السبت، مارس 31، 2018

كتاب : حكايات من زمن الخوف ( الجزء الثاني )، ياسر بكر ـ بصيغة Word


حكايات من زمن الخوف ( الجزء الثاني )






القاهــــــرة
المدينة .. والجامعة
(1972 ـ 1978)

(الجزء الثاني)

·   مدينة "البزرميط"
·   جـامعة القاهــــرة
·   الحـركة الطـلابية




"ـ ها أنت تقفز للنهاية .. هلا حكيت الحكاية
ـ .. ولمن أقول؟!
ـ هذى صفوف السنط والصبار تنصت للحكاية .
ـ ألها عقول؟!
ـ ماذا يضيرك .. ألق ما فى القلب حتى للحجر، أو ليس أحفظ للنقوش من البشر؟!"

نجيب سرور
من ديوان "لزوم ما يلزم"




الفصل الأول :
ـــــــــــــــــــــ

مدينة "البزرميط" !!

مع نسمات فجر يوم خريفي لطيف من أيام سبتمبر 1972 .. بدأت الرحلة إلى القاهرة، همست في أذن الأسطى عبد العاطي أبو زيد السائق (يرحمه الله):

ـ "أنني لا أعرف الطريق إلى بيت خالي الذي من المفترض أن أنزل عليه ضيفاً !!".

وقال الرجل :

ـ " ولا يهمك يا أستاذ، وأضاف ضاحكاً : بتحصل في أحسن العائلات!!، .. أنا عارف المكان، وسأقوم بتوصيلك لحد عتبة الباب."، .. كنت تقريباً في عمر ابنه جمال .

.. وتنفست الصعداء، وقلت :"الحمد لله"

الأسطى عبد العاطي أبو زيد سائق إحدى السيارتين الأجرة اللاتي يتم تسيرهما علي خط  فيشا الصغرى ـ تلوانة ـ القاهرة .. كانت أشجار البونسيانا بزهورها الحمراء على جانبي الطريق من قرية الخضرة إلى القناطر الخيرية تدخل البهجة إلى النفس، لكنني كنت مهموماً بشأن القادم في مدينة لا أعرف عنها كثيرأ.
كان الأسطى عبد العاطي يستشعر قلقي وحيرتي؛ فكان من آن لآخر يهمس إلىّ مطمئناً : "خليها على الله .".

كان يومي الأول في القاهرة طويلاً ومملاً وكئيباً فقد قضيته حبيس غرفة في شقة خالي لم أخرج منها إلا للطعام، وقضاء الحاجة .. كان من المفترض أن أذهب في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي ليتم توقيع الكشف الطبي علىّ في ادارة الشئون الطبية (القومسيون الطبى) التابع لجامعة القاهرة والكائن مقره بشارع يافع بن زيد المتفرع من شارع مراد بالجيزة .

على العشاء سألني خالي الموظف بوزارة الأوقاف الذي نزلت ضيفاً عليه في شقته بشبرا :

ـ هل تعرف الطريق إلى مقر القومسيون الطبى؟!

وأجبت بالنفي .

أبدى خالي تأففاً، وظهرت إمارات الضيق على ملامحه وغمم قائلاً :

ـ لقد استنفدت أيام الأجازة العارضة، .. وسأحاول تدبير من يصحبك إلى هناك !!

أجرى بعض المكالمات التليفونية التي لم تسفر عن شئ .

وفي النهاية قرر أن يصحبني إلى هناك؛ فاتصل بزميل له لينهي له إجراءات أجازة ليوم واحد.. استشعرت أنني مثل "سلعة محملة" على علاقة أمي بأخيها، وأنني مثل حمل ثقيل على خالي في مدينة بلا قلب، وأحسست بمشاعر مختلفة بين الإحساس بعار الجهل، وذل الحاجة، وأدركت معنى المقولة : "في السؤال ذل ولو إلى أين الطريق"، واختلطت تلك الأحاسيس بإحساس بالغيظ من هذا النكران لجميل أبي (يرحمه الله)، كان الغيظ يملأ نفسي، وكدت أجهر بمطالبته بالوفاء بدينه لأبي .. لكني تذكرت أن المعايرة ليست من شيم الرجال، وأنها عار يلتصق بمقترفها، وهمست معزيا نفسي : إنها الحياة وطبائع بعض البشر التي تجعل الحياء في الوجوه حال وجود الأحياء من ذي الفضل، ولا وجود له بعد انتقالهم إلى رحاب بارئهم، وكثيرون من خِرق البشر لا يذكرون للأموات فضلاً أو معروفاً!!،!!

وفي الصباح اصطحبني إلى مقر القومسيون الطبى .. أخذت الممرضة بياناتي وبطاقة تحقيق الشخصية وبطاقة الترشيح للقبول بالكلية .. بعد دقائق دعتني للدخول إلى غرفة الطبيب .. وجدت الطبيب رجل في العقد الخامس من عمره .. تثائب وهو يغمس عود من البقصمات في كوب من الشاي المخلوط بالحليب، وسألني :

ـ بتشتكي من حاجة ؟!

وأجبت بالنفي؛ فوقع على الأوراق دون أن ينظر إلىّ، وبغير توقيع الكشف الطبي علىّ، وأفاد كتابة بالأوراق بأني لائق صحياً، وأزاحها في قرف من أمامه؛ فالتقطتها الممرضة ووضعتها في أحد الأدراج !!
نظرت إلى الطبيب، ولا أدري لماذا استحضر ذهني صورة الأبقار التي تحت أشجار التوت تجتر طعامها في استرخاء تحت شمس الضحى .. ربما كان التشابة بينهما كبيراً .. كانت شخصية ذلك الطبيب هى النمط المتواجد في المدينة بعد أن ابتلعت الجندية كل العناصر الواعدة من الرجال والشباب وقذفت بهم إلى جبهة القتال، ولم يبق في المدينة سوي تلك النماذج المعطوبة من نوعية المنخنقة والمتردية والموقوذة والنطيحة وما أكل السبع !!

.. وشعرت بالغيظ، ولم أنطق بكلمة، وظللت طوال الطريق إلى بيت خالي واجماً، وقد اتخذت قراري وحزمت أمري.

عندما وصلت بيت خالي وقبل الغذاء، استأذنت في الخروج لبعض الوقت .. كنت قد اتخذت قراري بالاعتماد على النفس، وأنني لن أجعل مركبي ترسو في مرفأ غيري .. ولن أضع كرامتي تحت رحمة متنطع يدعي فضلاً!! .. كان معي عناوين بعض الأصدقاء، وسألت أحد المارة عن كيفية الوصول لأحد هذه العناوين، وتمكنت من الوصول، وقصصت على صديقي الحكاية، وسألته عن إمكانية مشاركتي له غرفته لمدة أسبوع على  أدفع له جزء من إيجار الحجرة وأتحمل معه مناصفة تكاليف المعيشة .. أبدي صديقى ممانعة صورية ثم لم يلبث أن وافق .. ونزلنا لتناول وجبة من الفول والطعمية الساخنة .. لأول مرة منذ وطأت قدماى القاهرة أحس بشهية جيدة لتناول الطعام، وأشعر بنسائم هواء القاهرة يلفح وجهي وينعش نفسي .

.. ومن أحد أكشاك بيع السجائر بالشارع اتصلت ببيت خالي، وأبلغته بقصة مختلقة مفادها أنني قابلت أحد الأصدقاء في الشارع مصادفة، وأنني سأقضي بعض الوقت في ضيافته!!

.. ورغم ان القصة لم تكن مقنعة لكلينا إلا أن كلانا قد قبلها بارتياح من أزاح عن صدره ثقلاً.

***

كنت قد حزمت أمري على اكتشاف القاهرة المدينة التي سأعيش فيها أيام دراستي، ولم يكن هناك بد من أرمي نفسي بين أمواجها ، وقفزت إلى ذاكرتي عبارات من بعض ما كتبه الأستاذ محمد ثابت رائد أدب الرحلات في مصر والذي حاول الأستاذ أنيس منصور أن يقتفي أثره، لكن الأستاذ أنيس سقط في دوامة الادعاء وفقدان المصداقية بالخلط بين الحقائق والأكاذيب التي اختلقها، والمشاهدات الشخصية وما ادعاه لنفسه من المنقول عن تجارب الغير، .. وكان أهم ما قاله الأستاذ محمد ثابت :

"إن المدن لا تفضي بأسرارها إلا للصعاليك ."

لذا كان القرار أن أقتفي حذو الصعاليك في هتك أستار ما  تخفيه القاهرة من أسرار، كانت القاهرة بعد هزيمة 5 يونيو 1967 أشبة بـ "امرأة ثكلى" هدها الخطب؛.. ورسمت يد الزمن الخشنة أخاديد الوجع على ملامحها فاتشحت بأمارات "الحزن المقاوم" الذي يدفع إلى السخرية أكثر مما يثير التعاطف؛ فكانت مثل المهرة العرجاء في حلبة السباق تداري عجزها بعلو الصهيل!!؛ فاقيمت الحوائط الأسمنتية أمام أبواب البنايات، ووضعت الشرائط اللاصقة على زجاج النوافذ بعد طلائه باللون الأزرق، وكان على أبواب المباني الحكومية جنديا مدججاً بالسلاح متمترساً خلف حائط من أكياس الرمل، وقد كتبت على الحوائط  الشعارات التي صكها في خطاباته زعيم الهزائم الراحل جمال عبد الناصر من عينة : "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، و"ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة"، وفي المساء كانت شوارع القاهرة دائما تحت جناح إضاءة خافتة نتيجة طلاء مصابيح الشوارع باللون الأزرق أو غارقة في الظلام الدامس لتلف لمباتها وغياب الصيانة.. وكان المشهد برمته عبثياً .. وقد لخصت النكتة المصرية الحال في دعابة مفادها أن طائرة عملاقة من طراز فانتوم إسرائيلية قابلت طائرة مصرية صغيرة من طراز سخوى؛ فسألتها رايحة فين يا شاطرة ؟!؛ فأجابت الطائرة السخوى في رعب:"رايحة أسخ ."!!
كانت الصحافة مراقبة وخاضعة لسلطة الرقيب الحكومي، لكن الهمس الدائر في المجالس كان لا يخرج عن كونه أحاديث تعمق لروح الهزيمة، والسخرية من النظام الذي فقد هيبته، وانتشرت بين الناس المقولة التي تعكس فقدان الثقة في إعلام النظام :
 "خذ الكذبة من الإذاعة، واعرف الحقيقة من الإشاعة (الشائعة)" .
وقد انعكس هذا على سلوك المصريين بصفه عامة، وعلى القاهريين بصفة خاصة؛ فأصبح أغلب سكان القاهرة يتسمون بالعدوانية في التعامل مع الوافدين وتمثلت تلك الروح العدوانية في ظاهرة خطف "طواقي الفلاحين" وإهانة "عمائم الصعايدة"، والعدوان على مركبات النقل العام وتمزيق الكراسى، وتحطيم مصابيح الإضاءة، والإساءة إلى المباني الحكومية بكتابة عبارات تفتقد اللياقة ويغلب عليها طابع البذاءة ذات الاسقاطات الجنسية !!
وانتشرت على هياكل المركبات العبارات التي اسماها عالم الاجتماع د. سيد عويس "هتاف الصامتين" وكلها تحمل أنين الوجع من عينة:"هشتكيك لله ياللي ظالمني"، و"روح منك لله"، و" سيبها تعك .. وربك يفك"، و"أنا جيت أبيعك يا حنة .. كترت الأحزان"، و"يارب يرجع السبع .. سبع مثل عاداته، ويرجع الكلب .. كلب لرقدته على الكوم"، و"لو الزبادي يرجع حليب .. العدو يبقى حبيب".
كان الشارع القاهري يعج بالبنات والسيدات من مختلف الفئات العمرية اللاتي يرتدين الملابس الحاسرة من موضات "الميني جيب" و"ميكروجيب" و"الشورت الساخن Hot Short" التي تكشف عن السيقان وتعري الصدور والبنطلونات الضيقة التي تبين تفاصيل العورات وخطوط الملابس الداخلية أكثر مما تغطي وتخفي، ولم يعد بالإمكان التفرقة بالملبس بين الراقصة وأستاذة الجامعة !!
.. واختفى الشباب من الشارع، ولم يعد يُرى في الشارع سوى الرجال والشيوخ الذين تجاوزوا سن التجنيد الإجباري أو الذين تم إعفائهم منه لأسباب طبية أو اجتماعية أو الصغار الذين لم يبلغوها بعد، ولم يعد يُرى في الشارع من الشباب الأسوياء سوى بعض الجنود الذين يقضون أيام أجازتهم أو العائدون من أجازاتهم في طريقهم إلى وحداتهم .
كان صغار الشباب الذين لم يبلغوا سن التجنيد والذين كان أغلبهم من الطلبة يطلقون ويطيلون شعورهم ويرتدون القمصان المشجرة والسراويل الضيقة ذات النهايات الطرفية الفضفاضة في تقليد ساذج وجاهل للحركات الاحتجاجية الشبابية في أوربا وخاصة فرنسا التي قام فيها الشباب بالاحتجاج على حكومة ديجول والمطالبة باحترام اللغة الفرنسية وجعل اللغة فوق الكلام، واحترام آداب المائدة الفرنسية وإغلاق المطاعم التي لا تلتزم بها أو التي تحمل أسماء لافتاتها غير فرنسية، وفي انجلترا كان احتجاج الشباب من خلال الاحتجاجات في الجامعات البريطانية، ومن خلال ظهور فريق البيتلز (الخنافس Beetles) للتعبير عن رفض سياسات الحكومة، وفي أمريكا كانت تداعيات الهزيمة في فيتنام قد بدأت تلقي بظلالها الكئيبة على المجتمع الأمريكي؛ فظهرت الاحتجاجات الطلابية المناهضة لحرب فيتنام من جامعة ويسكونسن بماديسون وامتدت إلى سائر الجامعات الأمريكية، وأصبح العائدون من فيتنام يشكلون عبئاً على المجتمع الأمريكي بعد أن أصبح من الصعب دمجهم في المجتمع الأمريكي مرة أخرى، وظهرت حركة الهيبز Hippies التي أدعى زعيمها تشارلز ميللر مانسون (ابن الإنسان) أن روح المسيح قد حلت في جسده وأن إنجيل جديد قد أُنزل عليه ينسخ كل ما جاء في الأناجيل المتعارف عليها، ويدعو للعودة إلى الطبيعة والحياة البدائية، ونبذ كل وسائل التمدن؛ فسكنت تلك الجماعة الغابات، واستبدلت الصلوات بالرقص الماجن والغناء المحموم بعد تدخين مخدر الماريجوانا وممارسة الجنس الجماعي !!

وظهرت الجماعات التي تدعوا للسلام وتناهض الحرب، وظهرت جماعات المعارضة التي راحت تدعو لمحاسبة المسئولين الذين زجوا بالشباب الأمريكي في أتون فيتنام، وضللوا الرأي العام الأمريكي بالأكاذيب التي فضحتها أعداد القتلى والمشوهين والمرضى بأمراض نفسية وعصبية وأمراض يصعب تصنيفها تحت أمراض الجسد أو النفس أو العقل وهو ما أطلق عليه (أعراض فيتنام)!!
.. كما بدأت تظهر على العائدين من فيتنام أعراض عدم التكيف مع المجتمع أو تصديق الإعلام الأمريكي أو الثقة في القادة الأمريكيين وبدأت تظهر عليهم علامات الهياج العصبي وإمارات العدوانية ضد الغير ممثلة في إيذاء الغير ومحاولة تدميره، وضد الذات ممثلة في العزوف عن الحياة والاكتئاب واعتزال المجتمع والرغبة في الانتحار !!
.. لكن احتجاج الشباب المصري كان احتجاجً أبلة لشباب تافهة ولد من رحم الخرافة حكايات الفخار الوطني المتوارث، ورضع من ثدي الأكاذيب حواديت عظمة الماضي التي ألهته عن انحطاط الحاضر، وكانت مظاهر الاحتجاج موجهه إلى اللاشئ .
.. ونتيجة لغياب شباب الرجال من المجندين عن القاهرة انتشر الفجور، واستشرت الدعارة وسادت حالة من الفسق شأن كل البلاد التي تعيش حالة الحرب، وقد قوبلت موجة الانحلال هذه بأوامر من القيادة السياسية بالتسامح المفرط معها من قبل بوليس الأداب!!
.. وانتشرت بين بعض الشباب ظاهرة تفريغ الكبت الجنسي بالتحرش بالنساء في زحام المواصلات العامة، وصارت تلك الظاهرة المرضية عرضا كاشفاً لحالة الهزيمة ظهر واضحاً في ممارسات جيل من الشباب لا يستطيع إقامة علاقة شرعية في إطار الزواج أو إقامة علاقة آثمة خارجه عنه لمواقعة أنثى برضاها !!
وسادت ظاهرة تعاطي المخدرات بشكل غير مسبوق، وخاصة مخدر "الحشيش" الذي كان يتم إغراق الأسواق به برعاية بعض الأجهزة السيادية التي كانت تشارك في تجارته وتسهل عمليات تهريبه بغرض تدبير بعض المكاسب المالية الخاصة بعملياتها، وتغييب وعي الجماهير خاصة في أيام الخميس الأول من كل شهر حين كانت تقام كانت تقام الحفلة الشهرية للمطربة أم كلثوم .
وأصبح مألوفا أن تجد من يقف أمام أحد أكشاك الشوارع ليحتسي زجاجة من شراب مسكر البيرة حيث كان مسموحاً بتعاطيها مع رخص ثمنها؛ فقد كان ثمن الزجاجة ثلاث قروش.
ورغم أن الحكومة قد أخذت على عاتقها تأمين الاحتياجات اليومية للمواطن من الزيت والسكر وشاي التموين المغشوش والمخلوط بنشارة الخشب التي تمت صباغتها بلون الشاي؛ فقد أصبح مألوفا أن تمتد طوابير البشر لعشرات الأمتار أمام المجمعات الإستهلاكية للحصول على دجاجة مجمدة أو كيلو من اللحم المستورد أو كيلو من السمك الروسي !!
.. كانت القاهرة .. مدينة الألف مأذنة .. وحاضرة الألف عام تعاني عضال داء ينخر في عظامها، وينهش لحمها لكنها كانت تحاول الإخفاء الساذج لأعراضه !!
***
.. بدأت رحلة "التصعلك" في اليوم التالي بزيارة لحرم الجامعة بدأتها بمبنى كلية الأداب .. شاهدت مدرجات الدراسة، توقفت أمام ضخامة وأناقة مدرج 78 الذي أطلقوا عليه اسم الدعيّ طه حسين الذي لم يحصل على أى إجازة علمية من أي جامعة مصرية أو غير مصرية ولم يحصل على أي شهادة تؤهله للالتحاق بها، ولم يكن سوى أحد أحصنة طروادة لتنفيذ المخطط الاستشراقي لهدم قلاع الشرق وحضارته المتمثلة في القرآن الكريم، والكعبة المعظمة، والأزهر الشريف، .. وتوقفت أيضا أمام المدرج المقابل والمماثل له مدرج 74 الذي أطلق عليه اسم  الطالب عمر شاهين أحد شهداء الطلاب الفدائيين .. ولكني لم أرى فيه سوى أنه أحد قتلى "السذاجة الوطنية" في معارك الكفاح المسلح ضد الاحتلال الانجليزي في التل الكبير في سنة 1951 بعد إلغاء معاهدة 1936، والتي أشعلها فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية في صفقة مشبوهة مع الأمريكان للدفع به إلى رئاسة حزب الوفد بعد انتهاء الدور التاريخي لمصطفى النحاس بعد إلغاء معاهدة 1936، كان سراج الدين قد اتفق مع الأمريكان على مساعدتهم في وراثة الإمبراطورية البريطانية الغاربة، والاعتراف بدولة إسرائيل وحماية حدودها !!
كان فؤاد باشا سراج الدين أحد "عرائس المسرح" التي تستخدمها C.I.A. في تشتيت الانتباه عما يجري التدبير له في الخفاء من خلال الاتصال بضباط من الجيش المنتمين إلى تنظيمات احترفت القتل وأهمها تنظيم "الضباط الأحرار" الذي تم اجتزائه من تنظيمى "الحرس الحديدي"، و "فداء الملك" لصالح محمد حيدر باشا ضابط البوليس الذي تولى أمر الجيش وكان يلقى معارضة وسخرية من الضباط المحترفين؛ فقام برعاية "الضباط الأحرار" ليكونوا عيونه ورجالة في صفوف الجيش !!
كان الأمريكان يقدمون الوعود لسراج الدين التي يسيل لها لعابه بينما الأحداث تجري في اتجاه إحداث إنقلاب عسكري تقوده السفارة الأمريكية بالقاهرة عبر قناة "ليكلاند مندوب C.I.A.  ـ الصحفي محمد حسنين هيكل" .. كانت الانقلابات العسكرية إبداعاً أمريكيا خالصاً .. كان من أوائل ضحايا ذلك الإنقلاب عملاء أمريكيين منهم محمد حيدر باشا، فؤاد باشا سراج الدين الذين تمت محاكمته أمام "محكمة الثورة"، وعائلة أبو الفتح وأخرين  .
وعرفت مكان شئون الطلاب، وسائر مكاتب تقديم الخدمات، وتعرفت على أماكن الكليات المختلفة التي يضمها حرم الجامعة، توقفت طويلا أمام تمثال الجامعة الذي أبدعه المثال محمود مختار، كان التمثال يحمل وجه فلاحة مصرية تمد يدها بإكليل من أغصان الشجر، وعلى جانبي التمثال جناحي أمون، وعلى قاعدة التمثال شعارات كليات الجامعة، وكلها تحمل السمت الفرعوني .

وتأملت النصب التذكاري لشهداء طلبة جامعة القاهرة أمام باب الجامعة الرئيسي الذي ابدعه الفنان فتحي محمود عام 1955 تخليداً لذكرى نضال شهداء طلاب جامعة القاهرة في مظاهرات تعديل الدستور عام 1935، وشهداء الفدائيين من الطلاب في الكفاح المسلح ضد الاحتلال الانجليزي في مدن القناة والتل الكبير 1951!!
كان التمثال لا يحمل أي ملمح جمالي؛ فقد كان عبارة عن عمود من الجرانيت تعلوه زهرة اللوتس !!
.. وقضيت بعض الوقت أتجول في ممرات حديقة الأورمان .. وتوقفت طويلاً أمام الأشجار العتيقة، وما تحمله جذوعها من رسائل وعهود العشاق .. وتأملت الممرات الفسيفسائية والبحيرات الصناعية بمياهها الصافية الرقراقة والكباري الخشبية من فوقها بما تحمله من أناقة وجمال وإبدع ..
.. ولتجنب التعامل مع آفات القاهريين التي بدت أعراضها في سلوكيات معطوبة قررت ألا أسأل أحد المارة عن الأماكن او وسائل الوصول إليها (الأتوبيس ـ الترام ـ التروللي باس)، وقررت أن أقصر ذلك على نظار محطات الأتوبيسات وشرطيي الدركات بمقتضى وظائفهم، لكن خاب ظني في الإفادة من كلا الفئتين من حثالة موظفي الخدمة العامة !!؛ فعندما سألت أحد نظار محطات الأتوبيسات عن رقم اتوبيس يذهب إلى جهة أنتوي الذهاب إليها أجابني في ضيق، وشكرته وأنا أهم بالإنصراف سمعته يقول لزميله :
 
ـ أهى الأرياف بتحدف علينا بلاوي !!
 
.. لم أرغب في الدخول في نقاش عقيم مع موظف سافل، لكني لم أستطع أن أخفي علامات الضيق التي بدت على ملامحي .. في تلك اللحظة اقترب مني شاب كان يختلس النظر لما يحدث ويسترق السمع لما يدور، كانت ملامحه تشي ولهجته وهندامه وقصة شعره ينبئون بأنه صعيدي، وأشار لي بإصبعه إلى أحد الأكشاك وقال :
 
ـ هناك يباع كتيب بعنوان : "دليل وسائل النقل العام بالقاهرة ـ الأتوبيس ـ الترام ـ التروللي باس " يكفيك التعامل مع تلك السخافات والسفالات .
 
.. وذهبت إلى الكشك واشتريت الكتيب بقرشين صاغ، كان الكتيب في حجم النوتة الصغيرة مقاس 7 سم × 10 سم وعدد صفحاتها 80 صفحة .. أبدى البائع تعاونا معي تحت تأثير رغبته في بيع بضاعته؛ فعرض علىّ خريطة لشوارع مثلت وسط البلد برؤوسه الثلاث (ميدان التحرير ـ ميدان رمسيس ـ ميدان العتبة) .. كان ثمن الخريطة قرش صاغ؛ ولإغرائي بالشراء راح البائع يشرح لى كيفية التعامل مع رموزها .
 
.. هكذا استطعت بثلاث قروش فقط تجنبت التعامل مع نطاعات بعض القاهريين ممثلة في سفالة بعض نظارالمحطات وغباء شرطيي الدرك.. كانت إجابة شرطي الدرك على تساؤلاتي دائما لا تتغير : "أمشي على طول، وأسأل!!".
كانت تليفونات الشرطة على نواصي وتقاطعات الشوارع دائما معطلة أو لا ترد !!
***
في اليوم الثالث ذهبت إلى حرم المدينة الجامعية لجامعة القاهرة في منطقة "بين السرايات" وهي منطقة عشوائية لا تحمل سمة واحدة مما يحمله اسمها، .. وكم يحمل بريق الأسماء من الزيف الكثير!! .. دخلت إلى المدينة الجامعية حيث من المفترض أن أقيم فيها، وتعرفت على نمط الإقامة والإعاشة، .. وتفقدت غرف السكنى وقاعة تناول الطعام ومطبخ طهوه، والملاعب والحدائق .. كان نظام إسكان الطلاب وإعاشتهم أحد أشكال محاولات نظام يوليو 1952 لرشوة الطلاب الفقراء؛ بدليل أن الرئيس جمال عبد الناصر بعد مظاهرات الطلبة في فبراير 1968 قد قرر تخفيض رسوم الإقامة في المدن الجامعية من 7,5 جنيه إلى 5 جنيهات في الشهر، وزيادة مخصصات بنك الطلبة من مليون  جنيه إلى ثلاثة ملايين جنيه .
 
كان الغرض الحصول على تأييد الطلبة من خلال إحداث بعض الاصلاحات التعليمية، وفي نفس الوقت تحقيق إجراءات السيطرة التنظيمية وإنجاح أسلوب التلقين السياسي، وجعل قطاع واسع من الطلبة رهن المراقبة الدائمة، وتحت السيطرة الكافية.  
 
بعد الانتهاء من تفقد المدينة الجامعية.. ذهبت في نزهة في حديقة الحيوان .. تجولت في ممراتها وتوقفت أمام أقفاص الحيوانات، وجلست على مقعد أمام إحدى بحيرات البط البري، وناديت أحد باعة السميذ واِشتريت بثلاث قروش كعكة وبيضة وقطعة من الجبن الأبيض، ومنحني البائع لفافة مجانية صغيرة بها قليل من الملح وبعض التوابل .. كانت شهيتي جيدة وكان الطعام لذيذاً، بعد قليل جاء بائع الشاى؛ فاشتريت كوباً بقرش صاغ .
أمام الباب الرئيسي  لحديقة الحيوان توقفت طويلاً أمام تمثال "نهضة مصر" من إبداع الفنان محمود مختار .. استرعى انتباهي ضخامة التمثال ودقة الصنعة وصلابة مادته ولمعانها، لكني لم أجد في ملامح التمثال ما يحمل معني النهضة !!؛ كان التمثال يجسد فلاحة مصرية بملابسها التقليدية تضع يدها فوق رأس نسخة صغيرة من تمثال أبي الهول .
كان ما يتم تداوله وتلقينه لنا في كتب "التذوق الفني" المدرسية أن الفنان محمود مختار هو أحد أعمدة المشروع الحضاري المصري المزعوم الذي بدأت إرهاصاته مع فاعليات ثورة 1919 وصدور دستور 1923 هو، وسيد درويش في الموسيقى، ود. محمد حسين هيكل في فن الرواية .. كان هؤلاء جميعاً من المنتمين للماسون، كان سعد زغلول زعيم الثورة يشغل موقع أستاذ أعظم في المحفل الماسوني ، وبعد نفيه راحت المحافل الماسونية تطالب بعودته والعفو عنه ليس بوصفه زعيماً وطنياً، لكن باعتباره عنصراً ماسونياً !!.
.. بدأ إزاحة الستار عن تمثال نهضة مصر في 20 مايو سنة 1928 في عهد رئيس الوزراء عبد الخالق باشا ثروت (ماسوني)، وكان الاتجاه الماسوني آنذاك هو دفع مصر إلى واجهة الحضارة الإنسانية، وتفسير الأشياء كلها تفسيراً فرعونياً .
كان حالة من الصخب قد بدأت حول إنشاء التمثال، ودعمت الحكومة مشروع التمثال بـ 2000 جنية، وفتحت باب الاكتتاب في إنشائه بمبلغ 6500 جنية، ولعل أطرف القصص التى تداولتها الصحف أنذاك هي قصة فلاحة مصرية تدعى أم محمد باعت عشرة بيضات بقرش صاغ، وتبرعت به مساهمة منها في إنشاء التمثال !!
وبعد موت سعد زغلول تم إنشاء تمثالين له وضع أحداهما في القاهرة عند مدخل كوبري قصر النيل من ناحية الجيزة والثاني بمحطة الرمل بالأسكندرية .
كان عبد الخالق باشا ثروت (ماسوني) هو الذي أوعز إلى المهندس عثمان محرم بإنشاء ضريح سعد زغلول بمنطقة السيدة زينب على شكل معبد فرعوني في إطار دعم الفكر الماسوني!!
في اليوم الرابع مضيت في زيارة منطقة الأهرامات، واسترقت السمع إلى ما يقوله "الترجمان" الأمي والذي لا يختلف كثيراً عما يقوله المرشد السياحي الدارس فكلاهما يمزج الخرافة بالتاريخ بهدف الإثارة والتشويق وتحلية البضاعة في عيون "زائر الصدفة"، وكان كلاهما لا يخجل من إلباس السخرة ثوب البهاء باعتبارهــا "صانعة الحضارة"  و "يد التاريخ" .. فكلاهما يتحدث كثيراً عن شموخ الأهرامات وعظمة الفراعين؛ لكنهم لا يأتون ذكراً لمقابر العبيد "بناة الأهرامات"، والتي تقع على بعد 500 متر من الأهرامات في سراديب حفرت في الأرض لعدة كيلومترات؛ لتكون مقابر للبؤساء الذين شيدوا الأهرامات على مدى مائة وثلاثين عاماً، حملوا خلالها ثمانمائة مليون صخرة تزن الواحدة منها طنين ـ تقريباً ـ جاءوا بها من أسوان إلى حيث الجيزة الآن (980 كيلومترا( ليشيدوا تسعة أهرامات، ستة صغيرة وثلاثة كبيرة؛ لتصبح فيما بعد صروحاً تذكارية للفراعين؛ حيث لم يثبت حتى الآن أن الأهرامات استعملت كمقابر حسبما شاع في عهود مضت 
 !!.
.. وتتابعت الأيام وتوالت جولات الإبحار في جنبات المدينة الحبلى بالأحداث؛ فأمام مسجد السيدة زينب رضي الله عنها وأرضاها باعت لي بائعة البخور كيس من نشارة الخشب زاعمة زوراً وغشاً أنه بخور هندي!!
 
في ساحة المسجد صليت كعتين، واكتشفت اختفاء حذائي، وعندما سألت خادم المسجد، أشار إلى لافتة ورقية معلقة على أحد الأعمدة مفادها:
 
"ضع حذائك أمامك كي لا يسرقه اللصوص"

ورغم أن الأمر يشكل لي أزمة غير متوقعة إلا أنني استغرقت في خواطري، وكان الخاطر  الطاغي على عقلي وفكري هو : كيف لا يأمن الرجل على نعله في مسجد في بلد من المفترض كونه بلد مسلماً !!
وتسللت إلى شفتي في خجل إبتسامة شاحبة عندما تذكرت أن النحاس باشا تعرض لمثل هذا الموقف، وكان مثار سخرية رسامي الكاركتير في صحف المعارضة بل وسخرية أقطاب من الوفد ذاته؛ فقد كان مصطفى باشا النحاس دائم الداعابة مع القطب الوفدي المسيحي مكرم عبيد، وذات مرة سأله رايح فين يا مكرم فأجابه :

ـ رايح الكنيسة يا باشا.
فقال النحاس باشا :
ـ مش هتسلم بقى يا واد يا مكرم عشان يبقى طريقنا واحد؟!

ورد مكرم :

ـ أسلم !!؛ عشان أروح أصلي في الجامع يسرقوا حذائي زي ناس (يقصد النحاس باشا) .. لأ، يا باشا .. أنا كدة كويس .. وضحك النحاس باشا وضحك مرافقوه، وصارت نكته مفادها أن مكرم باشا عبيد المحامي القبطي الذى يحفظ القرآن ويستشهد بآياته في مرافعاته لا يريد أن يسلم لخوفه على حذائه من السرقة في المسجد .
.. وكان الخاطر الثاني: كيف تصدر إدارة المسجد تعليماتها للمصليين أن يضعوا أحذيتهم أمامهم، وأن ينشغلوا عن الصلاة بحراستها!!
وعرفت لماذا تم استحداث وظائف بعينها في التاريخ المصري ومنها وظيفة البامشقدار (حامل حذاء الوالي العثماني) الذي كان يتولي حفظ حذاء الوالي عند دخوله إلى المسجد للصلاة، والتي تطورت لتأخذ مسمى " الشماشرجي"، وبعد ذلك " الياور"، كان اللواء فوزي عبد الحافظ سكرتير الرئيس السادات النموذج الصارخ في زمننا للموظف حامل الحذاء !!
وكان الخاطر الثالث الذي كان يشكل هماً، وهو كيفية الخروج من المسجد والسير حافياً!! لكن سرعان ما جاء الحل سمجاً وكاشفاً عن الوجه الوقح لتلك المدينة .. لكنه حل أفضل بكثير من السير حافياً!!؛ فقد أحضر لي خادم المسجد قبقاباً خشبياً !!
لبست القبقاب، وسرت في الشارع.. كان المشهد هزلياً، وذهبت إلى فرع باتا القريب من المسجد واشتريت حذاء بـ 75 قرشاً .. كان الحذاء متيناً، ولم يكن أنيقاً ولا مريحاً !!
لم يكن الأمر مختلفاً كثيراً في مسجد الإمام الحسين عنه في مسجد السيدة زينب؛ فقد أصر أحد المتنطعين في إلحاح سمج  أن يمسح كفي بما زعم أنه طيب المسك، وطلب قرشاً مقابل ذلك، وامتنعت عن إعطائه وراح يسب ويلعن في بذاءة بما لا يتفق مع روح المكان !!
قدم لي أحد السقاة كوب ماء من قربة زاعماً أنها بركة من سيدنا الحسين، ولم أستطع أن أتفهم أي بركة تأتي من شربة ماء من قربة قذرة، وما علاقة ذلك الماء بسيدنا الحسين !!
.. كان صخب الجنرال على يملأ المكان، والجنرال على هو أشهر المجاذيب في المكان، كان يرتدي جاكت كاكي قذر تم تزيينه بأغطية زجاجات المياه الغازية من الصفيح، ويحمل سيفاً خشبياً يصارع به في الهواء عدواً متوهماً!!
كان الموقف في كنيسة سانت تريز لا يختلف كثيراً عن الموقف في مساجد الأولياء .. كان بكاء المظلومين الذين أتوا ليشعلوا الشموع بوضعها بالمقلوب ورأسها إلى أسفل وسط صلاة للدعاء على من ظلموهم، وإضاءة الشموع بوضعها المعدول وسط الزغاريد امتنانا لبركة القديسين بتحقق الأمنيات !!، وإضاءة الشموع بغرض التطهر مع صلاة أن يجعل الرب ظلمة النفس نورًا.
كان مشهد المظلومين في سانت تريز لا يختلف كثيراً عن مشهد المكلومين عند مقام أم العواجز سيدتنا الطاهرة السيدة زينب والموجعين على أعتاب ولي النعم سيدنا الحسين.
***

بعد تلك الجولات أيقنت أنني في مدينة الثقافات المتعددة والمختلطة والتناقضات الكثيرة .. إنها "ثقافة البزرميط" وكلمة " بزرميط bizarre " وهى كلمة فرنسية الأصل بمعنى شاذ أو غريب الأطوار أو غير متناسق أو مفتقد التجانس، وتحولت الكلمة في النطق العامي المصري إلى "بزرميط" لتدل على نفس المعنى!!
 
.. و"ثقافة البزرميط" التي يطلق عليها البعض تأدباً سبيكة من رقائق الحضارات (الفرعونية ـ اليونانية الرومانية ـ القبطية ـ الإسلامية)، والخرافات والأساطير والأباطيل، وهو ما انعكس على فكر أهل البلد وظهر في تناقض الأمثال الشعبية المصرية من النقيض إلى النقيض، والتي يفيض بعضها بالخسة والنذالة ، ومنها على سبيل المثال :

" إذا قابلك الأعمى دبه
وخذ اللي في عبه
هوا أنت أرحم عليه من ربه !!"

.. والغرباء في القاهرة عميان حتى لو كانوا مبصرين؛ فالغريب في متاهة الغربة أعمى، ولو كان بصيراً؛ وهو ما جعل أكثرهم ضحايا للنصابين والمحتالين والنشالين واللصوص والغشاشين في "مدينة البزرميط".

.. والأمثال الشعبية المصرية هى الصوت المعبر عن أفكار ورؤية الكبراء والمهمشين والبسطاء، وهى خلاصة تجاربه الحياتية وخبراته المتراكمة على مر الزمان، والتى تعبر بصدق عن المزاج الشعبى والأحداث المتلاحقة والمتشابكة مع الواقع السياسى والثقافى والاجتماعى، وهى الدستور الشعبى للمصريين ومرآة تجاربه التاريخية.

وتذكرت ما ذكره الطبرى فى تاريخه عن وصف عمرو ابن العاص للمصريين قائلاً:

"أرضها ذهب.. ونيلها عجب.. وخيرها جلب. . ونساؤها لعب.. ومالها رغب.. وفى أهلها صخب.. وطاعتهم رهب.. وسلامهم شغب.. وحروبهم حرب، وهم مع من غلب".

.. وبدأت استرجع تجربتي المحدودة في مدينة "البزرميط"؛ .. فقد علمتني شوارعها، وعلمني رعاعها أهم درس  .. كان الدرس الذي تعلمته ووعيته جيداً وهو ألا أثق في أحد؛ وألا أسمح لأحد بأن يفرض إرادته على، وأن صديقي الوحيد في هذه المدينة هو أنا، وهذا يستلزم ضرورة الاعتماد على ذاتي، وأن التمس إلى ذلك كل ما يتاح لي من الوسائل، ولا أنتظر مساعدة من أحد، وأن يكون صوتي من دماغي؛ لأنني في مدينة بلا قلب يعشش الفساد المتعفن في سائر أرجائها وأركانها وجنباتها، وأن مأذنها أبواق جوفاء تنطق بنداء الحق ولا تعي ولا تعقل ولا تفهم له معنى، وإذا فهمت لا تعمل بما فهمت!!، وأن منابر مساجدها شاهدة زور على الوطن والتاريخ وتخون الله ورسوله، وتذكرت حادثة فضيلة الشيخ أحمد شاكر (يرحمه الله) عندما نافق أحد خطباء الجامع الأزهر الملك فؤاد بعد مقابلة له مع الدعيّ طه حسين وإصدار الأمر الملكي برعايته وزيادة راتبه وتدبير مرافق له يصحبه في تنقلاته والقراءة له على نفقة الجامعة، فقال خطيب الأزهر:

"قابل جلالة الملك فؤاد الدكتور طه حسين وشمله بالعطف الملكي الشريف، ولم يعبس، ولم يتولى ." .

بعد صلاة الجمعة قام فضيلة الشيخ محمد شاكر (يرحمه الله) في الناس خطيبا وقال :

"أيها الناس أعيدوا صلاتكم؛ فقد صليتم خلف إمام كافر." .

.. وتحمل العالم الجليل فضيلة الشيخ محمد شاكر (يرحمه الله) عاقبة موقفه، وانتهى الأمر بالرجل مكفوفا يكسب قوت يومه من حراسة نعال المصلين مقابل ما يجودون به عند باب المزينين بالجامع الأزهر، .. ولم يتخذ الأزهر ما يحفظ للعالم الجليل كرامتة .. العالم الجليل الذي غضب لله ورسوله، وقال قولة حق في مواجهة زلاقة لسان خطيب فاسد !!

طبق الملك فؤاد على الشيخ الجليل نفس العقوبة التي سنها جده محمد على باشا لعقوبة الراسبين من الطلاب الذين أُرسلوا في بعثات علمية إلى أوربا؛ فانشغلوا بالملذات والشهوات ومطاردة العاهرات عن طلب العلم، وتوالت مرات رسوبهم وعادوا إلى الوطن صفر اليدين من كل شئ !!

ولما عرض أمر هؤلاء الراسبين على محمد على باشا أمر بأن يجلسوا يومياً وبلا انقطاع أمام الجامع الأزهر ليمسحوا نعال طلاب العلم ويحرسوها من بعد صلاة الفجر حتى بعد صلاة العصر لإشعارهم بالمهانة عقاباً لهم على تفريطهم في طلب العلم، وجعلهم عبرة لمن تسول له نفسه من الطلاب أن يحذو حذوهم .

وتذكرت أيضا ما حدث لفضيلة الشيخ محمد المجدوب إمام وخطيب أحد المساجد الصغيرة المجاورة للجامع الأزهر عندما أبدى استياءه من دخول ضباط انقلاب 23 يوليو 1952 إلى المساجد وسط صخب العامة وفلاشات كاميرات مصوري الصحف .. وزاد من الأمر سوءا أن أحد القراء كان يقرأ من سورة النمل: "وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ"ـ النمل آية 6 ـ .. وأخد القارئ يعيد كلمة "ولكم فيها جمال" بقراءات مختلفة أكثر من عشر مرات، ولم يتوقف حتى أشار إليه البكباشى جمال عبد الناصر مبتسما بما يعنى أن رسالته قد وصلت!!

.. لم يعجب الأمر فضيلة الشيخ محمد المجدوب؛ فصعد المنبر، وأسهب فى نقده؛ فقُبض عليه وتم هتك عرضه في محبسه؛ ليخرج بعد أيام من سجنه مشلولاً لا يكف عن البكاء حتى مات، ولم يفض بسره إلا للشيخ الباقورى الذى نقل ما حدث للشيخ الجليل للبكباشى جمال عبد الناصر الذى علق قائلاً :

"هما عملوها الأشقياء .. أحسن عشان يبطل كلام ."

لم يحرك أحد من مشايخ السلطة والسلطان ساكناً أو ينبث ببنت شفة في مدينة "البزرميط" !!.



الفصل الثاني :

ـــــــــــــــــــــ

.. الجامعة !!



.. وبدأت الدراسة في أداب القاهرة في الأسبوع الأول من أكتوبر 1972، في اليوم الأول أنهيت إجراءات إقامتي  في المدينة الجامعية .. حيث تم إسكاني في غرفة صغيرة وأنيقة .

وسكنت غرفة صغيرة وأنيقة بالمدينة الجامعية
 
وبدأت أنتظم في حضور الدروس .. كانت الأحلام مخملية ناعمة وزاهية الألوان، وكان المحاضرون بعد كلمة ترحيب قصيرة بالإنضمام إلى أسرة الجامعة يحاولون التحليق بنا في أجواء تقطع علاقاتنا بماضينا، وتضعنا على أعتاب مرحلة تحمل في طياتها توهمات عن أجواء لا نهائية من علم جاد وصدق منجي وسحر شافي من أوجاعنا المزمنة.. كان المحاضرون من الجيل الثاني للأستاذة في جامعة القاهرة .. ذلك الجيل الذي درس في جامعات أوربا وأغلبهم من الذين تم تسويقهم إعلاميا مثل د. رشاد رشدي أستاذ الأدب الإنجليزي، ود. سهير القلماوي أستاذ الأدب العربي، ود. عبد الحميد يونس أستاذ الأدب الشعبي، ود. سعيد عاشور أستاذ التاريخ الوسيط، ود. أحمد أبوزيد أستاذ اللغة اللاتينية .
وكان الملاحظة الأولى على هؤلاء الأساتذة من الجيل الثاني من أساتذة جامعة القاهرة :
أن أقدامهم لم تكن قد ترسخت بعد في مجال البحث العلمي، فسقطوا في شباك  الترجمة عن الأوربيين؛ ووقعوا في خطأ الترجمة والنقل غير الواعي، ولم يتثنى لهم أن يشقوا لأنفسهم مناهج في البحث تنافي المناهج العنصرية للإستشراق التي هيمنت على مناج البحث في أداب القاهرة وحذى حذوهم المستشرقين بالتبني  Affiliation ووكلاء الاستشراق من طبقة العملاء Comprador الذين شكلوا الجيل الأول من المدرسين!!

وكانت الملاحظة الثانية على هؤلاء الأساتذة من الجيل الثاني من أساتذة جامعة القاهرة :
أن هؤلاء الأساتذة من الجيل الثاني من أساتذة جامعة القاهرة لم يستطيعوا الخروج من أسر التقسيمات الأوربية للتاريخ؛ بما أوقعهم في تناقضات وأخطاء تاريخية أضرت بقضايانا الوطنية، فقد استعمل د. سعيد عاشور مصطلح "صليبي" و"حملة صليبية " في تناوله للحدث الذي درج أسلافهم علي معالجتهم تحت مسمى " الفرنج " و"حركة الفرنج" .. ووجة الخطورة أنه عندما يستخدم فى اللغة العربية مصطلح "صليبي" و"حملة صليبية" فإنه يوحي بأن الحركة كانت دينية ترتبط بالصليب رمز الميسحية، ولا تضعها في إطارها الصحيح باعتبارة مغامرة استيطانية غاشمة، وأن استخدام هذا المصطلح يسئ إلي إخواننا النصارى الشرقيين الذين عانوا مثل إخوانهم المسلمين من وحشية الفرنج وعدوانهم.

.. والحقيقة أنه لم يحدث ان ظهرت كلمة صليبى فى نعوت الحملة  وكان من يشارك فى الحملة يوصفون بأنهم "حجاج" وكان يطلق على الحملة "رحلة الحج "

وفي كتابات المؤرخين اللاتين الذين عاصروا تلك الحملة في أطوارها الأولى قد خلت عناوين مؤلفاتهم من ذكر كلمة " الصليبين " أو "الحملة الصليبية " ، وأنما دارت حول "الحملة"، و"ججاج بيت المقدس" و"الفرنج" وأن الكلمة الأنجليزية Crusade لم تستخدم سوى فى القرن الثامن عشر فقط ، وبعد أن كان البحث التاريخي في تلك الحروب قد أمضى شوطاً طويلاً منذ بدأ توماس فوللر Tomas Fuller الإنجليزى في القرن السابع عشر أول دراسة باللغة الإنجليزية القديمة حول حروب أوربا في الشرق الإسلامي بعنوان : "تاريخ الحرب المقدسة History Of The Holy Ware"، ومن الملاحظ أنه استخدم عبارة "الحرب المقدسة".

تخلت الحكايات عن الحقيقة التاريخية لصالح التعويض النفسي لتلك الظاهرة التي كانت تمثل في حينها حلماً من أحلام الفقراء، ولعل هذا ما جعل مؤرخا مثل نورمان كانتور يقرر أن الحادث الوحيد الذي يعرفة الخريج العادي من الجامعات الأمريكية في العصور الوسطى هو "حملة الرعاع" التي بدأت أحداثها سنة 1095 م والتي يرسم لها صورة براقة آخاذة، وهذا الموقف ينسحب على الفرد العادي في الغرب.

.. وفي المراجع العربية التى تناولت تلك الحروب نجد أن المؤرخين المسلمين الذين عاصروها وكتبوا عنها مثل (ابن القلانسي وابن الأثير وابن العديم وابن واصل وابن شداد والعماد الأصفهاني والمقريزي وابن تغربردي وبدر الدين العيني وغيرهم) لم يستخدموا أبداً مصطلحات مثل"الصليبين" أو "الحملة الصليبية"، وأنما تكلموا عن تلك الغزوات بعبارات مثل "حركة الفرنج " لا يربطون بينها وبين المسيحية والصليب على أى نحو.

كما أن المؤرخ المسيحي وليم الصوري الذي ولد في سنة 1130 بعد سنوات قليلة من انتهاء تلك الحروب والذي تحدث عنها في مؤلفه بعنوان "تاريخ الأعمال التي تم إنجازها وراء البحار History Of Deed "Done Beyond The Sea ، ولم يأت ذكر للعقيدة أو الصليب في مؤلفه، وترجع أهمية مؤلف وليم الصوري لكونه مسيحي وأنه كان المشرف على ديوان الرسائل في بلاط مملكة بيت المقدس، وسفيرا للملك عموري في بلاط امانويل امبراطور بيزنطة إلى جانب شغله لمراكز دينية تدرج فيها حتى صار رئيس أساقفة صور .

كانت الملاحظة الثالثة على هؤلاء الأساتذة من الجيل الثاني من أساتذة جامعة القاهرة :
هى محاولة إخفاء ما يعانونه من الانحطاط العلمي في تجاويف حالة مرضية من الادعاء؛ فقد بدأ هؤلاء الأساتذة رحلتهم العلمية بعد فترة طويلة من توقف البحوث التاريخية في العالم العربي بسبب التخلف والركود الثقافي؛ مما جعلهم أسرى للإنبهار بالمناهج الأوربية بمختلف مدارسها !!

كانت د. سهير القلماوي تدرس لنا موضوعات متنافرة لا يربط بينها رابط يؤسس لبنية معرفية فكان الجزء الأول يعنى بـ "صعاليك الشعراء"، والجزء الثاني يعنى بـ "أدب الخوارج"، والجزء الثالث يعنى بـ "تاريخ الرواية العربية" والتي ذهبت فيها حد الشطط بادعاء أن جرجي زيدان مؤرخ الماسونية هو رائد فن الراوية واعتبرت رواياته بعنوان: "روايات تاريخ الإسلام" باكورة الإبداع الروائي العربي، وقد رفضت د. سهير القلماوي مناقشة فرضية أن جرجي زيدان ليس المؤلف الحقيقي لتلك السلسلة من الروايات، وأن المؤلف الحقيقي لها هو الأستاذ عبد السلام شهاب. وكانت تصر على اول نموذج مكتمل للرواية للرواية العربية تمثل في رواية :"زينب" التي كتبها محمد حسين هيكل في العشرينيات من القرن العشرين .

وأغفلت د. سهير القلماوي باب المناقشة حول رواية سليم البستاني بعنوان : "الهيام في جنان الشام" التي كتبها عام 1870م التي تعد أول رواية عربية قلبًا وقالبًا، ورواية خليل أفندي الخوري بعنوان :"وي.. إذن لست بإفرنجي"  من قبل راوية "زينب" بعقود قد تصل نصف القرن .

وعبرت د. سهير القلماوي بخفة ونعومة على الأشكال القديمة في الأدب العربي التي تنطوي على بنية سردية يحكيها راوٍ، وقوامها الخيال مثل:

"كليلة ودمنة"، ثم "ألف ليلة وليلة" والتي كانت موضوع اطروحتها لنيل درجة الدكتوراة، و"المقامات"، و"رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، و"حي بن يقظان" لآبن طفيل .

كانت د. سهير القلماوي ترسخ لفكرة مشبوهة، وهي أن التحديث وكل ما يتصل به جاء مع الحضور الغربي إلى الشرق.

ولم يكن د. أحمد أبوزيد أستاذ الأدب واللغة اللاتينية بعيداً عن تلك المنظومة المضللة التي تبناها طه حسين في كتابه :"مستقبل الثقافة في مصر"،  والتي أدعي فيه أن مصر أقرب إلى الثقافة الأوربية منها إلى ثقافة الشرق، وأن الأفضل لها الاندماج الثقافي في كيان الغرب !!

قمت بإجراء حوار مسجل مع الدكتور أحمد أبو زيد عن مستقبل الثقافة في مصر


كانت الحقيقة الغائبة عن عقلى كل من الدعيّ طه حسين، ود. أحمد أبوزيد أن الأوربيين لم يعرفوا شيئاً عن التراث اليوناني والروماني إلا من الترجمات العربية للموروث الثقافي لتلك الحضارات عبر المخطوطات التي وُجدت في الأندلس والمكتشافات الأثرية المصرية ، ومخطوطات عصر الإسكندرية خاصة بعد أن انقطع الأوربيون عن حقن تلك اللغات بماء الحياة والاقتصار على استخدامها في خدمة القداس الكنائسي، ودراسة التوارة في نسختها السبعينية!!

جعلنا أساتذتنا في آداب القاهرة أسرى نظريات هم أنفسهم لم يفهموها بعد أن انتزعوا تلك النظريات من سياقها، ولم يعرفوا دوافع الغرب لترويجها.. فكل ما حصلوا عليه من بعثات الغرب لسان معوج .. وزهرة حمراء معلقة في عروة الجاكت، ومنديل معطر في كمه .. كنا نقلد أفعال د. رشاد رشدي، وندعي أنها الرقي!! .. ورحنا نردد ورائه وندعي الفهم أن :"العمل الفني يعني ما يعنيه، ويعالج ما يعالجه 

The work of art means what it means and treats what it treats."

ولم يكن ذلك سوى تلخيص نظرية "الحداثة  Modernism"، وهى كلمة تعني ما ليس له قديم وليس له ارتباط بجذور أو موروث، وهى تختلف كليا عن معنى "التحديث "Update، وهى تعني تجديد القديم !!

والحداثة ثمرة للتنوير الغربي وهي في جوهرها قطيعة مع الموروث المعرفي، فالحداثة مشروع يبدأ بإقامة قطيعة معرفية وبالدرجة الأولى مع الموروث، وخاصة مع الموروث الديني ، لأن الحداثة تضع الطبيعة والتكنولوجيا محل الله.

ويصر الحداثيون على إيمانهم بفرضية شديدة السذاجة، وهى أن عملا فنيا قد يروق بطريقة ما للبشرية جمعاء مما يعني كونه خاليا من الملابسات السياسية الباعثة على الإنقسام !!

وهذا في حد ذاته أمر شديد الإستحالة؛ لذا كان أدعياء الحداثة يعمدون إلى دمج حوارات فلسفية ونظرية في ثنايا لغة ادبية منمقة تجعل النص مفتوحاً لشتى أنواع التفسيرات الملتبسة؛ لذا كان موقف بعد الحداثيين المبدئي هو التشكك في الإدعاء بوجود أي نوع من التفسير الجامع الشامل .

 كانت المحاضرات عن الحداثة والبنيوية ومقاربة النص وإنارة النص من داخله وإنارة النص من خارجه، وأن قراءة النص إعادة صياغة له وغيرها من البدع والخزعبلات التي أغرقت الكتابة في العتمة وأغرقتنا في حالة من التية والغموض المتعمد أو على الأصح "الغموض الإرهابي" فالنص شديد الغموضبما يصعب معه الإمساك بمعنى، وعندما كنا نفصح عن ذلك يتم وصمنا بالحمق وعدم الفهم وأن معارفنا قاصرة؛ لذا كان الغموض إرهاباً ، وكنا لا  نتورع لبعض الوقت مع التماهي مع ذلك الإرهاب، بوصم أنفسنا بعدم الفهم ونعت ذواتنا بالغباء، كان البعض يصف ذلك  بـ "تية النص" التي يحلو للبعض أن يطلق عليها: "إخصاء النص" أو "شخبطة اليانكي ".. ، واليانكي وصف إنجليزي للأمريكي الذي الحديث العهد بالثقافة والحضارة والذي يفتقر إلى الموروث الثقافي والحضاري ومع ذلك يصر على طرح النظريات التي تفتقد العقلانية والمنطقومنها "الحداثة" التي روج لها "الحداثيون العرب" في إطار البحث عن الذات بعد هزيمة يونيو 1967 على خلفية رطانات لغوية مفادها أن المعاني ملكية خاصة لمن يفسرها!! .. ، وإنشاء مفهوم جديد للنص باعتباره تلاعب حر بالرموز داخل اللغة !!

وأخيرا ثبت زيف تلك الترهات وامتدت إليها معاول الهدم ممن صنعوها وطنطنوا لها؛ فكان فكر "ما بعد الحداثة" الذي هدم كل النظريات والمفاهيم التي أشاعها الحداثيون، ونادت بتفكيك النص، بمعنى أن النقاش المحوري في التفكيكية يقوم على مبدأ السببية.. أى الرأى القائل بأن الحقيقىة في حد ذاتها نسبية؛ إذ تبنى دوما حسب وجهات النظر المختلفة وحسب النظم الفكرية التي استخدمت في إعداد للشخص للحياة!!

كان الحداثيون في مأزق، ومن هنا بدأت رحلتي الجديدة في المعاناة والمشابهة لتلك الرحلة التي بدأتها مع "المعلمين الحفاة من أصحاب الياقات المتسخة" في مدارس تلوانة، كان الفارق هو اختلاف المباني وفخامتها بين أروقة الجامعة .. اختلفت المباني .. وبقيت نفس المعاني!!، وكان أستاذتنا في أداب القاهرة من النخبة من السادة أعضاء "نادي الصفوة" من أصحاب "الياقات البيضاء" والجلود اللامعة والهندام الأنيق المعطرة ويحملون فوق أكتافهم ذات الرؤوس الفارغة، وتلك الأفكار العفنة والمعلومات المغلوطة للمعلمين الحفاة من أصحاب الياقات المتسخة!!

.. وبدأت أحس بحالة من الخيبة؛ فقد كنت أمل أن تحدث الدراسة الأكاديمية بأداب القاهرة بالنسبة لي نوعاً من المصالحة الفكرية تحقق لي حداً من التصالح مع الذات يخفف من حدة "ثقافة الشرخ"، والمقصود بـ "ثقافة الشرخ" هو التوتر المستمر بين الجذور الثقافية العربية عامة والثقافة الشعبية المتوارثة خاصة والثقافات الغربية التي تم الاتجاه إليها في عصر التراجع والانحطاط المعرفي وغياب القدوة، وزداد الشرخ اتساعاً بما أصبح يهدد الهوية العربية .

.. لكني كنت واهماُ؛ فقد ألقتني تلك الدراسة في مستنقع  «ثقافة الكولونياليزم» ..   في البداية لابد من التوقف أمام «ثقافة الكولونياليزم» من حيث المصطلح، والمفهوم..

   الكلمة الإنجليزية Colonialism اشتقاق من الفعل Colonize والمصدر Colonization تعني في قاموس أوكسفورد الانطلاق لتأسيس مستعمرة في أراضي الآخر لتحقيق منافع اقتصادية، ولا يأتي ذكر في القاموس عن عناصر الغصب والإكراه والوحشية وإهانة الكرامة الإنسانية والإبادة الجماعية والنهب المقترنة بالفعل، والإساءة إلى سكان تلك البلد بدعاوى عنصرية من أنهم برابرة ومتخلفون، ولا يستطيعون استغلال موارد بلادهم؛ فجاء المستعمرون ليستغلوها بدلاً منهم ويأخذوا بأيديهم للارتقاء في سلم الحضارة !!.. وهو منطق ينطوي على زيف أشبه بمنطق اللص الذي يسرق المحفظة لأن صاحبها لا يجيد استثمار نقوده !!

   وفي مرحلة لاحقة عمل الاستعمار على ربط الدول المستعمرة بمركزه من خلال حركة ديناميكية، تقوم على التبعية الفكرية، والثقافية والاقتصادية للشعوب، والتي أوجدت تشوهات ثقافية طالت الأنا، والذات والثقافة، واللغة، فعلى سبيل المثال، نرى أن نظام التعليم في عدد من الدول العربية يتبنى لغة المستعمر كلغة ثانية، فضلا عن التقسيم الجيوسياسي لمناطق كانت في السابق عبارة عن تكتل جغرافي، وثقافي واجتماعي واحد، فالفصم لم يطل فقط الواقع السياسي، إنما شمل كامل البُنى، فاللغة والثقافة والحضارة للدول المستعمرة قد دخلت في مرحلة يصعب رصدها!!

   ويعرف البعض «ثقافة الكولونياليزم» أنها: «بمثابة المعرفة التي تستعمل من طرف المراكز الاستعمارية لإخضاع الشعوب المحتلة والمستعمرة، .. بمعنى تحول المعرفة إلى سلطة وقوة، بعد أن أصبح هذا الخطاب رديفا لكل القوى والمؤسسات التي تنشر وتبرر الفكر الاستعماري».

    وبعد الاستقلال الوطني وجدت الدول التي كانت مستعمرة نفسها في مأزق بعد أن أصبح هذا الخطاب جزءاً من «الثقافة الجمعية»، و«الدراسات الأكاديمية» لتلك الشعوب بعد أن ذاب في الفكر الوطني، فلدينا ـ في مصر ـ كارثة حقيقية فقد لعب الاستشراق دورا هاماً في ذلك، الأخطر من هذا أن الأمر لم يتوقف عند «الاستشراق الأكاديمي» بل تعداه إلى «الاستشراق الأدبي».

    وأشاع عملاء الاستعمار من Comprador الذين يعانون من «عقدة القابلية للاستعمار» أو يطلق عليهم د. إدوار سعيد «عبيد الأزمنة الحديثة» (أي المستعمَرّين) القيم والمفاهيم الاستعمارية في كتاباتهم للترويج للثقافة الكولونيالية، وهذا ليس شيئاً مُحدثاً بل ظاهرة لها جذورها التي يمكن رصدها، وبعد الاستقلال الوطني ظلت ملامح تلك الثقافة قائمة في كتابات العناصر الناقلة للعدوى من العملاء وخونة الأوطان من الخلايا النشطة أو الخلايا النائمة، ومن يأخذ عنهم بقصد أو بجهل !!

    لم تكن كتابات الطهطاوي في القرن قبل الماضي سوى ترويج فج لأفكار السان سيمون الفرنسيين وفق رؤى توفيقية تلفيقية بين ما هو أوربي وما هو إسلامي،، وسارت في نفس المضمار كتابات قاسم أمين .. وكان تجديد الخطاب الذي ادعاه محمد عبده صديق اللورد كرومر مسكونا بروح الآخر الأوربي .. ويدعو إلى الدهشة أكثر من كونه خطابا مجدداً يجب التوقف حياله، وإمعان الفكر في مفرداته ومعانيه؛ فمحمد عبده الملقب بالإمام «بتعريف الألف واللام» يقول عن الجن في القرآن: «ليس هناك جن والمقصود بها شرور النفس وسيئات الأعمال والأفكار الشريرة»، ويقول عن «الطير الأبابيل والحجارة من سجيل» إنها مرض الجدري أو الحصبة، وردد عن الشخصيات التاريخية في القرآن ما سبق أن افتراه مرجليوث، ونقله عنه طه حسين فيما بعد من أنها ليست سوى تمثيلات وليس لها وجود تاريخي!!، ولم يكن محمد عبده سوى أحد كوادر الماسونية التي تربت على أيدي جمال الدين الأسدبادي ( نسبة إلى أسدباد إحدى مدن إيران)، والمعروف كذباً بجمال الدين الأفغاني وهي مدرسة تدعو إلى: «إفراغ الدين من مضامينه مع الاحتفاظ بلافتة مسماه فقط» عبر التأويلات الفاسدة التي يضعها المؤولون وتتبنى تفسيرات للنص تختلف عما جاء في أسباب نزوله.. وخلط الدين بالتراث والأساطير!!».

   واستمرت تلك المحاولات على مختلف المناحي للترويج لسلوكيات وأخلاقيات مسكونة بروح الآخر وفكره، وتكون غايتها تشكيل المجتمعات المحلية بما يقلل من الاختلاف بين الجماعات والمجتمعات والتي كانت البداية التاريخية لفكرة «العولمة» عبر ما يسمى بـ « بوتقة الصهر».. فترجم جلاد دنشواي أحمد فتحي زغلول باشا كتاب أدمون ديمولان بعنوان: « سر تقدم الإنجليز السكسونيين»  سنة 1899 ، وكان يدعو إلى انفصال مصر عن ماضيها، والانضمام إلى أوربا، ولم يكذب محمد افندي عمر من مستخدمي مصلحة البوستة المصرية الخبر، فألف كتاباً على ذلك النهج في سنة 1905 أسماه: «حاضر المصريين أو سر تأخرهم» وضع فيه نقيض كل ما جاء بالكتاب السابق، وجعله سبباً في تأخر البلاد، وتخلف العباد، وصدره بإهداء إلى مصطفى باشا فهمي رجل الإنجليز في مصر، وقدمه له مترجم الكتاب الأول أحمد فتحي زغلول باشا.

    وسار على النهج حافظ عفيفي باشا في كتاب بعنوان: «الإنجليز في بلادهم»، وتشكلت جمعيات كثيرة من أجل هذا الغرض بعضها معلن مثل «جمعية الصداقة المصرية الإنجليزية» وبعضها سري مثل «جماعة إخوان الحرية»، وهي جماعة أنشئت في الأربعينيات من القرن الماضي من بعض المثقفين المصريين المتعاونين مع الإنجليز، وكان هدف هذه الجماعة نشر الدعاية للإنجليز في صفوف الرأي العام، فلما غربت شمس الإنجليز وبزغ نجم الأمريكان، كان لا بد من عملاء جدد وعناصر ناقلة للعدوى بموصفات جديدة تم إعدادها في مخابر ومخابرات الأمريكان، فتم تجنيد صحفيين مصريين لترويج النموذج الأمريكي (الإخوة أبو الفتح أصحاب جريدة «المصري» ـ أبو الخير نجيب صاحب جريدة «الجمهور المصري» ـ إحسان عبد القدوس صاحب مجلة «روز اليوسف» والذين تم الاكتفاء بما قدموه من تشويه العهد السابق، وإحلال بدلاً منهم جيل آخر من الصحفيين المصريين بمواصفات مختلفة، أبرزهم محمد حسنين هيكل والأخوان أمين (علي ومصطفى أمين) وقد تم تمويل إنشاء مؤسسة أخبار اليوم وإصدار باكورة أعمال الدعاية للأمريكان بكتاب مصطفى أمين بعنوان: «أمريكا الضاحكة»، وتشكلت جماعات أخرى من الصحفيين والكتاب والأكاديميين عملت بتوجيه من «منظمة الحرية الثقافية» إحدى حظائر C.I.A. والتي تدفع لمن يعزف اللحن الذي يطربها ويحقق أهدافها، وهو ما أفاضت في تفاصيله الكاتبة الإنجليزية فرانسيس ستونر ستون في كتابها بعنوان: «من الذي دفع للزمار .. المخابرات الأمريكية في الحرب الباردة الثقافية ؟! The Piper?!" paid Who
War Cultural Cold and .. C.I.A " من أجل كسب النخبة الثقافية الآوربية لحساب "الطرح الأمريكي» أو لحساب «الأسلوب الأمريكي» لتحقيق «القرن الأمريكي» .

    اللافت للنظر أن معارف مثل فقه اللغة ووضع المعاجم والتاريخ والببلوجيا شاركت في خدمة الرؤية الاستشراقية للعالم، والمسألة لم تتوقف عند «الاستشراق الأكاديمي» بل تعدته إلى «الاستشراق الأدبي» المرتبط بكتّاب ورحالة، وهو ما حاول الكتاب في العالم العربي تقليده حذو القدم بالقدم دون مرعاة لما يحمله من توجهات؛ ففي مصر لا تخلو مؤلفات كبار الكتاب مثل العقاد وطه حسين وإحسان عبد القدوس وصلاح جاهين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم من فكر الكولونيالزم .

   .. وقد راعينا في فهم تلك الظاهرة ألا نسقط في خطأ بول جونسون في كتابه بعنوان: «المثقفون» ؛ لكون السياسة قد لعبت دورا في توجهات كتابه، وتحوله الأيديولوجي من اليسار المعتدل حول حزب العمال البريطاني (حين كان يتواجد في بريطانيا )، وتحوله إلى حزب المحافظين الجمهوريين الجدد (بعد العيش في أمريكا) خاصة أن ما يسرده جونسون في كتابه ليس تاريخاً وليس بحثاً علمياً بل اجتهادات خرافية وأقنعة أيديولوجية ونشاط خيالي مفرط، لا يعاني من مشكلة أخرى سوى الافتقار إلى المنطق السليم أو المنهج الأكاديمي؛ فقد كان هدف جونسون إثبات أن أصحاب الأفكار التي أثرت في مسيرة القرن العشرين وأحدثت تحولات كبيرة في المسيرة الإنسانية، ليسوا سوى أفاقين وانتهازيين وكذابين وشهوانيين ومرتزقة.


وحتى لا نسقط في خطأ بول جونسون سنكتفي بانتقاد العمل دون مساس بشخص كاتبه؛ ونبدأ بكتاب طه حسين بعنوان :"في الشعر الجاهلي"، والتي قال فيها أن حادثة ابراهيم وإسماعيل التي وردت في القرآن لا يعول عليها تاريخياً أو التسليم بها .. وكانت دوافع طه حسين سياسية في خدمة المشروع الصهيوني، وليست علمية.

كان طه حسين يلقي محاضرات بالجامعة بعنوان :"مناقشة القرآن من الوجهة الأدبية"، ويشجع طلابه على انتقاد النص القرآني وبيان أوجه القصور والنقصان فيه، وهو الرساب الذي لم يستطع الحصول على أي إجازة علمية من أي مؤسسة علمية معتمدة مصرية أو غير مصرية !!

ولم يقتصر الأمر على هذا بل أشرف طه حسين على رسالة دكتوراه لطالب يهودي يدعى إسرائيل ولفنسون عن أطروحة بعنوان :"دور اليهود في جزيرة العرب خلال الجاهلية وصدر الإسلام" ، وهو ما يكشف عن هوس طه حسين بإضفاء على اليهود ما ليس لهم، وهو ما يجعل من الأكاذيب اليهودية حقائق من خلال الترويج لها في بحوث جامعية محكمة!!، .. وذلك مكمن الخطورة .

 في نوفمبر 1945 أصدر الصهاينة من آل هراري مجلة «الكاتب»، ووضعوا على رأسها طه حسين العائد لتوه من زيارة الجامعة العبرية، والذي بدأ الترويج للدعايات الصهيونية؛ فقد كتب في تلك المجلة في عددها الثالث الصادر في يونيو 1946 مقالاً يصف فيه رحلة قام بها من القاهرة إلى بيروت، فيقدم وصفاً مثيراً للشفقة على ضعاف المهاجرين اليهود من الشيوخ والأطفال والنساء الذين كانوا يستقلون سفينة في طريقهم إلى فلسطين!!

   كان طه حسين يكتب خداعاً للقارئ المصري، بينما كان بناء الدولة الصهيونية على حدود مصر قد دخل مرحلته الأخيرة، وقد كشفت الوكالة اليهودية زيف كتابات طه حسين من خلال إعلان مدفوع نشرته مجلة «المصور» بعنوان: «75000 يهودي يهاجرون رغم أنف السلطات الفلسطينية »


ولم يكذب عباس محمود العقاد الخبر؛ فأسرع يقتسم نصيبه من الكعكة فإذا كان طه حسين يمارس المهمة المشبوهة من على منبر الجامعة،  فلا بأس من ممارسته من خلال الصحف و"صالون العقاد"؛ فمارس أبشع أشكال العمالة للمحتل بزعم محاربة الشيوعية؛ فسلسلة «العبقريات» المشهورة على سبيل المثال والتي بدأت بعبقرية محمد عام 1942 كان بتوجيهات الإنجليز .. فقد كتب العقاد سلسلة «العبقريات» من داخل السفارة البريطانية بقصر الدوبارة، التي وفرت له عملا في إذاعة الشرق لنصرة الحلفاء، وانتهى به الحال إلى العمل بمؤسسة فرانكلين الأمريكية .. وكان أخطر ما ألصقه العقاد بمقام النبوة هي صفة العبقرية، وكأن ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليس وحياً يوحى، وليس تنزيلاً من لدن عزيز حكيم .. وإنما إبداع ذاتي أو ابتكار أو فكر شخصي لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . . وخاصة أنه ليس للعبقرية معنى في اللغة بمعزل عن فكر وثقافة الخرافة، التي تعتقد بشياطين الشعراء ساكني وادي الجن المسمى بـ «وادي عبقر»، وقد تم توظيفها اصطلاحياً في اللغة بمعنى: « قوة الخلق والإبداع عند الشاعر أو الفنان أو الأديب أو العالم»، وهو ما لا يمت لمقام النبوة بصلة، ومرادفها في الإنجليزية Genius وهي كلمة لاتينية مشتقة من الكلمة العربية: «الجن»، وقد تم توظيفها اصطلاحياً وتعني حاد الذكاء خارق الموهبة .

   .. ونعت العقاد للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالعبقرية ينطوي على حالة من الخبث تباعد بينه وبين مقام النبوة، وهو نعت يتوافق تماماً مع الفكر الغربي الاستشراقي والمشارقي الذي يصف النبي بأوصاف لا تليق، ويصنف الإسلام تحت ما يسمى بالأديان الطبيعية أي بشرية المنشأ والمصدر والتعاليم، ويساوي بينه وبين البوذية والزرادشتية والكونفوشيسية، كان الأخطر في سلسلة «العبقريات» أن العقاد ساوى بين النبي صلى الله عليه وسلم فيما قال عنه أنه «العبقرية» بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض خلفائه وبعض قواده، وهو مغزى مقصود!!.

وقد حذا توفيق الحكيم حذو العقاد في كتابه بعنوان :"شجرة الحكم"، وذهب فيه إلى أن النبوة صنعة وحرفة، وليست اصطفاء إلهياً وتكليفاً ربانياً لشخص النبي لنقل رسالة السماء لأهل الأرض، وقد صدر هذا الكتاب في سنة 1939 في نفس السنة التي صدر فيها كتاب طه حسين بعنوان "مستقبل الثقافة في مصر"!!

في كل الأحوال لم تكن الجامعة المصرية "المصنوعة" لغير الأسباب المعلنة لقيامها بعيداً عن تلك المهمة بل كانت أحد أهم أدواتها التي تم إنشائها من أجلها !!

في البداية كانت بعثات الجامعة تعود إلى الوطن بكل ما يحمل شذوذ الغرب وعنصريته وقد تصدى الرأى العام لبعض الأفكار المارقة التي أنكرت المعلوم من صحيح الدين التي وردت في أطروحة المبعوث  منصور فهمي لنيل درجة الدكتوراة من السربون سنة 1913 عن "أحـوال المـرأة فى الإسـلام" والتي استطاع المشرف عليها أن يقنعه بما يخالف الشريعة الإسلامية ما تسبب في ثورة الرأي العام احتجاجاً على ترويج الإلحاد القراح وارتأت الجامعة الوليدة للخروج من مأزقها إتخاذ قرار بضرورة عرض الرسائل العلمية على مجلس الجامعة قبل مناقشتها، واكتفت بطرد منصور فهمي من الجامعة ولم يعد إليها إلا بعد ثورة 1919، عاش بعدها منصور فهمي حياة تافهة حتى توفي في سنة 1959، ولم يقدم سوى كتيب صغير بعنوان : "خطرات نفس" احتوى على عدة مقالات عن أرائه الشخصية، ولا تحمل فكراً أكاديميا مبحوثاً، ومحكماً !!

الرسالة موجودة حتى الأن في مكتبة السربون ، وقد ترجمتها عن النص الفرنسي المترجمة الفلسطينية رُفيدة مقدادي، وحاولت السيدة سداد منصور فهمي ابنة منصور فهمي نشر تلك الرسالة لكنها لم تحظ بقبول ناشر عربي !!

في سنة 1947 أضطرت الجامعة للآنحناء للعاصفة التي أثارتها الممارسات الفجة والشاذة للشيخ أمين الخولي بصفته مشرفاً على أطروحة تلميذه محمد  أحمد خلف لنيل درجة الدكتوراة بعنوان :"الفن القصصي في القرآن الكريم"، كانت الأطروحة قوامها كما لخصه محمد  أحمد خلف في مقدمة أطروحته :

"أن العمل في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار من غير التزام لصدق التاريخ، والواقع أن محمدا فنان بهذا المعنى" .

قامت إدارة الجامعة برفض رسالة الدكتوراة المقدمة من الطالب محمد أحمد خلف ومنع المشرف عليها الشيخ أمين الخولي من الإشراف على الرسائل الجامعية في الدراسات الدينية .

لم يأت الشيخ أمين الخولي شيئاً من عندياته فقد كان ترديداً أبلة لترهات طه حسين التي أخذها عن مرجليوث وسنتلانا ونولدكة والتي رددها من قبل طه حسين الشيخ محمد عبده عن القصص القرآني واعتباره مجرد تمثيلات ليس لها محل من الواقع وحوادث التاريخ !!

كان الشيخ أمين الخولي في زيه الأزهري أضحوكة المحافل بعد هذا العزل والتهميش وإصراره على أفكاره الهزلية التي لم يستطع إقامة دليل علمي عليها ومنها أن أبا حنيفة لم يثبت عنده غير 17 حديثاً وهو ما ذكره ابن خلدون بصيغة التضعيف، وقد  اضطرت إدارة الجامعة إلى عزله  نتيجة لنشاط جماعة "الإخوان المسلمين" في أوساط الطلاب، وبعد موته ظلت السخرية تلاحق ذكراه !!؛ مما حدا بحفيدته د. يمنى طريف أمين الخولي إلى محاولة غسل سمعة جدها من خلال أطروحتها بعنوان :"أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد"!!

وبعد أمين الخولي، قاد د. عبد العزيز الأهواني إنشاء امتداد لذلك التوجة الشاذ في الدراسات القرآنية كان من نتاجه د. جابر عصفور، د. نصر أبو زيد، كان الرئيس جمال عبد الناصر قد أقال د. عبد العزيز الأهواني من الجامعة، وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر تم الاستعانة بالأهواني للتدريس بكلية الآداب بالمكافأة، وقد وافق د. حسين نصار رئيس قسم اللغة العربية وآدابها بالمخالفة للقانون في سنة 1973 بإشراف د. الأهواني على رسالة الماجستير المقدمة من نصر أبو زيد المعيد  بقسم اللغة العربية بعنوان : "قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة".

حوار مع الآستاذ نصر حامد أبو زيد المعيد بقسم اللغة العربية حول سلطة النص


وسار د. أبو زيد في ذات الاتجاة في الهجوم على النص القرأني؛ فكان موضوع أطروحته لنيل درجة الدكتوراة بعنوان : "فلسفة التأويل (دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين ابن عربي) ونال عنها الدكتوراة بامتياز مع مرتبة الشرف بدعم من ملاحدة القسم !!
وفي سنة 1992 وقعت الواقعة عندما تقدم د . نصر حامد أبو زيد ببحث للترقية إلى درجة أستاذ بعنوان : "الإمام الشافعي، وتأثيث الأيديلوجية الوسطية" تضمن العداوة الشديدة لنصوص القرآن والسنة والدعوة لرفضهما .
تمثلت مطاعن لجنة مناقشة البحث في أربعة محاور :
أولا: أن أبو زيد دعا إلى الثورة الفورية على القرآن والسنة، لأنها كما قال:

"نصوص دينية تكبل الإنسان وتلغي فعاليته وتهدد خبرته، ويدعو إلى التحرر من سلطة النصوص، بل من كل سلطة تعوق مسيرة التنمية في عالمنا.".

ثانيا: يقول عن القرآن إنه منتج ثقافي تشكل على مدى 23 عامًا، وإنه ينتمي إلى ثقافة البشر، وإن القرآن هو الذي سمي نفسه، وهو بهذا ينتسب إلى الثقافة التي تشكل منها.

ثالثا: قرر أبو زيد بتفكيره الخاص أن الإسلام دين عربي، وأنه كدين ليس له مفهوم موضوعي محدد.

رابعا: هجم في أبحاثه على الغيب، فجعل العقل المؤمن بالغيب هو عقل غارق بالخرافة والأسطورة، مع أن الغيب أساس الإيمان.

ودافع د . نصر حامد أبو زيد عن أطروحته بأن الأطروحة ليست دراسة في فقه الإمام الشافعي من منظور علم الفقه، وإنما هى دراسة في "نظرية المعرفة" كما يطرحها فكر الشافعي من خلال علم الفقه الذي "أصله" الشافعي ليس موضوع الكتاب، بل الموضوع هو "الأصول" النظرية التي أقام عليها الشافعي وسائله الاستدلالية وإجراءاته المنهجية، وأكد أنه ليس المقصود "الأصول" التشريعية أو الفقهية التي يستنبط منها الأحكام، وإنما المقصود رصد "آليات" التأصيل ذاتها من حيث هي عملية ـ أو عمليات ـ ذهنية، إنها دراسة في "المنهج" بمعناه الفلسفي، وهو "منهج" لم يطرحه الشافعي طرحا مباشراً، وإنما نجده مبثوثاً بطريقة "ضمنية" في كل كتاباته، ومحاولة الكشف عن تلك الآليات يعتمد على مجموعة من المسلمات التي تحدد منهجية القراءة الكاشفة.
وهو دفع ما لم يصادف قبولا من لجنة التقييم؛ فتعرض د . نصر حامد أبو زيد لوقف الترقية، ولم يصادف قبولا من المحكمة؛ فتم  تكفيره، والتفريق عن زوجته د.ابتهال غيث الأستاذ بقسم اللغة الفرنسية .
ظُلم د . نصر حامد أبو زيد ظلماً بيناً في أمر هام غلبت فيه سوء النية وهو نقل المساجلات العلمية حول أطروحته  من مدرجات الجامعة إلى منابر الوعظ في المساجد وصار الخطباء يكيلون الأتهمات لـ د . نصر حامد أبو زيد دون أن يقرأوا حرفاً مما كتب؛ بما جعل حياته في دائرة الخطر، ولم يجد بداً من مغادرة البلاد حتى لقي وجه خالقه .

***

لم تكن تلك الروئ الاستشراقية من المستشرقين الغربيين وعملائهم من المنتمين زوراً إلى الإسلام مأزق كلية الأداب ـ جامعة القاهرة وحدها،  بل مأزق المثقفين الوطنيين في الدول حديثة العهد بالاستقلال، الذين أخذوا يبحثون في «المأزق الجديد» الذي أخذت بلدانهم تتخبط فيه بعد خروجها من «تجربة الاستعمار» سواء بوجود ثقافة استعمارية مازالت مسيطرة ومهيمنة، أو بذوبان تلك الثقافة الاستعمارية في ثقافات بلدانهم، وأصبح بعضها من المسلمات الشائعة في الفكر السائد، أو معاناة استهدافهم من جهات استعمارية اتخذت للاستعمار أشكالاً وأساليب جديدة، ومن ثم نشأ في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مصطلح « ما بعد الاستعمار   Post  Colonialism» كمصطلح سياسي يعني: «فك ومقاومة وتصفية الاستعمار» مع التركيز على مفهوم «المقاومة» ـ حسب رؤية د. إدوارد سعيد الرائد الأكاديمي في هذا المجال ـ بما لا يعني مجرد «ردة الفعل»  تقتضي الاتكاء على «التراث» بل على نهج بديل في تصور التاريخ البشري .. لكن المأزق أن أحد لم يتصدى لتحديد سمات « ثقافة ما بعد الاستعمار Post Colonialism» من حيث بدايتها ؟! وكيف نشأت ؟!، وكيف تكونت ؟! وما مكوناتها ؟! وما مدى صلابتها؟! .

    يعرف قاموس أكسفورد للعلوم الاجتماعية خطاب ما بعد الكولونيالية بـ: « نشأ خطاب ما بعد الكولونيالية في أعمال جماعة دراسات التابع SubAltern Studies القائمة على التاريخ الهندي، متأثرين بأعمال التقاليد الماركسية الإنجليزية، لتدوين التاريخ، والتي ترفع شعار «التأريخ بلسان الشعب»، وكانوا مهتمين للتعبير عن المستعمرين (الذين وقع عليهم الاستعمار) من حيث الثقافات والسياسات والممارسات أكثر من تبني، وجهة نظر المستعمر (الذي قام بالاستعمار) وسلطتهم.

    .. والتابع هنا كل ما دون النخبة في السياسة والاقتصاد والاجتماع.

     وكان الهدف من الخطاب، كما يشير القاموس إيصال صوت المضطهدين في خطاب هيمن عليه المستعمِر.

    تكمن خطورة الأمر في مصر في الجانب الاستشراقي؛ فالاستشراق ليس نسق معرفة فقط، ولكنه ينطوي على وجود نظري وعملي يتدخل في إعادة توزيع ورسم الحدود وفرض السياسات .. ومن ثم فهو أسلوب للهيمنة والسيطرة وإعادة البنية .. المهم في هذا الجانب هو « الخطاب» « أو «أسلوب الخطاب»، وهذا قرين « نظام الهيمنة الذي يتأسس على «إساءة التمثيل» الناجمة عن «عمليات التخيل والقولية»، وهو ما ينعته د. إدوار سعيد في كتابه «الثقافة والإمبريالية» بـ «الذبح البلاغي» أو «استنزاف وتجريف قلاع البلاغة» لنعت وترويج قيم كاذبة وخادعة وزائفة !! فعن طريق الخطاب استعمر الغرب الشرق واستطاعت أوربا فرض خطابها في سياق إخضاعها لثلاثة أرباع البشر الذين يقطنون العالم الراهن .

***

كان كل شئ في أداب القاهرة مُعدا ومصمما وجاهزا لغسيل عقولنا وتطويعنا لتقبل أفكار ضد اهتماماتنا وتوجهاتنا .. ومن يسهل تطويعه تُفتح له الأبواب ويُقدم له العون، ومن يعتصم بثقافة المقاومة، ويحتفظ بحقه المشروع في الفهم، ويمارس إرادة الممانعة يجد نفسه مطروداً من دائرة الحصول على فرصة حقيقة للترقي العلمي، وما يستتبعه من ترقي اجتماعي !!

كانت انحيازاتي الثقافية قد تبلورت، وتلخصت في أن الغرب قد يكون متقدماً، ولكنه ليس متحضراً من خلال المقارنة بين معايير القيمة والتقدم؛ فليس مقبولاً أن نأخذ المخدرات مع الكمبيوتر، وفلسفات الحرية والعبثية واللذة والعدمية والعري مع وسائل الانتقال السريعة !!
 
واتسعت دوائر مناقشاتنا عن سمات المشروع الحضاري العربي، وأنه لابد من البحث عن نسق حضاري إسلامي عربي يعبر عن هويتنا وينطلق بها نحو المستقبل، وبدأ استاذتنا يضيقون بنا، وسرعان ما وصلتني رسالة واضحة عندما تم إنقاصي عن عمد درجتين عن درجات تقدير جيد جدا .. فهمت مضمون تلك الرسالة وأدركت أن العناد لن يفيد ولم أرغب فيه ، وتخرجت من قسم الدراسات اليونانية واللاتينية عملة بائرة لا تساوي شيئاً في سوق العمل، .. وكان لابد من تغيير المسار .

كان المناخ في أداب القاهرة محكوما بآليات ما أطلق عليه في الأدبيات الفرنسية : " التسمم السياسي Intoxication ":

صور وأشكال التسمم السياسي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
   
   
وتتخذ عملية التسمم السياسي عدة صور وأشكال منها:

1
ـ التطبيع :
ـــــــــــــــــــــ


   بمعنى اقناع الطرف الآخر بالتحول عن العداوة التقليدية، والصراع المصيري إلى حالة التعايش الطبيعي؛ بانتزاع إرادة المقاومة من العقول وبالتالي انتزاع الأسلحة من الأيدي، والاستسلام لمرحلة الاسترخاء وقبول الأمر الواقع ، وكان المستهدف ذلك القطيع من الطلاب الذي حصر رسالة الجامعة في تلقينهم المعارف، ليتم توظيفهم في معلمين في مدارس الدولة.



2
ـ التطويع :
ـــــــــــــــــــــ

  
ويكون في الأغلب منحصراً في الشخصيات التي تعمل في مجال الفكر والثقافة أو الشخصيات الواعدة في هذا المجال، هو تغير مسار الإرادة من طريقها الطبيعي والأصيل إلى طريق آخر، إذ يروضها القائم بعملية التسمم، فتبدو داعية لمفاهيم ومدركات أجنبية، وفي ذات الوقت تتولى أداة دعاية القائم بعملية التسمم بتضخيم دور تلك الشخصيات، وإكسابها الشرعية في التسلل إلى باقي الجسد .



3
ـ الاغتراب :
ـــــــــــــــــــــــ



  
أي جعل الفرد مغترباً عن مجتمعه والثقافة التي يعيشها، ودفعه إلى اتخاذ موقف غير ودي منها، وتبعا لذلك فالتسمم يعمل على خلق حالة من الصراع بين الذات الفردية ومحيطها الاجتماعي والثقافي .

 
4
ـ التفجير:
ـــــــــــــــــــ

   
وهو صورة من صور فك الأواصر بين عناصر الجسد وبعثرتها، بحيث يبدو كل عنصر عاجزاً عن أداء  وظائفه الطبيعية بشكل كامل، وإزاء هذا النقص يأتي دور القائم بعملية التسمم في الظهور بدور المحسن الذي يقدم خدماته للجسد المريض بجرعات محسوبة .

5
ـ الاحتواء:
ــــــــــــــــــــــ
 
  إذ يأخذ الجسد السياسي والفكري بعد تمزيق أوصاله إلى التبعية الشاملة للأجنبي أي باستيعابه كلياً .

حرب أكتوبر :
ـــــــــــــــــــــــ


في بداية الفصل الدراسي الثاني ويوم 6 أكتوبر 1973 عبر الجيش المصري قناة السويس إلي الشرق في مفاجأة أذهلت العالم .. هذا حقيقي .. ولكننا أيضا لا نستطيع أن ننكر أن الجيش الإسرائيلي عبر ذات القناة إلي الغرب في ليلة 15 أكتوبر وحاصر مدينة السويس واحتل ميناء الأدبية وقطع طرق الإمداد عن الجيش الثالث الميداني وأصبح الطريق أمامه مفتوحاً إلي القاهرة والقطامية ووادي حوف .

ومع ذلك أمرت جولدامائير بتشكيل لجنة في أواخر نوفمبر 73 قبل انقضاء أسابيع قليلة على وقف إطلاق النار برئاسة القاضي شمعون أجرانات لمعرفة أسباب التقصير الذي تم؟! ومن المتسبب فيه؟ وما العيوب الكائنة في الجيش التي أدت إلي اهتزاز الموقف في الأيام الأولى من بداية الحرب .. بينما نحن لم نكلف أنفسنا أن نتوقف لحظة لنسأل كيف تأكلت لدينا فرص المبادرة والمفاجئة التي بدأنا بها القتال؟ وكيف تمت الثغرة ؟! وما سر الجسر المُسفلت بطول كيلو متر وقاعدة 50 متر وعمق 30 متر أي بعمق القناة .. وكيف تم إعداده في أقل من 24 ساعة لتعبر عليه القوات الإسرائيلية!!

وعندما جرؤ الأستاذ يوسف إدريس على طرح تلك التساؤلات في سبعة مقالات نشرت بجريدة القبس، وتم إصدارها لاحقاً في كتاب بعنوان: "البحث عن السادات" ، تصدى رئيس الدولة آنذاك للكاتب الكبير في خطاب علني اتهمه فيه بأنه كتب تلك المقالات لإرضاء الرئيس القذافي الذي دفع له عنها خمسة آلاف دولار !! .. ولم يجد الكاتب الكبير صحيفة واحدة تنشر له رداً على هذا الافتراء؛ فذهب إلي مكتب النائب العام ليقدم بلاغاً في نفسه ويطلب التحقيق معه فيما نسبه إليه حسني مبارك رئيس الجمهورية، واعتذرالنائب العام متعللاً بضوابط تقديم البلاغات، فإما أن يأتي المواطن إلي النيابة للاعتراف بجريمة فيتم إعمال مواد القانون حياله، أم أن يأتى لتقديم بلاغ في حق نفسه بهدف نفى اتهام عنه فهو غير جائز لكونه فى الأصل برئ .

كانت الأغاني تمثل درباً من التعويض النفسي للجماهيرعن ما لم تحققه القوات في ميدان القتال وخاصة أن كسر إرادة العدو وإلقائه في البحر كانت أمنية وطموحاُ راسخاً في الوجدان الشعبي صنعته دعاية الدولة و انبثقت صوره في كثير من صور التعبير الشعبي.. 

ولم تقدم كتابات القادة الميدانيين بما فيها من تناقضات وادعاءات صورة حقيقية عن تلك الحرب .. وقد قرأت معظمها إن لك تكن كلها تقريباً ( ما كتبه الرئيس السادات وما كتب بإيعاز وإملاء منه، وما كتب منسوبا إلى المشير إحمد إسماعيل بعد وفاته بسنوات، وما كتبه الفريق سعد الدين الشاذلي وحوكم عسكرياً من جرائه، وما كتبه اللواء سعد مأمون قائد الجيش الثاني، وما كتب منسوبا إلي الفريق حسني مبارك ونشر بعد خلعه .. وآخرون قد لا يتسع المجال هنا لذكرهم خاصه أن ما كتبوه لا يمثل إضافة معلوماتية بقدر ما يمثل إثبات حالة : "أنه كان هناك "!!

والحقيقة أن ما كتبه اللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث يمثل حالة فريدة من الصدق، وتعد من أكثر الشهادات وضوحاً لكن يقلل منها أنها تعد مرافعة سابقة التجهيز عن الذات أمام محكمة التاريخ.

.. يقول واصل في كتابه بعنوان: "الصراع العربي الإسرائيلي " عن حوار دار بينه وبين المشير أحمد اسماعيل القائد العام للجيش في حرب أكتوبر:

 "وتم استدعائي إلى مركز القيادة؛ لبحث أسلوب إمداد القوات المحاصرة في رأس الكوبري شرق القناة، واقترح الفريق أول أحمد إسماعيل دفع 150 جملا إلى قوات الشرق، فقلت له: "إن هذا غير ممكن، فماذا يمكن أن تحمله قافلة من 150 جملا، وكيف تصل والعدو يسيطر على طريق السويس؟ " ؛ فاقترح أن يكون الإمداد عبر الوديان والدروب في جبل عتاقة، فقلت له: "إن هذا غير ممكن حيث إن القوات الإسرائيلية تسيطر على كافة القطاعات من الأدبية حتى منطقة نفيشة في جنوب الإسماعيلية". 
وتطورت الفكرة إلى دفع قول مجنزر يحمل الإمدادات إلى القوات المحاصرة على أن تقوم الفرقة 4 مدرعة بحمايته، فقلت له : "وهذا أيضا غير ممكن حيث سيتم اكتشافه بسهولة وتدميره أو الاستيلاء عليه"، وهنا احتد الوزير وقال: "هو أنا كل ما أقول لك حاجة تقول لي ما ينفعش"، فقلت له : "أنا مستعد لتنفيذ أى مهمة، ولكن يجب أن تكون مهمة صحيحة، ولا تتسبب في مزيد من التدمير لقواتنا". 
.. ويقول أمين هويدي ساخراً في كتابه بعنوان: "الفرص الضائعة" تعليقاً على ما كتبه المشير الجمسي من أن القوات الإسرائيلية غرب القناة كانت فريسة لقواتنا وهو نفس المعنى الذي جاء في "المذكرات المنتحلة" لقائده المشير أحمد إسماعيل :
"لأول مرة نسمع أن الفريسة ـ كما يصورها الجمسي موقف إسرائيل على الضفة الغربية ـ هي التي بيدها السماح بمرور الأكل إلى الصياد .. ولأول مرة أيضا نسمع أن الفريسة يمكنها أن تضغط على الصياد حتى تبكيه !!!"
أدخل الرئيس السادات الغش على المصريين في فاصل هزلي من تاريخ الوطن عندما قدم تمثيلة في مجلس الشعب في فبراير 1974، شاركه في أدائها اللواء أحمد بدوي ويخلص مشهدها في هذا الحوار :

ـ السادات : الجيش الثالث كان محاصراً يا بدوي ؟

ـ بدوي : لا يا افندم .

ـ السادات : الأكل كان بيوصلكم بانتظام يا بدوي .

ـ بدوي : أيوه يا افندم

وقد تناسى كل من السادات وبدوي أن ربع قوة الجيش الثالث ( 45 ألف مقاتل) قد نزلت من الميدان في أجازة وأن الهمس يدور في جنبات البيوت والمنتديات حول كارثة حصار الجيش الثالث التى تعد الأولى من نوعها في تاريخ الجيوش .

.. وبقيت حقيقة الثغرة لغزاً حتي اليوم .. فلم يعلن كتاب المذكرات من قادة أكتوبر عنها ما يستحق التوقف عنده، وبقيت قرارات السادات مثاراً لتساؤلات كثيرة حتي الآن !! وأهمها ذهابه إلى العدو ليعرض سلامه المزعزم!!.. وخاصة أن صدور القرار علي المستوى الاستراتيجي في بلدنا غير واضح الحدود والمعالم لطبيعة نظم الحكم السائدة والتي تعتبر الحاكم بمثابة مركز القوة الوحيد بغض النظر عن تعدد المؤسسات من حوله، والتي تعطي الرئيس الحق في أن يصدر قرارات في أمور ربما تتجاوز معرفته سواء من الناحية العلمية أو من ناحية الخبرة أو الممارسة .

مما جعلنا نلجأ ـ أحيانا ـ إلي ما في وثائق العدو لمحاولة الفهم، يقول الجنرال إريل شارون مهندس عملية الثغرة في مذكراته والتي يطلق عليها في الوثائق الإسرائيلية عملية "الغزالة":

" عندما وصلنا إلى الشاطئ الغربي من قناة السويس لم نجد في انتظارنا سوى الشجر وضوء القمر .".
 
ومن أهم ما أبرزه الصحفى الفرنسي اليهودي الجنسية جوزيف فنكلستون في كتابه بعنوان : "السادات .. وهم التحدي"  والذي قال فيه ما مضمونه أن السادات قد فشل تماما في تحقيق أوهامه في أن يصبح بطل الحرب والسلام، وأنه اصطدم باللآت الخمس الإسرائيلية ( لا للعودة إلي حدود يونيو 1976 ـ لا للدولة الفلسطينية ـ لا لتقسيم القدس ـ لا لعودة اللاجئين ـ لا للحكم الذاتي في الضفة والقطاع ) .

.. وراح السادات يقدم البدائل ليقنع الجانب الإسرائيلي بقبول وجهة نظرة فتارة يعرض توصيل مياة النيل إلي للقدس عبر ثلاث صحرات أسفل قناة السويس لتكون "ماء زمزم الجديدة " ـ على حد قوله ـ والحقيقة أنه كان يقدم عرضاً لزراعة صحراء النقب لتكون بديلاً عن الضفة الغربية التي يحاول أن يقنع إسرائيل بالتخلى عنها للفلسطينين؛ .. ويأتى الرد الإسرائيلي : " لن نفرط في حقوق شعبنا بشربة ماء " .. لكنهم وضعوا المقترح أساساً لفكرة بدأها قادتهم منذ سنة 1903 وعلي الشعب المصري أن يكتوي بها الآن !!

وراح السادات يعرض فكرة إن نشاء مجمع الأديان في سيناء ليكون بديلاً عن القدس .. وسخر العالم من هلاوسه وذكر بوب وود ورد في كتابه بعنوان : "القناع" أنه ـ السادات ـ صار مدمنا للحشيش وأصبح متلهفاً عليه !!

.. بانت الحقيقة بوضوح أمام السادات في رحلته إلي حيفا التي تمت في 4 سبتمبر 1979 .. كانت الرحلة نفسها غريبة ، فقد تمت على الباخرة المصرية " الحرية " التي بنيت في عهد الخديو إسماعيل وتعتبر أقدم قطعة بحرية تجوب البحار في العالم  الآن، واستقبلتها في ميناء حيفا تشكيلات من الطائرات الإسرائيلية وعشر سفن حربية من حاملات الصواريخ الإسرائيلية .. وفي إسرائيل أعاد السادات طرح فكرتي توصيل مياة النيل إلى القدس ورفع سقفها لتصل إلى صحراء النقب وفكرة مجمع الأديان، غير أن اليهود رغم الترحيب الديبلوماسي به، فقد أرسل الحاخامات أصحاب اليد العليا في الإدارة والسياسة في إسرائيل  له رسالة مضمونها أنه "شخص منبوذ" ولا يستحق "بركة عشاء الرب"، يروى أنيس منصور في مقاله بمجلة " اكتوبر " :

"وأمام فندق دان كارمل قابلني صحفي إسرائيلي وقال لي : كارثة دينية .. العشاء لن يقام للرئيس السادات هكذا أفتى حاخام مدينة حيفا!!.. وقد توسل بيجين رئيس الوزراء وبورج وزير الداخلية للحاخام ألا يوقع إسرائيل في هذه المصيبة الكبرى وأمام العالم كله.

.. والحكاية أن السادات كان يصر على أن يأخد طعامه معه فى رحلاته وهو طعام من نوعية خاصة من اللحوم والخضروات المسلوقة ومكرونة تحتوى على نسبة قليلة من النشويات لزوم الرشاقة وهي أشياء تبدو مألوفة لكنها من وجهة نظر الحاخامات مخالفة صارخة لتعاليم الديانة اليهودية.

وذهب طهاة فندق دان كارمل وأخبروا الحاخام أن مخالفة فظيعة قد وقعت وأن طريقة غير شرعية استخدمت في طهو طعام الرئيس السادات.

فالديانة اليهودية تحتم على كل مطعم أن يلتزم بحرفية الدين، فالطاهي يجب أن يحصل على شهادة من الحاخام بأنه يعرف طهو اللحوم والخضروات بالطريقة الشرعية ،والطاهى يستخدم أدوات معينة. والفنادق يجب أن تمشي على هذه التعاليم، فهي لا تقدم إلا اللحوم المذبوحة شرعاً، ولا تسمح بغير ذلك، وإلا أعلن الحاخام أن الطعام حرام والفندق كله حرام!

وأمام توسلات رئيس الوزراء وتفسيرات رجال الحاخام من استخدام الأوانى استخداماً لا يخالف الدين أكملت الحفلة الكبرى التى أقامتها الدولة ابتهاجاً بأنور السادات

ومضت هذه الحادثة الصغيرة ، او التي يجب أن تظل صغيرة "

ولكنني أرى أن تلك الحادثة الصغيرة ، أو التي يجب أن تظل صغيرة ـ من وجهة نظر الأستاذ أنيس منصور ـ لها دلالات وإشارات ورموز في أحداث التاريخ الذى نتجاهله تارة، ونزور وقائعه عن قصد تارة أخرى!!؛ فلو فهمنا وقرأنا الأحداث القراءة الصحيحة ما كان هذا حالنا .

تجربتي الشخصية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت تجربتي الخاصة في التعامل مع الواقع على الأرض تجعلني لا أتقبل بسهولة الشهادات عن واقعة محددة دون تمحيص كاف، وأن أضع في اعتباري موقع الرؤية للشاهد، ومسافة الرؤية، ومنظور الرؤية، وزاوية الرؤية ومدى اتساعها أو انحسارها؛ فقد تم تجنيدي في 2 أبريل 1977  بعد التخرج من آداب القاهرة جندي مقاتل مؤهلات عليا بالقوات المسلحة بعد سنوات قليلة من حرب اكتوبر، وتم إلحاقي على الفرقة 23 قتال بالجيش الثاني الميداني بإحد التشكيلات القتالية بأحد ألوية المشاة الميكانيكية الرابضة في القطاع الأوسط بين الدفرسوار وأبو سلطان وامتداد ذلك القطاع داخل سيناء حيث وقعت الثغرة .. كانت ذاكرة من التقيت بهم مازالت طازجة .. وكان الحزن النبيل على من استشهد من رفاق السلاح مازال يكسو ملامح الرجال .. كان البعض يحكي الكثير عن أدوار الفخار الوطني المتوارث، والسائد في كل كتابات المدرسة الوطنية في الكتابة التاريخية وأنماط كتابها الذين تعلموا التاريخ عبر مدرسة الدعاية الثورية!!

.. وكان البعض يتحدث بمرارة عن تجربة كان من الممكن أن تؤتي نتائج أفضل لولا طعنة الغدر بسبب الثغرة، .. وكان البعض يبتلع الإجابات إيثاراً للسلامة !! .. لكن أحداً لم يجبني إجابة واحدة تشبع ظمأي للمعرفة عن كيفية حدوث الثغرة !! .. استمعت إلى شهادة البعض عن انقطاع الاتصال بين قيادة الفرقة والقيادة العامة، وخسائر الفرقة نتيجة القرار السياسي بتطوير الهجوم، واستشهاد قائد الفرقة العميد أحمد عبود الزمر .. واستمعت إلى بعض الشهادات عن استشهاد المقدم حماد قائد الكتيبة التي عملت تحت علمها .

لم يكن أحد من قادة الحرب قد كتب مذكراته بعد، ولم يكن قد صدر سوي كتاب أقرب إلى القصة وهو "رحلة الساق المعلقة" للعميد عادل يسري (دار المعارف ـ 1974)، وكان غالي الثمن مما جعل الكثيرون لا يهتمون به؛  فقد تم طرحه بسعر جنية واحد كاملاً أي بما يعادل ثمن أثنين كيلو ونصف من اللحم البلدي في ذلك الوقت (كان ثمن كيلو اللحم البلدي 40 قرشاً في ذلك الوقت) ثم توالت المذكرات عن حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر وكامب ديفيد، وكانت كلها تنطوي على الإشادة بـ "حرب أكتوبر" دون تنوية عن الأسباب التي حولتها إلى (نصف انتصار .. نصف هزيمة).


.. ولم يقل لنا أحد شيئاً عن الأسباب الحقيقة لهزيمتنا في 5 يونيو 1967.. وكشف المشير محمد عبدالحليم أبو غزاله القائد العام للقوات المسلحة الأسبق سر عدم التوصل إلى الأسباب الحقيقية للهزيمة من واقع التقارير التي كتبها قادة الجيوش..


قال أبو غزاله في رسالة وجهها للصحافة المصرية أنه اكتشف أن من عُهد إليهم بكتابة الأسباب نقلوا تقارير الحرب إلى بيوتهم ليكتبوها على هواهم لذا استبعدت لجان التحقيق هذه التقارير لعدم أمانتها وخشية زيفها !!

ولم تسجل الوثائق العسكرية تقارير القادة وبالتالي دفنت وثائق الهزيمة إلى الأبد.

كنت انتوي كتابة ما سمعت لكني لم أفعل لأسباب كثيرة ومتنوعة أهمها الرقابة العسكرية لكل ما ينشر عن ما يتصل بالجيش ..؛ فلم يسبق أن كتب جندي مُجند مذكراته أو أحد من الدرجات والرتب الصغيرة، وكان الاستثناء الوحيد هو ما كتبه الجندي المُجند القناص أحمد نوار الذي أصبح الدكتور أحمد نوار رئيس قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقاقة في مذكراته بعنوان :"نوار .. عين الصقر، قناص حرب الاستنزاف"

والذي قدم له اللواء عبد المنعم خليل القائد الثالث للجيش الثاني الميداني أثناء حرب أكتوبر خلفاً للواء سعد مأمون الذي داهمته أزمة قلبية في في يوم 14 أكتوبر، فتولى قيادة الجيش الأيام اللواء تيسير العقاد الذي نحته القيادة العامة بعد يوم واحد، وأسندت قيادة الجيش الثاني إلى اللواء عبد المنعم خليل قائد المنطقة المركزية في يوم 16 أكتوبر الذي حدثت فيه الثغرة، . . وهو ما جعل اللواء عبد المنعم خليل قائداً على الورق فقط لمدة أربعة أيام تولى فيها قيادة الجيش الثاني الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس الأركان ، ولم يمارس اللواء عبد المنعم خليل القيادة الفعلية إلا بعد عودة الفريق الشاذلي إلى القاهرة ليعرض على القيادة خطته في التعامل مع الثغرة، التي رفضتها القيادة العليا للقوات المسلحة وجمدته وصعدت اللواء محمد عبد الغني الجمسي رئيس العمليات رئيساً للأركان بدلاً منه .

كهذا تم فرض "الصمت الحذر" على الرجال من صغار الدرجات والرتب، وتم التوصل إلى اتفاق غير مكتوب بين الكبار على "الإشادة" فقط !!، .. ومن خرج عن الاتفاق لقي ما لا يرضيه (الفريق سعد الدين الشاذلي مثالاً) .

.. أذكر أثناء عملي في مجلة "المصور" أن قدم حمدي لطفي المحرر العسكري مادة صحفية للمجلة للنشر في أكتوبر 1981 بعنوان : "التكييف القانوني لقضية اغتيال الرئيس أنور السادات"، كان حمدي لطفي قد حصل على تصديق شفهي بالنشر من الضابط المختص تليفونيا بعد أن قرأ عليه مادة الخبر، .. وحدث أن ثارت أزمة بسبب هذا الموضوع قبل النشر بسبب إبلاغ أحد عمال المطبعة المتعاونين مع بعض الأجهزة الأمنية، .. أنكر الضابط الذي وافق شفاهة على النشر معرفته بالموضوع، وتم القبض على حمدي لطفي بمعرفة الشرطة العسكرية من غرفة مكتبه المقابلة لغرفة مكتبي بدار الهلال، وتقديمه إلى النيابة العسكرية  التي أخلت سبيله بغرامة مالية 10 ألاف جنية دفعتها مؤسسة دار الهلال، وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت .

المثال الثاني : عندما نشر الزميل عبد الستار أبوحسين المحرر العسكري لـ "جريدة الشعب" موضوعاً مترجماً عن صحيفة أجنبية عن تجارة السلاح، ورأى المسئولون في مصر في ذلك الأمر ما يمس بعضهم، وتم القبض على الزميل، وتقديمه لمحاكمة عسكرية قضت بحبسه لمدة سنة، ولم تفلح وساطة نقيب الصحفيين آنذاك الأستاذ ابراهيم نافع في إيقاف العقوبة، والإفراج عنه أو تخفيفها.


المثال الثالث : عندما أدلى المحامي طلعت السادات بتصريح صحفي عن تراخي الحراسة في حماية عمه الرئيس أنور السادات مما كان سبباً في اغتياله، وتم القبض على طلعت السادات وتقديمه لمحاكمة عسكرية قضت بحبسه لمدة سنة قضاها في أحد السجون العسكرية .

.. لذا كان المجهول عن تلك الفترة أكثر من المعلوم !!


مشروع التعمير الحضاري :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حدثت الثغرة .. طعنة الغدر في ظهر الجيش المصري .

وبدأت مباحثات الكيلو 101 لحفظ ماء وجه السادات؛ فلم يسبق على مدى التاريخ العسكري أن حوصر جيش بكامل قواته وعتاده !!

كانت إسرائيل تضغط على السادات بتجويع الجيش الثالث، وإجباره على الاستسلام، والخروج من الميدان بدون سلاحه !!

وبعد إذعان السادات لكل طلبات إسرائيل المجحفة التي حملها إليه في أسوان د.هنري كيسنجر في يناير 1974 والتي أبكت المشير محمد عبد الغني الجمسي .. بينما كان السادات يكتب خطاباً إلى جولدمائير ليحمله إليها كيسنجر والذي بدأه بعبارة : "عزيزتي مسز جولدا " .

ومنذ ذلك اليوم بدأت رحلة "التطبيع" مع كيان العدو الصهيوني وظهرت بشكل حاد لأول مرة مناقشات دارات في إطار لجنة " التعمير الحضاري" التي شكلها الأستاذ محمد حسنين هيكل في مؤسسة الأهرام وكان الهدف منها هو دراسة المشروع الحضاري العربي ومستقبله بعد الانتصار الذي حققته الأمة العربية نتيجة لتوحيد الجهود العسكرية والاقتصادية وكانت اللجنة تضم :

محمد حسنين هيكل ود. محمود فوزي ود. زكي نجيب محمود ود.حسين فوزي ود. لويس عوض ود. جميل مطر ود. عبد الوهاب المسيري والأستاذين توفيق الحكيم وأحمد بهاء الدين.

كانت توجهات أغلب أعضاء اللجنة من الصهاينة المصرين (د. محمود فوزي ـ د. زكي نجيب محمود ـ د.حسين فوزي ـ د. لويس عوض ـ توفيق الحكيم) محسومة بحكم علاقاتهم الوثيقة بالكيان الصهيوني وزيارتهم لعصاباته قبل إعلان دولة الكيان الصهيوني في 15 مايو 1948، وكان هذا الاتجاه يتبنى رأي أنه لا خلاص للعرب إلا بتبني الحضارة الغربية وقيمها وأن النموذج الغربي للتنمية جدير بالتبني بأكمله وأنه لا يوجد نموذج بديل وأن على العرب أن ينسوا تراثهم وتاريخهم وأن يحذو حذو أوربا في كل شئ ؛ فالتحديث في رأي هؤلاء في واقع الأمر هو التغريب، أي اتباع أساليب الغرب في التفكير والسلوك والتنمية بحلوه ومره !!

وطرح توفيق الحكيم النموذج الصهيوني وعبر عن إعجابه به باعتباره جزء من النموذج الغربي، وحكى تجربته عن زيارته للجامعة العبرية في أثناء حكم الانتداب!!

وتابع د.حسين فوزي التعبير عن إعجابه بالنموذج الصهيوني، وحكى ذكرياته عن زيارته للجامعة العبرية بصحبة طه حسين سنة 1944، وكيف نصحهما د. محمود فوزي سفير مصر في فلسطين آنذاك بإخفاء خبر تلك الزيارة !!

كانت الأسانيد التي يسوقها هؤلاء الصهاينة المصريين للتطبيع مع دولة الكيان الصهيوني هي نفس الأسانيد التي ساقها أسلافهم من الماسون للإنفتاح على حضارة الغرب في القرن 19 !!

بينما طرح د. عبد الوهاب المسيري والأستاذ أحمد بهاء الدين ضرورة أن نتحفظ في استيرادنا للأنماط الحضارية الغربية حتى نحتفظ بهويتنا، وأنه لا يجوز الترويج للنموذج دون فهم أصوله وأسباب نجاحه المزعوم ومدى إمكانية استمرار هذا النجاح عبر الزمان ؛ فالحضارة الغربية قد قامت على احتلال أرض الغير وقمعه ونهب ثرواته وانتهاج سياسات تؤدي إلى استمرار تخلفه وتحول دون تحديثه أو لحاقة بركب الديمقراطية، وإسرائيل التي يعتبرها (د. محمود فوزي ـ د. زكي نجيب محمود ـ د.حسين فوزي ـ د. لويس عوض ـ توفيق الحكيم) نموذجاً للحضارة الغربية يجب أن يحتذى في شرقنا العربي؛ فدولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين دولة قامت على أرض الأخرين، ولا تستمد شرعيتها من العقل أو أي قيم نبيلة وإنما من منطق القوة وشريعة الغاب .

واحتدم النقاش حول"المشروع الحضاري العربي" بين دعاة التغريب ودعاة إعادة النظر فيها، ورؤيتها بشكل نقدي يصدر عن إدراك لأهمية التراث والهوية ؛ فلم تتقارب وجهات النظر .

وقرر الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس اللجنة عقد مؤتمر لدراسة مستقبل "المشروع الحضاري العربي".. لكن هذا المؤتمر لم يعقد بسبب خروج هيكل من الأهرام في 2 فبراير 1973.*

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
·        محاضر الجلسات التي سجلت موجودة في مكتبة مؤسسة الأهرام؛ ليرجع إليها من يرغب .

***
وتخرجت من آداب القاهرة في أكتوبر 1976 وأنا موقن تماما ـ حسب فكر الأساطير الذي نقلته لنا السرد في الحواديت ـ أن "الذئب نائم في سرير الجدة" .. يرضع أحفادها اللبن المسموم، ويحكي لهم حواديت التاريخ المزيف عن الأبطال الوهميين، وأدعياء الفكر، والوقائع المغلوطة عن دور الأشخاص وحدود الأماكن وتتابع الوقائع!!، وكلها من أساليب التلاعب بالوعي التي لا تنتج سوى أجناس من البشر لا تزيد عن كونها فضلات بشرية تعد إضافات كمية إلى عبث الوجود، وينتهي مألهم إلى خرائب ومواخير الدنيا في أشباة الدول ومزابل التاريخ !!
ومع تقدم سنوات العمر وزيادة المعارف والخبرات، وفي ظل التطور الهائل لعلم البيولوجي، وما أخذته عنه تكنولوجيا البرمجيات من مصطلح الفيرس Virus أستطيع أن أقدم توصيفاً أكثر فهماً وتدقيقاً لتغلل الخلايا الناقلة لعدوى الفكر الاستشراقي في أداب القاهرة والأشبة بتعلق الفيرس Virus الاستشراق بجدران آداب القاهرة !!

والفيرس Virus هو التكوين الفاصل بين الحياة والطبيعة الغير حية، وهو الدليل الحي على الإخلال ببرامج الآخر حيث يتحور الفيرس Virus ليستغل نمطاً محدداً من الخلايا الحية وعندما يعثر عليها يتشبث بجدارها ويحقنها بجزيئ واحد من الـ  (ر. ن. ا . الحمض النووي الريبي R.N.A.  Ribonucleic acid) ويظل هذا الجزيئ R.N.A.  ينقل إلى تلك الخلية المنكوبة أوامره المكتوبة في ضفيرته الجينية وتأمرها بإنتاج الفيروسات المشابهة للفيرس Virus  العالق بجدار الخلية .

.. بعد ذلك تظهر الفيروسات المنتجة في الخلية كحكومة ظل سرية تخضع لإرادتها النشاط الحيوي لهذه المنظومة وتصير موارد الخلية الآن موجهة لتنفيذ الأوامر المكتوبة في جزيئ R.N.A. الذي حقنت به الخلية، والذي  يعيد ضبط منظومات الخلية الإنتاجية المعقدة كي تنتج الفيروسات Viruses وتلبسها قشرة بروتينية حتى تمكنها من قتل الخلية المنهكة بعد ذلك .
 


الفصل الثالث :

ـــــــــــــــــــــ



الحركة الطلابية !!




بدأت الدراسة في أداب القاهرة في الأسبوع الأول من أكتوبر 1972 مع بداية العام الخامس للحركة الطلابية بعد انطلاقها مرة ثانية في أواخر الستينيات (فبراير 1968 ـ 1977) بعد حالة من الصمت السياسي مع نهاية سنة 1954 وادماج الطلاب في ما أسموه تحالف قوى الشعب حسب توجه نظام الحكم القائم آنذاك، فالطلبة ليسوا طبقة اجتماعية مهما بلغ تساهلنا فى تعريف مصطلح الطبقة، وليسوا بالبديهة حزبا سياسيا، ولا هم "الشباب" الذين يواجهون الكبار، وإلا فأين العامل الشاب والفلاح الشاب والعاطل الشاب وغيرها  من التصنيفات التى تضم الشباب!!
.. ولا توجد هوية طلابية ثابتة تجمع بين طلاب الجامعات الحكومية المنتمين إلى الشريحة الوسطى من الطبقة المتوسطة والشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة وبين طلاب الجامعة الأمريكية التي انعزل طلبتها في إطار ما يعتقدون أن الجور الذي حاق بطبقتهم، وتجاوزت تطلعاتهم  حدود الوطن والسعي إلى أفاق تحقق لهم الأمال التي أفتقدوها فيه !!
طلبة الجامعة إضافة إلى كونهم أبناء بيئات اجتماعية مختلفة؛ فهم عبارة عن تجمع من الدارسين لعلوم مختلفة فى جامعات وكليات مختلفة، يتوزعون على عدد من السنوات الدراسية، ويلاقون مصائر متباينة تماما بعد تخرجهم .

"الطلبنة" ليست صفة ثابتة، تبدأ بدخول الجامعة؛ فيتمتعون بوضع انتقالى ينتهى بتخرجهم، بمعنى دفعة داخلة ودفعة خارجة، ولا يربط بينها صفة "التراكمية"!! .
وقد تميزت أغلب فئات الطلاب بـ "القذارة"، قبل 1968، نظرا لارتباطهم الوثيق بالأجهزة الأمنية ـ كما ذكرت في الجزء الأول ـ، وقيامهم على الإظهار الدائم للولاء وترديد شعارات النظام فى كل مناسبة دعيت فيها لإظهار الولاء، والتأييد لنظام الحكم بالحق وبالباطل!!
يعتقد البعض أن إعادة بعث الحركة الطلابية في أواخر الستينيات ولد من رحم هزيمة 5 يونيو 1967، وهو اعتقاد يجافية الصواب لعدة أسباب منها :
أولاً ـ أن الانتفاضة الأولى للطلاب كانت في 21 فبراير 1968 أي بعد ثمانية شهور من الهزيمة في 5 يونيو 1967، وخروج جماهير الشعب ومنها الطلاب في 9، 10 يونيو للتمسك ببقاء قائد الهزيمة في موقع القيادة مستجيبة للشحن الإعلامي عن وجود مؤامرة خارجة عن إرادته أدت إلى الهزيمة .
ثانياً ـ أن الصدمة التي أحدثتها الأحكام المخففة في محاكمة قادة الطيران في 20 فبراير 1968 أثارت غضب عمال مصنع الحديد والصلب الذين خرجوا في تظاهرة منددة بتفاهة الأحكام بما لا تناسب حجم الجريمة في 21 فبراير 1968 وطبقا للتعليمات الصادرة لكوادر منظمة الشباب وطليعة الإشتراكيين بتحويل المظاهرات الغاضبة إلى مؤتمرات شعبية ليبدو الأمر كما لوكان الوضوع سياسياً قابل للاحتواء السياسي وفي تلك المؤتمرات الشعبية يتم التنفيس عن طاقات الغضب وتنتهي إلى اللا شئ!!
كان الاتحاد الاشتراكي يدعم الفكر العسكري للنظام في إدارة شئون الأمة؛ وكانت منظمة الشباب التي تم تدريب كوادرها في المعسكرات والمؤتمرات على قيادة قطيع الشباب في اتجاه الولاء للنظام وتأليه رموزه .. هكذا كان العسكريون  يديرون  الأمور في السلطة وفي التنظيم الشعبي!!

ثالثاً : كانت تظاهرات الطلبة والعمال في في فبراير 1968 تحمل شعارات منظمة الشباب الذي كان يقودها اللواء أحمد كامل أحد كوادر المخابرات العامة والتي أصبح رئيساً لها فيما بعد .

الانتفاضة الأولى :
ـــــــــــــــــــــــــــ

وتخلص حكاية الانتفاضة الأولى في 21 فبراير 1968 أنها كانت فورة انفعال نتيجة الشحن الإيجابي قبل الحرب عن إلقاء العدو في البحر وإنهاء وجوده في 24 ساعة لتصبح دولته أثراً بعد عين؛ فلما كانت الهزيمة وجد النظام مشكلة في تفريغ الشحن واكتفى بالترويج لـ "نظرية المؤامرة"؛ فلما كانت الأحكام الهزيلة بحق قادة الهزيمة.. ثار العمال، وتم احتواء ثورتهم في مؤتمر تم التنفيس فيه عن طاقات الغضب، وانتهي المؤتمر العمالي في مصنع الحديد والصلب بقرار أن يقوم العمال بعمل مسيرة سلمية برعاية كوادر منظمة الشباب وطليعة الإشتراكيين تبدأ من المصنع وتنتهي أمام  مقر الاتحاد الاشتراكي بحلون بالقرب من قسم شرطة حلوان للتعبير عن الاستياء من الأحكام المخففة، ولكن ليست ما تؤمن بدياته تؤمن نهاياته فقد هتفت جماهير العمال ضد عبد الناصر لأول مرة، وحملته المسئولية عن الهزيمة :

" لا صدقى*(1) ولا الغول*(2)، عبد الناصر هو المسئول "

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
·        (1) اللواء صدقي محمود قائد سلاح الطيران أثناء هزيمة 5 يونية 1967
·        (2) اللواء صدقي الغول قائد الفرقة الرابعة درة التاج في القوات المسلحة المصرية والتي تكبدت خسائر فادحة في هزيمة 5 يونية 1967  نتيجة الارتباك في إصدار الأوامر .

 وعند قسم شرطة حلوان فاجئت قوات الشرطة المتظاهرين بإطلاق النار عليهم وقتل 2 من العمال مما دفع العمال للاشتباك مع الشرطة مما أسفر عن إصابة 77 من المواطنين و146 من رجال الشرطة وألقي القبض على 635 شخص وتدمير بعض المركبات .
كان واضحاً أن إطلاق النار على العمال مجرد رسالة من نظام الحكم للجميع بأن الخروج إلى الشارع عاقبته الموت!!، وأن النظام لن يتوانى عن الضرب بالحديد والنار على أيدي من يريدون المشاركة بالرأي في صناعة مستقبل بلدهم، وتصحيح أعطاء النظام بحجة أن " مفيش وقت للكلام ده "!!

وعلم العمال في المصانع الأخرى بما حدث لزملائهم في حلوان فاندلعت المظاهرات فى كل مصانع حلوان، وتصادف أن يوم 21 فبراير هو يوم الطالب المصري الذي يحتفل به الطلبة سنوياً في ذكرى يوم الخميس الدامي الشهير عام 1946، وتحولت الاحتفالات بذلك اليوم إلى سلسلة من الحلقات النقاش السياسي، حيث حاول المسئولون في الجامعة والحكومة الرد على تساؤلات الطلبة حول الوضع السياسي، ولأن المسئولون لم يقدموا إجابات واضحة لأسئلة الطلبة اشتعلت نار الغضب في جامعات مصر في القاهرة وعين شمس والإسكنرية وفي الأيام التالية خرج الطلبة من بوابات الجامعة وانضموا إلى العمال.

 وذهب المتظاهرون إلى مبنى جريدة الأهرام وقذفوه بالحجارة، وهتفوا ضد الأستاذ هيكل الذى أطلقوا عليه لقب "كاهن المعبد" الذى خدعهم بما كان يكتبه من مطولات عن عبد الناصر والتهوين من شأن العدو والمبالغة فى قدرات الجيش المصرى واعتبروه مسئولاً عن الهزيمة .

كما هتفوا ضده : يا هيكل يا جبان ، فين بصراحة عن حلوان

وكان هيكل لم يشر بسطر واحد إلى تلك المظاهرات التى قوبلت بقمع وحشى .

وفي اليوم التالي نشرت الأهرام عن مظاهرات القاهرة التي وقعت أمام مبنى الجريدة وذكرت أن أربعة من الطلبة دخلوا إلى المبنى وعبروا عن مطالب المتظاهرين كالتالي :

" إن شباب الجامعات يسجلون اعتراضهم على الاحكام الصادرة في قضية الطيران وهم يجددون العهد والبيعة للمناضل جمال عبد الناصر ويتوجهون إلية باسم الشباب الجامعي أن ينظر في هذه الأحكام تلبية لرغبة الجماهير الشعبية ".

ومضت المظاهرات في طريقها إلى نقابة الصحفيين ورددت هتافات تصم الصحفيين بالجبن والكذب، .. ولم يجد مجلس نقابة الصحفيين بدا من عقد جلسة في تمام الساعة 15 : 12 ظهر يوم الأربعاء 28 / 2 / 1968 لمناقشة الأحداث برئاسة الأستاذ أحمد بهاء الدين نقيب الصحفيين وحضور الأستاذة كامل زهيري وفتحي غانم وعلى حمدي الجمال ومحمود سامي وسعيد سنبل وصبري أبو المجد ومنصور القصبي ومحمود المراغي وسامي داود وصلاح الدين حافظ واعتذر الأستاذ طلعت شعت .

وجرت مناقشة واسعة حول الأحداث الأخيرة وتمت صياغة بيان جاء فيه:

 " إن مجلس نقابة الصحفيين يعتقد أن المظاهرات التي قام بها طلبة الجامعات والعمال كانت تعبيراً عن إرادة شعبية عامة تطالب بالتغيير على ضوء الحقائق التي كشفت عنها النكسة والدروس التي لا بد أن نستخلص منها :

أولاً : الإسراع في الحساب بداية من كل المسئوليات الكبرى، وتعميم هذا الحساب حتى يشمل كافة القطاعات والمؤسسات في البلاد .

ثانياً : إعادة تشكيل التنظيم السياسي واستكماله .

ثالثاً : توسيع قاعدة الديمقراطية والمشاركة في اتخاذ القرارات داخل التنظيم .

رابعاً : الإسراع بإصدار القوانين المنظمة للحريات العامة التي تكفل الضمانات الفردية .

خامساً : إجراء الانتخابات للجان النقابية ومجالس الإدارة التي لم تنتخب.

سادساً : ترتيب النتائج التي يجب أن تترتب على وجود عدو يحتل جزءا من أرض البلاد واستمرار حالة الحرب في مجالات الاستعداد النفسي والمادي والاقتصادي على أن تتحمل العبء كل الفئات التي يجب أن تتحمله. " .

.. وتم إرسال البيان إلي الأمين العام للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي ليلقى مصيره في سلة المهملات، ويبقى الحال كما هو عليه !!

***

في يوم 24 فبراير شكل مجموعة من طلاب كلية الهندسة جامعة القاهرة وفد من الطلبة المتظاهرين للذهاب إلى مجلس الأمة لتقديم مطالبهم لرئيس المجلس أنور السادات رئيس مجلس الأمة وعند تسجيل أسمائهم أبدي الطلبة تخوفاتهم من أن يتم اعتقالهم لكن أنور السادات طمأنهم وأعطاهم كلمة شرف أنه لن يصاب أحدهم بسوء، وأعطاهم رقم تليفونه الخاص وطلب إليهم الاتصال به حال حدوث مكروه لأحدهم !!

ومع ذلك اتضح أن مخاوف الطلاب كانت لها ما يبررها ؛ حيث تم اعتقالهم من منازلهم في نفس الليلة .

وفي اليوم التالي عقد الطلبة اجتماعاً موسعاً نددوا فيه بالخديعة التي أوقعهم في شركها أنور السادات رئيس مجلس الأمة، وقرروا الاعتصام في كلية الهندسة بالرغم من الحكومة قررت تعطيل الدراسة في 25 فبراير إلا أن الاعتصام استمر ثلاثة أيام، بينما كانت الانتفاضة في سائر أنحاء البلاد تحتضر وتذبل، وتميز اليوم الأول للاعتصام بالاصطدام مع الشرطة والقاء الأحجار على الجنود مكافحة الشغب، واستخدمت الشرطة تكتيك جديد بأن انسحبت إلى حديقة الأورمان لإتاحة الفرصة لاستخدام أشكال أخرى من الضغط على الطلبة؛ حيث تم استدعاء الأساتذة وأولياء أمور الطلاب لحث أبنائهم للتخلي عن حركتهم ونجحت الخطة فانخفض عدد الطلاب المعتصمين من 500 طالب إلى 180 طالب .

 وكانت صيغة التسوية التي أنهت الاعتصام هي ما عرض على الطلبة من خلال وساطة دكتور مهندس ابراهيم جعفر الذي أعادهم إلى المربع الذي حدثت فيه الخديعة الأولى التي أغضبتهم، وهو أن يتقدم الطلاب بمطالبهم مرة أخرى إلى أنور السادات رئيس مجلس الأمة وتم نقل الطلاب في عدد من سيارات الأجرة إلى مقر المجلس، وضع دكتور مهندس ابراهيم جعفر طلبته مرة أخري تحت مخالب أنور السادات الذي كشف عن وجهه الحقيقي وأبرز أظافره وأنيابه  حيث انعقد الاجتماع المقترح مساء 28 فبراير، وبدا أنور السادات معادياً لكل من الطلبة ومطالبهم حيث نحى بيده في اشمئزاز البيان الذي حمله إليه الطلبة قائلاً :

"أنا أرفض هذا البيان شكلاً وموضوعاً .. كان عندي باليل .. مش هو البيان بتاع الحرية تؤخذ وتغتصب .. أنا بقولكم لا لا .. لأن هذا البيان بني على عملية انفعالية .. ولم يبن على الموقف اللي احنا فيه النهاردة بعد هذه المناقشات الديقراطية " .
أسقط في يد الطلبة بعد أن تخلى عنهم أستاذتهم ومارس أولياء أمورهم الاستمالات العاطفية، ومارست عليهم الشرطة أقسى استمالات التخويف، ومارست عليهم القيادة السياسية استمالات التخوين !! .. ولم يكن أمامهم سوى الإذعان .
وتم إذاعة خبر مقتضب عن فض الاعتصام وإنهاء إنتفاضة فبراير 1968، ولم ينشر البيان في الصحف بحجة اعتبارات ودواعي الأمن القومي.

وفي جامعة عين شمس نجح د . محمد حلمي مراد رئيس الجامعة في البداية في إقناع الطلبة بأن تنحصر حركتهم داخل حدود الجامعة على وعد أن ترفع أراؤهم في قضية الطيران إلى الرئاسة دون حاجة إلى التظاهر، لكن اعتقال طلاب هندسة القاهرة أشعل التظاهرات في عين شمس، ولم يكن حظ طلاب عين شمس أفضل من طلاب جامعة القاهرة الذين فابلوا السادات؛ فقد شكل طلابة عين شمس وفد ذهب إلى بيت الرئيس جمال عبد الناصر، وقابل الوفد محمد أحمد سكرتير عبد الناصر وسلمه مطالب الطلبة، وأستأذن محمد احمد ليعود بعد عشر دقائق ويخبر الطلبة أن الرئيس سيرد على مطالب الطلاب في خطبة عامة وأن الرئيس طلب منهم أن يعودوا إلى الجامعة ويفضوا الاعتصام واستجاب الطلبة لمطلب عبد الناصر الذين كانوا يصدقونه، وعادوا إلى منازلهم ليتم القبض عليهم في الفجر بعد أقل من 12 ساعة من لقاء سكرتير عبد الناصر !!
وكانت النتيجة أن اشتدت التظاهرات وساعد على ازديادها سقوط أول شهيد مضروباً بلرصاص ولم يكن طالباً؛ فيحمله المتظاهرون مضرجاً بدمائه  إلى بيت عبد الناصر،  وهم يرددون شعارات الديمقراطية وإقالة وزير الداخلية السفاح شعراوي جمعة، وقد أثبتت تحقيقات النيابة أن الشهيد قتل نتيجة مقذوف ناري من عيار 303 لي أمفيلد ، وأن الشرطة أطلقت الرصاص الحي في المليان ليس في الأقدام كما ادعى وزير الداخلية.

وفي 3 مارس 1968 ألقى عبد الناصر خطاباً في حلوان حيث بدأت الانتفاضة أكد فيه على سلامة القاعدة العمالية والطلابية وأقر أنه كان يتابعها "لحظة بلحظة"، وألصق جرائم القتل والعنف بعناصر من أعداء الثورة .. أعداء الشعب ، أعوان الاستعمار تحاول استغلال الموقف لكى يموت بعض المتظاهرين وتتحول إلى مذابح، وهز للجبهة الداخلية .

إلا أن ادعاء عبد الناصر لم يكن مقنعاً، وكانت هذه المرة الأخيرة التي يثق فيها الطلبة بالسلطة ، وقد نجحت تلك الانتفاضة التي التف حولها الطلاب بمختلف اتجاهاتهم تعبيراً عن مكنون الغضب في النفوس في أن تنهي دور دولة العسكر المنفردة بالقرار السياسي والمستفردة برعاياها من المدنيين العزل؛ فقد أجبرت عبد الناصر على أن يصدر أمر بإعادة محاكمة الضباط المتهمين بالإهمال، وتشكيل وزارة كان أغلبها من المدنيين لأول مرة في عهده (من التكنوقراط من اساتذة الجامعات)، وسعى لتجديد شرعية نظامة من خلال برنامج 30 مارس بما تضمنه من وعود بإصلاحات ليبرالية .

وداخل الجامعات ازيلت العديد من القيود فلم يعد الحرس الجامعي يتدخل في النشاط السياسي للطلبة، ولم تعد لدية سلطة مراقبة صحف الحائط وصدرت لائحة طلابية بموجب قرار جمهوري منحت اتحاد الطلاب بلا وصاية من أأعضاء هيئة التدريس وخفض رسوم الإقامة من 7,5 جنية إلى 5 جنيهات !!وزبادة مخصصات بنك الطلبة من مليون جنية إلى 3 مليون جنية .

 الانتفاضة الثانية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

في مناخ مختلف تماما عن المناخ الذي جرت فيه انتفاضة الطلبة الأولى في 21 فبراير 1968 حدثت انتفاضة الطلاب الثانية في 21 نوفمبر 1969 .

فقد تزامنت الانتفاضة الثانية مع إعلان قانون جديد للتعليم يحد من عدد المرات التي يسمح للطالب فيها بدخول الامتحان ويضمن نجاح الطالب رغم رسوبة في مادتين كما رفع القانون درجة النجاح الصغرى في عدد من المواد بالمرحلة الثانوية وانهى الانتقال الألي من صف دراسي إلى أخر في المرحلة الابتدائية ووضع حد أدنى من الدرجات للالتحاق بالمرحلة الإعدادية وطبقا لهذا أصبح على الطلاب الحصول على مستوى معين من الدرجات كحد أدنى في كل المواد الدراسية حتى يحققوا النسبة العامة للنجاح .
.. بدأت الانتفاضة في مدينة المنصورة وانتهى اليوم الأول بتجمع طلابي في مدرسة حكومية أكد فيه المحافظ أن القانون لن يطبق بأثر رجعي وأنه لن يطبق على الطلاب المقيدين بالمدارس، وأكد للحضور أنه تلقى تأكيدات بذلك من وزير التعليم، ومع ذلك استمرت التظاهرات وتوسعت فى اليوم التالى لانضمام طلبة المعهد الدينى الأزهرى إليها، وطلاب بعض المدارس الخاصة .

وتوجهت إلى مديرية الأمن حيث أصبحت في مواجهة قوة الشرطة التي أطلقت الرصاص؛ فقتل ثلاثة من الطلبة وفلاح، وجرح 32 متظاهر، و9 ضباط و14 جندي .

وسرعان ما انتقلت أخبار أحداث المنصورة إلى جامعة الاسكندرية التي تضم عدداً من الطلاب من أبناء الدقهلية، وتوقع محافظ الاسكندرية حدوث متاعب فعقد اجتماع  يوم الجمعة 22 نوفمبر حضره مدير الأمن ورئيس الجامعة وخمسة من أعضاء تدريس كل كلية وكل نظار المدارس الثانوية بالمدينة وعدد من نظار المدارس الإعدادية وعدد من رؤساء الأحياء، وبحثوا احتمالات الاضطرابات واتفقوا أن تبدأ المحاضرات قبل موعدها بخمس دقائق وأن يتولى مدير الأمن حظر الخروج الطلبة إلى الشارع، وتم تغييب العنصر الطلابي عن ذلك الاجتماع !! .

وبعد منتصف ليل23 نوفمبر 1968 عقد اتحاد كلية الهندسة جامعة الإسكندرية اجتماعا طارئا ، واتخذوا قرارا بتنظيم مسيرة احتجاج سلمية، وقد انعقد ذلك الاجتماع بعد أن عاد الطالبان بالهندسة محمد ناجى أبوالمعاطى، ومحمد خيرت الشاطرـ القيادى الإخوانى فيما بعد ـ من بلدهما المنصورة، ونقلا لزملائهما أخبار المظاهرات الطلابية هناك منذ يوم 20 نوفمبر اعتراضا على القانون الجديد .


قرر «الاتحاد»، فى اجتماعه، التظاهر، تضامنًا مع مظاهرات المنصورة، ومنذ صباح يوم 23 نوفمبر بدأ الطلاب فى التجمع بكلية الهندسة، وتولى الطالبان "أبوالمعاطى» و«الشاطر» الشرح للطلاب، ذكرا أن البوليس أحاط بمساجد المدينة «المنصورة» أثناء صلاة الجمعة.".

تزايد العدد فانطلقت الهتافات ضد وزير الداخلية شعراوى جمعة، وهتف الطالب تيمور الملوانى: «يا شعراوى يا سفاح.. دم الطلبة غير مباح»، وبعد ساعتين من النقاش الحاد سادت فوضى شديدة «طبقا لما ذكرته صحيفة الأهرام»، وخرج الطلاب إلى الشوارع بقيادة عاطف الشاطر رئيس اتحاد طلاب «الهندسة»، ( لا تربطه صلة قرابة بالمهندس خيرت الشاطر ونهاية اسميهما بلقب الشاطر مجرد تشابة أسماء)، رافعا علم الكلية، وحدث الصدام مع الشرطة أمام كلية الزراعة، فأصيب 53 من رجال الشرطة، و30 من الطلاب، وفى أثناء المظاهرات ألقى القبض على عاطف الشاطر وثلاثة من زملائه، ونقلوا إلى مديرية الأمن بالإسكندرية، فتفرقت المظاهرات وعاد الطلبة للتجمع فى كلية الهندسة.

وفي يوم 25 نوفمبر حدث إضراب بالإسكندرية  وشهدت المدينة تظاهرات على نطاق واسع لم تشهدها من قبل وانتهت بصدام مع الشرطة ولقي 16 مصرعهم 3 من الطلاب و12 من الأهالي وتلميذ عمره 12 سنة وإصابة 167 من الأهالي و 247 من رجال الشرطة 19 ضابط، و228 جندي، والقي القبض على 462 .
وبلغت التلفيات تحطيم 50 اتوبيس نقل عام 270 لوح زجاج ترام و116 غشارة مرور 29 كشك مرور 11 زجاج محل تجاري وعدد من مصابيح الإضاءة وحرق أثاث نادي موظفي المحافظة .


قرر محافظ الإسكندرية أحمد كامل مواجهة الطلاب بنفسه لإقناعهم بعدم تصعيد التوتر، لكن الطلاب حاصروه فور وصوله للكلية، واحتجزوه فى حجرة الحرس التى كانت تحت سيطرة الطلاب، ولم يسمح له بالخروج، إلا بعد أن أمر بإطلاق سراح الطلاب الأربعة، وعندما وصلوا إلى كلية الهندسة انعقد مؤتمر طلابى وتحدث المحافظ، ولم يحقق المؤتمر نجاحا يذكر فى مواجهة الصخب الذى قوبلت به كلمة المحافظ الذى اقترح مقابلة وفد من الطلاب فى مكتبه مساء نفس اليوم.

واستمر اعتصام الطلاب فى كلية الهندسة، واستولوا على ماكينة طباعة الرونيو الخاصة بالكلية، وبدأوا فى كتابة سلسلة بيانات، وأعلنوا أن الكلية مقر دائم للاعتصام.

وأبلغ المحافظ  القيادة السياسية برغبته في إنزال الجيش للتصدي للطلبة، وقد وافق الرئيس جمال عبد الناصر على ذلك .

وقد اعترف الرئيس جمال عبد الناصر في محضرى وقائع الجلستين 9 و 10 للجنة التنفيذية العليا للأتحاد الاشتراكي بأنة أمر قائد الجيش ليصدر أوامره لقائد القوات الجوية بفض تظاهرات الطلاب مستخدما رشاشات الطائرات .
وقد تمكنا من تسجيل شهادتين حول العنف الذي قوبلت به تلك انتفاضة الطلبة الثانية :

أولاً : شهادة اللواء مصطفى الحناوي :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقول اللواء مصطفى الحناوي قائد سلاح الطيران أنذاك في شهادته :
كانت المظاهرات في الإسكندرية على قدم وساق في نوفمبر 1968، وكنت أنا في مقر قيادة القوات الجوية. أشتغل عادي .. بامضي أوراق مهمة .. رن جرس التليفون، وكان على الخط الفريق أول محمد فوزي القائد العام للقوات المسلحة .. (كان أستاذي في الكلية وكان فيه جانب كبير من العنف .. ولا أقصد بالعنف الشدة .. فالشدة ممكنة دون عنف).
قال محمد فوزي:
-  اللواء مرسي في إسكندرية طلع بالقوات بتاعته عشان يفرق مظاهرات الطلبة ماقدرش، أنا باديك أمر أنك تفرق المظاهرات دي بضرب النار من طائرات الهليوكوبتر .. "الفريق فوزي قال كده وأنا الدم غلي في دماغي ماحسيتش بنفسي.."
قلت:
 -  يانهار أسود .. سيادتك بتقول إيه .. نضرب الطلبة بالرشاشات المثبتة في الهليوكوبتر (تعديل لنا أجريناه في الهليوكوبتر ـ وعاوننا فيه أحمد فهيم الريان) أنت عارف سيادتك النتيجة ح تبقى إيه .. ح تبقى مجزرة .. حتبقى سلخانة ..الطلقة 37 مللميتر .. مش ح تصيب واحد .. في الزحمة ممكن تصيب عشرة ورا بعض .. دقيقتين أمشيهم فوق شارع أبو قير وشيط واحد أخلصه (ألف طلقة هي الحد الأدنى) ونبقى محتاجين الجيش الثالث عشان يشيل الجثث .. إحنا جايبين الطيارات نحارب بيها إسرائيل والا نضرب بيها ولادنا.
قال محمد فوزي :

-
 دي أوامر السيد الرئيس جمال عبد الناصر  .. السيد الرئيس بيقول إن مظاهرات الطلبة الغرض منها إسقاطه .. ويطلب منا مساندته.
قلت وأنا مازلت مذهولاً :
 - يا افندم دي ح تنكتب في التاريخ .. زيها زي مذبحة القلعة .. مذبحة كوبري عباس .. التاريخ ح يكتب أننا قتلة، والشعب مش ح يسامح .. وافرض أديت أمر لضباط الهليوكوبتر بضرب الطلبة ورفضوا .. ح نحاكمهم !! ح نحاكم الستة وتسعين ضابطاً ح نحاكمهم يافندم ؟! لا يافندم أنا مش منفذ، وأنا جاهز يافندم تعملوا فيّ اللي انتوا عايزينه .. أنا عاصي ومش منفذ .. قال محمد فوزي:
 - ح نقول إيه لعبد الناصر ؟!
قلت : - قول له يختار السجن اللي أتوجه له .. وأنا جاهز يافندم .. أنا عاصي ومش منفذ .. أنا لا لي فيهم ابن ولا أخ وبرضه ما أقدرش أضربهم.
 قال محمد فوزي:
-         اضرب في المية.

قلت : - لو ضربت في المية .. ما هو ضرب نار برضه يا فندم .. لا يا فندم.

قال :  
-  تصرف بأي طريقة ما تزعلش جمال عبد الناصر.
-  وتصرفت  .. وغضب جمال عبد الناصر .. وأسرّها في نفسه .. قلت لقائد الهليوكوبتر في الإسكندرية .. كل اللي ح تعمله .. أننا كنا بنطلع الطيارات من الدخيلة، تطير على البحر لحد ما توصل أبو قير .. خوفاً من أن تقع على مناطق سكنية إذا وقعت لا قدر الله .. قلت له ما تمشيش على البحر أمشي فوق البيوت ..
 وما تحملش ذخيرة نهائياً، وتأكد بنفسك أن مفيش أي ذخيرة على الطائرات .. تأكد بنفسك .. كنت أخشى أن حد خسيس يحمّل الطيارات في السر .. عشان يرضي أسياده، وطبعاً أسياده ح يحموه .. وده اللي حصل .. وأبلغته لمحمد فوزي، فقال:
ماشي.  
.. وطبعا فوزي بلغ جمال عبد الناصر، وغضب عبد الناصر، و أسرّها في نفسه .. وقال لي الأستاذ هيكل: (عبد الناصر بعد المظاهرات قال لي: أنـا ح أشيل الحناوي .. قلت له يافندم ده عمل حاجات كويسة كثيرة في الطيران .. قال ح أشيله لأنه كان يعلم أن الهدف من مظاهرات الطلبة هو إسقاطي ولم يرد أن يساعدني!!




             (انتهت شهادة اللواء مصطفى الحناوي قائد القوات الجوية)



ثانياً : شهادة اللواء أحمد كامل :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فى رواية المحافظ أحمد كامل عن الحدث يقول:

«ذهبت إلى الجامعة، كانت تحت حصار بوليس مكثف، لم أكن بعد وجها مألوفا كمحافظ، ولذلك وجدت إلى جوارى ضابط شرطة يطلق بندقية رش فى اتجاه الطلاب المعتصمين، خطفت البندقية من يده، وكادت تنشب معركة جانبية لولا أن رآنى سيد فهمى، مدير مباحث الإسكندرية آنذاك ووزير الداخلية بعد ذلك، قلت له: أخرج هذا الضابط بعيدا من هنا، وأحضر عاطف الشاطر من السجن فورا، جاءنى سيد فهمى بعاطف الشاطر وهو فى نوبة بكاء حادة، قال: ضربونى يا أفندم، قلت له: «كن رجلاً، ادخل إلى الجامعة الآن واجمع زملاءك فى القاعة الكبيرة وسوف أدخل وراءك لنجلس ونتناقش جميعا، جلست فى مواجهة الطلاب الغاضبين، وقد أحضروا طالبا ينزف من طلقات بندقيته، ثم قال أحدهم بصوت محرض وهو يشير إلى زميله: «انظر ماذا تفعلون؟ أى تفاهم يمكن أن يكون بيننا؟ قلت: أنا لا أعرف شيئا، ووزير الداخلية هو الذى أعطى تعليماته لمسؤولى الأمن بهذا الخصوص، وهو قرار خاطئ تماما، واستمر الحوار المنفعل، بينما مسؤولو الأمن خارج حرم الجامعة فى حالة ترقب وقلق، وهكذا اتصلوا بوزير الداخلية واتصلوا بمكتب الرئيس، وقالوا: المحافظ دخل مبنى الجامعة، ونخشى أن يفتك به الطلاب الغاضبون، ماذا نفعل؟ هل نقتحم الجامعة لإنقاذه؟ ونقل سامى شرف على الفور الموقف إلى الرئيس عبدالناصر، وكان رده: «لا اقتحام، اتركوه يتصرف وحده".

وصل الحوار إلى طريق مسدود، وخرجت من الجامعة بانطباع أن تجربة الحوار لن تحقق النتائج المنتظرة؛ فاتصلت بسامي شرف وقلت له:

ـ "أبلغ الرئيس أنني أطلب تدخل الجيش إنهاء الاعتصام ."

بعد دقائق جاء رد سامي شرف :

ـ "الرئيس أمرني أن أتصل بالفريق أول  محمد فوزي القائد العام للقوات المسلحة وأن أبلغه أن بتصل بك "

بعد دقائق أخرى كلمني الفريق أول  محمد فوزي وقال :

ـ " لقد وضعت قائد المنطقة العسكرية الشمالية تحت قيادتك ، وأخبره بطلباتك وسوف يقوم بتنفيذها على الفور" .

قلت بعدها لقائد أن يعطي أوامره لقيادة الطيران في المنطقة ليتم إرسال عدد من طائرات الهليكوبتر فوق مواقع إعتصام الطلبة .. كما طلبت منه وضع بعض قوات الجيش لتدخل إلى المحافظة وتمر بدباباتها وأسلحتها في استعراض القوة أمام كلية الهندسة ... عندما وصلت مجموعات طائرات هليكوبتر فوق كلية الهندسة شاركت الطبيعة في إخراج مسرحي للموقف فقد تزامن معها رعد وبرق ومع أصوات الرياح والسحب تصور الطلاب أن الطيران قد بدأ القصف والهجوم في الوقت الذي مرت فيه بعض قوات الجيش أمام الجامعة وتمركزت بعض الوحدات في الاستاد الرياضي المجاور، ورن جرس التليفون في مكتبي .. كان المتحدث أحد قادة الاعتصام .. قال :

ـ " لقد قررنا إنهاء الاعتصام .".

( انتهت شهادة اللواء أحمد كامل محافظ الإسكندرية)
***

انتهى الاعتصام في الحقيقة لأسباب عملية قاهرة تضاف لما ذكره محافظ الإسكندرية من التهديد باستخدام القوة، وما قام به من ترتيبات فعلية في هذا الصدد، فقد تعرض الطلبة لحالة من الضغط والرعب غير مسبوقة في تاريخ مصر إضافة إلى قلة طعام الإفطار في أيام رمضان وانقطاع الماء والكهرباء والبرد والأمطار الغزيرة؛ مما جعل الطلبة يتغطون بالسجاجيد رغم قذارتها وحملها للأتربة، والضغط الذي مارسة عليهم أولياء أمورهم وانسحاب رئيس اتحاد الطلاب من الاعتصام !!
وفي القاهرة لم تصل الأحداث إلى ما وصلت إليه أحداث الإسكندرية من مدى فبينما كان طلبة هندسة وطب القاهرة يستعدون للاعتصام بعد صدور بيانهم في 23 نوفمبر أُغلقت جامعة القاهرة وتم تفريق الطلبة قبل أن يتمكنوا من التجمع !!
وتم إحالة طلبة الإسكندرية المقبوض عليهم إلى القضاء غير أنه لم تجر أية محاكمات وبعد حوالي ثلاثة أشهر من الحبس في سجن الحضرة أطلق سراح الطلاب بينما أرسل زعمائهم لقضاء فترة التجنيد الإجباري في القوات المسلحة !!
.. وتم تجنيد عاطف الشاطر رئيس اتحاد الطلاب جامعة الإسكندرية جندي مؤهلات متوسطة باعتباره لا يحمل مؤهل عال بعد فصله من كلية الهندسة وإلحاقه بإحدى وحدات الجيش في برنيس على حدود مصر والسودان، وقد هاجر إلى المغرب الشقيق بعد انتهاء فترة العقوبة وحصوله على مؤهله !!
كان مكمن الخطورة في هذا الأمر هو تحويل الجيش إلى مؤسسة عقابية، وهو ما أضاف غصة إلى حلقوق المصريين الذين كانت مرارة الهزيمة ما زالت تلون طعم أيامهم بمذاق العلقم .
بعد الفض الوحشى لاعتصام طلاب هندسة الإسكندرية في نوفمبر 1968 سادت حالة من الركود السياسي والصمت الطلابي لم يقطعها سوى هبة طلبة كلية الصيدلة جامعة الإسكندرية للمطالبة بعزل الليثي عبد الناصر من أمانة تنظيم الاتحاد الاشتراكي بالإسكندرية بعد أن فاحت رائحة فساده ، وتم تغليف هذا المطلب بمطالب عامة وشعارات وطنية !!
وهبة طلبة كلية الطب البيطري جامعة القاهرة للمطالبة بمطلب فئوي بالمناداة بصرف بدل العدوى للأطباء البيطريين أسوة بالأطباء البشريين .
كان الفارق بين انتفاضة العمال والطلبة في فبراير 1968 ، وانتفاضة الطلبة في فبراير 1968 أن الأولى كانت انتفاضة من داخل النظام والثانية كانت تمرد على النظام

تظاهرات 1972 :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اندلعت الانتفاضة في يناير 1972 بعد خطاب الرئيس أنور السادات في يوم الخميس 10 يناير 1972 والذي برر فيه عجزة عن الوفاء بوعده في جعل عام 1971 "عام الحسم" بسبب اندلاع الحرب الهندية الباكستانية وبرر ذلك أن العالم لم يكن فيه متسه لاندلاع حربين كبيرين في آن واحد، وأن الحليف السوفيتتي كانت تشغله الحرب الهندية الباكستانية  إلى الحد الذي لا يستطيع  فيه تقديم مساعدة كافية وخاصة وأنه في حال حدوث هجوم مصري بمساندة السوفييت على الأراضي التي احتلتها إسرائيل فسوف يثير رداً انتقاميا منجانب الولايات المتحدة الأمريكية ووصف هذه الحالة بـ "الضباب" الذي أعاق قدرته على التحرك !!
وكان رد فعل الطلاب غاضباً ، كان الأمر بمثابة استفزاز لهم ورأى الطلبة ان الضباب يكمن في السياسات التي ينتهجها السادات ؛ فكتب أحد الطلاب مقالاً بعنوان :

"ليتك لم تتحدث يا سيادة الرئيس"

وفجر هذا المقال حلقات النقاش في كلية الهندسة، ولم يكن الطالب كاتب المقال مصنفاً سياسيا تحت أي فصيل... ولم يكن أيضًا من كتاب مجلات المعروفين، كان اللافت في مقال ذلك الشاب طرحه لمقدمات سليمة تماما وراح ينطلق منهاً بخطوات واثقة وهادئة وبأسلوب رصين لعرض استدلالاته الواعية بطبيعة الأمور ليصل إلى نتائج منطقية اختتم بها مقاله ... سطر هذا الشاب مقاله في أكثر من عشرين صفحة فولسكاب بقلم من الفولماستر... وعلق المقال بالدبابيس، والتف الطلاب بأعداد غفيرة حول المقال في حلقات نقاشية.. بخلاف  ما كان يحدث في الماضي حيث كان لا يرى أكثر من عدة حلقات هزيلة للنقاش أمام مجلات الحائط وكل حلقة تضم حوالي 5 – 7 طلاب من الطلاب المتسكعين من داخل الكلية أو من خارجها ... أما في بعد تعليق هذه المقال الأيام الأربعة كان من الممكن أن تشاهد أكثر من 20 حلقة وكل حلقة تضم أكثر من 70 وبعد أن ذاعت شهرة المقال توافد الطلبة من خارج الكلية للاطلاع عليه.. الجميع يتحدثون في كل شيءوالكل يطرح تساؤلات منطقية ومشروعة إعمالاً بالحق الإنساني والوطني التساؤل:
 ـ إلى متى تستمر حالة اللا سلم واللا حرب؟
ـ ما معنى الضباب الهندي الباكستاني الذي تحدث عنه رئيس الجمهورية؟ وتداول الطلاب نكتة مفادها :
" أن عربجي وقف بعربته الكارو وسط كوبري قصر النيل ، فلما جاء رجل المرور ليحثه على السير .. قال له العربجي : الضباب قافل الطريق!!
وتساءل  رجل المرور : فين الضباب ؟! الشمس طالعة .
قال العربجي : إسأل الحمار!! ." .
 ـ كيف تكون هناك حرية صحافة وصحف الدولة ليست أكثر من ثلاث صيغ لمنشور واحد؟!
ـ هل شهدائنا في 1967 وحرب الاستنزاف 1969 راحوا فطيس!!

وتحولت البؤر المتناثرة من حلقات نقاش الطلبة إلى مؤتمر طلابي، وحضر الدكتور كمال امين الشباب في الاتحاد الاشتراكي ووزير الشباب إلى مدرج الساوي (أضخم مدرج بالكلية)..... وإستمع إلى تساؤلات الطلاب وأرائهم ووجه إليه الطلاب وابل من الأسئلة عجز عن الإجابة عنها،ولم يكن لديه سوى جملة واحدة:

"سأنقل وجهة نظركم للجهات العليا وللقيادة والسياسية.".

وسخر الطلاب من الوزير ونعتوه بـ "البوسطجي" وخرج الوزير من المؤتمر وسط الصفير وصيحات السخرية والإهانة .

في تلك الفترة عين السادات المهندس سيد مرعي أميناً للأتحاد الاشتراكي، وعين د. عزيز صدقي رئيساً للوزراء لأعداد الدولة للمواجهة، لكن اجراءات تشكيل "وزارة المواجهة" من التكنوقراط  لم تثن الطلاب عن عزمهم الاعتصام ففي الليلة السابقة على المؤتمر المزمع عقده أقر الطلبة المعتصمون بكلية الهندسة اقتراحاً بتشكيل "اللجنة الوطنية العليا لطلاب جامعة القاهرة" التي حلت محل اتحاد الطلاب الرسمي (بشكل غير رسمي) وهو كيان غير رسمي تم اقتراحه من الطالب أحمد عبد الله رزة الطالب بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية (المحسوب على اليسار) الذي هبط على قيادة الاعتصام بكلية الهندسة بشكل مريب ليأخذ بزمام قيادة الاعتصام ويجرى تشكيل "اللجنة الوطنية العليا لطلاب جامعة القاهرة" من قيام طلاب كل كلية بإنتخاب خمسة طلاب إنتخابًا حرًا مباشرًا.... ليكون هؤلاء الخمسة هم اللجنة الوطنية للكلية...... على أن ينتخب الخمسة واحدًا من بينهم ليكون ممثلاً عن الكلية في اللجنة الوطنية العليا لطلاب جامعة القاهرة ......والتي ستتكون من المندوبين المنتخبين عن جميع الكليات"، ويتم الدفع بالطالب أحمد عبد الله رزة الذي تحوطه علامات استفهام إلى رئاسة تلك اللجنة.
كانت تلك اللجنة تتمتع بسلطات واسعة ورعاية من المسئولين على كافة المستويات، وأصبحت اللجنة الوطنية العليا لطلاب مصر هى القيادة الشرعية لجامعة القاهرة والمتصرف فى شئون الجامعة؟ وأن أتحاد الطلبة المنتخب فقد شرعيته!!، وأصبح د. حسن إسماعيل رئيس جامعة القاهرة يتلقى الأوامر من "العيال بتوع اللجنة"، ويصدر ما يملونه عليه من قرارات!!

... الغريب في الأمر والذي يسترعي انتباه الملاحظ المدقق هو أنه مع نهاية عام 1972 اختفت "اللجنة الوطنية العليا للطلاب"... واختفت اللجان الوطنية التي أنتخبت من مؤتمرات جماهيرية... تم حلها جميعاً بدون إعلان !!.. ولم يقدم قادة الحركة الطلابية تفسيراً لتلك المسألة !!

كان من الواضح اأن الطالب أحمد عبد الله رزة قد تم تدريبه وإعداده جيداً من خلال التنظيمات السرية الشيوعية التي تعمل تحت الأرض والتي أسهمت في تطوير أداء الحركة الطلابية وتطورت معها حتى بلغت ذروة نضجها في أحداث 18 و19 يناير 1977 ، حيث بدأ الطالب أحمد عبد الله رزة  رئيس "اللجنة الوطنية العليا للطلاب"... في تشكيل ثلاث لجان للاعتصام:

لجنة إعاشة... لجنة دعاية وإعلان... لجنة نظام و اتصالات بالكليات الأخرى، وهو ما يعكس سلوكاً تنظيمياً لقائد ميداني على الأرض في الفكر والحركة يصعب الوصول إليه من الطلبة العاديين من الكتلة الضخمة المشاركة في الاحتجاج !!

وتم نقل مقر الاعتصام من مدرج الساوي أكبر مدرجات هندسة القاهرة ، والاعتصامات من المتفرقة في مختلف كليات الجامعة، وتنظيم مؤتمر طلابي، وناشد الطلبة رئيس الجمهورية ودعوه لحضور المؤتمر، وتم طبع البيان الأول للمؤتمر بمطبعة الجامعة، واختار المؤتمر لجنة صغيرة لصياغة " وثيقة طلابية" تضم التوصيات والمطالب التي طرحت في مختلف مؤتمرات كليات الجامعة ، وتشكل وفد من طلابي لتوصيل الوثيقة إلى الرئيس في منزلة بالدقي، وبدأ الاعتصام .

وبعد فشل الطلاب في حث الرئيس على مقابلتهم، وفي مقابل حالة من الإهمال المتعمد وافقوا على حل وسط اقترحه اللواء ممدوح سالم وزير الداخلية ونقله إليهم د. حسن إسماعيل رئيس الجامعة وهو أقتراح يحمل في جوهره فكر الخديعة الذي مارسه النظام مع الطلبة في انتفاضة فبراير  1968؛ بما يعني أن الحركة الطلابية كانت فاقدة الذاكرة،  فقد طلب منهم تشكيل وفد من الطلبة للذهاب إلى إلى مجلس الشعب لتقديم وثيقتهم ، وتولت أتوبيسات الجامعة نقل أعضاء الوفد الطلابي إلى مقر المجلس .

وبدأت جلسات بين الطلبة وأعضاء المجلس سادها التملق تارة والسخرية والاستهزاء والهجوم  على الطلبة تارة، وأخيراً  تم التوصل إلى اتفاق وهو أن يتم إدخال بعض التعديلات على الوثيقة حتى تنشر في صحف الغد في مقابل إنهاء الاعتصام، وعاد الوفد إلى الجامعة تاركاً اثنين من الطلاب للقيام بالتعديلات بالاشتراك مع الدكتور جمال العطيفي رئيس مجلس الشعب وبعد ساعات تم الاتفاق على الوثيقة المعدلة من أجل النشر، وقبل انصراف الطالبين بدقائق أخبرهما العطيفي أنه لن يتم نشر أي شئ وأن الرئيس السادات سوف يعقد اجتماعا مع ممثلي القوى الشعبية، ومن بينها الطلاب لمناقشة الوضع في غضون يومين، كما أبلغهم أيضا أنه وصل إلى المجلس وفد طلابي ثان يتبع اتحاد الطلاب حاملاً وجهة نظر أخرى مختلفة تماما، وأدرك الطلبة حجم الخديعة وقرروا استمرار الاعتصام .
بعد ذلك بساعات في فجر 24 يناير قامت قوات الأمن بمداهمة الجامعة واقتادت الطلاب مرفوعي الأيدي في خمسة وعشرين عربة من عربات نقل السجناء إلى  معسكر الأمن المركزي بالدراسة حيث تم احتجازهم في أحد إسطبلات الخيول !!
وبرغم قرار إغلاق الجامعة وبدء أجازة نصف السنة ، تدفق الطلاب على الجامعة؛ ليكتشفوا أن زملائهم قد قبض عليهم؛ فانطلق الطلاب إلى ميدان التحرير، واستمرت المظاهرات طول اليوم وفي المساء حدث اعتصام حول قاعدة التمثال في وسط ميدان التحرير وشكلت لجنة وطنية ثانية مؤقتة لتنظيم هذا الاعتصام .
كانت الأعداد في ميدان التحرير أكبر من أى توقع وكان تعاطف الجماهير مع الطلبة سافراً ؛ بما جعل قوات الأمن تستشعر القلق من مداهمة الجماهير لمحبس الطلبة وإخراجهم بالقوة ؛ فتم تجميع الطلبة ونقلهم إلى معهد أمناء الشرطة بمنطقة سجون طره...


 في ميدان التحرير كان التجمع الجماهيري حول قاعدة التمثال في وسط ميدان التحرير أقرب إلى احتفالية ؛ فغنى الشيخ إمام عيسى :

" يا عم حمزة رجعوا التلامذة للجد تاني
لا كورة نفعت ولا أونطة .. ولا مناقشة وجدل بيزنطة !!
رجعوا التلامذة ورد الجناين .. يا عم حمزة"

.. وغنى فخري فايد أغنية "في حبك يا مصر"، وألقى الشاعر أمل دنقل قصيدته بعنوان : "الكعكة الحجرية" في إشارة إلى قاعدة التمثال الجرانيتية الخالية التى ظلت تميز الميدان لسنوات طويلة، وأزيلت أثناء أعمال الحفر لمشروع الخط الأول لمترو الأنفاق، ولم تعد إلى الآن، ولم يُعرف مصيرها ، .. وقال فيها :


"أيُّها الواقفون على حافة المذبحه

أَشْهِروا الأسلحه!

سقطَ الموتُ، وانفرط القلبُ كالمسبحه

والدّمُ انساب فوق الوشاحْ!

المنازلُ أضرحةٌ،

والزنازن أضرحةٌ،

والمدى.. أضرحه

فارفعوا الأسلحه

واتبعوني!


أنا ندمُ الغدِ والبارحه

رايتي: عظمتان.. وجمجمةٌ،

وشعاري: الصباحْ!


دقّتِ الساعةُ المتعبه

رفعتْ أمُّهُ الطيّبه

عينَها..

(دفعته كعوبُ البنادقِ في المركبه (!

.........

دقّتِ الساعةُ المتعبه

نهضتْ، نسَّقتْ مكتبَهْ..

)
صفعتْه يدٌ..

 -
أدخلته يدُ اللهِ في التجربه ( -

دقّتِ الساعةُ المتعبه

جلست أمُّهُ، رتّقتْ جوربَه..

)
وخزته عيونُ المحقّقِ..

حتى تفجَّر من جلدهِ الدمُ والأجوبه (!

.........

دقّتِ الساعةُ المتعبه!

دقّتِ الساعة المتعبه!

*****

عندما تهبطين على ساحة القومِ،

لا تبدئي بالسلامْ

فهمُ الآنَ يقتسمون صغاركِ

فوق صحافِ الطعامْ

بعد أن أشعلوا النارَ في العشِّ..

والقشِّ..

والسنبله..

وغداً يذبحونكِ.. بحثاً عن الكنز

في الحوصله!

وغداً تغتدي مدنُ الألفِ عامْ

مدناً.. للخيامْ

مدناً ترتقي دَرَجَ المقصله!

****

دقّتِ الساعة القاسيه

وقفوا في ميادينها الجهمةِ

الخاويه

واستداروا على درجاتِ النُّصُبْ

شجراً من لَهَبْ

تعصفُ الريحُ بين وريقاته

الغضّةِ الدانيه

فيَئنُّ: "بلادي.. بلادي"

)
بلادي البعيده! (

دقّتِ الساعةُ القاسيه

"
انظروا"، هتفتْ غانيه

تتمطّى بسيّارة الرقم الجمركيِّ،

وتمتمتِ الثانيه:

سوف ينصرفون إذا البردُ

حلَّ.. ورانَ التَّعبْ

.........

دقّتِ الساعةُ القاسيه

كان مذياعُ مقهىً يُذيع أحاديثَه الباليه

عن دُعاةِ الشَّغَبْ

وهمُ يستديرونَ،

يشتعلون - على الكعكة الحجرّية -  حول النُّصُبْ

شمعدانَ غضبْ

يتوهّجُ في الليلِ..

والصوتُ يكتسح العتمةَ الباقيه

يتغنّى لليلةِ ميلادِ مصرَ الجديده!

****

اُذكريني!

فقد لوّثتني العناوينُ في

الصحف الخائنه!

لوّنتْني.. لأنيَ منذ الهزيمة لا لونَ لي

(غيرُ لونِ الضياعْ)

قبلها، كنت أقرأُ في صفحة الرملِ

والرملُ أصبح كالعُمْلة الصعبة،

فاذكريني، كما تذكرين المهرّبَ..

والمطربَ العاطفيَّ..

وكابَ العقيد.. وزينةَ رأسِ السنه

اذكريني إذا نسيتْني شهودُ العيانِ

ومضبطةُ البرلمانِ

وقائمةُ التهمِ المعلَنَه

والوداعَ!

الوداعْ!

****

دقّتِ الساعةُ الخامسه

ظهر الجندُ دائرةً من دروعٍ وخُوذاتِ حربْ

ها همُ الآنَ يقتربون رويداً.. رويداً..

يجيئون من كلّ صوبْ

والمغنّون - في الكعكة الحجريّة - ينقبضونَ

وينفرجونَ

كنبضةِ قلبْ !

يُشعلون الحناجرَ،

يستدفئون من البرد والظلمةِ القارسه

يرفعون الأناشيدَ في أوجه الحرسِ المقتربْ

يشبكونَ أياديهمُ الغضّةَ البائسه

لتصيرَ سياجاً يصدُّ الرصاصَ !

الرصاصَ..

الرصاصَ..

وآهِ..

يغنّون: "نحن فداؤكِ يا مصرُ"

"نحن فداؤ"....

وتسقطُ حنجرةٌ مُخرَسه

معها يسقطُ اسمكِ - يا مصرُ - في الأرضِ

لا يتبقّى سوى الجسدِ المتهشّمِ والصرخاتِ

على الساحة الدامسه!

دقّتِ الساعةُ الخامسه

....................

دقّتِ الخامسه

....................

دقّتِ الخامسه

وتفرّق ماؤكَ - يا نهرُ - حين بلغتَ المصبْ!

****

المنازل أضرحةٌ،

والزنازن أضرحةٌ،

والمدى أضرحه

فارفعوا الأسلحه

ارفعوا الأسلحه"

وفي ساعة متأخرة من الليل نادي قائد الأمن المركزي عبر مكبرات الصوت بضرورة فض الاعتصام، وأعطى المعتصمين فسحة نصف ساعة من الوقت قبل الاقتحام ، وتفرق المعتصمون إلى الشوارع الجانبية !!
.. وفي الصباح أصدرت الداخلية  قرار بمنع المظاهرات جاء فيه :
"حرصت سلطات الأمن بتوجية من القيادة السياسية على عدم التدخل في أنشطة الحركة الطلابية تقديرا للدوافع الوطنية، فضلا عن أن ما ينادون به أجمعت عليه أمتنا قيادة وشعباً".

تظاهرات الطلبة في يناير 1973 :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بدأت الدراسة في أداب القاهرة في الأسبوع الأول من أكتوبر 1972 ، كان أعضاء فريق الجوالة بالكلية يقومون بتعليق اللوحات الإرشادية، ومساعدة الطلبة الجدد في إنهاء الإجراءات، وكان أعضاء الأسر يحضرون للترحيب بالطلبة الجدد والتعريف بأنشطة الأسر والدعوة للانضمام إليها، وكانت هناك العديد من مجلات الحائط المتناثرة على جدران فناء الكلية تحوطها بعض البؤر المتناثرة من الحلقات النقاشية.
لكن كان من الواضح ملاحظات عدة أهمها :

أولاً : أن الانقسام أصبح واضحاً في الحركة الطلابية ؛ فقد انقسمت الحركة الطلابية إلى أربع فصائل :
1 ـ مجموعة من العناصر اليسارية المتماسكة التي تربطها روابط تنظيمية مع المنظمات اليسارية والماركسية .

2 ـ مجموعة من العناصر اليسارية المستقلة ذات الميول اليسارية والماركسية .
.. وكان يمثل كلا التيارين السابقين تكوين اسمه "نادي الفكر الاشتراكي".
3 ـ الناصريون الذين برزوا في تكوين اسمه "نادي الفكر الناصري" بعد الانقلاب الذي أحدثه السادات من داخل السلطة، واعتقل كل القيادات المحسوبة على مماراسات الحقبة الناصرية .

4 ـ حركة راديكالية تلتحف برداء الإسلام على أسس الأصولية الإسلامية أطلق عليها "الجماعة الإسلامية" أسوة بـ "الجماعة الإسلامية" التي أسسها أبو الأعلى المودودي في باكستان .

ثانيا : وأن اليسار لم يعد مهيمناً على الحركة الطلابية وموجها لحركتها، ولكنه مجرد فصيل منها خاصة أن اليسار بكل فصائله عجز عن تطهير مواقفه من الشوائب العالقة به من الدعوة لإنشاء دولة إسرائيل بزعم وحدة الطبقة العاملة في مصر وإسرائيل !!، وإن ادعى لاحقاً الدفاع غن الحق الفلسطيني !!

ثالثاً : أن كل فصائل الحركة الطلابية تسودها حالة من الضعف الفكري، وارتفاع النبرة الخطابية، وتدني مستوى التحليل السياسي والاقتصادي، وغلبة روح التحريض، والعجز عن تجسيد فكرة الالتحام بالجماهير .

رابعا : أن كل فصائل الحركة الطلابية ترفع شعار الديمقراطية أو الشورى ـ وفق تداول جماعات الإسلام السياسي ـ ولا تعمل به فكان أسلوب التحاور فيما بينها قائم على الشتائم والتكفير والتحقير وسوء لغة الحوار واللاتهام بالعمالة والمباحثية وتمزيق الملابس والضرب بالأيدي والعصى والمدى والسكاكين والجنازير .
مع اليوم الأول للدراسة استرعى انتباهي لافتة ضخمة علقت في مدخل فناء كلية الهندسة جامعة القاهرة كتب عليها بالخط العريض :

"حزب الله في مواجهة حزب بالشيطان"

كانت الكلمات أبعد من أن تطالها مفاهيمنا، وبالتساؤل عرفنا
حزب الله هو التيار الإسلامي المتحالف مع الدولة ذلك التصالح بينه وبين الجماعة بواساطة الملك فيصل واسفر عن اتفاق مرسى مطروح الذي أفرج السادات بمقتضاه عن 118 من معتقلي الإخوان المسلمين وأعاد للجماعة..... ومغازلة لهذا التيار كان السادات يبدأ خطابه بكلمة: "باسم الله"..... وينهي خطابه بالدعاء الديني.
وكان المعلوم لي أن التيار الإسلامي هو الإخوان المسلمين فقط بعد أن قام "الإخوان المسلمين" بالاستحواذ على الكيان الوليد الذي أطلق عليه اسم : (الجماعة الإسلامية) وإلحاق عناصرها بـ "الإخوان المسلمين" بعد لقاء تنظيمي تم بين الطالب عبد المنعم أبو الفتوح (الطالب بكلية الطب، وأحد الكوادر القيادية بالجماعة) وكمال السنانيري (أحد القيادات التاريخية لجماعة "الإخوان المسلمين"، وزوج السيدة أمينة قطب شقيقة الأستاذ سيد قطب) في أحد محلات الأحذية بوسط القاهرة .
أما حزب الشيطان كما فهمت؛ فكان  الطلاب الماركسيين والناصريين.
كانت الجماعة الإسلامية التي أمر بتأسيس نواتها الرئيس السادات وأمر المهندس عثمان أحمد عثمان بتخصيص دعم غير مسبوق لها من ميزانية شركة "المقالون العرب" على أن تخصم تلك الأموال من الوعاء الضريبي لـ " المقالون العرب"، وتلك لعبة يجيدها المهندس عثمان أحمد عثمان؛ فقد كان ينفق ببذخ من الوعاء الضريبي لـ " المقالون العرب" ومن أموال الشركة على حفلات الجنس الجماعي و "أعمال الكنترول" للإيقاع بضحايا صلاح نصر مقابل التغاضي عن فساده وإسناد بعض العمليات لشركته بالأمر المباشر !!
كان مهندس تنظيم الجماعة الإسلامية هو محمد عثمان إسماعيل الذي كانت تحوطه شبهات الانتماء إلى "الإخوان المسلمين" رغم أنه لم يثبت وجود اسمه في سجلات الجماعة !!
وتلك إحدى المناورات التنظيمية التى أرسى أسسها حسن أفندي البنا؛ فقد كان يأمر بعدم قيد بعض المنتمين للجماعة في سجلاتها بغرض إخفائهم والأمثلة كثيرة ومنها :

الكشف عن حقيقة
محمود العيسوي:
ـــــــــــــــــــــــــــ

 وبأسلوب المجرم المحترف، بدأ حسن أفندي البنا جرائمه في 24 فبراير 1945 باغتيال د. أحمد ماهر باشا في جريمة من النوع الذي يطلق عليه «الجريمة النظيفة»، وهي نوع من الجرائم التي لا يترك المجرم فيها أثرًا يدل عليه، فقد اغتال رجال البنا د. أحمد ماهر دون أن يتركوا بصمة واحدة، وألصقت التهمة بالحزب الوطني لسنوات طويلة، وظل الاعتقاد سائدًا بين الدارسين والمؤرخين أن اغتيال د. أحمد ماهر بعيد تماما عن جماعة الإخوان المسلمين، وظل السر مكتوما لأكثر من أربعين سنة إلى أن كشف الشيخ سيد سابق "مفتي الدم" في حديث لجريدة "المسلمون" أن اغتيال ماهر نفذه «النظام الخاص» بالإخوان المسلمين، وأن محمود العيسوي كان منخرطا «النظام الخاص» بشكل سري، وهو نفس ما أكده الشيخ الباقوري في مذكراته التي نشرتها مركز الأهرام للدراسات بعنوان:"بقايا من ذكريات" ، وأكده أيضا الأستاذ خالد محمد خالد في إحدى حلقات مذكراته التي نشرتها جريدة الوفد بتاريخ 15 / 101992|، ..  وأعاد نشرها في كتاب بعنوان : "قصتي مع الحياة" ، أكد فيها أن جريمة اغتيال د. أحمد ماهر كانت من تخطيط، وتنفيذ "النظام الخاص"، وأن العيسوي كان عضواً بالإخوان، وفدائي في النظام الخاص، وأن النظام الخاص كان بارعاً في التنكر؛ فهو بعد تدريب أعضاءه علي كافة فنون الإرهاب، يأمر بعضهم بأن يلتحق ببعض الأحزاب والجماعات حتي إذا اختير يوما لعمل من أعمال الاغتيال والإرهاب لم يبد أمام القانون والرأي العام من أعضاء الإخوان ..

الكشف عن حقيقة
اللواء المـــواوى:
ـــــــــــــــــــــــــــ

كان اللواء أحمد على المواوى، قائد القوات المصرية في حرب فلسطين ـ وكان من العناصر المنتمية لـ "الإخوان المسلمين" سراً في ذلك الوقت ـ، ورفض خطة البكباشي أحمد عبد العزيز للاستيلاء على القدس بل واختلفا اختلافا شهد عليه أعضاء القيادة العامة وقتها، الخلاف العنيف الذي حدث بين اللواء أحمد على المواوى، والبكباشي أحمد عبد العزيز، وكيف كان يعطي الأمر بتحرك ثم ما إن تشرع القوات الصادر لها الأمر بالتنفيذ، حتي يلغيه أو يعدله أو يأمر بغيره، وهو ما يوصف عسكريا بدفع القوات للإرهاق والفوضي وبالتالي السير نحو هزيمة حتمية .

وهذا يقودنا للتساؤل عن الكيفية التي استدرج بها اللواء أحمد على المواوى البكباشي أحمد عبد العزيز إلى حتفه برصاص مصري !!

وقد أعلن اللواء أحمد على المواوى انضمامه علنا لجماعة "الإخوان المسلمين" بعد تقاعده، وجرى الإعلان عن ذلك في حفل ضخم أقيم بمقر الجماعة بالأسكندرية، وكان المواوى صوتهم الذى ارتكنوا إليه فى ادعاءاتهم بمشاركة قوات منهم فى حرب ١٩٤٨، وادعاءات البطولات!!؛ ومن ثم كتابة التاريخ بما يتراءي ومصلحة الجماعة.

حكاية الطالبين
محمد عبد القدوس
وزياد عــــــــــودة :
ـــــــــــــــــــــــــــــ

توقفت طويلاً أمام حكاية الطالبين محمد عبد القدوس الطالب بكلية الحقوق وابن الكاتب إحسان عبد القدوس (حقوق 1974)، والطالب زياد عــــــــــودة ابن القاضي عبد القادر عودة الذي قضت محكمة الغدر بإعدامه في حادث المنشية 1954 .

انضم محمد عبد القدوس إلى جماعة "الإخوان المسلمين" والذي لقى ترحيبا من المرشد الثالث للجماعة عمر التلمساني بزعم أن انضمامه أفضل دعاية للجماعة مع التشديد على عدم التعويل عليه أو تكليفه بمهام تنظيمية !!

كان محمد عبد القدوس مثالاً للشخص التافهة الذي يقوم بحركات بلهاء في المحافل منها توزيع الإمساكيات وحمل العلم ومكبر الصوت في مناسبات احتجاجية دون صياغة بيان محدد لما يدعيه من احتجاج، مما حدا بالبعض بنعته بـ "عبيط القرية"، وبعد أن تم تعيينه عضوا في المجلس القومي لحقوق الإنسان براتب شهري 15 ألف جنية شهريا في 2013 بعد إزاحة الإخوان وخلع الرئيس المنتخب د. محمد مرسي خرس صوته ولم يعد يُرى له وجه !!

في المقابل لحالة محمد عبد القدوس كانت حالة الطالب زياد عـودة ابن القاضي عبد القادر عودة الذي انضم إلى نادي الفكر الناصري واعتنق فكر قاتل أبيه، .. وكلا الطالبين مثالين لحالة ما من التخفي .. ربما أو الخروج من عباءة الأباء .. أو اختراق كيانات لحساب الغير .. ربما !!

***

لم ينكر محمد عثمان إسماعيل حقيقة الدور الذي قام به في تكوين الجماعات الإسلامية وبرر ذلك بأنه أرادها إسلامية وليست إرهابية لكنها مارست كل أنواع البلطجة على شعب مصر؛ فليس غريبا بعد ذلك خروج رءوس التنظيمات الإرهابية من جامعة أسيوط ليقتلوا الرئيس السادات في يوم 5 أكتوبر 1981، ويرتكبوا مذبحة مديرية أمن أسيوط البشعة التي راح ضحيتها 181 في صبيحة عيد الأضحى المبارك في 8 أكتوبر 1981، وأن يقود أفرادها التمرد المسلح ورفع السلاح على الدولة وقيام  أفرادها بالعديد من الأعمال الإرهابية التي نفذها عصام دربالة، ناجح إبراهيم، كرم محمد زهدي، عاصم عبد الماجد، فؤاد محمود حفني، ومحمد ياسين همام، حمدي عبد الرحمن، أسامة إبراهيم إبراهيم وأحمد حسن دياب، وغيرهم بالإضافة إلى عديد من إرهابي  الجماعات الإرهابية التي خرجت من عبائتهم في القاهرة عبود الزمر ومحمد عبد السلام فرج وأيمن الظواهري قائد القاعدة. 
تشير التقارير الأمنية أن محمد عثمان إسماعيل كان من الإخوان وله صلات وطيدة بقياداتها مثل المرحوم محمد عبد العظيم لقمة وعمر التلمساني ومصطفى مشهور وغيرهم، فقد كان محمد عثمان إسماعيل عضوا قياديا نشطا في شعبة الإخوان في أسيوط.

ولكن السادات تجاهل كل ذلك وعينه محافظا لأسيوط، وجدد له لثلاثة فترات متتالية، وعينه برتبة وزير، رغم أن المحافظين وقتها كانوا برتبة نائب وزير، وقبل ذلك كان قد عينه أمين التنظيم بالاتحاد الاشتراكي في 1/7/1972.

وقد أتخذ قرار إنشاء "الجماعة الإسلامية" في اجتماع في مقر الاتحاد الاشتراكي حضره السيد محمد إبراهيم دكروري ومحمد عثمان إسماعيل، واتخذ القرار السياسي بدعم نشاط الجماعات الدينية ماديا ومعنويا؛ واستخدامها كحائط صد في مواجهة المد الشيوعي وهيمنته على الحركة الطلابية  .

وتم الاستعانة بالخبرات التنظيمية لكل من : المهندس سيد مرعي، وعلوي حافظ عضو مجلس الشعب، ود. محمود جامع، ود. أحمد كمال أبو المجد، وأعضاء من لجنة التنظيم داخل الاتحاد الاشتراكي، وأمناء الشباب في المحافظات، وضباط من مباحث أمن الدولة، وأعضاء بعض الاتحادات الطلابية التي تهيمن عليها السلطة.

لم تكن كوادر "الجماعة الإسلامية" المصنوعة قادرة على إدارة حوار مقنع أو منتج؛ فكانت تكتفي بتمزيق مجلات حائط التابعة للفصائل اوالأسر لأخرى والاعتداء عليهم بالجنازير والسكاكين والمدى !!

كان العنف هو القاسم المشترك بين أعضاء "الجماعة الإسلامية" والجماعات اليسارية (جماعة أنصار الثورة الفلسطينية ـ جواد حسني ـ أسرة مصر ـ أسرة عبد الحكم الجراحي)، والجماعات الأخري التي تلتفح برداء الإسلام والتي كان يشاع أنها تتبع أجهزة الأمن وتتمتع بحمايتها ومنها جماعة "شباب الإسلام" !!

كان قائد جماعة "شباب الإسلام" طالب بكلية الهندسة يدعى عدلي مطصفى، وكان يبدأ بإلقاء موعظة يدعو فيها إلى الاعتصام بحبل الله، ومهاجمة الشيوعية ودعوة أعضاء جماعته إلى تمزيق مجلاتهم  والاعتداء على  محرريها!!

كان أداء جماعة "شباب الإسلام" دائما ما يأتي متزامناً مع أداء جماعة أخرى اتسمت بالهزل وهي جماعة "قدامي الطلبة" وقد تكونت تلك الجماعة من الطلبة الرسابين الذين قضوا في دراسة الهندسة ما بين   6 إلى 10 سنوات أو يزيد؛ حيث كان يقف أحد هؤلاء قدامى الطلبة بعد تمزيق مجلات الحائط وضرب الطلاب حيث كان أحد هؤلاء قدامى الطلبة يرتدي طربوشًا أحمر بذر أسود، ويقف على أحد الكراسى ويلقي قصائد شعر عامية هزلية يطلق عليها "الشعر الحلمنتيشي" تتندر من عدد السنوات العشرة الذي قضاها بالكلية وما زال طالبًا في السنة الثانية........وقصائد زجل ساخرة من الدراسة وصعوبتها.. وكان الزجل مصاغ بطريقة شيقة وجميلة، وكان الهدف بعد تمزيق المجلات وإيقاع الأذى بالطلبة الخصوم نقل الكتلة الضخمة من الطلبة إلى حالة من السخرية والضحك وإزالة التأثير النفسي للعنف وفض حلقات النقاش بشكل لطبيعي.

كان يتردد في أوساط الطلبة أن جماعة "قدامي الطلبة" تتبع مباحث أمن الدولة فرع الجيزة، وأنه قد تم تخصيص مبالغ كبيرة لهم لشراء مستلزمات الهزل من طرابيش وعصى ومسابح وشراء نصوص الأغاني الهزلية والتدريب على الإلقاء الفكاهي لها، . . وأن هذا النمط من الهزل هو إبداع مباحثي خالص، وكنت أميل إلى هذا الطرح وإن كنت لا أمتلك عليه دليلاً.

وسبب هذا الميل من جانبي أن أجهزة القمع في المؤسسات الأمنية قد استعملت علم النفس في  استمالات الجماهير المختلفة كما أفادت من تلك العلوم في عمليات غسيل الدماغ القذرة والتلاعب بالوعي، وقد أُرسلت البعثات إلى الأتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية لدراسة هذا الأسلوب سواء في القمع أو التلاعب بالوعي .

ومثال ذلك تجربة المباحث العامة في الدفع المنظور أو غير المنظور لأعضاء الحزب الشيوعي المصري لحل الحزب من خلال تعريض أعضاء الحزب لحالة من الانسحاق الإنساني في معتقلات االناصرية بإهانة الكرامة الإنسانية سواء بعمليات التعذيب الممنهج أو عمليات غسيل المخ أو عمليات غسيل الدماغ القذرة باستخدام العقاقير أو استخدام الجراحات الإجرامية لإزالة الفصوص الأمامية من الدماغ أو من خلال الاستمالات المختلفة منها إذاعة أغاني الشوق والحنين بأصوات مفعمة بالشجن على المعتقلين في محبسهم، مع إجبار أهالي المعتقلين على مخاطبتهم بخطاب مفعم بالوحشة والحنين واللوعة ويقطر بمعاني الحزن لافتقادهم بالتغييب في غياهب الاعتقال !!

***
كان من الواضح أن أجهزة الدولة قبل بدء الدراسة في الأسبوع الأول من أكتوبر 1972 قد عقدت العزم على إستثارة الطلبة وتصعيد وتيرة الصدام معهم سواء من خلال عمليات الاعتقال والتوسع في اتخاذ إجراءات مجالس التأديب وتمزيق مجلات الحائط وبلغ الأمر ذروته عندما قام نائب رئيس الجامعة د. حسن حمدي (وكيل كلية الطب) بتمزيق مجلات الحائط وعندما حاول أحد الطلبة الدفاع عن مجلته صفعه د. حسن حمدي على وجهه، وكانت ثورة الطلبة على هذا التصرف الأرعن من عضو هيئة تدريس افتقد الكياسة في التعامل مع أحد الطلبة رغم صدور التعليمات إلى عمداء الكليات باحتواء تداعيات حماقة د. حسن حمدي وتبريرها في إطار أبوي وأنها لا تزيد عن واقعة أو سوء فهم بين أب وابنه !!

لكن حماقة د. حسن حمدي لم تقف عند هذا الحد بل فوجئ الطلبة من محرري المجلات الممزقة باستدعائهم للمثول أمام مجالس التأديب.. في ذلك الوقت ثارت جموع غفيرة من الطلبة وحاصرت مقر إدارة الجامعة حيث تعقد مجالس التأديب وطالبت بتقديم د. حسن حمدي للتأديب لارتكابه ما يخالف الأعراف الجامعية بصفع طالب على وجهه !!

كان الطلبة يهتفون :

" عملوا ليكوا ولينا مجالس
هيه حضانة والا مدارس "

.. ولم يحضر أعضاء اللجان المكونة لمجالس التأديب لاستشعارهم الحرج ولخوفهم من الجماهير الغفيرة من الطلبة التي تواجدت في قاعة الاجتماعات الكبرى .

وطالت الهتافات الرئيس أنور السادات، وطعنت في قدرته على إدارة شئون البلاد ؛ فجاء في شعارات التظاهرات :

" قولوا للنايم في عابدين
حكمك زفت وزي الطين "

ومع مساء ليلة 27 ديسمبر 1972 بدأت حملة من الاعتقالات في أوساط الطلبة، ومع كل صباح يتنامى العلم بزياد أعداد المعتقلين؛ فاشتعلت التظاهرات في الجامعة وقوبلت بقمع وحشي من قوات الشرطة؛ مما حدا بالطلبة بالاحتماء بالمدينة الجامعية؛ فقامت قوات الشرطة باقتحام المدينة الجامعية وممارسة أبشع أشكال القمع على الطلبة، وفي 3 يناير 1973 تضامن طلبة المدينة الجامعية مع زملائهم ورفضوا استلام الوجبات وتحطيم زجاجات اللبن، وانضم تلاميذ مدرسة السعيدية إلى الاحتجاجات، .. ولجأت الحكومة إلى السيناريو المعتاد بتقديم موعد أجازة نصف العام وإغلاق الجامعة .

بيان الكتاب والصحفيين :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي ذلك الوقت وفي إطار إظهار التعاطف مع الطلبة أصدر مجموعة من الكتاب والصحفيين بيان في يناير 1973 جاء فيه:

    « .. وتمضي الأيام وتصبح كلمة المعركة مجرد كلمة غامضة لا حدود لها ولا أبعاد لمعناها ولا تحليل لعناصرها، مجرد كلمة تلوكها الأفواه، مستهلكة لكثرة مضغها
..............
.................

.. ولما كان الشباب هو الجزء الحساس في الأمة، وهو الذي يعنيه المستقبل أكثر من غيره، فهو لا يرى أمامه إلا الغد الكئيب . فهو يجتهد في دراسته ليحصل على شهادته النهائية؛ فإذا هي شهادة القذف به في رمال الجبهة لينسى ما تعلمه ولا يجد عدوا يقاتله، وهذا أيضا بالنسبة إليه هو الضياع ... أما بقية المواطنين فهم يعيشون في حياة صعبة سيئة الخدمات العامة، وكل نقص أو إهمال أو توقف أو عبث يختفي خلف صوت المعركة وفي انتظار المعركة وتمحكاً بالمعركة . وإذا بالأمر في نظرهم ينقلب إلى مهزلة وإلى سخط وإلى قرف عام» .

   .. وقد علمت فيما بعد الحقيقة أن "بيان الكتاب والمثقفين"  والذي وقع عليه عدد من الكتاب والمثقفين لم يكن إلا بتكليف من د. محمد عبد القادر حاتم ضمن خطة الخداع الاستراتيجي التي أعدها لحرب أكتوبر 1973، ولم يكن مضمونه بعيداً عن المعنى الذي كتبه محمد حسنين هيكل في سلسلة مقالات بعنوان: «حالة اللا سلم .. واللا حرب»، .. كما أن الطريقة التي نشر بها البيان في صحف الخارج بما يوحي بأنه موجه ضد الدولة!!، وقد اعترف توفيق الحكيم بهذا صراحة في خطاب أرسله إلى الرئيس أنور السادات .

وقد فسر لي هذا الأمر إصرار الحكومة على الاصطدام بالطلبة والتصعيد معهم .

الجماعة الإسلامية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

قامت "الجماعة الإسلامية" ككيان مصنوع بتوجية ودعم حكومي وكانت تلك الجماعة الناشة  بكوادرها المصنعة بلا تراث، ولا تقليد سياسي وتميزت بقصر النظر والجهل بأمور الدولة وشئون الحكم، وكان القائمون عليها يستحضرون حواديت تراثية بدائية عن الحكم  والخلافة ترجع  إلى ما قبل نشأة الدولة الحديثة مثل فتاوى ابن تيمية في قتال كل فئة تمتنع عن أداء شريعة ظاهرة متواترة من شرائع الإسلام كالصلاة أوالزكاة أوالحكم بما أنزل الله في الدماء والأموال والأعراض أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما اعتمد عليه الأستاذ سيد قطب فيما أسس عليه الحكم بـ "جاهلية المجتمع"، واعتمد عليه محمد عبد السلام فرج مؤسس تنظيم الجهاد في كتابه بعنوان :"الفريضة الغائبة، و جعل هذه الفتاوى الأساس النظري لقيام تنظيمه وتسويغ أعماله كلها، والتي كان د. عمر عبد الرحمن يبتكر له الحجة الشرعية كلما أعوزتهم الحجج للمضي في غيهم .


وكانت مصادرهم الحديثة في التثقيف كتب الأستاذة أبي الأعلى المودودي ومالك ابن نبي وسيد قطب، ودون فهم حقيقي لما كتبه الأستاذ سيد قطب في كتابيه بعنوان : "العدالة الاجتماعية" و "معالم في الطريق"؛ فقد كان الأستاذ سيد قطب يعني بـ "الحاكمية الإلهية" الحاكمية التشريعية ممثلة في التشريع الذي أنزله الله لعباده من فوق سبع سموات والله سبحانه وتعالى يأمر عباده وينهاهم ويحل لهم ويحرم عليهم ففكرة الحاكمية ليست من اختراع الأستاذ سيد قطب لكنه أصل إسلامي مُجمع عليه ولا يعني ثيوقراطية الدولة؛ فسند السلطة السياسية فمرجعه إلى الأمة فهي التي تختار حكامها وهى التي تراقبهم وتحاسبهم وتعزلهم والتفريق بين الأمرين هام والخلط بينهم هو التضليل بعينه !!

ومن مصادرهم الحديثة في التثقيف بعض الكتيبات التي تحمل التوجة السلفي المحافظ الوارد من السعودية بغزارة حاملاً الفكر الوهابي السلفي؛ فقد تسابق السعوديون لااجتذاب أ شباب "الجماعة الإسلامية" الغر وتجنيدهم وتلقينهم الفكر الوهابي بكل تشوهاته حيث كانت تأتي كتب الفكر الوهابي من السعودية بالآلاف وكانت كلها هدايا "تُهدى ولا تباع" وتوزع على الطلاب بالمجان دون فهم لما فيها من مشكلات فكرية ومنهجية، وكانت السعودية تخطط لنشر الفكر الوهابي من خلال تقديم رحلات العمرة المجانية التي كانت تمنحها السعودية لأعضاء "الجماعة الإسلامية" في الأجازة الصيفية حيث كان العلماء السعوديون يرحبون بهم ويمارسون معهم عمليات التضليل الفكري ويعدونهم  ليكونوا امتداد للفكر الوهابي في مصر، وقد وصل عدد الاجمالي للطلبة الذين افادوا من تلك المنح 15 ألف طالب وطالبة وكانت تلك المنح إحدى روافد نقل الفكر الوهابي المتشدد إلى مصر، وكان بعض الطلاب يتخلف عن القدوم مع الرحلة حتى موعد الحج ويعود من الرحلة حاجاً معتمراً وشيخاً سلفيا وهابياً !!

حقيقة الوهابية :
ــــــــــــــــــــــــــ

يزعم دعاة الوهابية أن هدف من الدعوة هو إخلاص التوحيد ومحاربة الشرك، لكن الهدف الحقيقي هو إغواء البسطاء وعوام الناس واستغلال غوغائيتهم وعشوائية تدينهم ومعارفهم في تمزيق وحدة المسلمين وإثارة الفتن ونعرات التناحر فيما بينهم خدمة للمحتل الأوربي، وقد اعترف بعض الأوربيون أن الوهابية انشئت بأمر مباشر من وزارة المستعمرات البريطانية كما ورد في كتاب سنت جون فيلبي بعنوان:"تاريخ نجد"، ومذكرات حاييم وايزمن أول رئيس للكيان الصهيوني، ومذكرات مستر همفر ضابط المخابرات البريطانية الذي شرح كيف تجنيد محمد ابن عبد الوهاب، وكيفية تطويعة بمعرفة النساء العاملات بالمخابرات البريطانية للقيام بالمهام المحددة، وكتاب د.همايون همتي بعنوان :" الوهابية نقد وتحليل".

وكانت أقصر طرق الوهابيين لاستباحة دماء المسلمين هي التكفير فقد ورد في رسالة محمد ابن عبد الوهاب بعنوان :"كشف الشبهات" أنه أطلق لفظ الشرك والمشركين على عامة المسلمين عدا أتباعه في نحو 24 موضعاً .

وأطلق لفظ : الكفار، والمرتدين، وجاحدي التوحيد، وأعداء الله، ومدعي الإسلام، في نحو 20 موضعا ، وعلى هذا النحو سار أتباعه .


تأثير الوهـــابية على ســـلوك
طلبة " الجماعة الإسلامية" :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقد بدأ هؤلاء الطلبة فور عودتهم من "رحلة غسيل الدماغ" في ممارسة شتى أشكال التشدد والتنطع الوهابي الذي كان في مجملة يدور حول مسائل تافهة لا تمس جوهر العقيدة، وتتركز معظمها حول المرأة؛ فبدأ هؤلاء في الفصل بين الطلاب والطالبات في مدرجات الدراسة ومحاولة فرض هذا الأمر بالقوة !!

وقام هؤلاء بمحاولة منع كافة الأنشطة الفنية في الجامعة؛ فقد حدث أن أعلن اتحاد طلاب كلية الطب عن حفل غنائي في سنة 1973 وقبل الحفل بنصف ساعة احتل أعضاء "الجماعة الإسلامية" المدرج، وأخذوا يقرأون القرأن، ولم تستطع الفرقة الغنائية الدخول، وانتهى أمر الحفل، ولما فطن الطلاب من أعضاء اللجان الفنية إلى تلك الحيلة قاموا في مرة التالية بحراسة مكان إقامة الحفل، ولم يسمحوا بالدخول إلا لمن يحمل تذكرة، ولم يكن أمام "الوهابيون المصريون" سوى تحطيم الأبواب واقتحام الحفل بالقوة وتحطيم الآلات الموسيقية، والإيذاء البدني للطبة أعضاء اللجان الفنية بالجنازير والعصي والمدى والسكاكين .

وقد أعادت تلك الحادثة إلى أذهان المصريين ذكرى مؤلمة حين أفسد رعاع الوهابية فرحة المصريين بوصول المحفل الشريف إلى الأراضي المقدسة في 2 يوليو 1926؛ فاعتدوا على المحفل المصري في منى والحجاج المصريين .

كما قام رعاع الوهابية بإقامة حد شرب الخمر وتوقيع عقوبة الجلد على أحد الجنود المصريين المصاحبين للمحمل لتدخينه سيجارة !! بما ينطوي على فساد الاستدلال باعتبار السجائر من المسكرات !!

الأغرب من كل هذا وهو إثارة قضايا فقهية غريبة عن المجتمع المصري مثل جواز نظر العم أو الخال إلى وجه الفتاة وكفيها !!

وبعد نجاح "الجماعة الإسلامية" في الدفع بعناصرها إلى اتحاد طلاب الجامعة بمساعدة الدولة ممثلة في مباحث أمن الدولة أصبح اتحاد الطلاب برئاسة الطالب عبد المنعم أبو الفتوح (كلية الطب) هو الجناح الاجتماعي لـ "الجماعة الإسلامية"، واستغلت الجماعة الميزانية الضخمة للاتحاد والتمويل السخي المجهول المصدر في أعمال التجارة لحسابهم وتحقيق الثراء الشخصي؛ فقد تصور أعضاؤها من الوهابين المصريين أن النقاب والحجاب والجلباب هى الأشكال التي يجيزها الإسلام وبدأوا يروجون لهذا التصور؛ لتوفير غطاء  شرعي لتجارتهم؛ فكانوا يبعون ذلك الزي للطالبات بستة جنيهات !!

ظهور مصطلح "السلفية" :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ظهر مصطلح "السلفية" لأول مرة في التاريخ بعد انتهاء "الحروب الإفرنج" في القرن 12  فقد روعت الأمة الإسلامية بعجزها عن صد موجات الأفرنج وما لحق بها من هزائم رغم تفوق المسلمين في العتاد والعدد وعلى الرغم من نجاح المسلمين في طرد الصليبين من المنطقة في القرن 13 إلا أن ذلك تم تحت النظام مظلة النظام الإقطاعي العسكرى الذي أفرز نظماً سياسية سرعان ما تسلطت على الناس عندما انتهت من دورها التاريخي في التصدي لحملات الإفرنج .

ووجد الناس أنفسهم في مواجهة عسكرية وحضارية بين الحضارة الإسلامية والحضارة الأوربية الكاثوليكية؛ بما حدا بهم  إلى الدعوة لتوحيد جهود الجبهة الإسلامية ضد حملات  الافرنج باحياء المذهب السني وتأسيس المدارس لتدعيم هذا المذهب في مواجهة الدعوة التشيعية بعد تأكدهم من فشل الخلافة الفاطمية في فهم حقيقة نزوح الافرنج في شكل موجات شعوبية مسلحة وإخفاق هذه الخلافة في جهودها العسكرية ضد الافرنج؛ فأسس صلاح الدين المدارس لتدعيم المذهب السني، وكان يعتقد أنه طريق التعبئة المعنوية اللازمة لضرب وجود الافرنج .

وفي عصر سلاطين المماليك تزايد اعتماد السلاطين على أهل العمامة من علماء الدين والفقهاء كما تزايد تدعيم الاتجاة المحافظ في الفكر والتأليف باعتبارهم  واجهة شرعية للحكم.. وقد جنحت أرائهم إلي تملق الدولة وتبرير أفعالها .

وارتأى الناس في الثقافة الرسمية حائلا دون تحقيق مصالحهم الشخصية فبدأو يتجهون إلى الثقافة الشعبية بكل ما تحمله من قيم التعويض النفسي عن واقعهم البائس وتحمل لهم الأمل وتنتقم لهم من رموز الظلم فظهرت الملاحم الشعبية التي تحكي عن البطل الشعبي الذي يظهر لينصف أهله وناسه ويتجاوز الواقع المؤلم بحدوده المكانية وأطره الزمانية صوب اللا محدود زماناً ومكاناً .. بينما ارتأى المثقفون بضرورة الدفاع عن الذات الحضارية وجمع تراث الأمة وحفظه؛ فظهرت كتب المذيلات لشرح متون كتب التراث في ذيل الصفحات؛ لذلك سميت بـ "كتب المذيلات"، وتم إنشاء معجمي اللغة "لسان العرب" لابن منظور و"القاموس المحيط" للفيروز البادي .

وفي هذا العصر تجسد مفهوم "السلف الصالح" مفهوما اجتماعيا وثقافيا للخروج من المأزق الأخلاقي والقيمي الذي خلفته حروب طال مداها وألقت بظلالها على المنطقة وخاصة مع تزايد أعداد الأسرى من كلا الفريقين بما تسبب في رخص أسعار العبيد فكان العبد أو الجارية تباع بقطف عنب أو ثمرة بطيخ؛ مما تسبب في حالة من السيولة السكانية خاصة أن ملوك الافرنج قد رحلوا تاركين خلفهم الكثير من الجنود الذين لم تتسع السفن لحملهم إلى أوربا!!

لكن في العصر الحديث تم استحضار مصطلح "السلف" و"السلفية" للتعبير عن فكر الوهابية بما يمثلة من القادم من الصحراء من ممارسات البدو ويحمل سمات البادية ولا يحمل في ثناياه مسحة من حضارة بل يشد المنطقة إلى "عصور الظلام" إضافة إلى ما يمثله من اللعب بـ "ورقة الدين" لممارسة لعبة "صناعة الملوك والحكام" التي صاغت ملامحها المخابرات البريطانية لنهب ثروات المنطقة .


"الجماعة الإسلامية"
في قبضة الإخـــوان :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

هكذا أصبحت "الجماعة الإسلامية" بما تتمع به من حرية الحركة بعقد المؤتمرات وإقامة المعسكرات والمخيمات أقرب إلى بناء ضخم فخم مشييد يسكنه مجموعة من الصبية الجهلاء المغامرين الذين أتوا من أسفل السلم الاجتماعي، ويرغبون في تطويع العقيدة للثراء والترقي الاجتماعي، ولم يضييع "الأخوان المسلمين" الخارجون من سجون الناصرية الوقت والجهد للدخول إلى ذلك البناء وممارسة طرحهم الجديد لخيار المشاركة في النظام، والتغيير من داخله .

دخلت النسور العجوزة لـ "الأخوان المسلمين" إلى الحلبة بفكرهم التقليدي وتجاربهم التنظيمية الحركية وبأدنى الجهد قامت بتطويع الفراخ الصغيرة لـ "الجماعة الإسلامية" بزعم حماية شبابها من السلفية الوهابية الواردة من الخارج، والحقيقة أن "الأخوان المسلمين"  لم يكن يعنيهم حماية أحد من فكر أحد، كان التقاء الإخوان بشباب"الجماعة الإسلامية" ينطوي على انتهازية الفريقين؛ فكان هدف "الأخوان المسلمين" دائما مصلحة التنظيم التي كانت تري في شباب "الجماعة الإسلامية" تجديد لشباب التنظيم التي شاخت كوادرة في سجون الناصرية، وكان هدف "الجماعة الإسلامية" هو الإفادة من الخبرة التنظمية والحركية لـ "الأخوان المسلمين"، والإنطلاق إلى أفاق الأممية وجعل جماعتهم دولية عبر الإنخراط في التنظيم الدولي لـ "الأخوان المسلمين" .. كانت النسور الجوارح  من "الأخوان المسلمين" ترد من رافدين:

1 ـ رافد يرد من "النظام الخاص" بخبراته في المراوغة والتنظيم والإرهاب .

2 ـ رافد يرد من جموع الإخوان بسلوكها الفضاض والذي دأب على ممارسة سياسة الخفاء في بعض المواقف والقضايا والتجلي في بعض المواقف والقضايا.

كانت البداية إثارة حالة الإبهار لدى شباب "الجماعة الإسلامية" الغر من خلال تدبير لقاءات مع بعض العلماء المنتمين إلى "الأخوان المسلمين" مثل الشيخ محمد الغزالي ود. يوسف القرضاوي والشيخ سيد سابق "مفتي الدم" والبهي الخولي .

وبأوامر من أمن الدولة أصبحت مكاتب المسئولين مفتوحة أمام الطالب عبد المنعم أبو الفتوح؛ فكان يستطيع مقابلة د. صوفي  أبو طالب رئيس جامعة القاهرة أو د. حافظ غانم وزير التعليم وإملاء طلباته إذا حدثت أيه مشكلة مع "الجماعة الإسلامية"  في أي جامعة من الجامعات المصرية، والتي تم طرحها بديلاً عن "اللجنة الوطنية العليا للطلبة" التي كان يسيطر عليها اليسار!!

.. كانت د. زهيرة عابدين الأستاذ بكلية الطب، وزوجة د. عبد المنعم أبو الفضل الأستاذ بالكلية وأحد كوادر الأخوان المسلمين تقوم بعمليات التوجية اليومي للطالبات أما فيما يتعلق بتساؤلات الطالبات عن بعض الأمور فقد تطلب الأمر تدبير لقاءات بين الطالبات وزينب الغزالي التي استطاعت بحكاياتها أن تخلب عقولهن .. لا أنكر أنني تأثرت بحكاياتها عندما استضافتها الجماعة الإسلامية بالكلية بمدرج 78 بأداب القاهرة، لكن مع التوقف المتعقل مع تلك الحكايات تبلورت رؤية أخرى أزعم أنها الأقرب للحقيقة !!

 في مذكرات السيدة / زينب الغزالي بعنوان : «أيام من حياتي»، تحاول الحاجة زينب ـ كما تحب أن تلقب نفسها بتلك الكنية ـ أو المجاهدة الكبيرة ـ كما يحب المتشيعيين لها أن يلقبوها بتلك الكنية ـ إيهامنا من السطر الأول من المذكرات أنها لم تكن في خصومة عادية مع شخص عادي، بل كانت في خصومة مع رأس النظام؛ فتقول : «كان عبد الناصر يكرهني»، واستغرقتنا في حديث عن تلك الكراهية دون أن تقدم سبباً مقنعاً لها .. بداية من محاولته قتلها في حادث سيارة، مروراً بحل المركز العام للسيدات المسلمات التي كانت ترأسه وإغلاق مجلة « السيدات المسلمات» التي كانت ترأس تحريرها، ومساومتها علي الانضمام للاتحاد الاشتراكي مقابل أن تصبح وزيرة للشئون الاجتماعية، وإصرارها علي رفض الذهاب لاستقبال الرئيس جمال عبد الناصر في المطار ودون أن تقدم لنا تبريراً منطقياً لما تضفيه على نفسها من أهمية تجعل من رئيس الدولة مصراً على أن تكون في شرف استقباله، وانتهاء باعتقالها في 5 أغسطس  1965فيما اسمته المؤامرة الكبرى، وكيف أمر عبد الناصر بتعذيبها فوق تعذيب الرجال بخطاب رسمى مذيلاً بتوقيعه وممهوراً بخاتم رئاسة الجمهورية حتى خرجت من السجن بعد وفاته في 10 أغسطس 1971 .
   تحاول الحاجة زينب أو المجاهدة الكبيرة إيهامنا بما لا يتفق مع طبائع الأمور ولا يستقيم معها؛ فتحاول أن تصدر لنا الوهم بأننا أمام امرأة قدت من صخر فهي ضد الماء والنار وضد الكسر والجوع والعطش وضد الجلد والكلاب العقورة وذئاب السلطة المسعورة الجائعة لنهش لحمها ومصمصة عرضها حتى أخر قطرة من عفاف، وأنها تحملت من صنوف العذاب ما يعجز عن احتماله أولى العزم من الرجال من ذي القوة والبأس، وبإحصاء بسيط  لما روته الحاجة زينب أو المجاهدة الكبيرة عن ما لاقته من تعذيب بأمر الرئيس عبد الناصر نكتشف أنها :

   جلدت 500 جلدة  6  مرات ، و250 جلدة مرة واحدة ، وعلقت على  أعمدة الحديد والخشب 11 مرة ، وضربت بالسياط 46 مرة على أوقات متفرقة ، ووضعت في غرف الكلاب المسعورة 9 مرات لمدة 3 ساعات في كل مرة وأن الكلاب ظلت تنهش جسدها ولم تترك أنيابها أي موضع ، فروة الرأس الكتف الظهر ، ثم أخرجوها فإذا الثياب لم تتسخ وكأن ناباً واحداً لم تنهش في جسدها  ، وتركت  بلا طعام أو ماء 6 أيام متتالية، وأدخلت زنازين الماء 5 مرات وغرف النار 3 مرات ، وأحضروا لها وحوشاً بشرية حاولوا أن يفعلوا بها الفحشاء 3 مرات ، في المرة الأولى أدخلوا عليها وحشاً في صورة جندي وأغلقوا عليهما الزنزانة، فتحول الوحش إلى كائن وديع وقال لها ك "لا تخافي يا خالة لن أؤذيك ولو قطعوني"، ولما فتحوا الزنزانة أعدموه فوراً لخيانته، وفى المرة الثانية أحضروا لها مجموعة من الذئاب وأغلقوا الزنزانة، وعندما اقترب منها ذئب انقضت عليه وغرزت أسنانها في عنقه ، فإذا به يسقط تحت أقدامها خائراً ويخرج من فمه زبد أبيض مثل رغاوي الصابون، فحملوا الجثة وتركوها وهم مذعورون، وفى المرة الثالثة .. أعدوا حفنة من الجنود لافتراسها سقوهم الخمر والحشيش وما يشتهون من طعام، وحقنوهم في المستشفى ليصبحوا مثل الكلاب المسعورة، ولكنهم فشلوا في مهمتهم .

   وعن البيعة وانضمامها لجاعة الإخوان المسلمين تقول الحاجة زينب أو المجاهدة الكبيرة أنها بايعت حسن البنا علي سلم دار الشبان المسلمين بعد حل الجماعة في ديسمبر 1948، وكانا وحدهما وأنه قبل بيعتها، لكن علي عشماوى يذكر في مذكراته أنه عندما سألها في وجود الأخ عبد الفتاح إسماعيل عن كيف بدأت علاقتها بالإخوان أجابته نصاً وبالحرف الواحد : (أنها فى إحدى الليالي وكانت ـ حالتها الروحانية غاية في الصفاء ـ صلت العشاء، ثم نامت وفى نومها رأت الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة، وقال لها أنه آن الآوان لتتصحح مسارعملها الإسلامي، وتعمل من خلال جماعة "الإخوان المسلمين"، وقدم لها يده، ووضع كفها بين كفيه،  ثم تلا البيعة وهى تردد خلفه حتى انتهت، ومن يومها وهى تعمل مع الإخوان بتلك البيعة )، بما يضع الكاتب في مأزق؛ فلا أحد حضر بيعة الحاجة زينب للبنا على سلم جمعية «الشبان المسلمين»، ومات الشاهد الوحيد الذى يستند إليه علي عشماوى في روايته.

 مذكرات الحاجة زينب أو المجاهدة الكبيرة في مجملها تمثل حالة من الهراء الذي يضعها في مرتبة أقل من مستوى التقييم من منطلق التفكير العلمي الذي يحترم العقل!!، .. لكن "المسكوت عنه"  في تلك المذكرات كثير خاصة فيما يتعلق بدور الحاجة زينب في نقل أموال تمويل الإرهاب، وتعليمات زعماء الإرهاب إلي أدوات تنفيذ الجرائم من الشباب المغرر بهم .

وبعد هذه اللقاءات الفكرية التي كانت تستهدف التلاعب بالوعي عبر الاستمالات العاطفية بدأت اللقاءات الحركية؛ فكان أول لقاء بين "الجماعة الإسلامية" ويمثلها الطالب عبد المنعم أبو الفتوح وبين "الإخوان المسلمين"، ويمثلها كمال السنانيري، وكان كمال السنانيري قد حدد مكان القاء في محل أحذية في شارع القصر العيني يملكه أحد الأخوان، وللتموية  كان يؤتى بالأحذية للرجلين لقياسها، وأثناء ذلك دار الحديث والاتفاق والرجلان يقيسان الأحذية !!.

وقد أعاد أسلوب هذا اللقاء إلى ذهني وقائع اللقاء الذي قام حسن أفندي البنا بتدبيره بين أنور السادات ضابط الحرس الحديدي آنذاك والفريق عزيز المصري عميل المخابرات الألمانية في عيادة طبيب الأسنان ابراهيم حسن بحي السيدة زينب .

ثم كان اللقاء الثاني بين الطالب عبد المنعم أبو الفتوح ممثل"الجماعة الإسلامية" وعباس السيسي ممثل "الإخوان المسلمين"، في مدينة رشيد بالقرب من الأسكندرية بعد مسلسل من حركات التموية أقرب إلى تلك التي يتبعها رجال العصابات!!

ثم كان لقاء البيعة بين الطالب عبد المنعم أبو الفتوح ممثل"الجماعة الإسلامية" وعمر التلمساني المرشد الثالث لـ "الإخوان المسلمين"، والتي تلتها بيعة معظم قادة "الجماعة الإسلامية" في جامعة القاهرة وجامعات مصر .

وبدأت الجماعة الإسلامية التوسع في مطبوعاتها التي تحمل شعاري "الجماعة الإسلامية" و"الإخوان المسلمين" وتضمنت الدعوة لإقامة صلاة العيدين في الساحات .. كان الشيخ محمد الغزالي يؤم المصلين في صلاة عيد الفطر بساحة جامع عمرو ابن العاص وكان الشيخ يوسف القرضاوي يؤم المصلين في صلاة عيد الأضحى في ميدان عابدين .

وبدأت إمارات الشقاق بين أعضاء "الجماعة الإسلامية"؛ فقد تم انضمام قيادات "الجماعة الإسلامية" إلى تنظيم "الإخوان المسلمين" دون علم قيادات الصف الثاني من الجماعة أو أخذ رأيهم مما تسبب في تصدع وحدة الجماعة خاصة الجناح المتبع لـ "السلفية المحافظة" الواردة من السعودية والتي يأكل متبعوها على فتات موائد الوهابية والتي راح متبعوها يتهمون المنضمين إلى تنظيم "الإخوان المسلمين" بأنهم أصحاب بدع وتحلل في الدين وفساد في العقيدة،  ومتبعي "السلفية المجاهدة" التي تأسست في أسيوط والمنيا، وانتجهت تلك الجماعة أسلوب العنف وعلى رأسهم كرم زهدي وأسامة حافظ وناجح ابراهيم وعاصم عبد الماجد وعصام دربالة، والتي راح متبعوها يتهمون المنضمين إلى تنظيم "الإخوان المسلمين" بأنهم متخاذلين أثروا مهادنة الحكومة الكافرة والشرب من مرق السلطان !!

ولم تلتق تلك الفرق المتناحرة والمتنابذة إلا في السجن بعد اغتيال الرئيس أنور السادات .

دفع الرئيس أنور السادات ثمن الرقص فوق رؤوس الأفاعي غاليا .. ولم ينجو محمد عثمان إسماعيل من العنف الذي صنعته يداه وتشربته نفسه؛ فقد انتهى به الحال مسجونأ في قضية جنائية .

مزاعم "نبذ العنف" :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تصريحات مرشدي "الإخوان المسلمين" عن نبذ العنف مجرد تصريحات للإستهلاك فقط؛ فمنهج الجماعة قائم على العنف وتصفية الخصوم منذ أن أنشأ حسن البنا النظام الخاص لم يتورع عن ممارسة القتل لأتفهة الأسباب، وعندما وجد نفسه محاصراً بدائرة الثأر حاول إيقاف دوران دوامة الدم وجد نفسه في قلبها لا يستطيع منها فكاكاً، ووجد نفسه رهينة في قبضة قائد النظام الخاص عبد الرحمن السندي؛ لذا كانت مقولته الشهيرة لعبد العزيز حجازي مستشار النظام الخاص :

" لهذا خلق الله الندم يا عبد العزيز. ".

وبعد قتل حسن البنا حاول حسن الهضيبي المرشد الثاني تبني مزاعم نبذ العنف .. كان عبد الرحمن السندي رئيس النظام يؤكد إن لدعوة الإخوان مرشدان : مرشد ظاهر هو الهضيبي، ومرشد خفي هو السندي، وهذا الموقف منه قد يفسر عداء بعض أعضاء النظام الخاص للهضيبي، لدرجة إنهم أعلنوا العصيان لأوامره وهددوه، وحرضوا بعض الإخوان على الاعتصام بمنزله ومحاوله إجباره على الاستقالة !!؛ بما تسبب في  قتل أفراد النظام الخاص لبعض زملائهم وأهمها قضية قتل سيد فايز .

ابتدع "الإخوان المسلمين" ما أطلقوا عليه "المراجعات" وهي نوع من الزعم بإعادة النظر؛ لتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قادتهم إلى ممارسة العنف، فادعى الهضيبي تأليفه لكتاب بعنوان: "دعاة لا قضاة"، والحقيقة أن الهضيبي لم يكتب حرف في هذا الكتاب؛ فعندما قررت مباحث أمن الدولة الحصول على وثيقة فكرية تعبر عن التوبة ونبذ العنف، ولم تكن شيخوخة الهضيبي أو حالته الصحية والفكرية تسمح بذلك؛ فقام بعض الشباب من عملاء جهاز مباحث أمن الدولة وعلى رأسهم عبد الله شحاتة المعيد بكلية دار العلوم بإعداد كتاب "دعاة لا قضاة"، وتم عرض مسودة الكتاب على الهضيبي الذي وافق عليه تمهيداً لخروجه من السجن ، وتم طبع الكتاب منسوبا إليه !! ولم تكن مبادرة نبذ العنف ونشر كتاب "دعاة لا قضاة" إلا مجرد رقص في إطار الدائرة التي رسمتها مباحث أمن الدولة دون سماح بالخروج على النص ليخرج مشروع المصالحة مع "الإخوان المسلمين"، وإخراجهم من سجون الناصرية بصيغة يقبلها الرأى العام ليصبحوا حلفاء لنظام السادات.

وقد انتهجت "الجماعة الإسلامية" و" تنظيم الجهاد" بعد تورطهما في حوادث رفع السلاح على الدولة نفس منهج أساتذتهم في الإجرام "الإخوان المسلمين" وقدما مبادرتهما حيث ألقى أحد مجرمي "الجماعة الإسلامية" بياناً أثناء مثوله أمام المحكمة العسكرية في 5 |7| 1997 موقعاً من ستة من قادة الجماعة تضمن إيقاف جميع العمليات الإرهابية في الداخل والخارج، ووقف جميع البيانات المحرضة عليها من طرف واحد دون قيد أو شرط، ومع ذلك ارتكبت الجماعة جريمة الأقصر بكل تداعياتها الإجرامية المؤلمة في 11 نوفمبر 1997!!

كانت تلك المبادرة إعادة لطرح مبادرة الشيخ محمد متولي الشعراوي بالاتفاق مع اللواء محمد عبد الحليم موسى وزير الداخلية، والذي تمت إقالته بسببها !!

وبدأت لعبة "المراجعات"، وتمسكت مباحث أمن الدولة بثوابتها الموروثة في ضرورة الحصول على وثيقة فكرية بإدنة العنف فصدرت المراجعات في أربعة كتب أقر فيها المجرمون بالتوبة واعترفوا بخطئهم في فهم :

ـ فقة التكفير
ـ فقة الجهاد
ـ فقة الخروج على الحكام
ـ فقة تغيير المنكر بالقوة

وانتهت "اللعبة" بإسقاط الأحكام القضائية الصادرة بحقهم، وخروجهم من السجون !!

وضاعت الحركة الطلابية بين شطحات "اليسار المغامر"، وتنطاعات "اليمين الراديكالي" !!

محاولات الاستقطاب :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كنت أتوقف أمام مجلات الحائط التي تعبرعن شتى الاتجاهات، لكن لم استشعر ميلا لاتجاة بعينة؛ فقد كانت كلها تعبر أصوات من خارج الوسط الطلابي !!

كان كل اتجاة يحاول أن يجتذب العناصر الواعدة إلى جانبه بأساليب رأيتها مقززة، ويضع في مصيدته العديد من الإغراءات التي يعف عنها كل ذي كرامة من مساعدات مالية وملابس غير معلومة المصدر ورحلات!!


تجربتي مع جريدة "الطلبة" :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت محاولتي الأولى للعمل بالصحافة هى كتابة مقال في جريدة "الشباب والمعركة" التي كانت تصدر عن الاتحاد الاشتراكي بجامعة القاهرة .. كان المقال بعنوان :"تحديث البحث العلمي" كان المقال يتناول المتاهة الضبابية التي ألقي فيها جيلنا من طلبة قسم الدراسات اليونانية واللاتينية حيث كانت الكتب التي يستشهد بها أساتذتنا عبارة عن مراجع قديمة لبعض الهواة من أمثال سليمان البستاني ودريني خشبة أو لجيل من الأساتذة لم تكن قدمه قد ترسخت في مجال البحث الأكاديمي من أمثال د. محمد صقر خفاجة وعبد الواحد وافي، وطالبت بضرورة تحديث مكتبة الآداب بما يضخ في أروقتها الجديد الذي لا استطيع أن أحدد ماهيته لكوني لم تتح لي الفرصة لأعرفه ولكني أفتقده!!

ونشر المقال كاملاً مع صورة شخصية لي، وثار بعض الأساتذة ووبخني بعضهم، ولكني لم أهتم ؛ فلا وقت للمجاملة أو صناعة الأوثان .

وذهبت لتسليم المقال الثاني؛ فامتنع المسئول عن استلامه بحجة أنني لست مسجلاً عضواً في التنظيم !!

توفيق عبد الحي
وجريدة "صوت الطلاب" :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 حكاية توفيق عبد الحي الذي صار يلقب ـ فيما بعد ـ باسم "المليونير الهارب" تعيد إلى الأذهان حكاية محجوب عبد الدايم بطل رواية نجيب محفوظ بعنوان : "القاهرة الجديدة"، والتي عالجتها السينما في فيلم بعنوان: "القاهرة 30"، محجوب عبد الدايم صاحب أشهر "طظ" في تاريخ السينما المصرية، وصاحب ثقافة العدمية التي داسته حوافرها وحولته إلى مجرد ديوث متزوج لحساب الغير، وكانت فلسفته في الحياة تلخصها نفس الكلمات التي أجرها كاتب الراوية على لسان بطلها محجوب عبد الدايم :

"كل شيء وتمنه.. كل شيء بالفلوس.. الحب والمركز والشرف.. اديني فلوس اشتريلك الدنيا بحالها.. ادفع يدفع لك العالم ..  نحن نعيش واقع وسخ، ولن يكسب فيه إلا الأوسخ .

لذا؛ سأكون أى شىء، ولكن لن أكون أحمق أبداً، أحمق من يرفض وظيفة غضباً لما يسمونه الكرامة، أحمق من يقتل نفسه فى سبيل ما يسمونه وطناً." .

كذلك كان توفيق عبد الحي طالب قسم التاريخ الذي تخرج في سنة 1972 .. كان توفيق عبد الحي أحد عملاء مباحث أمن الدولة في أوساط الطلاب، وكان يسمي الدور القذر الذي يقوم به "شعبة قياس الرأي"، وبعد تخرجه منحته المباحث ترخيص جريدة  "صوت الطلاب" ليصدرها من خارج الجامعة في سابقة هي الأولى من نوعها بعد مصادرة انقلاب 23 يوليو 1952 لأغلب تراخيص الصحف في  1954 بعد إثارة قضية المصاريف السرية !!

وكان زواج توفيق عبد الحي من الفاتنة "فاتن الأشوح" نقطة البداية في انطلاقته ليودع دنيا الفقر، ويصبح فتى التنمية الشعبية المدلل ووزيرها "زئر النساء"؛ وكان هذا الزواج هو بداية النهاية بعد تولي حسني مبارك رئاسة الجمهورية، وهرب توفيق عبد الحي إلى خارج البلاد حتى يومنا هذا !!

ولأجل عيون فاتن الأشوح منح ع . أ . ع الكثير من الامتيازات لتوفيق عبد الحي حتى عندما تطلب الأمر موافقة رئيس الجمهورية لمنحه 10 مليون جنية قرضاً أفتقد الضمانات الكافية من بنك قناة السويس توسط ع . أ . ع لدى الرئيس أنور السادات لإتمام ذلك؛ فأمر  الرئيس أنور السادات نائبه حسني مبارك بالتوقيع بالموافقة !!

حاول النائب حسني مبارك التودد إلى فاتن الأشوح التي صدته وأخبرت ع . أ . ع بالحكاية؛ فوبخ حسني مبارك الذي أسرها في نفسه، وعندما واتته الفرصة بعد أن أصبح رئيساً لمصر حاول تصفية الحساب مع توفيق عبد الحي وزوجته لكنهما كانا أسرع من انتقامه بهروبهما إلى خارج البلاد !!

جانب كبير من تلك الحكاية تضمنتها تحقيقات المستشار حسني عبد الحميد مساعد المدعي العام الاشتراكي للكسب غير المشروع .

لقاء مع القتلة :
ـــــــــــــــــــــــــ

في ظهيرة يوم شتوي جاء إلى غرفة مسكني بالمدينة الجامعية أحد أقربائي مصطحباً شاب هادئ قدمه لي باسم الدكتور يسري على اعتبار ما سيكون!! .. الدكتور يسري طالب بالسنة الثانية بكلية الطب؛ وأضاف أننا أقرباء فوالدة الدكتور يسري بنت عم والدتي، وعلمت أن خال الدكتور يسري هو الأستاذ الدكتور رشدي عبد الله الأستاذ بكلية الطب البيطري .

ولم تمض بضعة أيام حتى زراني الدكتور يسري بمفردة وعلل سبب الزيارة أنه كان في زيارة لبعض أصدقائه بالمدينة الجامعية وقرر أن يمر علىّ للتحية، وأبدى رغبته في إجراء التعارف بيني وبين أصدقائه ولم أمانع !!

كان من بين أصدقاء الدكتور يسري شاب مريب يجلس في ركن من الغرفة يطالع كتاب "الأمير" لميكافيللي في طبعته الإنجليزية، وانقبضت نفسى من هيئته، فقد ذكرتنى بتشارلز ميللر مانسون زعيم الهيبز، وقد علمت ـ فيما بعد ـ أنه شكرى مصطفى زعيم "التكفير والهجرة" بعد أن نشرت الصحف صورته .

حاول الدكتور يسرى طالب الطب تخفيف حدة انطباعى عن شكرى مصطفى، ولم تفلح محاولاته لكون تصرفات المجموعة ونظراتها مريبة!!

.. وانقطعت علاقتي بالدكتور يسرى طالب الطب وأصدقائه المريبين.

حكاية تنظيم الفنية العسكرية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعد وقت قصير واثناء الأستعداد لامتحانات السنة الثانية حملت لى الصحف أخبار الاعتداء على الكلية الفنية العسكرية من قبل تنظيم أطُلق علية اسم :"تنظيم الفنية العسكرية" وأن قائد التنظيم يدعى صالح سرية، وهو موظف بالجامعة العربية من أصل فلسطيني ويحمل الجنسية العراقية.

 وعلمت اثنان من معارفى متورطان فى ذلك التنظيم أحدهما الدكتور يسرى طالب الطب (المتهم 66)، والثاني المهندس فتحي عبد السلام مبارك (المتهم 91).

كانت خطة التنظيم في غاية السذاجة وتدعو إلى الدهشة والعجب فكانت الخطة قائمة على فرضيات مضحكة قوامها أن يقوم أفراد التنظيم بالتجمع في الحديقة الوسطى بميدان العباسية في الساعة 11 صباحاً تمهيداً لمهاجمة الكلية الفنية العسكرية في الساعة 2 بعد الظهر، والاستيلاء على السلاح منها والسير إلى مبني اللجنة المركزية للقبض على الرئيس السادات الذي كان يترأس اجتماعاً بها والاستيلاء على مبني الإذاعة وإذاعة بيان الثورة !!

كانت الخطة تفترض أن القاهرة قد خلت من سكانها، وأن التنظيم وحدة يسبح في فراغها !!، وكان بيان الثورة الذي أعده صالح سرية لا يزيد عن كونه موضوع إنشاء لتلميذ محدود القدارات في الصف الرابع من  المرحلة الابتدائية !!


"رزة" في إكسفورد :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مع نهاية عام 1972 اختفت "اللجنة الوطنية العليا للطلاب"... واختفت اللجان الوطنية التي أنتخبت من مؤتمرات جماهيرية... تم حلها جميعاً بدون إعلان !!.. ولم يقدم قادة الحركة الطلابية تفسيراً لتلك المسألة !!، واختفي رئيس اللجنة الطالب أحمد عبد الله رزة؛ ليظهر مرة أخرى سنة 1974 في إكسفورد بعد تخرجه من جامعة القاهرة سنة 1973 محاطاً برعاية بروفيسر روجر أوين أحد المؤرخين البريطانيين المهتمين بالشأن المصري، الذي توسط له للحصول على منحة من كمبريدج؛ ليتم منحه درجة الدكتوراة عن أطروحة هزيلة اعتمدت على السرد، وغاب عنها التحليل بعنوان :"الطلاب والسياسة في مصر" .. هكذا تم إعداد أحمد عبد الله رزة لدوره المنتظر، وبدأ تسهيل تنقلاته بين إنجلترا وأمريكا، ووضعه في مصاف المفكرين بتسهيل حضوره للمؤتمرات التي نظمتها جامعة هارفارد والجامعة الأمريكية بالقاهرة !!.

ويعترف بروفيسر روجر أوين صراحة :

"أنه قد تم استخدام أحمد عبد الله رزة في الاتصال بطلبة مصريين من جامعات أخرى بالقاهرة لتشجيعهم على استخدام مناهج في البحث لإعادة هيكلة أبحاثهم المتنوعة للمجتمع المصري، ولتخطيط السبل التي تستطيع من خلالها الجامعات الأمريكية المساعدة في تعظيم مكتباتها العجاف ومراجعها ومصادرها بلغات أجنبية متعددة .".

ومعنى إعتراف بروفيسر روجر أوين هذا أن أحمد عبد الله رزة كان أحد أدوات جمع المعلومات وتقديمها لجهات أجنبية وتجنيد العناصر الناقلة للعدوى التي استخدمها المستشرقون الجدد في المراكز البحثيةThink Tanks  التي قامت بدعم السياسة الخارجية الأمريكية ، وإمداد البنتاجون بالمعلومات التي ساعدت في مشاريع العدوان الأمريكي بالمنطقة وما آلت إليه الأحوال فيها !!

.. وبدأت خطواتي الأولى
في عـــــالم الصحــــافة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بلغت السنة الثالثة بآداب القاهرة .. وأصبحت ملامح المستقبل أكثر وضوحاً بعد أن أُتيحت لي فرصة التعرف على ما آل إليه حال بعض زملائي الذين سبقوني بالتخرج؛ فقد تم تعيينهم مدرسين بوزارة التربية والتعليم أو أمناء مكتبات، وأدركت عمق المأزق، وأنني سأصبح مجرد عملة بائرة في سوق العمل، وكان على أن أغير توجهي في هذا المجال، في تلك الفترة تعرفت على الأستاذ الأديب الصحفي محمد الشريف السكرتير التنفيذي لمجلة القصة والأستاذ الكاتب الصحفي فتحي سلامة سكرتير المجلة، وعرضت على الأستاذ  محمد الشريف أن أتدرب على العمل الصحفي في المجلة .. وبعد تفكير وافق، وبدأت أتردد على مقر المجلة بشارع القصر العيني .
في مجلة القصة عرفت الأستاذ يوسف السباعي رئيس نادي القصة ورئيس تحرير مجلة القصة ورئيس منظمة التضامن الأفرو ـ أسيوية ورئيس مجلس إدارة دار الهلال ورئيس تحرير مجلة المصور .
لم يكن العمل سهلاً في مجلة القصة، خاصة مع سفالات عمال الطباعة الذين يصفون حروف الرصاص المقلوبة بتقنية الحرف الساخن "لينوتيب Linotype"، وهى وكانت تلك الوسيلة من أحسن الطرق المعروفة للمنضدة السطرية التي تستطيع تكوين سطر كامل من الطباعة في المرة الواحدة بطريقة السبك الحراري للحروف على قطع معدنية، تعلو أطرافها الحروف بارزة ويتم سبكها بآلات تقوم بكبس شكل الحروف من خليط منصهر من الرصاص والقصدير والأنتيمون؛ فلم تكن اخترعت بعد تكنولوجيا الحرف البارد عبر الجمع التصويري لإنتاج الحرف على أفلام خفيفة شفافة أو على ورق التصوير الحساس ( بروميد ) أو الجمع الالكتروني الذي يتم فيه إرسال الحروف في شكل شفرات رقمية إلى الطابعة.. كان رئيس قسم الجمع الأسطى عطوة أو الريس عطوة ـ كما ينادونه ـ وهو رجل سكير مدمن للأفيون، ويعد مثالاً في سوء الخلق، وكنت كلما ذهبت إلى قسم الجمع لإحضار البروفات سخر مني قائلاً :
ـ روح ذاكر يا شاطر ..

ويتمادى في سخفه يجامله بالضحكات حفنة من الرعاع الذين يعملون تحت رئاسته .

ولما فشلت في احتواء سخافاته؛ شكوت لرؤسائي المباشرين، ولما ضاقوا بشكواى وفشلهم في إثناء الأسطى عطوة عن سفالاته قالوا :
ـ اشكوه إلى الأستاذ يوسف السباعي .

ودخلت بشكواي إلى مكتب الأستاذ يوسف الذي نظر إلى من أعلى إلى أسفل وأطال النظر في عينيي حتى داخلني إحساس بالخوف، وقال في هدوء :
ـ أنت طالب ؟
وأجبت بالإيجاب
قال :
ـ عندك كام سنة ؟
أجبت : عشرون .
قال :
نصيحة مني لشاب في سنك .. لا تشكو من أحد بل اجعلهم يشتكون منك .. ساعتها ستعرف كيف انتصر لك، وأشار لي بالانصراف !!
قال لي رؤسائي المباشرين أن الأستاذ يوسف السباعي وضعني في اختبار يتوقف عليه استمرار عملي بالمجلة .

وفي اليوم التالي ذهبت لإحضار البروفات وقابلني الأسطى عطوة بسفالته المعتادة ، لكنه فوجئ هذه المرة بحالة من التحدي؛ فقلت له :
ـ مش تحترم نفسك يا راجل يا مهزئ.
وقبل أن ينطق بحرف عاجلته وقلبت عليه الشاسيه الحديدي لسطور الرصاص التي أصابته في وجهة وصدره، ومضيت مسرعاً .
وجاء الأسطى عطوة ليشكوني للأستاذ يوسف السباعى الذي وبخه، وعنفه، وأغلظ له في القول، وأنذره بالفصل إن عاود التعرض لي مرة ثانية، وقال له إن أصغر أستاذ يعمل تحت رئاسته يمثله شخصياً !!
طلبني الأستاذ يوسف، فذهبت إليه مرتبكاً خشية أن أكون قد أسئت التصرف، لكنني فوجئت به مبتسماً، وأعطاني استمارة " أمر صرف" بمكافأة قيمتها 5 جنيهات (كانت مكافأتي عن العدد الواحد من المجلة لا تزيد عن 4 جنيهات) وقال لي :

 "أن الرجل هو الذى يحدد سلوك خصومه، ويضع ملامح خططهم؛ لذا يجب على الرجال ألا يجهروا بالشكوى بل يعملوا فى صمت وصبر عزم؛ ليجعلوا خصومهم يهابوهم ويشتكون منهم لطوب الأرض".

.. هكذا علمنى الفارس يوسف السباعى ضابط سلاح الفرسان السابق أهم درس في حياتي، وفهمت أنه في البداية أراد بعقلية الفارس المحارب أن يؤسس لإرادة المقاومة بداخلى؛ ليبني عليها دعمه ومساندته لي؛ لأنه لا جدوى من البناء على الفراغ .
كنت أتعجب وأن أرى الفارس يوسف السباعى يجلس في المقعد الأمامي للسيارة بجوار سائقه الأسطى عبد الكريم بعكس ما يفعله الكبراء والوزراء من الجلوس في المقعد الخلفي للسيارة، وكنت أعتبر هذا السلوك ينطوي على ملمح من تواضع، لكني اكتشفت أنه سلوك نابع من روح وعقيدة القائد العسكري الذي يجب أن يكون دائما في الصف الأول، وفي المقعد الأمامي فقد عاش الفارس يوسف السباعى حياة الجندية حتى بلغ رتبة العميد .
أصيب الأسطى عطوة بحالة من الرعب، وسعى للتصالح معي، ووسّط في هذا الأمر رؤسائي المباشرين، وبعد رفض مصطنع من جانبي وافقت وتم الصلح .. وأصبح الأسطى عطوة يردد بمناسبة وبغير مناسبة أنه : (لا محبة إلا بعد عداوة)، وإن كنت ـ حتى هذه اللحظة ـ لا أعرف دوافع العداوة، ولا دواعي المحبة، ولكنني قبلت ذلك التبرير المتخلف في إطار كياسة التعامل التي تفرض قبول بعض الأكاذيب في مجال النفاق الاجتماعي لتمضي بنا قافلة الحياة بسلام .
اتاحت لي تلك المصالحة الحصول على العديد من المعارف في مجال الطباعة فقد عرفت البنط  (حجم الحرف)، والفنط (شكل الحرف) والكور (مقاس السطر)، وعرفت الكشايد (المسافة بين الحروف)، والرقائق (المسافة بين السطور)، وعرفت أدوات العمل مثل السهلة (قطعة من الخشب الطري لتسوية سطور الرصاص) والدقماق (مطرقة صغيرة تستخدم من فوق السهلة لتسوية سطور الرصاص) والشاسية (طوق من الحديد لطبع بروفات الصفحات)، واكتسبت حالة من النضج الاجتماعي بمشاركة العمال طعامهم من الفول وقطع البصل، وشرب الشاى في أكواب متسخة بالرصاص، وشرب اللبن الملوث الذي كانت تقدمه أقسام الأمن الصناعي لعمال الطباعة كل صباح؛ لتخفيف نسبة الرصاص في الدم .
وانتهت تلك التجربة الثرية بتخرجي من الجامعة، ودخولي إلى القوات المسلحة لقضاء فترة التجنيد الإجباري في يوم السبت 2 أبريل   1977 .
كانت مصر تخوض حالة من المخاض العسر بعد حرب أكتوبر؛ فقد أذعن السادات للمطلب الإسرائيلى بوضع مدن القناة رهينة فى قبضة المدفعية والطيران الإسرائيلى؛ وفتح البلد للرأسمالية العالمية المتوحشة التى جاءت ومعها "عصابات المافيا" الدولية؛ فكانت "انتفاضة الخبز" فى 18 و19 يناير 1977.

مقتل الشيخ الذهبي :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأثناء وجودي في مركز تدريب المشاة .. نقلت الصحف في يوم الأحد 3 يوليو 1977 خبر مقتل الدكتور محمد حسين الذهبى وزيراً للأوقاف فى وزارة ممدوح سالم فى الفترة من  (أبريل 1975– نوفمبر 1976)، ونشرت الصحف صورة القاتل وكان شكري مصطفى وتعرفت عليه فقد كان ذلك الرجل الذي حاول الدكتور يسري طالب كلية الطب إجراء التعارف بيننا في لقاء بالمدينة الجامعية سنة 1973 .

وعلمت من المنشور بالصحف  أن اسمه هو شكرى أحمد مصطفى ويتزعم تنظيم أطلق عليه أمن الدولة : " التكفير والهجرة ) وهو خريج كلية الزراعة ،وسجين سابق في قضية الإخوان المسلمين 1965، وقد إنتهج نهجاً يقضى بتكفير المُجتمع المسلم وإعتزاله مؤقتاً، والخروج إلى صحراء  ومغارات جبال  صعيد مصر، حتى يتسنى لهم العودة مرة أخرى للقضاء على المجتمع، وإنشاء دولة الخلافة وإمارة آخر الزمان، وقد سلك شكرى مصطفى فى  تحقيق ذلك سبلاً منها جمع أموال وحلى وذهب  أفراد جماعته، وتسفير بعضهم  إلى بعض الدول العربية مثل الأردن واليمن والسعودية والجزائر، وكذلك اليونان (إعتقادا منه أنها أرض أهل الكهف لجمع الأموال، ولإختيار أنسب أرض يخرجون  إلى جبالها فيما بعد ليعودوا منها  العودة الكبرى لقتال الكافرين  من المسلمين وبسط نفوذه عليهم  بإعتباره كما قال عن نفسه  أنه المهدى المُنتظر، وأمير آخر الزمان، ووقع إختياره على (اليمن ) لكثرة ما ورد فى مناقبها من روايات نبوية فى البخارى ومسلم .

لماذا الشيخ الذهبي ؟!:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت وزارة الأوقاف - عندما كان المرحوم الدكتور محمد حسين الذهبي وزيرا لها - قد أصدرت كتيباً لتفنيد  تلك الأفكار المضللة لجماعة التكفير والهجرة، وبيان مدي بعدها عن جوهر الإسلام بمبادئه السمحة، وكتب الوزير مقدمته بنفسه، التي فضح فيها اساليبها ونبه إلي ضرورة حماية الشباب من أفكارها المنحرفة وانتشال أعضائها من الهاوية التي يتردون فيها.

 هذا الكتيب كان يحمل عنوان "قبسات من هدي الإسلام"، وقد نشر عام 1975  وقام بإعداده أعضاء المكتب الفني لنشر الدعوة الإسلامية بوزارة الأوقاف.

 قال الدكتور الذهبي في تقديم الكتاب: 

"يبدو أن فريقاً من المتطرفين الذين يسعون في الأرض فساداً، ولا يريدون لمصر استقراراً، قد استغلوا في هذا الشباب حماس الدين، فآتوهم من هذا الجانب، وصوروا لهم المجتمع الذي يعيشون فيه بأنه مجتمع كافر، تجب مقاومته ولا تجوز معايشته، فلجأ منهم من لجأ إلي الثورة والعنف، واعتزل منهم من اعتزل جماعة المسلمين، وآووا إلي المغارات والكهوف، ورفض هؤلاء وأولئك المجتمع الذي ينتمون إليه لأنه في نظرهم مجتمع كافر. ".

.. وبناء عليه أصدرت الجماعة المارقة حكمها الجائر بقتل الشهيد الدكتور محمد حسين الذهبي ( يرحمه الله) .

زيارة السادات لإسرائيل :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كنت فى نوبة حراسة "كينجي" فى إحدى النقاط الحصينة على حدود سيناء المحتلة ليلة 19 نوفمبر 1977 عندما زار السادات إسرائيل لأول مرة،  وشاهدت بعينى الطلقات الضوئية التى أطلقها جنود الصهاينة فى سماء سيناء ابتهاجاً بزيارة السادات لهم .

وفي 18  فبراير 1978 بينما كنت عائداً وحدتي نقلت الأخبار إلىّ نبأ استشهاد الأستاذ يوسف السباعى على أرض لارناكا؛ .. بكيت بحرقة الرجل الذي علمني فن إدارة العلاقات المحكومة بالصراع، وكان مبعث حزني ثلاث أمور :

الأول : أن القتلة ألبسوه عار غيره؛ فلم يكن الفارس الشهيد صانع قرار السلام مع دولة الكيان الصهيوني .

الثاني : أن القتلة من الفلسطينين الذي أفنى الفارس الشهيد عمره في الدفاع عن قضيتهم .

الثالث : أن الحجج التي ساقها القتلة لم تكن مقنعة؛  فقد كان السبب الحقيقي لقتل الفارس الشهيد هو إصداره قرار بإغلاق مجلة "الطليعة" الشيوعية التي نشرت سمومها بين الشباب وأشاعت البلشفة بين بعض المثقفين؛ مما حدا بـ K.G.B.  إلى أختراق أحد التنظيمات الفلسطينية وتوظيفه في قتل الفارس الشهيد !!

وفي 17  سبتمبر 1978 وبعد انقضاء خدمتي العسكرية بشهرين وقع الرئيس السادات اتفاقية كامب ديفيد مع دولة الكيان الصهيوني ومن يومها والحق الفلسطيني يفقد في كل مرحلة ركناً من أركانه !!، وتسلم الرئيس مبارك سيناء بشرط أن تظل منزوعة السلاح مخللة من البشر خالية من عوامل النماء .. ليكشف بيريز عما ينتظرها في كتابه بعنوان :"الشرق الأوسط الجديد" الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1994.

وفي 6 ديسمبر 2017 اتخذ الرئيس الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس ليسدل الستار على الحق الفلسطيني بعد صمت مصر وموافقة السعودية!!؛ وليبدأ مخطط ترسيم  حدود الشرق الأوسط الجديد وفق ما أعلنه شيمون بيريز في كتابه بعنوان :"الشرق الأوسط الجديد" ويشرح بيريز كيفية ترسيم حدود المنطقة عبر المشروعات الإلهائية العابرة للحدود، وضمان أمن إسرائيل القومي بعد وجودها العسكري في جزيرتي تيران وصنافير، وأخطرها أن تصبح النقب جزء من حوض النيل بعد وصول مياة نهر النيل إليها !!

أهمية كتاب "الشرق الأوسط الجديد أن مؤلفه يعتبر مهندساً للسلام المزعوم من ناحية وواحداً من أهم صانعي القرار السياسي في تاريخ إسرائيل، قدّم بيريز كتابه كأسلوب جديد في التفكير للوصول أمن إسرائيل، والذي يتطلب من دول المنطقة ككل تحالفات سياسية ونظم أمنية وترتيبات إقليمية مشتركة تضم إسرائيل ككيان فاعل وقائد في مشروع بديل للجامعة العربية، وتحدث عن فشل الحروب وأهمية السلام، مما يفرض على المنطقة سوق شرق أوسطي ضمن علاقة تعاقدية بين الدول العربية وإيران وتركيا ودولة الأكراد الجديدة (من أجزاء من العراق وسوريا وتركيا ) وإسرائيل !!

وفي يناير 2018 وقعت مصر اتفاقية CISMOA سيزموا  وهي اختصار لعبارة :

"The Communication Interoperability and Security Memorandum of Agreement"

وهى اتفاقية أمنية بين أمريكا والدولة الموقعة عليها الهدف منها أن تقوم الدولة الموقعة علي الاتفاقية بالعمل علي جعل أنظمتها وشفراتها الالكترونية متوافقة مع النظم الامريكية وبحيث تصبح تلك الشفرات متاحة لأجهزة فك الشفرات الأمريكية بحيث تصبح قادرة علي قراءتها بسهولة، وكذلك السماح للقوات الأمريكية بالحصول على أقصى مساعدة مُمكنة من الدولة الموقعة من استخدام للقواعد العسكرية والمطارات والموانىء، والاطّلاع والتفتيش على المعدات العسكرية لضمان عدم قيام الدولة بنقل التكنولوجيا الأمريكية لطرف ثالث، وبمقتضى تلك الاتفاقية تصبح القوات المسلحة للدول الموقعة كما لو كانت جزء من الجيش الأمريكي، وتضمن الاتفاقية ألا تقوم الدول الموقعة بمواجهة عسكرية بين بعضها البعض فأسلحتها مزودة بدوائر تعارف إليكترونية تظهرها كأهداف صديقة فعلى سبيل المثال لا يمكن لطائرة دولة موقعة على الاتفاقية أن تضرب هدفاً إسرائيلياً بينما تستطيع الطائرات الإسرائيلية أن تفعل ذلك لأن إسرائيل هى التي تصنع دوائر التعارف الإلكترونية الخاصة بطائرتها .

بما يعني أننا خسرنا معركة الحدود والوجود !!

لقد عرفت الأن .. الأن فقط لماذا بكى المشير محمد عبد الغني الجمسي في أسوان في يناير 1974 بعد لقاء الرئيس السادات بكيسنجر .

***
.. وهكذا عشت حلاوة الأيام ومرارتها في وطني .. سنوات اختلط فيها الكابوس بالحلم واختلط فيها الخاص بالعام، ولم أستطع الفصل بينهما إلى يومنا هذا؛ فأنا لا أنظر من ثقب الباب الى وطني . . لكني أنظر إلى أحوال وطني من قلب مثقوب، . . أو كما يقول الشاعر العراقي يوسف الصايغ في قصيدته بعنوان :"ما كان يمكن..‏!".

"أنا لا أنظر من ثقب الباب الى وطني
. . لكني أنظر من قلب مثقوب . .
وأميز بين الوطن الغالب . .
والوطن المغلوب. . . .
اللهُ لمن يتنصتُ في الليل على قلبه!
أو يسترق السمع الى رئتيه !
وطني لم يشهد زورا يوما..
لكن شهدوا بالزور عليه.."

***

 

( أنتهي الجزء الثاني من حكايات من زمن الخوف )

إلى اللقاء في الجزء الثالث بعنوان :

( صحافة الوطن )