ياسر بكر يكتب : "البهاليل"
وحركة التاريخ !!
نفضت الدولة يديها من أغلب واجباتها في تقديم
الخدمات .. وإن احتفظت لنفسها بنماذج هيكلية خداعية تدل عليها لإيهام المواطن بأنه
مازال في أعينها أو " أنه نور عينيها " ـ على حد تعبير أحدهم ـ وأنه محل رعايتها وعهدت بتلك الهياكل
الخداعية إلى حفنة من اللصوص والبلطجية والمرتشون والمبتزون ـ أغلبهم من العسكريين
المتقاعدين ـ الذين يستخفون بالميري وترابه وحصانة الموظف الرسمي العام وما تُغله تلك
الحصانة من سُحت الرشوة والمال البيروقراطي الحرام !! ، .. الغريب في الأمر أن هؤلاء
الذين يمارسون سطوة تشكيل فعاليات الإذلال على جموع المتسولين من الغطاريف
والبهاليل هم من حثالة المتسولين والشحاتين أيضا !!
.. ونظراً لضيق أفقهم وعدم وعيهم بحركة
التاريخ أو القدرة على استيعابه فقد انحصرت خياراتهم بين أمرين أما يكونوا أسود
الغابة أو فئرانها !! ولم يكن ثمة اختيار ثالث !! .. ولم يفطن كلا الأسود ولا
الفئران أن أرض الوطن يتم سحبها من تحت أقدامهم، وأن أمنهم في خطر!! غذائهم في خطر
!! .. شربة الماء في خطر .. وأن الخطر يتهدد الأرض والعرض !! .. وأن الأسود لن
تكون في مستقبل أيامهم سوى كلاب في غابات الآخر بعد أن تصبح بلادنا جزء منها!! ..
ويا ويل الدنيا من فئران تحمل "طاعون الإرهاب" في ظل تعاظم الشعور
بالمظلوميات والفراغات التي خلفتها انكماش الدولة داخل حدودها أو انكفائها داخل كيانها
!!
وفي ظل انعدام الرؤية .. دخل الجميع إلى
التية .. وراح كل يتخبط في محاولة فردية بحثاً عن النجاة للخروج من المتاهة، .. وقام
كهنة أخلاقيات " قارب النجاة " من مروجي الروح الانهزامية بالدعوة إلى
حكمة إغتنام قالب طوب من بيت الأب قبل
خرابه !!، والتضحية بالإبن تحت الأقدام للنجاة من الطوفان !! .. وكانت الحلول
الفردية على حساب الآخر إما إعتداءاً على الحقوق، أو انتقاصاً منها!! .. يستوي في
هذا من يبحث عن دور الأسود من رجال الدولة وأصحاب رؤوس الأموال أو من يقوم بأدوار
الفئران من العمالة الرثة من المهمشين؛ بما يعني السقوط في مستنقع اللا دولة
والعودة إلى نظم كيانات بدائية من التخلف والردة إلى الهمجية !! .. ولم يفطن حضرات
الغطاريف والبهاليل أن حركة التاريخ قد تجاوزتهم، .. وأنه أصبحوا مجرد إضافة كمية
إلى عبث الوجود .. بمعنى بقايا بشر أو أنصاف بهائم!!.. واكتفى المهمشون وقليلي
الحيلة بتدبيج كلمات العزاء في أخلاقياتنا التي ضاعت أو أتلفها الهوي.. أو ترديد
المواعظ لينتهوا منها أكثر ضلالاً من سابق عهدهم!!
في الوقت الذي بلغت فيه الشعوب من حولنا سن
الرشد بما يكفل لها صياغة عقد اجتماعي أو "مشروطية" تحفظ لها حقوها تجاه
الدولة و"كيانها الاعتباري " وتقلل من وصاية الحكام عليها باعتبارهم
مكلفون بخدمة عامة وليس لكونهم من عجينة تختلف عن سائر البشر !! أو لأن الله قد
أختصهم بوضع عقول في رؤوسهم بينما وضع في عقول غيرهم "مساحة بيضاء " !!..
رحنا نستنسخ من رحم الخرافة اسطورة " رجل الأقدار " ومن دجل وشعوذة العرافين
والعرابين حكاية " فتى الشرق الذهبي " .
وبعد الحرب العالمية الثانية وسياسية "
الابتلاع " التي مارسها الأمريكان للاستيلاء على مناطق نفوذ الأمبراطوريتين
الإنجليزية والفرنسية بابتكار نظام الانقلابات العسكرية التي تعد إبداعاً أمريكيا
خالصا أن سادت في أوساط الحكم إجراءات وأساليب السلطة الانضباطية القائمة على
إحكام السيطرة على حيز الجسد سواء بالاحتجاز أو الإيذاء أو التطويع سواء عبر الإشعار
الدائم أن الخطاب مراقب وأن له قوانين وأن مهمة الوجود الدائم لممثلي السلطة
الانضباطية هو نزع الفعالية والحسم عن أي خطاب يسيء إليها أو يعوق توجهاتها .. ومن
ناحية أخرى إحكام السيطرة على العقل عبر تلقين القطيع من خلال ما يسمى بـ "
جماهيرية الثقافة "؛ لخلق ظهير من الرعاع يدعم توجهات الانضباط بالتصويت ضد مصالحة !!
ونتيجة جهل ضباط تلك الانقلابات بدقائق
الحياة المدنية وعدم ثقتهم في غير أنفسهم ظهرت ظاهرة الوزير التكنوقراط والوزير
العسكري وأختفى تماما الوزير السياسي؛ فلأول مرة بعد انقلاب يوليو 1952 يتولى منصب
وزير الداخلية ضباط من الجيش كان في مقدمتهم البكباشي جمال عبد الناصر ليصبح
تقليداً يخلفه فيه البكباشي زكريا محيي الدين والعقيد عباس رضوان والعقيد عبد
العظيم فهمي والعقيد شعراوي جمعة، ثم يبدأ تغير نوعي في أختيار وزير الداخلية بعد
انقلاب 15 مايو 1971 ليكون من بين قيادات المباحث العامة "أمن الدولة " باستثناء
واحد وهو اللواء نبوي اسماعيل الذي أتى به الرئيس السادات من مباحث النشل فتعامل
مع الجميع باعتبارهم "نشالين" إلى أن يثبت العكس !!
جاء هؤلاء الوزراء الضباط خلفا للوزراء
السياسيين يحى باشا ابراهيم(حقوقي) وسعد باشا زغلول(حقوقي) واسماعيل باشا صدقي (حقوقي)
وأحمد زيور باشا (حقوقي) وأحمد ماهر باشا (حقوقي) ومحمود فهمي النقراشي باشا (مدرس
حساب) وابراهيم باشا عبد الهادي (حقوقي) وفؤاد باشا سراج الدين (حقوقي ).
.. ولأن العسكر طبقات فمن الطبيعي أن ينشأ بين
طبقاتها ما يسمى بصراع الأجهزة .. وتنظيم الأخوان المسلمين في 1965 خير شاهد على
هذا الصراع .. ففي سنة 1965 لم يكن هناك تنظيم ولا يحزنون .. الحكاية كلها أن صلاح
نصر مدير المخابرات العامة كان يذهب للسهر في منطقة المرج عند صديقه الصاغ عبد
المنعم أمين ( جلاد كفر الدوار ) وزوجته محاسن سعودي التي كانت تجيد إعداد تلك
السهرات وتهيئة أجوائها لعقد الصفقات واطلاق النزوات ، .. يذكر تقرير أمريكي عنها
أن اللقاء الأول بين البكباشي جمال عبد الناصر ومندوب C.I.A. كان في مارس 1952 في شقة الصاغ عبد المنعم أمين على
النيل، وقامت المذكورة بتهيئة أجواء اللقاء .. كانت محاسن سعودي الزوجة الثالثة في
حياة الصاغ عبد المنعم أمين، وكان عبد المنعم أمين الزوج الرابع في ترتيب زيجاتها !!
.. ورصدت أجهزة المباحث العامة هذه اللقاءات
ورفعت بها تقرير إلى الرئيس عبد الناصر ؛ فكانت تأشيرته : " استمر في
المراقبة " ، وعلم صلاح نصر بأخبار المراقبة من صديقه سامي شرف ، فكان لا بد
من الانتقام من وزير الداخلية بتدبير مكيدة للوزارة تدخلها في " حارة سد"،
ولكي تكون المكيدة محكمة كان لا بد أن يكون لها علاقة بتعريض حياة الرئيس للخطر !!
.. وقد كان بالتعاون مع العقيد شمس بدران ؛ فقد رفعت المباحث الجنائية العسكرية تقرير
إلى الرئيس عبد الناصر جاء فيه : " أن الداخلية غافلة .. والتنظيمات السرية
ترتع في البلد وأهمها تنظيم الأخوان المسلمين الذي يخطط لاغتيال الرئيس وتدمير
محطات الكهرباء وتدمير القناطر الخيرية وإغراق الدلتا " !! .
.. ولم يقتصر الأمر على الكيد لجهاز المباحث
العامة ووزارة الداخلية بل امتد إلى أسرة وزير الداخلية ؛ فقد كان لوزير الداخلية أخ أصغر يعمل في
وظيفة ضابط بحري برتبة رائد .. وكان هذا الشقيق الأصغر تربطه علاقة غير شرعية بزوجة أحد ضباط
انقلاب يوليو 1952 التي تربت منذ صباها في احضان "الحرس الحديدي" وكانت ضمن نسائه المتخصصات في العمليات القذرة؛ ..
فقامت المخابرات العامة برصد مكان اللقاء في عوامة على النيل بمنطقة الزمالك وزودت
الزوج بموعد اللقاء ومفتاح العوامة ومسدس ورصاصات.. ليقوم الزوج بمداهمة المكان
وقتل شقيق وزير الداخلية، وليطلب من الخائنة ارتداء ملابسها ليصطحبها خارجاً إلى منزلهما، وكأن شيئاً
لم يكن .. ولتستمر الحياة ..!! .. لتنشر صحف القاهرة في اليوم التالي الحادث بوصفه جريمة انتحار
لأسباب عاطفية . . كان مقتل عازف الجيتار عمر خورشيد تكرار للسيناريو ولكن بأسلوب وإخراج آخر !!
.. وكان هذا مفهوم ضباط انقلاب يوليو 1952
لمعني الشرف !!
.. كان عبد العظيم فهمي يبكي في صمت .. ولا
يجرؤ أن يبوح بأوجاعه، .. فقط قال للزميل اسماعيل النقيب مدير تحرير "أخبار
اليوم": "أنه لا يجرؤ على مواجهة زبانية صلاح نصر .. ولا يقوى على
احتمال السجن الحربي" .
 |
| النحاس باشا |
دخل الجيش إلى السياسة وصدقت نبؤتي النحاس
باشا : " أن الجيش إذا دخل السياسة، فلن يخرج منها ." ، قالها عندما
أرسل إليه ضباط انقلاب يوليو 1952 رسالة نقلها الضابط أحمد مظهر " الفنان
أحمد مظهر " عبر والد زوجته د . محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية إليه
قبل الانقلاب بشهور لحدثه على التعاون معهم وتقديم المشورة، فرفض التعاون معهم، .. ولم يبلغ عنهم !!
النبؤة الثانية : وهي عندما عرض عليه ابراهيم
طلعت القيام بعمل سياسي مضاد لضباط انقلاب يوليو 1952 بعد انحرافهم بالسلطة لمصالح شخصية، فحبسه
النحاس باشا في صالون قصره بجاردن سيتي، ولم يسمح له بالخروج إلا
بعد أقسم له على المصحف
أن لا يفعل.. وقال له النحاس ناصحاً:" يا بني الجيش زي القطار .. فيه حد عاقل
يقف أمام القطار ويقوله : يا تدهسني يا أدهسك !! طبعا القطار هيدهسه ويخليه ميت
حتة . "
 |
| ابراهيم طلعت المحامي |
الخلاصة .. غاب الوزير السياسي الذي يدرك سحر
المنطقة الوسط بين الأبيض والأسود اللذان يفصل بينهما ملايين الدرجات من الألوان
الرمادية .. وغاب المسئول السياسي .. وغاب المفكر السياسي.. وغاب الرئيس السياسي
.. وغاب الرجل القطب .. وأهين الكبير وسط غلمان عائلته !!؛ فلم تعد للقيمة مكان !!
وتحددت المكانة بقدر المال بغض النظر عن مصدره !! وراح الأجلاف والصعاليك يمارسون
دورهم المرسوم في تصفية حساباتهم مع الماضي !! وكان هذا السبب الأهم في انتشار
الإرهاب في سيناء عندما اصطنعت الدولة من بعض الصعاليك شيوخاً للقبائل وفتحت
أمامهم أبواب الثراء غير المشروع ومثال ذلك المدعو عايد عياد الذي منحه الرئيس
السادات في 11 أكتوبر 1980 نوط الامتياز من الطبقة الأولي بناء على تقرير
المخابرات الحربية والاستطلاع فرع رفح 15| رقم خ م | 40 | 534 | 773 | 3083 بتاريخ
3 يوليو 1974 ، وفي الوقت الذي كان يتسلم النوط كان ثمة تقرير آخر من من مخابرات
حرس الحدود يؤكد معاودة عايد عياد لنشاطة في تجارة المخدرات !!
توارى الكبار والعقلاء من مشايخ القبائل فلم
يعد الزمن زمنهم في ظل الحاجة والعوز وإهمال الدولة لدعمهم في ظل تطاول السفهاء من
"نواب الكيف " الذين أثروا في غفلة منا بعد أن صارت سيناء بديلاً عن سهل
البقاع في زراعة المخدرات .. وزاد من حدة الوجع أن أصبح لصغار الضباط سطوة أهانت القيم
البدوية وأهدرت حرمات النساء البدويات وانتهكت خدورهن تحت ذريعة البحث عن هاربين
.. وبلغ الأمر حد احتجاز النساء حتي يتم تسليم المطلوبين في ممارسات لم يعهدها أهلنا
في سيناء حتى في ظل الاحتلال !!
مثال آخر من أحاديث زمن الغفلة تفضحها مقولة الرئيس
السادات لرشاد عثمان تاجر المخدرات ونائب الشعب
عن دائرة مينا البصل : " أنا سايب اسكندرية أمانة في رقبتك يا حاج رشاد"،.
. والتي قال البعض ساعتها: " أن تلك العبارة جاءت في إطار تطيّب الخاطر بعد
مقتل شقيق رشاد عثمان على يدي فرد يمت بصلة إلى الرئيس السادات في إطار الصراع على
احتكار تجارة "الصنف"، .. تلك الواقعة التي تم التصرف فيها بالحفظ على
اعتبار كوانها حادث انتحار !!، .. والتي ألمح إليها المستشار حسني عبد الحميد
مساعد المدعي العام الاشتراكي خلال مرافعته في قضيتي فساد عصمت السادات ورشاد
عثمان .
.. وللحديث شجون،
.. وبقية لتلك الحكايات من زمن الغفلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق