السبت، أكتوبر 26، 2019

ياسر بكر يكتب : لمصر والحقيقة .. لا للأقـباط !! (الحلقة الأولى)


ياسر بكر يكتب : لمصر والحقيقة .. لا للأقـباط !!

(الحلقة الأولى)

بعد نشر مقالي بعنوان : "البابا .. والرئيس !!" انهال علىّ سيل من الرسائل اتخمت بريدي الالكتروني بتساؤلات بعضها منطقي .. وبعضها ينطوي على عدم الفهم والإصرار على خلط الأوراق وإلصاق بعض الإشكاليات بالإخوة الأقباط والتي حدثت في ظروف تاريخية بالغة الالتباس والتعقيد، كان خلط الأوراق واضحاَ لأسباب سياسية مصلحية تتعلق بالعراك السياسي تحت عباءة الدين .. كان الغبار الذي يثيره بعض الذي خرجوا علينا من كهوف العصور الوسطى مرتبطاً بإلقاء الاتهامات جزافاً عن تعاون أفراد من القبط مع المعتدي، وإثارة حكاية ما اطلق عليه زوراً "الحروب الصليبية"، ودور الاستشراق في الكيد للإسلام والتشكيك فيه والإساءة لنبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وعن مطاعن بعض الرهبان في بعض آيات القرآن الكريم!!

.. وكان الكثير من الشتائم والسخائم ما يعف اللسان عن ذكرها .. لا بأس؛ فقد تعودنا على هذا، ونذرنا من عرضنا بعض صدقة .

.. كانت كل جريمتي أنني أوضحت في المقال أن المسيحية هى التي حمت الإسلام في سنواته الأولى، وقدمته للدنيا كلها !!

.. وأمام عظم المسئولية قررت مناقشة الأمر بهدوء، وبشكل علمي وبالوثائق لمن يريد الاطلاع والفهم :


أولا ـ الحروب الصليبة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بداية دعونا نتفق على ثلاثة أمور :

أولا : لا يمكن فهم ورصد أي حدث إلا من خلال منظور يهتم بـ "السببية التاريخية" .

ثانيا : أنه لا يمكن في أغلب الأحداث التاريخية فهم الحدث في علته الأولي، فغالباً ما تختفي الأسباب الحقيقية خلف الشعارات البراقة والمبررات والحجج الزائفة التي يصعب رفضها وتلقى قبولاً شعبيا !!

ثالثاً : لم يحدث أن ظهرت كلمة صليبى فى نعوت الحملة،  وكان من يشارك فى الحملة يوصفون بأنهم "حجاج"، وكان يطلق على الحملة "رحلة الحج" .. صحيح أن البابوية هي التي دعت للحملة وسوغت للرعاع أسبابها ولكن لأسباب أخرى !!

.. ففي الأطوار للحملة  الأولى خلت عناوين مؤلفات المؤرخين الأوربيين من ذكر كلمة "الصليبين " أو "الحملة الصليبية" ، وأنما دارت الكتابات حول "الحملة" و"حجاج بيت المقدس"، و"الفرنج"، وأن الكلمة الأنجليزية Crusade" حملة صليبية" لم تستخدم سوى فى القرن الثامن عشر فقط، وبعد أن كان البحث التاريخي في تلك الحروب قد أمضى شوطاً طويلاً حين بدأ توماس فوللر Tomas Fuller الإنجليزى في القرن السابع عشر أول دراسة باللغة الإنجليزية القديمة حول حروب أوربا في الشرق الإسلامي بعنوان : "تاريخ الحرب المقدسة History Of The Holy Ware" ومن الملاحظ أنه استخدم عبارة "الحرب المقدسة" .

.. وبرغم من فشل تلك الحملات إلا أنها تحولت بمرور الوقت ـ تحت تأثير وسائل الإعلام التي عملت في خدمة الاحتلال الأوربى فى نهب ثروات الشعوب ـ  إلي مثال براق يوحي بالشجاعة والتضحية ونبل القصد وسمو الغاية تخلى الحكايات من الحقيقة التاريخية لصالح التعويض النفسي لتلك الظاهرة التي كانت تمثل في حينها حلماً من أحلام الفقراء، ولعل هذا ما جعل مؤرخا مثل نورمان كانتور يقرر أن الحادث الوحيد الذي يعرفة الخريج العادي من الجامعات الأمريكية عن العصور الوسطى هو "حملة الرعاع" التي بدأت أحداثها سنة 1095 م والتي يرسم لها صورة براقة آخاذة، وهذا الموقف ينسحب على الفرد العادي في الغرب

.. وفي المراجع العربية التى تناولت تلك الحروب نجد أن المؤرخين المسلمين الذين عاصروها وكتبوا عنها مثل (ابن القلانسي وابن الأثير وابن العديم وابن واصل وابت شداد والعماد الأصفهاني والمقريزي وابن تغربردي وبدر الدين العيني وغيرهم) لم يستخدموا أبداً مصطلحات مثل "الصليبين" أو "الحملة الصليبية"، وأنما تكلموا عن تلك الغزوات بعبارات مثل "حركة الفرنج" لا يربطون بينها وبين المسيحية والصليب على أى نحو!!

.. وفي كتاب وليم الصوري المسيحي لم ترد كلمة صليبية او لفظة صليب فقد كان مؤلفه بعنوان:"تاريخ الأعمال التي تمت فيما وراء البحرThe History Of Deed  Done Beyond The Sea ويعد وليم الصوري المسيحي واحداً من أعظم مؤرخي العصور الوسطى لما توافرت له من أدوات الكتابة التاريخية لإتقانه اللاتينية والفرنسية واليونانية وإلمامه بالعربية إلى جانب ما كان تحت يده من الوثائق ما يجعله مبرزاً في الكتابة التاريخية وحجة عصره؛ فقد شغل من المناصب ما جعله جزء من الأحداث التي يؤرخ لها؛ فقد كان مشرفاً على ديوان الرسائل في بلاط مملكة بيت المقدس.

..  والحقيقة أنا لا أعلم لماذا أطلقت الهيئة المصرية العامة للكتاب على مترجم وليم الصوري مسمى "الحروب الصليبية" الذي نشرته في سلسلة "تاريخ المصريين ـ العدد 45" بالمخالفة لعنوانه الحقيقي الذي صاغه المؤلف والذي نقله المترجم د . حسني حبشي بعنوان : "تاريخ الفرنجة وحجاج بيت المقدس"، ولا أعلم أيضا إن كان خطأ غير مقصود أم نفخ في جذوة الفتنة الكامنة تحت الرماد أم لأسباب تتعلق بتنشيط التوزيع أو إنها "خيانة لأمانة الترجمة"؛ فمع توقف البحث التاريخي في العالم العربي بفعل الركود الثقافى .. ومع محاولات النهوض التي بدأت مع إنشاء الجامعة المصرية كان لابد لأوائل الدراسين أن يتأثروا بالفكر الأوربي وفي إطار هذا التأثر ـ بوعي  أو بغير وعي ـ تمت ترجمة بعض المصطلحات واستعيرت تقسيمات التاريخ الأوربى كما سادت الرؤية الاستشراقية .. وهو ما أوقع الدراسين والباحثين الذين لم تترسخ أقدامهم بعد في البحث العلمي في شباك  الترجمة عن الأوربيين؛ فوقعوا في خطأ النقل غير الواعي وبدأوا يستعملون مصطلح "صليبي" و"حملة صليبية" في تناولهم للحدث الذي درج أسلافهم علي معالجتهم تحت مسمى "الفرنج" و"حركة الفرنج" .. ووجة الخطورة أنه عندما يستخدم فى اللغة العربية مصطلح "صليبي" و"حملة صليبية" فإنه يوحي بأن الحركة كانت دينية ترتبط بالصليب رمز الميسحية ولا تضعها في إطارها الصحيح باعتبارة مغامرة استيطانية وهجرات شعوبية همجية غاشمة، وأن استخدام هذا المصطلح يسئ إلي إخواننا المسيحيين الشرقيين الذين عانوا مثل إخوانهم المسلمين من وحشية الفرنج وعدوانهم !!

.. وأيضا استخدم الأستاذ أمين معلوف مسمى "الحروب الصليبية" في عنوان مؤلفه :"الحروب الصليبية كما رأها العرب" رغم أنه لم ترد في مخطوطات المؤرخين العرب لفظة "صليبي" ولم يتحدث هؤلاء المؤرخين عن "حروب صليبية" بل عن حروب وغزوات أفرنجية، وقد كتبت الكلمة التي تدل على الإفرنج بأشكال مختلفة باختلاف المناطق والمؤلفين والأزمنة : فرنج ، فرنجة، إفرنج، إفرنجة .

الأسباب الحقيقية للحملات :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت تلك الحملات التي دعت إليها البابوية نتاج افراز لتفاعل فساد الكنيسة الأوربية والإقطاع، وكان كليهما يستشعر الخطر الذي يهدد وجوده من "ثورة الجياع"؛ فقد قضى النظام الاقطاعى بأن تعيش الغالبية العظمى من الفلاحين والأقنان والعامة تحت سيطرة أقلية من الأمراء والفرسان الإقطاعيين، وتولت البابوية تخدير العامة بخرافات طمعاً في ملكوت الرب في مملكة السماء، لكن تلك الخرافات لم تعد ذات جدوى للبطون الجائعة والأجساد العليلة خاصة بعد انتشار الوباء المخيف الذى يأكل أطراف البشر "مرض الجذام" الذي أطلق عليه الأوربيين حينها اسم "نار القديس أنطونيو ".

والمعروف أن النظام الإقطاعي في أوربا قام في العصور الوسطى على أساس تملك الأرض بحيث صارت مكانة كل أمير أو فارس بما يتحكم فيه من أرض وصار يقال أنه: "لا سيد بدون أرض".. لكن ظروف النظام الإقطاعي تطورت وأدت إلى وجود نسبة كبيرة من الفرسان والأمراء بدون أرض؛ لأن القانون الإقطاعي حرص دائماً على عدم تجزئة الإقطاعيات بين الورثة ونص على أن تكون الأرض من نصيب الأبن الأكبر وحدة دون بقية الأبناء ولذلك أسرع هؤلاء للانضمام للحملات من أجل جاه دنيوي ومكاسب سياسية، من نهب أراضي الشرق التي تفيض لبناً وعسلاً  !!

أما عن الحج فهو ليس فريضة دينية في المسيحية مثلما الحال في الإسلام إلا أنه نوع من الجذب العاطفي نحو الأرض التي شهدت حياة السيد المسيح، وإن كان للحج بقصد التوبة قيمته العملية إذ كان يرغم المجرمين وأصحاب الذنوب على الابتعاد عن المجتمع عدة شهور وقد تصل إلى عدة سنين عسى أن تصل بهم إلى الهداية والسلوك القويم أو يهلكون في عرض البحر أو في مسالك الطرق ويستريح المجتمع من شرورهم.

في مخطوط  ليبنيز بعنوان :"المخطوط السري لغزو مصر" الموجود في مكتبة الأرسينال بباريس قال ليبنيز: (أخبرنا "الأسير الملهم" أننا إذا كنا نريد الشرق؛ فمفتاحه مصر .. لابد من البدء بغزو مصر) .

أشارت بعض حواشي ومذيلات بعض المؤرخين ـ والله أعلم ـ إلى أن "الأسير الملهم" هو قراقوش وزير صلاح الدين وهو مسلم سني ..

لسنا في مجتمع الملائكة، .. فقد خان أمانة الوطن بالتعاون مع المعتدي بضع نفر من الأقباط وبضع نفر من المسلمين أيضا تحت غواية المصلحة، لكن السواد الأعظم من شعوب الشرق مسلميه ومسيحييه عانوا من وحشية الفرنج واكتووا بنيران عدوانهم، .. ودافعوا عن بلدانهم بحمية وشرف في  تلك الحروب التي فرضت على شعوب المنطقة ان يدفعوا ثمناً فادحاً  للدفاع عن بلادهم، وكانت سبباً  رئيسياً من أسباب تعطل قوى الإبداع والنمو في الحضارة العربية، وأدخلت المنطقة في منحنى الأفول والتدهورالذى أدى إلى سقوطها تحت السيادة العثمانية!!

لمزيد من المعلومات اقرأ : 


الثلاثاء، أكتوبر 22، 2019

ياسر بكر يكتب : البابا والرئيس !!


ياسر بكر يكتب : البابا والرئيس !!

البابا شنودة والرئيس السادات .. علاقة متوترة
في بداية السبيعنيات من القرن الماضي لم يكن هناك وفاق بين البابا شنودة والرئيس السادات بعد حادثتي إحداها في الإسكندرية وأخرى في الخانكة أشارت تقاير الجهات السيادية إلى تورط البابا شنودة في بعض تداعياتهما.. وأراد السادات أن يثير القلاقل بين البابا شنودة وشعب الكنيسة، فأرسل السادات الأستاذ رجاء النقاش رئيس تحرير مجلة الهلال لينقل للبابا أن القيادة السياسية تعرض عليه كتابة مقال شهري في المجلة، ورحب البابا . 

واقترح الأستاذ النقاش أن يكون المقال الأول بعنوان : "المسيحية من وجهة نظر الإسلام"، وفطن البابا شنودة للفخ المنصوب، وبهدوء قال:

ـ ده مقال يكتبه أحد الأخوة الأفاضل شيوخ الأزهر فهم أدرى مني بما جاء في الإسلام عن المسيحية على أن أكتب مقالاً أخر بعنوان "الإسلام من وجهة نظر المسيحية".

.. وأسقط في يد الأستاذ النقاش، وتوقف العرض، وصلت رسالة البابا إلى الرئيس الذى فهم من مضمونها أن الإيقاع برجل في مثل حنكته ليس بالأمر الهين.


.. واستمرت اللعبة القديمة الجديدة .. تطفو وتغطس .. ويمارسها الكثيرون لأغراض مشبوهة بين حين وآخر على مدى التاريخ للنيل من وحدة شعب مصر الذي لم تفرق بينه المعتقدات على مدى أكثر من 1400 سنة، والتي يصر الغرب على ممارستها بمسميات مختلفة في أثواب مخابراتية وتحت ما أطلقوا عليه :"حوار الأديان"؛ فالأديان تتكامل ولا تتحاور؛  وأخيراً "وحدة الأديان"؛ لخلق نماذج مشوهة من العقائد، ودون فهم لخصوصية كل دين، وأن الأديان كلها غايتها واحدة وسبلها متعددة؛ "فشرع من قبلنا شرع لنا ما لم  ينسخه ناسخ." .. وكل يرفع يديه إلى السماء يطلب من الله الرحمة والبركة والعون والرزق.

.. وأنا لا أفهم حتى هذه اللحظة لماذا يصر البعض على إغفال دور المسيحية الأولى في حماية الإسلام وتقديمه للدنيا كلها ؟!!

.. ولماذا يغفل البعض دور الراهب بحيرا الذي حمى النبي محمد صلى الله عليه وسلم طفلاً عندما قدم النصح لعمه أبو طالب بالعودة بالطفل من حيث أتى خشية أن يصبه أذى اليهود ؟!!

.. ولماذا يغفل البعض ان ورقة ابن نوفل الحبر النصراني الذي بشر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأزال الرهبة والخوف عن نفسه الشريفة؟!!


.. ولماذا يغفل البعض دور الفتى عداس الذي ضمد جراح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسقاه الماء وقدم إليه الفاكهة عندما أوقع سفهاء الطائف الأذى به ؟!!

.. ولماذا يغفل البعض دور الملك النجاشي ملك الحبشة المسيحي الذي لا يظلم عنده أحد في نصرة المهاجرين من المسلمين المستضعفين؟!!

.. ولماذا يغفل البعض الحديث عن الأدب الراقي للمقوقس عظيم القبط في مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم رداً على دعوته له للدخول في الإسلام بقوله :

"بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد : فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقى، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك (وكان قد دفع له مئة دينار وخمسة أثواب) وبعثت لك بجاريتين لهما مكان عظيم وهما مارية وسيرين، والسلام عليك".

ولم يزد على ذلك، ولم يسلم، وظل على النصرانية؛ فقبل رسول الله هديته، وتسرى بإحداهن وهي مارية فولدت له ابراهيم، وأهدى الثانية إلى حسان بن ثابت.

.. المسيحية هى التى حمت الإسلام وقدمته للدنيا كلها؛ فاحترموا عقائد إخوانكم ومشاعرهم؛ فمفتاح الحياة "عنخ" رمز فرعوني من قبل الأديان، وقد وُجد مرسوماً على غلاف مخطوطات "نجع حمادي"* في رمز للمسيح الحي - بروحه - التي لا تموت؛ فلا داعي للإغراق في التافهات، .. "التنطع" أهلك من كان قبلكم !!

.. الدين للديان جل جلاله لو شاء ربك وحد الأقوام .


لمزيد من المعلومات اقرأ : 


الخميس، أكتوبر 17، 2019

يوميات الغرفة 7023، د. عفاف جمعة ـ الفصل الثاني( خيالات غرفة العمليات)


الفصل الثاني :
ــــــــــــــــــــــــ

خيالات غرفة العمليات




لم أكن أتوقع أن ما أدونه من كتابات للتنفيس عن مكنونات النفس يمكن أن يرقى إلى مستوى التجربة العالية التي تمس الوتر الإنساني، وتكشف البعد الاجتماعي، وتزيح الغطاء عن عورات مجتمع !!.

.. بدأت تجربة التدوين Blogging بعد إحالتي للمعاش لبلوغي السن القانونية، وعندما بدأت دائرة الحياة تخلو من مفردات وأشخاص وأعمال وتفاصيل كثيرة اعتدتها على مدى عقود من الزمن، .. ومع الفراغ والوحدة بدأ يظهر لي من العطب الاجتماعي ما كان خافياً علىّ من جحود البعض ونكران الأخر !!

.. ولتخفيف الحالة التي يطلق عليها : جذوة (المشاعرالوهّاجة) أقترح علىّ زوجي أن أدون يومياتي لتكون الكتابة أحد وسائل التخفيف عن النفس مثلها مثل الموسيقى والرسم والتريض والفضفضة والمسامرة، .. وبدأت التجربة على مضض أفعل أحيانا .. وأغفل عنها في كثير من الأحيان !!

.. و(المشاعرالوهّاجة) هى منطقة العواطف من الوجدان  التي تسقط إليها الأفكار غير المبهجة من العقل فتثير مشاعر الغضب والحزن والضيق والملل والأسى وتخلف رواسب في اللاوعي تتسبب في تغير التركيب الكيمائي للدم بما يحرق الأعصاب والعقل والقلب وسائر أعضاء الجسد، ويمضي تاركاَ بصمة الحريق السوداء على الجسد والعقل والقلب والوجدان !!

بعد فترات من المواظبة على التدوين .. وفترات أخرى غير قصيرة من إهماله أصبح التدوين بالنسبة لي عادة أهرع إليها لتخفيف متاعب الأيام .

.. فقد اكتشفت في التدوين Blogging فوائد كثيرة أهمها تسليط الضوء على البقع المعتمة في حياتنا الخاصة .. وأنه عندما توضع الكثير من التفاصيل على مائدة الأوراق فإنك بسهولة ودون مشقة تستطيع اكتشاف العلائق بين الأشياء وفهم روابط الصلات بين الأشخاص والأفعال وتفاعلاتها وروابط العلة والمعلول !!

عندما تسلل المرض إلى كياني طلبت من زوجي أن يقرأ لي بعض ما كتبت .. كان يقرأ الفقرات ويتوقف فيما بينها .. كان يضحك تارة .. ويعتذر لي تارة أخرى عن بعض الأفعال والكلمات غير المقصودة، وينحني ليقبل يدي ورأسي، وأحيانا يبتسم في أسى قائلاً :

ـ ده أنت قلبك أسود أوي !!.


.. كان زوجي يعرف أنها "المشاغبات الناعمة"، وسرعان ما كنت أسترضيه ؛ فيرضى .


قلت له ذات مرة : "ما فائدة هذه التدوينات .. إنها أشبة بالغناء في الحمام !! اسمعته أذني فقط"، كان زوجي لا يرحب بالنشر في البداية، وقال لي رأيه الذي نقلته في صدر مقدمة هذا الكتاب، لكن أمام رغبتي، ولما قدمته من حيثيات الإقناع وافق، وقال :


ـ ".. إن شاء الله ستقرأها الدنيا كلها .. سأصدرها إن شاء الله في كتاب أنيق؛ إنها تجربة إنسانية عالية القيمة تمس أوتار النفوس، وتلمس شغاف القلوب، وتثري التجربة الإنسانية بما فيها من لحظات قوة وضعف وإحباط ونجاح وصواب وخطاً وفرح وحزن وغضب ورضاء.".


.. كنت أعرف من طول سنوات العشرة أن زوجي رجل كلمته، وأنه إذا قال فعل .


كانت تجربة العلاج والخدمة والمستشفيات هي التجربة الطاغية ذات الحضور الطاغي على صفحات التدوينات ربما لأنني عشت 38 سنة تقريبا في تقديم العلاج والخدمة في المستشفيات، وكنت متلقية للخدمة على مراحل منفصلة، .. وأخيراً في مرحلة متصلة على مدي الـ 6 سنوات الأخيرة .

.. ولأنه يوجد في حياة كل منا ما يمكن أن نطلق عليه (الحدث الطاغي) كان ذلك الحدث في رحلة تلقي العلاج منذ عشرون سنة تقريباً عندما شعرتُ بالإجهاد وفقدان بعضاً من الوزن وسرعة في ضربات القلب والعرق يتصبب منى بغزارة ولا أستطيع النوم وشخص الأطباء الحالة على أنها فَرْط نشاط الغدة الدرقية Thyroid وإفرازها لكمية كبيرة من هرمون الثايروكسين Thyroxine، وقرر الأطباء أن العلاج يستلزم إجراء جراحة لإزالة الغدة بأكملها أو جزء منها، ولأن تلك الجراحة تندرج تحت ما يسمى الجراحات الدقيقة فقد ذهب زوجي للاتفاق مع أ. د . أمير ناصف المتخصص في إجراء هذه العمليات، ودخلت إلى المركز الطبي للمقاولون العرب للإجراء الفحوصات اللازمة، وهو مبني شديد الأناقة فوق قمة الجبل الأخضر المطل على القاهرة من تحت قدميه .

كان المستشفي مفندقاً طبقاً للقواعد التي أرساها الخبراء الألمان الذين تم الاستعانة بهم في إنشاء هذا الصرح الطبي، وكان الشيف يأتي كل صباح ليعرض علىّ قائمة الطعام المسموح بها لأختار من بينها ما يروقني، وكانت النظافة والتعقيم وحسن المعاملة عنواناً كبيراً على المكان.

ومع بدء عملية التخدير لإجراء الجراحة بدأت "خيالات غرفة العمليات" Imaginations Anesthesia .. ومرت على ذهني الكثير من الأحداث والصور والتصورات والأوهام والتوهمات والخيالات والمتخيالات .. رأيت أبي فضيلة الشيخ جمعة على جمعة (يرحمه الله) في صدر الغرفة يرتدي ملابس الأطباء .. كان النور يشع من وجهه و ينبعث من صدره ليملأ جنبات المكان .. راح يمسح على صدري، ويقرأ في خشوع وبصوت ندي :

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30)، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)

صدق اللَّهُ العظيم



(سورة الصافات)



 .. ورأيت نفسي طفلة صغيرة بضفائرها وأبي يمسح على شعري، ويربت على ظهري في حنو، كنت أستشعر حالة من القشعريرة تدفعني إلى الارتماء في حضنه الدافئ, وكنت أجد الدفء والسكينة والاطمئنان في لفحات أنفاسه، كان يُخرج من جيب ثوبه الأزهري حلوى الفندام والبنبون .. يداخلني إحساس بالأمان والرضا . 

في خيالات الطفلة الصغيرة ذات الضفائر المربوطة بالفيونكات سال الدم من أنفي .. احتضنتني أمي رسمية عبد الحي الخولي (يرحمها الله)، واصطحبتني إلى الحمام، وأزالت ما علق بي وبملابسي .. تحت الرشاش استمتعت بخدر الماء الدافء .. مشطت أمي شعري وجدلت ضفائري وألبستني ثوباً أبيضاً قشيباً، ورشت علىّ من طيب عطرها!!

في الخيالات أيضا رأيتني شابة رائعة الجمال في أبهى زينتها وأثمن حليها ترتدي ملابس العرس البيضاء؛ وفجأة يخرج كلب عقور ليمزق قطعة من ملبسها .. تسقط قطعة من جسدي تبتلعها الأرض .. يضمني أبي ويخلع علىّ عباءته !!

يُهدئ أبي من روعي .. يحضر لى ثوباً أبيض أبهى وأغلى وأثمن .. أصلحت من هندامي  .. وأكملت زينتي .. يأتي زوج شقيقتي سمير محمد بوشناق (يرحمه الله) ليقدم لي وردة بيضاء قائلاً :

ـ إنها الأيام .. نطقها بالفرنسية Ce est la vie.

ويمضى سمير في طريق طويل تحفه أشجار السوسن والتمر حنة والياسمين والفل والريحان بعطر أريجها وضوء القمر يتخلل ظلالها في مشهد لا تبدعه إلا يد الخالق، كان لسمير مكانة في قلب أبي (يرحمهما الله)؛ فكان لا يناديه إلا بـ ( صهري العزيز) .

.. في الخيالات رأيت أخي الصغير يمتطي مهرة عرجاء لا تصلح عنصراً للمكايدة التي يبغيها؛ .. يثير عجزها وصهيلها البائس السخرية أكثر مما يبعث على الشفقة .. كأن أخي لا يكف عن ممارسة مضايقاته .. يحارب الوهم بسيف خشبي .. تذكرني تُرَّهاته بخزعبلات "المارشال على" أشهر المجاذيب المجاورين لضريح سيدنا الحسين!!

.. في الخيالات أيضا رأيت أبي يجلس في شرفة بيتنا مع صديقه فضيلة الشيخ ابراهيم جلهوم إمام وخطيب مسجد سيدتنا الطاهرة السيدة زينب (يرحمهما الله)؛  .. قال الشيخ ابراهيم لأبي :

ـ أزف إليك بشارة المسجد الزينبي : اصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا، .. وتلا الآية الكريمة :) ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) .

وانحنى يقبل يد أبى ويلثم جبينه، وبادله أبى التحية بأحسن منها فقبل يده وقبل رأسه قائلا :

ـ العفو يا مولانا .

ومضى فضيلة الشيخ ابراهيم جلهوم إلى هناك تحوطه هالات نورانية وذاب في نبع النور.

عفوا .. إنها خيالات غرفة العملياتImaginations  Anesthesia !!

***

في غرفة الإفاقة صحوت على صوت زوجي يربت على يدي، ويلثم  جبيني قائلاً:

 ـ الحمد لله على السلامة .. شفاء وطهور .. ترقية وتنقية إن شاء الله.

.. وفتحت عيني لضوء النهار .