فقدان أعزائهم، والتي يرجع سببها إلى تلوث بعض أبار المياه، وطلبت منهم أن يعيننوني في مهمتي، فاستحسن الناس ما قلت، ووعدوني ببذل العون .»

 

قسوة الظروف

.. ونداء الواجب :

ــــــــــــــــــــــــــــ

 

      أقام «محفوظ»  في خيمة منصوبة في العراء لإقامة الأطباء، وكان لكل طبيب خيمة خاصة به مزودة ببعض أدوات غسل الوجه واليدين، وكان هناك خادم يتنقل بين الخيام لمساعدة من يبغي الاستحمام، وفي صباح اليوم التالي من وصوله، أرسل «جودمان» إليه إطارا رسمه مهندس تمهيدا لعمل خريطة للقرية، وقائمة بالمتوفين بالكوليرا، وتاريخ وفاتهم، وطلب من نائب العمدة أن يصحبه إلي زيارة المنازل للكشف عن الآبار التي يخفيها الأهالي عن العيون، .. ويذكر محفوظ أنه شرع في رسم خريطة للقرية، وكانت الصعوبات التي قابلته أن القرية عبارة عن كثير من الحارات التي تنتهي بزقاق مسدود بأحد المنازل، فلا يوصل إلي تتمة الحارة إلا بالصعود إلي السطح والنزول منه للدخول في الحارة التالية.

 

الجهـل .. والفسـاد ..

و«البيضة المشوية»:

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 

        انتهي محفوظ من رسم الخريطة في خمسة أيام، ثم بدأ عمله بالتفتيش عن الآبار المخبوءة .. يتذكر محفوظ أن:

 

      « الأهالي كانوا يخفون الأبار بوضع ألواح من الخشب القديم عليها، ويفرشون فوق الألواح حصيرا بالياً يسمونه «الأبراش»، ثم يغطون الحصير بالتراب، فلا يهتدي إلي مكان البئر إلا من يعرف السر، وكنت أصل إلي اكتشافها بأن أقرع أرض فناء المنزل بهراوة غليظة تسمي «النبوت» أستعارتها من نائب العمدة الذي كان يصحبني في القيام بهذه الزيارات؛ فإذا كان صدي القرع أصم علمت أن ليس هنا مكان بئر، وإذا كان الصدي رنانا أمرت بنبش الأرض، فأجد فوهة البئر مغطاة بالحصير فوق ألواح الخشب، ومتي اكتشفت بئرا وضعت نقطة حمراء في موضعها من رسم القرية، وكتبت اسم صاحب المنزل المحتوي علي البئر في دفتر خاص وبهذه الطريقة اكتشفت من الآبار المخبوءة نحو خمسين» ..

 

      .. وقام «محفوظ» بفحص قائمة الوفيات وتواريخها ،ووضع نقطة سوداء عند كل منزل حدثت فيه وفاة، وتبين له أن كل الوفيات حدثت في المنازل المجاورة لبئر كبير اشتهر بعذوبة مائها، فكان أصحابها وجيرانهم يملأون منه في السر للشرب ثم يغطونه، .. ويتذكر محفوظ أنه ملأ صفيحة منه، وأرسلها إلي التحليل في معمل «بكتريولوجي» في أسيوط، وأظهر التحليل أنه ملوث بميكروب الكوليرا، فتم تطهيره ثم ردمه، وبعد أسبوع انقطعت الكوليرا من قرية «موشا» .

 

       يتذكر د. محفوظ بمرارة قائلاً : «لم يكن النطاق الذي ضُرب حول موشا يمنع انتقال الوباء منها، فرشوة أحد العساكر ببيضة مشوية يسمح لأحد الأهالي بالخروج، ونقل الوباء إلى شتى أنحاء البلاد.» .

 

      .. انتقل محفوظ بعدها الي ديروط ومسارة في أسيوط أيضا لمقاومة الوباء .. يقول محفوظ عن تجربته مع الكوليرا في قرية «مسارة»:

 

    «قمت بتفتيش المنازل، وعزلت المصابين، وجعلت على الترعة خفراء يمنعون الأهالي من أن يلقوا فيها شيئاً، وصنعنا فى طرفي الترعة موردتين، إحداهما في مدخل القرية يستقي منها الناس، والأخري في نهايتها  لسقيا الماشية.».

 

المهمة في حلوان :

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

       يقول محفوظ : بعدها جاء الأمر بنقلي إلى حلوان، ولم تكن في حلوان حالات كوليرا .. بل اشتباه في حالتين أبلغ عنهما حلاقا الصحة .. إحداها لرجل من قرية المعصرة والحالة الثانية كانت في «عزبة التبانة».

 

المهمة في الأسكندرية:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     يقول محفوظ : وبعدها جاء أمربنقلي إلى الأسكندرية لظهور حالات الكوليرا بسبب تواصل العدوى من القادمين من قرية «الدخيلة» بالقرب من «المكس»، .. وركبت نرام المكس إلى نهاية الخط .. تم ركبت حمار نقلني إلى القرية، وقابلت عمدة القرية وشرحت له طبيعة المهمة، وتبين لى أن سكان القرية زهاء ألف نسمة يشربون من ستة أبارمحفورة بالقرب من شاطئ البحر، تستمد ماءها من رشح الأمطار الذي لا يخلو من ملوحة قليلة؛ فبدأت تفتيش استغرق ثلاث أيام لم أجد إصابات جديدة، بعد ذلك أنشأت 20 مضخة «طلمبة» من النوع المسمى الحبشى لا يزيد عمق الواحدة عن عشرة أمتار، وطهرت الآبار المكشوفة وأقمت عليها خفراء يمنعون شرب الأهالى منها»

 

***

      «كانت هذه رحلة طالب طب في مكافحة الكوليرا من مايو 1902 من أسيوط إلى المنيا إلى حلوان والإسكندرية إلى أن تم  القضاء عليه نهائيا في ديسمبر ١٩٠٢» .

 

بداية وباء 1947:

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

       رسم لنا الأديب خيري شلبي صورة قلمية في روايته بعنوان: «الوتد» عن تعامل قرية «شباسي عمير» مديرية كفر الشيخ مع جائحة الكوليرا سنة 1947، ورسم صورة لما كانت عليه الكردونات حول القرى، وكيف استطاعت السيدة القروية بطلة الرواية من خلال إجراءات بسيطة العبور بأسرتها بسلام من الوباء من خلال عزل أسرتها عزلاً منزليا حيث قامت بإغلاق الأبواب والنوافذ بألواح الخشب وتثبيتها بالمسامير، وقصر الطعام على الخبز الجفاف والمش والبصل والثوم، وشرب الماء المغلي بعد تبريده ..  والاهتمام بالنظافة الشخصية .

 

     وقد تركت لنا الشاعرة العراقية نازك الملائكة قصيدة عن «الكوليرا» بعنوان :«سكن الليل» ابدت فيها تعاطفها مع نكبة أهل مصر بالوباء القاتل .. قالت فيها:

 

«يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ

 

طَلَع الفجرُ

 

أصغِ إلى وَقْع خُطَى الماشينْ

 

فى صمتِ الفجْر، أصِخْ، انظُرْ ركبَ الباكين

 

عشرةُ أمواتٍ، عشرونا

 

لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا

 

اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين

 

مَوْتَى، مَوْتَى، ضاعَ العددُ

 

مَوْتَى، موتَى، لم يَبْقَ غَدُ

 

فى كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ»

 

      كان الموت بالكوليرا أحد اشكال العار الاجتماعي في المجتمعات المتخلفة؛ فقد أطلقوا عليه "ميتة الكلب" أو "الرعب الأزرق" أو "الموت الأصفر" لأنه كان يأتي في صورة قيء مصحوب بإسهال دون ضابط لبراز يشبه ماء الأرزوالذي يصفي الجسد من السوائل وعندما يصل الجفاف إلى مرحلة حرجة تهز التشنجات كل عضلة في الجسم ويتلوى المريض ويصرخ من الألم .

.. فى سنة 1947م، اجتاح وباء الكوليرا العاشر والأخير مصر، وكانت بؤرة الوباء قرية القرين بمحافظة الشرقية .. بدأ الوباء وقت جلاء القوات البريطانية عن الهند في 15 أغسطس 1947م، حيث كانت هذه القوات تتخذ من منطقة قناة السويس محطة لها، وكانت قوات الاحتلال تتخذ منطقة فايد لرسو السفن مخالفة لوائح الحجر الصحي، مما جعل الكوليرا القادمة من الهند تنتشر في مصر بالتحديد  منذ 22 سبتمبر 1947م، لتبدأ قصة الوباء العاشر في مصر.

 

     كان وباء الكوليرا قد دخل القرية من خلال العمال الذين كانوا يعملون في معسكرات الجيش الانجليزي في التل الكبير والاسماعيلية، وكان من عادة أهل القرين أن يوفر كل صاحب دار حجرة أو حجرتين يؤجرها للغرباء الذين يعملون في القرين أو بالقرب منها .

 

     .. وحين تفشي وباء الكوليرا انتشر بادئ الأمر بين عمال «الكامبات الإنجليزية» من الغرباء على القرية، وكان الفلاحون من أصحاب البيوت يخافون التبليغ عن الإصابات خيفة أن يعزلوا هم الآخرون،.. ويموت الغريب وليس هناك من يسأل عنه.. ويحمله أهل البيت إلي الجبل فيدفنونه سراً وبدون تصريح دفن، ويعودون فإذا سئلوا عنه قالوا: لقد فر من القرين !!، وإذا سئلوا: متي؟، أجابوا : قبل الوباء !!، ولا مانع أن يضيفوا لحبك القصة وإكسابها بعض المصداقية : «أنه لم يدفع أجرة الغرفة عن الشهور الماضية .»

 

      .. وقد افتضح هذا الأمر عندا  انتشرت من الجبل رائحة الموت، وذهب بعض المستطلعين، وعادوا يقولون : أن هناك جثث تنهشها الكلاب !!؛..لأن الذين قاموا بدفنها كانوا في عجلة من أمرهم فدفنوها علي مقربة من سطح الأرض!!.. وأعلن عمدة القرية أنه يتبرع لإقامة مقابر للغرباء وحدهم .. هؤلاء الذين لا أهل لهم، ولا أحباب يبكون عليهم ويحزنون لأجلهم».

 

    .. تم اكتشاف المرض في القرين حين اشتبه الدكتور صلاح ذكى مفتش الصحة ببلبيس فى إصابة أحد الأشخاص الذين قد ذهبوا لتلقى العلاج هناك، وأخذ عينة أرسلها إلى القاهرة ليقوم بتحليلها، وعند تحليل العينة قى القاهرة وُجد أنه وصل إلى المعمل عينات أخرى مشابهة حوالى 20 عينة وجاءت النتيجه أن الكوليرا قد بدأت من قرية «القرين».

 

     ويسبب مرض الكوليرا إسهالا شديدا وينتج عن تناول أو شرب أطعمة ملوثة بجراثيم الكوليرا السامة، ويمكن أن ينتشر المرض بسرعة في المدن التي تعاني من مشاكل في شبكة الصرف الصحي، وكل القرى لعدم وجود مراحيض لقضاء الحاجة !!

 

     وقد أعلنت الحكومة رسمياً عن أول إصابة بالمرض فى قرية «القرين» وقرية بلبيس القريبة منها .

 

    .. وتعاملت الحكومة بحزم لمحاصرة الوباء، وبدأت بإنشاء وحدة صحية و6 طلمبات للمياه وهدم العشش،  وقامت قوات من الجيش والشرطة بفرض نطاق حول «القرين»، ومنعت الدخول إليها أو الخروج منها، وقامت بعزل الحالات المصابة فى عنابر معزولة عن سائر عنابر المستشفى، وأقامت مستشفيات ميدانية لعزل الحالات المصابة، وتعقيم منازل المصابين بعد عزلهم والتحفظ على المتعلقات الشخصية لهم لحماية سائر أفراد الأسرة، وزيادة نسبة الكلور فى المياه العمومية، وتوصيل عربات مياه معقمة للمناطق الموبوءة التى لا تتمتع بخطوط مياه صحية، ومنع الاستحمام أو غسل الملابس فى الترع نهائيًا.

 

     .. كما قامت قوات حفظ الدرك في القرى من الخفراء والعمد ومشايخ البلد  بمنع أية فتحة أو مصب يصب مياه أو أية مخلفات فى الترع والمصارف،  وإزالة القُلَل والأزيرة وأية وسيلة للشرب في الأماكن العامة والطرقات فى القرى المُصابة، ومنع بيع أى طعام أو شراب يتم تحضيره أو إعداده بالأسواق وأماكن التجمعات أو المطاعم، وتم التنبيه بأن يقوم كل واحد بتحضير طعامه فى بيته

 

     .. وعزلت قوات الجيش والشرطة الوجه القبلى عن الوجه البحري ووضع المتاريس على مشارف العاصمة القاهرة من اتجاه محافظة القليوبية عند قرية مسطرد، ومن أراد الانتقال عليه أن يمكث 6 أيام تحت الملاحظة، وتم تطبيق الحظر على كل وسائل المواصلات بما فيها القطارات، وعدم الانتقال بين مدينة وأخرى خصوصًا من أراد أن يدخل المدن الكبرى مثل القاهرة إلا بتصريح من وزارة الصحة عليه صور الاشخاص المصرح لهم، وخلف الوباء ورائه 10276 شهيد .

 

      كان الشفاء من الكوليرا ممكن بعد 5 أيام، لكن المرضي من الفقراء والأرزقية لم يستطيعوا الصبر تلك الأيام تحت وطأة الحاجة ولقمة العيش؛ فقد نشرت «مجلة المصور» صورة لبعض المرضى يلتفون حول الدكتور الرملي بك مدير المستشفى يكررون طلبهم للخروج من المستشفى قائلين : «إحنا مش عيانين سيبونا في حالنا».

 

 

وباء كورونا 2020 :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

        لم أشك لحظة واحدة، ومنذ تفشي وباء «كوفيد  19ـ 19 Covid» المعروف باسم «كرونا» أنه حرب بيولوجية مخطط لها، وتدار باحترافية قتالية عالية من متخصصين في تكنولوجيا «الفيروسات المُصممة» أو «الفيروسات المُهندسة» التي بدأت في الازدهار مع بداية هذا القرن في ظل الطفرة الهائلة في صناعة الحواسب الرقمية، ولأن لـ «صناعة الموت» قواعدها؛ فدائما ما تكون أحد المعالم المشتركة في كل أنواع الهجوم البيولوجي أنه لا يمكن الكشف عنها إلا بعد فوات الوقت المناسب .. ودائما ما يتم  الهجوم البيلوجي بغطاء من إعلام مكثف وموجه ومتوافق ومتزامن عبر ترددات يتم بثها من كافة أنحاء وأرجاء المعمورة لبث الرعب بين البشر .. ودائما ما يصوّر القتلة أنفسهم في صورة الضحايا لإبعاد الشبهة عنهم مثلما حدث في الصين وأمريكا !!

 

      كانت هناك بعض الإشارات التي تندرج تحت مسمى «أشباه الأخبار» يتم بثها عبر إناس ليسوا فوق مستوى الشبهات مثل الدكتور طلال أبو غزالة رئبس الائتلاف العالمي للمعلومات الأسبق الذي أعلن سنة 2018:

 

        «أن العالم سيتعرض لوباء جائح وقاتل في سنة 2020.»، وقد حذر رئيس مايكروسوفت بيل جيتس في سنة 2019 في حلقة وثائقية بعنوان: «الوباء القادم» من مخاطر ظهور فيروس قاتل، وفي كتابه «ساعتنا الأخيرة .. إنذار من عالم Our Final Hour..A Scientist,s Warning» الصادر عام 2003 يقول مارتن ريز:

 

        « أنه بحلول سنة 20 20 سيقع خطأ بيولوجي أو أرهابي يؤدي إلى قتل مليون فرد» *(3)

 

    .. كما كثر الكلام عن تنبأ السينما الأمريكية بوباء كرونا، ولم أعر هذا الكلام اهتماماً؛  فهو كلام أشبه بمحاولة القبض على الرمال الناعمة، وأقرب إلى مخيالات السكارى وهزيان المحمومين التي لا تسفر عن شيئ خاصة أنها تندرج تحت مصادرة الحق في الإبداع إذا ما تم وضعها في خانة «الخيال العلمي»، خاصة أن السينما تقوم على فن الرواية بما يحمله هذا الفن من مكر ومراوغة: مثل فيلم «المرض المعدي Contagion»  الذي يحكي عن انتشار مرض معد مصدره «شربة الخفافيش»، وفيلم « السفينة الأخيرة The Last Ship»، ويتحدث عن فيروس دمر العالم، وفيلم «تفشى الوباء Outbreak» الذي يتحدث وباء يدمر الجهاز التنفسي، وفيلم « الناجي الوحيد I Am Legend»، وفيلم «الحجر الصحى Quarantine»، وفيلم «الأنفلونزا القاتلة Flu» .

 

رؤية مكتشف الإيدز :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

      .. يؤكد لوك مونتانييه مكتشف فيروس الإيدز: «إن فيروس كورونا أنشئ في مختبر، فهو يحتوي على جزيئات فيروس نقص المناعة البشرية الإيدز .»، وقال لوك مونتانييه : «أن الفيروس التاجي الجديد أتى من ووهان في الصين، ولكنه أنشئ في مختبر حيث أدخل الباحثون فيه أجزاء من الحمض النووي من فيروس الإيدز، فيروس نقص المناعة البشرية، ثم انتشر فيروس كورونا بسبب «حادث صناعي».

 

    .. ويعتبر لوك مونتانييه : «أن الرواية حول إصابة البشر بالفيروس من الحيوانات البرية أسطورة جميلة.».

 

    .. ويعتقد مونتانييه، أن الابتكار (فيروس كورونا المستجد) بدأ منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وقال العالم ربما حدث هذا عند محاولة صنع لقاح يحمي من فيروس نقص المناعة البشرية .

 

     .. لكننا في كل الأحوال لا يمكننا قبول شهادة لوك مونتانييه على علاتها خاصة في ضوء القيود المفروضة على العلماء الأمريكيين لدعم السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية !!

 

     .. المثير للشك أيضا في شهادة لوك مونتانييه أنه تم تداولها والتعامل معها عبر (ماكينات غسيل الأخبار)؛ فتم بثها في صحيفة محلية؛ لتنقلها عنها عدة صحف محلية محدودة التوزيع والانتشار، ثم تأخذ حيز من أثير B.B.C ثم تحتل الصفحة الأولى من الديلي ميل !!

 

الأصابع القذرة للأمريكان :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

      توجية الاتهام إلى الصين بتخليق الفيروس أوبأطلاقه بعد النجاح في عزله وتحويره لا ينفي وجود الأصابع القذرة للأمريكان في «لعبة الموت» سواء بتمويل الأبحاث أو بصناعة الفيروس ونقله إلى الصين ضمن الحرب التجارية بينهم؛ فقد أعلن الأمريكان في سنة 2011 وقف التجارب الفيروسية ثم عادوا في اكتوبر 2017 ليعلنوا عن استئنافها بضوابط جديدة (مع الأخذ في الاعتبار أن التصريحات الأمريكية أكاذيب رسمية).

 

       بعد أن قامت منظمة المعاهد الطبية في أمريكا بإزالة الحظر عن الإستثمار في مشاريع التي تتعلق بالجراثيم التي من المحتمل أن تشكل أوبئة، وصرح الدكتور فرانسيس كولينز رئيس معاهد الصحة الوطنية في أمريكا:

 

     «إن المسؤولية في التأكد من إجراء هذه الأبحاث المتعلقة بأوبئة الجراثيم المعدية بطريقة مضمونه وموثوقه أمر يقع على عاتقنا، ونحن على علم بمخاطر سلامة الأحياء والأمن البيولوجي المحتمل حدوثها»، وأضاف :« أنه على يقين بأن النتائج التي سوف تتمخض عن هذه البحوث سوف تكون مثمرة ومفيدة للصحة العالمية.» .

 

      .. وقد إختلف العلماء فيما بينهم ما بين مؤيد ومعارض، فهذه الأوبئة قد تتسب بالفتك بالبشرية جمعاء قبل أن يدرك العلماء سبل إيجاد علاج لها، .. وهو ما حدث بالفعل !!

 

       .. في السادس من أكتوبر 2018 دقّ علماء أوربيون ناقوس الخطر حول برنامج الأسلحة الجرثومية الأمريكية بعد ظهور الدلائل الأخيرة على اختبار المواد البيولوجية القاتلة في تبليسي في جورجيا، إضافة إلى مخاوف بشأن نشاط الأبحاث الأسلحة البيولوجية الأمريكية في بعض الدول الأجنبية، وقد شعر العلماء الأوروبيون بقلق بالغ إزاء برنامج بحث جديد مريب بتمويل من وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، والذي يبدو أنه ينشر الأمراض على المحاصيل والحيوانات والبشر في الخارج، وأن الولايات المتحدة تقود أبحاثاً حول الأسلحة البيولوجية في أرجاء العالم كله .

 

       يقوم علماء الحرب البيولوجية الأمريكان باختبار الفيروسات ذات المنشأ البشري في مختبرات البنتاجون البيولوجية، المنتشرة في 25 دولة حول العالم مستخدمين الغطاء الدبلوماسي، ويتمّ تمويل هذه المختبرات من قبل  (وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتطورة «داربا» Defense Advanced Research Projects Agency «DARPA»)  كجزء من برنامج عسكري تُقدّر ميزانيته بـ 2.1 مليار دولار، ويمكن اعتباره محاولة لتطوير العوامل البيولوجية ونواقلها لأغراض عدائية، وهو برنامج يقوم على «المشاركة البيولوجية التعاونية»، وتقع مراكزه في جورجيا وأوكرانيا، وفي الشرق الأوسط، وجنوب شرق آسيا وأفريقيا.

 

 السجل الأسود لأمريكا :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   

      منذ 4 قرون كانت أول جريمة تطهير عرقي على وجه الأرض؛ فقد قام مستعمرو أمريكا بإبادة 112 مليون إنسان يمثلون 400 أمة وشعب هم سكان قارة بأكملها؛ ليتم استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة عبر إفناء السكان الأصليين باستهدافهم بحرب جرثومية استخدمت فيها جراثيم الجدري والتيفوئيد والخناق والحصبة، واستطاعوا أن يقتلوا 950 إنسانا من كل ألف وتركوا جثثهم نتنة فوق الأرض دون أن تجد من يدفنها من خلال 93 وباء شاملاً منها: 41 جدري، 4 طاعون ، 17  حصبة ، 10 انفلونزا، 25 سل ودفتيريا وتيفوس وكوليرا .

       كان الأوربيون يعرفون هذا السلاح الجرثومي، وكانوا في حروبهم يستخدمون المجانيق في قذف جثث الموتى بالطاعون أو جيف الحيوانات الموبوءة إلى داخل المدن التي يحاصرونها، وكانوا يعرفون من تجاربهم السابقة أن سياسة العمل بالسخرة والتجويع الإجباري من أهم وسائل الإبادة، وكانوا إذا أطعموا ضحاياهم فإن الطعام يحمل لهم السم في صورة الطحين الفاسد واللحم المنتن.. إضافة إلى معاناة الترحيل القسري الجماعي وتقويض معنويات الضحايا ودورها في شحذ أنياب الأوبئة التي تزيدها فتكاً.

 

      لم يتبق من سكان أمريكا الأصليين في سنة 1900 سوى ربع مليون إنسان الشيروكي Cherokee  والشوكتو Chocctow، والشيكاسوChickasow، الكريكCreek، السيمينول Seminole، وتوسكاروا Toscaroa بعدما حذفت من القوائم 180 شعباً من السكان الأصليين .. قامت الولايات المتحدة الأمريكية بقتلهم على مدى تاريخها تارة بالأوبئة وتارة بالنفايات المشعة مثلما حدث مع من تبقى من النافاهو !!

 

       ومع أوائل سنة 1970 بدأ الهلع الأمريكي لتزايد عدد السكان الأصليين ليصل إلى مليون إنسان، تم تجريدهم من إنسانيتهم وثقافتهم وتاريخهم؛ ليقدموا في الإعلام الأمريكي المزور على أنهم من المتوحشين شاربي الدماء سالخي فروات رؤوس البشر؛ فقام الأمريكون بعمليات إجرامية تم الكشف عنها في يوليو 1974 لتعقير 42% من نساء السكان الأصليين.

 

      وفي إطار مسلسل الإبادة تم استخدام السكان الأصليين كحقول تجارب بدلا من الفئران عندما أجرت شركة نورث سلوب تجارب طعم التهاب الكبد الذي منعت منظمة الصحة العالمية استخدامه لتسببه في الإيدز.

 

     دمر الأمريكان هيروشيما وناجازكي بالدمار الذري، وخلفوا ورائهم ملايين القتلى والمشوهين، ولم يكن شعب فيتنام بمعزل عن الممارسات الأمريكية الإجرامية عبر برنامج «العنقاء Phoenix» الذي مارس التعذيب، وعمليات غسيل المخ القذرة بالجراحات الفصية الدماغية واستخدام العقاقير الكيمائية ومثبطات العزائم، وعمليات الاغتصاب الجماعي، وتلويث البيئة، ونشر الأوبئة الجرثومية على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، وإلقاء النابالم الحارق على الأطفال .

