السبت، يناير 26، 2019

ياسر بكر يكتب : ثورة 25 يناير .. للفشل أسباب كثيرة !!


ياسر بكر يكتب: ثورة 25 يناير .. للفشل أسباب كثيرة  !!

هل كانت ثورة 25 يناير 2011 مؤامرة على مصر؟!، .. أزعم أنني كنت أحد أفراد الكتلة الضخمة المشاركة في فاعليتها على الأرض بميدان التحرير، وأزعم أيضا أنه لم تساور نفسي ـ ولو للحظة ـ شبهة تأمر على بلدي أو ناسه؛ وأزعم أيضا أنني كنت أحد المشجعين للشباب على توثيق فاعليتها للتاريخ باعتبار الصورة جملة بصرية مفيدة يصعب تكذيبها، وأن الصورة حبس وتجميد للحظة من الزمن يصعب استعادها في الواقع؛ فإذا كان ما حدث في يناير مؤامرة ـ حسب تصريحات المشير متقاعد محمد حسين طنطاوي الأخيرة ـ فلماذا حمى سيادته المتأمرين ؟!!، ولماذا أوهمنا سيادته أنها ثورة ؟!!، وليراجع سيادته خطابه في الذكرى الأولى للثورة في 25 يناير 2012؛ ولماذا تراجع سيادته الآن عن الكثير مما سبق وأكده من قبل؟!!

أعرف أنه يصعب ـ ولكنه ليس مستحيلاً ـ فهم الأحداث في سيقاها الطبيعي والتاريخي في البلدان التي تفتقد شعوبها حق المشاركة الديمقراطية وتحظى بالإعلام الحر؛ ولكن لا بأس من وقفة مع الذات لفهم ما جرى لنا، وما حدث للمصريين عامة؟!، .. وما مفهوم "الأمن القومي" الذي أصبح يمثل حالة من "الهوس" تنغص حياة المصريين؟!، ولماذا أصبنا دون كل شعوب الدنيا بتلك الحالة من "فقر الأخلاق" التي جلبت علينا كل الآفات الاجتماعية التي أفسدت علينا مطعمنا ومشربنا فأكلنا التالف والمُسرطن والمُشع بما أسقمنا بالعديد من العلل والأوجاع العضال بما تجاوز قدرات المُعالج وإمكانات الدولة؟!؛ .. ولماذا ابتلينا بفسادنا نوجهه سلاحاً فتاكاً نحو ذواتنا، وفعلنا بأنفسنا ما لم يستطع أعداؤنا عمله !!، ولماذا  صارت بلدنا مقبرة نفايات العالم؟!

.. فمنذ أن تمت ولادة مصطلح "الأمن القومي" وصكه في صيغة لفظه، وتداوله بين الناس حتى ألفته أذانهم سمعاً ووعته عقولهم فهماً كل حسب قدرته على الاستيعاب ورصيده من المخزون المعرفي .. منذ ذلك الحين لم يتم استخدام  مصطلح "الأمن القومي" بهذا الإسراف وتلك العشوائية، وهذا الكم وذاك الكيف مثلماً حدث في مصر المحروسة، والتوسع المفرط في تكوين مفرداته ـ حسب التساهيل ـ حتى أصبح بعضها يناقض بعضاً ويدحض آخرها ما جاء بأولها؛ فالمساس بـ "الأمن القومي" أصبح جريمة من لا جريمة له، ولأنه "لا جريمة إلا بنص، ولا عقوبة إلا بنص".. وهو ما يسمى بمبدأ الشرعية الجنائية، فالقانون هو الذي يحدد الجرم، ويضع له قيداً ووصفاً محدد الأركان والعقاب عليه، ويجعل الفعل منعدما بانتفاء ركن أو أكثر من أركانه ، ولا عقوبة عليه .. أي أن هذا المبدأ يستلزم  وجود قاعدة قانونية تحرم السلوك وتحدد أركانه وتعاقب عليه، كما يستلزم  ان تكون القاعدة الجنائية سارية في الزمان والمكان الذي ارتكبت فيه الجريمة وهذا ما يقتضي تحديد نطاق  سريان القاعدة الجنائية من حيث الزمان والمكان .

في مصر "المحروسة" لم يتم التوصل لتعريف محدد لـ "الأمن القومي" حتى الآن؛ ففي كتابات القادة الأمنيين من قادة المخابرات والأمن الوطني التاريخيين وأساطين رجال القانون مازال مفهوم "الأمن القومي" غائباً وغائماً، ومن يتصدى منهم لمحاولة إيجاد "مفهوم" للمصطلح يقع في شباك الخلط بين الفهم الأمريكي للمصلح الذي يبرر لنهب ثروات الشعوب واستعبادها لصالح الشركات الأمريكية والفهم السوفيتي لمقارعة الأمريكان في مرحلة الحرب الباردة وتصدير الثورة البلشفية عبر نشر الأيدلوجية، وبين الفهم الصهيوني لتبرير الاستيلاء على أراضي الغير و"تجريم العداء للسامية" لحماية الأكاذيب، وصيانة التاريخ المزيف الذي فضحه كل من أرثر كوستيللر وجوستاف لوبون وغيرهم من علماء الحضارات وتاريخ الجنس البشري.

لم يتم إلى الأن صياغة تعريف لـ "الأمن القومي" ليصبح حقلاً من حقول المعرفة يمكن إخضاعه لمناهج البحث العلمي في علم السياسة، والتعريف هو تقريب المجهول بما هو معلوم أى بلغة الفقة "إنزال الغائب على الشاهد"، ومازلنا في حلقة "دوخيني يا لمونة" لحاجة في نفس يعقوب قضاها .

دخلنا إلى "المتاهة" رغم أن رب العزة سبحانه وتعالى قد أهدانا في كتابه العزيز تعريفأ جامعاً مانعاً لمفهوم الأمن في قوله : "أطعمهم من جوع، وأمنهم من خوف ." صدق الله العظيم، ولم نحقق من ذلك شيئا؛ فمصر تستورد أغلب حوائجها الغذائية والدوائية، وكل وسائل ومتطلبات الحماية .. وأغلبها تقريبا مخترق من الذين يبيعونها لنا، وكل تفاصيل حياتنا مكشوف لأعدائنا الذين يتنصتون علينا ـ متى أرادوا ـ عبر حواسبنا الشخصية وهواتفنا النقالة مستغلين جهلنا بالكثير من تكنولوجيا العصر التي أسرفنا في استخدامها دون أن نكلف نفسنا من أمر فهمها أو محاولة إنتاجها شيئاً.

كهذا دخلنا إلى "المتاهة"، ونحن جوعى من سياسات أفقرتنا على مدي عقود، وخائفون من اللاشئ، واختزلنا "الأمن" في مفاهيم تافهة لا تحقق لنا من الأمن شيئا !!، ولم نحظى بقليل من الإحترام لأنفسنا فأصبح المواطن هو ضيف الشرف الذي لا تتم دعوته إلا إلى محافل "الهلس" فقط لإضفاء الشرعية الزائفة بالرقص أمام الجان الانتخابات، والتصويت ضد مصالحة بشرعنة مواد الدستور التي لم يطلع عليها . 
وبعدها لا يهتم به أحد؛ فراح يعاني فقر العيش، ودائما ما يولد "فقر الأخلاق" في عشش الجوع والعوز والعشوئيات؛ فضاع "الأمن القومي" في أبسط مفاهيمه التي لم يتطرق إليها أحد من جهابذة المتشدقين بالرطانات اللغوية؛ فراح بائع الفول يضع "بودرة السلخ" التي تستخدم في تنظيف الجلود تمهيداً لدبغها في وعاء الطهى للتعجيل بطهي منتجه توفيراً للوقود وكسباً حراما لبعض الجنيهات، وحذى بائع الفلافل حذوه يخلط الفول بالخبز العفن والبرسيم بدلاً من الخضرة، وراح بائع الدجاج يبيع الدجاج النافق لمحال "الفراخ المشوية" بزعم أن معدة المصريين تهضم الزلط، وراح الجزار يطعم زبائنه من لحوم الحمير، .. وغابت ضمائر مفتش التموين ومفتش الصحة فأطلق القهوجي وبائع العصير العنان لرداءة مشروباتهم وقذارة أوعيتهم، .. وأصبح طعام المصريين في أغلبه من الخضروات والفاكهة المسرطنة والمهندسة وراثياً أو التي تمت معاجتها بميدات محرمة دولياً، وأكثرها مروياً بمياه الصرف الصحي؛ فانتشرت مختلف أنواع السرطانات والفيروسات وأمراض الفشل الكلوي .. كل ذلك لخصه صديقي الأجنبي في مقولة: 

ـ "كل شئ في بلدكم ملوث وقذر حتى النقود، .. عفوا إنكم لا تستحقون العيش في هذا البلد" .
.. وشعرت بالخجل ، ولم أعقب .

وفي عصر الجماهير الغفيرة التي صنعها إنقلاب يوليو 1952 لم تعد للثقافة دوراً في في الحماية والإنقاذ؛ فقد انحسرت الثقافة الرفيعة، وبعد توالي الخيانات الكثيرة للمثقفين المصريين لجماعتهم الوطنية بالكذب تارة وبالصمت والتواطؤ أخرى، أنفضت عنهم القلة القارئة، وأصبحت الثقافة السائدة بين أواسط الناس هى ثقافة الغرائز التي تعني بالعنف والجنس والكرة والفضائح، وبدأت تلك الطبقة تصيغ "دستورها غير المكتوب" في شعارات تعكس فهمها للواقع والحياة من عينة : "الجنية غلب الكارنية" بمعنى أن السلطة أصبحت في خدمة الفساد المدفوع الثمن، وأيضا:"أبجني تجدني" بمعنى أنه بالرشوة ستجد المكلف بخدمة عامة أو عمل حكومي واقف في ظهرك وسندك وعونك على إنفاذ فسادك بدلاً من ردعك !!، وأمام سيل المفاسد بدأ الذين غلبوا على أمرهم من المستضعفين وقليلي الحيلة في التهام أطعمة لا تصلح للإستهلاك الأدمي معزين أنفسهم بتوكل زائف وتدين أخرق بقول : "سمي وكل"، و"قول يا باسط"، و"سيبها تعك، وربك يفك"، وإذا وجد هؤلاء المستضعفين وقليلي الحيلة الفرصة لـ "التماهي مع المعتدي" فإنهم لا يؤخرونها، ويمارسون طغيانهم في وظائفهم الحكومية الصغيرة، وعلى أرصفة الشوارع، ومواقف انتظار السيارات العشوائية، وإشارات المرور.

 .. وأمام قهر جهلاء الأغلبية من الفاسدين، وتجاهل أجهزة الدولة لمسئولياتها أصبح المثقف الجاد مجرد "نفر" في القطيع يعني "نمرة" في سجلات التعداد القومي تحمل كارت الحصول على الخبز ليحيا إن استطاع.

***

فهل كانت ثورة 25 يناير 2011 مؤامرة على البلد ؟! .. بالتأكيد الإجابة : لا، .. إنها ثورة شعب أرادت العيش والحرية والكرامة الإنسانية للجميع لكنها فشلت شأن كل الثورات التي لم تكتمل لأسباب كثيرة أهمها : "الفقر الأخلاقي" و"العشوائية الثقافية" التي تستهدف المواطن المصري وتصيبه بالإرباك المعلوماتي والسلوكي، و"غياب مشروع حضاري" يمكن الالتفاف حوله .