الثلاثاء، أغسطس 08، 2017

ياسر بكر يكتب : تأملات في المكان .. وأحوال الناس!!



ياسر بكر يكتب : تأملات في المكان .. وأحوال الناس!!

الكاتب الصحفي ياسر بكر

.. هناك في تلوانة .. كان المولد، والنشأة الأولى .. تلوانة قرية صغيرة في جنوب الدلتا في محافظة المنوفية، وتتبع إداريا مركز الباجور الذي تأسس عام 1947 بعد ضم بعض من قرى مراكز منوف وأشمون وقويسنا إلى قرية الباجور التي كان عمدتها الحاج محمد أبو حسن أحد العمد التاريخيين الذين وردت أسمائهم في كتاب:"رحلات الخديو في بر مصر" حيث يروي الكتاب وقائع زيارة الخديو عباس حلمي الثاني للعمدة الحاج محمد أبو حسن في قرية الباجور، وكيف قدم حضرة العمدة لجناب الخديو ساعة ذهبية ثمينة صنعها خصيصا لتلك المناسبة صائغ أرمللي بالقاهرة، وكيف وقف رشاد أفندي أبو حسن ابن حضرة العمدة بين يدي جناب الخديو المعظم، وألقى قصيدة عصماء من تأليفه في مآثر وأفضال جنابه في السرادق الضخم الذي أقيم بالباجور. 

.. ألصقت صفة "المدينة" بقرية الباجور دون أن يكون لها سمة واحدة من سمات المدن، وصار المركز الوليد يضم مدينة واحدة وهي الباجور، وهي مدينة شديدة التواضع، ويغلب عليها طابع "الترييف" شأن كل بنادر الأرياف، إضافة إلى 47 قرية، و106 عزبة .

سميت الباجور بهذا الاسم نسبة إلى التسمية التاريخية للقرية القديمة "بيجور"، وعلى مر الأيام تم تحريف الأسم ليصبح "الباجور"، وإبان  دراستي في مدرسة الباجور الثانوية المشتركة أخبرنا أحد المدرسين المتحذلقين أن اسم الباجور مشتق من كلمة فرنسية :"Pas Jour"  وتعني :"ولا يوم"؛ لأن جيش نابليون واجه عندما مر بها مقاومة شرسة من أهلها، فلما أخبره أحد ضباطه بضرورة إراحه الجنود يوما أو يومين في هذا المكان؛ أجابه نابليون : "Pas Jour  ولا يوم".

وهو كلام شديد السذاجة، فإذا افترضنا أن اسم "الباجور" قد أُطلق عليها مرتبطاً بتلك الواقعة التي تعود إلى ما بين يوليو 1798 وأغسطس 1799 (فترة بقاء نابليون في مصر)؛ فماذا كان اسم المكان قبل ذلك التاريخ ؟!

ثانياً : أنه لم يثبت تاريخيا من تتبع خط سير جيش نابليون في مصر أنه مر بتلك المنطقة .

ثالثاً : أنه لم يثبت ثمة دور للمنوفية كلها في مقاومة الغزاة؛ فالثابت تاريخيا أن بعضاً من عائلات المنوفية الضالعة في الخيانة والموالية للغزاة كانت تمهد الطريق أمامهم، والأمثلة كثيرة في بطون كتب التاريخ، .. وأن حادثة دنشواى التي اتخذتها المحافظة عيداً قومياً ومن مفردات أحداثها شعاراً لها كانت حادثاً عفويا، وكان يحمل سمات المشاجرة وليست المقاومة، وقد قام محمد حبيب عمدة زاوية الناعورة ـ مركز الشهداء بأحقر الأدوار في مساعدة الإنجليز في تجهيز أدلة إدانة الأهالي الذين علقوا على المشانق في دنشواى، تلك الأدلة التي صاغها في قالب قانوني المحامي ابراهيم الهلباوي ممثل الادعاء. 

تقع قرية تلوانة في غرب مركز الباجور، وتحدها قرية شنشور جنوبا وقرية فيشة الصغرى شمالا، وقرية بى العرب شرقا، وقرية هيت غربا، وتبلغ مساحة القرية 1290 فدان و15 قيراط .

والقرية بطبيعتها شأن كل القري المصرية ظلت مقترنة بثالوث التخلف الإنساني (الفقر ـ الجهل ـ لمرض) بما جعلها طاردة للسكان، وجعل أبنائها يرون أن الخروج منها يمثل لهم الخروج من الجحيم؛ فمن خرج من العناصر الواعدة لم يفكر في العودة؛ لانتشال الأخرين أو محاولة الأخذ بأيدهم؛ فبقي الجحيم جحيماً .. وازدادت نيران سعيره حين لم يتبقى على مزاود القرية سوى "أشرار البقر".

  ..وجغرافيا القرية ذات طبيعة منبسطة، وهو ما منح البشر فيها سمات تقترب من هذه الطبيعة فهم هادئون ربما بسبب الحضور الدائم للخضرة والماء واعتدال المناخ، ولكنهم غير مباشرين، وملتوون مثل الطرق التى يسيرون عليها، والترع التي يشربون منها ويسقون حقولهم وبهائمهم، وهو ما يطلق عليه "خبث الفلاحين" الذى يفتقد المباشرة فلابد من لزوم ما يلزم من التمهيد بما يدغدغ المشاعر، والمقدمات الطويلة والديباجات المنمقة، والكلمات الفضفاضة والممطوطة التى يكون هدفها المداهنة للحصول على منفعة دون عطاء.

ولم ينتج ذلك الفكر الملتوي سوى أخلاق أكثر التواء أورثتهم فقراً بين أعينهم لا يفارقهم، وعلى تلك الحال قامت الكثير من الجرائم "غير المنظورة" التي رصدتها أبحاث المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، والتي ارجعتها الدراسات إلى عدم تهذيب الغرائز، وعدم الالتزام بقيم الصدق والحق، وشهادة الزور والغلول وأكل حقوق الناس بالباطل والجور في المواريث، والكيد والتأمر لجلب منفعة، أو دفع ضرر محتمل أو عقاب مستحق أو تهرب من أداء حق واجب وتبرير ذلك ـ من وجهة نظرهم ـ  بأنه ينطوي على المهارة والحذق في التعامل ويبلغ حد الكياسة والحكمة والرشد.

.. ويتدوال البعض المقولة: "المنوفي لا يلوف (لا يألف) .. لو أكلته لحم الكتوف (الأكتاف)." بمعنى أنهم لا يألفون الناس؛ للطعن في قيم الوفاء عند المنايفة وإلصاق إحدى صفات المنافقين بهم، وعند تأصيل تلك المقولة، وجدنا أن الأصل في إطلاقها يرجع إلى نساء القاهرة من الأمهات في الأحياء الشعبية القريبة من الجامع الأزهر حيث يسكن الطلاب المجاورون، وكانت تتولى أسر تلك الأحياء رعاية المجاورين من طلاب الأزهر وتخفيف أثار الغربة عنهم على أمل تزويج إحدى بناتها من أحد علماء المستقبل أو المشايخ أو قضاة الشريعة، وكانت حيلتهن تفلح مع كثيرين منهم من أبناء المحافظات الأخرى،  لكنها في أغلب الحالات تفشل مع المنايفة الذين كانوا يحصدون المنفعة في وقتها بانتهازية سافرة وعارية من قيم النخوة والرجولة ودون أدنى حد من مراعاة فضائل الشرف والأخلاق والصدق، وفي النهاية يفضلون العودة إلى قراهم والزواج منها ممن هن على شاكلتهم، ومن نفس نسيج قطعة ثوبهم عملاً بموروثهم الثقافي : "خذ اللي من توبك"!!

.. ويتداول المنايفة في تفسيرهم لتلك المقولة رواية ثانية يرجعونها إلى العصر المملوكي بشأن شهادة حق عن جريمة قتل في مواجهة إغراءات بشهادة الزور .. وهي رواية افتقدت التوثيق ولم يدعمها سند من أقوال الرواة أو الإخبارين فضلاً عن تناقض وعدم اتساق مسار السرد في تلك الرواية!!

.. وتظل العبارة : "المنوفي لا يلوف.. لو أكلته لحم الكتوف." في مسارها كطلقة طائشة مجهولة المصدر .

..  ومع ذلك لا يمكن قبول تلك المقولة الشعبية على عواهنها؛ فهي شأن الكثير من مثيلاتها تندرج تحت مصنف الموروثات الشعبية المتداولة والمتواترة تقع في خطأ التعميم .. فطبائع الأمور تؤكد دائما وجود الاستثناء .. والاستثناء يثبت خطأ القاعدة اللهم إذا كان لدى الباحث إشكالية الانحياز الكامن لفكرة ما في النموذج الادراكي .

***

.. وللحديث شجون و بقية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق