الخميس، يناير 26، 2012

ياسر بكر يكتب :عفوا سيادة المشير .. ليس تمام يا افندم !!


صورة عام 2011 ( التقطها مصور رويتر بالقاهرة )


اشهد الله أننى لم أكن انتوى الكتابة فى هذا الأمر لولا دعوة كريمة وردت إلى من المشير طنطاوى فى ( خطابه التصالحى ) عبر تليفزيون الدولة بمناسبة 25 يناير ، بدأ المشير كلمته بتوجيه التحية للجميع على طريقة " شُوبَش " يا ولاد الحِتة ؛ فبعد تحية الرجالة والجدعان ، والصحبة الحلوة اللى شرفونا ،  أخذ المشير على طريقة سلفه مبارك فى الطعن فى الموقف الوطنى لكل من اختلف معه أو انتقد أفعال مجلسه الأعلى ، ومطالبتهم بمراجعة موقفهم الوطنى ؛ فقال فى كلمته نصا وبالحرف الواحد:

( .. ومن المؤكد أن كل من اختزل دور القوات المسلحة ومجلسها الأعلى ودورها الوطنى فى موقف ما ، عليه أن يراجع موقفه الوطنى ) .

ولأن الدعوة كريمة ، فلم أكذب خبر وبدأت المراجعة فى التو واللحظة ، ولِمّ لا ؟! ، فالشيطان شاطر ، والنفس أمارة بالسوء ، ومن الممكن أن أكون بدون قصد سقطت فى شراك دولة العدو أو خدعتنى جاسوسة حسناء ، أوأصبحت من أصحاب الأجندات الأجنبية أو أمسيت من القلة المندسة وخاصة بعدما ظهرت علىّ علامات الثراء المفاجئ فاشتريت للعيال أثنين كيلو برتقال ، وكيلو كامل بـ " طبة الميزان " من لحم الجمعية !!

بدأت المراجعة بطرح عدة أسئلة على نفسى بطريقة وكيل النيابة الشاطر على أمل أن أضبطنى متلبساً ، لكنى كنت حويط ولم تنفع معى كل الحيل لأقر وأعترف !! ، فجاءت إجاباتى كلها موزونة بميزان الذهب ، وأصررت أمام نفسى على أننى أعشق جيش بلدى الذى أديت خدمة العلم تحت لوائه ، ودفعت ضريبة الدم فى عام خدمتى الإجبارية ، وأننى أوقن أن جيش بلدى هو سترى ، وغطائى ،  ودرعى ، وخندقى الأخير .

ورحت أتعجب من حالى ، وأستعجب من أمرى ، واتسأل : إذا كنت أحب جيش بلدى كل هذا الحب ، فلماذا كل هذا الضيق من أفعال مجلسهم الأعلى ؟! 

 وأخذت أضرب أخماس فى أسداس ، وخاصة أن ( المنايفة ) بلدياتى  يحبون الجندية لدرجة أنهم صكوا مثلاً صار من التراث الشعبى ، وأصبح من مأثور القول ، وهو قول المنوفى محدثاً نفسه : 

 " شريطين على كُمى ، ولا فدانين عند أمى !! " 

.. وبعد أخد ، ورد ، ويا ترى ،  ويا هل ترى إيه الحكاية والرواية ؟! 

.. ولأننى فلاح قرارى أعشق البحث عن " الإنة " ، ومعرفة " الفولة " وأصل المشكلة من أول " الطقطق لغاية السلامو عليكم " ؛ رحت أفتش فى طوايا النفس ؛ فقلت لنفسى يجوز لأننى أكره فرعون الذى قال بنص القرآن الكريم : ( أنا ربكم الأعلى ) والمجلس العسكرى لا يكف ليل نهار عن تذكيرنا بأنه : ( مجلسنا الأعلى ) ، ولكنى سرعان ما طردت  هذا الخاطر السخيف ، واستعذت بالله من همزات الشيطان .

ولأن فى الإعادة إفادة بدأت مرة أخرى فى استعادة تفاصيل المشهد بداية منذ نزول الجيش عشية 28 يناير، وفى أقل من ساعتين سيطر على مفاصل البلاد ، لكن الذى حمى الأحياء هم أبنائنا شباب اللجان الشعبية الذين كانوا يطرقون أبوابنا لطمئنتنا والاطمئنان علينا ، بل وفى أغلب الأحيان قضاء حوائج الشيوخ أمثالى من الخبز والدواء .

مع ظهر يوم 2 فبراير وقف الجيش يشاهد الفلول من راكبى الجمال والخيول و" عربات الكرته " ، وهم يسحقون المتظاهرين فى الميدان ، والتمسنا له العذر فجيش مصر أكبر وأعظم من أن يكون طرفاً فى " خناقة " !!!

لكن مع الساعة السادسة من مساء يوم الخميس 10 فبراير ، ومع البيان الأول للمجلس الأعلى للقوات المسلحة ، أدركتُ وهو مجرد رأى صواب يحتمل الخطأ أو رأى خطأ يحتمل الصواب أن القادة أداروا معركتهم بذكاء فلن يتورطوا فى حمامات دم فى ميدان التحرير الذى كان مبارك ينتوى تنفيذ الخطة " إرادة " فى ساحته لسحق المتظاهرين على طريقة ميدان التينامين فى الصين 1989 .

كما أدركت أن القادة  قرروا أن : " يتغدوا بمبارك قبل أن يتعشى بهم "  ، فى انقلاب عسكرى ناعم مغلف بإرادة شعبية  !! ، يعنى من الأخر وعلى رأى أولاد البلد ـ دوغرى وعلى بلاطة ـ الجيش حمى الثورة واحتمى بها ، ومحدش أحسن من حد ، ولا فضل لأحد على آخر !!

***

يا سيادة المشير ، تمام يا فندم ، لقد راجعت موقفى الوطنى ، والتمس ـ التفضل ـ من سيادتكم بمراجعة موقفكم الوطنى أيضاً ، وإعداد كشف الحساب قبل 30 يونيو 2012 ، وأتعشم أن تجيب عن هذه الأسئلة قبل أن ينفذ رصيدكم لدى الشارع الذى أصبح المصدر الفعلى للسلطات :

1 ـ لماذا تركتم جرذان  مبارك شهرين كاملين يعيثون فى البلاد فساداً ويطمسون أدلة ثبوت قتل المتظاهرين ويفرمون الأوراق ويهربون الأموال ؟

2 ـ .. ولماذا انقلبتم على التعديلات الدستورية والإرادة الشعبية التى قال بها الشعب فى استفتاء 19 مارس 2011 ؟!

3 ـ .. ولماذا قدمتم شباب الثوار للمحاكمات العسكرية ؟!

4 ـ .. ولماذا استدعيتم رجالات من قضاة مصر للمثول أمام النيابة العسكرية ؟! 

5 ـ .. ولماذا كل هذا العنف فى ميدان التحرير وماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء ؟!

6 ـ .. ولماذا أبقيتم على أبواق مبارك فى تليفزيون الدولة وصحفها ؟!

7 ـ .. ولماذا انتهاك أعراض وأجساد حرائر مصر فيما أسموه (كشوف العذرية ) وسحلهم فى الشوارع؟!


 ***

عفوا يا سيادة المشير ؛ فلا خير فى إن لم أقلها ولا خير فيك إن لم تسمعها ، فكلانا أنا وأنت أمام الدستور والقانون سواء ، ولا أحد منا له فى مصر نصيباً أكبر من الآخر ؛ فكلانا له فيها تاريخ وعَرّق وأبناء ومقبرة تضم رفات الأباء والأجداد .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملحوظة : 

  لم أحب مبارك يوما وعند جاء إلينا فى احتفالية دار الهلال بالعيد المئوى فى اكتوبر 1992 ، زاد عدم اقتناعى به فالرجل يتحدث بلغة "القشلاقات" Parracks وهى لغة خشنة وتفتقد الأدب والتهذيب ، وعندما طلب الزملاء التقاط الصور التذكارية معه ، طلب أمن الرئاسة أن يتجمع الزملاء جميعاً لأخذ صورة واحدة ، وذهبت إلى مكتبى وعندما نبهنى زميلى الأستاذ مدير العلاقات العامة بدار الهلال للوقوف للتصوير ، اعتذرت بأننى لم أحلق ذقنى جيدا ، وضحكنا ،لكن السبب الحقيقى موروث ومغروس فى داخلى ؛ فقد علمنى خالى الذى ربانى الأستاذ محمد عبد الله يرحمه الله أن : " البُعد عن السلطان غنيمة "، وقد أثبتت الأيام صحة كل ما علمه لى ، فقد دفعت الثمن غاليا عندما كنت أعمل محرراً فى جريدة " السياسى " ، ووجهت سؤالاً خارج عن النص لمسئول فى مؤتمر صحفى  ، وكان جزائى الفصل .. ولن أزيد !!

ثانيا : لأننى لم أفلح يوماً فى تعلم فن معاملة الرؤساء وعلية القوم ؛ لذلك كان " البُعد غنيمة "!!

الجمعة، يناير 20، 2012

أخلاقيات الصورة الصحفية ـ تأليف : ياسر بكر

أخلاقيات الصورة الصحـفية

Ethics of journalistic Photo

ياسر بكر


رقم الإيداع بدار الكتب والوثائق القومية المصرية : 
ــــــــــــــــــــــــــ
2566 / 2012

الترقيم الدولى :
ـــــــــــــــــــــــ

5 -510 -716 -977 - 978




الغلاف :
ـــــــــــــ

إخراج فنى وجرافيك

ياسر بكر

المراجعة القانونية :
ــــــــــــــــــــ

المستشار/ مجـدى عكاشــة

المحامى بالنقض
والإداريــة العـليا

المراجعة الفنية :
ــــــــــــــــ

مهندس/ محمـد بشندى

الوكيل الإقليمى لشـركة نورتسو العالمـــية
لمعدات التصوير بالشرق الأوسط وأفريقيا



الإهــــــــــــداء
ــــــــــــــــــ

إلى روح أبى
حضرة /إمام أفندى بكر
معلم قريتنا " تلوانة " وشيخها
ياسر بكر

مقدمة :
ـــــــــــ

فى البدء كانت الكلمة، ثم كانت الصورة. 

فى البدء كانت الكلمة، نطقها الإنسان كحدث صوتى بشكل عشوائى؛ ثم راح يضبط نبراتها مقلداً أصوات الحيوانات والطيور وغيرها من عوامل الطبيعة مثل صرير الرياح وخرير الماء وحفيف الأشجار.

ثم اتفقت الجـماعة الإنســــانية على دلالات هذه الأصــوات عن أعــلام وأشـياء وأفعــال بعينها؛ ثم أضــافت إليها الحـروف لضبط مواقـع الأفراد وزمن الأفعال وحركة الأشياء ؛ فكانت اللغات المختلفة وعاء للعاطفة والفكر الإنسانى، وتسيير حركة الحياة وتبادل الخبرات الإنسانية.

وفى مراحل ضعف اللغة وعجزها عن تلبية احتياجات البشر فى التواصل قامت الصورة فى شكلها الأول (رسوم بدائية ) بسد الثغرة وإقامة الجسر، ووصل ما انقطع من حوار من خلال لغة بصرية يقرؤها جميع البشر دون استثناء، لأنها تتجاوز حدود اللغات وحواجز الثقافات، وكانت الصورة بمثابة أبجدية كونية من قبل أن يعرف البشر الأبجديات، تقرؤها العين دون وسيط. ولا تحتاج إلى المصاحبة اللغوية كى تنفذ إلى إدراك المتلقى، فهى بحد ذاتها خطاب ناجز مكتمل، يملك سائر مقومات التأثير الفعال فى مستقبليه، ويغنى عن ساعات من الكلام . فصارت الصورة توأم الكلمة. 

وعبر التاريخ تغير موقع الصورة ومكانتها لما لها من سحر بما أكسبها طابعا مقدسا فى العصر القديم، كما يدل على ذلك اشتقاق اسمها Imajerie.

وفى تطور دورة الحضارة وازدياد الخبرات الإنسانية ظهرت الحاجة الملحة إلى حفظ هذه الخبرات وتأمين نقلها للأبناء والأحفاد؛ ولأن الحاجة أم الاختراع كان اكتشاف الكتابة التى بدأت تصويرية فى شكلها البدائى pictorial فكانت الصورة هى أول شيء لجأ إليه الإنسان البدائى للتعبير عن نفسه وأفكاره؛ فكانت أول حروف الهجاء فى اللغة الإنسانية فى شكل صور الأشياء والطيور والحيوانات المحيطة بالإنسان، وكانت الكتابة عبارة عن صور توحى بما رسم فيها من تعبير عن الحياة اليومية وكانت لها وظائف أساسية:
1 ــ تسجيل مظاهر الحياة وظواهرها.
2 ــ التعبير عن الأحاسيس والمعتقدات التى لم يختبرها الإنسان فى واقعه المادى.
3 ــ توضيح معانى الكلمات خاصة تلك الجديدة على السامع أو القارئ.

وقد كشفت "رسوم الكهف" التى اكتشفت فى أوروبا فى كهوف "لاسكو" و "شوفيت" فى فرنسا، و"التميرا" فى إسبانيا، والتى يرجع عمرها إلى 3500 سنة ق. م أن الكتابة بدأت على شكل بعض النقوش التصويرية.
وما بين عامى 3300 و3200 ق.م ظهرت اللغة الهيروغليفية، وهى تعنى (نقشا مقدسا) لأول مرة فى مخطوط رسمى، وأخذت الهيروغليفية صورها من الصور الشائعة فى البيئة المصرية، وكانت تضم الأعداد والأسماء وبعض السلع.
وقد استعملت الهيروغليفية لنقش وزخرفة النصوص الدينية على جدران القصور والمعابد والمقابر وسطح التماثيل والألواح الحجرية المنقوشة والألواح الخشبية الملونة، والتى أفضت لنا بالكثير من أسرار الحضارة الفرعونية بعد اكتشاف حجر رشيد، الذى نجح العالم الفرنسى شامبليون عام 1822 فى فك رموزه، التى كانت فتحاً فى علم المصريات، وبداية لظهور ما يسمى بعشق المصريات Egyptomania .
وقبل العام 3000 قبل الميلاد وُجدت كتابات تصويرية فى بلاد ما بين النهرين فى سوريا والعراق، حيث كان التدوين بالنقش على ألواح من الطين تجفف فى الشمس، وتحرق فى النار بطريقة أقرب إلى صناعة الفخار، وقد تطورت هذه الكتابة من استعمال الصور إلى استعمال الأنماط المنحوتة بالمسامير، والتى عرفت بالكتابة المسمارية والتى توصل بها العلماء إلى فك رموزها فى القرن التاسع عشر، وتسنى للباحثين قراءة النصوص الإدارية والرياضية والتاريخية والفلكية والمدرسية والطلاسم والملاحم والرسائل والقواميس المسمارية من خلال حوالى 130000 لوح طينى من الحضارات القديمة، التى عثر عليها فى سوريا وتوجد الآن ضمن مقتنيات المتحف البريطاني .

ومع تطور مسيرة الكتابة من كتابات تصويرية إلى صور رمزية توحى بمعنى معين، كانت هذه الرموز يصعب فهمها على العامة ؛ فلجأوا إلى استعمال رموز عبارة عن نقوش شفرية لصوتيات اللغة المنطوقة، كل نقش يوحى بصوت معين، وهذه الرموز الصوتية كانت خطوة أساسية فى نشوء الأبجدية، وقد لعبت الصورة دوراً كبيراً فى صياغة وتشكيل حروفها.

ومنذ ذلك التاريخ الذى عرف فيه الإنسان الكتابة صار يتفنن فى إبداع الطرق والأساليب التى توطد وتثرى علاقته بها، فبدأ يفكر فى شيء يدوّن به كلمته فكانت الأدوات البدائية من قطع الأحجـــار والمعـادن وغصـون الأشجـار وريش الطيور، ومن ثم نشأت علاقته مع الأشياء التى يدوّن عليها كتاباته، كجدران الكهوف وجلد الحيوان، والخـشب، وقطـع الأحجـار وجـدران المعــابد، ثم كان اخـــتراع الـورق، وبدأت علاقة الإنسان بالورق وأهميته ليسجل عليها كتاباته، من مجـــرد ورقة إلى منشور، إلى كتيب إلى كتاب، وراح يطوّر صناعته على اختلاف أنواعه.

.. ومع اختراع الطباعة ولدت الصحافة المكتوبة. ومع تطور الصحافة المطبوعة ظهرت الحاجة ماسة إلى الصورة إلى جانب الكلمة على قاعدة مقولة أرسطو : " إن التفكير مستحيل من دون صورة "، ولما لها من قيمة جمالية حيث إنها عمل فنى يستوقف النظر، ويبعث البهجة فى نفس القارئ. كما أن للصورة وظيفتها الإخبارية التى نافست بها الكلام، فمهما كان الكلام فى حد ذاته نافذاً مؤثراً، فالصورة أقدر على ربط مضمونه بالحياة، فضلاً عن الأهمية التيبوغرافية للصورة كعنصر هام من عناصر تحرير الجريدة وحسن إخراجها.

وكانت الصور الأولى التى ظهرت فى الصحف رسوماً يدوية تطبع من قطع خشبية حفرت عليها الرسوم باليد (wood cuts )، وأول صورة ظهرت بهذه الطريقة نشرتها صحيفة   ( Weekly News ) الإنجليزية فى ديسمبر 1638 مع موضوع خبرى نشر عن حريق هائل بجزيرة سانت مايكل، وكانت الصورة للمكان الذى شب فيه الحريق.

عرفت الصحف المصرية الأولى الرسوم المحفورة على الخشب ولكنها لم تتعد رأس الصفحة الأولى، حيث استخدمت مع الاسم فى اللافتة كشعار للجريدة، إلى أن نشرت "الأهرام" فى 4 مايو 1881 أول صورة صحفية من هـــذا النوع فى تاريخ الصحافة المصرية وكانت لفـردينـان ديليسبس ومعه طفلته، وقد بلغت هذه الصورة درجة كبيرة من الدقة والإتقان.

غير أن هذه الطريقة فى إنتاج الصورة لم تكن مرضية بشكل كاف فقد كانت بطيئة وعقيمة لكن سرعان ما جاء الحل أيضا باختراع آلة التصوير ؛ وفى عام 1840، اكتشف الإنجليزى وليام تالبوت آلية الحصول على صورة مثبّتة على ورق تصوير ( تصوير سلبى نيجاتيف )، والذى يطلق عليه العامة من المصريين اسم "العفريتة" تماشياً مع ما استقر فى الوجدان الدينى من فكرة القرين، وكان هذا الاكتشاف خطوة هامة باتجاه عملية إنتاج التصوير الإيجابى ( بوزتيف ).

وكانت الصورة فى ذلك الوقت تسمى ضوء الشمس ( SUN LIGHT )، على أساس أن ضوء الشمس كان المصدر الوحيد فى ذلك الوقت للإضاءة المستخدمة فى التصوير، فلم يظهر مصطلح فوتوغرافيا PHOTOGRAPHY ) ) وتعنى ( الكتابة بالضوء)  إلا فى عام 1939 بعد اختراع الفلاش الضوئى الأوتوماتيكى عام 1931.

ولكن هذا الحل أيضا لم يخلُ من مشكلة ؛ لأن المطابع فى ذلك الوقت كانت تطبع الأسود الكامل والأبيض الكامل مثل الحروف والرسوم اليدوية، التى تتكون فقط من خطوط سوداء ومساحات بيضاء فى حين لا يمكنها التعامل مع تدرجات الظلال الواقعة بين الأسود والأبيض والتى تضمها الصورة الفوتوغرافية.

وفى 4 مارس 1880 استطاع " Stephen Horgan " رئيس قسم الحفر والتصوير فى صحيفة " Daily Graphic " من عملية طباعة صورة فوتوغرافية ذات ظل متصل "Continues Tone " إلى صورة ظلية " Halftone " على الصفحة المطبوعة، وكانت الصورة لمنظر طبيعى لمكان يدعى شانتى تاون " Shanty town " بمدينة نيويورك.

وكان هذا اليوم هو الميلاد الحقيقى للصحافة المصورة كما نعرفها اليوم.

وكانت أول صورة صحفية من هذا النوع فى تاريخ الصحافة المصرية قد نشرتها صحيفة "الجريدة" التى كان يرأس تحريرها أحمد لطفى السيد فى يوم 28 يوليو 1908، وكانت صورة لمدحت باشا زعيم الإصلاح الدستورى فى تركيا.

وفى عام 1921، تم تطوير تقنية نقل الصور الفوتوغرافية سلكيا لأول مرة بواسطة جهاز TELEPHOTO، مما أتاح إمكانية نقل الصور عن بعد، ومع اختراع أول كاميرا لايكا مقاس 35 مم عام 1924، وبعدها تم اختراع الفلاش الأوتوماتيكى عام 1931، وتتابعت الاختراعات فى مجال تقنيات التصوير وتقنيات طباعة الصحف وكانت هذه الاختراعات بمثابة إشارة البدء للدخول إلى العصر الذهبى للتصوير الصحفى.

وقد اكتمل العصر الذهبى للتصوير الصحفى ( 1924 ـ 1950 ) بظهور الصحافة المصورة والتى تعتمد على لغة الصورة أكثر من اعتمادها على الكلمات مثل Picture Post و Daily Mirror فى لندن وParis Match فى باريس و Life و Sport Illustrated و The Daily Graphic فى أمريكا.

وكان لهذه الصحف تأثيرها فى الصحافة المصرية والتى استفادت من الصورة ووضعت كلمة " مصوّر".. أو "مصوّرة".. فى عنوانها الرئيسى بهدف توظيف تلك التقنية الحديثة فى الإثارة والإبهار مثل "اللطائف المصورة".. "النيل المصور" و "المصور" و "المحاسن المصورة"..

ووصلت هذه الصحف إلى مستوى مثيلاتها العالمية، بل تفوقت عليها فى أحيان كثيرة.

وظلت الصورة تنقل كإشارة هاتفية عبر الأسلاك النحاسية كتيار كهربائى ضعيف ( فيض من الإلكترونات ) ، إلى أن حدثت النقلة النوعية باختراع ألياف الزجاج الضوئية المصنوعة من الرمال والتى يسرى بداخلها شعاع الليزر حاملاً للرسائل المراد نقلها فى جوف الأرض وتحت مياه المحيطات وعبر الفضاء ، وهكذا حل تيار الفوتون ( جسيمات الضوء ) الواهن الخافت النقى بدلاً من الإكترون العنيف ( نسبيا بالطبع ) المعرض للتشويش والضوضاء ، وهو ما جعل شعار " العالم بين يديك " أقرب إلى الحقيقة الواقعة ، فأينما نكون يمكن للألياف الضوئية أن تنقل لنا صورة من الحياة فى أى مكان من العالم

ومع الانتقال من التكنولوجيا التناظرية Analog technology ممثلة فى التصوير الفيلمى إلى التكنولوجيا الرقمية Digital Technology ممثلة فى التصوير الرقمى، والتى استبدلت فيها الوحدات المادية بالرقمية " Atoms by Bits " كانت عدة عقبات لم تكن تكمن فقط فى تحويل الصورة الصحفية إلى بيانات رقمية Digital data وإنما تكمن أيضا فى كيفية معالجتها بعد أن يتم تحويلها، وكذلك كانت مشكلة الحصول على سعة تخزينيه وكافية لم تكن متوافرة فى البداية.

وفى يناير 1989 وأثناء تنصيب جورج بوش الأب، كانت المحاولة الأولى من نوعها للنقل المباشر والحى للصور الصحفية الالكترونية من موقع الحدث ليبدأ عصر جديد فى تاريخ الصحافة المصورة ؛ فقد استطاع رون ادموند مصور اسوشيتدبرس تصوير لقطات الاحتفال بكاميرا إلكترونية وأمكنه إرسال الصور إلى مختلف أنحاء العالم مباشرة، ووصلت الصور إلى الصحف فى أقل من دقيقتين بعد أداء الرئيس لليمين.

أهداف الدراسة :
ــــــــــــــــــــــــ

1 ــ بيان  أسباب انهيار الكلمة وانعدام مصداقيتها لدى القارئ المصرى؛ ووضع اليد على تلك الأسباب التى جعلت الكلمة تفقد احترامها فى وسائل إعلامنا فتحولت إلى مجرد رطانة لغوية، تتلوّن بكل الألوان والأصباغ حسب النوايا السيئة والإرادات المعوجة لأقلام اعتادت أن ترمى حقائق التاريخ فى سلة المهملات، وتستبدلها بالأكاذيب فى جرأة وصلت حد التبجح والوقاحة. 

2 ــ بيان أننا دخلنا إلى عصر صعود الصورة؛ وأن الصورة أصبحت صانعة الخبر، وأمست صاحبة اليد العليا على الكلمات.

محاور البحث :
ـــــــــــــــــــــــ

1 ــ انهيار الكلمة وضياع مصداقيتها بسبب الاستبداد السياسى وما تبعه من أنماط الملكية للصحف وغيرها من وسائل الإعلام، إضافة إلى أسباب ترجع إلى الصحفيين أنفسهم منها فساد ذمم بعض الصحفيين والسلوك المنحرف لبعضهم الآخر وما تبعه من انتهاك المعايير المهنية الصارمة وتقاضى الرشى بداية من:

( الحصول على العطايا من ديوان المعية السنية ومن هبات ديوان الأوقاف ــ القيام بأعمال السمسرة فى منح الرتب والنياشين ــ السقوط فى مستنقع المصاريف السرية ــ جلب الإعلانات ــ قبول الرشاوى المقنعة تحت مسمى القيام بوظيفة المستشار الصحفى ــ تقاضى بدلات سفر وعمولات من مصادرهم الصحفية، وأخيراً فضائح التمويل الأجنبى لصحف وصحفيين بعينهم.).

2 ــ صعود الصورة بما تحمله من قيمة خبرية؛ فى ظل الدعم الذى جلبته التطورات التكنولوجية الهائلة والتى منحت الإعلام القدرة على فرض ما يريد، مما أثر فى الاتجاهات الثقافية بشكل خاص من خلال اللجوء إلى فرض ثقافة الصورة التى أصبحت المفتاح السحرى فى النظام الثقافى .

3 ــ تاريخ صناعة الصورة وكيفية الحصول على صورة جيدة بمعايير تلتزم معايير المهنية وأخلاقيات الصورة الصحفية القائمة على عدم المساس بالثوابت أو التعرض للأديان أو الأخلاق دون تجريح، أو نشر فحش، أو هتك ستر.

4 ــ نماذج من أشهر الصور التى عمّقت معارفنا، وشكلت وعينا، وحفظت لنا حقائق أحداث التاريخ التى غابت عنا تحت وطأة السنوات وتدافع الأحداث، والتى تعد وثائق تاريخية وثقافية تتيح نافذة حقيقية للتاريخ وبوابة للدخول إلى حقيقة الأحداث فى الزمان الذى التقطت فيه، والتى حاول مزورو التاريخ إعدامها أو إخفاءها باعتبارها شاهد الحق عند إعادة كتابة التاريخ .

.. وكان حجب الصورة إحدى وسائل العقاب، فبعد إعدام إبراهيم الوردانى قاتل بطرس نيروز غالى عام 1910، صدر قرار بحجب صوره ومنع نشرها فى الصحف، وظل هذا القرار سارياً حتى ألغاه انقلاب يوليو1952، والذى بدوره منع نشر صور محمد نجيب بعد إعفائه من منصبه أو حتى مجرد الإشارة إليه، وكذلك المستشار عبد الرزاق السنهورى، الذى اقترب منه منصب أول رئيس لجمهورية مصر، وانتهى به الحال معزولاً فى بيته وغير مسموح بذكر اسمه أو نشر صورته فى صحيفة.

وبعد حرب أكتوبر 1973 تمت إزالة صورة الفريق سعد الدين الشاذلى رئيس أركان القوات المسلحة من صور غرفة عمليات حرب بناء على تعليمات السادات بعد خلافه معه. 

وفى عهد مبارك تم حجب صور الفريق أول محمود شاكر عبد المنعم قائد ثانى القوات الجوية فى حرب أكتوبر من وسائل الإعلام؛ لطمس حقيقة وجود قائدين للقوات الجوية فى حرب أكتوبر؛ وتغييب دور الرجل؛ ليصبح مبارك هو قائد الضربة الجوية الأوحد الذى تتغنى به المحافل!!

وكان أول ما فعله عندما تولى منصب رئيس الجمهورية أنه اتصل بأسرة الرجل الذى توفى فى عام 1980، وقال لهم : 

"لو عندكم صور ليا أو تجمعنى مع الوالد يا ريت تبعتوها لى."، وبحسن نية من الأسرة سلّموا الصور إلى جهة ما، ليتم إخفاؤها فى إطار طمس دور الرجل وسرقة تاريخه !!، وهو نفس السلوك الذى سلكه أيضاً مع مسئول مجلة المصور بعد صدور عدد خاص برقم 2975 بتاريخ 16 أكتوبر 1981 بعنوان "مبارك رئيساً للجمهورية"، نشرت المجلة فيه مجموعة صور له أهدتها إليها أسرة المرحوم الطيار رجائى عباس من ألبومه الخاص؛ فالصور تحكى أن الرجل دائما فى مقدمة السرب لكونه الأول ومبارك أبدا فى ذيله لكونه الأخير !!.

5 ــ نماذج من أشهر الصور المزورة فى الصحافة العالمية وبعض أغلفة المجلات العالمية المزيفة، إضافة إلى بعض الصور المفبركة فى الصحافة المصرية وأهمها صورتا مبارك فى غرفة عمليات حرب 73 وفى البيت الأبيض، وبعض أغلفـة مجلة "المصور" التى  تم التدخل الجرافيكى فى  تفاصيل صورها من خلال برنامج معالجة الصور أو الصور التى تم اصطناعها فى الفترة من   2009  إلى  2011.

والتى استخدمت الصورة  فيها لتزييف الوعى والإيحاء بأفكار ومعان وأراء مغايرة لا وجود لها فى الواقع، والتى تدخلت فى صياغتها اتجاهات القائم بالاتصال فى عملية الاتصال المصور والمهارات الخاصة بالتغيير والتبديل والحذف والإضافة من خلال تقنيات الحواسب الالكترونية والبرامج الرقمية الخاصة بمعالجة الصور فى ظل تطور النظم الصحفية وتأثرها بالتكنولوجيا الحديثة التى ميّزت هذا العصر.

معوقات البحث :
ـــــــــــــــــــــــــ

1 ــ ندرة مراجع البحث وقلة مصادره، وإن وجدت فهى مجرد أبواب فى كتب "الإخراج الصحفى"، تبرز قيمة الصورة كأحد العناصر التيبوغرافية الهامة فى إخراج الصحيفة أو مجرد سطور فى كتب " فن التحرير الصحفى"، تتحدث عن القيمة الخبرية للصورة، أو بعض الكتب المتخصصة فى التصوير الضوئى والتى قصر اهتمامها على العمليات الكيمائية والفزيائية والميكانيكية القائم عليها هذا الفن، والتى لم تهتم بالتصوير الصحافى باعتباره أحدث وأبرز تطبيقاته؛ وكذلك الحال فى بعض كتب "التذوق الفنى "، التى اهتمت بالتعريف بالقيمة الجمالية للصورة ومفاتيح قراءتها.

2 ــ الصعوبة البالغة فى البحث عن الصور. وإن وجدت فغلاء أسعار شرائها عائق جديد يحول دون الحصول عليها.

3 ــ كما أن الكثير من الصور التى أمكن الحصول عليها، كانت فى حالة يرثى لها، فالكثير منها قد أتت عليه عوامل الزمن ونال منها القدم وتعرضت للتلف بسبب سوء وسائل الحفظ، وهو ما كلفنى الكثير من المال والجهد والوقت فى محاولات ترميم هذه الصور بما يجعلها صالحة للطباعة، وقد استعنت بجهد وخبرة الزملاء من مهندسى التجهيزات للوصول إلى أفضل نتيجة ممكنة.

***


.. وقد حرصت على اختيار نماذج للبحث من خلال الصحف الرصينة، التى تلتزم معايير المهنية الصارمة للتدليل على حالات من المفترض كونها صائبة، ولكنى وليلتمس لى القارئ العذر فى أننى عرضت نماذج من صحافة النفايات ( Rubbish) للتدليل على حالات بعينها من المفترض كونها تنطوى على خطأ، كما أننى اضطررت لأن أعرج إلى بعض المعلومات التاريخية لتوضيح الظرف التاريخى للأحداث التى وقعت فى قبضة الصورة ، وأسر إطارها ، والتى تم الاستشهاد بها فى البحث.

.. وفى النهاية، كان الطريق طويلاً وشاقاً، وكان الجهد ثقيلاً ومضنياً، ولكنى أردت أن يكون لى شرف السبق وأن أطأ أرضاً لم تطأها قدم قبلى، محتمياً بنبل القصد، وشرف الوسيلة ومتسلحاً بمنهج علمى فى البحث، ومتشحاً بخبرة 36 عاماً من العمل الجاد والدرس المثابر؛ فإن صادفنى التوفيق فمن الله سبحانه وتعالى، وإن كان نقص أو تقصير فمن نفسى ومن الشيطان .

وأرجو أن يكون بحثى علماً ينتفع به وتضرعا ودعاء ابن بالمغفرة والرحمات لروح أبيه، وأدعو الله أن أكون ولداً صالحاً.

بسم الله الرحمن الرحيم 

"فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض" 

صدق الله العظيم
( سورة الرعد آية رقم 17 )

والله الموفق والمستعان

ياسر بكر

الأحد، يناير 15، 2012

ياسر بكر يكتب : المشير الجمسى .. دموع " الفيلد مارشال " !!

المشير محمد عبد الغني الجمسي

المشير الجمسى، بلدياتى؛ فكلانا منوفى؛ فهو ابن قرية البتانون مركز شبين الكوم، التى لا يفصلها عن بلدتى تلوانه مركز الباجور سوى بضع كيلو مترات سيراً على الأقدام أو على ظهر ركوبة فى ذلك المثلث الضيق من أرض المنوفية على الدلتا بين فرعى دمياط ورشيد، ولأننا منايفة فقد شرب كلانا من ماء ترعة الباجورية رشفات عذبة سلسبيل فرات عندما كان ماء النيل طاهراً ونقياً ورقراقاً، وكان ماؤه شفاء ودواء، وكلانا مارس لهو الصبا على شاطئيها فى دفء شمس الشتاء، ونسمات عصر الصيف، وخيوط شعاع القمر، وكلانا عشق صوت السواقى والشواديف وأنغام الناى وغناء الفلاحات فى مواسم الحصاد ورائحة زهر البرسيم فى الحقول ورائحة الأرض المروية ورائحة الخبز الفلاحى فى الأفران يوم الخبيز.


 وكلانا تعلم القناعة والرضا بالنصيب والمقسوم فبضع لقيمات من "البتاو"  وقطعة من الجبن القريش أو " المش" وأعواد السريس أو "حبات الفول الحراتى "أو عيدان "الخس المليجى" تتساوى عندنا مع اللحم الفاخر ومستلزماته من المشّهِيات والأطباق الساخنة. 

 

المشير الجمسى اختار السلاح للدفاع عن الحق، .. واخترت القلم أداتى لحراسة الحقيقة

 

 لذا فأنا أكتب عنه . .. لكنى لن أكتب عن انجازاته وعطائه للوطن؛  فكلاهما يعرفه القاصى والدانى، سأكتب فقط عن لحظات الضعف الإنسانى فى حياته باعتبارها لحظات الضعف التاريخى فى عمر الوطن، وسأكتب عن مواقف الألم فى أيامه لأنها الوجع والداء ينخر فى جسد وروح الوطن .

 

كان المشير الجمسى وزيرا للحربية، وكنت جنديا مقاتلاً مجنداً فى إحدى تشكيلات الفرق القتالية فى القطاع الأوسط من سيناء، لكنى لم ألتق به إلا وأنا صحفياً شاباً فى أسرة دار الهلال، وكنا نشرف بحضوره فى الندوات التى تعقدها مجلة " المصور" فى إطار احتفاليات صحفية بذكرى أكتوبر.  

 

كنت أرى فيه الرجل الممشوق كعود الزان فى جرن القرية أيام الفرح وفي ليالي المولد، الشامخ كنخلة فى صعيد مصر، المهيب كمسلة فرعونية، رجل بمعنى الكلمة، رجل بحق، رجل بحجم مصر ونيلها وتاريخها.



 
دموع الفيلد مارشال :

 

أغرورقت عينا المشير الجمسى بالدمع فى حياته الحافلة خمس مرات، وما أجمل أن ينساب الدمع النبيل من عيون الفرسان فى لحظات الضعف الإنسانى ليغسل ما علق من ذرات الغبار والحمق الإنسانى على مرآة الزمن ؛ فتتضح الرؤى وتنكشف معالم الطريق . دموع الفيلد مارشال أضافت أوسمة من نوع أخر إلى نياشينه الثلاثين لا يدرك قيمتها إلا من عشق النبل الإنسانى ويعرف معادن الرجال .. عبرات الفيلد مارشال الساخنة التى سقطت حارة ساخنة على وجه مصر هى التى أيقظتها من غفوتها لتنادى أبنائها ليلتفوا حولها فى الميدان التحرير .

 

الدمعة الأولى : 

 

 سقطت الدمعة الأولى من عين العميد محمد عبد الغنى الجمسى رئيس عمليات القوات البرية على ارض سيناء ، مع ارتفاع شمس ضحى يوم 5 يونيو 1967 ، رغم أن دوره فى الهزيمة كان هامشياً ولم يكن مؤثراً ، فهو يعرف أن القيادة العسكرية لحرب يونيو 67 أرسلت الوحدات المقاتلة إلى سيناء ومعها أسلحتها الثقيلة ، ولكن بدون ذخائر ؛ لأن المهمة كانت فى رأس القيادة العليا لم تكن سوى مسرحية سياسية " لتهويش " أمريكا وإسرائيل معاً ، وهو يعرف أن القيادة السياسية أسدلت الستائر السوداء على أسباب الهزيمة وطمس أثارها المدمرة . فقد كانت نتيجة الحرب وبالاً فقد استشهد تسعة ألاف رجل وثمانمائة رجل بين شهيد ومفقود وخسرنا الجزء الأكبر من عتاد الجيش وتقول الإحصائيات عن هذه الخسائر : ـ فى الأفراد 17 % من القوات البرية و 4% من الطيارين ، أما معدات القوات الجوية والدفاع الجوى والقوات البرية فقد كانت 85 % منها . ـ عن خسائر القوات الجوية فقد كانت 85 % من المقاتلات القاذفة والمقاتلات و 100 % من القاذفات الخفيفة و القاذفات الثقيلة .

 

الدمعة الثانية : 

 

 سقطت الدمعة الثانية فى فندق "كتاركت" أسوان عندما لوى السادات القرار العسكرى لحساب المفاوضات السياسية التى بدأت عندما قرر السادات تعيين اللواء محمد الجمسي (رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة) ممثلا لمصر فى المباحثات التي تتم مع إسرائيل تحت إشراف قوة الطوارئ الدولية عند الكيلو 101علي طريق السويس لإجراء مباحثات لتثبيت وقف إطلاق النيران بين الطرفين تنفيذاً لقرار الأمم المتحدة رقم 338 ، وقد أوضح الجمسي أنه لا يرغب فى تنفيذ هذه المهمة حيث أنه أمضى حياته العسكرية كلها فى حرب ضد إسرائيل، إلا أن كان رأي السادات أن الجمسي بحكم عمله رئيسا لهيئة العمليات يلم بأوضاع القوات المصرية وقوات العدو فى الجبهة وأنه أنسب من يمثل مصر فى هذه المباحثات وأقيم أول اجتماع فى الساعة 1.30 صباحا يوم 28 أكتوبر1973 وتم النشر عن هذا الاجتماع فى الجرائد وكان هذا أول ظهور أسم الجمسي إعلاميا فى الجرائد. كان الوصول إلى مكان الاجتماع ملئ بالمخاطر، كان الجنود المصريون في الخطوط الأمامية يعترضون الوفد المصري ويشهرون أسلحتهم ويسألون عن أسباب المرور فى اتجاه العدو، وكان الجمسي يصرح لكل حارس فى كل موقع (كلمة سر الليل) للوحدة وكان يحدد له أسم وحدته وأسم قائده)، عند وصول الوفد المصري لمكان الاجتماع أصطف الضباط الإسرائيليون برئاسة الجنرال أهارون ياريف وقاموا بتأدية التحية العسكرية وقام الوفد المصري برد التحية للجانب الإسرائيلي, وكانت تعليمات الجمسي لأعضاء الوفد المصري ألا يبدأوا التحية للجانب الإسرائيلي لأنهم في الجانب المنتصر فى الحرب.وبدا الرجل مفاوضا صلبا مثلما كان عسكريا صلبا، بعد سبعة اجتماعات مع الجانب الإسرائيلي طلب الجمسي وقف الاجتماعات لأنها لم تعد مجدية ووصلت إلي طريق مسدود ولم تحقق نتائج إيجابية عن فك الاشتباك والفصل بين القوات للخلاف الجوهري بين وجهة النظر المصرية والإسرائيلية ، وتوقفت هذه المباحثات. حتى جاءت أصعب لحظات عاشها الفريق في حياته كلها، لحظات دفعته -لأول مرة في حياته العسكرية- لأن يبكي! كان ذلك في يناير 1974 عند استكمال المباحثات فى أسوان عندما جلس أمامه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر ليخبره بموافقة الرئيس السادات على انسحاب أكثر من 1000 دبابة و70 ألف جندي مصري من الضفة الشرقية لقناة السويس وتخفيض القوات المصرية فى سيناء إلي7000  رجل و 30 دبابة!! فرفض الجمسي ذلك بشدة، وسارع بالاتصال بالسادات الذي ما كان منه إلا أن أكد موافقته؛ ليعود الرجل إلى مائدة التفاوض يقاوم الدموع، ثم لم يتمالك نفسه فأدار وجهه ليداري دمعة انطلقت منه حارقة؛ حزنا على نصر عسكري وأرواح آلاف الرجال تضيعها السياسة على موائد المفاوضات. وكانت مفاجأة لهنري كيسنجر أن يرى دموع الجنرال الذي كثيرا ما أسرّ له القادة الإسرائيليون بأنهم يخشونه أكثر مما يخشون غيره من القادة العسكريين العرب.

 

الدمعة الثالثة 

 

الدمعة الثالثة سقطت صباح يوم 5 أكتوبر 1978 ؛ عندما أقاله السادات فى حركة "ممسرحة"، ومنعه من أن يحضر الاحتفال بيوم النصر الذى أعد له شهور وأشرف على " بروفته الجنرل !!"

 

الدمعة الرابعة :

 

 الدمعة الرابعة سقطت عند وفاة رفيقة دربه زوجته وأم أبنائه مدحت وماجدة ومها السيدة / وفاء عبد الغنى التى رحلت فى 20/11/1979 بعد صراع طويل مع مرض الفشل الكلوي .

 

الدمعة الخامسة : 

  الدمعة الخامسة سقطت يوم استشعر الإهانة على أيدى الكلاب المسعورة الذين فرطوا فى شرف الوطن ونهشوا لحمه وأهانوا رموزه، فقد ذكر وزير الإسكان السابق حسب الله الكفراوي (1977 – 1993) عن مصير وزراء الدفاع في عهد الرئيس حسني مبارك، فقال: 

"زارني المشير محمد الجمسي في المكتب بعد أن خرج من الخدمة العسكرية، وبالرغم من خدماته الجليلة لمصر، إلا أنه كان في حالة من الفقر عرض معها أن يعمل لدى شركة مقاولات تتعامل معها وزارة الإسكان لإزالة مخلفات الطوب في بعض الأحياء، يومها بكيت، ثم أخبرت الرئيس حسني مبارك بأهمية حفظ كرامته عبر منصب استشاري براتب محترم ليتحاشى هذه البهدلة، كانت النتيجة أنه بعد ثلاثة أيام نشرت الصحف خبر الاعتداء على المشير الجمسي في شقته المتواضعة، كانت علقة تأديبية حتى لا يتحدث عن ظروفه لأحد، سقطت دمعة خرساء من عين الرجل لكنه صمت تماما حتى حتى انتقل إلى رحاب ربه." . 


أكاذيب "الكفراوي ":

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والحقيقة أنا لا أثق في ادعاءات الكفراوي؛ فهو شخص كثير الادعاء .. خصب الخيال .. كثير الحلف .. مفضوح الأكاذيب يحيط نفسه بهالات من "مسوح اليسوعية" لا تتوافر في شخصه ـ وقد كان لي تجربة شخصية معه مثبتة في اعتذار منشور بمجلة المصور لاسترضائه حتى لا يقطع حصة الإعلانات عن المجلة ـ، فضلا عن أكاذيبه التي نشرها لإجهاض أول تجربة ديمقراطية حقيقية في مصر بعد ثورة يناير 2011، وقد انتهت ادعاءات وأكاذيب الكفراوي وحماقاته واستخدامه كـ "مخلب قذر"، وعدم كياسته في الحديث عن "أولياء نعمته" إلى الإلقاء به في "مزابل الحياة"؛ ليقضي ما بقي من حياته مكروهاً .. وحيداً .. منبوذا في خرائب الإهمال والنسيان!!

 

.. والحقيقة أن الحالة المالية للمشير الجمسي لم تكن بهذا السوء الذي ـ ادعاه الكفراوي ـ ؛ فقد ذكرت مصادر سورية أن الرئيس السوري حافظ الأسد قد أرسل إلى المشير الجمسي مبلغ من الدولات حمله إليه الكاتب الصحفي الأستاذ لطفي الخولي قيمة أجره عن الفترة التي تولى فيها قيادة الجبهة العربية المشتركة (مصر ـ سوريا) أثناء حرب اكتوبر، ولم يفصح أي من الرئيس الأسد أو الأستاذ الخولي أو المشير الجمسي عن قيمة تلك الأموال .

 

السادات والجمسى :  

 

 عندما اندلعت انتفاضة 18 و19 يناير 1977 قبل الجمسى نزول الجيش إلى الشارع بعد إصدار بيان يفيد تراجع الحكومة عما اتخذته من قرارات لكنه أكد على الضباط بعدم الإساءة إلى أية مواطن أو توجيه طلقة واحدة من سلاح الجيش ضده قائلاً : "إننا مع رجل الشارع ونبضه، وليس معنى إدانتنا لفئة من المخربين الذين حاولوا تدمير مرافق البلد أننا نتخلى عن تأييدنا للمواطن وحقوقه المشروعة ،". وقد وضع هذا التصريح مرارة فى قلب السادات الذى امتلأ قلبه بالكراهية لجماهير الشعب التى هتفت ضده وزحفت صوب استراحته فى أسوان وهو ما جعل رجال حراسته يقررون ضرورة عودته إلى القاهرة ، واضطروا إلى وضعه فى عربة أتوبيس، افترش أرضها هو وأسرته ورجال حاشيته، حتى تبدو السيارة فارغة لا تحمل غير سائقها، وكان السادات يبكى بمرارة، وهو جالس القرفصاء على أرض الأتوبيس حتى وصلوا به  إلى المطار.

 

جيهان ونساء الضباط :  

 

تكهرب الجو بين السادات والجمسى عندما علم الجمسى من تقرير رفعه إليه الفريق محمد على فهمى يفيد أن جيهان السدات تدعو كل أسبوع عدد من زوجات الضباط من الرتب بين العقيد واللواء وتستمع إلى أرائهن فى أزواجهن أثناء تناول الشاى ثم تدعوهن مرة أخرى مع أزواجهن لتناول العشاء وتطلب منهم أن يحدثوها بسلبيات القائد العام ورئيس الأركان وقادة الأسلحة وأن هذه اللقاءات يجرى تسجيلها لنقلها للرئيس . وجاءت الفرصة للسادات على طبق من ذهب عندما أستمع إلى تسجيل لحوار الجمسى مع طلاب الجامعات فى حزب مصر فى اكتوبر 1977 يقول فيه : "اسرائيل ستنسحب من أرضنا سواء أردت أم لم ترضى " ، ثم يعود ويقول: " هذا الجيل سوف نسلمه الراية مرفوعة ليتحمل مرحلة أخرى من الصراع" ، وغضب السادات وقال : " هل ذهبت أنا وتولى الجمسى رئاسة الجمهورية ؟! "

 

المشير والصحافة : 

 

 عندما نشر حمدى لطفى فى مجلة " المصور " مقال لخبير عسكرى غربى مترجم عن مجلة عالمية بعنوان : كيف يفكر الجمسى ؟! ؛غضب السادات واتصل بأمينة السعيد رئيس مجلس الإدارة معاتباً والتى بدورها قامت بتأنيب صبرى أبو المجد رئيس التحرير الذى قال للمحرر : لِم الدور شوية ، جبت لنا الكلام !!


 وفى أخر أغسطس 1978 أوعز السادات لموسى صبرى ينشر خبر فى جريدة "الأخبار" بترشيح صديقه الفريق محمد على فهمى لوزارة الحربية واتصل الجمسى بصديقه مستفسراً عن الخبر فأكد له أن نشر الخبر بهذا الشكل والمصدر المجهول معناه أن السادات بدأ يقلب الورق وبدأ كعادته "مسرحة" الأحداث لإحالة الرجلين للتقاعد فى أقرب فرصة .

 وفى عام 1983 أرسل مكرم محمد أحمد وئيس مجلس إدارة دار الهلال عرض إلى المشير نقله إليه حمدى لطفى لنشر مذكرات الجمسى لكنه رفض العرض حتى يحصل على التصديق على النشر من المخابرات الحربية فهو يرفض مخالفة القانون .



•   
وفى أكتوبر 2002 وقبل وفاة الرجل بسبعة أشهر ، دعته مجلة "المصور " لحوار بمناسبة أكتوبر (لم ينشر) وأثناء فاعليات الحوار سأله مكرم محمد أحمد عن مصير "كشكول الجمسى " ، توجس المشير بحسه شيئاً ما فى السؤال !! ، فمد أصبعه ليغلق جهاز التسجيل قائلاً : (قد سلمتها يا مكرم رسمياً إلى  جهة الاختصاص" ........ "  ، وساد صمت متوتر لم يقطعه إلا صوت زميلنا حلمى النمنم متسائلا ً : سيادة المشير، هل كان للقرار السياسى دور فى لىّ عنق القرار العسكرى فى حرب أكتوبر ؟ التفت المشير إلى الزميل وبدأت علامات الراحة على وجهه واسترسل فى الإجابة ( شاهدا هذه الواقعة الكاتب الصحفى الأستاذ حلمى النمنم رئيس مجلس إدارة دار الهلال الحالى، والزميل الأستاذ سليمان عبد العظيم مدير إدارة التحرير (..


*** 

وفى 7 يونيو 2003 رحل الفارس النبيل، الجنرال النحيف المخيف، سيد الإستراتيجية، ولم يترك سوى نياشين ثلاثين تشهد على تاريخ حافل بالعطاء، ومسكن متواضع عبارة عن شقة صغيرة من ثلاث حجرات فى عمارات التوفيق بمدينة نصر ظل يدفع أقساط ثمنها سنوياً من معاشه الشهرى الذى حددته قوانين الدولة، وسيارة مرسيدس موديل 74، وخمس ألاف جنية فى حسابه فى بنك مصر فرع النزهة هى كل ما بقى له من مدخرات عرق السنين إضافة إلى ما بقي من ثمن بيع أرضه الزراعية فى المنوفية والتى ورثها عن أبيه !!؛ فهو لم يتاجر فى السلاح، ولم يتقاضى عمولاته، ولم يمس الحرام، ولم يتاجر بتاريخ الوطن، أو ينهش لحمه ولم يقم بـ "تسقيع الأراضى" .. لكن رصيده فى ذاكرة الوطن، ومحبته فى قلوب البسطاء الطيبين من أبناء هذا البلد لا تتسع لها خزائن الأرض وصفحات كتب التاريخ؛ فسلام عليه يوم لقى وجه ربه، وسلام عليه يوم يبعث حياً ليقف بين يدى ربه مع رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه .

 حكاية كشكول الجمسي :  

 

فى بداية عام 1973 عندما اقترب موعد الهجوم على إسرائيل قامت هيئة عمليات القوات المسلحة برئاسة اللواء محمد عبد الغني الجمسي بإعداد دراسة عن أنسب التوقيتات للقيام بالعملية الهجومية، حتى توضع أمام الرئيس المصري السادات والرئيس السوري حافظ الأسد لاختيار التوقيت المناسب للطرفين، وتقوم الدراسة على دراسة الموقف العسكري للعدو وللقوات المصرية والسورية، وكان يوم 6 أكتوبر هو أحد الأيام المناسبة الذي توفرت فيه الشروط الملائمة للهجوم .. يقول المشير الجمسي فى كتابه (مذكرات حرب أكتوبر) : سلمت هذه الدراسة بنفسي مكتوبة بخط اليد لضمان سريتها للفريق أول أحمد إسماعيل الذي قال أنه عرضها وناقشها مع الرئيس السادات فى برج العرب بالإسكندرية فى أوائل إبريل  1973، وبعد عودته أعادها لي باليد ونقل انبهار وإعجاب الرئيس السادات بها، وعبر الفريق أول أحمد إسماعيل عن شكره لهيئة عمليات القوات المسلحة لمجهودها في إعداد هذه الوثيقة الهامة بقوله :

(لقد كان تحديد يوم الهجوم عملاً علمياً علي مستوى رفيع، إن هذا العمل سوف يأخذ حقه فى التقدير، وسوف يدخل التاريخ العلمي للحروب كنموذج من نماذج الدقة المتناهية، والبحث الأمين .) .

كانت هذه الوثيقة هي التي أشار إليها الرئيس السادات في أحاديثه بعد الحرب بكلمة (كشكول الجمسي)، ولكن الجمسى أكد

"حتى أعطى الفضل لأصحابه فأنى أقول أن هذه الوثيقة هي (كشكول هيئة عمليات القوات المسلحة) التي أعتز وأفخر أني كنت رئيسا لها فى فترة هامة من تاريخ القوات المسلحة وتاريخ مصر."


دوريات ذات صلة بالموضوع:


ـ جريدة الشرق الأوسط اللندنية ـ حمدى لطفى ،ذكريات صحفية ، الحلقة 3 ، مجموعة أوراق المشير الجمسى تنفرد " الشرق الأوسط " بنشرها لأول مرة ، العدد 3933 ـ الأثنين 4 ـ 9 ـ 1989 ، صـ 6 ، 7

ـ جريدة الوفد، حنفى المحلاوى، المشير محمد عبد الغنى الجمسى، هذه شهادتى عن حرب اكتوبر ـ عدد 11 ـ 4 ـ 1990

ـ الأنباء الكويتية، حمدى لطفى، القائد الذى ترك خلفه علامات استفهام ـ الحلقة 3 ـ عدد13يناير ـ 1986 

ـ الأنباء الكويتية ، حمدى لطفى، قصة المشير عبد الغنى الجمسى ـ الحلقة 4 ـ عدد 14يناير ـ 1986