ياسر بكر يكتب : أفراح بطعم
الحزن، ولون الدم !!
السهم يشير إلى الأستاذ ياسر بكر في أحد الأفراح الريفية بقرية تلوانة |
لا أعرف لماذا لم يفارقني أبداً الشعور
بأن أيام الفرح في قريتنا هي ساعات مختلسة من "زمن الخوف"؛ فإذا ضحكنا
من القلب توجسنا الشر، وقلنا : "اللهم اجعله خير"، وأن ليالي الفرح
دائماً متبلة بطعم الحزن، ولون الدم .
كانت عادات الزواج في القرية بسيطة تبدأ بالخطبة
وتقديم الشبكة التي تتفاوت قيمتها بتفاوت المكانة الاجتماعية والحالة الاقتصادية
للعروسين بين عُقد من الكهرمان، أو عُقد من الذهب أو الفضة يطلق عليه البعض
"كردان" أو "لبة" بدور واحد أو بعدة أدوار، أو قرط ذهبي على
شكل هلال كان أهلنا في تلوانة يطلقون عليه "الحلق المخرطة" لتقارب شكلي
الهلال و"مخرطة الملوخية"، أو سوار من الذهب أو الفضة يطلق عليه البعض
"غويشة" أو أكثر، أو خلخال من الفضة أو من الذهب .
ثم يقبض ولي العروس مهرها قبيل العقد
ليبدأ في إعداد شوارها "جهازها".. كان الشوار بسيطاً ويتكون من صندوق
خشبي لحفظ الملابس يحمل على جنباته صوراً من رسوم شعبية لعنتر وعبلة، وخضرة
الشريفة، وأبو زيد الهلالي، ومرآة زجاجية في إطار خشبي، وبعض الأغطية، وأواني الطبخ، وحشية ووسادة من القطن
للنوم يقوم المنجد بصنعهما .. تتناغم دقاته بالدقماق على وتر القوس مع غناء النسوة بأغاني التنجيد :
يا منجد علّي المرتبة
عروستنا حلوه مؤدبة
يا منجد علّي المرتبة
عروستنا ناعمه غُريِّبة
يا منجد علّي المرتبة
اعمل
حساب الشقلبة
كان للموسرين من أهل القرية مسلك آخر
في تجهيز الشوار يقترب أحيانا من عادات أهل البنادر، لكن كان يجمع بين الفقراء والموسرين زفة جهاز العروس
الذي تحمله الجمال، والتي كان يتقدمها بنغمات مزماره الشيخ راشد عبد الجليل يصاحبه
بإيقاع طبلته عم بدوي السرساوي ماسح الأحذية بأغنيته الشهيرة :
" أه يا دلال يا وله
والعمدة خالك يا ولة
أه يا دلال يا وله
والباشا عمك يا وله "
كانت تلك الكلمات لا تتغير سواء كان
خال العروس عمدة أو أجيراً أو كان عمها باشا أو كلاف ماشية !!
فإذا ما نفحه أحد أقارب العروس على
سبيل النقطة تعريفة (عملة من فئة 5 مليمات)، أو قرش صاغ غير نغمة المزمار، وردد
الكورس من ورائه:
"يحيا أبوها يحيا
عوج الطربوش على ناحية
يحيا أبوها وشنبو
اللي ما حدش غلبو
يحيا أبوها وشنبو
اللي ما حدش غلبو
قولوا لأبوها الله كتر خيرك
ربى وكبر واللي خدها غيرك "
سواء كان أبو العروس من لابسي
الطرابيش، أو من لابسي اللبد أو الطراطير، أو أنه يرتدي طاقية ممزقة يخرج من
نسيجها شعر رأسه أو أنه يربط رأسه بمنديل محلاوي .
.. وأيضا كان يتم زفاف طحين العرس
بالمزمار والطبلة والغناء في رحلته من وإلى وابور الطحين، وكانت الفتيات يرددن
الأغنية :
"يا ام العريس .. الله يتم عليكي
يا مسعدة .. والسعد ملو إيدكي
القلب أبيض فلة .. والدقيق علامة
"
وتنتهي مراسم الزواج بليلة الزفاف التي
يطلقون عليها "ليلة الدخلة".. والتي تسبقها ليلتان لا تقلان عنها في
الأهمية، وهما: ليلة "الجلوة" وليلة الحنة .
وفي ليلة "الجلوة" تقوم
صديقات العروس بمساعدتها في حمام العرس، وتمشيط شعرها، وغسل كعوب رجليها لأن
المأثور في العرف الريفي يقول أن:"اللي ما تحني كعبها .. ما يدق الفرح
قلبها."، ليبدأ عمل البلانة قبل ليلة الحنة .
وليلة الحنة هي الليلة السابقة لليلة
الزفاف، وفيها يتم وضع الحناء على رأس العروس وقدميها ويديها .
.. في ليلة الزفاف تزف العروس إلى دار عرسها، وتبدأ مأساة فض بكارة العروس
حيث تقوم الداية بالمهمة باستخدام إصبعها الملفوف بالمنديل، تساعدها سيدتان تمسكان
بالعروس بشدة، .. وبعد فض البكارة بتلك الوحشية، يؤخذ المنديل المستخدم وبه أثار
الدماء، ويطوف به أهل العروس القرية معلنين عن شرف البنت الذي لم يمس؛ وقد يتزيد
البعض في ذلك الأمر فيعدون منديلين ملطخين بالدماءأ أحدهما يطوف به الرجال شوارع
القرية، وآخر تطوف به النساء وهن يرددن الغنوة :
"
يا أبو الجدايل يا قصب
..
عندنا فرح واتنصب
..
خد المنديل بدمها
..
ونزل يفرج عمها
قولوا
لأبوها إن كان جعان يتعشى
يركب
حصانه وفي البلد يتمشى
..
قولوا لأبوها الدم عبى الفرشة (ملأ الفراش)
..
قولوا لأبوها إن كان تعبان يرتاح
..
قفل متربس وجاله المفتاح" .
والمنديل الثاني يحمله رجال العائلة على أطراف
النبابيت في خطوات أقرب إلى الهرولة، ويتقدمهم بعض حملة مشاعل النار على الشماريخ، وهم يتغنون بالأغنية :
" يا برسيم على أول حشة
جيت أحشه لقيته لسه "
.. كانت الغنوة ترمز مجازاُ إلى البكارة،
والشرف المصان الذي لم يمس .
وبعد فض بكارة العروس تبدأ مراسم عشاء العروسين "حلة الاتفاق"، وتنتهي "ليلة الدخلة" بمراسم "الصباحية" .. كان يستوقفني كم الدماء التي تلطخ المنديل
الذي يتراوح طوله من ثلاثة إلى خمس أمتار .. وهو ما دفعني إلى مناقشة الأمر مع
الأستاذ الدكتور عبد الرحمن نور الدين رئيس تحرير مجلة "طبيبك الخاص" الأسبق
الذي أكد لي أن هذا مستحيل من الناحية الطبية .. إلا في حال النزيف، وتلك كارثة
طبية، وأضاف ضاحكاً: "أن دماء المنديل على تلك الصورة ما هى إلا دم دجاجة أو
أرنب مذبوح!!" .
.. واستشعرت أننا أمام حالة خداع تجيدها
الدايات المحترفات، ويعتبرنها سراً من أسرار المهنة التي ورثنها عن الأمهات
والجدات، ولا يبحن بها للغرباء !!
وتسلطت علىّ "إرادة المعرفة"
فناقشت الأمر مع الداية فاطمة أبو يوسف كانت المرأة مراوغة، وأبدت بعضاً من
السادية؛ ظهر واضحاً في استشعارها الفخار بما مارسته من أفعال بحق نسوة القرية، وكان
حديثها ذا ملمح بذئ.
وبقيت الرغبة في المعرفة قائمة، وتمثل لي
صداعاً مزمناً لا يفارقني، ولا أستطيع نسيانه؛ ففي لقاء صحفي مع إحدى الدايات
العجائز التي تقاعدت بعد أن كف بصرها .. لخصت لي العجوز الحكاية في عبارة واحدة ..
قالت:
ـ "شوف يا ابني هما كلمتين: إنهم يريدون
شرفاً زائفاً، ونحن نعطيهم ما يريدون، ونأخذ منهم ما نريد من المال والعطايا
.".
في السنوات الأخيرة سمعت الكثير عن "اصطناع
البكارة" و"غشاء البكارة الصيني" و"غشاء البكارة البلدي"
بعد أن ابتلي مجتمعنا بوباء الزواج العرفي، وأصبحت مسألة "اصطناع
البكارة" ساحة للعراك الديني عبر سجال الفتاوي بين من أحل وأباح من منطلقات
الستر، وبين من حرم وجرم من منطلقات الغش، وما يترتب عليه من بطلان العقد، وفساد رابطة
الزواج.
.. ولم يكن يعنيني في قليل أو كثير ذلك
العراك الديني أو السجال الفقهي أو الجدل الأخلاقي؛ لكونها ليست أكثر من محاولات لرتق
نسيج بالي اتسع خرقه على الراقع، لكن ما كان يهمني أننا أصبحنا مجتمع في أزمة حقيقية
.. أزمة جعلته بين شقي رحى غرائزه وعقائده !!
.. أزمة جعلت أفراحنا بطعم الحزن، ولون الدم،
ونتن الخداع!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق