الأحد، يناير 31، 2021

"الثقافة الشعبية" .. وتشكيل العقل المصري ـ ياسر بكر ، بصيغة Word

 "الثقافة الشعبية" .. وتشكيل العقل المصري ـ ياسر بكر

بـ (صيغة Word)


 الإهداء
ـــــــــــــــ

   إلى مصر .. اذكريني إذا نسيتني الأيام، 

وصانعــو الكلام، وفهـارس الأعـــــلام .
 

ياسر بكر

 

مقدمة

 

      .. للمرة الثالثة نُعيد التساؤل :

      .. ماذا حدث، .. ويحدث للمصريين ؟!!

 

      في المرة الأولى تسألنا عما حدث، .. ويحدث للمصريين في كتابنا بعنوان: («فئران المركب» .. دراسة في التاريخ الاجتماعي)، كان التساؤل تحت تأثير حالة من الصدمة تُعرف بـ «صدمة الثقافة» مما أصاب المصريين من «التنمر» العقور في مواجهة مرضى وشهداء كورونا، وامتد إلى أطباء العزل الصحي، وطواقم التمريض!!

 

     .. ومع تفاقم الأوضاع وازيادها سوءاً أعدنا طرح التساول في كتابنا بعنوان: (شعب من «الأوز» .. مقدمة في علم اللغة الاجتماعي) الذي رحنا نبحث فيه عن إجابة لذلك السؤال الذي أقض مضجعي، وأطار النوم من عينيي من خلال محاولة فهم أشكال، وآليات التطور الاجتماعي، وانعكاستها على اللغة، وأثرها  في خلق سياقات اجتماعية تُكتسب اللغة فيها وتُستخدم، وحاولنا الإجابة عن السؤال:

 

    ـ لماذا صار مجتمعنا «مجتع الفُرجة» أو «مجتمع المقبرة»؟!!

      .. مجتمع «الفرُجة» .. هو المجتمع الذي يكتفي بالمشاهدة دون المشاركة أو الاشتباك مع الواقع، والتفاعل معه أو طرح المبادرات لاقتحام المعضلات!!.

 

     .. مجتمع «الفرُجة» .. هو ذلك «المجتمع الجاهل» الذي يجأر بالشكوى من أوضاعه وأوجاعه، ولا يطرح حلولاً لمشاكله؛ بما يجعله جزء من المشكلة!!

 

     .. مجتمع «الفرُجة» هو المجتمع الذي اختفت فيه فضيلة «الجماعية»، وسادت فيه روح «الفردية»؛ فتحول من مجتمع متراحم ومتضامن إلى مجموعات ممزقة من شراذم الرعاع التي تبحث عن مصالحها الفردية، وتعتبر حب النفس فضيلة وليس رذيلة،  أو«مجتمع المقبرة» هو المجتمع الذي تختفي فيه الملامح الإنسانية للحياة، وتغيب مشاعر الود بين البشر عند التلاقي.

 

***

     .. كانت الإجابة كافية بوضوح وسطوع وكاشفة عن بعض جوانب السؤال!!، لكنها أيضا لم تستطع النفاذ بعمق إلى الكثير من «البقع المعتمة» التي أصابت الشخصية المصرية في المدن والريف على السواء، وأصابتها بفقدان قيم الرجولة والشهامة وانعدام النخوة، وجعلتها فاقدة التأثير أو القدرة على المشاركة، وجعلت المواطن المصري أقرب إلى «الصرصور الملقى على ظهره» يسمع ويحس لكنه غير قادر على فعل شيء ـ على حد تعبير كافكا ـ أو إلى كائن زومبي مُعاد إلى الحياة بأسلوب الخديعة؛ لذا فقد أعدنا طرح السؤال للمرة الثالثة في محاولة للعثور على الجواب من منطلقات المنهج الوصفي التحليلي وتطبيقاته على السرد العامي في «كلام المصاطب»، ودور «السامر الشعبي» بما يحمله سحر الحكايا من خدر الأماني، ووهجها الذي يبث دفء الوعود الزائفة، التي تشعل جذوة الخيالات التي تتفاعل مع  الوجدان في منطقة العاطفة، وتسهم بشكل ما في تشكيل العقل المصري من خلال البُنى الثقافية المتاحة.

 

      ولأنه لا يمكن فهم لغة مجتمع بدون فهم تقافته، وبدون فهم السياقات الاجتماعية التي تكتسب فيها اللغة وتستخدم،.. وتأثير تلك السياقات على الأخلاق والسلوك وبصمتها على طبيعة العمران !!

 

      .. لذا كان لابد من فهم لغة العامة «الملحونة» التي يطلق عليها البعض:«اللغة العامية» أو «لغة الشارع» أو «لغة المصاطب» أو «لغة المقاهي»، والنفاذ إلى باطن «الثقافة الشعبية» التي يتم تعريفها صراحة أو ضمناً مقابل الفئات المفاهمية الأخري: بـ «الثقافة الفلكلورية» بمعنى «حكمة الشعوب» حسب التعريف الأوربي لمصطلح Folklore، أو«الثقافة الجماهيرية»، أو «ثقافة الجمهور»، و«الثقافة السائدة» في مواجهة ما عدها من الثقافة المضادة،  أو«ثقافة الطبقة العاملة»، أو «الأدب الشعبي»، أو «أدب الفلاح» أو «الثقافة القولية» أو «الثقافة الشفاهية» أو «الثقافة اللفظية» أو «الثقافة المهتمة بالحياة الشعبية» أو «ثقافة جمهور المدينة من الطبقة الوسطى» أو «ثقافة الصمت» أو «ثقافة الصوت المقموع»، أو «ثقافة الإرادة المقهورة»، أو «ثقافة التفكير الملغي» .

 

      .. كانت محاولة فهم تلك الثقافة بما تحمله من رموز ومدلولات، ودورها في تشكيل العقل المصري، وانتاج القيم الرئيسية التي تحكم سلوك الفرد بما يجعله مقبولاً من قبل السلطة المهيمنة، وفي ذات الوقت تضبط حركة المجتمع في أداء وظائفه ـ في حدود المُمكن والمُتاح ـ في تنظيم الحاجات الاجتماعية لأفراده في إطار دستوره الشعبي الذي صاغه بنفسه من جوانب معروفة من شخصيته وكيانه يعبر بها عن كوامن ذاته من داخل مروياته ومأثوراته من حقائق قد يغفل التاريخ عن ذكرها!!

 

     حاول الدكتور سيد عويس إماطة اللثام عن «ثقافة الصمت» في دراسته بعنوان: «هتاف الصامتين» من خلال دراسة للعبارات المكتوبة على هياكل المركبات والجداريات .*(1)

***

      في أوائل السبعينيات من القرن الماضي كنت في السنة الأولى (القسم العام) بكلية الآداب ـ جامعة القاهرة، وكان عمر قسم الأدب الشعبي الذي أنشأه الأستاذ الدكتور عبد العزيز الأهواني، وأسند رئاسة كرسيه إلى الأستاذ الدكتور عبد الحميد يونس لا يتجاوز الخمس سنوات .. كأن الارتباك والإرباك سيد الموقف في إشكاليات كثيرة حول «الأدب الشعبي»، كان اساتذة الآداب الغربية يسرفون في الحديث عن: «الحداثة» وتداعياتها على فهم النصوص، ولم أكن أفهم شيئاً مما يقولون، وارجعت ذلك إلى قصور في قدرتي على الفهم خاصة أن بعض أقراني كانوا يدعون الفهم، أو على أفضل الفروض ـ حسن النية ـ يتوهمون الفهم!! ..  كانت الحداثة ـ كما يقولون ـ نمطا حضاريا متميزا يتعارض مع نمط التقليد، بمعنى أنها تتعارض مع كل الثقافات الأخرى السابقة أو التقليدية بما فيها الثقافة الشعبية بمعنى «تهميش» الثقافة الشعبية .

 

     ثم أعلن الغرب سقوط نظرية «الحداثة»، وأقام على أنقاضها ما يعارضها في كل اتجاهاتها، ويختلفت معها في طريقة رؤيتها ونظرها لـ «الثقافة الشعبية»؛ كانت «ما بعد الحداثة» تتميز بتآكل الفاصل القديم بين الثقافة العليا وبين الثقافة الشعبية .

 

      وفهمت مدى الخدعة، وحجم التلاعب بعقولنا، وما يعد لـ «الببغاوات العرب» الذين ينطقون بما لا يفقهون على رأسهم أصحاب «الياقات البيضاء» باعتبارهم أخطر العناصر لـ «نقل العدوي الغربية» إلى الفكر العربي!!،  وبدأ الترويج لما اسموه :«مابعد الحداثة»، وبدأت «الطنطة» والإفاضة في شرح مفاهيم ذلك المُسمى !!

 

    ولم يكن حال الباحثين في الأدب الشعبي أفضل من زملائهم من دارسي الآداب الغربية؛ فلم تكن قدمهم قد ترسخت في البحث في ذلك المجال الذي تم النزول إلى حقله تقليداً للغرب، بينما أكد د. محمد الجوهري أستاذ علم الاجتماع بالكلية:(عدم وجود مصلح مشابة للمصطلح الانجليزي  Popular Culture في اللغة العربية .).*(2)

 

    كان أكثر اساتذتنا جدية في هذا الأمر أ. د. محمد الجوهري فقد تقدم بمشروع جاد ـ تم تعطيله عن عمد وبسوء قصد ـ بعنوان : «مشروع أطلس مصري للفلكلور» في ورقه لمؤتمر أطلس أوربا والدول المجاورة الذي عقد في بون سنة ١٩٦٧ لاستكمال المحاولات التمهيدية لإنشاء أطلس الفلكلور المصري الذي ارتبط باسم عالم الفلكلور الألماني هانز الكسندر فينكر، وقد بدأ د. محمود الجوهري العمل منذ بداية السبعينيات مع فريق ضخم من الباحثين، وكانت البداية في أحضان المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وبعد أن اتسع المشروع ونما قامت الهيئة العامة لقصور الثقافة بتقديم تسهيلات مادية وبشرية لاستمرار المشروع بمساعدة، ودعم المعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون في سنة 1990، ورغم مرور 50 سنة على بدء المشروع لم يتم الانتهاء منه حتى الآن؛ لأسباب يتعلق بعضها بالتمويل، وأخرى بيروقراطية، وثالثة تتعلق بحالة الصراعات والخصومات الشخصية بين أفراد فريق العمل؛ وهو ما يهدد ـ دائماً ـ بإفشال أي عمل جماعي في مصر؛ فقد استقر في «العقل الجمعي المصري» عدم تحبيذ العمل الجماعي، وانعكس ذلك في الأمثلة الشعبية مثل:«الفطيرة الشرك محروقة»، و«قطة ملك، ولا جمل شرك»، و«نبتة الشرك دبلانة»، والسبب الرابع والأهم هو : اليد الخفية التي تسعى لإفشال المشروع لطمس معالم الشخصية المصرية باعتبارها شخصية حاملة لجينات الشعوب «العريقة» ذات الحضارة الضاربة الجذور في عمق التاريخ!!!

 

   ***

 

       وكانت الإشكاليات كثيرة، و كان على  رأس تلك الإشكاليات :

 

     أولاً : لماذا ثقافتين (شعبية، ورسمية أو عالِمة)؟! .. كان باحثون كثيرون يؤكدون على أن تقسيماً كهذا لا يعدو كونه تقسيماً سياسياً دون أن يكون للثقافة نفسها دخل في تكوينه، وأن مُسمى «الثقافة الشعبية» مصطلح سياسي أيديولوجي لا يمت إلى التصورات المعرفية بصلة.

 

    وكان بعض الباحثين يرون أن التقسيم الأقرب إلى الواقع هو : هو إطلاق مُسمى «ثقافة الصمت» على الثقافة الشعبية وإطلاق مُسمى «ثقافة الصوت  المرتفع» على الثقافة الرسمية وتعريف (ثقافة الصمت) بأنها الثقافة التي يتصف منتجوها بالخوف والجبن وعدم الثقة بالنفس؛ فـ (ثقافة الصمت) تعني أن :«تعيش وحسب، وينفذ الجسم أوامر مؤقتة، ويصبح التفكير صعباً، والتلفظ بالكلمة ممنوعاً، وأكدوا أن ثقافة الصمت لا تولد تلقائياً في المجتمع بل يفرضها النظام الحاكم داخله، أي يفرضها الطرف المُسيطِر على المُسيطَر عليهم أي «أفراد المجتمع»؛ ذلك أن هذه الثقافة هي نتاج العلاقات البنيوية بين المسيطر عليهم والمسيطرين .. بما يجعل من محاولة فهم ثقافة الصمت أمراً يتطلب تحليل البنية لظاهرة علائقية تولد أشكالاً مختلفة من الوجود والتفكير والتعبير، كما أن ثقافة الصمت هي نتيجة للعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين الحاكم والمحكوم، وتولد أشكالاً محددة من أنماط التفكير وأشكال التعبير، فكلما كان هامش الحرية المعطى للشعب واسعاً نمت «ثقافة الصوت المرتفع»، والتعبير الحر عن الآراء والأفكار، وكلما نقص هامش الحرية، وضيق على حرية الرأي والتعبير داخل المجتمع نمت وترعرعت «ثقافة الصمت» .. وتعد «ثقافة الصمت» الأساس في ترسيخ التخلف الثقافي لأنها عجزت عن إيجاد الحلول للمشاكل الواقعية التي يعاني منها المواطن حيث أن التخلف ليس وليد حضور مادي بقدر ما هو قصور في إيجاد الحلول الموضوعية لمعضلات الإنسان والوجود !!

        وإذا عقدنا مقارنة بين «ثقافة الصوت المرتفع» و «ثقافة الصمت» نجد أنهما يقفان على طرفي نقيض؛ فالثقافة الأولى تعمل من أجل الحرية، أداتها أو وسيلتها هي الحوار وهدفها توعية الجمهور، بينما نجد الثقافة الثانية ترسخ التسلط وترفض الحوار وهدفها هو ترويض الجماهير والسيطرة عليها، فإن الثقافة الأولى تطرح مشاكل الجماهير، والثقافة الثانية ترفع الشعارات وتطرح الحلول النظرية، والثقافة الأولى تكشف عن الواقع وتعري الأطروحات الإيديولوجية للحكومات، وتأخذ على عاتقها النقد العقلاني للأيديولوجيات السائدة في الدولة والحث على الممارسة الفعلية أي العملية، والثقافة الثانية تغرق في وهم المبادئ والشعارات الأيديولوجية، وتعمل على تلقين الجماهير نسخة غامضة عن الواقع تتلاءم والمبادئ التي تتبناها الأطروحات التي تقدمها للجماهير، وتعمل في ذات الوقت على السيطرة على الجماهير باسم البحث عن حريتها، ورفع مستوى  معيشتها، كما أنه في إطار عقد المقارنة بين الثقافة الشعبية والثقافة العالمة، يصعب وضع حد فاصل بينهما إذ تتداخلان بشكل كبير خاصة في العلاقات التي تربطهما بالسلطة، والتي تتسم بالخوف، وعدم الثقة بالنفس والخضوع للرقابة، ولكن ما يميز الثقافة العالمة هو استهلاك منتجيها لمواد معرفية من منابع متباينة تشكل مرجعيات ثقافية لهم، مما أدى إلى ظهور تيارات ثقافية وفكرية مختلفة على الساحة الثقافية العربية.

 

     ثانياً : من الذي وضع الحدين الفاصلين بين الثقافتين (حد الزمن ـ حد اللغة) اللذان يفصلان بين ثقافتين: إحداهما «شعبية» والأخرى «رسمية أو عالِمة»؟!، الحد الأول يجعل من نتاج ثقافي ما شعبياً هو محض زمنيته، وقدمه النسبي الذي يجعله نتاج فترة سبقت أو واكبت نشأة الدولة، أى قبل أن تُفعَّل المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية فعلها في تكوين ثقافة رسمية، أما الحد الثاني فيستمد خصوصيته من الجانب اللغوي ومن الفارق بين الشفاهي أو القولي والمكتوب المدون، ومن بين «العامية الملحونة» و«اللغة الفصحي».

 

    ثالثاً : ما تعريف الأدب الشعبي؟، وما مفهوم الثقافة الشعبية؟، وكيف نشأ ؟، وفترة التقادم الزمني التي تجعلنا نعتبره مأثوراً شعبياً؟، وكيف يمكن احتسابها؟!، وخاصة أن البعض يرى أنه لا بد من مرور «100 سنة» على الأقل حتى نعتبر المادة من المأثورات شعبية!!، كما أن البعض يري أن الأدب الشعبي هو التعبير بالكلمة العامية عن وجدان الأمة بطريقة شفاهية في أقوال مأثورة مجهولة المصدر تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل، ويرى آخرون أن الأدب الشعبي هو الأدب المُعبّر عنه بالعامية بغض النظر عن شفويته أو تدوينة، أو كون مؤلفه مجهول أو معلوم .. قديم أو حديث، .. بينما يتجة أخرون إلى المحتوى الشعبي صارفين النظر عن الشكل أو اللغة التي يتشكل بها هذا المحتوى .

 

       .. وكنا مجبرين على ترديد ما يُقال لنا تحت (إرهاب المُحاضر الجامعي)، وعسفه في استعمال سلطته من خلال (التلويح بالنجاح أو الرسوب)، خاصة أن التعليم في مصر في مختلف مراحله (ابتدائي ـ إعدادي ـ ثانوي ـ جامعي) قائم على قيام المدرس بعملية التلقين، ومقياس تفوق التلميذ هو سرعة الحفظ، والقدرة على الاسترجاع عند الأمتحان !!

 

أصل مصطلح «فلكلور» :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

      كان الباحث الانجليزي جون تومز أول من أطلق مصطلح «الفلكلور» في مقال نشره في مجلة ذي أثنيوم في 21 أغسطس سنة ١8٤٦ لوصف موضوع الحقل المعرفي والاجتماعي والثقافي، وهو مكوّن من كلمتين: كلمة (Folk) بمعنى الشعب أو الناس، وكلمة (Lor) بمعنى معرفة، أو حكمة؛ فيكون معنى فلكلور (معرفة الناس) أو (حكمة الناس) أو (حكمة الشعب).

 

    ولم يكن مصطلح «الفلكلور»  إلا ترجمة لمصطلح (فولكسكنده) الألماني الذي سبقه بأربعين عاماً، وتعني كلمة (فولكسكندة)*(3): (دراسة الثقافة الشعبية الجرمانية)، وبخاصة ثقافة الفلاحين وبسطاء الناس، وقد ضمَّن  جون تومز هذا العلم:

 

      «الأساطير، والخرافات ، والقصص الشعبي، والنكات، والأمثال، والحزازير، والألغاز، والتراتيم، والتعاويذ، والتبريكات، واللعنات، والشتائم، والسبات، والإيمان، والإجابات التقليدية المقننة، والمقامرة، والمعايرة، وعبارات التحية، والوداع، والمجاملات، والملابس الشعبية، والرقص الشعبي، والمسرح الشعبي، والمعتقدات الشعبية، والطب الشعبي، والموسيقى الشعبية، والأشعار، والأغاني الشعبية، والتشبيهات، والاستعارات، والكنايات العامية، والألقاب الشعبية، وأسماء الأماكن، والمواقع والملاحم الشعبية، وما يكتب على شواهد القبور، وهياكل المركبات، ولافتات المحلات، والجداريات، وأغاني ألعاب الأطفال، وأغاني الكبار في تلعيب الأطفال، والإيماءات، والرموز، والدعاء، ونداءات الباعة وطرق الطبخ، وأنماط التطريز، وأنماط البيوت والأسور وحظائر الحيوانات، وما يقال لطرد الحيوانات أو استدعائها، وما يقال عند العطس أو السعال والتثاؤب، والاحتفالات الشعبية في المواسم والأعياد والمناسبات المختلفة.*(4)

 

     ومع حالة التوسع التي أبداها الباحث الانجليزي جون تومز في حصر عناصر «الفلكلور» نجد أن أ . د. نبيلة ابراهيم قد قصرت أشكال التعبير الشعبي التي رصدتها على :

 

   الأسطورة (الطقوسية ـ التكوينية ـ التعليلية)، الحكاية الخرافية الشعبية، الحكاية الشعبية، المثل الشعبي، اللغز(الأحجية)، والتي دائما ما تبدأ بـ :«اشي .. أشي» بمعنى : «أى شئ هذا؟!»،  النكتة (الأضحوكة) والتي غالباً ما تبدأ بـ:«مرة واحد ....» بمعنى : «حدث ذات مرة أن رجل من أحاد الناس» *(5).

  

 كان التفكير في مسألة الثقافة الشعبية يستدعي الوقوف عند ثلاث فرضيات:

 

       أولها : أن الشعبي من الثقافة ليس بالضرورة إنتاج الشعب إلى الشعب، إذ أن مفهوم الوسائط المتداخلة  Hypermedia في العلاقة بين الإنتاج الفكري والبنية الاجتماعية يصبح هنا ذات أهمية خاصة، والقول إن العبارة الشعبية مصدرها ومآلها الشعب يعني غياب هذه الوسائط، وثانيتها: أن الخاصة والعامة اجتماعيا والخاصة والعامة ثقافيا لا تتطابقان لا باعتبار المراحل التاريخية الكبرى، ولا بتلك الصفة الآلية التي كان يراها البعض، أما ثالثتها: فهي أن الثقافة الشعبية تعبير عن غياب الحاكم أكثر مما هي تعبير عن حضور الشعب المحكوم .

 

     .. والفرضيات الثلاث يصعب القبول أو التسليم بها؛ فليس مقبولا،ً ولا معقولاً أن تجتمع الجماعة لإعداد فكرة أو صياغة نص أو إطلاق نكته أو صك مثل!!

 

     ورغم أن إنشاء المركز القومي للفنون الشعبية في سنة 1957 قد سبق إدخال الثقافة الشعبية إلى الجامعة بأكثر من عقد من الزمن إلا أن باحثي المركز لم يستطيعوا عمل مسح ميداني لريف وحضر وبوادي مصر، وتقديم إجابات لما يطرح من تساؤلات !! في أوائل التمانينيات من القرن الماضي تم إنشاء المعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون بالقاهرة، .. ومازالت العقول قاصرة والمعرفة ضريرة والجهود غير أمينة والعزائم هزيلة على أن تُحيط بالكثير من جوانب «الثقافة الشعبية»  !!

 

      أيا كانت الاختلافات حول تحديد مفهوم الأدب الشعبي فقد اتفق بعض الخبراء على بعض الحدود أو العناصر التي ـ إن اجتمعت في نص من النصوص ـ عُد نص شعبي أى أنه يندرج تحت ما نعنيه بالفلكلور عامة، او الأدب الشعبي خاصة، وهذه الحدود والعناصر هي :

 

1 ـ أن يكون قولاً، كلاماً، أدبياً منتظماً في نسيج خيالي من اللغة العامية.

 

2 ـ أن يكون قولاً متداولاً في الجماعة الشعبية متوارثاً منذ مراحل تاريخية سابقة، وقد يؤدي القدم والتداول إلى نسيان المؤلف الأول أو الجهل به .

 

3 ـ أن يكون معبراً عن وجدان الشعب حاملاً قضاياه وتصوراته للعالم والكون من خلال عادته وتقاليده وطقوسه العامة .

 

4 ـ أن يصدر التعبير الأدبي الشعبي في المناسبة التي تقتضيه بصورة تلقائية، وهو ما يجعل الشفوية وسيلة طبيعية على اللسان الذي ينقله إلى غيره من أبناء الشعب .

 

***

 

دور الكولونياليزم

في الإساءة لـ «الثقافة الوطنية» :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

       لقد أهتمت المنظومة الكولونيالية مبكراً بمظاهر الثقافة الشعبية العربية حيث سخرت لذلك أموال كثيرة، ووسائل ضخمة بدأت مع عصر الأستشراق والرحالة كما أوفدت عساكرها وإدارييها ومبشريها؛ فنزلوا الميدان واختلطوا مع الشعوب العربية الأمر الذي ساعدهم على تسجيل العادات والتقاليد والمعتقدات والطقوس الشعبية والفنون التقليدية وأشكالها التعبيرية العديدة والمتنوعة لقد سخرت إدارة المستعمرات لهذه المهمة طاقات بشرية معتبرة؛ فطافوا المدن والقري وحضروا في الحفلات والمراسم الطقوسية، وشاركوا الناس أفراحهم واتراحهم .

   

       غير أن علاقتهم مع مظاهر الثقافة الشعبية لم تقف عند حدود التسجيل والفهم والاستثمار الاتصالي والتواصلي؛ فسرعان ما شرعوا في سياسة التغريب والتشوية والتحنيط حيث انحرفوا بما سجلوه انحرافاً خاطئاً وخطيراً فأفرغوها من قيمها الأصيلة وحشوها بقيم غريبة خادعة وزائفة من وحي خططتهم ونيتهم في مسخ الموروث الثقافي والحضاري العربي وقطع علاقة المواطن العربي بحضارته وتاريخه وزوروا قيما ونسبوها إلى العقل العربي الذي وصفوه بالتحجر والتخلف والفوضي وعدم القدرة على الإبداع ومسايرة متطلبات العصر .

 

      وقد اتجهت المنظومة الفكرية الاستعمارية بالثقافة الشعبية اتجاهاً خاطئاً وخطيراً أفقدها ماهيتها ودورها الريادي في الحفاظ على أصالة الانتماء .

     

            وقد تخلف عن هذه الرؤية شعور المواطن العربي بدونية ثقافته التي ظل ينعتها بالسذاجة والضعف والتخلف والهمجية والفوضى والتوحش ولم يقف الأمر عند حدود ذلك بل وصل به الحد إلى إقصائها من دائرة الثقافة الوطنية، ووضعها في الطرف المناقض للثقافة النخبوية والثقافة الوطنية !!

    فلم يتعرض علم من العلوم الإنسانية لمشكلات الاستخدام العملي لمواده ومناهجة وأفكاره و«محنة الانتفاع» بمادته وتطويرها في ضوء ايديولوجيات معينة بمثل ما تعرض له «علم الفلكلور»، وأبرز تلك المحن التي مر بها هذا العلم تطويره واستخدامه لتأكيد بعض قضايا الفكر القومي .

 

      أشار الأستاذ الدكتور عبد الحميد يونس إلى محاولات الاستعمار التسلط على الشعوب عن طريق العمل الثقافي وفي هذا يقول :

    «هناك شواهد كثيرة تنطق على الشعوب لهذه المحاولة، إن الاستعمار الغربي في مرحلة التوسع قد حاول أن يوقظ، وأن يخلق عصبيات متناظرة أو متصارعة، وأبقى في سبيل تحقيق هذه الغاية على عناصر ثقافية كان مقدراً لها أن تنقرض أو تبدد، وأثر هذا الصنيع على الفولكلور إذا أبقى على عناصر تصدر عن وجدان جمعي ضيق .. كما أبقى على وحدات تدفع إلى السلبية والجمود، وقد تعمد الاستعمار بوعي وإصرار أن يقضي على عناصر ثقافية تؤكد أصالتنا ومكاتنا من التاريخ ومن الحضارة يضاف إلى هذين الصنيعين أن بعض الأفكار قد روجها الاستعمار في الأوساط العلمية وإثارة للعصبيات التاريخية التي بادت أو تغليفاً لنظريات تتخذ الصورة شبة العلمية !!*(6)

      يمكن الكشف عن أسباب الهيمنة على الثقافة العربية بالرجوع إلى الخطط الاستعمارية التعليمية في المستعمرات العربية في القرن التاسع عشر، وما قام به دانلوب مستشار التربية في مصر في عهد المعتمد السامي البريطاني كرومر، إذ عمل على الكشف عن خصائص العقلية الشرقية وتجذيرها في «البنية التعليمية»، واستند في ذلك إلى خاصية معينة من خصائص العقلية الشرقية، ألا وهي تقديسها للمكتوب، للكلمة المكتوبة للنصوص، وراح يصدر تعليماته الدورية إلى المفتشين والنظار على أساس تنمية الذاكرة، والحفظ بالذاكرة، دون كل ما من شأنه أن ينمي ملكة التفكير النقدي والإبداعي الخلاق، وكان الهدف من هذه الخطة وضع استراتيجية للهيمنة الثقافية على مصر، من خلال إنتاج مثقفين بلا ثقافة، لأنهم لا يمتلكون وسائل الثقافة الفعالة وهي الحوار والنقاش والجدل والنقد بل يكتفون بالحفظ والتكرار والاجترار، وهذا ما يكشف عنه رأي دانلوب بقوله :

 

     «إن الضمان الوحيد لاستعباد مصر على مر الأجيال لا يكمن في الاحتلال العسكري والاستعمار الاقتصادي بقدر ما يكمن في ضرب الفكر المصري في الصميم بحيث يصبح عاجزاً عن التطور والإبداع والخلق، ويظل معتمداً على غيره ليتحرك.».

 ورأى دانلوب أنه لكي يتحقق هذا الهدف لابد من أن تتجه سياسة التعليم كلها ـ في مرحلة الابتدائية والثانوية والعالية على السواء ـ إلى الحفظ دون المناقشة، والترتيل دون النقد، ومحاكاة المراجع والأساتذة دون تشريحها وتكوين رأي مستقل فيها، واحترام الكلمة المكتوبة دون امتحانها والتصارع فكرياً معها.».*(7)

 

«ما بعد الكلونيالية» وأثرها

على «الثقــــــافة الشـعبية» :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    

     في أتناء إعدادي كتابي بعنوان «حرب المعلومات» استرعي انتباهي مدى العدوان اللا أخلاقي على «الثقافة العربية» و«الدين الإسلامي» و «التاريخ والحضارة العربية» بمعرفة بعض المستشرقين Orientalists وأتباعهم من المشارقة Affiliation والرحالة والمبشرين، وبعد جلاء المستعمر لم يهتم القائمون على الأمر بتنقية الثقافة والتاريخ من الشوائب والمغالطات التي زرعها المستعمر مثلما فعل نهرو وصديقه أبو الكلام زاده في الهند؛ فظهرت في ثقافة «ما بعد الكلونياليزم» نفس الأفكار التي روج لها الغزاة، وتجذرت تلك الأفكار في الثقافة الوطنية، وكانت الكارثة أن الباحثين في الجامعات المصرية نقلوها بحسن نية وتعاملوا معها باعتبارها «مُسلمات»، وبمرور الوقت صارت «الأكاذيب الاستعمارية» حقائق علمية ضمنتها اطروحات جامعية، وصار لها مرجعيتها الأكاديمية!!؛ فمازال البعض يردد هلوسات طه حسين عن «مستقبل الثقافة في مصر» و«في الشعر الجاهلي» و«ضمير الغائب في القرآن»، و«ترهات» عباس محمود العقاد المسماة بـ «العبقريات» التي كتبها في السفارة البريطانية بقصر الدوبارة ليتم مكافأته بعدها بنقله للعمل في إذاعة الشرق لنصرة الحلفاء، وبعد وراثة الأمبراطورية الأمريكية لمخلفات الإمبراطورية البريطانية انتقل العقاد للعمل بمؤسسة فرانكلين الأمريكية!!

 

   .. وكان أخطر ما ألصقه العقاد بمقام النبوه هي صفة العبقرية، وكأن ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليس وحياً يوحى، وليس تنزيلاً من لدن عزيز حكيم، .. وإنما إبداع ذاتي أو ابتكار أو فكر شخصي لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .. وخاصة أنه ليس للعبقرية معني في اللغة بمعزل عن فكر وثقافة الخرافة التي تعتقد بشياطين الشعراء ساكني وادي الجن المسمى بـ «وادي عبقر»، وقد تم توظيفها إصطلاحياً في اللغة بمعني : «قوة الخلق والإبداع عند الشاعر أو الفنان أو الأديب أو العالم»، وهو ما لا يمت لمقام النبوة بصلة، ومرادفها في الانجليزية Genius، وهي كلمة لاتينية مشتقة من الكلمة العربية : «الجن»، وقد تم توظيفها اصطلاحياً وتعني حاد الذكاء خارق الموهبة .

     .. ونعت العقاد للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بـ «العبقرية» يباعد بينه وبين النبوة ويتوافق تماماً مع الفكر الغربي الاستشراقي والمشارقي الذي يصف النبي بأوصاف لا تليق،  ويصنف الإسلام تحت ما يسمى بالأديان الطبيعية أي بشرية المنشأ والمصدر والتعاليم، ويساوي بينه وبين البوذية والزادشتية والكونفوشيسية .*(8)

 

      كان دور توفيق الحكيم في الفن ـ رغم موهبته المحدودة ـ والذي أبداه واضحاً في : «شجرة الحكم» التى ركز فيها على أن النبوة صنعة وحرفة، وليست بعث إلهي، وكان دور نجيب محفوظ في : «اولاد حارتنا» في الإساءة إلى النبيين موسى كليم الله وعيسى كلمة الله عليهما السلام وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكان دور إحسان عبد القدوس في روايات العري والعهراستكمالاً لدور طه حسين في الجامعة ودور العقاد في المطالعة !!

 

       .. كما لا يجب  أن يغيب عن أذهاننا أن المؤلف الحقيقي لكتاب :«الإسلام وأصول الحكم» هو المستشرق ديفيد  صموائيل مرجليوث، وقد تمت مراجعته من قبل طه حسين ووضع اسم على عبد الرازق على غلافه، ولم يكن يُعرف عن على عبد الرازق سابقة في التأليف، وعندما ناقشه العلماء تم سحب درجة العالمية منه ليس كإجراء عقابي عن ادعاء تأليف الكتاب، ولكن لضعف مستواه العلمي.

 

الثقافة والعولمة :

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

      «الثقافة» و«العولمة» كلا المصلحين يصعب المقاربة بينهما أو إيجاد فهم متفق عليه لكليهما .. أطلق توملينسون على «العولمة» مسمى المرتبطية المعقدة Complex Connective بمعنى تلك الشبكة سريعة التطور متزايدة الكثافة دوماً من الترابطات والعلاقات المتبادلة التي تميز الحياة الاجتماعية الحديثة، ومن الترابطات Interconnection، والعلاقات المتبادلة Interdependences التي تميز العلاقات الاجتماعية الحديثة والعولمة بمعناها ـ المزعوم ـ تقوية أواصر الترابط الدولي الذي يشدد في الوقت الحاضر على سهولة تدفق السلع وراس المال والبشر والمعرفة والصور والجريمة والملوثات والمخدرات والأزياء والمعتقدات بسهولة عبر الحدود .*(9)

 

       وتسهم العولمة بهذا الطرح في إرباك إدراكنا لمفهوم «الثقافة»؛  لأن الثقافة كانت تمتلك دوماً دلالات تربطها بفكرة وجود ناحية ثابتة تربطها ضمنياً بين بناء المعنى والخصوصية والموقع كذلك فإن التشديد على المحدودية والتماسك يسيطران على المعالجة الاجتماعية  لفكرة الثقافة حيث أن التعامل مع المعنى الجمعي يقوم على اعتبار أنه يخدم أغراض التكامل الاجتماعي؛ فالثقافة توازي «فكرة المجتمع» ككيان يحتل أرضاً ويربط التركيبات المنفردة للمعنى بهذا الفضاء الاجتماعي ـ السياسي المتحد .

 

   .. كان اجتياح «الأمركة» في ظل هيمنة القطب الواحد التي أطلق عليها زوراً مسمى :«العولمة» تريد فرض نماذج ثقافية على الشعوب، وعلى حساب الانتقاص من ثقافتها الشعبية مستغله وسائل الاتصال كأحد أذرعها الهامة التي أحكمت سيطرتها على كل شئ بحيث لا يستطيع الأفراد أوالمجتمعات الصغيرة أو الدول الاحتفاظ بخصوصيتها معها؛ فالعولمة الاقتصادية لها آثارها على الدول النامية وشعوبها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي؛ ففي الميدان التقافي نجد أن الثقافات المحلية لهذه الشعوب مهددة بأن يصيبها ضرر كبير لعدم توافر الإمكانيات لتقديم وحماية هذه الثقافات من الفيضان الذي يتلقاه الفرد من خلال الوسائط المتبعة لنقل المعلومات والتلاعب بوعي الشعوب والتسفيه والتقليل وعدم الاعتراف والتحقير!!

 

جمع المعلومات عن مصر :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

      وفي عصر الرئيس جمال عبد الناصر قامت مؤسسة فورد الأمريكية بالتعاون مع مؤسسة «كونراد أديناور» الألمانية بجمع المعلومات عن مصر بالتعاون مع مركز الدراسات السياسية بمؤسسة الأهرام في ظل سياسة تستند إلى تحالف وثيق بين الأجهزة الأمريكية من جانب، والأجهزة الإسرائيلية من جانب أخر، وأجهزة حلف الأطلنطي من جانب ثالث، والمخابرات الأمريكية بصفة خاصة بتوافق تام مع أجهزة الأمن الإسرائيلية بهدف تقسيم مصر إلى أربعة دويلات (دولة البربرـ الدولة القبطية ـ مصر الإسلامية ـ التمدد الإسرائيلي في سيناء والدلتا).*(10)

 

فقدان«الأمن الثقافي» :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     كان لتلك الممارسات العدائية ظلالها السوداء على الثقافة الوطنية، وفي نفس الوقت عجزت الثقافة الوافدة على المجتمع المصري التي جلبها المستعمر عن تحقيق الإشباع الذاتي من الحاجات الثقافية، وانعدام قدرتها على توفير حاجاتها على الانتاج ومغالبة الندرة والحاجة، ورفع خطر الخوف من فقدان القيم الثقافية والرمزية التي تجيب عن مطالب المجتمع، وضعف قدرة المجتمع على الاستمرار في طابعه الأساسي في ظل ظروف متغيرة أو تهديدات فعلية عن طريق الحفاظ على مكونات الثقافة الأصلية في مواجهة التيارات الثقافية الوافدة أي عجز المجتمع عن حماية وتحصين هويته من الاختراق والاحتواء من الخارج.

 

     .. الحديث عن «الأمن الثقافي» ليس رفاهية؛ فهو من أهم دعامات الأمن القومي بصفة عامة؛ فهو الذي يصوغ مقومات الأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري، وقد تراجع دور مصر ومكانتها كثيراً بعد انقلاب يوليو 1952 عندما تمت عسكرة الثقافة والدبلوماسية بما يخالف طبيعتهما ويتنافر مع سمت العسكرية، فالأمن الثقافي وحده هو القادر على انتاج حزمة الإجراءات التي تهدف إلى خلق مجموعة من الإجراءات والأفكار والقواعد والقوانين القابلة للتطبيق، والتي يجب تفعيلها للوصول إلى التنمية البشرية بمفهومها الشامل، وتحقيق الاستقرار والحماية والقوة والحرية والتقدم . *(11)

 

ضعف الفوارق اللغوية :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    

     في ظل تغيير البُنى الاجتماعية وتقليص الهوة بين ما هو شعبي وما هو رسمي بفعل تقدم وسائل الاتصال وتداول النتاج الثقافي فيها في عصر الفضائيات والسموات المفتوحة وتقدم وسائل الملتي ميديا   Multi Media  التي تتوسل بخطاب المشافهة ولغة المشاهدة بما ساعد في ردم الهوة بين ثقافة الريف وثقافة المدينة وبين كلا الثقافتين و«الثقافة الرسمية»، وقلل الفوارق اللغوية بين فئات المجتمع .

 

     .. وفي ظل سطوة «الإرادة المهيمنة» التي تدير المنظومة بأسرها وتحكم الجميع؛ وتوجه الفعل؛ اختفت التقسيمات اللغوية الفرعية داخل اللغة العامية المتداولة؛ فلم يعد هناك أسلوب خاص لطبقة الأثرياء، وآخر للطبقة الوسطى، وثالث لطبقة السوقة والعوام، واتجاه رابع في التعبير خاص بطبقات المجرمين ولصوص المال العام والخارجين عن القانون والقتلة وقطاع الطرق، ونتيجة للزحام وانعدام الحريات الدستورية وفقدان الحرية الشخصية وانتهاك حدود الخصوصية بدأ الفرق اللغوي بين الطبقات ينعدم؛ فقد لاحظ علماء اللغة أن بإضعاف الفوارق بين الطبقات تضعف الفوارق اللغوية أيضا؛ فلا فرق بين سلوكيات ولغة خطاب الأطباء والمهندسين والحرفيين وضباط الشرطة و«سماسرة الدين» والقوادين والإعلاميين وسائقي التوتوك، ولا فرق بين لغة وملبس وسلوكيات الراقصات وأساتذة الجامعة وبائعات الدجاج وخادمات المنازل، وبائعات الجنس في «علب الليل» وعارضات الهوى من «قطط الشوارع»؛ فقد انصهروا جميعاً في بوتقة شكلت منهم سبيكة مجتمعية رديئة من الفهلوة والتكيف السريع لمختلف المواقف، والمبالغة في تاكيد الذات، والميل إلى إلقاء المسئولية على الغير، واعتماد أقصر الطرق للوصول إلى الهدف*(12) واستمراء الكذب واستعمال لغة خطاب مُسف يقوم على شذوذ المفردات وسياقات الابتذال وتدني السلوكيات وانحطاط الأخلاق والجشع والرغبة في المكسب السريع!!

 

       يؤكد د. رمضان عبد التواب على دور الزحام في العمران في انعدام الفرق اللغوي،  وخلق اللغة المشتركة .. بينما يساعد الفراغ وخلخلة السكان وتفرقهم في مساحات متسعة على الانقسام إلى لهجات .*(13)

***

       من خلال فهم «الثقافة الشعبية .. ودورها في تشكيل العقل المصري» ومن خلال دور «علم الفلكلور» في إعادة بناء الفترات التاريخية الغابرة التى لا توجد عنها إلا شواهد ضئيلة متفرقة، وهو ما يعرف باسم منهج إعادة البناء التاريخي؛ فالفلكلور في هذه الحالة يضطلع بدوره التقليدي كعلم تاريخي يكمل المعرفة التاريخية ويوسعها ويعمقها؛ فدراسة الفلكلور للتاريخ الثقافي لمجتمع من المجتمعات هي المدخل  الاساسي والمقدمة التي لا غناء عنها لفهم الثقافة الحالية والبناء الاجتماعي القائم؛ فالتاريخ يبين المراحل التي اجتازتها الأشكال الثقافية والاجتماعية القائمة، ومن خلالها يمكن فهم مدلولات كثير من الممارسات والمواقف والعلاقات والعمليات وفهم الثقافة والمجتمع وسلوك الأفراد، .. من خلال كل ذلك سنحاول الإجابة على السؤال :

 

«ماذا حدث، .. ويحدث للمصريين ؟!!

 

 

        ولكن لا يجب أن يغيب عن ذهننا في هذا البحث أمرين هاميين :

 

      أولهما : أنه لم يتعرض علم من العلوم الإنسانية لمشكلات الاستخدام العملي لمواده ومناهجة وأفكاره و«محنة الانتفاع» بمادته وتطويرها في ضوء ايدلوجيات معينة بمثل ما تعرض له علم الفلكلور وأبرز تلك المحن التي مر بها هذا العلم تطويره واستخدامه لتأكيد بعض قضايا الفكرلأنظمة سياسية خادعة ترفع لافتات مزيفة عن العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والاتحاد والنظام والعمل والحرية والاشتراكية والوحدة.

 

     تانيهما : انحراف حركة الاهتمام بالتراث الشعبي في مصر عن الاتجاه السليم والمنطقي وهو اتجاه الجمع الأمين والدراسة والتفهم أولاً إذا كانت إثارة الاهتمام أقوى وأكبر من طاقة شبابنا الدارس المثقف، أى أن القاعدة العلمية لم تكن تتكافأ في ذلك مع قوة الاهتمام الجماهيري بالتراث .. ووجدت فئة «البصاصين» التى أوجدها النظام الناصري في كل مؤسسات الدولة في الستينيات، وأطلق عليهم مُسمى «الطليعيون» مضطرون إلى بذل الجهد لسد حاجة أجهزه الإعلام ووسائل الفنون «بحاجتها» من فنون الشعب، واختلطت بشكل خطير أهداف «التطوير» و«الانتفاع» بالتراث الشعبي، ونجحت أجهزة الفن ونشر الثقافة في أن تشوه الأسلوب الأمثل لتناول التراث الشعبي؛ فكان ما نحن فيه الآن .

 

    كان عامة الناس وبعض مثقفيهم لا يملكون تصوراً سليما لمضمون حركة فلكلورية صحيحة .. فرق وأفراد من الفنانين أخذوا في مسخ الموروث الشعبي وإفراغه من مضامينه بمزاعم تدعي «تطوير» الفن الشعبي بلا أساس من الدراسة أو الجمع المنظم .. أدباء شبان ـ وغير شبان ـ يكتبون قصصاً من تراث الشعب الأدبي .. وجه الخطورة هنا أن فرصاً ذهبية لفهم حضارة هذا الشعب وثقافته تذوى كل يوم  وما ينتجه هؤلاء الأدعياء من معالجات التراث الشعبي بدون فهم والتي يطلقون عليها «التراث المطور» أو «التراث المهذب» ـ وكل ذلك من صفات عير حميدة ـ يرتد من خلال أجهزة الإعلام ووسائل الاتصال الخطيرة التأثير والواسعة الانتشار ليزيح تراث الناس البسطاء من مكانة ويشوه الصورة.

 

     إننا لا ننكر أن في التراث الشعبي عناصر منحطة وأخرى راقية، وعلينا أن نغربل تراثنا للحفاظ على ما هو راق منه وننميه، ولنقاوم ما هو منحط ونعمل على إبادته بحيث لا يبقى منه إلا نماذج للمتاحف والسجلات التي تعين الباحث العلمي في تاريخ الثقافة .*(14)

 

والله الموفق والمستعان .

 

ياسر بكر

 

الأسكندرية ـ يناير 2021

 

الفصل الأول :

ــــــــــــــــــــــ

 

 

مفهوم «الثقافة الشعبية»

 

       اختلف الباحثون حول مفهوم «الثقافة» تلك اللفظة التي برزت إلى الوجود في القرن السادس عشر متزامنة مع مصطلحات :«رأس المال» و«البرجوازية» و«العمران»، ومنذ ذلك الحين لم يستقر الرأي على تعريف محدد لمعني الكلمة أو مفهومها ..

 

   .. وكلمة الثقافة «Culture»، من أكثر المصطلحات استخداما في الحياة العربية المعاصرة، وأيضا من أكثر المصطلحات صعوبة على التعريف ففي حين يشير المصدر اللغوي، والمفهوم المتبادر للذهن والمنتشر بين الناس إلى حالة الفرد العلمية الرفيعة المستوى، فإن استخدام هذا المصطلح كمقابل لمصطلح (Culture) في اللغات الأوروبية تجعله يقابل حالة اجتماعية شعبية اكثر منها حالة فردية، فوفق المعنى الغربي للثقافة : تكون الثقافة مجموعة العادات والقيم والتقاليد التي تعيش وفقها جماعة أو مجتمع بشري، بغض النظر عن مدى تطور العلوم لديه أو مستوى حضارته وعمرانه.

 

   .. والثقافة في اللغة العربية مصدر فعل ثقفُ، وهذا الفعل له معان متعددة في المعاجم العربية منها الحذق والفطنة والفهم السريع، وإدارك الشيء والظفر به ، ويراد بالثقافة إذا اطلقت أرادوا بها ما يتعلق بالجانب الفكري والأدبي والمعرفي والعاطفي.

 

       يتفق معظم الباحثين اليوم على أن كلمة ثقافة في العربية تقابل ما يسميه الغربيون Culture؛ فبين اللفظين شبه في أصل المعنى، وكلتاهما تعني التهذيب والتربية والتنمية، ومن هنا أصبح المدلول العام لكل من هاتين الكلمتين العربية والإفرنجية الجانب الروحي المعنوي من حياة الفرد والجماعة .

 

     ومنذ ذلك الحين شكل مفهوم الثقافة موضوعاً خصباً لدراسات أدبية واجتماعية وانثربولوجية عديدة، وتعامل كل نوع معرفي مع مصطلح الثقافة تعاملاً خاصاً وفق رؤية معرفية ومنهجية خاصة ومميزة أيضا، وقد انتجت تلك هذه المعالجات المعرفية تعريفات مختلفة لهذا المفهوم فجاء بعضها سهلا وبسيطاً وواضحا وجاء البعض الآخر صعباً ومعقداً وغامضاً؛  فمنهم من قال أن الثقافة هي العلم، والثقافة هى الآدب، والثقافة هى الحضارة، والثقافة هى الشخصية، والثقافة هى التربية، والثقافة هي السلوك، والثقافة هى الحرية، والثقافة هى الحياة، والثقافة هى المجتمع، والثقافة هى الإنسان .

 

      يرى ف. بواز F.Boas : «أن الثقافة هى كل مظاهرالعادات الاجتماعية في جماعة ما، وكل ردود أفعال الفرد المتأثرة بعادات المتحد الاجتماعي الذي يعيش فيه، وكل منتجات الأنشطة الإنسانية التي تتحدد بتك العادات.».

 

     ويرى ر.هـ . لوي R.H. Louire أن: «الثقافة هى ذلك المجموع الكلي لما يكتسبه الفرد من من مجتمعه من المعتقدات والأعراف والمعايير الجمالية وعادات الطعام والحرف التي لم يعرفها الفرد نتيجة نشاطة الابتكاري بل عرفها كتراث من الماضي ينتقل إليه بواسطة التعليم الرسمي وغير الرسمي .»

     

       يقول سي . ويسلر C.Wissler أن: «الثقافة هي كل الأنشطة في أوسع معانيها مثل اللغة والزواج ونسق الملكية والإتكيت والصناعات والفن.» .

 

 

 

        .. وقد اتجه بعض المهتمين بمفهوم الثقافة اتجاهاً غامضاً مثل هير سكوفيتز Her Skovits  الذي ارتأى أن : الثقافة تشكل ذلك الجزء من البيئة الذي صنعه الإنسان».

 

 

       بينما يرى ليز لي هويت Les Lie White : «أن الثقافة هي تنظيم خاص من الرموز»

 

       غير أن التعريف الأكثر شمولية والأكثر انتشاراً وشيوعاً في الدراسات الاجتماعية والإنسانية والأنثربولوجية هو ذلك التعريف الذي وضعه أ . تايلور E.Tylor وهو :«أن الثقافة هى ذلك الكل المركب المعقد الذي يشمل المعلومات والمعتقدات والفن والأخلاق والعرف والتقاليد والعادات وجميع القدرات الأخرى التي يسنطيع الإنسان أن يكتسبها بوصفة عضو في المجتمع.».

 

 

          يؤكد دنيس كوش :

 

     «أن تباينات اجتماعية وقومية تكمن وراء الاختلافات الدلالية المسندة للتعريف المفترض صوابه الواجب اضفاؤه على كلمة «الثقافة» إن صرعات التعريف هى في الواقع صراعات اجتماعية، إذ أن المعنى المُضفى على الكلمات يأتي من رهانات اجتماعية أساسية.» *(1)

 

       أطلق إدوارد تي. هول على الثقافة مُسمى «اللغة الصامتة» لاعتقاده أنها تُخفي أكثر بكثير مما تُظهر، والأغرب هو أن ما تخفيه، تخفيه بأقصى فاعلية عن المشاركين فيها،*(2)  وتؤثر في الفرد بطريقة خفية دون أن يدري.

 

             يُعرَّف إدوارد تي. هول «اللغة الصامتة» بالثقافة، .. الثقافة االمتراكمة بنائياً على مر العصور لكل بلد، ولكل عائلة ولكل فرد، إنها تلك الممارسات التي يقوم بها المجتمع مع بعضه دون أن يحددها مُحَدد، ولكنها هكذا تطورت بتفاعلاتها مع الزمان والمكان والاتصال مع الأخر*(3)

 

       الثقافة ليست فكرة غريبة تُدرس من قبل مجموعة مختارة من علماء الانسان .. إنها قالب جميعنا مسكوبون فيه، وهي تسيطر على حياتنا في عدة طرق لا يراودنا شعور بوجودها؛ فالنظر إلى الثقافة كحالة يمكن أن تفرغ وتدرس ويعاد مفهومها مرة اخرى أمر مستحيل؛ فالثقافة هي نتاج تراكمات تعاطي الانسان منذ الأزل مع ما حوله ومع مفاهيمه عما حوله.

   

       وعن مفاهيم الثقافة يؤكد إدوارد تي . هول :

 

      «هي نظرية يثبت في النهاية أنها وثيقة الصلة بالإهتمامات الشخصية الأكثر عمقاً، وإنها تمس تلك القضايا الخاصة جداً لدرجة أنه يتم تجاهلها غالباً في ذات اللحظة التي يبدأ الناس بإدراك معانيها الضمنية»*(4)

 

      .. ويضيف:«القسم الأكبر من الثقافة يُكتسب؛ ولذلك لا يمكن أن يتم تعليمه»*(5) ثم يضيف أن حضور اللغة صبغ الثقافة بصبغة التعلم فبات أنه يمكن تعلم جزء معين من الثقافة عبر اللغة، فاللغة هي أحد أهم أنظمة التراسل الأولية حين الحديث عن مفردات الثقافة، ثم تأتي الأنظمة الاخرى التي يعبر عنها بأشكال تواصل غير لغوية بما يجعل الثقافة سلوك مكتسب، ومشترك في ذات الوقت*(6)

 

          بينما يرى د . هدسون في كتابه بعنوان : «تاريخ اللغة الاجتماعي»: أن الثقافة :

 

        «ذلك الشيء الذي يملكه كل إنسان بالفطرة أو بالمعرفة المكتسبة إجتماعياً حتى يستطيع التعامل في مجتمعه بأسلوب يقبله الآخرون في مقابل «الثقافة»  التي يقتصر وجودها على الدوائر المثقفة أى في دور الأوبرا والجامعات.*(7)

 

     يقسم دكتور أحمد فؤاد بدوي الثقافة إلى قسمين:

 

    1 ـ ثقافة مادية :

 

     ـــــــــــــــــــــــ

     كل الأشياء المادية التي يصنعها الإنسان كالمسكن والأثاث والأدوات والملابس ألخ وغيرها من مظاهر الحياة، وكل ما يتصل بالإنتاج والتكنولوجيا والاختراعات التي تحدث مثل هذه الأشياء .

 

     ويرى الماركسيون أن المظاهر المادية للثقافة هي صاحبة الكلمة الفاصلة في النظام الاجتماعي بأسره .

 

     2 ـ ثقافة غير مادية :

      ـــــــــــــــــــــــــــــــ

     كافة السمات الثقافية كالمهارات والمعايير.*(8)

        

     ويرى بيتر جروبر أن الثقافة هى :

 

    « أي شيء لا يصطدم بمصالحنا أو ينتقص من مكاسبنا.»!!*(9)

 

«الثقافة السياسية»

للفــــلاح المصري :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

      يرى د. كمال المنوفي أنه رغم التعريفات المتعددة لمفهوم الثقافة التي تحفل بها أدبيات علم الاجتماع فإن هناك اتفاق على أن الثقافة هي أنماط السلوك المكتسبة والمتناقلة اجتماعياً والمميزة لمجتمع ما، وللثقافة روافد عدة منها: التعليم، والعادات، والتقاليد، واللغة ذاتها، والطرق الشعبية في التفكير والتعبير أى ما يسمى الخبرة الاجتماعية التي يحصل عليها الفرد من تفاعله مع المجتمع المحيط به، وتعتبر الثقافة السياسية جزء من ثقافة المجتمع حيث تشير إلى المعتقدات والقيم والمشاعر والتوجهات وأنماط السلوك المتعلقة بالنظام السياسي في المجتمع، وهي بهذا تعبير عن عناصر غير مادية أو معنوية .

 

     الثقافة السياسية ثقافة فرعية أو جزء من الثقافة العامة ورغم أنها مستقلة إلا أنها تتأثر بالثقافة العامة بدرجة ما .

 

     ويرى د. كمال المنوفي أن : الثقافة السياسية في المجتمع المصري ليست متجانسة تماماً بسبب الاختلاف القيمي بين الأجيال، ودائماً ما يقترن التغير الاجتماعي بظهور فجوات ثقافية فالجيل القديم يظل محافظاً على القيم القديمة بينما الجيل الجديد يجد نفسه واقعاً تحت تأثير قوى وعوامل اجتماعية جديدة، وهذه الفجوة الثقافية كشفت عنها دراسة امبيرقية على عينة جيلية من الفلاحين في إحدي القرى المصرية الواقعة في الدلتا، وقد خلصت الدراسة إلى أن الغالبية العظمي من كبار السن ما تزال تقليدية يرهبون السلطة، وينصاعون لأوامرها بدافع الخوف لا الاقتناع في الغالب، ويفتقدون روح المبادرة، ويشكون في جهاز الدولة ويقبلون بالمحكات التقليدية للسلطة، والمكانة كالثروة والسن والجنس والأصل، ويرفضون الفصل بين العلاقات السياسية والدين، ولا يفكرون من منظور وطني واسع بل منظور محلى ضيق، وبالمقابل فإن معظم الشباب يحمل الكثير من العناصر الحديثة مثل الإحساس بالقدرة على نقد السلطة دون خوف والإيمان بالمشاركة السياسية والثقة في جهاز الدولة بدرجة لا بأس بها، ورفض الثروة والسن والأصل كمعايير للمكانة والسلطة والقبول بالفصل بين الدين والسياسة، والشعور القوي بالولاء الوطني .*(10)

 

مصطلحا «شعبي»

و«ثقافة شعبية» :

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

    يعتبر مصطلح الثقافة الشعبية مصطلح مركب من لفظتين اثنتين «الثفافة ـ الشعبية»، ولا يمكن الاعتقاد أن مقاربة هذين المفهومين تعد مقاربة سهلة فقد تشكل المفهومان وترابطا في جو صاخب وعنيف من حيث الطرح المعرفي والأيدلوجي، فالشعبية صفة مشتقة من مصطلح «الشعب» الذي ألهمها المادة والروح من حيث الطرح اللغوي والدلالي والرمزي فالشعبية صفة لكل ما يصدر عن الشعب قولاً وممارسة وفعلاً وتصوراً للحياة وللأشياء ويدرج ضمن هذا الإطار كل ما هو موجة للإستهلاك الشعبي سواء كان مادياً أو معنوياً.

 

     رفضت عدد من الدراسات الاجتماعية والإنسانية وبعض الأطروحات العلمية استعمال مفهوم الشعبية وتعود أسباب وتعليلات هذا الرفض إلى الرأى القائل أن مصطلح الشعبية : مصطلح أيدلوجي لا يجد مبرر للإستعمال والتداول إلا في المجتمعات الطبقية التي تقسم مسألة السلطة والهيمنة ومواطنيها إلى طبقة مسيطرة ومهيمنة وطبقة خاضعة محكومة، ولكل من الطبقتين رؤياها وتصورها عن الواقع تصوغ بهما أيديولوجيتها المعروضة على واجهة الثقافة، وفي هذه المجتمعات يصطلح على ثقافة الطبقة المسيطرة بـ «الثقافة الرسمية» مقابل «الثقافة الشعبية» ثقافة الطبقة المحكومة المهيمن عليها .».

 

   وارتأت بعض الدراسات رفض مصطلح «الشعبية» لاعتقادها أنه مصطلح سياسي أيديولوجي لا يمت إلى التصورات المعرفية بأية صلة .

      وقد جرى الاصطلاح في مصر بإطلاق صفة الشعبي على الوضيع والرخيص أو ما دون المستوى الرفيع؛ فيقولون فكرة شعبية أي أنها مشوبة بمطاوعة الأهواء والنزوات، لا سلامة فيها ولا سداد، ونقول نكتة شعبية نعني أنها لا تخلو من تبذل وإسفاف، ونقول طعام شعبي نعني أنه ساذج في مظهره غير متقن ولا مستساغ، ونقول ثوب شعبي للدلالة أنه من نسيج غير فاخر ولذلك يرخص ثمنه ولا يعز على المقلين شراؤه، وكذلك قولهم مسرح شعبي يعنون أنه مسرح لجمهور العامة لا يتذوقون فيه شيئاً من الأدب الرفيع في التفكير والتصوير والتعبير، فكل ما هو منسوب إلى الشعب محمول عليه مجانبة السمو والأصالة والجودة مفروض فيه : الابتذال والتفاهة .. الأمر نفسه ينطبق على ما وصف بالأدب الشعبي بصفة عامة حسبما يرى محمود تيمور الذي يقرر واقعاً يراه ويعيش فيه الأدب المصري في نهاية النصف الأول من القرن الماضي، يقول محمود تيمور:

 

     « بين ظهرينا نتاج أدبي يشيع في بعض طبقات الشعب، بقدر كثير أو قليل، ومعظم هذا النتاج ضئيل الحظ من رفعة الفن وسموه، سقيم الأداء لا يخلو من تبذل وإسفاف، ولكن تسميته بـ «الأدب الشعبي» ظلم عظيم، فإن صفة هذا الأدب تلحق بأصحابه لا بالشعب .

 

      حقاً إن هذا اللون من النتاج الأدبي يلاقي من أفئدة السواد هوى، ويصادف من الجمهور مزيد من إقبال، ولكن هذه الظاهرة ليست حجة على الشعب؛ فالنفوس ـ بطبيعتها ـ يستهويها ما يرضي الغرائز، ويلائم النزوات التي تتنازع الإنسان في أطوار حياته لا يعصمه منها سوى حسن التنشئة والترويض ولا ريب أن الرياضة الأدبية تعمل على السمو بالأذواق والتوجيه التهذيبي العام.».*(11)

 

   بعد أن تخلص محمود تيمور من «الأدب الشعبي» بتكوينه وكيونته وسمته القائم والمتعارف عليه والمتوارث والمتواتر في ذاكرة الجماعة بإلقائه في «مزبلة التاريخ» باعتباره منتج ردئ قائم على الابتذال والتفاهة والهوان حاول أن يصيغ مفهوما جديدأ من عندياته لما توهم أنه :«الأدب الشعبي»، والذي لم يخرج عن كونه أحد تعريفات الأدب الرسمي يقول  محمود تيمور:

 

     «لقد آن لنا أن نصحح الوضع في معنى الأدب الشعبي الذي هو في الحق الأدب الفني الرفيع الذي يستلهمه الفنان من روح الشعب من مختلف  بيئاته فيعبر عن الأمواج المتدافعة من الناش في ملتطم الحياة ، وأن هذا الأدب الشعبي ليمثل الجانب الأكبر من الأدب الحي الخالد في كل أمة وكل عصر من العصور.»*(12)

 

 

***

 

    حول مفهوم «شعبي» يشير ريموند وليامز إلى أربعة معان سارية منها: «المعاني المحبوبة جدا من قبل العديد من الأشخاص»، ومنها : «أنواع من دونية العمل» ومنها : «أعمال تم إطلاقها عن قصد لكسب ود الشعب»، ومنها: «الثقافة المصنوعة فعلاً من قبل الناس لأنفسهم» .

 

       ويرى ريموند وليامز أن تقسيم الثقافة المجتمعية: إلى ثقافة السلطة باعتبارها الثقافة الرسمية والعالمة وثقافة العامة في ممارستهم العملية الموصولة مع ثقافة السلطة برباط النقد والاستعلاء وإن كان هذا الوصل محكوم بالسلبية لا يستمر في موقعه إذ لابد من متغيرات تقلب هذه العلاقة إلى موقع يمكن أن تتزاحم فيه الثقافة الرسمية بشقيها السياسي والديني لكسب ود العامة بكل ما تمثل .

 

       ويرى البعض أن الثقافة الشعبية تحمل في ثناياها الكثير من العناصر التي تجعل منه مفهوما ملتبساً وخاصة في مجالات الثقافة العربية، وبما أن هذا المفهوم مرتبط تاريخيا في الذهنية العربية بكل ما هو مخالف للعقلانية والإيمان والإيمان الديني القويم والقواعد الضابطة للغة فقد انتمى  ـ في اتجاهه هذا ـ بالعامة من الناس بعفويتهم وصدقهم وأحلامهم وأمانيهم، وبما يوقظ لديهم الإحساس بالقوة والحرية والحب والحنين، وكل الأحاسيس التي تولد فيهم الشعور بأنهم أحياء أو بحاجة إلى ما يمكن أن يعمل على استمرار حياتهم بالصحة اللازمة والنشاط في عالم تعز فيه لقمة العيش وراحة البال .

 

           وقد اتفق الباحثون المجتمعون في ندوة مجلة «الثقافة الشعبية»  في البحرين  على :

 

       1ـ عدم ربط الثقافة الشعبية في مفهومها الحديث بالطبقة الشعبية وحدها أو بلا عقلانيتها وجهلها بأصول الدين واللغة ـ وإن كان في ذلك شيء من الصحة ـ فيما مضى .

 

       2 ـ أن الثفافة الشعبية تخرق المجتمع عموديا وتطول مجموعات من كل الفئات وليس الفئة الشعبية وحدها باعتبارها إنتاج جماعة بشرية تشترك في نظام من الرموز والقيم يميزها عن غيرها من الجماعات، وهي بهذا جزء من الثقافة العامة، وبالتالي لها مساس مباشر مع كل العناصر المشكلة لبنيتها، لا تقتصر الثقافة الشعبية على منتج ومستهلك إلا في أخر أولوياتها، إذ أن الأولوية التي تعطى للثقافة الشعبية مفهومها هي المادة في بنيتها وشكلها ومضمونها، وبهذا المعنى المادي يكون لا وجود لما هو لا مادي في الثقافة الشعبية إلا بواسطة ما هو مادي حتى لو كان بالرمز والإيحاء والكلام والحركة.

 

       3 ـ الثقافة الشعبية ثقافة تقليدية في بناها المادية باستنادها إلى تاريخ موصوف وتقليدية في الذهنية التي تتجلى في الممارسات شعبية لا تقتصر على العامة فحسب بل تعبر كل الفئات لتصل إلى النخبة وإن كان بأساليب وأدوات مختلفة ( حفلات الزار وحلقات الذكر ) مثالاً .

      4 ـ بينما ارتأى بعض الباحثين أن الثقافة الشعبية هى مجموعة من الظواهر المتصلة والمتداخلة والمتفاعلة والمتصارعة مع العناصر الثقافية ضمن الثقافة الواحدة على تنوعها، وهي بهذا المعنى تعبير سوسيولوجي عن الاتصال البشري وتداخل القوى الاجتماعية تفاعلاً وتصارعاً وثباتاً وتغيراً .

 

    وعليه يمكن تعريف «الثقافة الشعبية»  بأنها مجمل نشاطات المجتمع من ممارسات وأفكار أنتجها إشباعاً لحاجاته المادية والنفسية في سياق مستقل عن السلطة وعن النخبة العالمة ذات الاهتمامات المماثلة والعاملة على إشباعها بطرق مغايرة وأساليب مختلفة، وهي تعمل على نقل تلك النشاطات وما ينشأ عنها من أصناف الإنتاج من جيل إلى جيل باعتماد الذاكرة والكلام المعبر عن موجوداتها ـ إلى أن ظهرت وسائل الإعلام لتقوم بهذه المهمة ـ نشأت وطاولت كل فئات المجتمع، وبقيت تعبر عن نفسها بالطرق التقليدية (الحرفة ـ الكتابة ـ النغمة ـ الصوت ـ الزي الحركة) وهي في أخر الأمر نمط حياة متحرك ونظام من الرموز واشكال التفاعل تشارك فيه الثقافة العامة باعتبارها عنصراً أساسياً فيها .*(13)

 

 

     بينما يرى دنيس كوش أن :

 

    «أن مفهوم الثقافة الشعبية أصلاً يشكو من غموض دلالي؛ لتعدد معاني الكلمتين اللتين تكونانه؛ فالكتاب الذين يعمدون إلى استخدام هذه العبارة لا يقدمون كلهم التعريف نفسه لـ «ثقافة» أو لـ «شعبية» وهو ما يجعل الجدل بينهم عسيراً.

 

    ومن وجهة نظر العلوم الاجتماعية يتوجب بالتوازي تفادي أطروحتين أحاديتين متعارضتين كلياً :*(14)

 

     الأولى : التي يمكن نعتها بأنها انتقاصية للثقافات الشعبية لا تعترف لها بأية حيوية أو ابداعية خاصتين بها فليست الثقافة الشعبية في نظرها إلا مشتقات من الثقافات المهيمنة، وهذه وحدها التي يمكن الاعتراف بشرعيتها، وهي التي تتناسب مع الثقافة المركزية أو الثقافة المرجعية .

 

    والثانية : ليست الثقافات الشعبية في نظرها إلا ثقافات هامشية فلا تكون  إلا نسخاً رديئة من الثقافة الشرعية التي تتميز الثقافة الشعبية عنها إلا عبر صيرورة تفقير.. إنها ليست إلا تعبير عن الاستلاب الاجتماعي الذي يمس الطبقات الشعبية لأية استقلالية كما أن الاختلافات التي تتعارض فيها الثقافات الشعبية مع الثقافة المرجعية في هذا المنظور يتم تحليلها على أنها حالات نقصان وتحريف وعدم فهم بتعبير آخر إن الثقافة «الحقيقية» الوحيدة هي تقافة النخب الاجتماعية إذ ليست الثقافات الشعبية إلا سقط نتاج غير مكتمل .

 

      في مقابل هذا «التصور البؤسوي» تقوم «الأطروحة التضخيمية» التي تزعم أنها ترى في الثقافات الشعبية ثقافات يتوجب اعتبارها مساوية لثقافة النخب بل أرقى منها .. إن الثفافات الشعبية في نظر حملة هذه الأطروحة ثقافات  أصيلة ثقافات مستقلة تماما لا تدين بشئ لـ «ثقافة الطبقة المهيمنة» ويصر أغلبهم على تأكيد أن يكون هناك تراتب بين «الثقافة الشعبية» و«الثقافة العالِمة»، والحقيقة أكثر تعقيداً مما تقدمه هاتان الأطروحتان إذ تبدو الثقافة الشعبية لا تابعة بصفة كلية ولا مستقلة تماما ولا مجرد مقلدة ولا مجرد مبتدعة، وهى في ذلك لا تزيد عن تأكيد أن كل ثقافة معينة هي تجميع عناصر اختراقات أصيلة، وأخرى مستوردة مثلها مثل أي ثقافة أخرى ليست متجانسة، ولكن هذا لا يعني لأنها غير منسجمة .

 

     ويرى البعض أن «الثقافة الشعبية»هي ثقافة مجموعات اجتماعية تابعة فهي إذن تتكون في وضعيات الهيمنة، ولذا فهي حافلة بعوامل الإدانة والمقاومة التي تبديها الطبقات الشعبية تجاة الهيمنة الثقافية إذ أن المهيمن عليهم يردون الفرض الثقافي بالسخرية والاستفزاز، وبما يتعمدون إظهاره من «الذوق الردئ» وتعد الثقافات الشعبية بهذا المعنى « ثقافات احتجاج».

 

     بينما يرى البعض الثقافة الشعبية بوصفها مجموعة من «طرائق التلاؤم» مع هذه الهيمنة أكثر مما هى نمط مقاومة نسقية ضدها.

 

      ويرى البعض أن الثقافة الشعبية هي ثقافة قبول وأنكار في آن واحد مما يؤدي إلى امكانية تأويل الممارسة الواحدة على أنها خاضعة لمنطقين متعارضين*(15)

 

«الثقافة الشعبية» :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 

       يرى توني بنيت :  «إن مفهوم الثقافة الشعبية عديم الفائدة عملياً، فهو وعاء معان مشوشة ومتناقضة وقادرة على إساءة توجيه البحث في أى عدد من المسارات النظرية العمياء».

   

      بينما يرى ريموند وليامز : أن الثقافة واحدة من الكلمتين أو الثلاث الأكثر تعقيداً في اللغة الإنجليزية ويقترح وليامز ثلاثة تعريفات عريضة :

 

    أولاً : يمكن استخدام الثقافة للأشارة إلى «عملية عامة للتطور الفكري والروحي والجمالي» .

 

    ثانيا : يمكن استخدام كلمة «ثقافة» للإيحاء «بطريقة محددة للحياة سواء أكانت لشعب ، أم فترة أم مجموعة» .. بما يعني طريقة محددة للحياة .

 

   ثالثاً : يقترح وليامز أن مصطلح «ثقافة» يمكن استخدامه للإشارة إلى «الأعمال والممارسات الفكرية وبخاصة النشاط الفني».

 

    ومصطلح «ثقافة» بهذا التعريف الثالث هو مرادف لـ «الممارسات الدالة والمعبرة» .*(16)

 

مفهوم «الثقافة الشعبية»:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

     حاول جون ستوري رسم المشهد المفهومي العام لـ «الثقافة الشعبية» في كتابه بعنوان:«النظرية الثقافية والثقافة الشعبية»*(17) من خلال طرح ستة تعريفات:

 

التعريف الأول :

ـــــــــــــــــــــــــ

 

      أن الثقافة الشعبية هي الثقافة التي يرغب فيها أو يحبها كثير من الناس.

 

التعريف الثاني :

ـــــــــــــــــــــــــ

 

      أن الثقافة الشعبية هي «الثقافة المتبقية» بعد أن قررنا ما هو ثقافة رفيعة، والثقافة الشعبية بهذا التعريف هى فئة متبقية موجودة لاستيعاب النصوص والممارسات التي أخفقت في تحقيق المعايير المطلوبة للتأهل كثقافة رفيعة بمعنى أن الثقافة الشعبية ثقافة دنيا، وهذا التعريف لـ «الثقافة الشعبية» يكون مدعوماً بادعاءات أنها ثقافة تجارية من انتاج الجمهور في حين أن الثقافة الرفيعة هي نتيجة عمل خلاق فردي، لهذا فإن الأخيرة تستحق فقط الاستجابة الأخلاقية والجمالية، أما الأولى فتتطلب فحصاً إجتماعياً لفهم القليل الذي تقدمه، بمعنى أنها ثقافة تجارية ميؤوس منها؛ فهي منتجة على نطاق واسع للإستهلاك الجماهيري وجمهورها هو حشد من المستهلكين غير المميزين، والثقافة نفسها قابلة للصياغة ويمكن التلاعب بها (إلى اليمين السياسي أو اليسار اعتمادا على من يقوم بالتحليل)، وهي تقافة يتم استهلاكها بسلبية دماغ مخدر ومبلدة للذهن.

 

 التعريف الثالث :

ـــــــــــــــــــــــــ

 

     تعرف الثقافة الشعبية على أنها «الثقافة الجماهيرية Mass Culture» وهذا يعتمد بشكل كبير على التعريف السابق، وهذه الثقافة الجماهيرية ليست ثقافة مفروضة مسلوبة المعني لكنها في معنى واضح محدد يمكن تعريفها بأنها تعبير عن مجتمع ضائع أو ثقافة فلكلورية مفقودة، ويطلق عليها البعض «الثقافة المستوردة» المصنعة أمريكياً.

 

       وهناك ما يمكن أن نسميه الصيغة الحميدة لمنظور الثقافة الجماهيرية حيث ينظر إلى نصوص الثقافة الشعبية وممارستها بمثابة أشكال من الخيال العام وتفهم على أنها عالم حلم جماعي؛  فهي تعبر في صيغة مقنعة عن رغبات جماعية مكبوتة  .. إن جريمة الثقافة الشعبية أنها أخذت أحلامنا وغلفتها وباعتها ثانية لنا، وما انجزته الثقافة الشعبية أنها جلبت لنا المزيد والمزيد من الأحلام المتنوعة أكثر مما كنا نعرف في أى وقت مضى .   

 

التعريف الرابع :

ــــــــــــــــــــــــــ

 

    «الثقافة الشعبية» هى الثقافة التي تنبع من «الشعب»، وهى تأخذ موقفاً معارضاً لأى نهج يقول أنها شيء مفروض من فوق على الشعب، وطبقا لهذا التعريف فإن المصطلح ينبغي أن يستعمل فقط للإشارة إلى الثقافة «الأصيلة» للشعب، وهذه هي الثقافة الشعبية باعتبارها ثقافة شعب من أجل الشعب والثقافة الشعبية باعتبارها ثقافة شعب: ثقافة شعب من أجل الشعب، والثقافة الشعبية بمثابة تعريف غالباً تتم مساواتها بمفهوم عالي الرومانسية لثقافة الطبقة العاملة التي تفسر أنها المصدر الرئيسي للاحتجاج الرمزي داخل الرأسمالية المعاصرة .. ثمة مشكلة في هذه المقاربة هي مسالة من هو المؤهل لإدراجة في فئة «الشعب»، وهناك مشكلة أخرى هى أنها تتفادى الطبيعة «التجارية» لكثير من المصادر التي تصنع منها الثقافة الشعبية، وبغض النظر عن مدى الإلحاح على هذا التعريف فإن الحقيقة تبقى أن الشعب لا ينتج عفويا ثقافة من مواد خام من صنع يديه، ومهما تكن الثقافة الشعبية؛ فإن ما هو مؤكد أن موادها الخام هي تلك التي يتم توفيرها تجارياً، ويميل هذا النهج إلى تجنب العواقب الكاملة لهذه الحقيقة .

 

التعريف الخامس :

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

      وهو تعريف ينهل من التحليل السياسي لأنطونيو جرامشي، وخاصة تطويرة لمفهوم «الهيمنة Hegemony» للإشارة إلى الطريقة التي تقوم بها الجماعات المسيطرة في المجتمع من خلال عملية القيادة «الفكرية والأخلاقية» بالسعي لكسب موافقة المجموعات التابعة في المجتمع، وقد أخذ المنظرون الثقافيون مفهوم جرامشى السياسي واستخدموه لشرح طبيعة الثقافة وسياستها ويرى من يستخدمون هذه المقاربة الثقافة الشعبية على أنها موقع للصراع بين «مقاومة» المجموعات التابعة و«قوى الدمج» العامة لمصلحة المجموعات المسيطرة، والثقافة الشعبية في هذا الاستعمال ليست الثقافة المفروضة لمنظري الثقافة الجماهيرية، ولا هي منبثقة من تحت ثقافة «الشعب» المعارضة العفوية ـ إنها أرض تفاوض بين الأثنين تتميز بالمقاومة والدمج ـ،  وتتحرك نصوص وممارسات الثقافة الشعبية ضمن ما دعاه جرامشي «توازن التسوية»، والعملية تاريخية (يطلق عليها اسم الثقافة الشعبية تارة، ونوعاً آخر من الثقافة تارة أخرى)، ولكنها متزامنة (تنتقل بين المقاومة والاندماج في أي لحظة تاريخية معينة).. إن من ينظرون إلى الثقافة الشعبية من منظور «نظرية الهيمنة» يميلون إلى رؤيتها بمثابة منطفة للصراع الأيدلوجي بين الطبقات المسيطرة والتابعة وثقافات مسيطرة وتابعة و«متفاوض عليها» .

 

التعريف السادس :

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

    وهو تعريف يسترشد بالتفكير المعاصر حول النقاش  «بشأن ما بعد الحداثة»، وبعض النقاط الأساسية في النقاش بشأن العلاقة بين ما بعد الحداثة والثقافة الشعبية والنقطة الأساسية بأن ثقافة ما بعد الحداثة هي ثقافة ما عادت تميز الفروق بين الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية .

 

***

    ولكن الذي لا خلاف عليه أن الثقافة الشعبية كانت دائما مصدر قلق للأقليات القوية، وكان أولتك الذين لديهم القوة السياسية يظنون دوما أن من الضروري حراسة ثقافة من لا يملكون القوة السياسية، وقراءتها «دلالياً» بحثاً عن علامات الأضطراب السياسي، وإعادة تشكيلها من خلال الرعاية والتدخل المباشر .

الهجوم على

«الثقافة الشعبية» :

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

     أحد أشكال السيطرة على «الثقافة الشعبية» هو الهجوم الدائم عليها ومحاولة تفكيك بنيتها إلى شظايا وشذرات يسهل إزاحة بعضها وإبدال البعض الآخر بإحلال عناصر أخرى غريبة محلها، عبر زعمين كلاهما أكذب من الأخر :

 

      الأول : أن الثقافة الشعبية ليست «ثقافة» أصلاً،  ومن ثم فإن أصحابها يعانون فراغاً ثقافيا يجب شغله واحتلاله بـ « ثقافة» من أعطى نفسه حق الوصاية على الجماعة الشعبية، وشغل فراغها الثقافي المزعوم وفق مصالحه وغاياته ومراميه !!

 

    الثاني : أن الثقافة الشعبية تعود إلى الماضي؛ فهي ثقافة تقليدية جمدت على صورتها الماضية أو على الأدق جمد ما استمر منها من بقايا ورواسب بما يحتم إزاحة هذه البقايا والرواسب وإحلال الثقافة «المُفترضة» مكانها، ولا مانع من أن تحتل هذه الرواسب والبقايا مكانها في متحف التاريخ، وحفظ النصوص أرشيفياً وتهيئتها لتكون صالحة لـ «الفرجة»!! .

 

الخفي والمُعلن

في «الثقافة الشعبية» :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

      في علاقة الكلام بالسلطة يظهر التباين بين مضامين التراث الشعبي الشامل العلني والموروثات الشعبية المخفية؛ فكل جماعة محكومة تخلق من محنتها موروثاً مخفياً يمثل نقداً للسلطة يُقال من وراء ظهر الحكام وكذلك يطور صاحب السلطة بدوره موروثاً مخفياً يمثل ممارسات ومزاعم بالنسبة لحكمه مما لا يمكن إظهاره علناً، وبمقارنة الموروث المخفي لدى الضعفاء بالموروث المخفي لدى الأقوياء ثم مقارنة المورثين المخفيين معا بالتراث العلني لعلاقات السلطة نستطيع أن نحصل على فهم للسياسات التحتية لمقاومة السيطرة؛ فالضعفاء والمهمشون من جماعات المحكومين والذين لا سلطة لهم مجبرون على التصرف السياسى المراوغ في حضور الأقوياء أو حين تكون لذوي السلطة مصلحة في المبالغة في مكانتهم وسيادتهم لكنهم أيضا مضطرون إلى ستر جهودهم لإفشال الاستيلاء الفعلي على أعمالهم وممتلكاتهم وإنتاجهم، وغيرها من أشكال التمرد غير المُعلنة التي يُطلق عليها السياسة التحتية لمن لا سلطة لهم .*(18)

 

    الإزاحة والإحلال :

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 

          كان الخوف من الثقافة الشعبية سبباً في بذل الجهد الخفي المخطط له لإزاحتها وإحلال ثقافة بديلة محلها .. تلك الثقافة التي أطلق عليها البعض مسمى «الثقافة الجماهيرية» أو «جماهيرية الثقافة»؛ ففي سنة 1945 أصدر عبد الرازق السنهورى باشا وزير المعارف العمومية في ذلك الوقت قراراً بانشاء «الجامعة الشعبية» بمدينة القاهرة، وجاء في أهدافها  نشر الثقافة بين طبقات الشعب، وفي سنة 1948 صدر مرسوم ملكى بتأييد إنشائها، وتعديل الاسم إلى «مؤسسة الثقافة الشعبية» على أن تعمل من أجل نشر رسالتها في سائر أرجاء المملكة، وفي سنة 1958 نقلت تبعية «مؤسسة الثقافة الشعبية» إلى «وزارة الثقافة والإرشاد القومى»، وتغير اسمها إلى «جامعة الثقافة الحرة»، وأصبحت مهمتها نشر الوعى القومى في العاصمة والمحافظات، وتقديم رسالة الثقافة بالمعنى الواسع، وفي سنة 1963 ألحقت «جامعة الثقافة الحرة» بمصلحة الاستعلامات، وفي سنة 1989 تغير اسمها إلى «الهيئة العامة لقصورالثقافة»، وقد جاء في أهدافها المشاركة في رفع المستوى الثقافى، وتوجيه الوعى القومى للجماهير في مجالات : السينما والمسرح والموسيقى والفنون الشعبية والفنون التشكيلية وخدمات المكتبات في المحافظات !!

الثقافة الجماهيرية :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     الثقافة الجماهيرية ثقافة عبارة خليط من مبسطات الثقافة النظامية (الرسمية) مع المشاع من الثقافة الدارجة، ويرى البعض أن إشكالية تلك الثقافة التي تعمل أجهزة الدولة على إشاعتها وتعميمها على كل المواطنين، وفي سبيل هذا تلجأ إلى الحد الأدني في معالجتها للجوانب الثقافية على وجه العموم، فضلا عن التشوش والخلط والتخليط وسوء التوجيه الفكري والديماجوجية والأيدلوجية والابتسار في المفاهيم وسوء المسعى الكامن وراءها والذي يسعى إلى تنميط المواطنين في صورة طراز واحد مسطح «ذي بُعد واحد».*(19)

 

الثقافة البديلة

وتشكيل العقل المصري:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     كانت الهدف من إزاحة «الثقافة الشعبية» وإحلال ثقافة بديلة مشوشة خلق حالة من التحلل التحلل في نظام القيم الجماعية بطريق غير مباشر، وزراعة «ذاكرة كاذبة» تحمل قيم زائفة، وتنميط المواطنين في صورة طراز واحد مسطح «ذي بُعد واحد»، ومكمن الخطورة هذا الأمر لا ينصب على مصير «الثقافة الشعبية»، و«الأدب الشعبي» فقط، ولكن خطورته تصب حتما على «الجماعة الشعبية»؛ فأصحاب «الثقافة الشعبية» هم المستهدفون لأسباب أقتصادية وسياسية وانتهاك «الثقافة الشعبية»، وتفكيك بنيتها بما يعني تفكك النسق المعرفي والقيمي أى تفكك الوعي (على مستوييه : الواقعي المعيشي والممكن)، وبانهيار الثقافة الشعبية يفقد أصحابها حصنهم الثقافي الذي طالماً لجأو إليها للدفاع عن هويتهم وذواتهم وحماية تمايزهم، طالما أن أن مقاليد الأمور ليست في أيديهم، ولم يتملكوا سلاحهم البديل، وبعمليات الإزاحة والإحلال يتم سلب وعيهم ويسهل توجيههم أينما شاءت القوى التي تقوم بهذه الإزاحة وذلك الإحلال .. الأمر الذي ينسحب بعواقبه الوخيمة على البنية الكلية للمجتمع، وتشكيل عقولهم وينعكس في أخلاقهم وسلوكهم .

 

     .. والحقيقة أنه لا يمكن فهم طبيعة ومكنونات  «الثقافة الشعبية» دون فهم طبيعة إبداعاتها وتداول مأثورتها وحفظها واسترجاعها في مناسباتها المختلفة دون فهم طبيعة عمل «الذاكرة الجمعية» .

 

«الذاكرة الجمعية» :

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

      لا ذاكرة من دون جماعة وبدون الذاكرة الجمعية يبقى حيز من ذاكرتنا طي النسيان، حتى نتكئ على ذاكرة الآخر، لنعيد نسج خيوط الماضي وتمثلاته في إطارها العام، فتتجدد الأحداث ونستطيع استعادة تفاصيلها.*(20)

 

   وانطلاقًا من رؤية فردية عن شواهد عديدة يؤكّد هالبواش أن الوقائع والمفاهيم الأيسر للتذكر هي تلك الواقعة في الحيز العام، وأن ما لا يمكن تذكّره بيسر هو تلك الذكريات التي لا تخصّ الآخرين، ولكن تخصّنا لأنها وحدنا من يعرفها، الفرق واضح بينهما، ففي حياة كلّ منا أحداث كثيرة لا نملك القدرة على استحضارها، وذلك مرده، بحسب هالبواش إلى أن :«بين الأحداث بعينها والأشخاص الذين انخرطوا فيها وبيننا، نحن أنفسنا، يوجد انقطاع، ليس لأن الجماعة التي تمثلنا الحدث ضمنها لم تعد موجودة، بل لأننا لم نعد نفكر فيها، ولم يعد بمستطاعنا بناء صورتها.. أن ننسى فترة من حياتنا هو أن نفقد الصلة مع أولئك الذين كانوا يحيطون بنا في تلك الفترة».

 

     يؤكد موريس هالبواش رائد علم «الذاكرة الجمعية» أن ذكريتنا تبقى رغم فرداتيتها الظاهرية ذات طبيعة مشتركة، ومن ثم فهى جمعية، وذلك حينما يذكرنا بها المجتمع المحيط بنا مع انها أحداث عنينا بها وحدنا مضيفاً أننا لسنا في الحقيقة وحدنا البتة *(21)

 

    ومن هذا المنطق يرى أن النسيان لا يمكن فهمه بوصفة عملية فسيولوجية؛ إستعادة فهو مرتبط بتلك الأطر الاجتماعية نفسها المؤثرة في عملية التذكر الفردية : «أن ننسى فترة من حياتنا بنسيان أولئك الذين يحيطون بنا في تلك الفترة».*(22)

 

     وعلى هذا الأساس يقيم موريس هالبواش  تميزاً أوليا بين نمطين من أنماط التذكر هما: التذكر الفردي، والتذكر الجمعي معتبرا أن النمط الأول أعسر وأعقد من النمط الثاني لكنه هو الأيسر في استعادة أحداث وقعت ضمن الحيز العام أي المشترك أما النمط الأول فهو خاص وشخصي ويفسر هذه المفارقة بقوله :«إن الذكريات الأصعب في استحضارها هى تلك التى لا تخص سوانا، تلك التي تشكل ملكيتنا الأشد حصرية». *(23)

       فلا يوجد تعارض بينهما؛ فكل ذاكرة فردية هي وجهة نظر تطل على الذاكرة الجمعية.*(24)

 

الذاكرة الجمعية

والذاكرة التاريخية :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الذاكرة الفردية ليت مغلقة أو معزولة فلكي يستذكر المرء ماضيه الخاص هو في حاجة إلى ذكريات الأخرين، وعلى هذا الأساس يرى أنهما في علاقة تكاملية، وغم إقراره في الوقت نفسه بأننا لسنا معتادين بعد عن التحدث عن ذاكرة جماعة حتى لو كان ذلك من «باب المجاز» .*(25)

        وبخلاف العلاقة التكاملية بين هذين النمطين من التذكر نجد موريس هالبواش يقيم تعارضا واضحاً بين الذاكرة والتاريخ ومناقشة العلاقة الشائكة بينهما، ويؤكد أنه من غير الممكن الخلط بين التاريخ والذاكرة مشدداً على أن تعبير لم يُحسن اختياره.

      ويعلل موريس هالبواش  رفضه لهذا المصطلح بقوله : «لو كان نسيج الذاكرة الجمعية مجرد سلسلة من التواريخ وقوائم من الوقائع التاريخية؛ فإنها لم تكن تلعب إلا دوراً ثانوياً في تثبيت ذكرياتنا الفردية»*(26)

 

      ويؤكد موريس هالبواش أن استناد ذاكرة الفرد إلى ذاكرة الجمع إنما هو لسد ثغرات الذاكرة الفردية بل توطيدها أيضا من دون أن يقلل هذا الأمر من استقلاليتها ودورها في تشكيل «الثقافة الجمعية» التي تتطور وفق قوانينها الذاتية وإنها في نهاية المطاف مؤلفة من ذاكرات فردية متعددة ومتنوعة تسهم في تأسيس الوعي الجمعي للجماعة التذكرية حالما تتموضع بصورة لا فردية أي جمعية، وفي هذا الصدد يقول هالبفاكس : «تأتي الذكريات الجمعية لتُضاف إلى الذكريات الفردية، ولتعطينا على هذه الأخيرة ممسكاً منسباً وأكيد أكثر، ولكن ينبغي للذكريات الفردية أن تكون مسبقاً موجودة، وإلا فإن ذاكرتنا ستعمل في الخواء.».*(27)

      ومن هذا المنطلق يفرق موريس هالبواش  بين التاريخ المكتوب الذي ليس إلا توثيقاً لجانب من الماضي كله، والتاريخ المعيش أى التاريخ الحي المتجدد عبر الزمن، وهو التاريخ الذي ـ بناء عليه ـ تستند الذاكرة لاحقاً ؛ فبحسب تعبيره لدية «كل ما يلزم لتشكيل إطار حي وطبيعي يستند عليه لحفظ صورة الماضي واستعادتها»، وهذا تحديداً ما يميز التاريخ المعيش من التاريخ المكتوب الذي يرى في «المعرفة المجردة المعنية وليس الذاكرة .».*(28)

 

    في إطار شرح فكرته حول التعارض بين الكتابة التاريخية والذاكرة على الأقل من الناحية الوظيفية، يرى هالبواش أن : الذاكرة الجمعية تتميز عن التاريخ بخاصيتين أساسيتين هما الاستمرارية والتنوع فهي بحسب تعبيره «تيار أفكار مستمر استمرارية لا شئ مصطنعاً فيها»، إنها لا تحتفظ من الماضي إلا بما هو حي أو قادر على البقاء حياً عند الجماعة التي تحمله .

 

    في إطار شرح فكرته حول التعارض بين الكتابة التاريخية والذاكرة على الأقل من الناحية الوظيفية، يرى هالبواش أن الذاكرة الجمعية تتميز عن التاريخ بخاصيتين أساسيتين هما الاستمرارية والتنوع فهي بحسب تعبيره «تيار أفكار مستمر استمرارية لا شيء مصطنعاً فيها»، إنها لا تحتفظ من الماضي إلا بما هو حي أو قادر على البقاء حياً عند الجماعة التي تحمله .*(29)

 

      أما التاريخ فهو في نظره : متموضع خارج الجماعات وأعلى منها؛ « ذلك أنه يهتم قبل كل شئ بالفوارق والتضاد».*(30)

 

   وفي مقابل التنوع الذي تتميز به الذكرة أوالذاكرات يرى هالبواش أن «التاريخ واحد»، وليس فيه شئ ثانوي لذا ينجح في إعطائنا نظرة سريعة عن الماضي؛ فهو يجمع في برهة قصيرة ويرمز بحركة سريعة تاريخ شعوب وأفراد وتطورات جمعية حدثت ببطء، مضيفاً أن التاريخ يقدم لنا بهذه الطريقة «صورة وحيدة وجامعة» .

 

       فالجماعة حين تمثل ماضيها فإن ذاكرتها، وليس تاريخها هى ما يحتل الصدارة؛ فهي تشعر بحسب نعبيره بأنها بقيت كما هي مدركة هويتها المخصوصة بها عبر الزمن.*(31)

 

     وبهذا العامل الزمني وعلاقته بالذاكرة الجمعية يهتم موريس هالبواش  بالمكان معتبراً إياه  إلى جانب المكان والجماعة نفسها ـ شرطاً مركزيا في تشكل الذاكرة في بعديها الفري والجمعي .

 

     وفي هذا السياق يُفسر موريس هالبواش الدور الذي تؤديه الصورة المكانية أثناء تشكل الذاكرة الجمعية فالمكان اندمج في بصمة الجماعة، وكذلك الجماعة اندمجت في بصمة المكان؛ فالجماعة ترتبط ارتباط طبيعياً بمكانها الخاص بها فلا  «ذاكرة جمعية» خارج إطار مكاني . *(32) ؛ وذلك لتحديد صورتها عن نفسها.

 

      الذاكرة تستند إلى استمرارية الفضاء المكاني الذي تتموضع فيه أو على الأقل إلى استمرارية الجماعة في سلوكها تجاه مكانها أو أمكنتها *(33) وهو ما تناول فيه موريس هالبواش العلاقة بين الذاكرة الجمعية والزمن من جهة، وعلاقتها مع المكان من جهة ثانية؛ فيقول:

 

     «الحياة في مجتمع تقتضي أن يتفق كل الناس حول الأزمنة والمدد، وأن يعرفوا تمام المعرفة الاتفاقات التي هم موضوعها، لذا كان لا بد من تمثل جمعي للزمن، يتفق بلا شك مع معطيات علم الفلك والفيزياء الأرضية، ولكن المجتمع يشيد فوق هذه الخيوط العريضة خطوطًا أخرى تتفق مع أوضاع الجماعة البشرية الواقعية وعاداتها».

 

محو الذاكرة :

ــــــــــــــــــــ

       تبدأ محاولات  «محو ذاكرة الشعوب» في المقام الأول بتحطيم حالة «الدفاع النفسي» وتحضير الإنسان المستهدف بتدمير منظومة القيم التي يعرف بها، ويعرّف بها، وأهمها هدم التصورات والأفكار وخلق تصورات ورغبات وأهداف جديدة وبنائها، وهذه البناءات «الخدمية» مؤقتة ومهمتها هي إحداث الخلط في الأفكار، وجعلها غير منطقية وخالية من الروابط، بما يسقط الإنسان تلقائيا في دوامة الشك في الحقائق الحياتية الراسخة، ويفقد القدرة على مقاومة التلاعب، ويلي عملية «هدم الدفاعات النفسية» عملية «العدوى النفسية»، و«افتضاض الضمير» .

 

مفهوم الهيمنة الثقافية :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     بعد هدم الدفاعات النفسية تبدأ مرحلة الهيمنة الثقافية والهيمنة الثقافية تعني التسلط والإكراه، وفرض ثقافة معينة من المتُسلِط، على المُتسلَط عليه بشكل ظاهر أو خفي.

 

     ويمثل الشكل الظاهر من الهيمنة ما قام به الاستعمار الغربي عند احتلاله لشعوب العالم الثالث، وحاول فرض لغته وثقافته وأنماط تفكيره .

     أما الشكل الخفي من الهيمنة الثقافية فينقسم إلى نوعين: خارجي وذاتي.

 

    النوع الخارجي:

 

    يبرز في خطط الاستعمار الاستراتيجية طويلة المدى، ونضرب مثالاً على ذلك ما قام به الاستعمار الإنجليزي في مصر الذي وضع خطة طويلة المدى قامت بتكريس وتجذير إحدى خصائص العقلية الشرقية، ونقطة الضعف المركزية في الثقافة المصرية والعربية بشكل عام وهي تقديسها للكلمة المكتوبة، للنصوص، لإنتاج الثقافة في مصر وتكوين «مثقفين بلا ثقافة».

 

     النوع الذاتي الخفي:

 

    فتمثله النظم المعرفية في الثقافة العربية التي قسمها محمد عابد الجابري إلى : النظام المعرفي البياني، والنظام المعرفي البرهاني، والنظام المعرفي العرفاني*(34)، وآلياتها التي تمثل آليات خفية تتحكم في العقل العربي بشكل لا شعوري، ومناهجها في إنتاج العلوم والثقافة العربيين، انتهى الجابري إلى وجود ثلاثة نظم معرفية متكاملة: هي النظام البياني الذي يعتمد على قياس الغائب على الشاهد كمنهج في إنتاج المعرفة، ونظام العرفان المؤلف من تصوف وباطنية وكيمياء وتطبيب وفلاحة نجومية وسحر وطلسمات وعلم التنجيم، حيث يؤسسها النظام العرفاني القائم على (الكشف والوصال) و(التجاذب والتدافع). كذلك النظام البرهاني الذي يؤسس كلاً من المنطق والرياضيات والطبيعيات والالهيات أو الميتافيزيقا، والقائم على مبدأ «الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي كمنهج»

 

    وانتهى الجابري إلى أن الكشف عن النظم المعرفية العربية والبنى الخفية التي تتحكم في تكوين الثقافة تعد ضرورة لأنها من أخطر أشكال التسلط والهيمنة بل أشد خطورة من الهيمنة الاستعمارية، أي كيف استفاد الاستعمار الإنجليزي منها في رسم خطته الطويلة المدى لإنتاج الثقافة في مصر، لأن خطورتها تكمن في ممارسة المثقف العربي لها لا شعورياً أو دون وعي أو تفكير، لأنها تمثل الممارسة العقلية التي تلقاها المثقف العربي في التربية داخل الأسرة وربما يكون المنهج الوحيد الذي درسه في المدرسة ممثلاً في المنهج القياسي الذي مارسه عملياً في دروس النحو والفقه، وأصبح فيما بعد المنهج الذي يدرس به كل القضايا التي يبحث فيها والذي يقوده إلى نفس الحلول، فبدلاً من أن يقوم الباحث العربي بتحليل عناصر المشكلة والكشف عن عناصر بنيتها والكشف عن منظومة العلاقات التي تربط بين عناصرها المختلفة، وتعرية مواطن الضعف فيها نجد أغلب المثقفين العرب يكتفون بقياس المشكلة التي يدرسونها ـ أياً كانت ـ على غيرها من القضايا المشابهة في التراث العربي أو الإنساني، ويصلون إلى حلول متشابهة، أو الوصول إلى عنق الزجاجة أو إحالة القضية إلى المستقبل دون أن يقدموا حلولاً موضوعية واقعية، ولذلك بقيت أغلب المشاكل عربية معلقة دون حلول.

 

      ولأن ترك الفضاء الثقافي للفراغ يمثل خطراً شديداً على «المتلاعب بالعقول» أو«الراغب في الهيمنة» لكونه يغري بتمدد نطاقات ثقافية من غير المحسوب حسابها؛ فكان لابد من إشاعة قيم زائفة وزرع ذاكرة كاذبة .

 

«زرع الذاكرة الكاذبة»  :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   

      قام فريق من الباحثين البريطانيين والكنديين بإجراء دراسة علمية حول «زرع الذاكرة الكاذبة»، وقد أظهرت نتائج الدراسة أن كثيرا من الناس يتذكرون أحداثا لم تقع قط، ومع ذلك فإنهم يبدون على ثقة من وقوعها من جراء عمليات الإلحاح والتكرار على مسامعهم بصياغات مختلفة في أوقات مختلفة أو خلط الآراء بالأخبار، وهو ما يؤدى إلى تكوين ذاكرة مزيفة .. الأمر الذي يؤثر على سلوك الناس ومواقفهم الاجتماعية والسياسية، وهو ما دعا الباحثين إلى التشكيك في دقة وصحة أقوال الشهود في استنادهم إلى الذاكرة أثناء التحقيقات الجنائية، وداخل قاعات المحاكم.

 

    نشر الباحثون نتائج دراستهم التي أشرفت عليها البروفيسورة كمبرلى وايد بجامعة واريك البريطانية في مجلة «ميمورى» لأبحاث الذاكرة، وخلصت الدراسة إلى :

 

   « أن الأشخاص الذين تقدم لهم معلومات متخيلة عن أحداث في بداية أعمارهم، ويقومون مرارا وتكرارا بتخيل أن تلك الأحداث وقعت لهم، يتعرض نصفهم إلى التصديق بوجودها فعلا، وظهر أن نصف أفراد العينة المكونة من 400 فرد أجريت عليهم أبحاث «عملية زرع الذاكرة»، من الذين عرضت عليهم معلومات كاذبة عن حياتهم، اعتبروها جزءا حقيقيا من تاريخهم. وقال 30 % منهم إنهم: «يتذكرونها،  وتحدثوا بالتفصيل عن جوانبها»، بينما قال 23 % من أفراد العينة إنهم: « يعتبرون تلك الأحداث جزءا من تاريخهم».

 

    ***

      كانت تلك محاولة لكشف البُنى العقيمة في حياتنا الثقافية، والتي كشفت عن عقمها في عدم إيجاد حلول لمشاكل حياتنا وواقعنا المعيش!!

 

الفصل الثاني :

ـــــــــــــــــــــــ

«المتبقي» من اللغة

أو «فضــــــــــالـــــة اللغـــــــــة»

     اللغة العامية «الملحونة» أحد سمات «الثقافة الشعبية» التي تميزها عن الثقافة الرسمية، ويعرف اللحن بأنه خروج الكلام الفصيح عن مجرى الصحة في بنية الكلام أو تركيبه أو إعرابه؛ بفعل الاستعمال الدارج الذي يشيع أولا بين العامة من الناس، وتنتقل عدواه اللسانية بعد ذلك إلى لغة الخاصة كالتصحيف والتبديل والتوليد والتحريف وضروب الإمالات ومختلف الأجراس والنغمات من التفخيم والترقيق والإشباع والاختلاس، والنبر، والهمس، والإثبات، والحذف، إلى غير ذلك من مما يرجع إلى كيفية النطق، إضافة إلى ما يستحدث من المجازات والاستعارات التي صارت حقائق عرفية، وأيضا ما يطرأ عليها من الألفاظ الأعجمية المختلفة بـ «التوليد»؛ فتكونت من هذا كله لغة مستقلة، مختلفة ومتباينة عن اللغة الفصيحة؛ أخذ الناس يستخدمونها في محاوراتهم ومخاطباتهم والتي  تروغ من قواعد النحو وتتفلت من قوانين الألسنية، والتي اصطلح على تسميتها بـ «المتبقي» من اللغة أو «فضالة اللغة» !!

 

     اللغة كما عرفها ابن خلدون هي : «هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام، فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان، وهى في كل أمة بحسب مصطلحاتها»*(1)، وهو ما يطرح قضية محورية هامة في علم اللغة المعاصر مفادها البحث عن إجابة السؤال :

 

      عندما يقوم شخص ما باستعمال اللغة من يكون المتكلم؟ هل هو الشخص المتكلم بذاته أم أن اللغة هى التي تتكلم ؟!! .. بمعنى : هل يكون الشخص المتكلم مسيطراً سيطرة تامة على «الأداة» التي يستعملها، وهى اللغة، بحيث أنه يفعل بها ما يريد وفق شروطه الخاصة، ويشكلها وفق تصوراته المسبقة أم أن اللغة تلعب دوراً أساسيا في عملية التعبير، بحيث تفرض شروطها هي، وتتحول «متكلما» أو لاعباً أساسياً في العملية .

 

     يعرض جان جاك لوسركل في كتابه بعنوان : «عنف اللغة  The Violence of Language»*(2) أراء من عالجوا هذه القضية أمثال فرويد ولاكان وآخرين في محاوله منه لطرح هذا الموضوع بشكل كلى ومتكامل وتسليط الضوء على ما يحدث في اللغة، وفي المتكلم في أثناء عملية التعبير.

 

     والمقصود بـ «عنف اللغة» أن المتكلم مُقيد في استعماله للغة بظواهر اجتماعية ونفسية محددة .

      كان فرويد ( 1856 ـ 1936 م) يرى أن العقل الباطن منطقة مظلمة في نفس الإنسان لا يضبطها نظام، وتعبث فيها الغرائز الدنيا بدون كوابح، ويؤكد فرويد بأن ما في العقل الباطن يظهر إلى العلن في حالات موصوفة كما يحصل في الأحلام وزلات اللسان والنكات !!

 

      .. وخالف جاك لاكان ( 1901 ـ 1981م) أستاذه فرويد في النظرة إلى العقل الباطن .. يرى لاكان :

 

     «أن العقل الباطن منطقة يحكمها النظام ومركّبة كما اللغة وتتمحور أنشطتها حول الكناية والاستعارة، وكان لاكان يرى في هاتين الحالتين استبدال مفردة مكان مفردة، وأن قوة الاستعارة تنبثق من دالين حل أحداهما مكان الآخر في السلسلة الكلامية.

 

    .. ويرى لاكان أن اللغة ليست مجرد وعاء للأفكار والمعلومات كما أنها ليست مجرد واسطة للتواصل بل يرى أن ما يؤدي إلى الفشل في التواصل يحمل مغزى هاماً؛ فإن حالات سوء التفاهم والارتبكات والممارسات الشعرية وملامح أخري (مثل زلات اللسان والذهول ونسيان الاسماء .. ألخ) وكلها تنبثق أيضا من اللغة وخلالها، وهذه الملامح هى التي تظهر فيها أثار عمل العقل الباطن، فهو لذلك يرى أن العقل الباطن هو الذي يخرب التواصل؛ ولا يحدث هذا مصادفة بل بحسب نظام بنيوي معين ، كما يرى أن كل أشكال الخطاب لدينا هي بمعنى ما زلة لسان مستمرة .

 

     .. وبذلك تصبح اللغة كيانا مستقلاً ذاتي الإشارة، بمعنى أن أي عنصر من عناصر اللغة الدالة Signfier لا يدل على شيء خارج اللغة بل يدل إلى دال آخر، وهذا بدوره يدل على دال آخر وهكذا دواليك، وهكذا نجد العلاقة بين الدال والمدلول علاقة غير مستقرة بحيث ينزلق المدلول تحت الدال باستمرار .».

 

«المتبقي» في اللغة :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

        ركز لوسركل على ذلك الجانب من اللغة الذي اصطلح على تسميته بـ «المتبقي»، وهو الذي يروغ من قواعد النحو ويتفلت من قوانين الألسنية التي درسها وصاغها فرديناند دوسوسير، وهو الجانب الذي يرتع فيه المبدعون والشعراء والصوفيون والمهوسون ومن شابههم ـ على حد تعبيره ـ ومع أن الممارسات في هذا الجانب لا تسير بحسب قواعد النحو إلا أنها كما يؤكد لوسيركل تُغني اللغة وترفدها ولا تنقض عراها.

 

       كانت نشأت فكرة لوسركل عن ما اسماه بـ «المتبقي» من أن كل نظرية للغة تبني «موضوعها» عن طريق الفصل بين الظواهر «ذات العلاقة» والظواهر «غير ذات العلاقة» مع استبعاد هذه الأخيرة والنتيجة أن كل النظريات تترك خارج الدراسة ما يمكن تسميته بـ «المتبقي». هذا المتبقي هو ذلك الجزء الغريب والفوضوي والخلاق من اللغة الذي نستعمله جميعاً ودائماً؛ إنه جوهر الشعر والمجاز، .. ويؤكد لوسيركل أنه على الرغم من هذا الجزء المتبقي أو المهمل من اللغة يمكن دراسته دراسة شكلانية؛ فإن علينا أن نضعه موضع الاعتبار في كل دراسة للغة، وهو ذلك يحاول وللمرة الأولى ـ حسب ادعائه ـ بناء نظرية لرصد وتحليل هذا «المتبقي» .

 

«فضالة» اللغة :

ــــــــــــــــــــــــــ

 

      ولا يبدو سوسيركل سعيداً بالفصل الجازم الذي يقيمه الألسنيون من أتباع سوسير بين نظام اللغة، وبين النشاطات الإبداعية اللغوية الأخرى، واستبعادهم «المتبقي» من الدرسات اللغوية الجادة .

 

    ويوجه لوسيركل إلى نقد الفصل الحاد بين نظام اللغة و«المتبقي» ويتمحور جزء كبير من الكتاب حول مقولة أن نظام اللغة ليس هو اللغة ككل بل إن الكثير من الأنشطة الإبداعية في اللغة تقع خارج هذا النظام، ويجتهد لوسركل لإثبات أن «المتبقى» هو «الفضالة» خارج نظام اللغة هو جزء جزء أصيل من اللغة يغني نظامها، وهو من طبيعة هذا النظام .

 

      إن ما اسماه لوسركل بـ «المتبقي» ووصف به النشاطات اللغوية الابداعية التي تقع خارج نظام اللغة هو ما اصطلح علماء اللغة العرب القدماء على تسميته بـ «الضرورة» بمعنى انتفاء الأصل القواعدي لبعض الأداءات اللغوية إما لضرورة الشعرية، أو باعتبارها شاذة أو لأية اعتبارات أخرى، فكثير من شواهد الضرورة الشعرية الواردة في أمهات الكتب، لا تختص بالضرورة فقد وجدت في لغة النثر، وقد عدها العلماء ضرورة لانحرافها بشكل من الأشكال.

 

«الضرورة» :

ــــــــــــــــــــــــ

 

   اللغة بحر لا ينضب من الأداءات المختلفة التي تشكل أسلوبا للتواصل بين أبنائها واللغة العربية تحديداً حظيت بعناية خاصة من علمائها فقعدوا لها وتمسكوا بالقاعدة؛ فجمعوا اللغة من أهل اللغة، واعتدوا على عدد من من القبائل التي أطلق عليها «قبائل الاحتجاج» وحددوا زمنا معيناً لأخذ هذه اللغة ونتيجة لهذا التأطير؛ فإن عدداً من الأداءات بقي خارج الإطار المحدد، وما كان خارجاً عن قواعدهم من هذه الأداءات سموه بـ «الضرورة» .

     الـ «ضرورة» التي تُسمى «المتبقي» عند لوسركل أداء لغوي متمرد على قوانين اللغة وقواعدها .. لا يقوم بتقبيح اللغة أو سلبها قواعدها بل هذا هو شأنه التلقائي وفكرته تكمن في أنه استعمال متمرد تقبله اللغة على ما فيه من مراوغة للقاعدة وتجنب الالتزام بقواعد المستوى المعياري أي النحو الضيق .

 

     بينما يرى البعض أن اللغة خضم هائل يصعب على الإحصاء ويستعصي على الحصر وأن ما أطلق عليه «المتبقي» أو «الضرورة» من صميم لغة القبائل العربية التي لم يشملها تعداد اللفظ أو الإخضاع للقواعدية المتعارف عليها، ويستندون في ذلك ما ذكره محمد ابن سلام الجُمحي في كتابه بعنوان:«طبقات فحول الشعراء»، وإلى ما ذكره أبو الفتح عثمان ابن جني في كتابه: (الخصائص) :

 

       « لا يوجد من يدعي علمه بكامل لغة العرب، .. وأن لغة العرب لا يحيط بها إلا نبي.».

 

      تسعى بعض الدراسات الحديثة إلى إخراج بعض الأداءات التي أطلق عليها العلماء مفهوم «الضرورة» أو وسموها بالشذوذ أو أحيانا عدوها لحناً أو اداء متمرداً على القاعدة إلا أنه لا يخرج عن إطار اللغة، وتعد أنماط تبيحها اللغة، وهي من الحرية التي تعطيها اللغة لأبنائها*(3)، ومنها محاولة تأطير «المتبقي»؛ فصمود المتبقي رغم فساده القواعدي هو خروج تلقائي عن الأصل، ولكنه  يحقق تواصلاً اجتماعياً في حدود المقبول، وهذا ما تسعى إليه اللغة فاللغة ظاهرة اجتماعية.

 

       .. كتب د. يحيى عبابنة عددًا من المقالات القصيرة عن المتبقي.. في محاولة لـ «تأطير» النظرية في إطار عربي بعد أن أطّر لها جان جاك لوسركل في كتابه بعنوان : «عنف اللغة»، ولكن تأطيره هذا فُهم منه غير ما قصد إذا خاض فيه من لا يحسن النظر في التكوين اللغوي، وتشكيل القواعد، فهو ينطلق في بعض نقاط النظرية من منطلق (فرويدي)، ولذلك فهو يركّز على منطقة اللاوعي الموجودة في التكوين الإنساني، ولذا فهو ينحو منحى من يريد النظر في لغة الهلوسات والأحلام والكوابيس والأداء اللغوي العادي الذي لا يخرج من ابن اللغة عن وعي تام بالقدرة ذاتها..

 

      ما نحتاج إليه هو أن ننطلق من الأداء اللغوي المنفلت من القيود، والمنعتق من القاعدة،.. وهو أجلُّ من الشذوذ اللغوي الذي يذهب إليه النحويون العرب.. إنه اللغة بكلّ تجلياتها وتمرُّدها على القيود، .. فالقواعد قيد للغة التي تستبيح الحدود وتنفر منها؛ .. ولذا فإننا نجد في لغة النص القرآني كثيراً من المظاهر التي تمثّل هذا المتبقي، وقد كان النحويون العرب عندما يعالجون ظاهرة ما في الشعر، يذهبون إلى أنها من خصوصية لغة الشعر والضرائر الشعرية، .. والحقيقة أننا نجد لها كثيراً من النظائر في لغة القرآن، .. وكان النحويون ينفرون منها وقد لا يأتون على محاولة لتحليلها ،.. فالقرآن لا ضرورة فيه، .. ولكننا إذا تبنينا فكرة المتبقي، فإننا سنخرج من مسألة الضرورة واللحن وكل ما يمكن أن توصم به اللغة .. مع ملاحظة أنه ليس كل تغيُّر في القواعد قابلا لإدراجه في المتبقي، بل يمكن أن نجد كثيرا من القواعد التي تفرِّج همَّ النحو الملتزم بالمعايير الصارمة..

 

«اللحن الجميل»

و«العامية المصرية»:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     وقد سمى لوسركل الأداءات اللغوية التي تخرج عن القاعدة، ولا يمكن رفضها بـ «اللحن الجميل» لكونها من الحرية التي تمنحها اللغة لأدائها، ويقصد بها «المتبقي» لأن سمة الإبداع والتغيير جعلت من هذا الأداء جميلاً؛ .. لذا فإنني أرى أن «العامية المصرية»  التي لا تبتعد كثيراً في منطوقها او مضامينها عن اللغة الأصل يمكن أن تندرج تحت مسمى «اللحن الجميل»؛ فـ «العامية المصرية» لغة عربية فصحى مسكونة بالروح المصرية، ومتسربلة بـ «الملاءة اللف» السمة المميزة لزي المصريات في أحياء المحروسة الشعبية !!

 

     الكلام العامي في مصر يحمل في ثناياه جذور الفصحى وإن بدا في مظهره يحمل سمات الابتذال والسوقية مثال ذلك كلمة «دهده» تعني : ما هذا الذي يحدث؟، كلمة «فشر»: أي كذبت وبالغت في التطاول والافتراء، وكلمة «فشوش»: بمعنى ِما لا طائل فيه من الأشياء، وكلمة «يا ادلعدي»: بمعنى «يا ألد الأعداء» أو «يا هذا العدو»، و«يا عمر» وتعني سب الصحابي الجليل عمر ابن الخطاب؛  فقد دأب أوشاب المصريين وأوباشهم على سب صحابة رسول الله صلى الله علي وسلم الأكرمين رضوان الله عليهم اجمعين إرضاء لحكام الدولة الفاطمية (الدولة المهدية العبيدية) التي نشرت خرافة عبادة الحاكم بأمر الله والإدعاء بأن الإمام عليّ ابن أبي طالب يُحيي المصريين من السماء من وراء الغمام وهم في طريقهم للحج مما شجع الفاطميين على محاولة نقل الحج من مكة المكرمة إلى مصر ليصبح جبل المقطم بديلاً عن جبل عرفات.

 

    وهو ما سبق إليه الفقيه أبو المحاسن يوسف المغربي؛  فمنذ أن وضع الشيخ يوسف المغربي مؤلفه بعنوان : «دفع الإصرعن كلام أهل مصر»، وتوالت المؤلفات التي تعني بلغة عامة الناس؛ فوضع محمد ابن أبي السروركتابه:«القول المقتضب» إلى أن تأتي محاولة أحمد تيمورباشا ليقوم بوضع معجمه الكبيربعنوان:«معجم تيمور الكبير في الألفاظ العامية»*(4) بالإضافة إلى كتابه بعنوان :«الكنايات العامية»*(5)، ومعجم «الأمثال العامية»*(6)، وقام حسن أفندي توفيق العدل بوضع كتابه بعنوان:«أصول الكلمات العامية»*(7)، ود. أحمد عيسى بوضع كتابه بعنوان : «المحكم في أصول الكلمات العامية»*(8)، والأمير شكيب أرسلان بوضع كتابه بعنوان :«القول الفصل في رد العامي إلى الأصل»*(9)، كذلك أحمد أمين بوضع كتابه بعنوان:«قاموس العادات والتقاليد والتعابيرالمصرية»*(10)، وتوالت بعد ذلك الجهود، ومنها محاولة د . عبد المنعم سيد عبد العال في :«معجم الألفاظ العامية ذات الحقيقة والأصول العربية .. مأخوذ من القرآن ـ الحديث ـ معاجم اللغة ومأثورها».*(11)، ومحاولة د. ممدوح محمد خسارة في: «معجم فصاح العامية من لسان العرب».*(12) .

 

علم النفس السياسي

ونفسية الجمــاهير  :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

      نحاول هنا فهم ما حدث، ويحدث للمصريين للمصريين في ضوء العلوم «المفترض» كونها «إنسانية»، إلا أننا نصطدم بإشكاليات حول بعض هذه العلوم، من حبث كونها اكتسبت مظهر العلم دون أن يكون لها من موضوعه أو مناهجة شيئاً، فلا يجوز مطلقا تطبيق علم نفس الأفراد على الجماعات دون أن يكون لعلم النفس الاجتماعي نقطة البداية، وموضوعاته والمناهج المتعلقة به والفرضيات التي ينطلق منها الباحث .. بدأ «علم النفس السياسي» بدراسة تركيب المجتمعات لتقديم أفضل الوسائل إحكام السيطرة عليها، وضمان خنوعها وإذعانها عبر آليات التلاعب والتضليل والتلقين والحروب النفسية وحروب المعلومات وآليات «التسمم السياسي»؛ بما اساء إلى شرف العلم بالاستخدام الإجرامي له والتلاعب بإرادة الإنسان امتهان الكرامة الإنسانية عبر آليتي غسيل المخ القذرة بالعقاقير الكيمائية أوالجراحات الفصية الأمامية للمخ.

 

     لم تكن الممارسات الإجرامية لما اصطلح عليه بـ «العلوم النفسية والاجتماعية» أخطر أنواع الجرائم، بل أنها تركت مغالطات يتم التعامل معها على كونها حقائق و«مُسلمات»؛ فما اصطلح على تسميته بـ «الأدب الشعبي» وأنه ينبع من الوعي واللاشعور الجمعي، وهو كلام مرسل ينطوي على شبة «الخرافة» ويصعب إثباته علمياً .

 

      وإذا سلمنا جدلاً بما يقال عند دراسة الأدب الشعبي عن دوافعة الشعبية؛ فتثار مشكلة أخرى تتعلق بتأليفه؛ فالشعبي من الثقافة ليس بالضرورة إنتاج الشعب إلى الشعب، إذ أن مفهوم الوسائط المتداخلة في العلاقة بين الإنتاج الفكري والبنية الاجتماعية يصبح هنا ذات أهمية خاصة، والقول إن العبارة الشعبية مصدرها ومآلها الشعب يعني غياب هذه الوسائط، وهو ما لا يتفق مع طبائع الأمور ولا يستقيم معها؛ فمن الذي يؤلف هذه الألوان الأدبية بأشكالها المحددة أهو الشعب كله أم فرد بعينه ؟!!، وهل من المعقول أن الشعب كله أن يجتمع ليؤلف أسطورة أو حكاية خرافية أو شعبية على سيبيل المثال ؟ أو هل هل يمكنه مجتمعاً أن يؤلف النكتة بشكلها الموجز الملئ بالمغزى والسخرية؟، ومن الذي يصوع «الأمثال الشعبية» التي تعد دستوراً غير مكتوب للجماعة الشعبية بكل تناقضاتها وانقساماتة العمودية والأفقية .. إن هذا لا  يمكن بطبيعة الحال، ولم يبق سوى أن نفترض الأصل الفردي للإنتاج الأدبي، .. وأن هذا الفرد الخلاق لا يعيش حياة ذاتية بعيدة عن المجموع، وإنما يعيش حياة شعبية صرفاً، وهو بما له من نشاط ابداعي خلاق يخلق الكلمة المعبرة التي سرعان ما تلقى هوى بين أغلب أفراد الشعب؛ إذا تكمن فيها بعضاً من روحه وبعضاً من تجاربه وبعضاً من مشكلاته !! .. بمعنى الثقافة الشعبية ليست هي الثقافة التي خلقها الشعب، وإنما هي تلك التي قبلها الشعب وتبناها وحملها، وترتكز الثقافة الشعبية أساسا على قاعدة المشافهة، يتناقلها الناس مشافهة، وهذا العنصر يمنحها المرونة والليونة والميوعة في نفس الوقت تجذرا متميزا يجعل الأجيال تتناقل آدابها جيلا بعد جيل، وتعطيها فرصة الإضافات والتغييرات والتشويهات والتحريفات والاحتواءات، والفرصة لأبراز الحكايات الثانوية من داخل الحكايا الرئيسية لإبراز معنى محدد في وقت ما وظروف ما .  

        كذلك تعتمد الثقافة الشعبية في الكثير من مكوناتها على «موروث القهر» أي أن المعلومات والمواصفات تكون عادة متوارثة شفويا أو عن طريق التقليد، في إطار العائلة أو بين مجموعات الأقارب أو مجموعات العمل المحلية .

 

    .. لذا لا نستبعد أيضا أن يكون هذا «الفرد الخلاق» أداة من أدوات الحاكم لإحداث التلقين اللازم لسوس الرعية، وهو ما يطلق عليه في الفكر المعاصر:«صناعة الإجماع» أو «هندسة الموافقة» .

***

     وهو ما يجعلنا نمحص كل هذه الآراء التي دست علينا وضللتنا كثيراً لأسباب تتعلق بالهيمنة ونهب ثروات الشعوب، .. والميول العدوانية للبشر والعلاقات المحكومة بالصراع !!، ومحاولات تلاعب السياسة بتاريخ وذاكرة المجتمعات؛ فلاشك أن  ارتباط دراسات الاتصال الثقافي ـ وما يترتب عليه من تغيير ـ ارتبطاً وثيقاً بالأنثربولوجيا التطبيقية في البلاد التي نهضت فيها الدراسة الأنثربولوجية، واحتلت مكانا مرموقاً بين فروع العلوم الاجتماعية نجد أن الأفكار التي تخرج بها دراسات الاتصال الثقافي يمكن أن تستخدم عمليا في أوجة متعددة، وليس هذا فحسب بل أن العديد من المواقف التطبيقية تتيح لعالم الأنثربولوجيا الثقافية التحكم بشكل وثيق في بعض عوامل التغيير، كما تسمح بإجراء اختيار معملي لبعض الفروض والنظريات؛ فهذا التطبيق العملي يفيد الممارسة اليومية فالأنثربولوجيا التطبيقية إذن تنطوي على توجية سلوك البشر من أجل تحقيق غايات معينة، ولعل هذا البعد هو الذي حدا ببعض علماء الأنثربولوجيا إلى رفض الأنثربولوجيا التطبيقية، وإبداء العديد من  التحفظات على الانتفاع بنتائج هذا العلم في الأغراض العملية، ولعل لهؤلاء العلماء بعض العذر في موقفهم هذا حيث يرتبط هذا الاستخدام العملي بكثير من القضايا الأخلاقية، ويتصل بمشكلات ممارسة الباحث لمسئوليات العملية .

الفصل الثالث:

ــــــــــــــــــــــ

 

«السامر الشعبي»..

الريفي ـ البدوي

     السامر هو المكان الذي يجتمع فيه القوم للسمر، والسمّار هم الجماعة الذين يجتمعون بالليل لتجاذب أطراف الحديث على ضوء القمر أو ضوء جذوة النيران الي يشعلونها في الليالي المعتمة، ويختلف شكل السامر البدوي (في سيناء أو مرسى مطروح) عن شكل السامر الريفي في مناطق الدلتا ووادي النيل (الريف أو الصعيد)، فالسامر الريفي يحتوي على الغناء والرقص والتمثيل الذي تقوم به فرق محترفة من الغوازي والخلابيص (صبيان العوالم) والخولات (رجال يرتدون زي النساء ويرقصون رقصاتهم التي تغلب عليها حركات النساء)، والمحبظين، وقد يقوم أفراد من فلاحي القرية بمهمة تلك الفرق بغناء الموال أو الحكي أو الغناء بمصاحبة بعض الآت البدائية مثل الناي أو السلمية والطبلة والدف، وقد يكون تقليد بعض الأفراد المعروفين للمتسامرين مثل شيخ الجامع والمأذون والمدرس الإلزامي يصورة كاريكتورية أو التلاسن فيما بينهم الذي يطلقون عليه : «التهريئ» وهو تحريف لكلمة «التهريج» أحد أهم اشكال في ذلك التسامر بغرض السخرية والإضحاك الفج !!

 

   وينقسم الموال الريفي إلى نوعين :

 

    الموال الأحمر :

    ـــــــــــــــــــــــ 

 

   وهو الموال الذي يتناول فواجع ومواجع الفقراء والمهمشين والمستضعفين وجروحهم الغائرة في ظل بنية اجتماعية طبقية، ومجتمعات قائمة ومشادة  على كل ألوان القهر وتصانيفه، وما يسكن قلوب ناسها من الهموم فيقول الموال :

 

جدع بلا جاه مرساة الهموم قلبه

يضرب بلا جاه وأقسى من الهموم قلبه*(1)

 

      كما تعبر كلمات بعض هذا الصنف من الموال عن الاغتراب الوجودي الاجتماعي في الوطن:

أنا لو شكيت ربع ما بي للحديد ليدوب

الأولة غربتي والتانية المكتوب

 

       وتتناول بعض المواويل أوجاع المستبعدين اجتماعيا وألامهم من جراء الحرمان العاطفي؛ فيقول الموال على لسان المعلولين والمجروحين بالحب والعشق :

 

يا مين يجيبلي حبيبي وياخد من عيوني عين

وياخد نص التانية وأشوفو بنص العين

 

الموال الأخضر :

ــــــــــــــــــــــــــ

     وهو الموال المعني بالحب والتغني بالجنس والزواج وإنجاب الأطفال، والإخصاب بعامة، والاحتفاء بالحياة وجانبها الحياتي ـ البيولوجي ـ المعاش والرغبة في الزواج تقول كلمات الموال :

لما طلعت فوق السطوح نزلت عيان

أبويا قالي أجيبلك الحكيم، قلت الحكيم ربي

قالي أجيبلك الطبيب، قلت الطبيب ربي

قالي أجيبلك العروسة يا ليل

قلتلو: والله انشرح قلبي

 

     ومنها مطالبة العريس بالتدقيق في اختيار زوجة المستقبل بقوله :

 

يا نازل الكرم انزل الكرم ونقي م الفروع العال

واسأل على الشجرة ومنبتها قبل ما تحط المال

وقبل ما تناسب حاسب ونقي لبنك خال

إن مت ولَّا عشت تشهد لك رجال

 

    تبدأ جلسات الحكائين والرواة الشعبيين في السامر الريفي بخلب ألباب المستمعين المشاهدين، والسيطرة على عقولهم لتبدأ عملية تضليل وتلقين تنتهي بـ «تزييف الوعي»؛ فالراوي الشعبي لا يؤدي عملاً تطوعياً ولا يقوم بعمل خيرياً بل هو مرتبط أشد الارتباط بالأنظمة القائمة ودعمها، على أى الأحوال؛ فهذه النظرة بتجلياتها المختلفة في الثقافة الشعبية إنما تشير إلى نفوذ النظرة الرسمية .. نظرة الفئات المهيمنة التي صاغها معبروها الفكريون إلى الثقافة الشعبية، وأى كلام بغير هذا يعني أن الثقافة الشعبية تعبير عن غياب الحاكم أكثر مما هي تعبير عن حضور الرعايا المحكومين .

 

     .. يبدأ الراوي الشعبي بعملية (الاستحواذ) على عقول ومشاعر المستمعين المشاهدين بإدخالهم من البوابة الضخمة لـ «القدرية» بقوله :

     

       ـ وحدوا الله .

 

        ليردوا عليه :

 

      ـ لا إله إلا الله .

 

     بما يقطع على المستمعين المشاهدين أى محاولة لمُحَِاجَجَة الراوي فيما يدعيه فيؤخذ منه ولا يرد عليه؛ فالأمور كله تسير بقدر الله، وتصبح مخالفة الراوي أو نقض كلامة خروج على طاعة الخالق الذي يسير الأمور بالمقادير، واعتراض عل قضائه؛ فمثلاً الحاكم جاء بقدر الله، والخروج عليه عدم رضا بقضاء الله!!، والحاكم ـ غالبا ـ ملك أو أمير أو سلطان رجل حكيم وعاقل وطيب وشجاع والمواطنون (رعايا) لكنه لا يشاورهم في الأمر إنما يشاور وزيره بالعبارة المنحوته في الذاكرة الجمعية :

 

      ـ  دبرني يا وزير .

 

     فيرد الوزير طبقا لمنطق الحكي :

 

      ـ لله التدابير .

 

    أى أن القدرية وانعدام الحيلة وقلة التدابير أحد أهم سمات الثقافة الشعبية أو العامية؛ فالراوي الشعبي يستخدم الدين في تقديم صورة تنبع من تصور أو نظرة ترى ان العلاقات الاجتماعية أو التركيب الاجتماعي المتراتب طبقيا هي أمور قدرية كانت منذ الأزل، وستظل إلى الأبد، ولا مجال لتجاوزها إلا بضربة حظ تقوم بها «القسمة» و«النصيب» أو الزمن أو الدنيا لأنها «مكتوب ممنوش مهروب»؛ فلا حيلة إزاء «المكتوب» و«الوعد المسطر على الجبين»؛ كما يبدأ الراوي الشعبي يبث سمومه لإحباط أى محاولة للتغيير الاجتماعي بتكريس الأمثال المتخلفة مثل «لما أنا أمير وأنت أمير من يسوق الحمير؟ ولما أنا ست وأنت ست مين يكب الدست؟»، والتركيز على أنه لا سبيل للمساواة في هذه الحياة الفانية إلا في الموت: «ربنا ما سوانا إلا في الموت» !

    فإذا ايقن الراوي عبورهم من البوابة الأولي ، وأن «روح القطيع» قد تملكتهم أخذ بهم إلى البوابة الثانية:

 

    ـ صلوا على اللي هيشفع فيكم .

 

    هكذا يقرن الشفاعة بالصلاة على النبي؛ فيردوا :

  

     ـ عليه الصلاة والسلام .

    

    فيزيد :

 

    ـ زيدوا النبي صلاة

 

     يكررها ثلاثاً بقوله :

 

     ـ كمان زيدوا النبي صلاة

 

     ليبدأ سرديته بقوله :

 

    ـ كان يا ما كان أيام زمن أو يستبدلها أحياناً بالعبارة: (كان يا ما كان في سالف العصر والأوان) .

 

    وكلا العبارتين تعني الحدوث في نهر الزمن فقط .. دون أرض يجري عليها الحدث وإذا ذكرت الأرض؛ فهى غالباً من بلاد الخرافة (جزيرة الجن ـ معالم الغيلان والمردة ـ بلاد واق الواق ـ المدينة المسحورة والسحرة)، وبدون زمن محدد لفاعليات الأحداث!!، فالتلاعب بحدود الأماكن وتواريخ الأحداث (الزمكان)، والشخصيات المحكي عنها تعيش حالة سيولة غير محددة، وغير مرتبطة بالواقع  في ممارسة لأخطر أشكال التلاعب بالوعي صناعة الكذب وتزوير التاريخ خاصة أن أغلب محدوي الثقافة لا يستطيعون إقامة الحد الفاصل بين وقائع الأحداث والخرافة.

 

    الثقافة الشعبية قائمة على الترويج  لصياغات تبرر الخضوع والتسليم بالأمر القائم مثل «العين ما تعلاش ع الحاجب» و«الخضوع عند الحاجات رجولية» و«اسجد للقرد في دولته» و«إذا بلد عبدت الجحش حش وارمي له».

 

   فإذا برز تيار اجتماعي من أجل التغيير؛ فلا بأس من التلاعب المدروس بوعي الجماهير؛ بأن يوقظ الراوي الشعبي الأمل في نفوس الفقراء الغارقين لأذانهم في البؤس،  ويبعث فيهم أحلام الترقي الاجتماعي؛ فالسلطان أو الأمير أو الملك دائما ـ طبقا لمنطق الحكي ـ له بنت وحيدة رائعة الجمال تنتظر نسمة الحب التى تزرع الدفء في ربيع أيامها، وغالباً ما يكون الحبيب من فقراء الرعية، فتهيم به شوقاً،  وترفعه إلى أريكة الملك وتلبسه طيلسان الحكم وتاج الإمارة .

 

     قوام فكرة الحكي في الثقافة الشعبية هي «التماهي مع المعتدي»؛ فالحاكم في القصص الشعبي دائماً عادل وطيب ومحب لشعبه وإذا أجبر سياق الحكي على غير ذلك؛ فسرعان ما يأتي بالتبرير لأنه إذا عدل السلطان جارت الرعية؛ ذلك أن الرعية مثل الثور :«إذا شبع نطح» وأقصى ما يمكن أن يفعله هو أن يدعو الراوي الشعبي :«ربنا يولي من يصلح»، ويلتمس من الحكام الجدد: «اتوصوا علينا يا للي حكمتوا جديد إحنا عبيدكم وانتم علينا سيد»، إضافة إلى «التقويمات المعادلة» لضيط إيقاع الحكي التي تجعل من الظالم يسعي إلى حتفه في نهاية تراجيدية ليسود في النهاية العدل ويعم الرخاء .. بمعنى أن القصص الشعبي هو حواديت «النهايات السعيدة، وتوتة .. توتة .. فرغت الحدوتة» .. أى انتهت !!  

         يكمل المُحبذ الذين يطلق عليه أهل الريف (المحبظاتي) مهمة «الراوي الشعبي»، والذي يقوم بإبداء استحسان لحكي الراوي والإطراء على الحكاية ويطلب الإعادة وينبه جمهور المتلقين إلى بعض مواطن الاستحسان في الرواية وأهداف ومرامي الحكي !! كما يقوم بإحداث حالة (الصهللة) بتنشيط الجمهور للتفاعل مع الحكاية بالصياح بكلمة : «وحدووووه» أو «صلوا على حضرة النبيييي» ينطقها ممدود بأقص حدود المد (أربعة حركات صوتية)، وانتزاع الإعجاب ونشر عدوي التصفيق والضحك .

    .. تجمعات «السامر الشعبي» بمختلف أشكاله : جلسات السمر والحكي على مصاطب الشوارع ومصاطب الأفران وأكوام «الردش»، و«شاي الركية» و«شواء كيزان الذرة»، وعلى المقاهي،وعلى أرصفة الحارات وجلسات السمر في أجران القمح، وموسم جني القطن، وحفلات العرس، والطهور، والجنائز والعديد، وسرادقات العزاء، والموالد وحضرات التصوف الشعبي، واحتفالات الأعياد الدينية، وحفلات «الزار»، وصالات الديسكو باعتبارها أحد أشكال التطور العصري لفكرة الزار، وحفلات السبوع وأعياد الميلاد، ولحظات الخوف عند كسوف الشمس وخسوف القمر واندلاع الحرائق وانهيار الجسور، والتي يطلق عليها في مُجمل أشكالها المتعددة والمتنوعة : «الثقافة الشعبية».

 

إحلال أغاني الراديو

والكاسيت والـ «دي .جي» :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    

    وكثيراً ما يلجأ الراوي الشعبي لإثارة وتشويق الجماهير بالإمعان في السخرية وقلب المواقف والنيل من شخوص المستضعفين والمهمشين بالكلمات المقزعة والقول الفاحش الصريح أو عن طريق التورية والتلميح والتلاعب بالألفاظ .

 

      مما حدا بالقائم على عملية الاتصال اللجوء إلى التوقف عن تداول بعض الأغاني الشعبية واستعارة الأغاني التي يذيعها الراديو وأجهزة الكاسيت والـ «دي .جي»، وقد يتم استعارة هذه الأغاني بتمامها أو تُجرى عملية تعديل وتكييف لبعضها ليتوافق مع الأغراض والأدوق والتلوينات التي تستهدفها عملية «التلقين»، ولكنها ـ في كل حال ـ أخذت تُزيح جانباً كبيراً من مأثور الأغاني الشعبية، وتحل محله .

 

***

     السامر السيناوي :

    ـــــــــــــــــــــــــــــ

       السامر السيناوي حفل يقام في المناسبات الاجتماعية سواء كانت عرساً أو عيداً*(2) أو طهور الصبيان أو لكسب قضية كبيرة أو انتصار يحققه فرد أو جماعة من أفراد القبيلة أو أية مناسبة سعيدة كالعودة من الحج أو عودة الغائب أو رؤية الهلال أو أعياد حصاد الشعير أو الزيتون أو اللوز أو الكنتالوب أو الخوخ، ومن المعتاد ان يقام في الليالي المقمرة؛ فإذا كانت الليالي مظلمة أضرموا النار وتحلقوا حولها، وأهم ما يميز السامر السيناوي أنه حفل سمر من نوع خاص يحتوي على الغناء والشعر والرقص معا،ً وتتنوع فيه الأشكال الشعرية كالبدع والمربوعة والهجينى ويبرز في السامر الحماس والمباراة، والمساجلة بين البداعين في غناء الشعر وبين الحاشيات (الفتيات الجميلات) في أداء الرقص  أمام الرجال.*(3)

     يقول نعوم شقير :

 

     كل شعر في سيناء يغنى والشعر والغناء عندهم أربع أنواع  : القصيد والمواليا وحداء الإبل وغناء الرقص.*(4)

 

         والغناء يتم بمصاحبة الات الطرب في سيناء :

 

ـ الربابة.

ـ الشبابة ( الصفارة).

ـ المقرون (الزمارة) .

 

وغناء الرقص ثلاث أنواع :

 

       الدحية والسامر المشرقية والشعر في هذه الأنواع الثلاثة يرتجل مثل الزجل  ولغة الشعر عندهم على انواعه اللغة العامية وينقسم رواة الشعر الشعبي في سيناء إلى ثلاثة هم :

 

ـ الشاعر: ويختص بابداع وإنشاد القصائد وأغلبها شعر تبطي (الشعرالعربي المنظوم بلهجات شبة الجزيرة العربية) .

 

ـ البداع : ويختص بالغناء في السامر مصاحباً للرقص .

 

ـ الحادي : وينشد عند سقى الإبل أو تحفيزها على السير .

 

1 ـ القصيد :

ــــــــــــــــــــ

 

       فيُنشد على الربابة في الفخر والمديح والحديث عن شجاعة الفرسان ومآثر الكرم والرجولة والإغاثة والنجدة والشهامة والمروءة .

 

2 ـ المواليا :

ـــــــــــــــــ

 

       فهو الغناء على ظهور الإبل على مدى الصوت .

 

      يرتبط ترحال البدوي السيناوي بالجَمَل، والذي يطلق عليه الهجين، والذي سمي شكل من أشكال الشعر البدوي باسمه ألا وهو «الهْجيني»، حيث يرتبط بالحداء ومسير الجمال، فيكون إما فردياً إذا ما كان البدوي مرتحلاً وحده، أو بين اثنين يتناوبان أبيات الهجيني في بعض حالات الارتحال الجماعي، وهو مرتبط إيقاعياً بخطوات الجمَل حيث تطرب له الإبل، وتحث مسيرها لتقطع مسافات ومسافات دون كلل.

 

      ونماذج الهجيني السيناوي كثيرة منها:

 

«الزين مثل الحيا متبوع

لو ما تلا الناس يتلونه

والشين مثل المحل مقطوع

يمشون لما يتعدونه»

      ومعنى الأبيات أن الإنسان طيب الخصال يتم اتباعه وتتبع أخباره؛ فهو يقدم الخير دون أن يتبعه بمن أو أذى، ودائما ما يذكره الناس بالخير، بينما القبيح «الشين» فإنه مثل القحط لا أحد يذكره أو يأتيه.

 

       وهناك شكل آخر من الهجيني يطلق عليه «الهجيني الطويل» :

يا ذيب ياللي تفطر القلب بعواك

يا ذيب حالك ما هو مثل حالي

إنت بعويلك يمن تقظب الشاة

وانا بعويلي  يوم تيتموا عيالي

      وتقول أخرى:

 

بلاد جاها المطر وبلاد ما جاها

وبلاد جاها كحيل العين ورواها

 

      ذكر الكاتب محمود مفلح البكر في كتابه بعنوان : (في الغناء البدوي «الهجيني») : أن «الهجيني» يعتمد في بنيته النصية على ثلاثة نماذج  أساسية، أولها «الهجيني المقفى الصدور والأعجاز» وفيه تقفى صدور الأبيات بقافية تختلف عن قافية الأعجاز، وهو نموذج الهجيني المتقن مثل

 

«ياراكب اللي قطب عجة    أربع قوايم بلا روح

 ياضلوع قلبي لهن لجة      جوا الضماير لهن جوح»

 

 

       والثاني هو «الهجيني المقفى الأعجاز دون الصدور» وفيه يقفى عجز البيت فقط مثل :

 

 «يا بنية ما انتِ طويلة بحيل    ياللي بعيونك سحرتيني

 طويت قلبي سبع طيات    طي الحبر بالدكاكين»

 

 

     أما الثالث فهو «الهجيني المربع» وفيه تتألف الهجينية من أربعة أشطر يلتزم قائلها قافية واحدة في ثلاثة أشطر، ويأتي بالقافية الرابعة مختلفة وإذا زاد عدد الأبيات تتغير القوافي الثلاث الأولى في كل مربع بينما تتكرر قافية الشطر الرابع دون تغيير، ومثال ذلك:

 

 «سميتها بنت الفياضي   وخديدها بارق ياضي

يصعب على الذيب مركاضي    قلبي على الزين مشطون».

 

 3 ـ حداء الإبل :

ــــــــــــــــــــــــ

 

         ولكل قبيلة ألحان ومقاطيع في الحداء تختلف فيها عن القبائل الأخري .

 

غناء الرقص :

ـــــــــــــــــــــ

 

1 ـ الدحية :

ــــــــــــــــــــ     

   

    الدحية من أعظم من أعظم الفنون البدوية، والدّحّ لغة هو التصفيق باليد والذراع مشرعة، وبداية السامر البدوي هو التصفيق بالأكف، ويطلق عليه “الرزعة” أو “الرزيع” حيث يتم البدء به بعد إشعال النار، ويصفقون بأكفهم مرددين «دحّيوه دحيوه» لمرات عديدة.

 

       فإذا اجتمع البدو للدحية وقف المغنون صفاً واحداً، وبينهم بداع أو أكثر يرتجل الشعر، وأمامهم غادة جميلة تحمل في يدها عصا أو سيف ويلفها السواد، فلا يظهر منها شيء، تبدأ في التمايل يمنة ويسرة مشيرة بالعصا أو السيف، وهي تسير بين الصفين،  ترقص بالسيف أو العصا تدعى الحاشية يبدأ المغنون بقولهم: «الدحية الدحية»  يكررونها مراراً، ًوهم يصفقون بأيديهم ويهزون رؤسهم وأعطافهم يميناً ويساراً، ويتقدمون نحو الحاشية، والحاشية تتقهقر أمامهم وهي ترقص رقصة حتي يصلوا إلى منتهى ساحة اللعب؛ فيقعدون القرفصاء فتقعد الحاشية متلهم ويغنون برهة، ثم يتقهقر الرجال إلى الوراء رويداً، والحاشية تتبعهم مواجهة لهم حتى يعودوا إلى حيث وقفوا أولاً؛ فيعودون إلى الرقص كما بدأوا، والبداع يبدع القول، وهم يكررون الردة وقد يكون بينهم أكثر من بداع فيتناوبون القول إلى انتهاء اللعب، وقد يرقص في الدحية راقصتان أو تلاث يد الواحدة في يد الأخرى؛ فإن رقصت اثنتان حملت السيف الواقفة على اليمين، وإن رقصت ثلاث حملته الواقفة في الوسط .

 

   تبدأ الدحية  عندما يبدأ البداع الغناء بقول : «الدحية .. الدحية .. الدحية .. الدحية»، وهم يصفقون بأيديهم ويهزون رؤسهم، وكلما قال البداع شطراً من الشعر يرد الجمع بقولهم : «رويحاني قول الرايدة» أو « رايحين نقول الرايدة» أو قولهم : «حاني قول الريداة» ومعناها :«يريحني القول الطيب» أو « يريحنا قول أريدك»، ويبدأ البداع منشدأ :

 

أنا مجيرك يالغالي مد أيدك سلم على

(فمدت يدها وسلمت عليه فقال) :

 

أنا مجيرك يالغالي     تلعب بأركان الدحية

( فتحمست في الرقص فقال:)

وإن كنت مطيع من زمان     رد الركبة مثنية

 

(فركعت على وكبة ونصف فقال :)

هيدي بروك المخليف   ودي بروك المطية

 

( فركعت على الركبتين فقال :)

أنا قصدتك يا الحاشي    ودي أشوف العطية

 

(فناولته السيف فقال) :

 الحاشية أعطاني السيف     والسيف يقطع يدي

أنا ودي شناف الفضة    شرع قبل الكلية

 

(فنزعت شنافها من أنفها وناولته إياه فقال) :

 

هذه عطيتك يا الحاشي   وهي حرام علي

واختم كلامي «بمحمد»   يا مصلين على النبي

« محمد» يانور الشرق   و«السيد» نور الغربية *(5)

 

    الرمز واضح عندما تقدم الحاشية سيفها للبداع أو تخلع شنافها الفضي من أنفها وتقدمه له .

 

 المربوعة :

ـــــــــــــــــ   

 

 

      وما أن تنتهي الدحية حتى تأتي مرحلة الانتقال إلى «المربوعة»، حيث يسبقها تصفيق ونداء الرجال بقول «ها هاي ها هاي» لمرات عديدة، ثم تبدأ المربوعة حتى تأتي الحاشية الجديدة، وغالباً تكون فتاة، لأن إيقاع المربوعة أسرع وأقوى من إيقاع البديع، وقد تتشارك فتاتان حيث تتحرك كل منهن أمام أحد الصفوف وتكون هي قائد الصف، وهذا لا يتم في وجود أغراب عن القبيلة.

 

ومن المربوعات قولهم :

«مربوعة لن سويناهي

عالحول بتفطم ضناهي»

 

     والمعنى أن المربوعة لسهولة أبياتها لدى الشعراء، ولتمكنهم يمكن أن تستمر عاماً كاملاً دون توقف، والترديد هو «هولو يا هولو يا هولو»، والمعنى «هلا يا هلا» .

 

2 ـ المشرقة :

ــــــــــــــــــــــــ

 

       والمشرقية فهي على نحو لعب الرزعة بكل تفاصيلها إلا أن الشعراء ينشدون فيها أبياتا أطول من أبيات الرزعة،  ويُغنى بها بلحن يختلف قليلاً عن لحن السامر .

 

     فيها يقف الرجال فريقين في صف منحن على شكل هلال مقطوع من الوسط ويقف مع كل فريق بداع وأمامه امرأة ترقص بسيف أو بغير سيف وتسمى الحاشية ـ أيضا ـ ويبدأ بداع الفرقة الأولى فيبدع بيتاً طويلاً أطول من أبيات الرزعة، وكلما قال شطراً كرره أصحابه، ويسمى ذلك «ردة» أى ترديد  تم يبدأ الفريق الأخر ومن أمثلتها قول شاعرهم :

 

اطلع تنزع ليالي العز

 

( فيكررون الشطر والحاشية ترقص فيكمل ) :

 

يا أكحل العين ما أحلى دقة وشامك

 

السامر :

ــــــــــــــ

          السامر نوعان : «الخوجار» وهو فن تبدع فيه النساء و«الرزعة» وهو فن يبدع فية الرجال :

 

   «الرزعة» :

   ـــــــــــــــــ

      تبدأ «الرزعة» بالغناء :

 

جوموا للرزعة يا شباب يا حلوين

في بلاد الزينة موجع للعشاج يطيب

جلبى في هواهن جرح منهن ما بيطيب

 

      يقف الرجال فريقين في صف منحني على شكل هلال مقطوع ويقف مع كل فريق بداع وأمامه حاشية ترقص بالسيف فيبدأ بداع الفرقة الأولى فيبدع بيتاً من الشعر، وكلما قال بيتاً من الشعر كرره أصحابه من بعده وكلا الفريقين يصفقون ويهزون  رؤوسهم، ويتقدمون نحو الحاشية كما يفعلون في الدحية، ثم يبدأ بداع الفريق الأخر فيبدع بيتاً من الشعر، ويكرره أصحابه بعده، وهم يصفقون على نحو ما فعل الفريق الأول إلى منتهى اللعب .

 

      والرزعة من الرقصات الطريفة مثل المشرقية غير أبياتها قصيرة وموسيقى المصاحبة أعلى .

 

الخوجار :

ــــــــــــــ

 

   فهو على نحو الرزعة لكن النساء يقفن بين صفي الرجال وفيهن شاعرتان تغني كل منهن لفريق الرجال، ولا يتحركن من أماكنهن إلى بانتهاء اللعب يقول شاعرهم :

 

 

يا طالعين البراري في سموم ورياح

لا القلب ساكن هنا ولا شوقكم مرتاح

يا قلب وايش متعبك يا قلب ويش شاقيك

يا قلب اللي الى سقا عود القنا يسقيك

 

 

     فترد عليها الشاعرة الثانية :

 

يا ساكنين الصحاري وبلادكم مظماه

قاعد على دربكم والحلو ما بلقاه

           

     ويصفق الرجال لكلا الفريقين .

 

      فترد الشاعرة الأولى :

 

يا أهل المحناة يأهل الناقة الزرقا

ما يجرح القلب غير الموت والفرقة» *(6)

الفصل الرابع:

ــــــــــــــــــــــ

 

 حفلات الزفاف.. الزار ..

حضرات الذكر.. الجنائز

 

        لا شك أن بعض «الموروثات الشعبية» تخرق المجتمع عموديا، وتطول مجموعات من كل الفئات، وليس الفئة الشعبية وحدها؛  باعتبار تلك «الموروثات الشعبية» إنتاج جماعة بشرية تشترك في نظام من الرموز والقيم يميزها عن غيرها من الجماعات، وهي بهذا جزء من الثقافة العامة، وبالتالي لها مساس مباشر مع كل العناصر المشكلة لبنيتها، ولا تقتصر الثقافة الشعبية على منتج ومستهلك إلا في أخر أولوياتها!!

 

     تلك الممارسات الشعبية لا تقتصر على العامة فحسب بل تعبر كل الفئات لتصل إلى النخبة، وإن كان ذلك الاختراق بأساليب وأدوات مختلفة (حفلات الزواج ـ حفلات الزار ـ الجنائز ـ حلقات الذكر).

 

 

      كانت بنات القرى في سن الزواج يعبرن عن أحلامهن بالغناء مثل :

 

«ع الزراعية .. يا رب أقابل حبيبي

ع الزراعية .. أنا شفت بختي ونصيبي

ع الزراعية .. قابلت قدري ومكتوبي.

ع الزراعية .. يارب أقابل حبيبى

ع الزراعية .. أنا شفت حبي ومحبوبي

أبوضحكة هنية .. وعيون بتطفى لهيبى

والدنياعروسة فى عنيا .. طول ما انا وياه»

 

      ويرسمن صورة زوج المستقبل شريك رحلة العمر، وتفضيل العريس المقيم بالبندر على نظيره الفلاح :

 

«حالي يا مالي على الفلاح   *   علـــــــــى الفــــلاح

الفــــــــلاح ليلة خــــدني     *   في الــــــزريبة نيمني

وفي نص الليل قومني     *  شورتك سودة المحرات راح

حـــــالي يا مالي على الفـلاح    *     البندري ليلة خدني

ع الســــــــرير نيمني     *    قالي مــــــــالك زعلانة

قلت انكسرت شمامة     *   قال لي سيبيها وكُلي تفاح»

 

    وعن رفض تعدد الزوجات .. تقول الفتاة الريفية :

 

«ادلع يا رشيدي على وش الميه

سيب رجلى وامسك إيدي

على وش الميه

يا برتقال يا أبو صرة

حلفت ما أخدك على ضرة

صابوني فيك وأنا حرة»

 

      وعن تنافس الزوجات «الضرائر» في استرضاء الزوج، وأيضا بممارسة كيد النساء بالاستنزاف الجسدي للرجل الذي يبدو واضحاً في عبارة «ولا افوت ليلة من جمعتي».. تقول المرأة الريفية :

 

«الطرح يا بنات

 المشاط والفلايات

جوزي اتجوز عليا

والحنة لسه في إديا

أعمل إيه أنا والبنات

عيطي يا بنتي .. عيط يا ابني

أبوكوا بات برة

عند الضرة

جوزى اتجوز يابنات

على عيني يا ضرتي

والكحل صنعتي والله أن ضريني بصباعه

لمسك واتبت في (...)

ولا افوت ليلة من جمعتي»*(1)

 

حفلات الزواج :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

    حفلات الزواج في القرى هى ساعات مختلسة من «زمن الخوف»؛ فإذا ضحكوا من القلب توجسوا الشر، وقالوا: «اللهم اجعله خير»، .. وليالى الفرح في حياتهم دائماً متبلة بطعم الحزن، ولون الدم .

    كانت عادات الزواج في القرى بسيطة تبدأ بالخطبة وتقديم الشبكة التى تتفاوت قيمتها بتفاوت المكانة الاجتماعية والحالة الاقتصادية للعروسين بين عُقد من الكهرمان، أو عُقد من الذهب أو الفضة يطلق عليه البعض «كردان» أو «لبة» بدور واحد أو بعدة أدوار، أو قرط ذهبى على شكل هلال، كان القرويين يطلقون عليه «الحلق المخرطة» لتقارب شكلى الهلال و«مخرطة الملوخية»، أو سوار من الذهب أو الفضة يطلق عليه البعض «غويشة» أو أكثر، أو خلخال من الفضة أو من الذهب .

 

     ثم يتقاضى ولى العروس مهرها قبيل العقد ليبدأ فى إعداد شوارها «جهازها».. كان الشوار بسيطاً، ويتكون من صندوق خشبى لحفظ الملابس يحمل على جنباته صوراً من رسوم شعبية لعنتر وعبلة، وخضرة الشريفة، وأبو زيد الهلالى، ومرآة زجاجية فى إطار خشبى، وبعض الأغطية، وأوانى الطبخ، وحشية ووسادة من القطن للنوم يقوم المنجد بصنعهما .. تتناغم ضربات المذبة على القطن، ودقاته بالدقماق على وتر القوس مع نغم الطبلة وغناء النسوة بأغانى التنجيد :

 

«يا منجد علّى المرتبة

عروستنا حلوة مؤدبة

يا منجد علّى المرتبة

عروستنا ناعمة غُريِّبة

 يا منجد علّى المرتبة

واعمل حساب الشقلبة»

 

    كان للموسرين من أهل القرية مسلك آخر فى تجهيز الشوار يقترب أحيانا من عادات أهل البنادر، لكن كان  يجمع بين الفقراء والموسرين زفة جهاز العروس الذى تحمله الجمال، والتى كان يتقدمها بنغماته عازف المزماره والطبال بالأغنية الشهيرة:

 

« آه يا دلال يا وله

والعمدة خالك يا وله

آه يا دلال يا وله

والباشا عمك يا وله»

 

    كانت تلك الكلمات لا تتغير سواء كان خال العروس عمدة أو أجيراً أو كان عمها باشا أو كلاف ماشية !!