       .. ولم تكن مصر وشعبها بعيدة عن تلك الأساليب الأمريكية القذرة؛ فتعرضت نساء مصر لبرامج التعقير الطوعي برعاية حكام محليين وأدوات ثقافية ودينية جاهلة أو عميلة وبمشاركة أطباء وصيادلة معدومي الضمير من المسلمين، أو ممن ينتمون لديانات أخرى ذات مصلحة في تقليل الزيادة الديموجرافية للقوى البشرية في مصر تحت ما يسمى بـ  «برامج تحــديد النسل»  و «برامج تنظيم الأسرة»، وما قامت به تلك المنظومة من ممارسات إجرامية في الإجهاض الإجرامي والتعقير الطوعي مستغلة جهل الفقراء وحاجة المعوزين، واستهداف الشعب بالأطعمة السامة المُهندسة وراثيا والمبيدات المسرطنة وكافة أشكال الملوثات للتربة والمياه، وانتهاء بمحاولة استخدام صحراء مصر الشرقية في دفن النفايات الذرية للنمسا في السبعينيات من القرن الماضي، وسط حالة من التدليس الإعلامي قادتها «مجلة أكتوبر» بادعاء ساقط وسفيه أن هذه النفايات ستسمح لنا بالدخول إلى عصر الذرة، وحاولت المطبوعة الترسيخ في ذهن القارئ أننا نستطيع أن نستخدم هذه النفايات لصالحنا، مع أن القارئ للاتفاقية يجد أن الجانب النمساوي حرم السلطات المصرية من القدرة على أي تعامل لصالحها مع تلك النفايات، وجعلت له الحق في استردادها في أى وقت، وأن هذه الاتفاقية تجعل من مصر مستودعا لما نسميه «الزبالة الذرية» لولا ثورة الرأي العام النمساوي، وتبني المعارضة رفض موضوع دفن النفايات في خارج الأراضى الأوربية وخاصة مصر لأسباب تتعلق بأمن إسرائيل؛ وذلك لأن الصحراء الشرقية قريبة من الحدود الإسرائيلية، وبطرح الأمر على الرأي العام النمساوي جاءت نتيجة الاستفتاء برفض المشروع برمته، وكان الفارق في التصويت 2%  .

 

       قتل المصريين هدف أمريكي صهيوني قديم، وما يقوم بها المركز المشبوه «نمرو3» الكائن بحي العباسية بالقاهرة، والنمرو اختصار لعبارة Naval Medical Research Unit ، وتعني «وحدة البحوث الطبية للبحرية» ولهذا المركز دوره المشبوه في انتشار العقم والضعف الجنسي والتخلف العقلي وانتشار الإعاقات الجسدية عبر دوره المشبوه في التدخل بالتلاعب السلبي لتشويه الجينات الطبيعية والمناعية، من خلال ما تقدمه لنا الولايات المتحدة وإسرائيل من أدوية أو بذور، أو أعلاف حيوانية، ومن خلال تدخله في كل الأبحاث في مجالات الزراعة، الثروة الحيوانية، المياه، والأغذية، واستخدام المصريين كفئران تجارب في أبحاث الإيدز، والحمى القلاعية، واختبار أدوية أنفلونزا الطيور (التاموفلو)، وأمراض فيروسات الكبد (انترفيرون، سيلنيوم سولفيد).

 

     وابتليت مصر بوباء المخدرات الذي غيب شبابها عن قضايا الوطن الحقيقية، ولم تكن أصابع C.I.A. والموساد بعيدة عن تلك الكارثة، ويعد فيلم «حرب الأفيون » من الوثائق العالمية الخطيرة عن دور الدول الاستعمارية في استخدام المخدرات في هدم الشعوب .

 

       .. وعلى ذات النهج في إبادة الشعوب؛ قامت السلطات الإسرائيلية بوضع مواد كيمائية في الحليب والماء في مدارس البنات الفلسطينيات في الأرض المحتلة لكي يُصبن بالعقم . 

 


تم بحمد الله .. نسأل الله العافية