الثلاثاء، أبريل 12، 2011

حنظلة .. صديقى رئيس التحرير ، رواية صحفية يكتبها : ياسر بكر


حنظلة .. صديقى رئيس التحرير

) رواية صحفية )


كتبها: ياسر بكر

الغلاف
إخراج فنى وجرافيك :
ياســـر بكـــر


الإهــــــــــــــــــداء
إلى حاميتى الطاهرة
السيدة زينب
سيدة الرفض النبيل
فى وجه ابن الطلقاء
.. وإلى مولاى الإمام الحسين
الذى وطئ الشهادة
وأهدى للدنيا معناها
.. وإلى رجال الله
قوت القلب
فى زمن عزَّت فيه الأقوات
حتى ألقاهم..
يا شهداءنا.. متى ألقاكم ؟
                                     ياسر بكر


مقدمة


حنظلة .. صديقى رئيس التحرير
رواية صحفية
.. مجرد رصد روائى للواقع الشرس لمهنة الصحافة.

.. ذلك الواقـع الذى ينشب أظافـره فى وجـوهنا يومياً مع فنجــان القــهوة كـل صباح .  واقع تضيق العبـارة وجــوامع الكـلم عن وصف سـوءاته ؛ وكشف عــوراته ؛ ويعجـز وعـاء اللغـة عن احتــواء قبحــه   !!
..
 وإن كان ثمة تشابه بين أحداث الرواية وشخوصها وبين زملاء نعــرفهم فهو محض صــدفة لم أتعمدها ولا أسعى إليها واعـياً . ولكنه التدفق اللاواعى للاشعور فى نهـر الإبدا ع .

..
... وإن كــل محــاولات تأويل أحــداث الـرواية مـن قـِـبل البعــض أو تلبيس شخـصيات أبطالها على شخــوص بعينهم هو من خــيالات المتلقى دون أدنى مســئولية منا قِبله .

وهى ليست الأولى ولن تكــون الأخـــيرة .. فـى  سـلسـلة روايات عن واقــع الصحــافة فى مصـر ؛ بدأت بـ " القـاهــــرة 30 " و " اللص والكـــلاب  " و"زينب والعـرش " والرجل الذى فقد ظله " مروراً بـ  " سنة أولى حب "  و  " دموع صاحبة الجلالة "  و  " كفـانى يا قلب   " و " مدام شــلاطـة  "
و" الأشرار " وانتهــاءً بـ "الواطى " لصديقى محمد غزلان .

... وإن كانت رواية " حنظـــــلة ..  صديقى رئيس التحــــرير " لا ترقى إلى مســتوى سابقيها ولكنها شـرف المحـاولة !! وراحـة البوح والفضـفـضـة و" تبـاريح جريح " ؛ ولم ألتزم فيها  قالب العمــل الأدبى  ولكنى التزمت آداب الحـــكى .

..
  لذا كان التنويه واجباً ولازماً.

... أما الذين يتحـسسون رءوسـهم فذاك شـــأنهم !! .. فقد أوضحـنا بما لايدع مجالاً للبس ؛  أن بطل الرواية لا علاقة له من قريب أو من بعيد بشخصية حنظلة الذى أبدعها فنان الكـاريكاتير الراحـل ناجى العـلى، والتى تمـثل  رمـزاً نضالياً يعكس ثقـــافة الفـــكر المقـــاوم . وإن تلاقيا معا فى عظمة الطـــموح وتواضــع المــوهبة والإمكــانات، بما زاد مســاحات الخـــلل الدرامى والحمـق فى كليهما وجعــلهما موضـعاً للكـاريكاتير والسخـرية، وإن اختلفـت المـرامى والغــايات !!

.. والحنظلة كما وردت فى معاجم اللغة العربية هى ثمرة نبات الحـنظل ، وهى فى حجم البرتقالة ولونها ولها لب ذو طعم شـــديد المرارة، ولا خير يرجى منها ؛ ونبات الحنظل من فصـــيلة النباتات القــــرعية التى تفترش الأرض منبطحة عليها .

ياسر بكر










الفصل الأول
والكون ده كيف موجود من غير حدود
وفيه   عقارب    ليه وتعابين    ودود
عالم   مجرب   فات  وقال    سلامات
ده   ياما فيه سؤالات من   غير  ردود
عجبى !!!
( من رباعيات صلاح جاهين )







كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة صباحـاً ؛ التف الزمــلاء فى جريدة " الأخبار المصوّرة " حول طاولة الاجتماعات فى انتظار الملوانى رئيس التحرير ليبدأ اجتماعهم الأسبوعى ؛ كانت النظرات قلقة ولا تخلو من تساؤل .. منْ سيكون فريسة الملوانى اليوم ؟!
 كان الملوانى يتفنن فى إخفـــــاء فشله المهنى وإخفاقاته الصـحـفية وضـآلة
 التوزيع ؛ كان يختلق أسباباً لمواراة سواءاته الصحافية بجلد أحد الزملاء بســلاطة لســــانه والتنكيل به على الملأ بالتجريح والخصم من الراتب والعلاوة ؛ لعبة يُجيدها كل الأقزام الذين أجلستهم السلطة فى مقاعد الكبار؛ وهو ما كنت أسميه بـ " خطة الملوانى فى تلجيم الجياد " .. حتى لا تتجاوز خطوطه الوهمية الحمراء والسوداء ومن كل الألوان ؛ ولم تقتصر سياسته على جياد الصحفيين المتمردة عليه بل امتدت إلى الموالين له وأتباعه، فقد كان يُحكم قبضته على أتباعه بكسر نفوسهم وعيونهم ليضمن ولاءهم أولا، على طريقة جوَّع كلبك يتبعك؛ ثم يعود ويرشوهم بالامتيازات والعطايا وتقريبهم منه فى دائرة ضيقة هى " المطبخ الصحفى " الذى لا يعرف الكثير من صحفيى الجريدة أسراره .
سابق معرفتى بالملوانى  جعلت كل أساليبه مكشوفة لى  ولم يفلح معى فيما أفلح به مع زملائى ؛ فالملوانى مجرد محرر حوادث سكير وبذئ يترفع فرسان الكلمة أن يجمعهم به مكان ؛ فضلا عن كراهة ريحه، فلم يهتم يوماً بنظافته الشخصية، كما أنه أتى من أسفل السلم الاجتماعى بكمٍّ من الأحقاد والكراهية تكفى العالم بأسره ؛ ولم يستطع التخلص منه، ولم ينجح فى التصالح مع ذاته أو مع مستقبل أيامه، فقد كانت المرارة فى نفسه أكبر من قدرته على النسيان.
  بدأت علاقة ملوانى بالصحافة عندما اصطحبه والده الأسطى عبده الصرماتى إلى صاحب مصنع الدخان الذى كف بصره ؛ ليقرأ له جريدة الأهرام مقابل قرش صاغ يومياً ؛ كان الاسطى عبده يفترش الأرض بجوار الفبريكة يصلح نعال العمال ومراكيب الفلاحين ؛ وهم فى طريقهم إلى السوق . كان دائم الشكوى من ضيق الحال ؛  ففى رقبته على حد قوله " كوم لحم " والعين بصيرة والإيد قصيرة ؛ طيَّب حضرة باشكاتب الفبريكة خاطره قائلاً : " فرجه قريب يا عبده ".
.. على دقات المطرقة وسندان النعال ؛ كان غناء عبده الصرماتى بصوت الشقاء المختلط  بلوعة الشجن :
           من دمع عينى مليت الزير والقلة
             والسهد دوَّب مراتبى وكسر المُلة
آآآآه .. ياعزيزة
كم من مرة سأله المارة عن عزيزة ؛ كان يخفى أسى ويدفن سراً قائلاً : إنها النصيب والمكتوب !! ولا يزيد عن ذلك حرفاً .
.. بعد يومين أبلغه الباشكاتب بعد سؤاله عن الأولاد والأحوال : " فرجت يا عبده ؛ ربك لا ينسى عبيده ؛إن الله سبحانه وتعالى فتح باب رزق للمحروس ابنك  " ؛ وأفهمه طبيعة المهمة ؛ رقص الأسطى عبده فرحاً .
هكذا بدأت علاقة الملوانى بالصحافة؛ قارئ مأجور لحساب الغير؛ ومن عجائب المفارقة التى تعكس سخرية القدر أن ينتهى به المطاف كاتباً مأجوراً لحساب الغير.
.. وبين نقطة البداية وسوء الخاتمة محطات كثيرة فى بلاط الصحافة التى شغفها حباً؛ ولم تبادله حباً بحب، فقد حال تواضع موهبته وقلة إمكاناته  وسوء خلقه أن يجد له مكانا مرموقاً فى بلاطها، إلا أنه لم يعدم الحيلة عندما وجد فيه رجال التنظيم الطليعى للاتحاد الاشتراكى  ضالتهم فهو محرر الحوادث الفاشل ؛ المُهان من أصغر مخبرى أقسام الشرطة  ؛ السكير ؛ دائم  الاستدانة حتى أن هوانه ودناءاته بلغت طلب " الشلن " و " النصف ريال" .
فنفث شرور نفسه فى كتابة التقارير عن زملائه الشرفاء الذين دفعوا ثمنها من أمنهم الشخصى والأسرى والمهنى، فقد كان الزميل الذى تصيبه إحدى لفحات الملوانى غالبا ما يظهر فى الجريدة، وقد أصابه الوهن ولم يعد يقوى على الكلام، كنا نحترم رغبته فى الصمت ونعرف ما تعرض له من وحشية؛ حتى إن أحد أساتذتى قد حكى لى ما أصاب ابنه من مرض الصرع، بعد أن فتشوا مسكنه منتصف الليل، واقتادوه بأسلوب أقرب إلى ارتكاب الجرائم منه إلى إعمال القــانون !! ومارس الملوانى البلطـجة ضــد كل منْ رأى أســياده فى أمن الدولة " قرص ودنه " دون حاجة إلى إجراء، ليبدو الأمر فى ظاهره مجرد خناقة ؛ كما تحول إلى "هتِّيف " فى انتخابات النقابة وبودى جارد لرئيس التحرير، وبهذه الأدوار انتقل ملوانى إلى واجهة صحيفته مديراً لتحريرها .
مرَّ بى شريط الذكريات سريعاً، وتذكرت مقولة نقيبنا كامل زهيرى عندما يرد ذكر الملوانى : " مخبر نعرفه خير من مخبر لا نعرفه " .
وتذكرت مقولة صلاح جاهين : " يسمى المخبر مخبراً لأنه يخبر عن نفسه بغبائه وحمق مسلكه " .
وابتسمت أو ربما صدر منى صوت ضحكة وشر البلية ما يُضحك ؛ مال إليَّ صديقى زكى رشدان قائلا : ما تضحكنا معك.
قلت : بعدين
سرحت بخيالى بعيداً ؛ لا أعرف لماذا تندلع الذكريات المتحصنة فى دهاليز الذاكرة الآن ؛ لماذا الآن ؟!!
ولماذا يتدفق من داخلى الآن هذا الينبوع من الأحزان المعتّقة فى قاع القلب؟!؛ هل لم يعد القلب المريض مثل ثمرة الكمثرى المعطوبة يحتمل المزيد ؟! ؛ فى كل الأحوال لا بأس ؛ فكل شيء بأوان وكل شيء بقضاء .
تذكرت ثورة نقيبنا كامل زهيرى وهو يتحدث عن مباحث الصحافة وتساؤله النبيل: هل أصبحت الصحافة جريمة ليتم إنشاء مباحث لها مثل مباحث النشل ومباحث الآداب ؟!
دقَّ النقيب المائدة بعنف ؛ سقطت أكواب الشاى ؛ ضحكنا وضحك النقيب !!
***
أفقت من السهو على صوت ساعى مكتب الملوانى، جاء ليخبرنا أنه سيتأخر قليلا لأن معه مكالمة هامة ؛ تمتمت: ربنا يستر
مال إليَّ صديقى زكى رشدان هامساً: خير ؟
قلت بصوت خفيض: الملوانى يكتب لقارئ واحد فقط هو شخص الرئيس الذى نعرف جميعا أنه لا يقرأ، والذى على التليفون الآن هو أحد أغوات الحضرة السلطانية إما راضيا أو موبخاً !!
قال زكى ضاحكاً : ما تقوم تجيب النتيجة من الكنترول.
قلت : أعرفها من زمان " لن يصح إلا الصحيح " .
أبدى زكى امتعاضه  قائلا : أنا خايف فى يوم نلاقيك لابس شِوَال وماشى مع مجانين الشوارع ؛ .. أى صحيح  يا راجل ؟!
لم أعقب ؛ وسرحت بخيالى بعيداً لأتذكر يوم عُيِّن الملوانى رئيساً لصحيفتنا؛ ساعتها كان رصيد الرئيس السادات لدى الشارع قد بدأ فى التراجع ؛ وأصبح جراب القائمين على إعلامه شبه فارغ بعد عديد من السياسات الخاطئة التى لم يجدوا لها تبريرا مثل انفتاح السداح مداح، وتحدى السادات للإرادة الشعبية فى 18 و 19 يناير ووصف الثائرين باللصوص ؛ والغموض الذى يحيط ببعض بنود اتفاقية كامب ديفيد، كل هذا دفع كبار الصحفيين لغسل أيديهم من سياسات السادات، وأصبح السادات موضوعا للعديد من النكـــــات والنوادر من صغار الصحفيين فى حديقة نقابتهم، التى فشل فى تحويلها إلى نادٍ، وهو ما لم يعد يتحمله بعد الهالة التى أحاطه بها الإعلام الوطنى بعد حرب أكتوبر، والأساطير التى نسجها حوله الإعلام الغربى المملوك للصهاينة بعد زيارته لإسرائيل، بعدها وبَّخ السادات وزير إعلامه وطلب منه أن يترك له الأمر؛ وأنه بنفسه سيختار القائمين على إعلامه على عينه، ولن يجرؤ أى منهم أن يعصى له أمراً، فأحلام الرئيس أوامر وتكفى ابتسامة لقيادات الصف الثانى ليظل كل منهم حالماً بأنه أصبح مبشراً بالاقتراب من الفرعون .
أطرق وزير الإعلام وأدرك السادات أنه لا يفهمه؛ ارتدى السادات ثوب الواعظ، وبعد أن أنهى مقدمة طويلة من اللّت والعجن عن السياسة وبحورها العميقة؛ قال سأختار رؤساء التحرير من الشخصيات المجروحة التى لديها ما تخفيه وما تخجل منه، والنظيف منهم سنبحث له عن نقطة سوداء وذلة تصبح يده التى توجعه ونمسكه منها فى الوقت المناسب إذا شق عصا الطاعة وعزف النغمة النشاز!!
.. نظرية يعرفها كل منْ مارس الطغيان؛ فمن تولى فقد تأله؛ عبارة نقشها الأجداد على جدران المعابد  ووجهها الملك خيتى لابنه مر يكارع فى شكل نصيحة نقشت على الحجر منذ حوالى 2000 سنة قبل الميلاد قال فيها : "إذا وجدت فى المدينة رجلا خطرا يتكلم أكثر من اللازم ومثيرا للاضطراب، فاقضِ عليه واقتله وامحُ اسمه وأزِلَّ جنسه وذكراه وكذلك أنصاره الذين يحبونه.. فإن رجلا يتكلم أكثر من اللازم لهو كارثة على المدينة ."
أثنى وزير الإعلام على حكمة الرئيس؛ بعدها بأيام حملت التغييرات فى قيادات المؤسسات وجوها باهتة صحفيا، ولا تتمتع بقبول واحترام الصحفيين، فقد جاءت التغييرات برئيس تحرير مقامر اعتاد الزواج العرفى بالساقطات على موائد القمار، وآخر تُشاع عنه قصص شذوذ جنسى سلبى، وثالث ضُبطت زوجته فى قضية آداب، ورابع زوج لسيدة من نجوم المجتمع احترفت إقامة حفلات صاخبة فى بيتها لسياح عرب، تقدم لهم فيها كل ما يأنفه كل ذى فطرة سليمة،  وخامسهم جليس الرئيس وهو صحفى مصاب فى رجولته، ويحاول إخفاء عجزه بأكاذيب عن غراميات لا وجود لها سوى فى خياله المريض، وقد بلغت سفالته حدها عندما كتب مقالاً فى صحيفة مملوكة للشعب عن مآثر العزوبية؛ كتب فيه: " إن الأعزب رجل محظوظ لأنه شريك لكل الأزواج فى زوجاتهم!! وعن كسر الملل الزوجى بتكوين ما أسماه جمعية تبادل الزوجات ".. وكان يقوم بمؤانسة الرئيس وإضحاكه، وذات مرة نسى نفسه فقال للرئيس: يافندم الهانم بتشتكى من سعادتك ؟ فرد الرئيس: " هانم مين؟ " أجاب جليس الرئيس: " زوجة سيادتك "، هزَّ الرئيس رأسه مستفسرا : " ليه؟ "؛ أجاب جليس الرئيس فى محاولة لإشاعة المرح : " بتقول إن سيادتك بتلبس الشراب وتنام بدرى ؟ "؛ كشَّر السادات عن أنيابه قائلا: إلزم حدودك يا ولد واعرف إنك بتكلم كبيرك؛ رئيس الجمهورية، أدرك جليس الرئيس أنه وقع فى المحظور، فامتقع لونه، وانسابت قطرات البول فى سرواله؛ اعتذر مستعطفا الرئيس؛ ثم نادى الرئيس: "يا فوزى عبد الحافظ "؛ جفَّ الدم فى عروق صاحبنا؛ دخل السكرتير مهرولا؛ طلب الرئيس فنجاناً من الشاى الأخضر، ونظر إلى أنيسه قائلا: "اجلس واقف ليه ".
..وكان سابعهم صحفيا قبطيا اعتاد النفاق الممجوج؛ وقد أشيع أنه أسلم سراً بعد هجومه الدائم على الكنيسة واستشهاده فى كتاباته بآيات القرآن الكريم .. وقد تعنت رأس الكنيسة معه رافضاً إقامة قداس جنائزى له بعد وفاته لولا ضغوط سيادية هددت بإقامة الصلاة عليه فى مسجد عمر مكرم معلنة إسلامه ما رضخ الكاهن .. وثامنهم الملوانى .
جاء الملوانى فى أول يوم عمل فى صحيفتنا مرتدياً بدلة شتوية كالحة اللون فى عزّ حر يوليو؛ أثار هندامه الرث الاستياء، ومع أول يوم بدأ بمظلة حماية من الرئيس فى إهانة كبار الصحفيين وتهميشهم وتنفيذ سياسة " قتل الأجنة الموهوبة " فى العمل الصحفى بتحطيم  شباب الصحفيين؛ كما جعل الأولوية لمعيار الولاء لا لمعيار الكفاءة !!
فقرَّب إليه منْ كان يعمل ممرضا بمستشفى المبرة ، وأسند له مهمة "الديسك المركزى" ؛ وكان هذا الممرض قد أتى به إلى الصحيفة رئيس تحرير سابق رداً لجميله فى التفانى فى خدمته والصبر عليه عند إجراء عملية الحقنة الشرجية عندما كان مريض بواسير بالمستشفى؛ وعندما سأله كيف أرد لك الجميل يا بنىّ؟ أجاب : "أنا يا فندم غاوى صحافة " ؛ ولأنه غير مؤهل ،  ولأن رئيس التحرير فى احتياج لخدماته فقد عينه وألحقه إلى سكرتارية إحدى الصحفيات .
كما استعان بأحد رفــاق السـوء وأكـواب "منقوع البراطـيش" فى ماخــور
" بار شينو "،  فأسند إليه مهام مدير التحرير.
.. وأطاح الملوانى بالمخرج الفنى واستبدله بأحد القوادين، الذى مارس دور " صبى القعدة " من صغار موظفى قطاع الخدمات من غير المؤهلين وجعله عينه على الجميع .
ولم يكتفِ الملوانى بذلك بل جعل مُزق الخرق البالية من أعوانه أعلاماً ورايات على واجهات صحيفتنا واصطنع لهم تاريخاً صحفياً ؛ وزوَّر لهم أوراقاً أدخلتهم نقابة الصحفيين مستغلا موقعه النقابى، فى الوقت الذى رفض حالات مماثلة بالحجة التراثية الفكاهية السخيفة وهى النقابة سيدة جدولها !!
***
تفانى الملوانى فى الدفـاع عن سيده ؛ مبرراً الهجمة الشـرسة على النقـابات المهنية وحل مجــالس إداراتها وفرض الحراسة عليها ؛ ودافع عن القوانين سيئة السمعة، وأشاد باعتقـال 1536 من خيرة رجـالات مصـر فى سبتمـبر؛
وباغتيال الفرعون فى حادث المنصة ؛ قدم الملوانى "عربون" المحبة والقبول لسيده الجديد فى سلسلة مقالات دافع فيها جرائم التعذيب، مبرراً ضرورتها بأن الوطن يتعرض لمؤامرة فى حجم جبل الجليد، لا يظهر منه إلا أعلاه وما خفى منه أعظم ؛ فكان لابد على حد رأى الملوانى من إجراءات استثنائية لاستنطاق المشتبه بهم ولو بالتعذيب !!
.. وظل الملوانى يمارس دوره المشبوه فى التليين الإعلامى لتهيئة الرأى العام قبل كل كارثة ؛ فقد كتب مقالاً ً عن سليمان خاطر الجندى المصرى، الذى قتل الصهاينة الذين عبروا حدودنا ولم يمتثلوا لأوامره بالتوقف، وكان ردهم هو البصق على العلم ؛ وبدلاً من تكريمه حكم عليه بالسجن 25 عاماً فى محكمة زال قاضيها وبقى متهمها خالداً  فى تاريخ الوطن  وقلوب وذاكرة أبنائه .
حاول الملوانى إظهار الرجل الذى دافع عن الأرض والعلم  بأنه فتى غرّ مشوش التفكير؛ مضطرب الشخصية، ودون أدنى إشارة إلى أنه كان يؤدى واجبه؛ لتفاجئنا الأخبار يوم صدور الصحيفة بالعثور على الجندى مشنوقاً فى محبسه .
واقعة أخرى للملوانى عندما أجرى عدة حوارات عن زوجة الكاهن القبطى ، التى أسلمت حاول تصويرها كأنثى تعانى المتاعب من مرض زوجها وعدم تلبية احتياجاتها ؛ امرأة فى أزمة بعيداً عن مسائل العقيدة والاعتقاد ؛ أحد حوارات الملوانى كانت مع الشيخ  " القاضى  حلاوة "، الذى أظهر السيدة بأنها داعية فتنة ودون أن يقدم الشيخ لص المال العام بيِّنة على ما قاله من الكتاب أو السنة ؛ كان القاضى حلاوة عنيداً فى الباطل لدرجة الإصرار على مقولة عنزة ولو طارت ؛ وهو مفتى علية القوم الملاكى وخادم السلطان ؛ الذى يتندر الأزهريون بضلاله بمقولتهم : "إن ذمته يجرى فيها جحش نهار بطوله  دون أن يدرك آخرها "؛ لتفاجئنا الأخبار  يوم صدور الصحيفة بتسليم السيدة الرشيد إلى الكنيسة وكأنها طفلة هاربة من منزل أسرتها .
القاضى حلاوة أكذب من مسيلمة وأضل من فرعون وهامان وإن ادعى ورعاً ؛ حدث أن ذهبت إليه زميلتنا هناء المجيد لإجراء حوار صحفى؛ اقترب منها بشكل مريب توجست منه الزميلة خيفة؛ فاجأها بقرصها فى فخذها ؛ غضبت وصفعته على وجهه صفعة أطاحت بعمامته، وقالت فيه ما لم يقله مالك فى الخمر .
كان آخر إفتكاسات القاضى حلاوة فتواه بجلد الصحفيين تطبيقاً لحد القذف، وزاد الأراجوز على ذلك أن ما يكتبه الصحفيون هو إفساد فى الأرض!!
مال إليَّ صديقى زكى رشدان قائلا: وصلت لفين يا مولانا ؟!
قلت دون أن أنظر إليه: فاكر مؤمنة صائب؟!
أجاب: ومن لا يذكر كاتبة أروع " بروفيل  صحفى " فى الصحافة العربية بأرشق عبارة وأدق لفظ فى سياق يجمع بين العفوية والعذوبة؟! كاتبة لها مذاق خاص ونكهة فريدة .
قلت: هل تذكر عندما أقنعها الملوانى بدخول السجن لمدة شهر بدلاً من الممثل الهلفوت؛ على وعد أن تقضى مدة العقوبة فى مستشفى السجن فى صفقة مشبوهة عقدها الملوانى مع الممثل الهلفوت مقابل مبلغ من المال وصناديق الويسكى .
أجاب: مالك ؟! ماذا بك فى يومك الأسود ؟!
قلت: صدِّقنى يا زكى أنا لا أعرف ما بى ؛ لم أعد أفهم نفسى، لقد أصبحت شخصاً مزعجاً لكل منْ حولى!!
سرحت بخيالى بعيداً عندما دخلت مؤمنة صائب إلى مكتبى باكية
قلت: خير ؟
قالت وقد غلبها البكاء : صدر حكم علىَّ بالسجن لمدة شهر
قلت منزعجاً: ليه ؟!
قالت: هل تذكر الحوار الذى أجريته مع الممثل " بوبوس الهلفوت "
قلت: ماذا به ؟
قالت: به أقوال لبوبوس الهلفوت اعتبرها أحد رجالات القضاء السابقين سباً وقذفاً فى حقه !!
قلت: وأين شريط تسجيل اللقاء ؟
قالت: معى .
 ومدت به يدها إلىَّ، أخذته منها ووضعته فى درج مكتبى وأغلقت عليه !!
قالت: بِمَ تفكر ؟
قلت: بلا شيء ؛ اذهبى أولاً إلى ملوانى واحكى له المشكلة؛ وعلى ضوء رده سنتصرف؛ وإذا سألك عن شريط اللقاء قولى له : إنه مفقود وسط الأوراق وستبحثين عنه !!
ذهبت مؤمنة وغابت بعض الساعة ؛ وعادت مستبشرة ؛ بادرتها بالسؤال : خيراً ؟
قالت : اطلب لى قهوة
قلت وقد أصابنى ضجر: خيراً ؟
قالت: أقنعنى الملوانى ألا أقدم شريط التسجيل للمحكمة، وسيتولى هو بنفسه تدبير إقامتى  فترة العقوبة بمستشفى السجن، وهذا هو أخف الأضرار .
قلت غاضباً: إنه الجنون بعينه ؟
قالت وقد امتقع لونها وابيضت شفتاها حتى صارت فى شحوب الأموات: وماذا أفعل ؟
قلت: يمكنك فعل الكثير دفاعاً عن نفسك وشرفك الشخصى والمهنى وكيان أسرتك ومستقبل أبنائك ؛ فحكم الإدانة عنوان الحقيقة، وهو وشم العار الذى لا يمحوه الزمن ولا يُمحى من ذاكرة الخلق!! اتركى لى الأمر، وسأرد عليك تليفونيا فى المساء .
.. ذهبت إلى إحدى شركات الكاسيت ونسخت خمس نسخ من الشريط، وأخبرت مؤمنة تليفونياً أننى سأتواجد أسفل مسكنها بعد ربع الساعة؛ بادرتنى متسائلة: إلى أين ؟
أجبتها: إلى مكتب صديقى المحامى، نأخذ بالأسباب، والله المستعان .
ذهبنا سويا إلى مكتب صديقى مجدى عكاشة المحامى بالنقض بشارع شريف؛ قابلنا ضاحكا: "  خير " ؟!
قلت: خير وضحكنا معاً
...........................
...........................
.. وفى المحكمة  قدمنا شريط التسجيل ودفع محامى بوبوس الهلفوت بعدم جواز الأخذ بما جاء فيه لأنه سُجل بدون إذن نيابة، وترافع المحامى مجدى عكاشة مؤكدا أن جهاز التسجيل أصبح من آليات العمل الصحفى فى أحدث تقنياته، وأنه أصبح البديل عن التدوين، وقدم للمحكمة صوراً فوتوغرافية للقاء يظهر فيها التسجيل فى مرمى بصر بوبوس الهلفوت؛ بما يعنى موافقته على التسجيل والنفى لأى جهالة به ؛ أخذت المحكمة بدفاعه وبرأت مؤمنة واعتبرتها شاهدة ؛ وقد أرسى هذا الحكم مبدأً قانونياً هاماً فى العمل الصحفى .
أغاظ ذلك الملوانى ؛ سبَّنى ؛ ولم أُعر لسفالته اهتماماً .
***
أخيراً دخل الملوانى إلى قاعة الاجتماع ؛ تبدو على وجهه علامات رضا لم نشهدها منذ وقت طويل مضى ؛ ألقى تحية الصباح ؛ رددنا : مساء الخير ؛ اعتذر عن التأخير ضاحكا  لأول مرة وضحكنا ؛ ثم التفت بحركة حاول جاهداً أن تبدو عفوية إلى ركن يجلس فيه شاب أسود قائلا: أقدم لكم زميلكم حنظلة ؛ أحدث زميل فى أسرتكم الصحفية ؛ لم يلق أحدنا بالاً للفتى فقد كان لكل منا ما يشغله  .
***
مال إلىَّ صديقى زكى رشدان قائلاً : الملوانى رايق يا جدعان !!
قلت : يبدو أنهم رقوه، ويبدو أن القادم الجديد قد جاء ليخفف عنه بعض أعبائه القذرة !!
رد زكى : ياااااااه ؛ دماغك زى دماغ الثعبان مليانة سم .
التفت إلينا الملوانى متسائلاً : فيه إيه ؟
قلت : لا شيء !!
قال الملوانى بسخرية : ألا تكفيكم جلسات النميمة فى حجرة المؤامرات ؟!
رد زكى محاولاً استفزازه : بصراحة يا ريس مؤامرة بسيطة عاجلة يعنى "تيك أواى " .
رد الملوانى بغيظ واقتضاب : طب يا خويا !!
..... وانتهى الاجتماع .



الفصل  الثانى
علم اللَّوع أضخم كتاب فى الأرض
بس إللى يغلط فیه يجیبه الأرض
أما الصراحة فأمرھا ساھل
لكن لا تجلب المال ولا تصون العرض
عجبي!!!!!!!

 ( من رباعيات صلاح جاهين )




حنظلة شاب أسمر سمرة داكنة أقرب إلى لون البن المحروق ؛ فى نهاية العقد الثالث ولكنه  يبدو وكأنه فى العقد الثامن ؛ يحمل على كتفيه هموم الكون ؛ ذو وجه منتفخ مثل كرة القدم وشفتان غليظتان ؛ وملامح فظة تنبئ عن شراسة بدائية وتشى بصحة نظرية لامبروزو فى علم الإجرام عن سمات عتاة المجرمين؛ ملامح قُدّت من قسوة الشقاء وآلام البؤس ؛  ذو نظرة فئرانية تدور فى المكان كله بلا توقف وبلا سبب ؛ نظرة يعرفها من افتقد الأمان ولو للحظة !! قدم حنظلة نفسه للزملاء أنه كان يعمل فى صحيفة "بورصة الأخبار "، وأنه تركها وجاء إلى صحيفتنا بحثاً عن فرصة أفضل ؛ وحاول الملوانى أن يجعل للشاب غطاء يمكنه من تأدية مهامه المعلنة والسرية فأشاع أنه مكسب حقيقى للصحيفة، وأنه شاب نابه وموهوب، كادت الغيرة المهنية من أترابه تدمره وتقضى على مستقبله، لولا أن وضعت العناية الإلهية فى طريقه "عبد الله الصالح الملوانى"،  فقرر إنقاذه وضمه لصحيفتنا، فى إطار سياسته لضخ عناصر جديدة ودماء شابة وفكر جديد لمنظومة العمل .
فى اجتماع التحرير؛ لم يفوّت الملوانى الفرصة لإهانة محررى الجريدة وأعلامها وكتابها وسلقهم ببذاءة لسانه فقال متهكماً :
"أتمنى أن وجود الولد فى الجريدة يثير الغيرة المهنية لدى الجثث الصحافية التى تيبست فيحفزها على تقديم شيء ذى قيمة " .
استفزت كلمات الملوانى زميلنا راجى الشريف؛ فاستشاط غضباً فى رده على الملوانى :
" الزم حدودك يا ملوانى ولا تجعل سوء أدبك يفقدك صوابك ؛ ولا تنسَ أنك تتحدث عن أساتذة وأعلام كنت ترنو إلى أعلى للنظر إليهم أيها القزم، وتذكر أنك لم تكُ يوما تحلم بالمرور من أمام جريدتنا لا أن تصبح رئيساً لها". 
.. أسقط فى يدى الملوانى ولم يعرف كيف يتصرف ؛ ارتعشت يداه وامتقع لونه؛ أدرك الملوانى بقديم خبرته فى البلطجة أنه جُرّ إلى معركة لم يحسب لها حسابا ؛ وأنه خاسر لا محالة .
خيَّم الصمت على المكان لبرهة بدت كأنها دهر، وبدا الجميع وكأن على رءوسهم الطير .
التفت إليه الملوانى معتذراً: آسف يا سيدى ؛ ما أقصتكش" .
رد راجى الشريف فى تحد لم نعهده فيه؛ فهو الكاتب المثقف والرجل المهذب خفيض الصوت : " أعرف أنك لا تقصدنى ؛ ولو توهمت لحظة أنك تقصدنى لقطعت لسانك؛ يجب ألا تنسى أن وجودك بيننا إهانة لنا وللمكان" .
أمسك الملوانى طفاية سجاير ملوحاً بها لقذف الأستاذ راجى الذى بدا متحديا
للملوانى أن يفعلها قائلاً : " أقسم بشرفى لو فعلتها ؛ لجعلتك تبيت ليلتك فى حجز الشرطة مع أمثالك من المجرمين ".
أدرك الملوانى أنه قد دخل حارة سد، وأن الحكمة تستوجب التراجع ؛ فخرج من القاعة .
بدأ الزملاء فى تهدئة الأستاذ راجى، وبدأت المباحثات فى الكواليس للخروج من الأزمة بأقل الأضرار وبما يحفظ ماء وجه الملوانى .
بدا الأسـتاذ راجى غاضــبا؛ أخذ يتحـدث وكأنه يتحدث فى الجــمع خطــيباً :
"لقد لطخ الملوانى تاريخ الجريدة العريقة بكتاباته عن التطبيع، وجعلها منبراً للفاسدين والصهاينة؛ أقسم أننى قاومت مراراً رغبة فى البصق فى وجهه لشعورى بالعار عندما نشر صورته فى الجريدة مع رئيس وزراء الكيان الصهيونى الذى وضع نعل حذائه فى وجهه؛ لقد جلس الكلب فى ذلة أمام سفاح دير ياسين قاتل الأطفال، لينقل رسالته الوقحة إلى الشعب المصرى؛ ولكن كيف السبيل للبصق فى وجه من كان منبطحاً على بطنه؟" .
ضحكنا لغرابة التصوير، وضحك الأستاذ راجى الذى بدأ يستعيد هدوءه ؛ كان صديقى رفعت عثمان رسام الكاريكاتير جالسا مع أوراقه وفرشاته يرسم بعض اسكتشاته ؛ سألته: بتعمل إيه يا فنان ؟
علا صوت ضحكته الطفولية قائلا: راجى أوقعنى فى مأذق فنى !! كيف أرسم البصقة على وجه منبطحاً على بطنه ؟! .
قلت : همّ يضحك وهمّ يبكى .
***
.. ذبح راجى القطة للملوانى وصبيانه الذين  سارعوا إلى غسيل أيديهم من ممارسات كبيرهم الذى علمهم الوقاحة بعد بعثرة كرامته، وحاول حنظلة التودد للجميع، لكن تودده كان مشوبا بالحذر، وبادله الزملاء وداً لا يخلو من توجس، خاصة بعد أن بدأت تقوّلات تتردد فى المكان عن صلاته بجهات أمنية، وعندما افتضح أمره بعد غلطة ارتكبها سهواً .. رفض الصحفيون فى" بورصة الأخبار " التى كان يعمل بها وجوده بينهم، وحمَّله كلٌّ منهم ما ألمَّ به على أيادى الآلة الأمنية المتوحشة .
حكاية حنظلة تجمع فى طياتها شقى الكوميديا السوداء، التى تُضحكنا ضحك هو إلى البكاء أقرب !! والتراجيديا الإغريقية حيث تدفع الأقدار البطل ليمضى فى طريق حتفه !!
كانت الأخبار أسرع وصولاً من كل التصورات، فقد حكى الزملاء فى "بورصة الأخبار " حكاية طرد حنظلة  من الصحيفة ؛ اكتفى البعض بإظهار القرف والاشمئزاز ؛ بينما مضى البعض يغنيها على الربابة ، ويضيف إليها كل يوم الجديد من عندياته؛ على طريقة الراوى الشعبى، الذى يتفنن فى جذب سامعه كيلا يفقده  .
إلا أن الحقيقة كما رواها لى بعض كبار الصحفيين من الأصدقاء تخلص فى أن الولد حنظلة كان ساهراً فى الجريدة لكتابة بعض التقارير التى اعتاد تسليمها للأمن ؛ وأنه اعتاد اختيار مثل هذه الأوقات التى يخلو فيها مبنى الصحيفة من الزملاء ؛ إلا أن موظف الاستعلامات فاجأه بما لم يكن فى حسبانه، وهو أن والده الأسطى جعران عسران متواجد لديه فى الريسيبشن؛ أسقط فى يدى الفتى ؛ طلب إليه أن يصرفه بالحسنى مدعياً عدم تواجده !! حاول الموظف جهد طاقته، إلا أن صرخات الأسطى جعران وتجمُّع المارة أمام الجريدة جعل الموظف يغيّر موقفه، وطلب من حنظلة النزول لاحتواء الأمر، وإلا سيضطر لإبلاغ المسئولين واستدعاء الشرطة ؛ نزل حنظلة مسرعاً ناسياً جمع أوراق تقاريره ، أو على حد قول أحد الصحفيين " ناسياً لمَّ ثعابينه السامة ". !!
أجلس الموظف الأسطى جعران على أريكة فى بهو الجريدة ؛ شعر جعران بنشوة الانتصار ؛ فخلع مركوبه ولف ساقاً على ساق، وعوج طاقيته إلى الأمام، ومسح بأصبعيه زاويتي فمه وبرم طرفي شاربه فى حركة عفوية يجيدها الحوذية ؛  متمتماً : "عيال ولاد حرام ".  نظر إليه الموظف نظرة يعرفها جعران جيداً فكثيراً ما قابلها  فى مراكز ونقط  الشرطة ؛ تحسس قفاه ونظر إلى الأرض دون أن ينبث ببنت شفة .
.. الأسطى جعران يعرف حنظلة أكثر مما يعرف حنظلة نفسه ؛ فهو قطعة منه ويضرب فيه عرقه ؛ ومن غباء حنظلة أنه توهم أن ألاعيبه يمكن أن تنطلى على أبيه ؛ نزل حنظلة واصطحب والده ومضى .
الأسطى جعران عسران أشهر عربجى حنطور فى بندر سنباط ؛ معروف بسوء خلقه وبذاءاته وأنه اعتاد شرب البوظة فى خمارة مانولى ؛ كان بعض زبائن الحنطور يرونه رجل البُعد عنه غنيمة، وأنه رجل هزؤ، وآخرون يعتبرونه ابن حظ ، وأنه رجل مسخرة، لكنه يعطى زفة العرائس بهجة برقصاته البهلوانية، وكلما زاد البقشيش؛ زادت حركات جعران للإضحاك وإغاظة العوازل ؛ بطرقعة الكرباج وكرباج  ورا  ياسطى على الحساد .
عندما يطلبونه لحمل بعض مشيعي الجنازات من السيدات وكبار السن ، كان يعطى مشاهد الجنازات مذاقا خاصا ببكائه الحار كما لو كان الميت أباه . كما كان يضبط خطى سير الجنازة بكلمة وحدوه، يتفنن فى مدِّ حروفها حسب الحاجة للإسراع أو الإبطاء .
***
مع أولى نسمات الصباح ؛ بدأت بوادر أزمة فى جريدة " بورصة الأخبار" ؛ عندما دخل عمّ محمود الساعى لتنظيف المكاتب ؛ وأمام مكتب حنظلة تسمَّرت قدما الرجل وجحظت عيناه عندما سقطت على بعض الكلمات فى الأوارق المتناثرة على مكتبه دسَّها الرجل فى جيب سترته، ليقدمها مع فنجان القهوة إلى مدير التحرير، وليحكى مضمونها للصحفيين مع أكواب الشاى وشطائر السندوتشات .
عم محمود  مثل أبى الهول يعرف الكثير .. ولا يفشى سراً لأحد ؛ دائما بشوشاً ودوداً، كان يقابل مشاغبات وشقاوات صغار المحررين لاستدراجه للحديث عن أسرار الكبار بكلماته اللينة الضاحكة : " خليك فى حالك يا سيد؛ وبص لمستقبلك " ؛ وكان يتمتم : " شقاوة عيال " .
لكنه لا يعرف الرحمة مع كَتَبة التقارير ؛ وكان لا يدخر جهداً فى فضحهم ؛ ونشر غسيلهم الوسخ ؛ كان يسميهم " مرض الجذام " ؛ العاقل من يفرّ منه ؛ فسابق خبرته بهم أصابته بحساسية مرضية حيالهم ؛ فكم اكتوى بنارهم ؛ وكم بكى بحرقة لفقد أبناء الجريدة الذين انتزعتهم مباحث الصحافة بليل لتلقى بهم فى جحيم المعتقلات ؛ وعندما كانت تحمل البشارات خبر إطلاق سراحهم يجرى عم محمود ربما حافى القدمين فى الشوارع إلى لاظوغلى لاستقبالهم فى لهفة الأب لأبنائه .
.. " عم محمود  ضمير المكان ؛ عم محمود  لا يكذب أبدا "، هذا ما يردده صحفيو الجريدة ؛ فالرجل من مؤسسى الجريدة وأحد أركانها ؛ يعرف تاريخ كل قطعة من أثاثها وحكاية كل ماكينة من آلاتها وظرف شرائها .. كثيراً ما يحكى للشباب عن أمجادها وأزماتها ؛ من منطلق أنه جندي فى كتيبتها، شارك فى انتصاراتها وانكساراتها ، أكل من شهدها ولعِق مرارة أيامها ؛ وحمل عم محمود جبال الهمّ على كتفيه مع مصادرة كل عدد من أعدادها .
ما من أحد من صحفيى الجريدة إلا واقترض من عم محمود فى مرحلة تحت التمرين ؛ كان عمّ محمود يقوم بدور الراعى والأب للجميع ؛ يقدم الشاى والقهوة والسجائر للجميع على النوتة لحين ميسرة ؛ وميسرة هذا كان لا يأتى إلا مرة واحدة فى أول كل شهر ؛ كان عم محمود ذا كلمة مسموعة، فى أحد المواقف رشق رئيس التحرير بنظرة من نار قائلاً بحزم : " أخطأت يابنى  " ؛ سقط دلو ماء بارد فوق رئيس التحرير قام مسرعا ومال على يد عم محمود يقبلها معتذراً : " آسف يا بابا "، وطيَّب خاطره واسترضاه، قبّل عم محمود رأسه وربت على كتفه قائلاً : " العفو يا أستاذ ".
استدعى مدير التحرير حنظلة ؛ وواجهه بالأمر ؛ بكل وقاحة أنكر الفتى متهماً عم محمود بالكذب والتلفيق لمصلحة من أكلت الغيرة المهنية قلوبهم؛ استشاط مدير التحرير غضباً وطرده من مكتبه لتتلقفه أيدى وأرجل المحررين بالصفعات والركلات، لينتهى المشهد بإلقائه من سلالم الجريدة إلى الشارع كثوب تمزقت أجزاؤه !!

***
   تم تعــيين حنظــلة فى صحــيفتنا فى صــفقة مشــبوهة أفصـح عن بعــض تفاصيلها الأســـتاذ ملوانى رئيس التحــرير عندما قال له موبخاً فى اجتمــاع التحرير :
"اوعى تنسى إنى جايبك من " البكبورت "، وإن خيرى عليك  وعلى أهلك .. ولولا أن اللواء الجبالى فى أمن الدولة باس جزمتى مكنتش قبلتك لحظة واحدة عندى فى الجرنال ، فعلاً الطبع غالب ؛ وذيل الكلب ما ينعدل ولو علقت فيه قالب " .
.. واللواء الجبالى صاحب أشهر فضيحة فى تاريخ جهاز أمن الدولة ؛ والتى خرج على أثرها مطروداً من الخدمة ؛ عندما تلقى رئيس الجمهورية تقريرا مرفقا به تسجيلات يفيد أن مدير جهــاز أمن الدولة يتنصت عليه وعلي أفراد من أسرته‏..‏

بكى الولد بحرقة وانكسار أكسبته تعاطف من لا يعرفه ؛ شرب الملوانى رشفة ماء وقال له بحزم :
ــ أنت مفصول ؛ مش عايز أشوف وشك .
 نطقها الملوانى فى حرقة باحت بأوجاعه، فلم يكن يتخيل أن هذا الفتى يمكن أن يكتب عنه تقريراً أمنياً .
كانت صدمة الملوانى شديدة فلم يكُ يتوقع لدغة الخيانة، وقد أسند لحنظلة مهمة التغطية الصحفية لعديد من الملفات التى عُهد بها لجهات أمنية سيادية، وقرَّبه من دائرة الأسرار الضيقة الخاصة به .
***
سألنى أحمد الحسينى مدير التحرير: ايه حكاية الواد ده؟
قلت : يبدو أنه أصاب الملوانى فى مفصل أعجزه عن الدفاع عن نفسه ؛ الملوانى يبدو كالكلب المسعور .
ضحك مدير التحرير متسائلاً : مفصل ولا مقتل ؟!
قلت : لسه بدرى على القتل يا ريس!!
قال : وبعدين ؟
قلت : الملوانى سيفصله
قال مدير التحرير ضاحكا : أفلح إن صدق .
قلت : ماذا تقصد ؟!
قال مدير التحرير بمرارة : يابنى اللى بيشتغل بالصحافة بيشوف كتير !!
قلت : مش فاهم
قال مدير التحــــرير بحزم: لن يفصله، الملوانى أوهم الولـــد بالفصل عشان يشـوف مين اللى هيتوسط له من القيادات الأمنية، وبهذا يعرف جذره واصل لغاية فين ؟! ويعرف يتعامل معاه إزاى ؟!
قلت ضاحكا : تكونش ... ياريس ؟!
قال مدير التحرير ضاحكا: امشى ؛ الحق علىَّ ؛ إنى بفهم واحد أهبل زيك !!
ضحكنا معنا بصوت عالٍ. وشرّ البلية ما يُضحك.
***
أثبت الواقع صدق ما قاله مدير التحرير ؛ فلم يفصل الملوانى حنظلة !! لكن اللافت للانتباه أن الولد قد بدا أكثر صفاقة وتحديا للجميع ؛ فقد خلع برقع الحياء ولم يعد لديه ما يخافه أو يخفيه .
وبدأ تعامل الزملاء معه ينحى منحى جديدا ؛ فقد خرجت من مكتبى ذات صباح على صوت شجار ؛ لأكتشف أن المحرر الرياضى عادل المجدوب قــد
ضرب حنظلة علقة ساخنة، سبَّه فيها بأقذع الألفاظ ؛ بعدها بأيام التقيت عادل أمام الأسانسير أشحت عنه بوجهى ؛ بادرنى : أنا عارف إنك زعلان منى ؟
قلت باقتضاب : كويس إنك لسه بتعرف حاجة ؟!
قال فى محاولة لاسترضائى : لما تعرف الحكاية هتعذرنى .
قلت: نحن فى جريدة عريقة للاختلاف فيها آدابه !! ولسنا فى موقف ميكروباص العتبة .
قال : معك حق لكن برود الملوانى وصفاقة حنظلة أخرجانى عن صوابى ، هل تصدق أن يعهد إليه الملوانى بأحد موضوعاتى لمراجعتها؛ فينقل له الولد أنه دون مستوى النشر ؛ ويأخذه ليبيعه لإحدى الصحف الخاصة ؟!!
قلت وقد بدت علىَّ علامات الدهشة : معقولة .. وهل تأكدت من الجريدة أن حنظلة هو الفاعل ؟!
استطرد المجدوب مكملاً : نعم ورأيت توقيعه فى الكشوف على إذن الصرف؛ ساعتها ذهبت إلى الملوانى بصورة من الموضوع ونسخة من الصحيفة؛ عاملنى ببرود  قائلا : دى مشاكل شخصية حلِّوها بعيد عن الجريدة ؛ أفهمته أنه هو من سلَّم موضوعى لحنظلة ؛ لم يكن لديه رغبة فى الاستماع ؛ أدار ظهره لى قائلاً : وقتى أثمن من أن أضيّعه فى هذه الترّهات !!
ذهبت إلى حنظلة محاولاً لمِّ الموضوع والحصول على حقى من ثمن النشر؛ سبّنى واتهمنى بالكذب وقال لى متوعداً : " أعلى مــا فى خيلك اركـــبه ".
لم أشعر بنفسى إلا وقد فعلت ما تعرفه ؛ واستطرد لقد فعل حنظلة فعلة مشابهة مع حسن سيف الدين المحرر الفنى الذى اكتفى بالبصق على وجهه فى صالة التحرير وأمام الجميع .
***
فضائح حنظلة كانت القاسم المشترك فى كل يوميات الجريدة وأحداثها ؛ ففى صباح يوم الاجتماع ؛ التف المحررون حول طاولة الاجتماع ؛ دخل الملوانى إلى القاعة مندفعاً كشاحنة عطبت فراملها؛ دار بعينيه فى المكان وقعت عيناه على حنظلة ؛ ألقى فى وجهه نسخة من الجريدة صارخاً : " لقد فرطت فى شرف الجورنال يا كلب ."
كانت الجريدة قد نشرت تحقيقاً عن إهدار المال العام فى تليفزيون الدولة فى إنتاج برامج لم تحقق نسبة مشاهدة، ولم تدر عائداً إعلانياً، إضافة إلى عديد من  مسلسلات الدراما الهابطة، بعث رئيس التليفزيون ما ارتآة تصويباً عملاً بحقه القانونى فى الرد ؛ أحال الملوانى الرد إلى حنظلة لمعالجته وفقاً للأعراف الصحفية ؛ حوَّل حنظلة الرد إلى اعتذار على لسان الجريدة عما سبق نشره فى تذلل وتزلف يشبه الاستعطاف لرئيس التليفزيون .
كشف الزملاء للملوانى سـر ما فعله حنظلة فقد قدم للتليفزيون فكـرة برنامجاعتبرته لجنة المشاهدة مكررة ورديئة ؛ وقد وجد الولد فى إرضاء رئيس التليفزيون تحقيقا لمآربه وتمرير البرنامج ؛ فانتهاز الفرصة ضالة الوضيع .
ولأن الشئ بالشئ يُذكر ؛ فقد أوقعت حماقات حنظلة إدارة الجريدة فى حرج بالغ بعدما أسر الدبلوماسى العربى الزول عثمان لبعض الزملاء عن حصول حنظلة على أموال مقابل نشر موضوعات تسجيلية عن نشاطه الدبلوماسى ولم يقدم له إيصالات سداد مبالغها.. وبدأت مباحثات الغرف المغلقة لاحتواء الفضيحة .
***
لم تمضِ أيام على فعلة حنظلة حتى علت فى ردهات الجريدة أصوات مشاجرة وكان طرفاها حنظلة والزميلة لويزا باسيلى ؛ استخدمت فيها أحط وأقذع الشتائم ؛ بداية من يا بن الغسالة ويا حرامى ؛ يا بن العربجى ؛ وانتهاء بيا وسخة ؛ حاولت لويزا ضربه بالحذاء وهى تصرخ : " الباشا ده يبقى جوزى يا كلب " . إلا أن الزملاء حالوا بينهما ؛ بدأت المشاجرة عندما ألمح حنظلة للويزا بمعرفته عن قرص كمبيوتر مدمج قدمه جهاز سيادى إلى الملوانى لمشاهد فراش عن علاقة خاصة جداً تربطها بأحد المسئولين ؛ ولأن الملوانى يرى نفسه أكبر من أن يستخدمه ضابط صغير فى توصيل رسالة " قرص الودن "  للمسئول؛ وابتزاز لويزا ؛ ولأنه يعرف أصول اللعبة ويحترف مسك العصا من الوسط ويعرف كيف يوصل رسائله مع احتفاظه بأصابعه نظيفة كالشمع الأبيض دون اتساخ  مثل " بارونات المافيا"، فقد استدعى معاونيه فى دائرته الضيقة التى أسماها " المطبخ الصحفى " ؛ وجلس معهم لمشاهدة ما فى القرص المدمج ؛ بدا الملوانى متظاهراً بالضجر والتأفف ؛ أعاد الـ"سى . دى" . للضابط قائلاً : دى مسائل شخـصية ؛ كان  كل من الملوانى والضابط  على يقين بأن الخبر سيكون فى كل المكاتب وفى نادى الصحفيين بعد دقائق، وهو ما يطلق عليه خبراء الشائعات " خطة إطلاق القطط المشتعلة لحرق حقول القمح " .
أفادت لويزا كثيراً من علاقتها بالمسئول الفاسد ؛ فتاجرت فى كل شيء وجمعت الملايين غير أن أهم ما كانت تحرص عليه هو ارتداء صليب من الذهب الأبيض المرصع بالماس فى عنقها، وإرسال زكاة العشور إلى الكنيسة أول كل شهر ؛ ولأن لويزا لم تكن تقنعها ورقة الزواج العرفى فلديها اعتقاد موروث بأن البنت التى لا تكلل فى كنيستها تعد زانية ، فقد حرصت على مداومة الذهاب إلى الكنيسة لإضاءة شمعة والاعتراف والتناول .
كانت تستعيد أشلاء نفسها الممزقة ؛ وبقايا شرفها المهدر وطهر جسدها المدنس فى فراش العشق ، وتجزل العطاء للكاهن المشلوح  كلما زارها فى شقتها وأسمعها كلماته كصوت آتٍ من بئر عميق : " انهضى يا بنتى ؛ مباركة يا ابنة الرب ؛ مغفور لك خطاياك ".

***

ظـهرت علامـات النعمـة على حنظـلة فلبس أفخــر الثياب، وبدأ يهتم بهــندامه وتصفيف شعره على الموضة واستخدم أرقى العطور؛ أصبح مظهره ملفتاً ومثيراً للتساؤلات ؛ تبادل الزملاء الهمس عن قصة حب جمعت بين حنظلة والزميلة مرجانة رقيقة الجمال والموهبة الصحفية ؛ سألها زكى رشدان : إيه حكايتك مع الواد المِهَبِب مثل باعة أنابيب البوتاجاز ده ؟!
قالت : فيه مشروع ارتباط  .
ألهبها زكى بسلاطة لسانه مستغلا ما بينهما من ود : " قاعدة الخزانة ولا الجوازة الندامة" !!
ناديت زكى : رشدان ؛ تليفون لك فى مكتبى .
رد علىَّ : خلِّى السويتش يحوله.
تذرعت بصعوبة ذلك ؛ أتى إلى مكتبى مسرعاً قلت له : مفيش تليفون !!
قال : فيه إيه ؟
قلت : فيه إنك عندك حالة عمى إنسانى واجتماعى ؛ رفقا بالقوارير يا عمنا، البنت فاتها قطار الزواج وأوشكت أن تدخل مرحلة العنوسة ؛ ثم إن البنت كبرت والستر واجب .
قال مستهجناً: مالك تتحدث بمفردات عجائز عصر مضى؟!! ثم إن الواد واطى .
قلت :  النفس البشرية لم تتغير منذ الخليقة ؛ يمكن لما يتجوز ربنا يصلح حاله .
بدا زكى مقتنعاً بكلامى ؛ عاد إليها قائلا : مبروك بس بشرط ..
قالت البنت وقد بدت عليها علامات الارتياح : شرط إيه ؟
قال : إللى تتجوز ابن الأسطى جعران نقول لها يا مدام خنفسة ولا يا جعرانة هانم !!
قالت ضاحكة وقد تفجرت وجنتاها بالأنوثة وحمرة الخجل : إخص عليك !!
قال زكى ضاحكاً : ولما تخلفوا جعارين وخنافس صغيرين تبقى تحكى لهم حواديت قبل النوم عن بابا  جعران وماما خنفســـه .
***
أثبتت الأيام صدق كل ما قاله زكى رشدان، فقد بدآ حياتهما الزوجية ومعها  رحلة الإعلانات والعمولات والموضوعات الصحفية المدفوعة الثمن . وحياة زوجية أقرب إلى حلبات المصارعة .
***
كل شيء يبدو شبه عادى بالجريدة ؛ ما أشبه الليلة بالبارحة ؛ نفس حالة الموات الصحفى والعجز المالى والفشل الإدارى ؛ والانهيار غير المسبوق فى أرقام توزيع الصحيفة، التى أصبحت أعداد كتابها يفوق بكثير عدد قرائها، الذين أداروا لها ظهورهم بعد تردى لغة خطابها وبعد الرقابة التى فرضها الملوانى فى إطار التضييق الصحفى على مواد الجريدة وكتابها لإرضاء  أسياده ولتحقيق مكاسب شخصية .
 احترف الملوانى أساليب عديدة لطلب الدعم الحكومى ؛ كان يحوِّل أكثره إلى حساباته الشخصية ؛ ضاق المسئولون ذرعا بمطالبه التى لا تنتهى وجشعه الذى لا آخر له ؛ كان حريصا على إفراغ خزينة الجريدة من كل مليم يدخلها بصرف بدلات لسفريات وهمية وعمولات لأعمال لم تتم؛ فأصبحت الخزينة خاوية وعجزت عن  سداد أثمان الورق والأحبار للموردين، فامتنعوا عن التوريد فخلت المخازن من مستلزمات الإنتاج وأصبحت المطابع مهددة بالتوقف؛ ولم تفِ الجريدة باستحقاقات العاملين من تأمينات وعلاج؛ فاجتمع العاملون وقرروا الدخول إلى الملوانى للمطالبة بحقوقهم؛ استقبلهم الملوانى بقرف ساخراً من مطالبهم ؛ شد نفساً عميقاً من أنفه وأخرجه من فمه ؛ محدثاً صوتا بذيئاً تُجيده العاهرات كإحدى وسائل ترويج بضاعة الزنا ؛ ولم يكتفِ بذلك بل أشار بأصبعه إشارة لا تخلو من بذاءة وسوء خلق .
قابل العمال استفزازات الملوانى ببرود مصرِّين على أخذ الحق، وهو حرفة لا يُجيدها إلا العقلاء ؛ أمام إصرارهم فقد الملوانى أعصابه فسبهم بأقذع الألفاظ وهددهم باستدعاء مباحث أمن الدولة ؛ لم يحرِّك العمال ساكناً، ولم يرتعش لهم جفن .
وأجابوه : نتحداك أن تفعل ؛ نحن الشرفاء  أصحاب الحق ؛ وأمن الدولة لأمثالك من اللصوص. ونحن معتصمون ولن نبرح المكان إلا بعد أخذ حقوقنا كاملة .
استشاط الملوانى غضباً؛ فنهض من على مكتبه وهو يفك أزرار سرواله فى إشارة إلى عورته و همهم بكلمات غير مفهومة تآكلت حروفها ؛ وأتى بحركة لها دلالتها الوضيعة .
ردّ العمال بغضب: كلنا رجال وليس بيننا لوطي أو عاهرة  يا حرامى يا واطى يا بن الكلب .
فقد بعض الرجال أعصابهم ؛ هجموا عليه ؛ أوسعوه ضرباً بالصفعات والركلات، بينما علت حناجر الآخرين  بصياح زفة التجريسة : " الحرامى أهو ..  الحرامى أهو ..  " .
هرب المـــلوانى من مكتبه كالفــــأر المذعــور ؛ لاحـقه العمـال على الســلالم
ورموا به مثل كيس قمامة إلى رصيف الشارع، فى سابقة لم يشهد مثلها تاريخ جريدتنا.

***
أحرجت تصرفات الملوانى المسئولين ؛ فصدر قرار بإعفائه من جميع مناصبه ؛ وتكليف حنظلة برئاسة التحرير !!
***
نزل الخبر كالصاعقة علينا؛ وتوقع الجميع حالة منفلتة من تصفية الحسابات تتراوح ما بين التجميد والمنع من الكتابة والخصم من الراتب والعلاوة  والحرمان من المزايا والتخطى فى الترقية وغيرها من وسائل التنكيل التى يعرفها كل من عمل بصحافة البلدان ذات الحكم البوليسى .
.. سألنى بتوجس صديقى كريم عبد السميع مدير إدارة حسابات التحرير بالجريدة : ما رأيك بالتغيير ؟!
قلت : لم يحدث تغيير ؛ فاستبدال الجحش بالجحش حرفة تُجيدها الأنظمة التى تضيق بالحريات ؛ فالتغيير دائما يكون نحو الأسوأ .
قال مستفسراً : بمعنى ؟!
قلت : المعنى فى كلام الحكيم المصرى حجا عندما سألوه عن الفرق بين الكلب الأبيض والكلب الأسود ؛ فأجاب : كلهم كلاب ولاد كلاب ؛ أنجاس ولاد أنجاس ؛ فهم كلاب الصيد المدربة على نهش كل شيء واستباحة كل الحرمات والنباح وترويع من يطلقونهم عليهم من خلق الله، والولغ فى كل إناء، وهز الذيول لسادتهم ولعق التراب تحت اٌقدامهم.
لقد ذكرتنى يا صديقى بنكتة قديمة تداولها أهل المحروسة فى العصر المملوكى ؛ عندما خيّر الجلاد ضحيته على أى الخازوقين يود أن يُعدم ؟! فاختار الخازوق الأول، ثم عاد واختار الثانى، وهكذا فعل عدة مرات ؛ فلما سألوه : لِمَ تفعل هذا يا مجنون ؛ أجاب إنها راحة فترة الانتقال من خازوق إلى خازوق !!
يعنى على طريقة الفنان فؤاد المهندس فى مسرحية " سك على بناتك " .. بلاها  نادية خد سوسو ؛ وحشة سوسو ؛ بلاها سوسو ؛ خد نادية !!
.. ومن نادية لسوسو ؛ ومن الملوانى لحنظلة ؛ ومن (....) لطوبة ؛ يا قلبى لا تحزن !! والاختيار حصري بين السيئ والأسوأ !!







الفصل الثالث

يا طير يا عالى فى الســــــما طظ فيك
ما تفتكرشى ربنا مصطــــــــــــــــفيك
برضـــــــــــك بتاكل دود وللطين تعود
تمـــــــــص فيه يا حلو .. ويمص فيك
عجبى !!!

( من رباعيات صلاح جاهين )




صعد حنظلة إلى كرسى رئيس التحرير على جثة الملــوانى ؛ بعــد أن ظل جالسا تحته لسنوات طويلة يتلقى ركلات الأحــذية وصفعــات الشباشب قانعاً بالفتات .
بدأ حنظلة يومه الأول فى رئاسة التحرير بالذهاب إلى أمن الدولة، فهو يعرف أن الجهاز هو الذى أتى به، وهو المسيطر على كافة مجريات الحياة السياسية فى مصر وأبرزها الصحف، وكان رؤساء التحرير يذهبون إلى هناك أسبوعياً بمجرد تعيينهم لتلقى التعليمات وتقديم فروض الولاء .
عاد بعدها من عند أسياده منتشياً ؛ فدعا إلى اجتماع عاجل للتحرير، بدا خلاله مرتديا فروة الأسد وعباءة الفرسان، فتحدث عن عهد جديد لتقديم صحافة محترمة ؛ وفتح باب تلقى الاقتراحات الصحفية ؛ ولم يقر أحدها معلناً أن التكليفات ستصل للجميع من خلال مدير التحرير؛ أدركنا أنه فى مأزق، فلم يكُ فى ذهنه نسق صحفى لجريدة، وبان فشله لأول وهلة فى تقديم رسالة صحفية جديدة ومبتكرة ؛ وأن كرسى رئاسة التحرير قد ابتلعه !! ولم يبقَ منه سوى شبح أراجوز هو لعنة الجريدة فى مستقبل أيامها . وكنت على يقين بأن حمقه سيعجِّل بنهايته، وأنه لن يُكمل دورته !!.
بدأ حنظلة تدابير إصدار عدد الجريدة بإعدادات أقرب إلى التخطيط لارتكاب الجرائم منها إلى أعراف العمل الصحفى ، وكتم الجميع الأنفاس انتظاراً للقادم الجديد ؛ كانت الصدمة أكبر من كل التوقعات ؛ فقد جاء الوليد مبتسراً ومشوها . استهله حنظلة بمقال باهت تحدث فيه عن نفسه متحسساً رأسه، فهو على حد قوله المكذوب لم يكُ يوماً تابعاً لأحد ؛ رأيه من دماغه ؛ ولم يكن يوما مسنوداً من أحد ، فلا ظهر له سوى قلمه ودعاء الوالدين ؛ ولم يكن يوما موصوماً بوشم أحد ؛ دينه المهنية وقبلته المصداقية  ، وتحدث عن تساؤل السيدة والدته عندما علمت أنه أصبح رئيساً للتحرير : " هيا رئاسة التحرير يا بنى فى ميدان التحرير ؟!! "
أراد حنظلة أن يضحك القارئ ؛ فضحكت الدنيا كلها من حمقه ؛ واستخف به الزملاء فى تساؤل لا يخلو من خبث : " قد يكون حنظلة صادقاً ؛ إذا ما افترضنا جدلاً  فى فرضية غير قابلة للوجود أن السيدة والدته تعرف أن فى الدنيا مكانا اسمه ميدان التحرير؛ فنهاية عالمها مسكنها وبيوت مخدوميها!!
***
راحت السّكرة وجاءت الفكرة ..
لم يجد حنظلة فى جعبته ما يكتبه فى مقاله ، فليس لديه معلومات وليس لديه قدرة على تكوين مصادر للمعلومات ؛ وليس لديه القدرة على التحليل أو الاستقصاء والاستنباط وربط طبائع العلائق بين الشخوص والأشياء والأحداث .
.. ومع فضيحة عجزه عن كتابة مقال فى التحليل السياسى ؛ كشفت الأيام عجزه عن ابتكار توليفة جريدة لها خط واضح وأسلوب تناول صحفى لتوصيل رسالة ما تلتزم المعايير المهنية ؛ فلجأ إلى أسياده فى أمن الدولة يشكو لهم قلة حيلته وهوانه على القراء الذى يتزايد مع تزايد أعداد المرتجع من الجريدة ؛ هدأ الضابط المسئول من روعه، ووعده ببعض الملفات عن الإخوان المسلمين والكنيسة القبطية ؛ ونصحه بزيادة جرعة العرى والجنس والإباحية  بالكتابة عن علاقات منحلة وأفلام هابطة، وقدم إليه قائمة بأسماء بعض العملاء من الكتاب وضيوف الفضائيات المشبوهة الدائمين، الذين يُجيدون صناعة هذه التوليفة القذرة لإلهاء الشباب وإقصائهم عن قضايا الوطن .
وعده الضابط بدعمه مالياً من خلال إصدار الأوامر لعدد من الجهات بالتعاقد على اشتراكات من الجريدة، بما يحفظ ماء وجهه أمام إدارة الجريدة وعمالها، كما وعده بعدد من الإعلانات فى صورة موضوعات صحفية تدخل حصيلتها إلى جيبه لزوم الوجاهة ؛ ونصحه الضابط أن يلقى ببعض الفتات إلى مساعديه لضمان الولاء .
.. ولأن حنظلة ليست لديه علاقات محترمة أو القدرة على تكوينها ؛ فلم يكن أمامه سـوى الاستعانة بـ " شـلة"  المقهى، ليشكل منهم مجـلس التحـرير على نهج الملوانى فى إدارة العمل بإحكام قبضته على الموالين له وأتباعه  بكسر نفوسهم وعيونهم وإذلالهم ليضمن ولاءهم أولا، ؛ ثم يعود ويرشوهم بالامتيازات ويسخو عليهم بالمكافآت!!
.. واستعان حنظلة بالإعلامية نشوى خليل لتعلمه أصول " الزيس "  ؛ رغم ما يلاحقها من سوء السمعة بعد ضبطها فى المطار متلبسة بجلب مخدرات وضعتها فى جزء حساس من جسدها ؛ وتدخل مسئول فاسد لإنهاء الفضيحة واكتفت الفضائية بطردها وإيقاف برامجها .






الفصل الرابع
النهد زي الفهد نط اندلع
قلبي انهبش بين الضلوع و انخلع
ياللي نهيت البنت عن فعلها
قول للطبيعة كمان تبطل دلع
عجبي !!!
( من رباعيات صلاح جاهين )




.. و لأن حنظــلة لم يشم فى حـياته سـوى رائحة لحــم الخــادمات المختلط بالطين والعرق، فقد اشتهت نفـسه لحم الهـــوانم من عجينة الياسمين فذاق الفـاكهة المحرمة مـع الصحــفية أنغـــام الحصرى ، ولـم يشعــر بتأنيب الضمير ولم يرتعش له جفن ؛ فقد ارتأى أن ركوب مثل هذه المرأة لا يمثل عملاً جنسياً بقدر ما يمثل ركوب طبقة بأكملها على نهج أستاذه الملوانى فى اللصوصية وسرقة الأعراض ؛ ذلك الداء الذى ترسخ فى نفس الملوانى!! ويكمن حل لغزه فى فك شفرة أغنية أبيه الأسطى عبده الصرماتى " آآآآه .. ياعزيزة  " . .!!
.. أنغام مهرة جامحة بغير لجام ؛ تشكو برودة الفراش بدون رجل  ؛ ولوعة الرحم بغير رواء ؛ وجدت فى حنظلة ضالتها ومآرب وظيفية أخرى ؛ لكن سرعان ما كشفت الأيام المستور، واكتشفت أنغام سراب أمانيها ؛ فحنظلة ليس خيّالها الذى يستطيع ترويضها وعاجز عن ملاعبتها لعبة الرجال ؛ فطردته من دنياها وعاملته مثل نفايات قذرة من مناشف حيضها !!

***

كان الجو شديد القيظ ؛ مثل كل أيام شهر أغسطس ؛ ناديت ساعى المكتب ليحضر لى كوب ماء ؛ لم يرد ؛ كررت النداء بصوت فظ بنبرة أكثر حدة ؛ حضر الساعى مهرولاً واعتذر عن التأخير مبرراً ذلك بمرض ألمًّ بالملوانى فجأة فى مكتبه ؛ لم يعد يقوى على أثرها على الوقوف ولم تقو ساقاه على حمله بعدما سلمته إدارة العاملين بالجريدة خطاباً من حنظلة خطـاباً يفيض عـذوبة ويقطـر رقة ؛ يثنى فيه على أسـتـاذيته ويشكره فيها على ما قدمه للجريدة ؛ ويبلغه أعتذار الجريدة عن الاستغناء عن خدماته ؛ صدمة الملوانى فاقت كل توقع ؛ همس محدثاً نفسه فى ذلة :" هـذا جـزائى ؛ لقـد أويت الفأر الجـربان في جيب معـطـفي " .
.. لم يكن الملوانى يتوقع ركلة النهاية... فكم تمادى حنظـلة فى إذلاله وكسر أنفه بحركات صبيانية وصغائر من قبيل إثبات الذات وسداد لفواتير قديمة ورسائل للتذكير أنه الجالس فى مقعد القيادة ؛ فحذف فقـــرات من مقـــالاته ؛ وأمـــلى عليه عناوين ما يمكن كتابته .. وأعاد صياغة مفرداتها ؛ أوجعت تصرفات حنظـلة أستاذه ملوانى!!  لكنه جبن عن نطق الآه ؟!! فعزل ملوانى من رئاسة التحرير أورثه انكساراً جعله مثل أسد السيرك تبول علي رأسه الكلاب نهاراً ؛ وتلهب ظهره كرابيج المهرجين ليلاً . طمعــاً فيما يقدمونه له من جيف الحمير  !!.

***
اشتدت أوجاع النفس على الملوانى  ؛ ولم يعد مرغوبا فى وجوده أينما حضر ، فلم يجد له ملاذا سوى " زوزو وصفى " ؛ إحدى قطط الليل فى شارع الصحافة وإحدى عشيقاته ، يذهب إليها حاملاً طبق الكباب وزجاجة الخمر ؛ لم يعد لكليهما متعة سوى النهم للطعام واحتساء الخمر ، الملوانى على يقين من أنه لم يحب يوماً هذا البلد الذى تغنى بعشقه فى مقالاته ؛ لأنه يعرف أن  القلب الذى دقه الحزن لا يعرف الحب ، وأن الذات المقهورة لا تستطيع أن تنتظم فى صفوف الرجال . وهو يدرك تماما أنه وزوزو وجهان لعملة واحدة من فئة من الأغوات والجوارى، كلاهما باع وقبض الثمن ، لم يعد الملوانى قادراً على حرث سريرها ، ونثر بذور الفحولة فيه ؛ وريها بماء الخصوبة  بعــدما جف بئره ، ولم تعد عظـام زوزو تتحمل ثقـل وزنه فى محــــــاولات لا طائل منها ؛ لم تعد زوزو تلك المرأة التى يخطب ودَّها الرجال ؛ فقد أتت رياح الخريف على ما تبقى من ثمار أنوثتها وأوراق نضرتها ؛ فتكسرت أسنانها ؛ وحفرت الأيام بقسوة أخاديد العمر على وجهها ورقبتها . ولم تفلح الأصباغ فى إخفاء ما خطته اليد الخشنة !!

لم يعد لهما ما يتحدثان فيه سوى ذكـــريات تحمل فى طياتها ألماً لكليهما ، و حديث يبدأ بــ ... فاكره يا زوزو ... وفاكر يا ملوانى ؛ كثيرا ما ضاق كلاهما بالآخر ؛لأنه يرغب فى النسيان !!
عندما يستبد السكر بهما ، وتهيج شجون النفس ، تلقى برأسها على صدره  وينخرطان فى نوبة بكاء ، لا يريحهما منها سوى النوم .

.. مع الصباح ؛ يبدو كل منهما وكأنه لا يعرف صاحبه ؛ فيضع الملوانى جاكته على كتفه ويمضى ، لتبقى زوزو مع ذكرياتها مع من تطلق عليهم أولاد القحبة الرجال الذين لم تحب أحداً منهم  وفى مقدمتهم الملوانى !!

زوزو بخبرتها تعرف معادن الرجال ، فالملوانى  لم يكن يوما ذواقا لمثلها ؛ لكنها العقدة التى ترسبت فى أعماق ذاته ، عقدة الاغتصاب ونهش الأعراض ؛ ذلك الداء الذى ترسخ فى نفس الملوانى!! ويكمن سره فى أغنية أبيه الأسطى عبده الصرماتى :

       من دمع عينى مليت الزير والقلة
                     والسهد دوِّب مراتبى وكسر المُلة
آآآآه .. ياعزيزة
عزيزة هذه هى سر عقدة الملوانى وأوجاع نفسه ؛ وهى عار أبيه الذى غسله بدمائها !!
.. عـزيزة هى أول فرحـة  الأسطى عبده الصرماتى بالذرية ، كان يريدها ولدا ؛ قالت له زوجته : " لا تكفر  ؛ استغفر الله واحمده على عطيته . " ، عزيزة بنت مثل كل بنات الفقراء ؛ ولدت رهينة محبسين ، الفقر والجهل ؛ ذات وجه صبوح ، ورموش طويلة  تعلو عيوناً واسعة كثيراً ما ملأتها الغيوم من كثرة البكاء وأوجاع الشقاء ؛ و ابتسامة شاحبة مثل شمس الشتاء . لكنها كانت عاشقة للغناء ؛ غنت مع بنات البلد للسنابل والحمام ولوز القطن المزهر فى الغيطان، وجريد النخل العالى ، وغنت لــ " خولى الجنينة  " قائد مسيرة الترحيلة للعمل فى حقول الأعيان .
كبرت البنت صارت أنثى ؛ خرطها خراط البنات ؛ نضجت ثمارها ؛لم يعد صدرها وسادة ، تكورت أرانب نهديها على صدرها . مثل كل البنات كانت تعمد عندما تملأ جرتها من الترعة أن تبالغ فى غسلها، وأن ترفع طرف ثوبها ليكشف عن بياض ساقيها واستدارة سمانتهما، وأن تسكب بعض الماء على صدرها ؛ فيلتصق الثوب بدوائر نهديها ، فتبدو وكأنها تمثال لفينوس بملامح مصرية.
.. تفجرت فى جسد البنت ينابيع الأنوثة وفى نفسها لهيب العشق ؛ صوت  نداهة الغواية أعماها عن النظر تحت قدميها ؛ أغواها ابن العمدة ؛ تقاسما قطع العسلية ونبوت الغفير و الحلاوة الطحينية ؛ دارت رأس البُنية ، .. ولِم َ لا ؛ أليست فاتنة الناحية ؟! ؛ ومنْ هذا ابن العمدة أو" العمدة الصغير " كما تعود أهل البلد مناداته ؟!! الذى يتحدث الناس عن فضائحه  بعد أن ضبطته أمه فى حالة اتصال جنسى بالجاموسة ، فصفعته على وجهه ، وكفت على الخبر " ماجور "  ؛ وطلبت من العمدة بيع الجاموسة لأن وجودها فى الدار شؤم !! لم يفلح العمدة فى معرفة سر إصرار زوجته على الخلاص من الجاموسة .
سرّب بعض الخفراء الخبر ، وتمت إشاعته فى الناحية ، أطلق الخبثاء سراً فى مجالس لعب " السيجه "على العمدة الصغير لقب " البطش " والبطش هو ذكر الجاموس الصغير على اعتبار أن أباه هو " الفحل الكبير " !!
فاتحت زوجة العمدة زوجها بشأن زواج " البطش " ؛ وافقها وطلب منها أن يختار من يهواها قلبه ، وعليه التنفيذ .

***
..تربّعت اعتدلت الحاجة زوجة العمدة على الدكة فى جلستها مثل كوم القشدة الفلاحى ، اعتدلت فى جلستها وأبدلت وضع ساقيها ؛ كشفت حركتها عن خُلخَال غليظ من الذهب ،  أدارت حبات المسبحة بين أناملها ونادت على " البطش " ، أجلسته بجوارها ، نظـرت إلى سقف المنـدرة وقالت :
ــ أبوك وافق على زواجك .
هلل " البطش " فرحاً قائلاً :
ـــ صحيح يا مه ؟!!
هزت الأم رأسها مؤكدة : صحيح .. شوف تختار مين ؟! وبدأت بعرض قائمة طويلة بأسماء العرائس من بنات الأعيان والكبراء ، بدأتها ببنت العم ّ حتى لا يذهب الطين للغريب وأنهتها بـ " الأبلة " بنت " الأفندى "  ناظر المدرسة .

ــ أجابها " البطش "  ببرود : "  مش هتجوز إلا عزيزة . "
ألجمت المفاجأة لسان الحاجة ، تحلت بالصبر ، متسائلة :
ــ "عزيزة مين ؟! "
أجاب " البطش "  بنفس البرود :
ــ " بنت عبده "
سألت الأم فى محاولة للإمساك بآخر خيوط الصبر :
ــ " عبده مين ؟!! "
أجاب " البطش "  بسماجة :
ــ " عبده الصرماتى "
ردت الأم بقرف : " أدى إنت قلتها بعضمة لسانك .. الصرماتى !!؛ يا زين النسب ؟!! "
رد البطش فى تحد : " يا عزيزة يا بلاش " .
فقدت الحاجة أعصابها فقذفته بمركوبها وقد علا صوتها : " إمشى من وشى يا نجس ؛ هوه  يا الجاموسة ، يا بنت الصرماتى ؟ "
استغرقت الحاجة فى وصلة حوقلة وبسملة واستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ، داعية الله أن يرفع مقته وغضبه عن أهل آخر الزمان .

***

نهار القرية طويل بشكل يلقى ظلالا على أهلها من السماجة والنطاعة ، وليلها غول بطنه حبلى بالنميمة ؛ سرت فى ظُلماته وظُلمه شائعات العشق بين " البطش " وعزيزة ؛ الكل يُحِّدث بما رأى وما سمع ، وبما اختلقه من خيالاته عن سيل العسل على شفاه العاشقين وأجسادهم .
..أيام وجاءت استدارة بطن البُنية بالخبر اليقين .

***

غسل عبده الصرماتى عاره بسندان إصلاح المراكيب ؛ اجتمع الكبراء ؛ أفتى شيخ الجامع بما يهوى حضرة العمدة : " الستر واجب ، وإكرام الميت دفنه ؛ وعبده معذور وفى رقبته كوم لحم . " 

***

عزيزة هى سر أوجاع الملوانى ، وكوابيس منامه ، وعقدته التى كبرت معه ، والتى بدأت مع شعوره بالضعف والعجز عن الثأر لها  باستراق النظر إلى لحم الهوانم واختلاس الجنس فى الزحام ، فإذا ما ضبطته إحداهن نظر إلى الأرض متحصناً بتكشيرة وجه تقطع الخميرة من البيت وتنشّف الزيت .

مع تولى الملوانى رئاسة التحرير ، طلب سكرتيرة بمواصفات خاصة ؛ انطبقت هذه المواصفات على الزميلة وجدان الطحان فهى تجيد أكثر من لغة ، أنيقة الهندام وعلى دراية بقواعد البروتوكول  ؛ فهى من فلول الطبقة الأرستقراطية التى قضت عليها ثورة  23 يوليو 1952 .
كانت عقدة الملوانى ؛ ورغبته فى الثأر أكبر من أن ينسيها له كرسى رئاسة التحرير ؛ فحاول التحرش بوجدان بلمس جسدها ؛ غضبت وجدان وصفعته على وجهه وقدمت استقالتها وتركت الجريدة .
أوجعه تصرف وجدان ، وأهاج شجون نفسه ، وفتح عينيه على الحقيقة التى لم يرها طوال سنوات عمره ، فالمسألة لم تعد كما كان يعتقد ؛ خنوع تحت تأثير السلطة أو رضوخ تحت قهر الفقر ولكنها معدن الإنسان وانجذابه لطبيعة طينته .
.. وتحت تأثير الخمر وهذيان سكره ، راح يعقد المقارنات بين تصرف وجدان رغم حاجتها إلى كل مليم من مرتبها واستجابة أخته عزيزة لشيطان الغواية .

***
أشفق على حاله رفاق السوء فى جلسات السكر ؛ طيّبوا خاطره ، فوجدان من الصنف النمرود ؛ الأقرع ونزهىّ ، ووعدوه بسكرتيره أجمل منها وأفضل بكثير ؛ تتفهم ما يريده ؛ خادمة فراش من طراز فريد .
.. جاءت " هيفاء نادر " السكرتيرة الجديدة ، تمثال شمع لا روح فيه ؛ تغطى وجهها الأصباغ من كل لون مثل عروسة المولد ،  عيّنها الملوانى بمرتب يفوق بكثير مرتبات كبار الصحفيين ، وأصدر تعليماته ألا  يدخل إليه أحد قبل إذن منها مهما كان الأمر .
.. استحوذت هيفاء على قلب الملوانى وحاذت ثقته ، فأدخل حملة إعلانات إلى الجريدة باسمها ، وفى يوم صرف شيك العمولة ، تسلمت الشيك ، وكتبت استقالتها وقيدتها برقم فى دفتر الوارد وذهبت ولم تعد إلى الجريدة !!
.. أخرست الصدمة الملوانى ؛ ابتلع خيبته ، ولم ينطق بحرف .

***
أصبح الملوانى مثار سخرية موظفى قطاع الإعلانات ، نصحه مدير الإعلانات باستخدام مندوبة الإعلانات " شروق الشادى " فى مثل هذه العمليات ، مع أخذ الضمانات الكافية عليها ، شروق لها نفس ملامح هيفاء نادر تقريباً مع اختلافات طفيفة ، لكنها أكثر منها وعياً ؛ فقد اشترطت أن تعمل صحافية ويتم قيدها بجدول نقابة الصحافيين وأنها لن تسلم نفسها إلا بالحلال وعلى سنة الله ورسوله .
استجاب الملوانى فوراً لطلبها الأول ووافق على الثانى بعد مناقشات أقنعه بها مدير الإعلانات بورقة زواج عرفى تُرضى البنت ، ويتم تمزيقها عند اللزوم .
ذاق الملوانى العسل مع شروق ، إلى أن أخبرته بحملها ، غضب الملوانى ؛ أدرك حجم الخدعة التى جرّته إليها بطلبها القيد فى جدول نقابة الصحافيين ، وعقد الزواج العرفى ؛ فقد أصبح لها الكلمة المسموعة والموقف القانونى والشرعى للزوجة ، فتحايل لإقناعها بالإجهاض هذه المرة على أن يتم إشهار الزواج ويتم كل شئ فى النور ؛ وافقت البنت .
.. أثناء عملية الإجهاض وما يتبعه من نقل دم ؛ داهمتها فيروسات الكبد التى لم تقوى على تحمل تكاليفها والتى تهرب منها الملوانى .
.. مزق الملوانى ورقـة العشق وفعل ما فعله " البطش " ابن العمدة مع "عزيزة "!!

***
***
ماتت « شروق » ، رحـلت فى صمت ؛ لم يذرف أحد فى وداعـها دمعة ؛ ولم يضئ أحد على مقبرتها شمعة ، على مقبرتها المنسية وقفت نبتة صبار برّية ،تعانى جحود العطش ؛  تلعق مِلح الأرض، وتستجدى السماء قطرة ماء، وتدعو بالرحمة للأموات .




الفصل الخامس
ـــــــــــــــــــــ
إقلع     غماك   يا تور   وارفض   تلف
إكسر   تروس   الساقية  واشتم وتف
قال : بس خطوة كمان .. وخطوة كمان
يا اوصل نهاية السكة يا   البير   تجف
عجبي !!!
( من رباعيات صلاح جاهين )








هاجـم حنظـلة بعض المسـئولين فقـال جـودت المـوافى الذى أصبح وزيراً : « اتركــوه يعوى ؛ لما ريقـه ينشف ؛ ولســانه يدلدل ؛ هيبطل هرتلة» . وصلت رسالة الموافى إلى حنظلة الذى ارتعدت فرائسه ؛ وأدرك بخبرة الخدم  ؛ أن ساعة نهايته قد اقتربت  وأن وقت قطع لسانه قد حان  ؛ فالموافى شخص سادى ؛  أسود القلب مثل كل القوادين ؛ فضلا عن كونه ذا حظوة  جعلته القريب من الكبير الذي جعله رسولاً للمحبة بينه و بين من يشتهيهم من الغوازى والغوانى .
أدرك حنظلة أن سـهـام شتائمه قد طـاشـت ؛ وأنه أعزل فى مواجـهة مجــرم محترف يتحَصّن بحماية الكبير وإرهـاب الدولة   ؛ وتكفى إشارة واحدة  منه إلى زعرب النوحى مسئول ملف الصحــافة ليجد نفسـه مسجـونا فى قضايا فساده المتعددة  ؛ فذهب إليه لتقديم الاعتذار ؛ قابله الموافى بابتسامة صفراء قائلاّ : قبلت الاعتذار ؛ ولكن .......

.. لكن هذه كانت تعنى علانية الاعتذار ؛ فكتب حنظلة مقالاً بعنوان : «حكيم الوطن »  ؛  لعق فيه حذاء الموافى . 

سألنى صديقى رفعت عثمان فنان الكاريكتير : إذا كان القواد " جودت الموافى " حكيم الوطن ، فمن تكن العاهرات ؟

قلت : " عرائس الحكمة "  فى مواخير الوطن .

استغرق الفنان فى الضحك ، حتى كاد يغشى عليه ، وراح يستوقف كل من يقابله من الزملاء فى طرقات الصحيفة ليروى مادار بيننا من حديث ، ويستغرق فى ضحكه من جديد .

***
.. زعرب النوحى  ؛ هذا اسمه وليس لقبه ؛ مسئول ملف الصحافة وهو أغبى صحفى فى مصر ؛ لهذا السبب اختاره جودت الموافى لهذه المهمة ولو وجد من هو أغبى منه لاختاره بدلاً منه ؛ فمظهره ينبئ عن مخبره فهو رجل نصفه قفا ونصفه الآخر سـاقان قصيرتان يعلوهمارش يهتز كلما جرهما على الأرض ؛ وهو فاجومى يتطاير الرزاز من فمه ليشعرك بقرف تُفضل معه إنهاء النقاش وترك الحق .
قال صديقى رفعت عثمان فنان الكاريكتير : تعرف إن النوحى هو النموذج المجسد للكاريكاتير ؟
قلت : ارسمه
رد ضاحكا : لا يا عم ؛ الطيب أحسن ؛ يقطع الدعم عن الجريدة ويفصلنى !!

***

دعت لجنة شــــئون المهنة النوحى لإلقـــاء محاضـــرة عن «التحديات التى تواجه الصحافة الورقية فى مواجهة الصحافة الرقمية »  . أخذ يدق المائدة بقبضته قائلاً : «... مهنتكم فى خطر ... خطر جامد ... خطر شديد ... خطر خطير .... خطر بجد مش هزار » ؛ ضجت القاعة بالضحك و غادر الصحفيون القاعة وتركوه وحده ؛ يحاضر نفسه !!
استشعر منظموا  اللقاء الحرج  ؛ فطلب منى زميلى السكرتير العــــام أن أتواجد بالقـاعة بعض الوقت فالموقف محرج للغاية .
قلت لقد ذكرنى النوحى بأشعب الطفيلى ؛ عندما قالوا له يا أشعب إنك تجالس الأمراء والفقهاء فعظنا ؛ فقال لهم : السريد أولاً ؟ ؛ فأتوا له بقصعة سريد التهمها وشرب قلة ماء وتجشأ ؛ وحمد الله ؛ وبدأ الوعظ قائلاً :
أيها الناس ؛ عن ابن عباس أنه قال : خلتان لا تجتمعان فى مؤمن ؛ تجشأ أشعب ثم سكت ؛ فلما طال سكوته سألوه : ما الخلة الأولى يا أشعب ؟
أجاب : نسيتها .
سألوه : ما الخلة الثانية ؟
أجاب  : نسيها ابن عباس !!

***

ولأن الحماقة داء لا علاج له ؛ ولا يشفى مصابها إلا بالموت وطلوع الروح ؛ هاجم حنظلة  أمجـد بشـر المسـئول البارز فى حـزب السـلطة ؛ فمنع الرجل الإعلانات عن الجريدة ؛ سقط حنظلة فى مأزق قلة الموارد ؛ أشارت عليه شلة المقهى باسترضاء الرجل ؛ فكتب سلسـلة مقــالات امتدحه فيها .
.. قرأ أمجـد بشـر ما كتبه حنظلة  وبامتعاض علق عليها : « إنها لا تزيد على دعـاء متسول يستجدى إحساناً »  .
ولأن الحماقة أعيت من يداويها ؛ جــاء حنظلة يكحلها فأعماها ؛فكان الضرر من حيث أراد المنفعة ؛ كانت إحدى هذه المقالات بعنوان : « عملاق مصر » ؛ مقال أثار سخرية القراء ؛ واستشعر الرجل المهانة  ؛ فالرجل قزم طبيعي ؛ فهو قصير جدًّا كان يحتاج  دائما إلى ما يرفعه عن الأرض ليصل إلى المنصة التي يتحدث منها فى اجتماعات الحزب .
.. استغرق صديقى رفعت عثمان رسام الكــاريكاتير فى الضحك ؛ سألته : ماذا يضحكك يا فنان ؟!
أجاب وسط ضحكاته الطفولية : حنظلة  أطلق على أمجد بشر لقب العملاق فى مقاله !! .
قلت : كنت عايز يسميه إيه ؟!
لم يكف عن الضحك وأجاب: كلما رأيت أمجد بشر ؛ أتذكر أبطال قصص الحواديت ؛ عقلة الصباع  وزعبلة القلة .
كان أمجد بشر يستمد قوته من اقترابه من دوائر صنع القرار التى قربته منها « الهانم » ؛ التى أزالت قواعد البروتوكول بينها وبينه ؛ وسمحت له أن يناديها « بطنط » عندما وجدت فيه ضالتها لتنفيذ  خطة التوريث .
.. حــاول حنظلة التودد إليه فى مناســبة  عامة صـافحـه الرجـل بظــهر يده باشمئزاز و غادر المكان  .

 ***


كان حنظـلة فى طـليعة العمـلاء فى مجمــوعة الإعـلام، عـندما بدأت محـــاولات « التنظيم السري » داخل مباحث أمن الدولة ؛ للتشنيع واغتيال سمعة الوطنيين من خيرة رجالات مصر، الذين انتقدوا الفساد والمشروع الشيطانى المدعوم بحملات إعلامية لتوريث الحكم وإحلال الابن محل أبيه .
كان إصرار « الهانم »  على أن يصل ابنها إلى كرسي الحكم بأى ثمن  فهو الامتداد الذى تستمر به سطوتها فلا تنسحب إلى مزابل التاريخ ؛ وأصبح الولد يمثل فى لاشعورها ما أسماه أطباء النفس  بـــ  ( الزوج النفسى  ) ؛ الذى يحقق لها الرغبات التى كبحها زوجها الفعلى  بإصراره على التمسك بالسلطة حتى النفس الأخير  . 
 كانت تعرف أنه بمجرد أن يموت زوجها ستصبح سيدة بلا قيمة ، ولن يكون لها ذكر إلا فى دعوات المظلومين  ؛ ولأنها تعرف حجم فسادها ، كان إصرارها على الاستمرار ، بإدارة المخطط الشيطانى من كواليس قصور الرئاسة ، بمعاونة  مسئولين فاسدين وإعلاميين مأجورين وصديقاتها من الحيزبونات ؛ « فابن أمه »  عندما يجلس على كرسي الحكم، سيحفظ لها نفوذها ، ويحمي التاريخ المزيف لأبيه فلن تنبش الأقلام قبره ؛ ولن يحاسبها أحد على ما سرقته !!
.. وفى ظل العـــلاقة الملتبسة بين الأم و الابن ؛ أرضعت « الهانم » حبها للسلطة للابن فتوحش وتضخم، ونبتت له أذرع أخطبوطية فى كل مؤسسات الدولة ؛ الأمن ، والأقتصاد، والإعلام ، ليصبح الابن  تركيبة مضطربة من كل موبقات العصر وعناصر إفساده ، فأصبح شخصاً مريضا بحالة من العشق المفــــرط للذات وهى حــــالة شخــصها أطـــــباء النفس بـــ   ( النرجسية السرطانية ) التى جعلته من الممكن أن يضحي بأي شيء وبكل شيء  ؛ حتى أبيه من أجل السلطة .

***

كان على رأس من طالتهم سفالة حنظلة فضيلة الشيخ شمس الدين الجوادى ، فكتب مقالا ضمَّنه من سخرية السفهاء ما يندى له جبين الشرفاء، يهزأ فيه من فتاوى العالم الجليل طاعنا فى صوابها ؛ وكان الشيخ الجليل قد تعرض لضغوط من النظام لإصدار فتوى تخص مصالح النظام ، فقد طلبت منه بعض مؤسسات الدولة إصدار فتوى بشأن إيجاز توقيع اتفاقية "الكويز" بين مصر وإسرائيل وأمريكا من حيث رؤية الشريعة الإسلامية ؛ كما تعرض لضغوط لإصدار فتوى لإيجاز تصدير الغاز لإسرائيل؛ لكنه رفض ذلك رفضا قاطعا .

كما أصدر فضيلته فتواه التى أكد فيها أن مقاطعة المنتجات الإسرائيلية وعدم التعاون معها فى أى مجال واجب شرعى؛ نتيجة للجرائم التى يرتكبونها ضد إخواننا فى فلسطين .

.. ثم كانت فتواه التى أعلن فيها حرمة التوريث ، تلك الفتوى التى أفقدت الرئيس صوابه وأصابت زوجته الملقبة بالهانم عقلها وأهاجت ذنابير الإعلام عليه ؛ أدرك الرجل بفطنته أنه دخل عش الذنابير ؛ وأنه لن يسلم من لدغاتها ؛ واحتسب الرجل بلاءه عند الله .

.. وكان نص الفتوى: " بشأن حكم توريث الحكم فى الإسلام"، وهل يمكن تطبيق هذا فى مصر:
"من الأحكام الشرعية المقررة فى علم السياسة الشرعية أن ولاية الحكم أو الإمامة من الحقوق العامة المشتركة بين حق الله تعالى وحقوق الآدميين، وأنها عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار على توليها، وأنها ولاية تفتقر إلى عقد، والعقود لا تصح إلا بالقول الصريح، وأنها عقد لا يتم إلا بعاقد، وأن الإمام لا يختص بالحق فيها وحده، وإنما هو حق المسلمين جميعًا، كما ذكر ذلك كلَّه ونَصَّ عليه الإمام الماوردى فى كتابه الأحكام السلطانية.
وعليه فالفقه الإسلامى لا يجوز فيه توريث الحكم؛ لكون التوريث ليس بعقد فى الفقه الإسلامي، بل هو حق يثبت لمستحقه بعد موت من كان له هذا الحق، وقد نص الفقهاء على أن التوريث لا يجرى فى الإمامة؛ فقال الإمام عبد القاهر البغدادى فى كتابه أصول الدين: «كل من قال بإمامة أبى بكر قال إن الإمامة لا تكون موروثة»، وقال ابن حزم فى الفِصَل: «ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فى أنه لا يجوز التوارث فيها –أي: الإمامة-».
وإذا كان نظام الحكم جمهوريًّا ديمقراطيًّا ، كما هو الحال فى الديار المصرية فإن المنظم لهذا الشأن يكون هو ما قرره دستور البلاد الذى اتفقت عليه كلمة المصريين، والذى لا يخالف الشريعة الإسلامية ولا الفقه الإسلامي، وقد نص الدستور المصرى فى مادته الأولى على أن: «جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطى يقوم على أساس المواطنة،‏ والشعب المصرى جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة‏».‏
ونص فى مادته الثانية على أن: «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع».
وقد خصَّ الدستور (نظام الحكم) بالباب الخامس منه، وتكلم عن (رئيس الدولة) فى الفصل الأول من هذا الباب، ومما جاء فيه نص المادة (75) أنه: «يشترط فيمن ينتخب رئيسًا للجمهورية أن يكون مصريًّا من أبوين مصريين، وأن يكون متمتعًا بالحقوق المدنية والسياسية، وألا تقل سنه عن أربعين سنة ميلادية».
ـ كما نص فى المادة (76) على أن «ينتخب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع السرى العام المباشر ... ».
ـ ومما تقدم يتبين أن النظام المتفق عليه بين المصريين - والذى لا يُخالف الشريعة الإسلامية- لا يعرف توريث الحكم، ولا يعرف تولية العهد، وهى أمور تنظيمية، كما أن الفقه الإسلامى لا يمنع ولا يفرض نظامًا معينًا لصورة الحكم، سواء كانت هذه الصورة ملكية أو جمهورية أو أى نظام آخر يتفق عليه الناس، ويحقق مصالحهم العليا، كما أنه لا مانع فقهًا من الانتقال من نظام إلى آخر، إذا ارتضى الشعب ذلك واجتمعت عليه كلمتهم.
وفى واقعة السؤال فإن توريث الحكم لا يجوز لما فيه من خروج على الدستور والنظام المصرى الذى لا يخالف الشريعة.
ومن أراد أن يغيّر النظام والدستور الذى اتفقت عليه كلمة الناس، فعليه أن يسلك الطرق المشروعة والشروط المرعية للوصول إلى اتفاق آخر، تتحول إليه الجماعة المصرية باتفاق مشروع يترتب عليه آثاره، ولا مانع بحسب الفقه الإسلامى من تغيير الدستور، إذا ارتأت الجماعة المصرية ذلك، واتخذت الإجـــراءات والخطـــوات المرعـــية فى ســبيل ذلك ؛ والله أعلى وأعلم ".
جُنَّت امرأة الرئيس  وأدركت أن الرجل عقبة كئود  فى طريق تولى ابنها  " الحيلة بسلامته وعصابته " حكم البلاد ؛ فالرجل يتمتع بثقة أهل السنة والجماعة واحترام وتوقير جمهور العلماء  . 
كما أيقنت المدعوة بالهانم أن شيخها الملقب بالقاضى حلاوة قد فقد مصداقيته لدى الجميع بداية من أصغر طفل حتى أكبر رأس فى البلد ؛ أوعزت المرأة الملقبة بالهانم لزبانية النظام من رجال إعلامه فى الصحف القومية ؛ تلك المنظومة القذرة لآلة إعلامية متوحشة تعمل بمجرد دق جرس التليفون وتلقى الأوامر باغتيال سمعة الرجل بشائعات مجهلة  عن ارتباطه بالعديد من العلاقات النسائية  وزيجات سرية !! وفقدان الأمانة ونظافة اليد من خلال تعاملات مالية مشبوهة ؛ تلك الشائعات التى طالما  ألصقت تهمة الشذوذ الجنسى بالمعارضين للنظام من كبار المفكرين والساسة !!

***
كتب حنظلة مقالاً بعنوان " يا أمة ضحكت .."، سخر من أراء الرجل وسفَّهها ؛ ثم أتبعه بمقال آخر بعنوان " فقه البول والمراحيض "، نال فيه من شخص الرجال ومكانته !!
رد فضـيلة العالم الجليل على تطاول حنظــلة ؛ بتلقينه درساً فى أدب الخطاب؛ بإرسال باقة زهور إليه مع بطاقة تحمل أربع كلمات " قرأت ما كتبته ؛ وقلت : سلاما "  .

***
عندما علمت زوجة الشيخ الجليل بنبأ البرقية التى أرسلها زوجها لحنظلة عاتبته مبتسمة بأدب المرأة المسلمة : « سامحك الله يا مولانا ؛ لقد نثرت الدر على الخنازير !! »  ، ربت السيخ على حدها بحنو قائلاً : " يا حبيبة الشيخ لقد نذرنا من عرضنا صدقة "  .

***
لم يسلم الدكتور محمد البرادعى رجل القانون والدبلوماسى المصرى ؛  والمدير العام السابق لوكالة الطاقه الذرية الدولية من سفالات حنظلة، فقد حظى بقدر كبير من الإهانات بلغت انتهاك أعراض الرجل وحرمات عائلته، خاصة بعدما أعلن على الـ"سى . إن . إن" أنه ينوى الترشح لرئاسة مصر إذا ما تغير الدستور .
فكتب حنظلة مقالاً أهان فيه الرجل بعنوان : " زعيم من ورق " ، ضمَّنه  رسماً جرافيكياً مخزيا ومثيراً للسخرية ؛ وأتبعه بمقال آخر بعنوان : " الدجل السياسى " .
.. أبلغ المسئول حنظلة : الهانم راضية عنك !!
رد حنظلة مبتهجاً : أحلام الهانم أوامر.

***
فقد قادت المدعوة بالهانم حملة تشويه البرادعى بنفسها ؛ فالرجل له قصة أخرى معها أورثتها غلا لا تستطيع كتمانه .. كانت المدعوة بالهانم تطمح وتطمع فى جائزة نوبل للسلام.
لهذا أسست منظمة " الهانم " للسلام، وأسست عددا آخر من المنظمات الخاصة برعاية المرأة، والفقراء، وغيرها من الأعمال التى ترشحها لهذه الجائزة الدولية.
وجاء أحد أغواتها ليحصل على حلوان البشارة ويزف إليها : يا هانم علمت من مصادرى أنك سوف تحصلين على هذه الجائزة سنة 2005.
.. كانت بعض  التسريبات التى خرجت من لجنة أمناء الجائزة تتحدث عن شخصية مصرية. بعدها بأيام أعلنت الجائزة وفاز بها محمد البرادعي.
شلّت المفاجأة لسان المدعوة بالهانم ..  واشتعلت غيظا ؛ فقد طارت منها الجائزة التي تحلم بها.
وحرضت زوجها ألا يستقبله، وألا يمنحه قلادة النيل، وهو أمر مستقر على مستوى البروتوكول فى العالم كله فمن يحصل على نوبل يحصل على أعلى وسام فى بلده.
وظل البرادعى شهرين كاملين فى انتظار تكريم رئيس الجمهورية. الذى جاء باهتا، فقد أصدرت المدعوة بالهانم الأوامر لوضع كل العراقيل حتى يكون الاحتفال محددا وبدون إعلام خارجي.. وأن يمر الخبر بشكل محدود جداً فى التليفزيون المصري.. وأن ينشر فى الصحف فى صفحات داخلية وفى مكان غير بارز .
***
بدأ حنظلة يفقـد صـوابه ؛ فقد بدأ يشعــر بأنه حـاز القـبول ؛ وحجـز لنفسـه كرسياً فى قطار السلطة ؛ فتطـاول على الجـميع ؛ وراح يكـرر فى تأكيداته أن هـذه الأفـعال تأتى على رأس توجهـات الدولة، وأن لـديه تعـليمـات عـليا بضرب المعترضين بـ " الجزمة " . ابتلع البعض إهـاناته وردها إليه البعض بأسـوأ منها ؛ فقالت الصحـافية هـادية الباشا : " الجزمة دى فوق دماغك ودماغ إللى خلفوك يا كلب ؛ تكونش بتحكم فى عزبة ورثتها عن أبيك !! ".
كان لكلمتها وقع الصاعقة عليه فرد متلعثماً : عيب يا أستاذة !!
ــ ردت عليه بحدة وقد علا صوتها : " إنت تعرف العيب يا واطى !! " .
حنظلة يعرف علاقات هادية وصلاتها بكبار المسئولين ؛ فآثر السلامة وانسحب مثل الفأر إلى مكتبه . اقتربت  هادية من باب غرفتى ؛ وقفت وأسندت يدها إلى خصرها قائلة لى : " هل سمعت بما حدث ؟!قبل أن أرد عاجلتنى بسؤال آخر : " ما رأيك ؟! ".
قلت بغير إكتراث : سمعت.
كررت السؤال : " ما رأيك ؟! ".
قلت بغير اكتراث : فى إيه ؟!
قالت ضاحكة : فى الحوار " القباقيبى " نسبة إلى القبقاب أحد أنواع النعال الخشبية من عصر مضى ..
قلت دون أن أنظر إليها : يُسأل فى هذا صانعو الأحذية  .
أغاظها الرد فعلا صوتها وقالت : " حنظلة يستاهل الشنق " .
وابتسمت ولم أعقب.
ــ فقالت بغيظ : " لماذا لا ترد ؟".
ــ قلت بهدوء : " لأن الشنق أهون عقوبة . "  
ــ  قالت وقد زادت حدتها : " وما العقوبة الأقسى يا فيلسوف الغبرة ؟!".
ــ   قلت دون النظر إليها : " أن يحبس حنظلة انفرادياً فى مكتبه مع نسخة من الجريدة ليتعذب وحده بقراءة ما كتبه، وليدرك كم كان معذبا ً لمن أوقعه حظه العاثر فى قراءتها ؟؟!!".

...
انفجرت هادية الباشا فى ضحكة صاخبة مجنونة ذات ملمح خليع ، وتجمـع الزملاء متسائلين عما حدث فى اللحظة الفاصلة بين نوبة الغضب العــــارم وحالة الضحك الصاخب ؛ ولم أرد ورأيت من الحكمة أن أغادر المكان  ..









الفصل السادس
 ــــــــــــــــ
أنـا كنت شـىء وصـبحت شىء ثم شىء
شــوف ربـنـا . . قـــادر علـى كـل شىء
هـز الشـجر شـواشيـه ووشـوشنى قال:
لابد مـا يمـوت شـىء عشـان يحيا شىء
...               
عـجبى !!
( من رباعيات صلاح جاهين )





كان وجه القاهرة مكفهراً  ..لمست وجهى نسمة شتوية باردةمشبعة برائحة البارود .. كان الهتاف هادراً فى ميدان التحرير ؛ مع صوت الأذان صمت الثوار ؛ اصطف " ورد جناين مصر " لأداء فريضة الصلاة فى رباط ؛ جلال صوت الأذان يملأ المكان، ويلقى على القلب سكينة ؛ وفى النفس خشية ؛ الله أكبر ..الله أكبر.. يأتى صوت القارئ "ولسوف يعطيك ربك فترضى " صدق الله العظيم .. اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ؛ سبحانك فالمنع عطاء ؛ سبحانك فالعطاء بلاء ؛رضيت يا رب بما أعطيت وما منعت ؛  اللهم من استكثر بك فلن يقلّ، ومن استقوى بك فلن يضعف، ومن استغنى بك فلن يفتقر، من استنصر بك فلن يُخذل، ومن استعان بك فلن يُغلب ؛ اللهم لك الحمد .
غلبنى الشوق لزيارة مقام سيدنا الإمام الحسين.. سيدى  يا بن الأكرمين ، ألتمس الدروب إليك ، أتحسس  الخطى ، يطير القلب إليك على  أجنحة الشوق ، يطلب الجوار والإجارة ، يا بن النبى .. تغيرت معالم المدائن  كثيراً، تخلت عن خفرها وحيائها ، أصبحت  المدائن تقدم نفسها لكل من يملك ، وأصبح قاطنوها تماثيل من الشمع ، لم يعد فى مدينتى نهر حوَّله السفهاء إلى بركة من الماء الآسن .. يسلمنى السؤال إلى سؤال، وكلما تتسع الرؤى تضيق العبارة ويعجز الجواب ، يضع الله فى طريقى عبداً أتاه الله علماً وحكمة .. يعرض علىَّ صحبته ..أعتذر " فكيف أستطيع معه صبراً؟! .. " وكيف أصبر على ما لم أحط به خُبرا ؟! أقول يا سيدى يا معلم الأنبياء لقد شربت من ماء المحياة فلم تعرف الخطأ .. أما أنا فبشر يخطئ ويصيب، فلذا ألتمس الدروب إلى سيدنا الحسين، فهو مثلى بشر  أصاب وأخطأ .. قاتل وقُتل .. فقط ألتمس الطريق إليه.
اختفى باعة الكتب القديمة  وبائعو البخور ، طاول العامة البنيان ، مازالت مئذنة الأزهر أعلى من كل قلاع السلطان ؛ مئذنة مسجد الإمام الحسين  تشق الباحة كأنها إصبع  يشير بعلامة  التوحيد إلى السماء ، صوت الأذان يزلزل فى الوجدان ، والصدى فى النفس أعمق ، نعوش الشهداء تملأ الساحة وتسد الطريق وصفير سيارات الإسعاف يملأ الفضاء .. أصل إليك يا مولاى .. ها أنا فى بيت النبوة تقشعر أطرافى .. تغلبنى دموعي.. ما كذب الفؤاد ما رأى ، أقبّل الأرض تحت قدميك يقول النبى : " أحب الله من أحب حسيناً" ، هأنذا أذوب حباً .. اللهم افتح لى أبواب رحمتك الواسعة.
قدم لى شربة ماء .
أقول: أتسقى الماء وقد مِتَّ عطشاناً ؟!!
ــ هذه أخلاق النبوة.
قدم لى حفنة تمرات .
أقول: أتطعم وقد مِتَّ جائعاً ؟!
ــ من كان العطاء شيمته  لا يقبض يداً .. سلْ حاجتك.
أقول : الجوار والإجارة.
ــ لك الأولى والثانية ممن .
أقول: من الرعب القادم فى ثنايا الفتنة .. يا بن النبى أوجعتنى أيامى .. ولكــن قل لى لمن هذه النعوش فى ساحتك ؟
ــ لرجال الله من سيوف الحق  .. لرجال أسكرهم الشراب  من نبع النور .
أقول: يا بن الأكرمين  أوجعنى زمانى علمنى شيئاً ينفعنى .
ــ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)" .
 " *
أقول زدني:
ــ  " خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ "  .
أقول هل من مزيد؟
ــ  " قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ".

***
        كانت يد حانية تهزنى برفق .. سقط الطاغوت .. كانت ابنتى تسرع لتلحق بأترابها من الأولاد والبنات ؛ كان الجمع يردد " الشعب يريد إسقاط النظام".
بلغت القلوب الحناجر وكادت الخناجر تنخلع من شدة الهتاف ؛ كلمات لها معنى .. أتعرف ما معنى الكلمة ؟
تساؤل مشروع وحق إنسانى حملت إجابته كلمات تقطر نبلاً أبدعها عبدالرحمن الشرقاوى فى رائعته " الحسين شهيداً " :
مفتاح الجنة فى كلمة، دخول النار على كلمة، وقضاء الله هو كلمة .
الكلمة نور .. وبعض الكلمات قبور، وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشرى .
الكلمة فرقان بين نبى وبغى ، بالكلمة تنكشف الغمة ، الكلمة نور ودليل تتبعه الأمة .
عيسى ما كان سوى كلمة أضاء الدنيا بالكلمات .
 ..الكلمة زلزلت الظالم، الكلمة حصن الحرية .
 إن الكلمة مسئولية .
إن الرجل هو كلمة ؛ شرف الله هو الكلمة .
قرأت الفاتحة لروحه ودعوت بالرحمة لفرسان الكلمة فكرى باشا أباظة وأحمد بهاء الدين ومصطفى بهجت بدوى وأمينة السعيد وصبرى أبوالمجد وصلاح حافظ وكامل زهيرى وجلال الدين الحمامصى ومحمد زكى عبد القادر وعلى حمدى الجمال ؛ يرحمهم الله فقد عرفوا للكلمة قدرها وصانوا شرفها ولم يبتذلوها وكانوا كباراً ؛ لم تنحن أقلامهم إلا إجلالاً للوطن ولم ترقص حروفهم إلا ابتهاجاً بانتصاراته .
.. كان الوهج يملأ  النفس.. كان لسانى يردد تكبيرات الأعياد، وكان القلب  فى نقطة بين الظل والنور .. وكانت يداى ضارعتين إلى السماء  تطلبان من الله المدد.
***
سقط النظام وسقطت معه أبواقه من الأشداق النجسة ؛ فتم طرد حنظلة من رئاسة التحرير ؛ لم يحتمل الصدمة ؛ أصابته لوثة .. حافى القدمين ؛ أشعث ؛ وقف وسط ميدان التحرير ؛ يرتدى بزة يفوح من شدة اتساخها نتن القبور ؛ زينها بنياشين من قطع الصفيح الصدئ من أغطية الزجاجات الغازية ؛ وسروال يكشف عوراته ؛ ويحمل فى يده عصا مقشة توهمها سيفاً يطوح به فى الهواء ؛ ويشهره صارخاً فى وجه من أسماهم أعداء الوطن .. الإخوان المسلمون ... شباب الفيسبوك ....العيال اللاسعة ...البرادعى .... قناة الجزيرة .... الشيخ الجوادى .... إيران .... حزب الله ....حماس ....
 ضحك المارة من هذيانه ؛ وأشفق قادة المركبات على حاله .. وقال العقلاء : " إنه الجنون .. النهاية المتوقعة لكل من خان الأمانة وهتك عرض الكلمات ؛ لن يصح إلا الصحيح ؛ ولا يظلم ربك أحدا " .

***

  ..وتظـل صـاحبة الجلالة تحكى الحكـايا عن كل ولكـل من دخل بلاطها .. لينعم بالمجـد منْ هو أهـله .. و يخـلد فى العـار من سقـط فى بئر الغــواية .
احــكى يا مـولاتى  ..   فلن يسـتطـيعوا إغمـاض الأعـين ، وصــم الآذان فأنت شــاهد حق على العصر ؛ احكى يا مولاتى  فكلى آذان صاغية، عاشق أنا لتراب بلاطك .
 .. فقدمى لى من شهد الكلام فى طبق طعامى ؛ و صُبِّى الحب المعتق فى قاع القلب فى كأس شرابى .
 فأنا منك ؛ وورثت عنك ما يحسـدنى عليه كل " الحناظــلة " ؛ ورضـعـت منك الكبرياء وإجادة العشق والكتابة ؛ وطعمت من يديك حـلالاً من عـرق جبينى ومـداد قلمـى كسـرة خـبزى وملح طعـامى وقـوت أيامي  ؛ وبيديك ارتديت كسوة أعـيادى وعباءة عرسى وبك صرت فارسـاً يمتطى جــــواد الحقيقة .
 
قد تبين الرشد من الغىّ . احكي يا مولاتي ؛ فحكايا شهـرزاد روضت الطفل المجنون وغلت يد السياف و الجـلاد ؛ وزرعت نبتة خضـراء فى كف الغـد الآتى  .




الفصل السابع
ـــــــــــــــــــ
قالوا السياسة مهلكة بشكل عـــــــــــام
و بحورها يا بني خشنة مش ريش نعام
غوص فيها تلقي الغرقانين كلهــــــــــم
شايلين غنايم .. و الخفيف اللي عـــــام
عجبي !!!
( من رباعيات صلاح جاهين )






بهية الواجهات، شامخة العلاء  ، تقف دار القضاء العالى  ، تطل على  نهار القاهرة ونيلها ، حركة غير عـــادية فى قاعــة عبد العـزيز باشا فهمى ؛ حالة ترقب من مندوبى الصحف ووكالات الأنباء ، نظرات التسـاؤل تملئ المكان ،  مع دقات الساعة العاشرة ،  أعلن النائب العــــام قراره بالقبض على جميع
شخصيات الرواية وإحالتهم للمحاكمة  ، وإدخال حنظلة إلى مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية .

***
فى غداة اليوم التالى ، نشرت شخصيات الرواية إعلانا فى صحف القاهرة الصباحية يعلنون فيه بحثهم عن مؤلف بديل ليكمل أحداث الرواية ، بعدما توقف المؤلف الأصيل عن الحكىّ .



 
كتب للمؤلف :
ــــــــــــــــ

1 ــ حكايات تافهة جداً .......................  ( مجموعة قصص قصيرة )
2 ــ ON LINE
     الإعـــلام البديل  ........................ ...................  ( دراسة )
3ــ حنظلة ..  صديقى رئيس التحرير ......................... ( رواية  )

تحت الطبع :
ــــــــــــــــــــــ
4 ــ أخلاقيات الصورة الصحفية ............................   ( دراسة )
5 ــ إخراج الصحف وتصميم صفحات الويب ............     ( دراسة )




رقم الإيداع بدار الكتب :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
/ 20115282
النسخة الرقمية على الرابط :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
http://hekiattafihahgedan.blogspot.com