 

      فإذا ما نفحهم أحد أقارب العروس عطية على سبيل النقطة تعريفة (عملة من فئة 5 مليمات)، أو قرش صاغ (عملة من فئة 10 مليمات) غير نغمة المزمار، وردد الكورس من ورائه:

 

«يحيا أبوها يحيا

عوج الطربوش على ناحية

يحيا أبوها وشنبو

اللى ما حدش غلبو

قولوا لأبوها الله كتر خيرك

ربى وكبر واللى خدها غيرك»

 

    سواء كان أبو العروس من لابسى الطرابيش، أو من لابسى اللبد أو الطراطير، أو أنه يرتدى طاقية ممزقة يخرج من نسيجها شعر رأسه أو أنه يربط رأسه بمنديل محلاوى.

 

   .. وأيضا كان يتم زفاف طحين العرس بالمزمار والطبلة والغناء فى رحلته من وإلى وابور الطحين، وكانت الفتيات يرددن الأغنية :

«يا ام العريس .. الله يتم عليكى

يا مسعدة .. والسعد ملو إيدكى

القلب أبيض بفتة .. والدقيق علامة»

 

    وتنتهى مراسم الزواج بليلة الزفاف التى يطلقون عليها «ليلة الدخلة».. والتى تسبقها ليلتان لا تقلان عنها فى الأهمية، وهما: ليلة «الجلوة» وليلة الحنة.

 

     وفى ليلة «الجلوة» تقوم صديقات العروس بمساعدتها فى حمام العرس، وتمشيط شعرها، وغسل كعوب رجليها لأن المأثور فى العرف الريفى يقول إن: «اللى ما تحنى كعبها .. ما يدق الفرح قلبها.»؛ ليبدأ عمل البلانة قبل ليلة الحنة .

 

     وليلة الحنة هى الليلة السابقة لليلة الزفاف، وفيها يتم وضع الحناء على رأس العروس وقدميها ويديها .

 

   .. فى ليلة الزفاف تزف العروس إلى دار عرسها، وتبدأ مأساة فض بكارة العروس؛ حيث تقوم الداية بالمهمة باستخدام إصبعها الملفوف بالمنديل، تساعدها سيدتان تمسكان بالعروس بشدة، .. وبعد فض البكارة بتلك الوحشية، يؤخذ المنديل المستخدم وبه آثار الدماء، ويطوف به أهل العروس القرية معلنين عن شرف البنت الذى لم يمس؛ وقد يتزيد البعض فى ذلك الأمر فيعدون منديلين ملطخين بالدماء أحدهما يطوف به الرجال شوارع القرية، وآخر تطوف به النساء وهن يرددن الغنوة :

« يا أبو الجدايل يا قصب

.. عندنا فرح واتنصب

.. خد المنديل بدمها

.. ونزل يفرج عمها

قولوا لأبوها إن كان جعان يتعشى

يركب حصانه وفى البلد يتمشى

.. قولوا لأبوها الدم عبى الفرشة (ملأ الفراش)

.. قولوا لأبوها إن كان تعبان يرتاح

.. قفل متربس وجاله المفتاح» .

 

         والمنديل الثانى يحمله رجال العائلة على أطراف النبابيت فى خطوات أقرب إلى الهرولة، ويتقدمهم بعض حملة مشاعل النار على الشماريخ، وهم يتغنون بالأغنية :

« يا برسيم على أول حشة

جيت أحشه لقيته لسه»

 

    .. كانت الغنوة ترمز مجازاُ إلى البكارة، والشرف المصان الذى لم يمس .

 

    وبعد فض بكارة العروس تبدأ مراسم عشاء العروسين بـ «حلة الاتفاق»، وتنتهى «ليلة الدخلة» بمراسم «الصباحية» .. كان يستوقفنى كم الدماء التى تلطخ المنديل الذى يتراوح طوله من ثلاثة إلى خمسة أمتار .. وهو ما دفعنى إلى مناقشة الأمر مع الأستاذ الدكتور عبد الرحمن نور الدين رئيس تحرير مجلة «طبيبك الخاص» الأسبق، الذى أكد لى أن هذا مستحيل من الناحية الطبية .. إلا فى حال النزيف، وتلك كارثة طبية، وأضاف ضاحكاً: «أن دماء المنديل على تلك الصورة ما هى إلا دم دجاجة أو أرنب مذبوح!!» .

 

     .. واستشعرت أننا أمام حالة خداع تجيدها الدايات المحترفات، ويعتبرنها سراً من أسرار المهنة التى ورثنها عن الأمهات والجدات، ولا يبحن بها للغرباء!!

 

        وبقيت الرغبة فى المعرفة قائمة، وتمثل لى صداعاً مزمناً لا يبارحنى، ولا أستطيع نسيانه؛ ففى لقاء صحفى مع إحدى الدايات من كبار السن التى تقاعدت بعد أن كف بصرها .. لخصت لي السيدة الحكاية فى عبارة واحدة .. قالت:

   ـ «شوف يا ابنى هما كلمتين: إنهم يريدون شرفاً زائفاً، ونحن نعطيهم ما يريدون، ونأخذ منهم ما نريد من المال والعطايا .».

 

     .. فالكثيرات من البنات الريفيات يفقدن عذريتهن بين جدران الزرائب ووسط مزروعات الحقول .. وكانت أم البنت «تكفى على الخبر ماجور» .. بمعنى «كتمان السر»، والبركة فى الداية التى تكون قد أعدت كل شئ لزوم الستر .. كما أن كثيرا من شباب الريف قد مارس شذوذ الاتصال الجنسى بالحيوان قبل الزواج؛ وهو ما يجعل الممارسة الجنسية لديه تتسم بحالة من العنف لا تطيقها المرأة، ولا تتفق مع طبيعتها، لذا فإن وجود الداية فى تلك الليلة ضرورة .

 

     والاتصال الجنسى بالحيوان حالة من الاضطراب النفسي يطلق عليها علمياً اسم «Zoo Phlia»، وقد قيدت سجلات بعض المحاكم أوراق دعوى خلع رفعتها هـ . ج .، ضد زوجها خالد (...) الذى يفضل العلاقة الحميمة مع حمارة على ممارسة الحب معها !!

 

   فى السنوات الأخيرة سمعت الكثير عن عمليات «اصطناع البكارة» و«غشاء البكارة الصيني» و«غشاء البكارة البلدى» بعد أن ابتلى مجتمعنا بوباء الزواج العرفى، والعلاقات غير المشروعة خارج إطار الزواج، وأصبحت مسألة «اصطناع البكارة» ساحة للعراك الدينى عبر سجال الفتاوى بين من أحل وأباح من منطلقات الستر، وبين من حرم وجرم من منطلقات الغش، وما يترتب عليه من بطلان العقد، وفساد رابطة الزواج.

 

     .. ولم يكن يعنينى فى قليل أو كثير ذلك العراك الدينى أو السجال الفقهى أو الجدل الأخلاقى؛ لكونها ليست أكثر من محاولات لرتق نسيج بالٍ اتسع خرقه على الراتق، لكن ما كان يهمنى أننا أصبحنا مجتمعا فى أزمة حقيقية .. أزمة جعلته بين شقى رحى غرائزه وعقائده!!

 

***

   .. أزمة جعلت أفراحنا بطعم الحزن، ولون الدم، ونتن الخداع!!

 

الـــــــزار :

ـــــــــــ

 

     كنت أرى النساء الريفيات ذاهبات إلى حيث تجرى مراسم الزار في ضريح «سيدى حكيم» في قرية كفر الخضرة المجاورة لقريتي تلوانة .. كانت النساء نظيفات على غير العادة تفوح منهن رائحة العطور الرخيصة، وأشهرها:«رائحة القسيس»،  وبفضول طفل صغير يحاول اكتشاف العوالم المحيطة به .. تسللت إلى هناك، ومن ثغره في أحد النوافذ المغلقة رأيت كل شئ، وسمعت بعضاً منه ولم أفهم الكثير من الهمهمة.. سمعت«الكودية» تغير رتم الإيقاع مع كل «سيد» من «أسياد الجن»، وتغير رائحة البخور، رأيت النساء يتراقصن في حالة هستيريا حتى بسقطن مغشيات عليهن لتكشف ملابسهن عن سراويلهن من الباتستا الملونة والمزخرفة بكرانيش الدانيلا، ورأيت كيف لا يهتم أحد في ذلك الجو المحموم بستر العورات، ورأيت ذبح الديوك لتلطيخ بعضهن بالدماء لإرضاء «الأسياد» .

 

لماذا مقام

«سيدي حكيم»؟!:

ـــــــــــــــــــــــ

 

      في «الثقافةالشعبية» ينسب إلى كافة إلى الأولياء بمختلف تدريجاتهم بعض الكرامات، فبعضهم تدور كرامته حول بعض التخصصات العلاجية : عيون، أطفال، عقم، نفسية، جلدية، رد الأطفال التأئهين إلى أهليهم مثل سيدي العدوي، وفك قيود الأسري مثل سيدي أحمد البدوي بينما بعض الكرامات تدور حول بعض المشكلات الأسرية والاجتماعية، كان تخصص سيدي حكيم هو معالجة المس الشيطاني .

 

مراسم الزار :

ـــــــــــــــــــــ

   

    .. تجلس كودية الزار على مقعد في وسط الحلقة .. «الكودية» إمرأة سوداء لا يظهر من سواد وجهها سوى عينيها وأسنانها تبدأ بالقول :

 

«أول ما نبدي القول

نصلي على النبي

عليه الصلاة والسلام

نبي عربي سيد ولد أدم يا عاشقين النبي

يا عاشقين النبي ع النبي صلوا

أن بامدح نبي زين عدد ما في الحرم صلوا»

 

     ويرد أفرد الفرقة المساعدين للكودية :

 

اللهم صلي وسلم عليك يا نبى الله

     

    وتسنمر في استكمال الإنشاد :

 

« يا ملك الجن الأحمر

أقسمت عليك بالقسم السليماني

أن تحضروا وتشرفونا

بالعفو والسماح يا أسيادنا يا كرام

النية خير .. لاتؤذونا ولا نؤذيكم»

 

     ومع الإيقاع الرتيب تبدأ في الإنشاد :

 

«يا سيدة .. يا سيدة

يا أم الشموع القايدة

يا أخت  الحسن

 وأخت الحسين

يا بنت أشرف والدة»

 

     تبدأ الإيقاعات رتيبة هادئة، ورقص النساء بطيء ، ثم تتسارع دقات الطبول وتعلو ويبدأ الإنشاد :

 

«سيد يا بدوي

يا ابو بيرق نبوي

إن عشت لازورك

واتملى بنورك

سيد يا بدوي»

 

       تتعالى الأصوات وتصبح غير مفهومة وتصاب النساء بحالة من الهستيريا تختلط فيها أهازيج «أغاني التخمير» بالصراخ والزغاريد برائحة البخور !!

 

     كان يقف راجل أسود بجوار الكودية يرتدي حزام تتدلى منه قرون الماعز وحوافرها ويهتز فتحدث تلك الأشياء صوتاً يختلط بالموسيقي (الماعز إشارة إلى الشيطان)، على الجانب الأخر تقف العروسة مساعدة الكودية ترتدي حزاماً تتدلى منه الشخاليل، وتدق بالصاجات لتشكل مع صوت الشخاليل لحناً !!

   

أغاني «التخمير» :

ــــــــــــــــــــــــــــ

 

      وهى الأغاني التي تغنى في «جلسات الأرواح»، وهي المعروفة بجلسات «تحضير الأسياد والجن»، و«الزار» عند العامة؛ فيطلقون على الجني والعفريت «سيدي»، ولا يذكرون اسمه إلا مسبوقًا ﺑـ «الله يجعلهم راضيين علينا!» ومن «أهازيج التخمير» :

 

ياللي ناديتوني أديني جيت

وسر تربة نبي طيبة والحرم والبيت

تخلي حسك معانا إن رحت ولَّا جيت

•••

يا عروسة الزار يا عوام

يا بنت الزار يا عوام

قدامه حمرا وعيان

ست البحور يا عوامة

تمشي ع الأرض بلا علام

وتعوم في الميه بلا علام

يا بنت الزار يا عوام

تمشي على الميه بلا علام

يا بنت الزار غالية المقام يا عوام

يا عروسة الزار يا عوام

•••

ناديتهم نادوني

عدوا البحور وجوني

•••

الحلوة جاية جاية بتلعب ع الميه

يا ما هم حلوين وجونا

•••

سلاسل الموعظة مرجانها الإخلاص

معنا عابد في الجبل سموه رجال النبي حرامي

يسرق بضايع الناس

صبح مجالس رجال النبي ويخدمو جنلن ناس

دخل العريس ع العروسة استعجبُمْ يا ناس

حملت العروسة من العريس استعجبم يا ناس

لقوا العروسة الجلالة والعريس كلمة «الإخلاص»

 

•••

 

القول على ناس حرامية وناس نشالين

يلألام في الضبب والناس غفلانين

إن كنت ولد فهلوي وتعرف الألف م الميم

هاتي خبر دول اللي حارسهم مين

حارسهم الخضر وإلياس ومرسي أبو العباس

وف جنة الخلد قاسولهم الرجال فدادين

 

•••

ياجي غاوي الطريق وإيش عليك م الناس

عمك شديد العزايم يعرفوه الناس» *(2)

 

«فكرة الزار» :

ـــــــــــــــــــــــ

 

      قامت فكرة الزار على خرافة «المؤاخاة» بين إنسية وجني أو جنية وإنسي؛ ليبدأ الجني العاشق أو الجنية العاشقة في مضايقة المحبوب حتى يلين وينفذ طلباته !!

 

     ولإعلان القبول والرضا يتم عمل «الزار» بمعنى الزيارة لتهيئة الأجواء لزيارة الجن العاشق لمحبوبتة الإنسية، ويرضى عنها، ويكف عن مضايقتها !! أما إذا الخلاف صعباً ومحتدما ـ حسب ما تقرره الكودية ـ فيتم عمل نوع آخر من الزار يسمى «صُلحة» بمعنى إتمام التصالح بين الجنى وضحيته الإنسية وتجري فيه نحر الذباح، وتلطيخ المصابة بدمائها، وترديد أغاني استرضاء «الأسياد»!! وتنشد الكودية أغاني تنطوي على «المحايلة» أحيانا و«الوعيد» أحيانا أخري فإن عصى الجني ضربوه بالعصى مثل :

 

«طنوش

طنوش قالك طناش وما تعصجلناش

تعملي فيها عنترة ده شئ ما يخصناش

بس البعيد هيتعب وهتبق حالته أصعب

خليك من حسب أشعب طنش تأكل ببلاش

تنح قفاك وفقم وازرع وشك قوالح

ما طحتش المصالح ما بين خاصم وصالح

ده مفيش خصومة دايمة تفضل ع الوش عايمة

ولا القيامة قايمة إلا في لحظة طناش

غفير وخلته داية لو مسكوه عصايا

ولبسوه عباية وحطوه على المرايا

هيشوف أتخن أمير ملعون أبو الفقير

متسأل على الأصول يقول ما شفتهاش

يا بنت ماما يا أم الغلام

يا أم الغلام والعفو منك

يا أم الغلام واشفي عيانك

يا أم الغلام والطبل طبلك

يا أم الغلام والبح دبحك

يا أم الغلام والكل عندك

يا أم الغلام والليلة ليلتك

يا أم الغلام»*(3)

 

    المصابين بأمراض عشق المخاواة — أو الإنسي بالجِنِّيَّة — يفرطون في الميل إلى حفظ الأغاني والمأثورات والأهازيج الدينية التي تُعرف ﺑ «أغاني التخمير»، ويلاحظ الاشتقاق اللغوي وعلاقته بالخمر وأنهم عادة ما يقيمون فرادى أو عزاب في أماكن مظلمة مع ملاحظة أن «المخاواة» ليست بقاصرة تمامًا على الشخص الأعزب، بل هي تلاحق أيضًا المتزوجين، وعادة ما تتسبب في الطلاق والانفصال، أو في نشوب ذلك الصراع بين كلا الجِنِّيَّة والإنسية، أو الزوجة المخاوية ساكنة تحت الأرض، أو أعماق البحار، وضرتها البشرية الفعلية الواقعية في الطبيعة، وفي ملف المحاكم الشرعية آلاف الحالات التي يرد فيها ذكر الزوجة الجِنِّية المخوية باسمها والأعراض التي تبدو عليها .

    

الأداء الحركي

في طقس الزار :

ـــــــــــــــــــــــــ

 

      الأداء الحركي مثل اللغة التي تعد نظاما رمزيا قائما على قوانين راسخة، وبالتالي يمكن النظر للطقوس بوصفها نظاماً رمزياً من الأفعال، ويمكن فهم العلاقة بين الطقوس واللغة، ويمكن التعامل مع الطقوس بوصفها وسيلة تعبير غير ناطقة تقوم على أساس رمزى من الأساطير والاعتقاد الذي يتخذ شكل الفنون !!

 

     كان جلين ويلسون قد أشار إلى أن الطقوس هي مسقط رأس  لكثير من فنون الأداء؛ فالطقس يتميز بالتكرار النمطي المغلف لنشاط ما استجلاباً لأثر سحري، ولا يتكرر النمط السلوكي فقط نتيجة للعادة، ولكن أيضا لأنه اكتسب دلالة باطنية عميقة، وقد تكون جذور هذا النشاط في الماضي عشوائية أو من قبيل المصادفة أو قد تم نسيانها لكنها أصبحت الأن تغلف بعد اجتماعي وديني وأشار ويلسون إلى عدة وسائل للطقوس أبرزها :

 

   1ـ توسيع حدود الوعي من خلال الدخول في حالات شبة الغيبوبة أو حالات شبة انتشائية، ومن بين مكونات الاحتفالات الطقسية هناك مكونات معينة من ترانيم وغناء، وتشكل خطوات خاصة وأقنعة وأزياء شقت طريقها، وأسهمت في الأداء المسرحي.

 

   2 ـ يجمع العلماء على وجود علاقة وثيقة بين الطقوس والأساطير، وتتشابة الطقوس مع الأسطورة من حيث المحتويات إذ أنها تحتوي على الإيقاع والإشارة والرمز، وكانت جين هاريسون قد ربطت نشأة الفن الدرامي بالشعائر والطقوس مؤكدة على أن الطقوس مسرحة للأسطورة .*(4)

 

     غير أن جلين ويلسون قد وضع أيدينا على حقيقة التحسن في حالة «مريضة الزار» بعد أداء طقوسه، وهي أسباب علمية بحته لا علاقة لها بالخرافة أو الأساطير أو عالم الجن أو المس الشيطاني، وقد لخصها في أمرين :

 

      أولاً : تأثير الموسيقى الصاخبة قد يؤدي إلى أن الدوائر العصبية تعمل على ترديد أو ترجيع أصداء الصوت بطريقة تجعلها قادرة على انتاج التغيرات في كيمياء المخ أو إحداث حالات كهربائية مماثلة للتشنجات الصرعية، وتقوم هذه التغيرات بدورها في تحرير وإطلاق السلوك الاستثنائي، أو غير المألوف دينياً كان أو جنسياً المتسم بالتطرف أو العنف، وهكذا تستخدم الموسيقي في علاقتها سواء بالطقوس الدينية أو بالنعظات الجنسية .*(5)

 

 

       ثانياً : في الزار يتم قرع الطبول بشكل منتظم بالغ القوة كما يحدث خلال رقص القبائل والاستعرضات العسكرية والأغاني الدينية وموسيقى مراهقي الروك بما يحدث حالة شبيهة بالغيبوبة أو الغشية، وذلك لأن مدخلاً شديد الحساسية وحركة عضلية قوية يشرعان في السيطرة على االإيقاعات الكهربية للمخ، وينتج عن هذا فقدان الإرادة ورفع مستوى القابلية لإيحاء، وأحيانا حالة من الانتشاء كما أن التحريك المستمر للجزء الأسفل من الجسم، والذي يصاحب مثل هذا الرقص المستمر (خاصة في منطقة الحوض) من الممكن أن يرفع مستوى الإثارة الجنسية حتى في ظل غياب التلامس الجسمي باعتبارها العنصر الشبية بحركات الاستمناء !!*(6)

 

      وهذا التفسير يلقى قبولاً علمياً خاصة أن معظم النساء اللائي يلجأن إلى العلاج بـ «الزار» من النساء الفقيرات والمقموعات بالثقافة الذكورية والمقهورات إجتماعياً والمهمشات في حياتهن اللاتي يعانين فيها من الحرمان العاطفي وعدم الإشباع الجنسي .   

 

      ترى د. أمال النور حامد أن : السلوك الهستيري في طقوس الزار ينعكس في الخوف من الأرواح، الذى يعتري المريضة التى تصاب بحالة من الهياج والانفعال، يصل بها إلى درجة الغيبوبة،  ويمكن تفسير اللجوء للسلوك الهستيري ميكانيزماً دفاعياً، وهو ما يرى فيه البعض نتاجاً لوجود عدة استجابات تنزع إلى تعويض، أو نتاجاً لصراع، ويتم استخدام الميكانيزم الدفاعي لأجل التوافق والتكيف؛ فمن المعروف أن الهستيريا تمارس تأثيراً على الحواس والحساسية الحشوية وعلى الجهاز الحركي، وتؤدي أحياناً إلى تفكك في نظام الشخصية ، ويذهب بعض العلماء إلى تفسير الأرواح تفسيراً علمياً، حيث يرجعونه إلى انشطارات ذهنية جزئية (تعدد شخصيات، وخيالات، وأوهام، وتصورات ذهنية مصاحبة) تسيطر على ذهن المريض المرهق جسدياً بفعل الطقوس، وتؤدي به إلى نوع من الهلوسة، فالمريض المنهك الغارق في الصخب الطقوسي تعتريه أوهام من صنع العقل ذاته، تمثل مخرجاً لمحتويات اللا شعور، وتصور الهلوسة حاجات المريض النفسية ودوافعه ورغباته، وتحدث في اللحظات التى يضعف فيها الانتباه، وقد صور بعض العلماء الهلوسة والتوهم بأنها مرحلة متصلة بالخيال (وإن كانت مستقلة بذاتها) وتعد وسيلة للعقل البشري!!، ولا شك أن هناك بعض الناس لديهم ملكة فياضة من التوهم؛ حتى أصبحت شخصياتهم منفصلة عن الواقع، وهذا موجود بالفعل بين مختلي الأعصاب والهستيريين وغيرهم من الذين يمارسون الطقوس الروحية .*(7)

 

    يمكننا تفسير السلوك الصادر في هذه الممارسات بأنه نابع عن دوافع وحاجات نفسية واجتماعية، أو تفسيره وفقاً لمدرسة التحليل النفسي بـ «مبدأ اللذة والألم»، بينما نرى البعض يقولون بأن الكائن الحي يميل إلى الاحتفاظ بحالة من التوازن في علاقته بالبيئة المادية والاجتماعية، فإذا اختل التوازن بحالة من التوتر سارع الفرد بنوع من السلوك الظاهر لاستعادة التوازن (مثال السلوك الهستيري واستدرار العطف).

 

     ومن النتائج التى توصلت إليها د. أمال النور حامد في أطروحة سبق أن تقدمت بها لنيل الماجستير أن الرقص والانفعال في الحركات التعبيرية وسيلتبن دفاعيتين (أو توافق هروبي)، ويتم ذلك من خلال عملية التفريغ عبر الحركات والانفعال، اللذين يمكن عدهما بمثابة تطهير لنفسية المريضة، وأن الانفعال الناتج عن ممارسة الطقوس يشتمل على جانب معرفي، ذلك أن التغيرات الفسيولوجية لا تتسبب وحدها في الانفعال؛ فإنه يحتاج إلى تقييم معرفي لوضعية المثير.

 

   تبدأ المعرفة بالإدراك والتقييم ونتيجة هذا التقييم يحدث الانفعال، ويكون التعبير في أنماط الانفعال عبر استجابات فسيولوجية، تتبع الميل الذى تشعر به المريضة الممارسة للطقوس، ويمثل هذا الجانب الإدراكى والمعرفي والقييمى لدى المريضة الممارسة؛ لاعتقادها في إمكانية استدراج الروح التى تلبستها سعياً لإرضائها، وعقد أواصر السلام والوئام معها، ومن ثم فإن هذه الطقوس تمثل بالنسبة للمريضة استراتيجية رئيسة لتأمين ذاتها، ودرءاً للخطر الذى يتهددها وإبعاداً لخوفها الدائم.

 

     ويؤكد جلين ويلسون على اعتراف علماء الأنثربولوجيا بأن الطقوس Rituals الاجتماعية هي بمثابة «مسقط الرأس» لعديد من جوانب الأداء، فالطقس يتكون من التكرار النمطي المغلق لنشاط ما استجلابا لأثر سحري، ولا يتكرر النمط السلوكي فقط نتيجة للعادة، ولكن أيضا لأنه اكتسب دلالة باطنية عميقة .*(8)

 

    وترى د. أمال النور حامد أن الممارسات التعبيرية تحتوي أيضاً على علائم النقلة والطرح بمعاناة المريضة التى تتقبلها الشيخة المعالجة، ويعني هذا المصطلح «العملية التى تتجسد بواسطتها الرغبات اللا واعية من خلال انصبابها على بعض الموضوعات، فمن إطار نمط من العلاقة التى تقوم مع هذه الموضوعات وأبرزها العلاقة التحليلية»، وقد دعمت هذه الفرضية اليزابيث موسون بقولها:

 

    «أما الطقوس الممارسة في علاجات المس الشيطاني مثل الزار، فنلاحظ أن لهذه العلاجات مفعولاً تطهيريا،ً وكذلك نلاحظ علائم النقلة التي تحدث .. خلاصة القول فإن المريضة قد تستعيد توازنها، وذلك من خلال إسقاطها للتشنجات أثناء رقصها الهستيري الطابع في الأجواء الاحتفالية ذات السياق الرمزي.

 

 

العلاج بالموسيقي :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

   ترى د. نهى الصادق أحمد حسين في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراة أن «الزار» أحد أشكال العلاج النفسي بالموسيقى، والتي خلصت فيها إلا أن يرنامج العلاج بالموسيقى له تأثيراته الإيجابية على المرضى النفسيين بشكل عام ومرضى القلق والاكتئاب بصورة خاصة؛ فالمزاج العام للمرضي في كل الجلسات التي أجرتها كان عالياً بالرغم من قصر زمن الجلسة؛ فقد أشار أغلبية المشاركين في الجلسات الفردية للعلاج بالموسيقى بأنها كانت مفيدة لأبعد مدي.*(9)

 

الصوفية :

ـــــــــــــــــــــ

 

     فى مقامات الأولياء يجتمع الرجال بعد صلاة العشاء؛ فـ «الولي» في الفكر الصوفي هو القطب والغوث والمرجع والمربي، ولا تنقطع علاقته بمريديه بالموت فهم دائما في رعايته ويتعدهم بالتربية عن طريق الرؤى المنامية والإلهامات والإشارات حسب مكانة كل منهم من «سيدنا الولي»، وتمثل  معتقدات الصوفية ملمح من ملامح «التدين الطقوسى» أو «التدين الهروبي»، وهو التدين الذي ليس له أى مردود في سلوك وأخلاقهم، ويبدأ بـ «المسجد» وينتهي بـ «الضريح» .

 

    «الطرق الصوفية» هي مدرسة تقديس الأولياء وأتباعها هم «القبوريين» الذين يؤمنون بأهمية «العتبات المقدسة» ويرفعون الشعار :«من زار الأعتاب ما خاب»، ويختلقون الحكايات عن «كرامات الأولياء» ويبررون ذلك ـ حسب قولهم ـ أن الله سيحانه وتعالى منح المعجزات للأنبياء عليهم السلام، واختص الأولياء رضوان الله عليهم بالكرامات، ومنح الكرامة ويقولون عن الأولياء :

 

وكلهم من رسول الله ملتمس *** غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم

 

     الطرق الصوفية في مصر من أقوى جماعات الضغط في المجتمع المصري؛ .. ففي مصر ٦٧ طريقة صوفية معتمدة إضافة إلى ٨ طرق غير مسجلة، وعدد الموالد السنوية في مصر ٢٨٥٠ مولد يحضرها نصف سكان مصرتقريبا، والطرق الصوفية تلقى دعماً من الدولة بتخصيص حصة من أموال صناديق النذور لها لكون الصوفيون لا يحبون السياسة ولا يميلون للإشتغال بها، ويؤمنون بأن ولاية الحاكم من قدر الله؛ فلا يجوز  الخروج عليه!!

 

     بعد قراءة ورد الصلاة على أشرف الخلق من كتاب : «دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار» من تأليف أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي المتوفى سنة 870 هـ، وأبيات من نهج البردة يقفون فى شكل حلقة يتمايلون مثل رؤوس النخيل فى اليوم العاصف شديد الريح مرددين أسماء الله فى ثلاث طبقات تبدأ بطبقة: «لا إله إلا الله» حيث يقول الحادى: «لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله»؛ فيردد الذاكرون: «لا إله إلا الله»، وتتوسطها طبقة «الله» حيث يقول الحادى :«الله علم على الذات العلية»؛ فيردد الذاكرون: «الله»، تتبعها طبقة «هو» حيث يقول الحادى: «هو، حاضر لا يغيب»؛ فيردد الذاكرون: «هو»،  وفى الختام طبقة «حى».. حيث يقول الحادى: «حى، دائم الحياة» فيردد الذاكرون:«حى».

 

     كان الرجال إذا غنّاهم الحادى يسمعون منه التذكار، فتعلو همتهم فى الأذكار، فتحلق أرواحهم فى دنيا الوجد الصوفى، وتطيب نفوسهم بالقرب من بوارق الإخلاص؛ فترى أن أحدهم كالغائب على حال الحاضر، وكالحاضر على حال الغائب .. وكان بعض الصغار يقلد الكبار بأسلوب أقرب طرائق للقرود والنسانيس، وكان آخرون يحاولون أن يرتدوا ثوب الرجال قبل موعده.

  

  .. كان الرجال يبدأون فى تلاوة بعض صيغ الصلوات على خير البرية، والتغنى بالإنشاد فى فضله صلى الله عليه وسلم بالأبيات:

ما سامنى الدهر ضيماً واستجرت به *** إلا ونلت جــــواراً منه لم يُضــَم

مــولاى صـلى وسـلم دائماً أبدا      *** عــلى حبيبك خــير الخــلق كلـهم

ولا التمست غنى الدارين من يده *** إلا اسـتلمت الندى من خــير مستلم

 مــولاى صـلى وســلم دائماً أبدا    *** عـلى حـبيبك خــير الخـــلق كلـهم

 

      ثم ينتقلون إلى أبيات التوسل بحضرته الشريفة :

 

يا أكرم الخلق ما لى من ألوذ به *** سواك عند حلول الحادث العــمم

مــولاى صـلى وسـلم دائماً أبدا *** عــلى حبيبك خــير الخــلق كلـهم

ولن يضيق رسول الله جاهك بى *** إذا الكـــريم تحــــلى باسم منتقم

مــولاى صـلى وسـلم دائماً أبدا *** عــلى حبيبك خــير الخــلق كلـهم

فإن من جـودك الدنيا وضـرتها *** ومن علومك عـلم اللــوح والقـلم

مــولاى صـلى وسـلم دائماً أبدا *** عــلى حبيبك خــير الخــلق كلـهم

 

    .. وما إن يصل الحادى والذاكرون إلى الدعاء:

 

    «يارب سامح لنا كلنا من غاب منا، ومن قد حضر، وبالوالدين فكن راحماً، والطف بنا فى القضاء والقدر» .

 

     حتى تدخل النساء بقصعات وطسوت الأرز باللبن، ويبدأ تناول طعام «الحضرة» الذى كان يطلق عليه اسم «النفحة» ..

           .. لكنى لم أستطع حتى الآن التوصل إلى حل اللغز:

 

     لماذا يربط الناس بين صفة الولاية، وأناس من ذى الاحتياجات الخاصة؟!! .. ناظلة العمياء، وأمينة البلهاء، والشيخ سيد التربى أحد مجازيب الشوارع، والذى أشاع بعض الناس أن نعشه قد طار فوق رؤوس المشيعين، وأنه لم يتوقف عن الطيران حتى استعطفه بعض المقربين منه لأن الرجال قد تعبوا من ملاحقة النعش .

 

العدودة

.. «فن الحزن» الجميل:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

        .. الجنائز في «الثقافة الشعبية» لا تقل صخباً وضجيجا عن الأفراح، وتعكس حالة من الفقر الثقافى والتدنى الاجتماعى والانحطاط الحضارى.. وتبدأ مراسم الجنائز حسب العرف الريفى من ساعة العلم بحدوث الوفاة؛ فتبدأ النسوة اللائى تلقين «الصدمة الأولى» بالعويل و«الندب»، والندب هو لطم الخـدود، وشق الملابس، والضرب بشدة على الصدر، وتتزيد بعض النسوة فتهيل التراب على رأسها، وتلطخ وجهها بالطين أو النيلة الزرقاء أو زهرة الغسيل تعبيرا عن عمق الفاجعة .

 

     تصاحب عملية الندب حالة من الغنـــاء البكائى الذى يطلق عليه: «العدودة» والاهتزاز العنيف فى حركة هيستيرية أقرب إلى رقص الزار، وتشبه إلى حد كبير حركة الطائر الذبيح، لكنها فى كل الأحوال تمثل شكلاً من أشكال الفنون العفوية لتفريغ طاقة الحزن، والتى يتم التعبير عنه بالكلمة والحركة وغيرها من المؤثرات الأخرى مثل إهالة التراب على الرأس، وتلطيخ الوجه بالطين وغيرها من الأفعال التى تكشف عن لوعة النفس، وانكسار القلب اللذان خلفتهما حالة فقد عزيز .

 

    والعدودة جزء من الموروث الشعبى التشافهى المجهول المؤلف والمتوارث؛ لذا فهى تتسم بالمرونة، والميوعة؛ فتخضع للحذف والإضافة حسب مقتضى الحال شرط الاحتفاظ بالوزن، والإمساك بالقافية التى غالباً ما تكون بالتنوين بالكسر .. فضلاً عن كونها إبداعاً نسائياً خالصاً تخصصت فيه النساء لأنهن أكثر إحساساً باللوعة، وأوجاع الفقد من الرجال.

 

     والعدودة قريبة الشبه بالسيمفونية، فكلاهما يتكون من عدة أجزاء أو حركات؛ فالسيمفونية أربع حركات، والعدودة ثلاث حركات، الحركة الأولى فى العدودة: هى مرحلة «الاستهلال»، وتبدأ هادئة حيث تبدأ المعددة القائد (الشلاية) فى وصف الحال بأسلوب رصين، وتبيان حال المتوفى (رجل ـ امرأة ـ طفل ـ شاب ـ فتاة ـ كهل ـ عجوز)، ثم تبدأ المرحلة الثانية، وهى «الشبشبة»، وتتسم بالسرعة وعلو الصوت ويزداد الانفعال ويزداد الهياج العصبى، وتندلع لواعج النفس لتعبر عن حرقة القلب ولوعة الفراق، وشيئاً فشيئاً تنتقل المعددة القائد (الشلاية) إلى المرحلة الثالثة: وهى «التطويحة» وتتسم تلك المرحلة بمد حروف الكلمات تمهيداً للانتهاء.

 

     .. ولأن المصائب تجمع المصابين؛ فسرعان ما ينضم للنسوة من أهل الميت نساء القرية المكلومات من الحزانى والثكالى والأيامى والأرامل فى حلبة «الندب»، ويشكلن دوائر تلتف حول بعضها فى تداخل غير مدروس، وكأنها لوحة لتابلوه من الغناء البكائى والرقص الحزين!!

 

     وتعد أكثر أنماط العديد ذيوعاً تلك التى ترددها المعددات المحترفات وتنحصر فى ثلاثة أنماط :

 

1 ـ عدودة تخاطب الميت، وتبين حال أهله من بعده.

2 ـ عدودة تسدى النصح للأرملة التى مات زوجها حتى تتخطى فاجعتها.

3 ـ عدودة تصف حال اليتيم الذى فقد ملاذ الأب وعزه.

 

     .. ومن نمط العدودة التى تخاطب الميت وتصف تأثير حال فقده :

 

«القبر قال له انزل وانا اتلقاك

آنستنى وقَطعت باللى وراك

القبر قال له يا مرحبا يا زين

انت صغير، وانا ضلامى شين

القبر قال له يا مرحبا يا حُرْ

انت صغير وانا ضلامى مُرْ»

 

 

    والنمط الثانى من العدودة يتمثل فى إسداء النصح للأرملة التى مات عنها زوجها حتى تعبر أوجاعها، وتصل بأولادها إلى بر الأمان:

 

« يا صغيرة  يا أم تُلِّيه

بدرى عليكى  م الهُجُوليه 

يا صغيره يا عاقده الأكمام

بدرى عليكى من شبكة الأيتام

ربِّى اليتامى ووسـعى كمامك

وخدى الحديت والطعن ف جناِبك

واتجَّلدى لما يكـبروا اولادك»

 

     والنمط الثالث من العدودة ذلك الذى يصف حال اليتيم :

 

«والله اليتامى وَردهم دبلان

وقعادهم وسط الصغار بيبان

والله اليتامى وردهم مــايل 

وقعادهم وسط العيال باين

والله اليتامى وردهم  قطفـــوه

وقعادهم وسط الصغار عِرفُوه

والله اليتامى وردهم مقطـــوف

وقعادهم وسط الصغار معروف»

 

       كما توجد أنماط أخرى من «العدودة» عن فقدان الكبير، ولو كان عضما فى قفة، والفراغ الذى يخلفه خلو مكانه، بما يحمله من غياب الحكمة وافتقاد المشورة الصائبة، وكذلك «العدودة» عن فقدان الأم وما يستتبعه من افتقاد الملاذ والحضن الدافئ والمحبة الصادقة، كما كانت توجد بعض أنماط «العديد» عن أحوال بعينها مثل حال المرأة المتوفاة التى لم تنجب حيث تقول المعددة القائد (الشلاية):

 

«مال الولية نعشها مايل؟!»

 

فترد عليها النساء مولولات :

 

«ملهاش ولد وسط الرجال شايل».

 

     وأيضا كان التعبير عن الضعف الإنسانى للرجال مسموحاً به؛ فالموروث الثقافى الشعبي يرسخ لمفهوم أن: «ساعة الفراق الحجر بيلين»؛ فكان من المألوف أن تجد رجلا يجهش بالبكاء، أو يجعر فى ألم بعزم الصوت!!

 

    كان الناعى يطوف شوارع القرية ليعلن عن الوفاة بصوته فيما يشبه النعى الذى تنشره الصحف معلنا ومعدداً صلات القرابة والنسب التى تربط الأحياء بالمتوفى، فإذا لم يكن للمتوفى عزوة اختتم النعى بالعبارة:«وقريب جميع عائلات القرية»، .. كنت أتعجب من ذلك؛ فالفقير والمقطوع من شجرة الذى لم يهتم أحد بأمره يوماً، والغريب الذى عاش بيننا مثل عشب الشوك فى حقل قمح يصبح قريبا لجميع عائلات القرية يوم يتغمده الله برحمته، .. وكنت أستشعر أن تلك العبارة بمثابة اعتذار غير مجدٍ لذلك المتوفى عن قسوة قلوبنا، وإهمالنا له فى حياته.

 

      وبعد دفن المتوفى، تقوم بيوت المستورين من أهل القرية بإخراج صوانى الطعام للمعزين المنتقلين من القرى المجاورة، وبعد الغداء وصلاة العصر تبدأ مراسم العزاء بتلاوة آيات القرآن الكريم فى دور العزاء الخاصة بكل مجموعة من العائلات التى تربطها وشائج القربى أو علاقة الجيرة أو الشراكة .

 

     بعد الانتهاء من العزاء تبدأ مرحلة الحداد التى قد تستمر لمدة سنة تُحرم فيها كل مظاهر البهجة، فالملابس سوداء، وتُحّرم الملابس الملونة، ويقتصر الطعام على البتاو والمش وقطع البصل، ويُحرّم تماماً طبخ الملوخية الخضراء، وملفوف الكرنب، والأرز باللبن، والعصيدة، والفطائر بأنواعها؛ لكونها فى «الثقافة الشعبية» أطعمة «معبرة عن الفرحة»!!

 

      الفصل الخامس :

ـــــــــــــــــــــــــــ

العــلوم الزائفـــــــــــــــــــة

وتضليل الجماهير

 

 

     منذ منتصف القرن التاسع عشر تزايد الاهتمام بدراسة العلوم التي تُعنى بالعمليات النفسية وعلاقتها بالحياة الاجتماعية مثل : «علم النفس المقارن»، و«علم نفس الجماعة»، و«علم النفس الاجتماعي»، و«علم نفس الأجناس»، و«علم نفس الجماهير»، و«علم نفس الشعوب»، و«علم نفس الطوائف»،  و«علم الأنثربولوجيا الثقافية»، كانت الأمال كبيرة، ومنعقدة على تلك العلوم في أن تحل لنا من استشكل علينا، وكان عصياً على الفهم من حيث تركيب الشعوب، وفهم ثقافتها وفهم السياقات الاجتماعية التي تكتسب فيها اللغة وتستخدم، وأثر ذلك على سلوك الأفراد وروح الجماعات، وكيف يمكن الأخذ بها نحو الأفضل .

 

     .. وكان إصرار القائمون على تلك العلوم على إقحامها عنوة في مجال «الثقافة الشعبية» بغرض مسخ تلك الثقافة وتشويهها وإزاحتها وإحلال ثقافة بديلة مكانها، زراعة «ذاكرة كاذبة» قائمة على قيم زائفة وخادعة بغرض تحويل المواطنين إلى وحدات متشابهة كأنها خرجت من خط إنتاج واحد، وتنعدم فيما بينهم مواصفات التمايز الفردي تحت تأثير «العدوى النفسية»؛ فمنذ نهاية القرن قبل الماضي راح عدد من العلماء الأوربيون من أمثال جوستاف لوبون يركزون على عملية الإيحاء في السلوك الاجتماعي، بناء على فرضية «غريزة الرضوخ» أو «غريزة الخنوع » لدى الإنسان، وكما أن للإيحاء جوانب إيجابية فإن له جوانب سلبية، وتستهدف الجوانب السلبية لعملية الإيحاء، والتي تهدف لجعل الإيحاء أداة فعالة في يد العقل الباطن يلفظ بها بكل الوسائل عوامل الدفع الإيجابي في حياة الإنسان، ويتمسك بها بكل أسباب الهدم والتعاسة،  وقد أصدر الفسيولوجي النفسي الروسي ف . م . بيختيروف عام 1903 كتابه بعنوان: «الإيحاء ودوره في الحياة الاجتماعية» وصف فيه ظاهرة الإيحاء الجماهيري تحت تأثير «العدوى النفسية»؛ أي عند نقل المعلومة بمساعدة شتى المنظومات الرمزية، كان الإيحاء لديّه مرتبطا مباشرة بالتلاعب بالوعي بل إنه يمثل عملية «اقتحام للوعي» !!

 

      لم تستطع هذه العلوم أن تزيد من علمنا شيئا أو تقدم لنا جديدا يحظى بالاهتمام، ويرجع ذلك إلى أن الذين تولوا طرح تلك العلوم كان يقفزون من الفراغ إلى الفراغ أو بمعنى أدق أن القائمين على تلك العلوم قاموا بما يشبه «قفزة الضفدعة leapfrogging» في تجاوز الموضوعات والظواهر والمعطيات إلى نتائج لم يقدموا عليها أدلة أو براهين، ولم يتبعوا مناهج علمية معتبرة؛ فلم يوجد اتفاق حقيقيي بين الباحثين بصدد الموضوع أو المنهج أو نتائج البحث فكل باحث يقطع من مجال الملاحظة العادية ما يشيد عليه قصوره من الرمال بمواد متناثرة ومتناقضة من هنا وهناك !!

 

      ويرجع السبب في ذلك أن تلك العلوم لم تجد ما تبنى عليه، فنحن نعلم تاريخياً أن علم الطبيعة نشأ بعد علم الرياضيات قائما على الكثير من نظرياته، وكذلك علم الكمياء نشأ بعد علم الطبيعة قائما على الكثير من حقائقة، وأن علم الأحياء نشأ بعد علم الكيمياء مستفيدا مما توصل إليه، وكذلك علوم الحواسب والبرمجيات مدعوما باكتشاف (0) وثنائية (1،0)، كان (0) من أعظم اكتشافات القرن العشرين بعد أن كان سبة؛ فكان مألوفأ أن ينعت أحدهم الآخر بـ (0) على سبيل التحقير وقلة القيمة، وقد ابتليت البشرية بالطفرة الهائلة في صناعة الحواسب التي تزامنت مع انتاج الفيروسات المهندسة والمصممة مختيريا، وأخرها كوفيد 19 (كورونا).

 

 

      كانت مشكلة تلك العلوم التي من المفترض كونها إنسانية أنها لم تحدد مجال البحث الخاص بكل منها تحديداً كافيا، ولم تعرف موضوع كل منها، ولم تكفل سلامة مناهجها الخاصة، ويبدو ان الباحثين فيها لم يتفقوا تماما على رأى عام يرتضونه لأنفسهم عن طبيعة دراستهم، وما تتصف به من طابع خاص، وهذا السبب وراء ما يشعر به المتلقي لتلك العلوم من الحرج والغموض والاضطراب عندما ينتقل بين هذه المواد، وقد أعرب بعض العلماء عن حسرتهم لهذا الأمر، ومن تلك العلوم :.

 

1 ـ «علم النفس السياسي»:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     .. في سنة 1879 أسس فيلهلم فونت أول معمل نفسي، وكان فونت مشتبكا مع تيارات الصراع السياسي والفكري في عصره، وأسس فونت مجلة اسماها:«دراسات فلسفية»، ثم غير اسمها إلى «دراسات نفسية»، وكانت مقالات فونت بدايه ما أطلق عليه «علم النفس السياسي»، وبمرور الأيام تم رصد تدخل السياسة في تحديد مسار علم النفس السياسي؛ فقد قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي سنة 1926، وهي اللجنة التي تحدد النظريات النفسية الأولى بالاتباع، وأيها تستحق الإدانة والتحريم، والتي أصدرت قرار بإدانة علم التربية سواء من حيث النظرية، أو من حيث التطبيق باعتباره يمثل مواقف علمية زائفة ومعادية للماركسية *(1)

    كانت العلاقة بين العلوم الإنسانية عامة ـ ومن بينها علم النفس ـ علاقة تمتد إلى تاريخ العلوم جميعا، وإن كانت الأزمات والحروب بمثابة البوتقة التي جسدت دوما تلك العلاقة، وما ينبغي أن تقوم به تلك العلوم لقهر الأعداء وتدمير شعوبهم .. بمعنى أن تلك العلوم لم تستخدم في تحقيق خير الإنسانية بقدر ما اسهمت في خدمة قوي الشر والعدوان .

 

     .. بمعنى أن الحروب بما تثيره من قضايا، وما تفرضه من متطلبات، وما تخلقه من مشكلات، وبما لكل ذلك من طبيعة ملحة تترك آثاراً عميقة ليس على نفوس البشر فحسب بل على مسار المعرفة الإنسانية عامة، وفي مجال الاكتشاف والاختراع على وجه الخصوص، وليس ذلك غريبا فالحاجة أم الاختراع، وليس من حاجة ولا احتياج بأكثر ولا أقصى مما تفرضه الحروب.

 

     وقدد حدد دويجلر وفريجدا في كتابه بعنوان : «الشخصيات الوطنية والقوالب الوطنية القومية National character and national stereotypes» الأسباب العملية لتك الدراسات  على الوجه التالي :

 

1ـ امكانية استخدام هذه الدراسات في الحرب النفسية باعتبارها يمكن أن تسهم في فهم عدو فعلي أو محتمل، وبالتالي فإن تلك الدراسات في جوهرها سلاح فعلى حال كشفها ضعف ذلك العدو وأوهامه ومعاييره وقيمه ورموزه بما يسهم في هزيمته !!

 2 ـ إمكانية استخدام تلك الدراسات في مجال الدعاية الداخلية في تبرير اتجاهات العدوان، وتخفف من حالة التأثم حيال استخدام شتى الوسائل لتحقيق ذلك .

 

3 ـ فضلاً عن ذلك فإن تلك الدراسات لا تقدم لنا المعلومات عن أعدائنا فقط بل عن حلفائنا أيضا، وأنها قد تمكننا من المضي معهم بشكل أفضل، ومن التعامل معهم بكفاءة أكبر، وقد نصل إلى فهم أفضل لما يعانونه من مشاكل، وبالتالي يصبح في وسعنا مساعدتهم بكفاءة أكثر .

 

   وتؤكد مارجريت ميد (عالمة انثربولوجيا ثقافية) تلك الأهداف بقولها :

   

    «لقد استخدم هذا الاتجاه لتحقيق العديد من الأهداف السياسية : إنجاز مهام حكومية معينة، وتيسير العلاقة مع الحلفاء، وترشيد العلاقة مع جماعات الأنصار (الجواسيس) في البلدان الخاضعة لسيطرة العدو، والمساهمة في تقييم قوى الأعداء، ونواحي ضعفهم، وتقديم المشورة في إعداد الوثائق على المستوى الدولي .» .

 

       .. ولا شك أنه في البلاد التي نهضت فيها الدراسة الأنثربولوجية، واحتلت مكانا مرموقاً بين فروع العلوم الاجتماعية نجد أن الأفكار التي تخرج بها دراسات الاتصال الثقافي يمكن أن تستخدم عمليا في أوجة متعددة، وليس هذا فحسب بل أن العديد من المواقف التطبيقية تتيح لعالم الأنثربولوجيا الثقافية التحكم بشكل وثيق في بعض عوامل التغيير، كما تسمح بإجراء اختبار معملي لبعض الفروض والنظريات؛ فهذا التطبيق العملي يفيد الممارسة اليومية؛ فالأنثربولوجيا التطبيقية إذن تنطوي على توجية سلوك البشر من أجل تحقيق غايات معينة، ولعل هذا البعد هو الذي حدا ببعض علماء الأنثربولوجيا إلى رفض الأنثربولوجيا التطبيقية، أوإبداء العديد من  التحفظات على الانتفاع بنتائج هذا العلم في الأغراض العملية، ولعل لهؤلاء العلماء بعض العذر في موقفهم هذا حيث يرتبط هذا الاستخدام العملي بكثير من القضايا الأخلاقية، ويتصل بمشكلات ممارسة الباحث لمسئوليات العملية .

     

      نشر لاسويل (أحد أهم الخبراء في التلاعب بالوعي) سنة 1970 مقالاً بعنوان :«هل يجب على العلم أن يخدم السلطة السياسية ؟! أشار فيه بوضوح إلى أن:

 

    «القول بتأثر السلطة السياسية بالمعرفة العلمية، وتأثيرها فيها ليس من قبيل الاكتشاف الجديد .».*(2)

      .. ولم يكن ما أذاعه لاسويل سرا فقد أعلن الكونجرس الأمريكي عن تعليق المعونات المالية للمراكز البحثية الأمريكية ما لم تسهم تلك المراكز بأبحاثها في خدمة توجهات السياسة الأمريكية، ومن ثم كان على هذه المراكز اتخاذ مواقف تلقى قبولاً من المتلقي وفي نفس الوقت ترضي قناعات الباحث !!

  

    ورغم العلاقة بين علم النفس والسلطة السياسية فقد امتنع العلماء عن صك مصطلح «علم النفس السياسي» ربما نفوراً من الافصاح عن مواقفهم السياسية، أو ترفعاً عن إلصاق شبهة السياسة بالعلم، وتقديم مساهماتهم في التطبيقات السياسية العملية .

 

     لقد نشر هانز أيزنك كتاب بعنوان : «سيكولوجية السياسة» لم يستخدم فيه تعبير «علم النفس السياسي» على مدى صفحات الكتاب .

 

     أما بيتر بريز أستاذ علم النفس في جامعة كيب تاون بجنوب أفريقيا فقد أصدر عام ١٩٨٠ كتاباً بعنوان : «علم النفس الاجتماعي والسياسة» أعلن فيه تطبيق إحدى نظريات علم النفس الاجتماعي لتفسير العملية السياسية المتعلقة بالهوية لتفسير العملية السياسية التي عايشها في موطنه، وقد عبر في المقدمة عن رؤيته السلبية للسياسة مستعيراً عبارة الشاعر الفرنسي بول فاليري :

 

     «كانت السياسة هى فن منع البشر من التدخل فيما يعنيهم ، ثم اضيفت إليها دفع هولاء البشرإلى اتخاذ قرارات لا يفهمونها.».

 

    رصد العالم الروسي سيرجي مورزا في كتابه بعنوان : «التلاعب بالوعي» الكثير من أساليب التلاعب بالوعي، وفضح أكاذيب الألماني جلبرت فرانكة عن غرس «الكتروا دات» في المخ البشري للتحكم في تصرفاته من خلال التوجية عبر وسيط راديوي، .. وأكد مورزا أن أكاذيب فرانكة كانت بهدف التغطية على تجارب عمليات غسيل المخ القذرة التي تمت في بعض الجامعات الألمانية بتمويل أمريكي، والتي تم استخدام نتائجها في حرب فيتنام، وبالتحديد في العملية «فينكس Phoenix العنقاء»، وإذابة الفلوريدات التي يطلق عليها «مثبطات العزائم Stimulants inhibitors» .

 

2 ـ «سيكولوجية الجماهير»:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    أهتم علم «سيكولوجية الجماهير» بالنتائج التي كانت تفنن في اللعب بالمعاني الكلية دون أن تهتم بتحديدها أو ايضاحها مثل ما سافه جوستاف لوبون في كتابيه «نفسية الشعوب» و«سيكولوجية الجماهير»؛ فكل جمهور من الناحية العقلية في مستوى أقل من مستوى الأفراد الذين يتألف منهم، وعلى هذا الأساس يكون الجمهور بصفته مستوى أدنى لتحديد المستوى العام، وقد صاغ شيللر تلك الحقيقة بأسلوب أكثر لياقة وتوفيقا:

 

     «إذا أخذت كل أمرئ على حده، وجدت أنه مزود بالحكمة والذكاء على نحو غي معقول، فإذا نظرت إليه وهو في جماعة، وجدت في نفس الوقت أنك لست إلا حيال جماعة من الأغبياء!!» .

 

    وقد لاحظت السيدة «رولاند» أن :

 

     «الناس تطول آذانهم عندما يوجدون في جماعة»، وبذالك ليس لعلماء النفس  الذين يدرسون الجماهير فضل التجديد على سابقيهم .

 

3 ـ «علم النفس الاجتماعي» :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    وفي الفترة من عام ١٨٩٠ إلى ١٩٠٠ نشأ فرع جديد قائم بذاته، وهو الذي يسمى «علم النفس الاجتماعي»، ولم يكن لهذا الفرع روح العلم، فقد كان له مظهره فقط، وهو إعادة لتسمية ذلك الفرع الذي حمل مُسمى «علم نفس الجماهير»، وتنطوي معظم دراسات علم النفس الاجتماعي على نفس العيوب التي تبدو بجلاء من وجهة النظر العلمية؛ لأسباب أهمها:

 

      أن الباحثين في هذا العلم يستعيرون الظواهر من هنا وهناك تبعاً للمناسبات، وبناء على معلوماتهم الخاصة أى أنهم كانوا يستعيرونها من ملاحظاتهم اليومية، ومن التاريخ القصصي؛ وسرعان ما أدت هذه الظواهر إلى التعميم المفرط في الغلو، وإلى نتائج قياسية قاهرة شديدة الوقع في النفس، وسهلة التناول بالمعاني الكلية دون أن تهتم بتحديدها وإيضاحها .

 

      إن علم وظائف الأعضاء لم يصبح علم بمعنى الكلمة إلا منذ اليوم الذي استطاع أن يحدد فيه الظواهر العضوية، وأن يقصلها عن غيرها من الظواهر، وذلك عندما جرد الحقائق الحيوية من كتلة الأراء الوهمية  التي كانت مضمنه فيها ، كذلك لن يصبح علم النفس فردياً كان أم اجتماعياً علم لا يرقي إليه الشك إلا إذا أصبح قادراً على القيام بهذه العملية نفسها فيما يمس الظواهر النفسية .

 

    وليس ثمة ما هو أشد بداهة ووضوحاً بحسب الظاهر من تلك الصيغة التي ذكرها «بلدوين»:

 

     «إن علم النفس يدرس الفرد أما علم الاجتماع فيدرس الجماعة»،  ولكننا إذا اردنا الانتقال من النظرية إلى التطبيق فإن الصعوبة الكبرى تنحصر في تحديد : أين ينتهي الفرد، وأين يبدأ المجتمع ؟!

 

     ورغم حالة الدجل التي ترتدي ثوب «العلمي» والتخبط؛ فلا يوجد اتفاق حقيقي بصدد الموضوع أو المنهج أو نتائج البحث فكل باحث يقطع من مجال الملاحظة العادية ما يشيد عليه قصوره من الرمال بمواد متناثرة ومتناقضة من هنا وهناك!!

 

     .. وبدأ النقاش حول كيف يمكن أن نجعل من «علم النفس الاجتماعي»  «موضوعيا وعلماً» بمعنى الكلمة، بدلاً من أن نأخذ في تعداد النتائج المشكوك فيها إلى حد كبير أو قليل دون أن نلقي عليها نظرة عامة أو دون نمحصها بالنقد، ونعني بهذه «النتائج المشكوك فيها» نتائج هذا العلم الذي لم يهتد لموضوعه، ويمكن أن يصبح «علم النفس الاجتماعي» موضوعيا وعلما بمعنى الكلمة متى حددنا له نقطة البدء في الدراسة، وعينا اتجاهاته الواضحة، ووجدنا له فروضاً يمكن اتخاذها أساساً للبحث، وهى الفروض التي سوف تقاس قيمتها بصفة نهائية بناء على ما تؤدي إليه من نتائج فيما بعد، في حين أنها كانت تقاس أولاً وقبل البرهنة بمطابقتها للتجربة، ولشروط التفكير مطابقة عامة .*(3)

 

     يفترض الباحثون في هذا المجال أن «علم النفس الاجتماعي» يبدأ بظاهرة تقع تحت الملاحظة: وهي أن نتائج النشاط لدى إحدى الجماعات الإنسانية كاللغة والصناعة والفنون والأخلاق والعادات والتشريع  ـ أو لنقل بعبارة أفضل من ذلك إن المعارف العامة والرموز والعقائد وقواعد السلوك العام ـ تدخل في نطاق شعور الفرد وتعمل على تعديله،  وملاحظة مثل هذه الظاهرة تفرض علينا واجباً أول، وهو: إعداد قائمة بكل العناصر التي يحتوي عليها شعور الفرد، والتي لا تأتيه من تلقاء ذاته؛ بل عن طريق الجماعة؛ فإذا كان «علم النفس الاجتماعي» هو علم الظواهر النفسية التي تتوقف على وجود جماعة من الأفراد؛ فإن عدد كبير من الظواهر الواقعية التي يصفها الناس بأنها ظواهر فردية يرجع مجال البحث فيها حقيقة إلى «علم النفس الاجتماعي» دون أن تكون ثمة حاجة إلى وجود الجماهير والجماعات بالفعل في اللحظة التي تنشأ فيها هذه الظواهر، وحينئذ يجب أن تكون نقطة البدء في «علم نفس اجتماعي» فرضاً يوضع سلفاً، ويقبل أن تدخل عليه تعديلات بصفة دائمة ونعني به ذلك الفرض الذي سوف يحدد مدى المجال الذي يحتمل أن يمتد إليه موضوع هذا العلم ومجموعة المسائل التي يجب على علم النفس العام أن يدعها له.*(4)

 

        من البديهي أنه يأتي «علم النفس الاجتماعي» بعد علم النفس الفردي وأنه يجب أن نبدأ بالفرد لكى ننتهي بالمجتمع لا أن نبدأ بالمجتمع لكى ننتهي إلى الفرد، ولكن هذه البداهة أيضا تعوزها أدلتها، وليس هناك ما يدل على أنها بداهة خادعة، كما أننا نفتقد النظام الذي ينبغي في دراسة الظاهرة الفردية، والظاهرة الاجتماعية الفردية !!

 

     ومع هذا ظل الباحثون يضعون في حساب «علم النفس الاجتماعي» موضوعات مازالت تعد حتى الآن من مجال البحث في «علم النفس الفردي»، وهي الظواهر التي تطلق عليه الأسماء الآتية : سيكولوجية الذكاء، وسيكولوجية الإرادة، وحتى سيكولوجية الحياة الوجدانية .

 

      يرى الباحثين أن العلوم التي تعالج العقلية الإنسانية ومظاهرها وأسباب هذه المظاهر ونتائجها يمكن ترتيبها تبعاً للترتيب الآتي :

 

أولاً : علم النفس العضوي

 

تانيا : علم النفس الاجتماعي

 

ثالثاً : علم النفس الفردي

***

 

4 ـ علم «الفلكلور»:

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 

       لم يتعرض علم من العلوم الإنسانية لمشكلات الاستخدام العملي لمواده ومناهجة وأفكاره ومحنة «الانتفاع» بمادته وتطويرها في ضوء ايديولوجيات معينة بمثل ما تعرض له «علم الفلكلور»، وأبرز تلك المحن التي مر بها هذا العلم تطويره واستخدامه لتأكيد بعض قضايا الفكر القومي النازي في ألمانيا الهتلرية، وفي مصر في مرحلة ما بعد انقلاب يوليو ١٩٥٢ وبدأ تنفيد سياسة : «عسكرة المجتمع Stratocracy».

 

***

 

 

      لكن ما يجب أخذه في الاعتبار هو أن الأراء الفردية ليست مقنعة إلا في القليل النادر كذلك لا يمكن التفكير في سرد التفاصيل التاريخية التدريجية لجميع الأراء والمناقشات حول موضوع «علم النفس السياسي» و «علم النفس الاجتماعي» و «علم الفلكلور»،  كما يجب الأخذ في الاعتبار أن تلك المحاولات انتجت لنا علوم زائفة أساءت إلى شرف العلم، وامتهنت كرامة الإنسان وخدعته و«تلاعبت بعقله»، واسهمت في توجيه سلوكه على غير ما يرغب وعلى غير إرادته، وقد أنتجت تلك العلوم الزائفة أحد أشكال «الاحتيال الإجرامي المقنن» أو «التصيد الاحتيالي»، والذي أُطلق عليه على سبيل الاصطلاح مُسمى «الهندسة الاجتماعية Social Engineering».

 

«الهندسة الاجتماعية

Social Engineering»:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

      الهندسة الاجتماعية عبارة عن مجموعة من الحيل والتقنيات المستخدمة لخداع الناس، وجعلهم يقومون بعمل ما أو يفصحون عن معلومات سرية وشخصية،  قد تـُستخدم الهندسة الاجتماعية دون الاعتماد على أي تقنية والإعتماد فقط على أساليب الإحتيال للحصول على معلومات خاصة من الضحية، وقد تطورت تلك الممارسات؛ فأصبحت تتم عن طريق الهاتف أو البريد الإلكتروني مع انتحال شخصية ذي سلطة أو فتاة جميلة على مواقع التواصل الاجتماعي أو ذات عمل يسمح للمحتال أو المخترق بطرح أسئلة شخصية (على سبيل تحديث البيانات) دون إثارة الشبهات لدى الضحية.

 

     وفي ظل التحدي الذي جلبته الانترنت أصبحت الهندسة الاجتماعية Social Engineering التي يُطلق عليها «علم فن واختراق العقول» ذات شعبية كبيرة في ظل النمو الهائل والمتسارع لشبكات التواصل الاجتماعي والبريد الالكتروني والأشكال الأخري للإتصالات الكترونية، وفي مجال أمن المعلومات، وأصبح هذا المصطلح مستخدما علي الأشارة على مجموعة من الأساليب التي يستخدمها القراصنة في الحصول في الحصول على المعلومات الحساسة أو إقناع الضحايا المستهدفة ببعض الإجراءات التي تساعد على اختراق أنظمتهم والإضرار بها. 

 

    ومصطلح «الهندسة الاجتماعية» ليس له معنى متفق عليه، ولكن من أقرب التعريفات :«أنها استخدام المهاجم لحيل نفسية ليخدع ضحاياه المستهدفين ليمكنوه من الوصول إلى معلومات عنهم .

 

   وتعرَّف  أيضا بأنها : أي عمل يؤثر على الشخص لاتخاذ إجراء يكون أو لا يكون في مصلحتهم عن طريق مجموعة من التقنيات المستخدمة يقومون بعمل أو يفضون بمعلومات سرية وشخصية عنهم، وهو أمر لا يتم بدون إدراك وإلمام لطبيعة الجوانب النفسية والفسيولوجية والتكنولوجية للأشخاص الذين يتم التأثير عليهم وبالتالي التعرف على الطريقة الأنسب لتحقيق ذلك الغرض .

 

   وهي أيضا «عملية القرصنة» على الأشخاص بشكل أساسي عن طريق استخدام المهاجم للمهارات الاجتماعية الكلامية أو باستخدام أحد التقنيات بغرض الحصول على معلومات عنهم .

 

     كذلك يمكن تعريفها : بأنها التلاعب بالبشر وخداعهم بهدف الحصول على بيانات أو معلومات كانت ستظل خاصة وآمنة، ولا يمكن الوصول إليها وبالتالي فتقنيات الهندسة الاجتماعية تعمل على إعطاء الجمهور ما يود ويحب الحصول عليه من نتائج؛ فالقائمين عليها يدرسنون رغبات الجمهور جيداً ويقدمون لهم التقنيات التي تستهويهم وتجذبهم ليشاركوا فيها وفي مقابل إعطاء المشاركين معلوماتهم يطواعية يحصلون على نتائج عن انفسهم تتوافق وقناعاتهم ومحببة إلى أنفسهم. 

 

      وتأخذ  عدة أشكال وتقنيات فنية أهما :

 

١ ـ التطبيقات بمحاكاة الشخصية:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     وهى عبارة عن مجموعة التطبيقات التي تعمل على الحصول على بعض المعلومات عن الشخصية لاستخراج صورة مشابهة ملامحها لصورة الشخص المشارك في هذه التطبيقات، ولكن بصورة مغايرة على ما هو عليه في الواقع كتطبيق فيس آب Face App، وفلسفة التطبيق تعتمد في الاساس على مجموعة معلومات عن الشخص المشارك فيه إلى جانب صورة شخصية له، ومن ثم يحصل المشارك على صورة له وهو كهل أو عجوز مقارنة بصورته الحالية.

 

٢ ـ الاختبارات الشخصية التنبؤية :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     وهي نوعية من تقنيات الهندسة الاجتماعية تعتمد على مجموعة من المعلومات التي يتم الحصول عليها من قبل المشارك فيها ـ والتي تعتتبر شرط حتى يكما الاختبار ـ حتى تظهر له النتيجة عن نفسه وشخصيته في نهاية إجابة على أسئلة الاختبارات الخاصة .*(5)

 

علوم الخداع

و«التلاعب بالوعي»:

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 

          وقد انتجت لنا تلك العلوم الزائفة التي تمثلت في علوم الخداع والتلاعب بالوعي والتي يطلق عليها مسميات مختلفة، يقول ميشيل فوكو عما اسماه بـ «رسم الذات  Self Stylization»، ورسم الذات تعني:

 

     «كممارسة إنسانية عقلانية للحياة والحرية، وتجري تلك الممارسات بـ «تكنولوجيا الذات Self Technology»  التي تسمح للأفراد بأن يؤثروا من خلال وسائلهم الخاصة، أو بمساعدة آخرين في عمليات محددة على أجسادهم وأفكارهم وسلوكهم وطريقتهم في الوجود، من أجل تحويل أنفسهم لتحقيق حالة محددة من السعادة والطهر والحكمة والكمال، أو اللا أخلاقية أي تحقيق حالة ما أو هدف ما ».

     وهي ما يطلق عليه الكاتب الأمريكي إسرائيل زنجويل: «بوتقة الصهر».

 

    و«صناعة الإجماع» تماثل فكرة الهيمنة عند أنطونيو جرامشي:

 

    «نظام تسيطر فيه طريقة معينة للحياة والتفكير، وليس فيه إلا مفهوم وحيد للحقيقة، ينتشر في المجتمع بكل مظاهره المؤسسية والخاصة، ويصوغ بروحيته الأذواق والأخلاق والعادات والمبادئ الدينية والسياسية وكل العلاقات الاجتماعية وخصوصاً في ملامحها الثقافية والأخلاقية، فإن الهيمنة هي السيطرة التي يتم التوصل إليها بالموافقة أكثر من القوة من قبل طبقة أو فئة على بقية المجتمع» .

 

       بينما يرى والتر ليبمان عميد الصحفيين الأمريكيين أثناء الحرب العالمية الأولى: «أن الثورة في فن الديمقراطية، وأنه يمكن تطويعه لخدمة ما وصفه بـ « تصنيع الإجماع»، بمعنى يجعل الرأي العام يوافق على أمور لا يرغبها بالأساس عن طريق وسائل دعائية .. وأن الحديث عن المصالح العامة ـ من وجهة نظره ـ كفيل تماما بخداع الرأي العام».

 

    ويرى ليبمان أن هناك وظيفتين في النظم الديمقراطية :

     الوظيفة الأولى : منوط بها الطبقة المتخصصة الرجال المسئولون يقومون بالتفكير، وفهم التخطيط للمصالح العامة .

 

   والوظيفة الثانية : منوط بها القطيع الضال (الجماهير من غير النخبة)، ووفق ذلك التحليل ـ من وجهة نظر ليبمان ـ فإن وظيفة هذا القطيع تتمثل في كونهم مشاهدين وليسوا مشاركين في الفعل، فمن وقت لآخر يسمح لهذا القطيع بتأييد أحد أفراد الطبقة المتخصصة، وهذا ما يطلق عليه الديمقراطية وأداتها (الانتخابات).

 

 

      بمعنى أن مفهوم الديمقراطية صار نفسه مفهوما شكلياً خاليا من أي مضمون، ويستخدم فقط كشعار أيديولوجي لا يؤخذ على محمل الجد من قبل المحترفين، يقول هارولد لاسويل الذي يعد من أشهر المتــلاعبين بالوعي وتزييف الإرادات في «موسوعة العلوم الاجتماعية » :

 

    «ليس علينا أن نتنازل للدوجما عن الديمقراطية التي يمكن للناس، وفقا لها أن يحكموا على مصالحهم الخاصة».

 

     ولا يخجل هارولد لاسويل من الجهر بالإساءة إلى شرف العلم باستخدامه  في التلاعب بوعي الشعوب وصناعة رأى عام زائف بقوله :

 

     «لا بأس من دعوة الجماهير من آن لآخر للخروج في تظاهرات جماعية لدعم النظام القائم بعد أن نجحنا في إقناعهم بالتصويت ضد مصالحهم !!».

 

    من خلال إضفاء نوع من «العقلنة الزائفة» على القيم الخادعة والكاذبة والمخادعة .. أي محاولة إيجاد قبول لما لا أصل، ولا حقيقة له!!

 

     .. يرى هارولد لاسويل عالم الاجتماع الأمريكي ومؤسس الاتجاه العلمي لدور الكلمة في الدعاية (ومن ثم التلاعب بالوعي)، والذي بدأ دراساته منذ الحرب العالمية الأولى، وعمم النتائج عام 1927 في كتاب بعنوان: «تقنية الدعاية في الحرب العالمية»، والذي وضع فيه التحليل الدلالي للنصوص، أي استخدام هذه الكلمات من أجل نقل المعاني أو تشويهها، وقد بنى لاسويل منظومة كاملة نواتها تشكيل «الأسطورة السياسية» عن طريق انتقاء الكلمات المناسبة .

 

***

      لم يكن الهدف من تلك العلوم المزيفة الضالة المضللة سوى إحكام السيطرة على الشعوب والتلاعب بها لأغراض استعمارية، وسيطرة رأس المال، وتكريس الهينة النخبوية، وتحقيق «الدارونية الاجتماعية» التي قامت على اكذوبة دارون التي يصر على إطلاق مًسمى «نظرية» عليها !!

 

تجربتي الشخصية

مع عملية «التذكر»:

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

      وقد مررت بتجربة شديدة الخصوصية عندما كتبت شهادتي على العصر في كتابي بعنوان : «حكايات من زمن الخوف، الجزء الأول»، وعاتبني البعض من أهالى قريتي «تلوانة» الذين يحبون أن تظهر قريتهم في صورة مثالية ـ بما يخالف الواقع والحقيقة ـ عن بعض ما كتبت، وقد ارتأيت:

 

        أولا : أنني لم أكتب عن شخصيات أو وقائع لذاتها؛ فما ورد ذكره عرضاً في جريان نهر السرد لـ «شهادتي على العصر» التي عرجت خلالها إلى «ذكريات القرية»، التي كنت جزءاً منها في سنوات الطفولة وميعة الصبا، فلما غادرتها في مقتبل سنوات الشباب انسحبت ذكرياتهاعلى باقي أيام العمر لتصبح جزءاً من أحداث سنوات التكوين.

 

       ثانيا : أنني لم أختلق واقعة لم تحدث، ولا حذفت واقعة حدثت.

     ثالثاً : أنني لم أتعود أن أغسل أحد من أوزاره، أو ألصق بأحد ما لم يفعله.

 

       رابعاً : إن كنت قد أوردت بعض الوقائع السلبية عن البعض؛ فعلى فاعلوها أن يخجلوا منها، ومن أنفسهم، ويستغفروا ربهم عنها أحياء، أما من انتقل منهم إلى جوار ربه؛ فليسامحه الله، وليأخذ منها الأحياء العبرة والعظة، ويدركون أن السيرة تبقى بعد انتهاء العمر، .. ولا يتخذ البعض من عاره الشخصي ذريعة لمصادرة حق الآخرين في الكتابة والتعبير وتداول المعلومات.

 

      خامساً : وهو الأهم .. أنه عندما كتبت عن بعض من استشعرت مشاعر سلبية تجاههم؛ فقد كتبت عن شخصيات أخرى أكن له الكثير من مشاعر الحب، وآيات الاحترام، وكتبت عن جداتنا وأجدادنا وأعمامنا وأخوالنا وأمهاتنا وخالتنا وعماتنا الطيبات الصابرات اللائي حافظن بثقافة الفطرة على البيئة، وقدمن لنا قرية نظيفة على عكس ما رأيته من وجه شائة في زيارتي الأخيرة من تراكم أكوام القمامة، وطفح بيارات الصرف الصحي، والترع التي سُدت بالقمامة، ومخلفات البلاستيك، وفاحت منها رائحة النتن .

 

       غير أنني لم أفوّت على نفسي فرصة المراجعة بالبحث في أمرين :

      1 ـ مفهوم الخصوصية :

       ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

         المقصود بها قدرة الفرد على التحكم بمعلوماته وعزلها عن الأخرين أو الإفصاح عنها إذا أحب ذلك، وتوجد العديد من الأشكال التي تهدد خصوصية الأفراد بهدف استغلال معلوماتهم، ويتوقف الأمر بالأساس على طبيعة ونمط استخدام الفرد للمعلومات .

 

     وقد ارتأيت أنني لم انتهك حدود الخصوصية في حياة أحد ممن جاء ذكره في الوقائع المذكورة، خاصة أن تلك الوقائع قد تم فعلها علنا والجهر بها قولاً، بما يسقط عنها أركان «الخصوصية»!!؛ فهناك ثلاثة أركان تؤثم الفعل وتوقع فاعله تحت طائلة القانون .. الركن الأول: فعل مادي يؤذي المرء أو يخدش فيه حياء العين أو الأذن سواء وقع الفعل على جسم الغير أو أوقعه الجاني على نفسه، الركن الثاني: العلانية ولا يشترط لتوافرها أن يشاهد الغير عمل الجاني فعلاً، بل يكفي أن تكون المشاهدة محتملة، الركن الثالث: القصد الجنائي، وهو تعمد الجاني إتيان الفعل، كما أن المجاهرة والإفشاء والعلانية من قبل الفاعلين تُسقط «الخصوصية»، وتعطى الآخرين حق الإبلاغ عنها باعتبارها جرائم في حق المجتمع وبعض الفئات المستضعفة .. وكانت الظواهر التي أوردتها تمثل جرائم عنف ضد المرأة، وإساءة إلى براءة الأطفال، وإضعاف المواقع القانونية لأصحاب الحقوق بشهادة الزور (المدفوعة الثمن)، وغلبة العصبية على مجالس العرف للنيل من حقوق الخصوم، وخرق التشريع الإلهي بأكل حقوق المستضعفين في الميراث بالباطل، وانتشار تعاطي المخدرات، وتفشي «التدين الطقوسي» أو «التدين الهروبي» الذي ليس له أى مردود إيجابي في سلوك الأفراد وأخلاقيات الجماعة، ونشر ثقافة الخرافة وإشاعة الأكاذيب .. تلك الأمراض الاجتماعية التي أصابت الغالبية العظمى من أفراد المجتمع المصري في الريف والحضر!!

 

 2 ـ ميكانيزمات التذكر :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

         كما أنني لم أكتب عنهم لذواتهم بل كنت اسرد وقائع حدثت ضمن الحيز العام المشترك؛ فكون تلك الواقائع تماست أو تقاطعت مع ذكر بعض الاشخاص؛ فليس في هذا انتهاك لحدود الخصوصية؛ لأن طبيعة الحكي التي أوردتها تتماشى من طبيعة «الذاكرة الفردية» وعلاقتها التكاملية بـ «الذكرة الجمعية» على النحو الذي أورده عالم الاجتماع الفرنسي  موريس هالبواش رائد علم «الذاكرة الجمعية».*(6)  

      فلا يوجد تعارض تعارض بين «الذاكرة الفردية» و«الذاكرة الجماعية»؛ فكل ذاكرة فردية هي وجهة نظر تطل على الذاكرة الجمعية.*(7)  

 

مراجع الكتاب :

 

1 ـ  د. أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان ـ 1982.

 

2 ـ جون ستوري، وأخرون، الكرنفال في الثقافة الشعبية، ترجمة : خالدة حامد،  ط 1، المتوسط ميلانو / ايطاليا 2017 .

 

3 ـ  محمود مفلح البكر، مدخــل البحث الميداني في التراث الشعبي(عرض - مصطلحات - توثيق - مقترحات - آفاق) منشورات وزارة الثقافة - مديرية التراث الشعبي، دمشق - 2009.

 

4 ـ د. نبيلة ابراهيم ، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار نهضة مصر ـ القاهرة ـ بدون تاريخ.

 

5 ـ  د.عبد الحميد يونس، دفاع عن الفولكلور، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة ١٩٧٣ .

 

6 ـ  د. جون توملينسون، العولمة والثقافة  .. تجربتنا الاجتماعية عبر الزمان والمكان، ترجمة: د.إيهاب عبد الرحيم محمد، عالم المعرفة، العدد 554، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ،الكويت ـ أغسطس 2008 .

 

7 ـ د. حامد عمار ، بناء البشر ، دار المعرفة ـ القاهرة  1968.

 

8 ـ  د. محمد الجوهري وأخرون، مقدمة في دراسة التراث الشعبي ، ط ١ ـ القاهرة ٢٠٠٦.

 9 ـ دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية ، ترجمة د. منيرالسعيداني المنظمة العربية للترجمة ـ ط ١ ـ بيروت ٢٠٠٧.

 

10ـ إدوارد تي . هول، اللغة الصامته ،  ترجمة : لميس فؤاد اليحيى، الأهلية للطبع والنشر ـ الأردن 2007  .

 

11 ـ د . هدسون ، علم اللغة الاجتماعي، ترجمة : د. محمود عياد، الناشر : عالم الكتب ، القاهرة 1990 .

 

12 ـ جون ستوري، النظرية الثقافية والثقافة الشعبية، ترجمة د. صالح خليل أبو أصبع، د. فاروق منصور ـ هيئة أبوظبي للسياحة ٢٠١٤ .

 

13 ـ جيمس سكوت، المقاومة بالحيلة .. كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم ؟! ترجمة ابراهيم العريس، ميخائيل خوري، دار الساقي ـ بدون تاريخ .

 

14 ـ  عبد الحميد حواس ، أوراق في الثقافة الشعبية، الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ العدد ١٠٢، القاهرة ٢٠٠٥.

 

15 ـ موريس هالبواش، الذاكرة الجمعية، ترجمة : نسرين الزهر، بيت المواطن للنشر والتوزيع ، دمشق/ بيروت ٢٠١٦ .

 

16 ـ ياسر بكر، «فئران المركب».. دراسة في التاريخ الاجتماعي، E. Book ـ بلد النشر : مصر 2020.

 

17ـ ياسر بكر، شعب من «الأوز» .. مقدمة في علم اللغة الاجتماعي، E. Book ـ بلد النشر:مصر 2020.

 

18 ـ أبو زيد ولى الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون ، «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، طبعة مصححة اعتني بإخراجها، وألحق بها فهارس للأحاديث وللموضوعات  أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية ، عمان  ـ الأردن «بدون تاريخ» .

 

19 ـ دافيد أو ـ سيز، ليوني هادي، روبرت جيرفيس، المرجع في علم النفس السياسي، ترجمة : ربيع وهبة، مشيرة الجزيري، محمد الرخاوي ـ المشروع القومي للترجمة ـ العد ١٤٨٤ ـ ط ١ ـ القاهرة ٢٠١٠.

 

20 ـ شارل بلوندل، مقدمة في علم النفس الاجتماعي، ترجمة : د. محمود قاسم و د . ابراهيم سلامة، مكتبة الأنجلو المصرية ـ القاهرة ١٩٥١ .

 

21 ـ جان جاك لوسركل، عنف اللغة ، ترجمة محمد بدوي، المنظمة العربية للترجمة، المعهد العالي العربي للترجمة ـ الجزائر ، نشر وتوزيع : الدار العربية للعلوم ، المركز الثقافي العربي  ـ بيروت ٢٠٠٥ .

 

22 ـ شوقي عبد الحكيم، الشعر الشعبي الفولكلوري .. دراسة ونماذج ، هنداوي ـ القاهرة 2015.

 

23 ـ جلين ويلسون، سيكلولوجية فنون الأداء، ترجمة: د. شاكر عبد الحميد، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد ٢٥٨ ـ الكويت، يونيو ٢٠٠٠ .

 

24 ـ نعوم شقير ، تاريخ سينا والعرب، هنداوي ـ المملكة المتحدة ٢٠١٧.

25 ـ حاتم عبد الهادي السيد ، الشعر النبطي ملامح الشعر في بادية سيناء ، الهيئة العامة لقصور الثقافة إقليم القناة وسيناء الثقافي ـ شمال سيناء 2000.

 

26 ـ د. رمضان عبد التواب، التطور اللغوي .. مظاهرة وعلله وقوانينه ، مكتبة الخانكي  ـ القاهرة 1997.

 

27 ـ د. زينب أبوالمجد ، عسكرة الأمة: الجيش والأعمال التجارية والثورة في مصر، الناشر: مطبعة جامعة كولومبيا- (E-BOOK). ـ نيويورك 2017.

 

28 ـ بيترجروبر، فن العدوان :الانفعالات، والطاقات، تقييدها والسيطرة عليها ، تقديم روبرت ليه، تعريب : نوال الحنبلي ، مكتبة العبيكان ـ الرياض 2004.

 

29 ـ د. نبيل علي ، العرب وعصر المعلومات، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت ط1، 1994.

 

30ـ إدوارد تي. هول، اللغة الصامته ،  ترجمة : لميس فؤاد اليحيى، الأهلية للطبع والنشر ـ الأردن  2007.

 

31 ـ د . إدوارد سعيد ، المثقف والسلطة ، ترجمة وتقديم : د. محمد عنان ، رؤية للنشر والتوزيع  ـ القاهرة 2006.

 

32 ـ  فيليب تايلور، قصف العقول .. الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووي، ترجمة سامي خشبة ـ العدد 256، عالم المعرفة ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت أبريل 2000.

 

33 ـ ياسر بكر، حرب المعلومات، حواس للطبع والنشر ـ القاهرة 2017.

 

34 ـ  سيرجى قرة /مورزا، التلاعب بالوعى ، ترجمة : عياد عياد، وزارة الثقافة ، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2012.

 

35 ـ هربرت . أ . شيللر، المتلاعبون بالعقول ، ترجمة عبد السلام رضوان ـ عالم المعرفة عدد 106 ـ الكويت، أكتوبر 1986.

 

36 ـ دافيد إدواردز، دافيد كرومويل، حراس السلطة .. أسطورة وسائل الإعلام الليبرالية ـ ترجمة آمال الكيلاني، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة 2007.

 

37ـ  سارة البلتاجي، الأمن الاجتماعي ـ الاقتصادي والمواطنة النشطة في المجتمع المصري، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، ط 1ـ بيروت 2016.

 

38 ـ  د. عبد الوهاب بكر ، مجتمع القاهرة السري (1900 ـ 1951)، العربي للنشر والتوزيع ـ القاهرة 2001.

 

39 ـ  د. زينب أبو المجد،امبراطوريات متخيلة .. تاريخ الثورة في الصعيد، ترجمة أحمد زكي عثمان، المركز القومي للترجمة  ـ عدد 2968 ـ القاهرة 2018.

 

40 ـ ول ديورانت : قصة الحضارة ، ترجمة زكي نجيب محمود، لجنة التأليف والترجمة والنشر ،القاهرة، ج 1، القاهرة 1949.

 

41 ـ د.جمال حمدان،  شخصية مصر .. دراسة في عبقرية المكان  دار الهلال ـ القاهرة.

 

42 ـ العلامة الإمام أبي الحسين أحمد ابن فارس ابن زكريا الرازي اللغوي ، الصاحبي في فقة اللغ العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها ، حققه وضبط نصوصه وقدم له د. عمر فاروق الطباع، ط ١، دار المعارف بيروت ١٩٩٣.

 

43 ـ الأمير شكيب أرسلان، القول الفصل في رد العامي إلى الأصل، ط ٢،الدار التقدمية، بيروت ٢٠٠٨ .

 

44 ـ د. أحمد عيسى، المحكم في أصول الكلمات العامية، ط ١، مصطفى البابي الحلبي ـ القاهرة ١٩٣٩.

 

45 ـ حسن أفندي توفيق العدل ، أصول الكلمات العامية ، ط 2، مطبعة مدرسة والدة عباس الأول ـ القاهرة 1907 .

 

46 ـ العلامة عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، شرحه وضبطة وعنون موضوعاته وعلق حواشيه: محمد أحمد جاد المولى بك، محمد أبو الفضل ابراهيم، على محمد البجاوي ـ طبعة البابي الحلبي ـ القاهرة  .

 

47 ـ د. نفوسة زكريا سعيد، تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر،ط 1، دار نشر الثقافة بالأسكندرية ـ الأسكندرية 1964.

 

48 ـ عبد الرحمن ابن محمد ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، جزءان، مهد لها ونشر الفصول والفقرات الناقصة من طبعتها، وحققها وضبط كلماتها وشرحها، وعلق عليها وعمل فهارسها د . على عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر، ط 7 ـ القاهرة 2014.

 

49 ـ فرانسو دوما، حضارة مصر الفرعونية، ترجمة ك ماهر جويجاتي، المشروع القومي للترجمة ، العدد 48  ـ القاهرة 1998.

 

50 ـ بوسف المغربي، دفع الإصر عن كلام أهل مصر، تحقيق ودراسة : إليزابيث زاك.

 

51 ـ محمد ابن أبي السرور الصديق الشافعي، القول المقتضب فيما وافق لغة أهل مصر من لغات العرب، تحقيق السيد ابراهيم سالم، دار الفكر العربي ـ القاهرة 1962.

 

52 ـ د. عبد المنعم سيد عبد العال ، معجم الألفاظ العامية ذات الحقيقة والأصول العربية.. مأخوذ من القرآن ـ الحديث ـ معاجم اللغة ومأثورهاـ ط ٢ ، مكتبة الخانكي مصر ـ القاهرة ١٩٧٢.

 

53 ـ تحقيق: هشام عبد العزيز،عادل العدوي، القول المقتضب فيما وافق أهل مصر من لغة العرب ، سلسلة التراث ـ عدد ١، أكاديمية الفنون ـ القاهرة ٢٠٠٦.

 

54 ـ أحمد تيمور باشا، معجم تيمور الكبير في الألفاظ العامية، تأليف أحمد تيمور، تحقيق : حسين نصار، ج١، ط ٢، دار الكتب والوثائق القومية بمصر ـ مركز تحقيق التراثـ القاهرة ٢٠٠٢ .

 

55 ـ أحمد تيمور باشا ، الكنايات العامية، مؤسسة هنداوي ـ القاهرة ٢٠١٢.

 

56 ـ  أحمد تيمور باشا، الأمثال العامية، مؤسسة هنداوي، القاهرة ٢٠١٤.

 

57 ـ  أحمد أمين، قاموس العادات والتقاليد والتعابيرالمصرية، مؤسسة هنداوي ـ القاهرة ٢٠١٢.

 

58 ـ د. ممدوح محمد خسارة ، معجم فصاح العامية من لسان العرب، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق ـ سوريا ٢٠٠٨.

 

59 ـ د. رمضان عبد التواب، لحن العامة والتطور اللغوي، مكتبة زهراء الشرق، ط ٢، القاهرة سنة ٢٠٠٠.

 

60 ـ  د .أنور عبد الملك، دراسات في الثقافة الوطنية، دار الطليعة، بيروت، 1967.

 

61 ـ  د. سيد عويس، هتاف الصامتين ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، مكتبة الأسرة 2000

 

62 ـ محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، سلسلة نقد العقل العربي، عدد 1، دار الطليعة ـ بيروت 1984 

 

63 ـ محمود تيمور، دراسات في القصة والمسرح، مكتبة الآدابومطبعتها بدرب الجماميز.

 

64 ـ د. حامد ربيع، قراءة في فكر علماء الاستراتيجية .. الاستعمار والصهيونية وجمع المعلومات عن مصر (احتواء العقل المصري) ـ سلسلة : نحو وعي سياسي واستراتيجي وتاريخي ـ كتاب 4 ـ دار الوفاء ـ مصر(بدون تاريخ)

رسائل علمية :

ـــــــــــــــــــــــــ

 

1 ـ د. كمال المنوفي، الثقافة السياسية للفلاحين المصريين : تحليل نظري ودراسة ميدانية في قرية مصرية، رسالة لنيل درجة دكتوراه من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ جامعة القاهرة 1978(غير منشورة).

2 ـ  أمال النور حامد ، الإعياء والانفعالات المصاحبة له في طقوس الزار وعلاقتها بالترويج النفسي ـ رسالة ماجستير ـ كلية العلوم الاجتماعية ـ جامعة الفاتح ـ طرابلس 1997.

 

3 ـ د. نهى الصادق أحمد حسين، فاعلية العلاج بالموسيقى في تخفيف اضطراب القلق والاكتئاب لدى المرضى بمستشفيات الأمراض النفسية بولاية الخرطوم (رسالة لنيل درجة دكتوراه الفلسفة في علم النفس) ـ جامعة الخرطوم ٢٠٠٩.

 

مقالات الدوريات العلمية المُحكمة :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

1 ـ مقال وهيب بوسعدية، حمود صبرينة بعنوان : «الأمن الثقافي في المفهوم والمهددات»، مجلة الباحث للدراسات الأكاديمية، مجلة دولية محكمة نصف سنوية، الناشر : كلية الحقوق ـ جامعة باتنة ، العدد 11 ـ الجزائر 2017.

 

2 ـ مقال د. حسام محسب بعنوان :«الأداء الحركي في طقس الزار» ـ مجلة الثقافة الشعبية، مجلة فصلية علمية محكّمة،  العدد 13، البحرين ـ ربيع 2011.

 

3 ـ مقال : قبايلي عمر، مدخل للثقافة الشعبية العربية، مقاربة أنثربولوجية ـ الأثر، مجلة الأداب واللغات، جامعة قاصدي مرباح ، عدد ٧ ـ الجزائر مايو ٢٠٠٨.

 

4 ـ مقال د. عاطف عطية بعنوان :«الثقافة الشعبية بين المادي واللا مادي»، مجلة «الثقافة الشعبية» مجلة فصلية علمية محكّمة، تصدرها مملكة البحرين، العدد 31 - السنة الثامنة - خريف 2015 .

 

5 ـ مقال د. حسام فايز عبد الحي، مشاركة الجمهور في تقنيات الهندسة الاجتماعية عبر موقع فيس بوك وعلاقتها بالخصوصية والتعويض النفسي لديهم، مجلة البحوث الإعلامية .. مجلة علمية و محكمة تصدرها كلية الإعلام بجامة الأزهر، العدد ٥٥ ـ ج ١ ـ اكتوبر ٢٠٢٠.

 

6 ـ مقال ليلى شحدة العطابي، شواهد سيبويه الشعرية في ضوء قضية المتبقي (المرفوعات نموذجا)، مجلة دراسات العلوم الإنسانية الاجتماعية، مجلة علمية عالمية محكمة تصدر عن عمادة البحث العلمي وضمان الجودة، الجامعة الآردنية ـ م ٤٥، العدد ٢ـ  الأردن 2018.

 

7 ـ مقال الدكتور ابراهيم عبد الحافظ بعنوان :«أغاني السامر السناوي في عصر العولمة»، مجلة الفنون الشعبية، مجلة فصلية علمية محكّمة، العدد 2، البحرين ـ يولية ـ أغسطس ـ سبتمبر 2008.

 

8 ـ مقال د . المرزوقي على عبد الهادي بعنوان : «الغزو الثقافي الغربي .. أسبابه، ومخاطره، ونتائجه»، مجلة كلية التربية ، جامعة الزاوية ـ العدد 12 ، لبيا ـ نوفمبر 2018.

 

9 ـ مقال أ. زينب قريوة، وأ. لمين هماش بعنوان : «رهانات الهوية في ظل غزو تاعولمة الثقافية: دراسة ميدانية وفق مقاربة سوسيو ثقافية على عينة من الأستاذة الجامعيين»، مجلة العلوم الإنسانية ـ العدد 6 ، الجزائر ـ ديسمبر 2016.