ياسر بكر يكتب : أمي .. شلبية
هانم !!
والدتي .. السيدة / شلبية أحمد عبد الله |
عندما صدرت مجموعتي القصصية الأولى (سبتمبر
1990) بعنوان: "حكايات تافهة جداً"، كان الإهداء :
( إلى صــــفاء
.. هذا ما بقي منك، .. ومني
.. ذكرى شاحبة بـ "لون الموت"
.. و"حكايات تافهة جداً "!! .) .
توقفت أمي أمام كلمات الإهداء، وحملقت بعيداً
في سقف صحن الدار، وقالت دون أن تنظر إلىّ :
ـ هل تحبها ؟!!
قلت :
ـ القلب الذي دقه الحزن .. لا يعرف الحب .
قالت :
ـ تتحدث كما لو كنت في سنوات حطام الشيخوخة
!!
قلت :
ـ تحاملت الأوجاع على القلب حتى أمسى مثل
ثمرة الكمثرى المعطوبة.. وأصابني مرض السكر.
قالت دون أن تنظر إلىّ :
ـ .. لا يأتي السكر إلا من مرارة الأيام،
ولكن ليس في حوادث الأيام ما يستحق الاهتمام، .. كلها عابرة .. وفي ظروف عابرة !!
قلت :
ـ دائما ما تكون الغصة في لحظة انحسار الروح،
وانكسار القلب عندما يضيع الحلم .. كانت مفردات الحلم تجمع من مشاهد الخيال الكثير،
.. منها ما هو بين أحضان الحبيبة، وبعضها عن بيت هادئ تشع جدرانه بالدفء، ورائحة الطبيخ،
وطفل جميل اسميناه في حلمنا المشروخ "كريم"، وبنوتة رقيقة مثل زهرة
الياسمين تلهو بعرائسها في ركن هادئ اسميناها في خيالينا المتوهم "كريمة"
تيمنا باسم "الخالة الحماة" .
قالت
:
ـ كريمة ؟!!، .. لماذا كريمة ؟!!، ولمَّ لا
تكون "شلبية" ؟!!
قلت ضاحكاً :
ـ لأن القلب لا يتسع لأكثر من "شلبية
هانم" واحدة . . هى الحب كله .
.. وبضحكة تفيض عذوبة قالت :
ـ آاااه منك آاااه .. كل الصحفيين "بكاشين"،
.. و"أونطجية" . . لا أعرف لماذا اسموني "شلبية"؟!!
قلت :
ـ كان عندهم رؤية ثاقبة .. اسم على مُسمى،
"شلبية" كلمة تركية .. تعني البنت الجميلة .. الذكية .. اللطيفة الخصال
والشمائل .. عرفت أنهم كانوا محقين يا "شلبية خانو"؟.
ـ قالت : " خانو ؟!!"
ـ قلت : خانو تعني "هانم"وتستخدم
للتدلل والتحبب.
.. وبدت على ملامحها إمارات الرضا .
.. في فواصل الزمان من لحظات الصفاء، ..
وساعات الرضا .. كنت أضع رأسي على ساقها، .. ويبدأ الحوار التقليدي المُعاد عن
شعيرات بيضاء اكتشفتها في شعر رأسي، وهي تعبث بخصلاته .. تبدأ في عدها .. شعرة ..
دول أثنين .. خمسة .. دول كتير .. ضرب الشيب رأسك !! .. بلغت من العمر أرذله.. أنا
لا أتذكر متى ولدتك !!
كنت أجيبها : لكن أنا فاكر !!
تتساءل : متى ؟!
أقول : لقد ولدت سنة حفر "البحر
الفرعوني" .. البحر الفرعوني مصرف مجاور لقريتنا، .. وقد أطلق عليه أهلنا في
تلوانة "البحر الأعمى"، وكان الأهالي يعتمدون عليه في غذائهم من الأسماك
الملوثة .
تقول بلهجة لا تخلو من مشاغبة ناعمة :
ـ .. أعتقد أنك تظن البحر الأقدم من ذلك !!
.. كنت أغني لها أغنية فيروز :
"البنت
الشلبية عيونها لوزية
حبك من قلبي يا قلبي انت عينيا"
حبك من قلبي يا قلبي انت عينيا"
كانت تسعدها تلك الحوارات، .. وكان بعض المقربين من القادرين على
إفراز السموم، وحقنها يسعون لإفسادها، .. لكن مساحات بيضاء جمعت بيننا ساعدتنا على
تجاوز الصغائر، .. والعفو عن كثير .
***
تصفحت أمي أوراق مجموعتي القصصية "حكايات تافهة جداً"، وتوقفت عند
القصة القصيرة التي حملت عنوان : "امرأة من سلالة فرعون" .. قرأتها . . ثم أعادت قرأتها ثانية .. ثم قالت :
ـ هذه أنا ؟!
قلت :
ـ جائز !!
.. كانت القصة القصيرة عن حالة امرأة اتشحت بالسواد بعد وفاة زوجها،
وصارت تبالغ في إظهار القوة، وإعطاء الانطباع أنها امرأة قدت من صخر الجبال، ..
وفي المقابل أبدت شحاً في مشاعر الضعف الإنساني، وبدت متوجسة لا ترى في اللغة المتداولة
ثمة نقاء إلا في "لغة الأرقام".
قالت أمي :
ـ قصة جميلة .. لكن خانك التوفيق في اختيار العنوان : "امرأة من سلالة فرعون" .. ولو
واتتك فرصة الأختيار مرة
ثانية لوجدت من الأوفق أن يكون العنوان : "ابن جاحد"!!.
قلت :
ـ أعدك .
.. كانت العبارة الأخيرة في القصة القصيرة :
" أمي امرأة مثل بقية نساء العالم .. هل تصدقون ؟! أمي تبكي ..
هل رأيتموها ؟! .. سقطت دمعة ساخنة على وجهي أيقظت مشاعر كنت أظنها ماتت من سنين،
وألهبت أحاسيس كنت قد نسيتها .
***
في المستشفى العسكري جاءت أمي لزيارتي بعد إصابتي في قدمي أثناء تأدية
الخدمة العسكرية .. لم أستطع مغالبة مشاعري .. فرت دمعة من عيني، .. وقالت أمي بحزم
:
ـ لم يُخلق الرجال للبكاء .. خُلق الرجال للزود عن الشرف، .. وحماية
الأرض، وصون العرض.
.. وشردت للحظة .. توارى فيها وجه أمي لتحل مكانه صورة وصوت سيادة
العقيد أركان حرب محمد صلاح الدين قائد كتيبتنا بهندامه العسكري الأنيق، وقسمات وجهه
الوسيم التي تفيض بالبشر، والبياض ،وتشع نوراً، وصوته الأجش الهادر بالثقة، والحزم، والقوة، وهو
يبث فينا الحمية في طابور العلم، كانت نبرات صوت سيادته تختلف عن صوته خاشعاً، وهو يرتل القرأن في حفرة خندقه .
عدت من لحظة الشرود .. ونظرت إلى وجه أمي، وأديت التحية العسكرية قائلاً
:
ـ تمام يا افندم .
على سماع صوتي جاءت الرقيب نادية عبد الحميد الممرضة العسكرية،
وسألتني:
ـ بتأدي التمام لمين يا عسكري ؟!
أشرت إلى أمي وقلت :
ـ .. لسيادة القائد الأعلى يا افندم .
أدت الرقيب نادية التحية العسكرية لأمي، وطبعت قبلة على خدها، وانصرفت
ضاحكة، .. وقد أشاعت في المكان حالة من المرح .
قالت أمي ضاحكة :
قالت أمي ضاحكة :
ـ كلكم بتظبطوني (لفظة عامية مشتقة من اسم ضابط، وتعني: إضفاء صفات
حضرات السادة الضباط على شخص مدني)، ربنا
يظبطكم، ويعلي مراتبكم .
.. وانطلقت الضحكات من القلب صافية، ورقراقة.
***
على سرير أبيض في جناح خاص بمستشفى الهلال الأحمر بالقاهرة جلست أمي
.. كان الوهن قد دب في جسدها .. كانت يد خشنة تعتصر قلبي .. كنت أحس برفرفة أجنحة
الموت في المكان؛ .. فاندفعت نحوها مثل قطعة من معدن اجتذبها قطب مغناطيسي .. قبلت
رأسها ويديها وقدميها، .. وغادرت دون أن أنظر خلفي .. وكان اللقاء الأخير .
***
***
صفحات من كتابي ( حكايات من زمن الخوف )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق