السبت، يوليو 29، 2017

ياسر بكر يكتب : السراج، و"الفنطاس"، وخالتي هنية !!



ياسر بكر يكتب : السراج، و"الفنطاس"، وخالتي هنية !!



 عندما كتبت عن رجال من قريتي "تلوانة" في كتابي بعنوان : "حكايات من زمن الخوف"، أبدى بعض بلدياتنا غضبهم مما كتبت، وقلت:

أولا : أنني لم أكتب عن تلك الشخصيات لذاتها؛ فقد جاء ذكرهم عرضاً في جريان نهر الكتابة عن "شهادتي على العصر" التي عرجت خلالها إلى "مذكرات القرية"، التي كنت جزءاً منها في سنوات الطفولة وميعة الصبا، فلما غادرتها في مقتبل سنوات الشباب أصبحت جزءاً من أيام العمر كله.

ثانيا : أنني لم أختلق واقعة لم تحدث، ولا حذفت واقعة حدثت. 

ثالثاً : أنني لم أتعود أن أغسل أحد من أوزاره، أو ألصق بأحد ما لم يفعله.

رابعاً : إن كنت قد أوردت بعض وقائع تستحق معاتبة بعضهم؛ فعلى فاعلوها أن يخجلوا منها، ومن أنفسهم، ويستغفروا ربهم عنها أحياء، أما من انتقل منهم إلى جوار ربه؛ فليسامحه الله، وليأخذ منها الأحياء العبرة والعظة، ويدركون أن السيرة تبقى بعد انتهاء العمر، .. ولا يتخذ البعض من عاره الشخصي ذريعة لمصادرة حق الآخرين في الكتابة .

خامساً : وهو الأهم، أنه عندما كتبت عن شخصيات استشعرت مشاعر سلبية تجاهها؛ فقد كتبت عن شخصيات أخرى أكن له الكثير من مشاعر الحب، وآيات الاحترام ومنها: عمي عبد الغني شبايك "السراج"، وعمي محمد البربري "الفنطاس"، وخالتي هنية التهامي بكر "الملاية"، وكتبت عن أمهاتنا وخالتنا وعماتنا الطيبات الصابرات اللائي حافظن بثقافة الفطرة على البيئة وقدمن لنا قرية نظيفة على عكس ما رأيته من وجه شائة في زيارتي الأخيرة (يونيو 2014) من تراكم أكوام القمامة، وطفح بيارات الصرف الصحي، وسُدت الترع بالقمامة، ومخلفات البلاستيك، وفاحت برائحة النتن عكس أيام زمان . 

***

 زمان .. كانت شوارع القرية ضيقة وملتوية .. لكنها كانت نظيفة فقد اعتادت القرويات رش المياه والكنس أمام باب الدار؛ لما ترسخ في أذهانهن من أن نظافة مداخل الدور من الأمور التي تجلب البركة وتوفر الرزق .

.. وكانت النفايات التي يتم جمعها كلها منافع؛ فكانت تستخدم كوقود لأفران الخبيز، والكوانين "مواقد الطبيخ الطينية"، وتدفئة القاعات، وتسخين الماء في الشتاء .

.. وأسهمت القرويات الفقيرات في نظافة الشوارع من باب المنفعة المتبادلة؛ حيث كن يقمن بجمع روث الماشية من الطرقات، وتجفيفه في شكل أقراص مستديرة لبيعها وقوداً للأفران؛ فأسهمن في إعادة تدوير المخلفات بما يحقق نظافة الشوارع، ويضمن لهن أيضا في ذات الوقت ما يكفيهن ذل السؤال . 

وكان ماء الترع عذباً وصافياً ورقراقاً وكان يحظى بقداسة هي خلاصة اختلاط رقائق الحضارات في مصر على مدى التاريخ، تلك القداسة التي عصمته من الاجتراء عليه؛ لما ترسخ في ثقافة القرويين من أنه : "ملعون من لوث النهر .. ملعون من أفسد على الناس مشربهم"، وأن من أفسد الماء يؤتى به يوم القيامة ليصلح برموش عينيه ما أفسده، وما هو بمستطيع؛ بما يجعله في عذاب مُقيم .

.. وكانت شوارع القرية تضاء بمصابيح الكيروسين في فوانيس متباعدة مثبتة في حوائط البيوت في غير الليالي القمرية فقط .. حيث يتولى عامل وحدة الشئون الاجتماعية عم عبد الغني شبايك الذي كان يشغل وظيفة "السراج" أو "المشاعيلي".

كان السراج يطوف بالقرية مرتين يومياً حاملاً سلماً خشبياً صغيراً، مرة قبيل أذان المغرب ليسرج المصابيح، ومرة أخرى في الصباح بعد شروق الشمس ليطفئها، وينظف بنورتها، ويذودها بالكيروسين.

كان عم شبايك يؤدي عمله في صمت وصبر، ودون أن يأبه بمشاغبات أطفال الناحية من خلفه، وهم يرددون الأغنية :

"عفريت الليل بسبع رجلين..
 وعيونه سود فحم العود..
وسنانه بيض من أكل الدور".

.. وكان في تلوانة أربع صنابير مياه عمومية، أثنان منهما بالناحية الغربية، وأثنان في الناحية الشرقية .. كان حارس الصنبور بمنطقة "كوبري السرود" القريب من دارنا عم محمد البربري الذي كان أهلنا في تلوانة يطلقون عليه لقب "الفنطاس"، كانت كلمة "الفنطاس" تطلق على خزان المياه، ثم لم يلبث أن انسحب ذلك الأسم ليصبح لقباً لعم محمد .

 .. كان عم محمد "الفنطاس" يقيم بشكل دائم صيفاً وشتاءاً، وليلاً ونهاراً إلى جوار صنبور الماء، وكان يسترزق مما تقدمه له القرويات من طعام، وما يتعطف عليه به أهل البر من كساء وغطاء .

لكن الرجل الذي ضعف بصره، وانحنى ظهره لم يكن يسلم من مشاكسات بعض صبية القرية؛ فكان يهرع ورائهم بعصاه قائلاً عبارته المشهورة مخاطباً المارة :

ـ "إمسك .. يسترك.". 

فإذا لم يجد إجابة لطلبه أردف هامساً لنفسه ومعزياً لها عن خيبة الرجاء قائلاً :

ـ " فلت، وجري .".

حتى صارت العبارة : "إمسك .. يسترك، .. فلت ، وجري ." من العبارات التي يتناقلها البعض على سبيل التندر للتعبير عن كوميديا الموقف.

كان المستورون من أهل القرية يستخدمون "الملاية" لجلب الماء من الصنبور العام مقابل أجر شهري،  كانت "الملاية" هي البديل النسائي لمهنة السقاء لاعتبارات العرف الريفي، وكانت "الملاية" تنقل الماء إلى أهل الدار في جرة من الفخار تحملها فوق رأسها على حاشية من طوق قماش ملفوف يسمونه "لواية" أو "حواية".

.. كانت ملاية دارنا خالتي هنية التهامي بكر "أم ابراهيم"، كانت خالتي هنية ممشوقة القوام، مستوية القامة، عفية تمشي الهوينا تحت ثقل جرة المياه .. وكانت عزيزة النفس رفضت أن يعولها ابناها، وآثرت أن تأكل لقمتها من كدها وعرق جبينها .

.. يرحم الله الجميع .

ياسر بكر يكتب : أفراح بطعم الحزن، ولون الدم !!



ياسر بكر يكتب : أفراح بطعم الحزن، ولون الدم !!

السهم يشير إلى الأستاذ ياسر بكر في أحد الأفراح الريفية بقرية تلوانة
لا أعرف لماذا لم يفارقني أبداً الشعور بأن أيام الفرح في قريتنا هي ساعات مختلسة من "زمن الخوف"؛ فإذا ضحكنا من القلب توجسنا الشر، وقلنا : "اللهم اجعله خير"، وأن ليالي الفرح دائماً متبلة بطعم الحزن، ولون الدم . 
 كانت عادات الزواج في القرية بسيطة تبدأ بالخطبة وتقديم الشبكة التي تتفاوت قيمتها بتفاوت المكانة الاجتماعية والحالة الاقتصادية للعروسين بين عُقد من الكهرمان، أو عُقد من الذهب أو الفضة يطلق عليه البعض "كردان" أو "لبة" بدور واحد أو بعدة أدوار، أو قرط ذهبي على شكل هلال كان أهلنا في تلوانة يطلقون عليه "الحلق المخرطة" لتقارب شكلي الهلال و"مخرطة الملوخية"، أو سوار من الذهب أو الفضة يطلق عليه البعض "غويشة" أو أكثر، أو خلخال من الفضة أو من الذهب . 
ثم يقبض ولي العروس مهرها قبيل العقد ليبدأ في إعداد شوارها "جهازها".. كان الشوار بسيطاً ويتكون من صندوق خشبي لحفظ الملابس يحمل على جنباته صوراً من رسوم شعبية لعنتر وعبلة، وخضرة الشريفة، وأبو زيد الهلالي، ومرآة زجاجية في إطار خشبي، وبعض الأغطية، وأواني الطبخ، وحشية ووسادة من القطن للنوم يقوم المنجد بصنعهما .. تتناغم دقاته بالدقماق على وتر القوس مع غناء النسوة بأغاني التنجيد :


يا منجد علّي المرتبة
 عروستنا حلوه مؤدبة

يا منجد علّي المرتبة
 عروستنا ناعمه غُريِّبة
 يا منجد علّي المرتبة
اعمل حساب الشقلبة
كان للموسرين من أهل القرية مسلك آخر في تجهيز الشوار يقترب أحيانا من عادات أهل البنادر، لكن كان  يجمع بين الفقراء والموسرين زفة جهاز العروس الذي تحمله الجمال، والتي كان يتقدمها بنغمات مزماره الشيخ راشد عبد الجليل يصاحبه بإيقاع طبلته عم بدوي السرساوي ماسح الأحذية بأغنيته الشهيرة :
" أه يا دلال يا وله
والعمدة خالك يا ولة
أه يا دلال يا وله
والباشا عمك يا وله "
كانت تلك الكلمات لا تتغير سواء كان خال العروس عمدة أو أجيراً أو كان عمها باشا أو كلاف ماشية !!
فإذا ما نفحه أحد أقارب العروس على سبيل النقطة تعريفة (عملة من فئة 5 مليمات)، أو قرش صاغ غير نغمة المزمار، وردد الكورس من ورائه:
"يحيا أبوها يحيا
عوج الطربوش على ناحية
يحيا أبوها وشنبو
اللي ما حدش غلبو
قولوا لأبوها الله كتر خيرك
ربى وكبر واللي خدها غيرك "
سواء كان أبو العروس من لابسي الطرابيش، أو من لابسي اللبد أو الطراطير، أو أنه يرتدي طاقية ممزقة يخرج من نسيجها شعر رأسه أو أنه يربط رأسه بمنديل محلاوي .
.. وأيضا كان يتم زفاف طحين العرس بالمزمار والطبلة والغناء في رحلته من وإلى وابور الطحين، وكانت الفتيات يرددن الأغنية :
"يا ام العريس .. الله يتم عليكي
يا مسعدة .. والسعد ملو إيدكي
القلب أبيض فلة .. والدقيق علامة "

وتنتهي مراسم الزواج بليلة الزفاف التي يطلقون عليها "ليلة الدخلة".. والتي تسبقها ليلتان لا تقلان عنها في الأهمية، وهما: ليلة "الجلوة" وليلة الحنة .
وفي ليلة "الجلوة" تقوم صديقات العروس بمساعدتها في حمام العرس، وتمشيط شعرها، وغسل كعوب رجليها لأن المأثور في العرف الريفي يقول أن:"اللي ما تحني كعبها .. ما يدق الفرح قلبها."، ليبدأ عمل البلانة قبل ليلة الحنة .
وليلة الحنة هي الليلة السابقة لليلة الزفاف، وفيها يتم وضع الحناء على رأس العروس وقدميها ويديها .
 .. في ليلة الزفاف تزف العروس إلى دار عرسها، وتبدأ مأساة فض بكارة العروس حيث تقوم الداية بالمهمة باستخدام إصبعها الملفوف بالمنديل، تساعدها سيدتان تمسكان بالعروس بشدة، .. وبعد فض البكارة بتلك الوحشية، يؤخذ المنديل المستخدم وبه أثار الدماء، ويطوف به أهل العروس القرية معلنين عن شرف البنت الذي لم يمس؛ وقد يتزيد البعض في ذلك الأمر فيعدون منديلين ملطخين بالدماءأ أحدهما يطوف به الرجال شوارع القرية، وآخر تطوف به النساء وهن يرددن الغنوة :
" يا أبو الجدايل يا قصب
.. عندنا فرح واتنصب
.. خد المنديل بدمها
.. ونزل يفرج عمها
قولوا لأبوها إن كان جعان يتعشى
يركب حصانه وفي البلد يتمشى
.. قولوا لأبوها الدم عبى الفرشة (ملأ الفراش)
.. قولوا لأبوها إن كان تعبان يرتاح
.. قفل متربس وجاله المفتاح" .
والمنديل الثاني يحمله رجال العائلة على أطراف النبابيت في خطوات أقرب إلى الهرولة، ويتقدمهم بعض حملة مشاعل النار على الشماريخ، وهم يتغنون بالأغنية :
" يا برسيم على أول حشة
جيت أحشه لقيته لسه "
.. كانت الغنوة ترمز مجازاُ إلى البكارة، والشرف المصان الذي لم يمس .
وبعد فض بكارة العروس تبدأ مراسم عشاء العروسين "حلة الاتفاق"، وتنتهي "ليلة الدخلة" بمراسم "الصباحية" .. كان يستوقفني كم الدماء التي تلطخ المنديل الذي يتراوح طوله من ثلاثة إلى خمس أمتار .. وهو ما دفعني إلى مناقشة الأمر مع الأستاذ الدكتور عبد الرحمن نور الدين رئيس تحرير مجلة "طبيبك الخاص" الأسبق الذي أكد لي أن هذا مستحيل من الناحية الطبية .. إلا في حال النزيف، وتلك كارثة طبية، وأضاف ضاحكاً: "أن دماء المنديل على تلك الصورة ما هى إلا دم دجاجة أو أرنب مذبوح!!" .
.. واستشعرت أننا أمام حالة خداع تجيدها الدايات المحترفات، ويعتبرنها سراً من أسرار المهنة التي ورثنها عن الأمهات والجدات، ولا يبحن بها للغرباء !!
وتسلطت علىّ "إرادة المعرفة" فناقشت الأمر مع الداية فاطمة أبو يوسف كانت المرأة مراوغة، وأبدت بعضاً من السادية؛ ظهر واضحاً في استشعارها الفخار بما مارسته من أفعال بحق نسوة القرية، وكان حديثها ذا ملمح بذئ.
وبقيت الرغبة في المعرفة قائمة، وتمثل لي صداعاً مزمناً لا يفارقني، ولا أستطيع نسيانه؛ ففي لقاء صحفي مع إحدى الدايات العجائز التي تقاعدت بعد أن كف بصرها .. لخصت لي العجوز الحكاية في عبارة واحدة .. قالت:
ـ "شوف يا ابني هما كلمتين: إنهم يريدون شرفاً زائفاً، ونحن نعطيهم ما يريدون، ونأخذ منهم ما نريد من المال والعطايا .".
في السنوات الأخيرة سمعت الكثير عن "اصطناع البكارة" و"غشاء البكارة الصيني" و"غشاء البكارة البلدي" بعد أن ابتلي مجتمعنا بوباء الزواج العرفي، وأصبحت مسألة "اصطناع البكارة" ساحة للعراك الديني عبر سجال الفتاوي بين من أحل وأباح من منطلقات الستر، وبين من حرم وجرم من منطلقات الغش، وما يترتب عليه من بطلان العقد، وفساد رابطة الزواج.
.. ولم يكن يعنيني في قليل أو كثير ذلك العراك الديني أو السجال الفقهي أو الجدل الأخلاقي؛ لكونها ليست أكثر من محاولات لرتق نسيج بالي اتسع خرقه على الراقع، لكن ما كان يهمني أننا أصبحنا مجتمع في أزمة حقيقية .. أزمة جعلته بين شقي رحى غرائزه وعقائده !!
.. أزمة جعلت أفراحنا بطعم الحزن، ولون الدم، ونتن الخداع!!
.. ولله في خلقه شئون .

صفحات من كتابي : " حكايات من زمن الخوف"

 

الأربعاء، يوليو 12، 2017

ياسر بكر يكتب : كُتّاب شيخنا الرفاعي !!



ياسر بكر يكتب : كُتّاب شيخنا الرفاعي !!

ياسر بكر .. طفل الكتاب

وُلدت ضعيف البنية .. مُعتل الصحة .. هكذا شاءت إرادة الله، كان الأهل يحطونني برعاية خاصة، .. إلى كان يوم اشارت إحدى الجارات على أمي أنه حان الوقت للالتحاق بالكُتّاب، وأفاضت في مزايا الاختلاط بالأنداد، ومشاركة الأتراب لعب الطفولة، وأثره في كسب الصحة، وما يعجل به من اجتلاب العافية .. ولم تكذب أمي الخبر .. وفي الصباح اصطحبتني جدتي لأمي الحاجة أم ياسين إلى قريبها الشيخ منصور الرفاعي أحد أصحاب الكتاتيب في درب السجاعية بقريتنا تلوانة .. عندما لمحها الشيخ أدرك قرب الفرج؛ فقام إليها مرحباً وأجلسها على الفروة بجواره، وأجلسني إلى جانبه، وراح يتلطف معي .. قالت جدتي : هذا حفيدي .. ابن الغالي يرحمه الله ـ وذكرت اسم أبي ـ .. أثنى الرجل على ذكرى أبي، وعلمه وأدبه وفضله وقرأ الفاتحة لروحه، وطلب لها الرحمة، .. ودمعت عيناي .. قالت جدتي:

ـ أريد أن يتعلم على يديك مثل أخواله .

قال الشيخ :

ـ الله المستعان .. ربنا يقدرنا يا حاجة،  .. الشهرية نصف ريال، .. ويلزمنا لوح صفيح.

أخرجت جدتي كيس نقودها، وفكت قِماطه .. ومنحته بعض ما أفاض الله عليها به .

قال الشيخ :

ـ ده كتير يا حاجة !!

قالت جدتي :

ـ ما يكترش عليك .. بعض خيرك يا أخويا .

أنثنى الشيخ وتناول من خلفه لوح من الصفيح، وثني أطرافه بعناية حتى لا تجرحني، وكتب عليه اسمي بقلم من البوص الأبيض، وهو من نوع أقل في جودته من البوص الأحمر .

وانصرفت جدتي بعد أن أوصته بي خيراً، .. بعد انصراف جدتي غاضت ينابيع الوداعة من وجه الشيخ، واختفت ملامح البشر، وحلت محلها ملامح تفيض غلظة وقسوة، وطارت الحمائم البيضاء عن عمامته، وتحومت حولها الغربان السوداء؛ لتنذر بالشؤم القادم في الغد الآتي وقال:

ـ قوم فز .. أقعد مع العيال .

ثم تناول من جانبه غصن من سعف النخيل الجاف، وهوى به على رؤوس العيال طالباً منهم أن يفسحوا لي مجلساً .. أنكمش الصغار كل يحاول أن يخفي رأسه، ويقي ذاته من بطش الشيخ بالاحتماء بجسد أخيه .. كان الشيخ يزوم ويههم بأصوات تدخل الخوف على قلوبنا الصغيرة .

كان سيدنا ـ هكذا كنا ندعو الشيخ ـ يكتب لنا آيات من قصار السور على لوح الصفيح بحبر مصنوع من "النيلة" الزرقاء أو "السخام" الأسود أو سناج لمبة الجاز "الهباب" .. وكان سيدنا يسّمع لنا ما في "الألواح"، فإذا تيقن من أننا قد حفظنا ما بها أسماها: "الماضي"، وسمح لنا بمسحها، وكتب آيات جديدة يقرأها علينا وأسماها: "الحاضر".

كانت طريقة مسح اللوح مقرفة ومقززة؛ إذ كنا نبصق على الألواح، وندعكها بالتراب، ونمسحها بطرف ثيابنا؛ .. فكنا نبدو دائما في هيئة مزرية وملابس متسخة، وكانت أيدينا شديدة الاتساخ!!

.. كان قضاء الحاجة في الكتاب أمراً غير أدمي بالمرة، وكان الصغار يطرقعون بأصبع السبابة وهم يشيرون إلى أسفل بما يعني طلب الإذن للذهاب لقضاء الحاجة وكان الأمر بالسماح يأتي من الشيخ بكلمة : "غور" أو "غور في داهية" أو "غور في ستين داهية"، .. وذلك حسب الرصيد المتاح لسيدنا من الدواهي .

كان مكان قضاء الحاجة حارة مهجورة ملاصقة للكتاب، تفوح برائحة النتن وتفيض بجيوش الذباب .

.. وكان المشهد برمته أكثر عبثاً وسوءاً عندما كانت تنفلت بعض الروائح الكريهة من بطون بعض الأطفال، فينبري الشيخ للتحري عن الجرم، وهو يشم بأنفه في الهواء  قائلاً : من فعلها ؟!

.. وينبري كُل لدفع الجرم عن ذاته قائلاً : مش أنا يا سيدنا !! ويتزيد بعض الصبية طالبين من الشيخ أن يشمهم، .. ولم يكن الشيخ يتورع أن يدس أنفه في فتحة ثوب أحدهم ليتيقن قبل أن يصدر حكمه بالبراءة أو الإدانة .

.. كانت ساعات الدراسة بالكتاب تبدأ مع شروق الشمس لتنتهي مع أذان الظهر .. وعندما كان يصيبنا العطش نشرب من واحدة من مجموعة القلل القناوي المتراصة التي أعدتها زوجة الشيخ .. والويل والثبور وعظائم الأمور لمن تسول له نفسه الاقتراب من الزير أو من قلة سيدنا .

لم أحب المكان وكرهت الشيخ .. كان كل شئ في المكان يرسم لوحة من فسيفساء لفلكلور التخلف والجهل والقهر وتشوهات النفس وعورات الوجدان؛ وكان كل ما يعَلمه ويُعلمّه الشيخ قائماً على إجادة الحفظ وبراعة الاسترجاع ولم يكن للفهم مكان !!..  فلم أفهم ما يقوله من طلاسم .. ولم أحفظ عنه شيئاً، حتى كانت الواقعة حين طلب الشيخ إلى تسميع "الماضي" ؛ فسكت، فطلب قراءة "الحاضر"؛ ولم أنطق، وتلعثمت،.. وصفعني الرجل، وسال الدم من أنفي، .. وأصبح بيني وبين الرجل ثأر، ودم مسفوك .

ورغم هذا اعتبرت نفسي من سعداء الحال والحظ مقارنة بما كان يلاقيه الأتراب؛ فبعضهم كان يعلق في "الفلقة"؛ فتنحسر عنهم أثوابهم، وتظهر عوارتهم، والرجل ماض في غيه يضرب أقدامهم في وحشية وبلا رحمة أو خجل!!  وبعضهم تدمى أذنه من جراء قرصة بحصاة احتفظ بها الشيخ .

***

دفع بي الشيخ إلى عريف الكتاب الأعمى محمد حسن عبد الله ليعيد على الحفظ .. أخذ العريف الأعمى يتحسس جيبي ليجد فيه بعض من طعام يشبع طفيليته، أو قطعة عملة من فئة التعريفة (خمسة مليمات) تسد دناءة طبعه؛ ليدلس لي عندنا سيدنا؛ فلما لم يجد دفع بي الشيخ قائلاً : لا يحفظ يا سيدنا.

.. وهم الرجل أن يضربني مرة أخرى ، لكني أفلت من بين يديه، مثل عصفور حبيس فر من قفص محبسه، .. وقبل أن أغادر المكان قبضت حفنة من تراب حثوتها في وجه الشيخ وعفرت بها لحية، وجن الرجل وأمر أطفال الكتاب أن يلحقوا بي، ويعيدوني إليه .. لكنني أطلقت ساقاي للريح حتي وصلت بيت جدتي.. وصممت ألا أعود إلى الكتاب .. ولم تفلح محاولات إعادتي .. رغم الوعود التي قطعها الشيخ على نفسه ألا يضربني .

في تلك الأيام تبينت لأول مرة في حياتي ملامح "زمن الخوف" .. في الوقت الذي كان العالم كله يطبق أفكار جون ديوي عن اقتران العملية التعليمية بالبهجة .. وأن "المدرسة للطفل .. وليس الطفل للمدرسة"، .. وكان تعليمنا مقترنا بالألم والخوف، ومع ذلك أعترف أنني التمست للشيخ والعريف أعذاراً كثيرة .. لكني لم أفلح أن أجد سبباً واحداً كافياً لاحترامهما؛ فمن لم يؤدبه القرآن؛ فلا مؤدب له .

.. وكانت تلك نهاية عهدي بالكتاب .. لتبدأ مرحلة جديدة من التعامل مع الأفنديات من المعلمين الحفاة "أصحاب الياقات المتسخة" في مدرسة "أبو صايمة" .


 ***
من كتابي " حكايات من زمن الخوف"