ياسر بكر يكتب : أبي إمام افندي
أبي إمام افندي بكر |
أبي إمام افندي بكر من مواليد سنة 1898م، وهو ابن الشيخ إبراهيم اسماعيل
إمام بكر تاجر الغلال بتلوانة، وابن الحاجة فرح يوسف غيث .
جده إمام بكر الكبير صاحب "عزبة إمام بكر" بناحية البيشة
مركز منوف، وهو أحد ضباط الجيش المصرى فى عهد الخديو اسماعيل.
أبي أحد علماء الأزهر الشريف؛ ومعلم قريتنا تلوانة وشيخها، حيث حصل على شهادة العالمية سنة 1922 ممهورة
بتوقيع وخاتم فضيلة شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوي.
ومنذ ذلك التاريخ حمل أبي لقب فقيه ومعه شارة
العلماء، وبدأت رحلته في البحث عن عمل في ظل تضييق المستعمر الإنجليزي على توظيف
خريجي الأزهر ضمن خطة أعدها مكتب المخابرات البريطانية في القاهرة لإشعارهم
بالهوان وأنهم عملة بائرة في سوق العمل مع التوسع في توظيف خريجي الجامعة الأهلية،
ومدارس الإرساليات الأجنبية .
وفي ذات الوقت أطلقت يد المبشرين في ممارسة أنشطتهم
في حماية مظلة قانون الامتيازات الأجنبية.
وقد استغل المبشرون إنشاء المكتبات لبيع
الكتب في الظاهر ولتكون ستاراً لأدارة أعمال التبشير واستجلاب الزبائن ودعوتهم
لاعتناق المسيحية، والدعوة لاستعمال العامية بدلا من الفصحي لغة القرآن الكريم،
وبدأت الدعوة لاستبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني .
في وسط تلك الأجواء بدأت معاناة أبي الشاب حامل
شارة العلماء في ظل الهوان الذي كانت تلاقيه مؤسسة الأزهر على يد المبشرين،
وأعوانهم من الماسون.
كان نشاط الإرساليات التبشيرية يشكل تهديداً مباشراً للمجتمع المصري، وزاد
من الأمر سوءاً أمران :
أولهما : دخول المبشر صموائيل زويمر إلي صحن الأزهر ونشر دعاية دينية
مسيحية إذ وزع بالأزهر عدة رسائل لتك الدعاية .
ولم يقتصر الأمر على هذا؛ فبعد فترة من الوقت عاود زويمر الكرة بالذهاب إلى
الأزهر مع ثلاثة من الأجانب ودخلوا إلى حلقة درس الشيخ سرور الزنكلوني أثناء شرحة
سورة "براءة" ووزع على الطلاب في سرية ثلاث رسائل عنونت الأولى بعنوان:"دعوة
إلى القبلة القديمة"، والثانية بعنوان :"شرح أسماء الله الحسنى"
والثالثة بعنوان : "تفسير أية الكرسي"، والرسالتان الأخيرتان متضمنتان
تفسير بمعنى ما هو وارد في التوراة والإنجيل، وأهاج ذلك طلبة الأزهر .. لكن
المشايخ نصحوهم بالهدوء !!
الأمر الثاني :
ـــــــــــــــــــــ
بعد احتلال أنجلترا مصر .. توافد على مصر مثل الجراد الملايين من صعاليك
ورعاع أوربا، ولم يسكنوا المدن فقط بل انتشروا في القري والكفور والنجوع يبيعون
الحلوى والشاي والسكر والدخان والملوحة والسمك المجفف (البكالاة) وعلب السردين واللحم
المعلب (البلو بيف) والذهب والقماش والخمر ويقيمون المقاهي والخمارات، ويستجلبون
العاهرات، وينشرون الدعارة ويقرضون بالربا الفلاحين المولعون بالفسق مقابل صكوك الدين
النافذة بأمر الأداء والتي تنتهي بانتزاع ملكية الأراضي من أغلبهم !!
ولا يمر سنة أو سنتين على الأكثر حتى يصبح هؤلاء الرعاع ملاك للأراضي،
ويتحكمون في رقاب أولاد البلد الذين أصبحوا أجراء لديهم!!
.. وكان هؤلاء الرعاع تابعين للمخابرات البريطانية ينقلون لها المعلومات عن
أحوال الناس في تلك القري والنجوع، ويتلقون عنها التعليمات لإحكام السيطرة على
البلد المحتل .
كانت المخابرات البريطانية تدير تلك المنظومة القذرة، وتدبر لها الأموال
اللازمة من خلال جباية "البدل العسكري"؛ فكان أبناء الميسورين يدفعون
مبلغ 40 جنيهاً بدلاً عن عدم أداء الخدمة العسكرية تؤدى إلى خزينة المحتل
ليستخدمها في إدارة منظومة استخباراتية تستخدم الرعاع الأوربيين من اليهود
والنصارى، وتسخرهم في جمع المعلومات!!
وكان هؤلاء الصعاليك يتوددون إلى القرويين من السذج الذين سرعان ما يسقطوا
في فخاخهم، ويصبحون هدفاً سهلاً لأطماعهم، وكان هؤلاء القرويين يطلقون عليهم لقب:"الخواجات"
لكن هؤلاء "الخواجات" كانوا يثيرون حنق المتعلمين، وريبتهم، ويشعرونهم
بالضيق؛ .. فقد كان المتعلمين يعرفون أن وراء المظهر البائس لهؤلاء الرعاع مخبر
ردئ ويدركون وضاعة وسائلهم!!
.. لم يكن أبي متهافتاً على الوظيفة؛ فلديه الكثير مما تدره تجارة أبيه من
أرباح، وما تغله الأطيان من عائدات بما يكفيه ويغنيه، لكنه كره أن يظل بلا عمل،
وزاد من ضيقه أنه لن يستطيع إنفاذ إتفاق أبيه مع شريكه في التجارة الشيخ أحمد عبد
الله بتزويجه ابنته فاطمة، وانعقدت الخطبة بقراءة الفاتحة.
لكن سرعان ما أتى فرج الله، وفي سبتمبر 1924 حصل أبي على وظيفة معلم بإحدى المدارس
الأولية بمدينة بورسعيد، بمرتب شهري 120 قرشاً؛ فتزوج وسافر مع عروسه (خالتي
فاطمة) إلى هناك، وبدأت عجلة الحياة تدور، وخلع أبي الزي الأزهري، واستبدله
بالملابس الإفرنجية، وتخلت العروس عن الملابس الريفية وبدت في هندامها الأنيق وكأنها
إحدى أميرات الأساطير أو وردة بلدية في أناقة فرنسية من تيور رمادي وغطاء رأس أنيق
أقرب إلى الشابو الباريسية .. ساعدها في ذلك جمالها الهادئ وذكاؤها ورقيها الفطري.
وفي 20 ديسمبر 1925 رزقهما الله بمولودهما الأول أخي محمود.
.. وعندما عاد أبي في أجازته الصيفية، ولم يكن منزل الأسرة يلائم حياة
المدن التي اعتادها؛ فأقترح جدي بناء سراى له، ولضيق الوقت أرتآى أبي شراء سراي
الخواجة كرياكوس أرتين، ولكن جدي أعترض لكون أحد غرف السراي خمارة يرتداها السكارى
وراغبو شراء زجاجات "منقوع البراطيش" من برميل بنايوتي، لكن أبي أقنعه
أن الأماكن تطهر بنظافتها، ولا مانع من ختم القرآن والصلاة جماعة في المكان قبل
سكناه .. وراقت الفكرة جدي وشرع في إجراءات الشراء.
كانت السراي
أقرب إلى طراز الأرت نوفو Art
Nouveau وكانت أشبة
بسرايات حى الحلمية بالقاهرة وكان طراز (الأرت نوفو Art Nouveau أي الفن الجديد ) قد ظهر هذا الطراز المعماري
في أوربا بين عامي 1890 ـ 1910 كجزء من مناهضة المادية ومجتمع الصناعة وسيطرة
الآلة؛ ولهذا حاول هذا الفن محاكاة خطوط الطبيعة لذا نجد أن خطوط الأرت نوفو طويلة
متموجة، وعادة ما تأخذ شكل الزهور والأجنحة وخمائل العنب وأشياء أخرى رقيقة، وقد
بدا ذلك واضحاً في الزخارف الشجرية للترسينة (الشرفة) وزخارف إفريز خشب الأسقف.
ولذا فمن المرجح أن السراى التي صارت دارنا بنيت في الفترة ما بين عامي 1890
ـ 1910 م أو بعد ذلك بقليل .
كان قارب حياة أبي يسير في هدوء بين ضفتي الأيام والليالي، وظل ينتقل مع
زوجته من مدرسة إلى أخرى ومن مدينة إلى مدينة؛ فعمل في مصر المحروسة في مدرسة أمير
الصعيد الابتدائية، وانتهى به المطاف في مدرسة قريتنا وفي سراياه، ولكنها الحياة
لا تخلو من منغصات؛ فقد مرضت زوجته (خالتي فاطمة) وانتقلت إلى رحاب الله في سنة
1947 تاركة له ثمانية من الأبناء (4 أولاد، و4 البنات)، وافتقد أبي البهجة في
حياته وأصبح دائم الوجوم .. حزينا .. مهموماً .. زاهداً في الحياة .. عازفاً عن
الطعام، وافتقد أناقه هندامه، ولم يعد في أكثر الأوقات حليقاً أنيقاً .
.. وزادت أحزانه بوفاة شقيقه الوحيد عمي إسماعيل تاركاً خلفه أربعة بنات صغيرات،
وولد دون سن الرشد .. كانت أرملة عمي مبروكة عامر تأمل في الزواج منه خاصة أن
كلاهما أرمل ويعول، وقد جرى العرف في الريف أن يتزوج الأخ أرملة أخيه ويتولى تربية
الأيتام؛ فلما لم تجد منه استجابة عمدت إلى إغاظته؛ فتزوجت من أحد خدم العائلة .
وتفاقمت المأساة بوفاة زوج عمتي توحيدة؛ فجاءت مع طفلتها لتعيش معنا.
وفي مواجهة الانهيارات المتتالية في كيان الأسرة، وضعف مقومات رعاية
الأبناء اقتراح عواقل العائلة أن يتزوج أبي شقيقة زوجته الراحلة، وبعد أخذ ورد،
ومشاورات، ومناقشات بين مؤيد ومعارض، تزوج أبي شقيقتها (أمي) في سنة 1948.
كانت أمي فتاة ريفية صغيرة السن؛ فلم تستطع ملئ الفراغ الذي خلفته خالتي
فاطمة (يرحمها الله) في حياة أبي؛ فكانت أوجاع النفس هي القاسم المشترك في طعم أيامه،
ولونها ، ورائحتها، وأصبحت أيامه كلها ساعات انتظار ليلحق بخالتي فاطمة (يرحمها
الله).. حبه الوحيد، .. وراح يلتمس الصبر والتصبر والمصابرة والسلوى في التصوف.
وأخذ أبي العهد على يد شيخ السجادة العفيفية، وأصبح من أتباع الطريقة
العفيفية التي أسسها الشيخ عبد الوهاب العفيفي كأحد روافد الطريقة الشاذلية، نقلا
عن ابن عطاء الله السكندري عن أبي العباس المرسي عن القطب الغوث أبي الحسن الشاذلي
.
كان الشيخ عبد الوهاب العفيفي
المدفون بقرافة المجاورين بالدراسة يعود بأصوله إلى بلدة مجاورة لنا، وهي قرية
منية عفيف (ميت عفيف).
كان أبي يتلو
الأوراد، ويواظب عليها
لاعتقاده أن لكل شيخ ورده الذي جعل الله فيه مدده وسره وسر طريقته، فمن ترك ورده؛
فقد نكث عهد شيخه، ومن ترك ورده انقطعت عنه الأمداد في ذلك اليوم.
وهو ما ذكره الشيخ في قصيدته المسماة
بـ "البرقية" التي أنشدها في زيارة صحراوية لسيدي أبي الحسن الشاذلي
في جبل حميثرة بصحراء عيذابات بصحراء مصر الشرقية وقال في مطلعها:
يا برق قبل
وصولنا لحميثرا *** بلغ سلام العاشقين معطراً
واشرح لهم حالي وطول تلهفي *** ومدامعي تجري
عقيقاً أحمرا
وقد ورثت عن أبي نسخة من مخطوط بعنوان
: "قدوة السالكين القطب الكامل سيدي عبد الوهاب العفيفي" تأليف العارف
بالله تعالى سيدي عبد الرحمن القريني الشاذلي، وتوجد نسخة أخرى منه في مكتبة الملك
سعود بالرياض تحت رقم 218 \ س . ق
كان شيخ السجادة العفيفية يحضر إلينا مرة كل عام؛
فيخرج المريدون لاستقباله عند قرية بير شمس بالركائب والبيارق والرايات الخضراء والطبول
والصاجات والدفوف والإنشاد ليدخل إلى قريتنا في زفة من فوق حصان.
بعد أن يفرغ
الشيخ من طعامه .. كان الصبية من أبناء المريدين يتسابقون بالإبريق والطست
والمنشفة لغسل أيدي الشيخ .. كان الشيخ يمنح كل منهم قطعة من النقود من فئة الريال
الفضة، وكان المريدون يحتفظون به ولا ينفقونه؛ فهو بركة من الشيخ وسيكون ـ بإذن
الله ـ خميرة الثراء المقبل ببركة الشيخ .
كان شيخ السجادة يحضر إلى دارنا لإقامة حضرة
(جلسة ذكر)، وفي الليلة التالية يتم عمل حضرة أخري في بيت الحاج عبد الهادي صالح،
وينصرف الشيخ إلى حال سبيلة وسط دموع المريدين الذين يقبلون يديه تبركاً،
ويستحلفونه ببركة جده رسول الله ألا ينساهم في الدعاء والنفحات.
.. ولم يطل
الأمد بأبي كثيراً؛ فلقي وجه ربه في 9 ابريل 1957 م، الموافق 10 رمضان 1376 هـ عن
تسعة وخمسين عاماً.. وكنت طفلا في الثانية والنصف من سنين العمر.
***
صفحات من كتابي : "حكايات من زمن الخوف"
***
صفحات من كتابي : "حكايات من زمن الخوف"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق