الأربعاء، يوليو 12، 2017

ياسر بكر يكتب : كُتّاب شيخنا الرفاعي !!



ياسر بكر يكتب : كُتّاب شيخنا الرفاعي !!

ياسر بكر .. طفل الكتاب

وُلدت ضعيف البنية .. مُعتل الصحة .. هكذا شاءت إرادة الله، كان الأهل يحطونني برعاية خاصة، .. إلى كان يوم اشارت إحدى الجارات على أمي أنه حان الوقت للالتحاق بالكُتّاب، وأفاضت في مزايا الاختلاط بالأنداد، ومشاركة الأتراب لعب الطفولة، وأثره في كسب الصحة، وما يعجل به من اجتلاب العافية .. ولم تكذب أمي الخبر .. وفي الصباح اصطحبتني جدتي لأمي الحاجة أم ياسين إلى قريبها الشيخ منصور الرفاعي أحد أصحاب الكتاتيب في درب السجاعية بقريتنا تلوانة .. عندما لمحها الشيخ أدرك قرب الفرج؛ فقام إليها مرحباً وأجلسها على الفروة بجواره، وأجلسني إلى جانبه، وراح يتلطف معي .. قالت جدتي : هذا حفيدي .. ابن الغالي يرحمه الله ـ وذكرت اسم أبي ـ .. أثنى الرجل على ذكرى أبي، وعلمه وأدبه وفضله وقرأ الفاتحة لروحه، وطلب لها الرحمة، .. ودمعت عيناي .. قالت جدتي:

ـ أريد أن يتعلم على يديك مثل أخواله .

قال الشيخ :

ـ الله المستعان .. ربنا يقدرنا يا حاجة،  .. الشهرية نصف ريال، .. ويلزمنا لوح صفيح.

أخرجت جدتي كيس نقودها، وفكت قِماطه .. ومنحته بعض ما أفاض الله عليها به .

قال الشيخ :

ـ ده كتير يا حاجة !!

قالت جدتي :

ـ ما يكترش عليك .. بعض خيرك يا أخويا .

أنثنى الشيخ وتناول من خلفه لوح من الصفيح، وثني أطرافه بعناية حتى لا تجرحني، وكتب عليه اسمي بقلم من البوص الأبيض، وهو من نوع أقل في جودته من البوص الأحمر .

وانصرفت جدتي بعد أن أوصته بي خيراً، .. بعد انصراف جدتي غاضت ينابيع الوداعة من وجه الشيخ، واختفت ملامح البشر، وحلت محلها ملامح تفيض غلظة وقسوة، وطارت الحمائم البيضاء عن عمامته، وتحومت حولها الغربان السوداء؛ لتنذر بالشؤم القادم في الغد الآتي وقال:

ـ قوم فز .. أقعد مع العيال .

ثم تناول من جانبه غصن من سعف النخيل الجاف، وهوى به على رؤوس العيال طالباً منهم أن يفسحوا لي مجلساً .. أنكمش الصغار كل يحاول أن يخفي رأسه، ويقي ذاته من بطش الشيخ بالاحتماء بجسد أخيه .. كان الشيخ يزوم ويههم بأصوات تدخل الخوف على قلوبنا الصغيرة .

كان سيدنا ـ هكذا كنا ندعو الشيخ ـ يكتب لنا آيات من قصار السور على لوح الصفيح بحبر مصنوع من "النيلة" الزرقاء أو "السخام" الأسود أو سناج لمبة الجاز "الهباب" .. وكان سيدنا يسّمع لنا ما في "الألواح"، فإذا تيقن من أننا قد حفظنا ما بها أسماها: "الماضي"، وسمح لنا بمسحها، وكتب آيات جديدة يقرأها علينا وأسماها: "الحاضر".

كانت طريقة مسح اللوح مقرفة ومقززة؛ إذ كنا نبصق على الألواح، وندعكها بالتراب، ونمسحها بطرف ثيابنا؛ .. فكنا نبدو دائما في هيئة مزرية وملابس متسخة، وكانت أيدينا شديدة الاتساخ!!

.. كان قضاء الحاجة في الكتاب أمراً غير أدمي بالمرة، وكان الصغار يطرقعون بأصبع السبابة وهم يشيرون إلى أسفل بما يعني طلب الإذن للذهاب لقضاء الحاجة وكان الأمر بالسماح يأتي من الشيخ بكلمة : "غور" أو "غور في داهية" أو "غور في ستين داهية"، .. وذلك حسب الرصيد المتاح لسيدنا من الدواهي .

كان مكان قضاء الحاجة حارة مهجورة ملاصقة للكتاب، تفوح برائحة النتن وتفيض بجيوش الذباب .

.. وكان المشهد برمته أكثر عبثاً وسوءاً عندما كانت تنفلت بعض الروائح الكريهة من بطون بعض الأطفال، فينبري الشيخ للتحري عن الجرم، وهو يشم بأنفه في الهواء  قائلاً : من فعلها ؟!

.. وينبري كُل لدفع الجرم عن ذاته قائلاً : مش أنا يا سيدنا !! ويتزيد بعض الصبية طالبين من الشيخ أن يشمهم، .. ولم يكن الشيخ يتورع أن يدس أنفه في فتحة ثوب أحدهم ليتيقن قبل أن يصدر حكمه بالبراءة أو الإدانة .

.. كانت ساعات الدراسة بالكتاب تبدأ مع شروق الشمس لتنتهي مع أذان الظهر .. وعندما كان يصيبنا العطش نشرب من واحدة من مجموعة القلل القناوي المتراصة التي أعدتها زوجة الشيخ .. والويل والثبور وعظائم الأمور لمن تسول له نفسه الاقتراب من الزير أو من قلة سيدنا .

لم أحب المكان وكرهت الشيخ .. كان كل شئ في المكان يرسم لوحة من فسيفساء لفلكلور التخلف والجهل والقهر وتشوهات النفس وعورات الوجدان؛ وكان كل ما يعَلمه ويُعلمّه الشيخ قائماً على إجادة الحفظ وبراعة الاسترجاع ولم يكن للفهم مكان !!..  فلم أفهم ما يقوله من طلاسم .. ولم أحفظ عنه شيئاً، حتى كانت الواقعة حين طلب الشيخ إلى تسميع "الماضي" ؛ فسكت، فطلب قراءة "الحاضر"؛ ولم أنطق، وتلعثمت،.. وصفعني الرجل، وسال الدم من أنفي، .. وأصبح بيني وبين الرجل ثأر، ودم مسفوك .

ورغم هذا اعتبرت نفسي من سعداء الحال والحظ مقارنة بما كان يلاقيه الأتراب؛ فبعضهم كان يعلق في "الفلقة"؛ فتنحسر عنهم أثوابهم، وتظهر عوارتهم، والرجل ماض في غيه يضرب أقدامهم في وحشية وبلا رحمة أو خجل!!  وبعضهم تدمى أذنه من جراء قرصة بحصاة احتفظ بها الشيخ .

***

دفع بي الشيخ إلى عريف الكتاب الأعمى محمد حسن عبد الله ليعيد على الحفظ .. أخذ العريف الأعمى يتحسس جيبي ليجد فيه بعض من طعام يشبع طفيليته، أو قطعة عملة من فئة التعريفة (خمسة مليمات) تسد دناءة طبعه؛ ليدلس لي عندنا سيدنا؛ فلما لم يجد دفع بي الشيخ قائلاً : لا يحفظ يا سيدنا.

.. وهم الرجل أن يضربني مرة أخرى ، لكني أفلت من بين يديه، مثل عصفور حبيس فر من قفص محبسه، .. وقبل أن أغادر المكان قبضت حفنة من تراب حثوتها في وجه الشيخ وعفرت بها لحية، وجن الرجل وأمر أطفال الكتاب أن يلحقوا بي، ويعيدوني إليه .. لكنني أطلقت ساقاي للريح حتي وصلت بيت جدتي.. وصممت ألا أعود إلى الكتاب .. ولم تفلح محاولات إعادتي .. رغم الوعود التي قطعها الشيخ على نفسه ألا يضربني .

في تلك الأيام تبينت لأول مرة في حياتي ملامح "زمن الخوف" .. في الوقت الذي كان العالم كله يطبق أفكار جون ديوي عن اقتران العملية التعليمية بالبهجة .. وأن "المدرسة للطفل .. وليس الطفل للمدرسة"، .. وكان تعليمنا مقترنا بالألم والخوف، ومع ذلك أعترف أنني التمست للشيخ والعريف أعذاراً كثيرة .. لكني لم أفلح أن أجد سبباً واحداً كافياً لاحترامهما؛ فمن لم يؤدبه القرآن؛ فلا مؤدب له .

.. وكانت تلك نهاية عهدي بالكتاب .. لتبدأ مرحلة جديدة من التعامل مع الأفنديات من المعلمين الحفاة "أصحاب الياقات المتسخة" في مدرسة "أبو صايمة" .


 ***
من كتابي " حكايات من زمن الخوف"



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق