السبت، يوليو 29، 2017

ياسر بكر يكتب : السراج، و"الفنطاس"، وخالتي هنية !!



ياسر بكر يكتب : السراج، و"الفنطاس"، وخالتي هنية !!



 عندما كتبت عن رجال من قريتي "تلوانة" في كتابي بعنوان : "حكايات من زمن الخوف"، أبدى بعض بلدياتنا غضبهم مما كتبت، وقلت:

أولا : أنني لم أكتب عن تلك الشخصيات لذاتها؛ فقد جاء ذكرهم عرضاً في جريان نهر الكتابة عن "شهادتي على العصر" التي عرجت خلالها إلى "مذكرات القرية"، التي كنت جزءاً منها في سنوات الطفولة وميعة الصبا، فلما غادرتها في مقتبل سنوات الشباب أصبحت جزءاً من أيام العمر كله.

ثانيا : أنني لم أختلق واقعة لم تحدث، ولا حذفت واقعة حدثت. 

ثالثاً : أنني لم أتعود أن أغسل أحد من أوزاره، أو ألصق بأحد ما لم يفعله.

رابعاً : إن كنت قد أوردت بعض وقائع تستحق معاتبة بعضهم؛ فعلى فاعلوها أن يخجلوا منها، ومن أنفسهم، ويستغفروا ربهم عنها أحياء، أما من انتقل منهم إلى جوار ربه؛ فليسامحه الله، وليأخذ منها الأحياء العبرة والعظة، ويدركون أن السيرة تبقى بعد انتهاء العمر، .. ولا يتخذ البعض من عاره الشخصي ذريعة لمصادرة حق الآخرين في الكتابة .

خامساً : وهو الأهم، أنه عندما كتبت عن شخصيات استشعرت مشاعر سلبية تجاهها؛ فقد كتبت عن شخصيات أخرى أكن له الكثير من مشاعر الحب، وآيات الاحترام ومنها: عمي عبد الغني شبايك "السراج"، وعمي محمد البربري "الفنطاس"، وخالتي هنية التهامي بكر "الملاية"، وكتبت عن أمهاتنا وخالتنا وعماتنا الطيبات الصابرات اللائي حافظن بثقافة الفطرة على البيئة وقدمن لنا قرية نظيفة على عكس ما رأيته من وجه شائة في زيارتي الأخيرة (يونيو 2014) من تراكم أكوام القمامة، وطفح بيارات الصرف الصحي، وسُدت الترع بالقمامة، ومخلفات البلاستيك، وفاحت برائحة النتن عكس أيام زمان . 

***

 زمان .. كانت شوارع القرية ضيقة وملتوية .. لكنها كانت نظيفة فقد اعتادت القرويات رش المياه والكنس أمام باب الدار؛ لما ترسخ في أذهانهن من أن نظافة مداخل الدور من الأمور التي تجلب البركة وتوفر الرزق .

.. وكانت النفايات التي يتم جمعها كلها منافع؛ فكانت تستخدم كوقود لأفران الخبيز، والكوانين "مواقد الطبيخ الطينية"، وتدفئة القاعات، وتسخين الماء في الشتاء .

.. وأسهمت القرويات الفقيرات في نظافة الشوارع من باب المنفعة المتبادلة؛ حيث كن يقمن بجمع روث الماشية من الطرقات، وتجفيفه في شكل أقراص مستديرة لبيعها وقوداً للأفران؛ فأسهمن في إعادة تدوير المخلفات بما يحقق نظافة الشوارع، ويضمن لهن أيضا في ذات الوقت ما يكفيهن ذل السؤال . 

وكان ماء الترع عذباً وصافياً ورقراقاً وكان يحظى بقداسة هي خلاصة اختلاط رقائق الحضارات في مصر على مدى التاريخ، تلك القداسة التي عصمته من الاجتراء عليه؛ لما ترسخ في ثقافة القرويين من أنه : "ملعون من لوث النهر .. ملعون من أفسد على الناس مشربهم"، وأن من أفسد الماء يؤتى به يوم القيامة ليصلح برموش عينيه ما أفسده، وما هو بمستطيع؛ بما يجعله في عذاب مُقيم .

.. وكانت شوارع القرية تضاء بمصابيح الكيروسين في فوانيس متباعدة مثبتة في حوائط البيوت في غير الليالي القمرية فقط .. حيث يتولى عامل وحدة الشئون الاجتماعية عم عبد الغني شبايك الذي كان يشغل وظيفة "السراج" أو "المشاعيلي".

كان السراج يطوف بالقرية مرتين يومياً حاملاً سلماً خشبياً صغيراً، مرة قبيل أذان المغرب ليسرج المصابيح، ومرة أخرى في الصباح بعد شروق الشمس ليطفئها، وينظف بنورتها، ويذودها بالكيروسين.

كان عم شبايك يؤدي عمله في صمت وصبر، ودون أن يأبه بمشاغبات أطفال الناحية من خلفه، وهم يرددون الأغنية :

"عفريت الليل بسبع رجلين..
 وعيونه سود فحم العود..
وسنانه بيض من أكل الدور".

.. وكان في تلوانة أربع صنابير مياه عمومية، أثنان منهما بالناحية الغربية، وأثنان في الناحية الشرقية .. كان حارس الصنبور بمنطقة "كوبري السرود" القريب من دارنا عم محمد البربري الذي كان أهلنا في تلوانة يطلقون عليه لقب "الفنطاس"، كانت كلمة "الفنطاس" تطلق على خزان المياه، ثم لم يلبث أن انسحب ذلك الأسم ليصبح لقباً لعم محمد .

 .. كان عم محمد "الفنطاس" يقيم بشكل دائم صيفاً وشتاءاً، وليلاً ونهاراً إلى جوار صنبور الماء، وكان يسترزق مما تقدمه له القرويات من طعام، وما يتعطف عليه به أهل البر من كساء وغطاء .

لكن الرجل الذي ضعف بصره، وانحنى ظهره لم يكن يسلم من مشاكسات بعض صبية القرية؛ فكان يهرع ورائهم بعصاه قائلاً عبارته المشهورة مخاطباً المارة :

ـ "إمسك .. يسترك.". 

فإذا لم يجد إجابة لطلبه أردف هامساً لنفسه ومعزياً لها عن خيبة الرجاء قائلاً :

ـ " فلت، وجري .".

حتى صارت العبارة : "إمسك .. يسترك، .. فلت ، وجري ." من العبارات التي يتناقلها البعض على سبيل التندر للتعبير عن كوميديا الموقف.

كان المستورون من أهل القرية يستخدمون "الملاية" لجلب الماء من الصنبور العام مقابل أجر شهري،  كانت "الملاية" هي البديل النسائي لمهنة السقاء لاعتبارات العرف الريفي، وكانت "الملاية" تنقل الماء إلى أهل الدار في جرة من الفخار تحملها فوق رأسها على حاشية من طوق قماش ملفوف يسمونه "لواية" أو "حواية".

.. كانت ملاية دارنا خالتي هنية التهامي بكر "أم ابراهيم"، كانت خالتي هنية ممشوقة القوام، مستوية القامة، عفية تمشي الهوينا تحت ثقل جرة المياه .. وكانت عزيزة النفس رفضت أن يعولها ابناها، وآثرت أن تأكل لقمتها من كدها وعرق جبينها .

.. يرحم الله الجميع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق