السبت، أكتوبر 26، 2019

ياسر بكر يكتب : لمصر والحقيقة .. لا للأقـباط !! (الحلقة الأولى)


ياسر بكر يكتب : لمصر والحقيقة .. لا للأقـباط !!

(الحلقة الأولى)

بعد نشر مقالي بعنوان : "البابا .. والرئيس !!" انهال علىّ سيل من الرسائل اتخمت بريدي الالكتروني بتساؤلات بعضها منطقي .. وبعضها ينطوي على عدم الفهم والإصرار على خلط الأوراق وإلصاق بعض الإشكاليات بالإخوة الأقباط والتي حدثت في ظروف تاريخية بالغة الالتباس والتعقيد، كان خلط الأوراق واضحاَ لأسباب سياسية مصلحية تتعلق بالعراك السياسي تحت عباءة الدين .. كان الغبار الذي يثيره بعض الذي خرجوا علينا من كهوف العصور الوسطى مرتبطاً بإلقاء الاتهامات جزافاً عن تعاون أفراد من القبط مع المعتدي، وإثارة حكاية ما اطلق عليه زوراً "الحروب الصليبية"، ودور الاستشراق في الكيد للإسلام والتشكيك فيه والإساءة لنبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وعن مطاعن بعض الرهبان في بعض آيات القرآن الكريم!!

.. وكان الكثير من الشتائم والسخائم ما يعف اللسان عن ذكرها .. لا بأس؛ فقد تعودنا على هذا، ونذرنا من عرضنا بعض صدقة .

.. كانت كل جريمتي أنني أوضحت في المقال أن المسيحية هى التي حمت الإسلام في سنواته الأولى، وقدمته للدنيا كلها !!

.. وأمام عظم المسئولية قررت مناقشة الأمر بهدوء، وبشكل علمي وبالوثائق لمن يريد الاطلاع والفهم :


أولا ـ الحروب الصليبة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بداية دعونا نتفق على ثلاثة أمور :

أولا : لا يمكن فهم ورصد أي حدث إلا من خلال منظور يهتم بـ "السببية التاريخية" .

ثانيا : أنه لا يمكن في أغلب الأحداث التاريخية فهم الحدث في علته الأولي، فغالباً ما تختفي الأسباب الحقيقية خلف الشعارات البراقة والمبررات والحجج الزائفة التي يصعب رفضها وتلقى قبولاً شعبيا !!

ثالثاً : لم يحدث أن ظهرت كلمة صليبى فى نعوت الحملة،  وكان من يشارك فى الحملة يوصفون بأنهم "حجاج"، وكان يطلق على الحملة "رحلة الحج" .. صحيح أن البابوية هي التي دعت للحملة وسوغت للرعاع أسبابها ولكن لأسباب أخرى !!

.. ففي الأطوار للحملة  الأولى خلت عناوين مؤلفات المؤرخين الأوربيين من ذكر كلمة "الصليبين " أو "الحملة الصليبية" ، وأنما دارت الكتابات حول "الحملة" و"حجاج بيت المقدس"، و"الفرنج"، وأن الكلمة الأنجليزية Crusade" حملة صليبية" لم تستخدم سوى فى القرن الثامن عشر فقط، وبعد أن كان البحث التاريخي في تلك الحروب قد أمضى شوطاً طويلاً حين بدأ توماس فوللر Tomas Fuller الإنجليزى في القرن السابع عشر أول دراسة باللغة الإنجليزية القديمة حول حروب أوربا في الشرق الإسلامي بعنوان : "تاريخ الحرب المقدسة History Of The Holy Ware" ومن الملاحظ أنه استخدم عبارة "الحرب المقدسة" .

.. وبرغم من فشل تلك الحملات إلا أنها تحولت بمرور الوقت ـ تحت تأثير وسائل الإعلام التي عملت في خدمة الاحتلال الأوربى فى نهب ثروات الشعوب ـ  إلي مثال براق يوحي بالشجاعة والتضحية ونبل القصد وسمو الغاية تخلى الحكايات من الحقيقة التاريخية لصالح التعويض النفسي لتلك الظاهرة التي كانت تمثل في حينها حلماً من أحلام الفقراء، ولعل هذا ما جعل مؤرخا مثل نورمان كانتور يقرر أن الحادث الوحيد الذي يعرفة الخريج العادي من الجامعات الأمريكية عن العصور الوسطى هو "حملة الرعاع" التي بدأت أحداثها سنة 1095 م والتي يرسم لها صورة براقة آخاذة، وهذا الموقف ينسحب على الفرد العادي في الغرب

.. وفي المراجع العربية التى تناولت تلك الحروب نجد أن المؤرخين المسلمين الذين عاصروها وكتبوا عنها مثل (ابن القلانسي وابن الأثير وابن العديم وابن واصل وابت شداد والعماد الأصفهاني والمقريزي وابن تغربردي وبدر الدين العيني وغيرهم) لم يستخدموا أبداً مصطلحات مثل "الصليبين" أو "الحملة الصليبية"، وأنما تكلموا عن تلك الغزوات بعبارات مثل "حركة الفرنج" لا يربطون بينها وبين المسيحية والصليب على أى نحو!!

.. وفي كتاب وليم الصوري المسيحي لم ترد كلمة صليبية او لفظة صليب فقد كان مؤلفه بعنوان:"تاريخ الأعمال التي تمت فيما وراء البحرThe History Of Deed  Done Beyond The Sea ويعد وليم الصوري المسيحي واحداً من أعظم مؤرخي العصور الوسطى لما توافرت له من أدوات الكتابة التاريخية لإتقانه اللاتينية والفرنسية واليونانية وإلمامه بالعربية إلى جانب ما كان تحت يده من الوثائق ما يجعله مبرزاً في الكتابة التاريخية وحجة عصره؛ فقد شغل من المناصب ما جعله جزء من الأحداث التي يؤرخ لها؛ فقد كان مشرفاً على ديوان الرسائل في بلاط مملكة بيت المقدس.

..  والحقيقة أنا لا أعلم لماذا أطلقت الهيئة المصرية العامة للكتاب على مترجم وليم الصوري مسمى "الحروب الصليبية" الذي نشرته في سلسلة "تاريخ المصريين ـ العدد 45" بالمخالفة لعنوانه الحقيقي الذي صاغه المؤلف والذي نقله المترجم د . حسني حبشي بعنوان : "تاريخ الفرنجة وحجاج بيت المقدس"، ولا أعلم أيضا إن كان خطأ غير مقصود أم نفخ في جذوة الفتنة الكامنة تحت الرماد أم لأسباب تتعلق بتنشيط التوزيع أو إنها "خيانة لأمانة الترجمة"؛ فمع توقف البحث التاريخي في العالم العربي بفعل الركود الثقافى .. ومع محاولات النهوض التي بدأت مع إنشاء الجامعة المصرية كان لابد لأوائل الدراسين أن يتأثروا بالفكر الأوربي وفي إطار هذا التأثر ـ بوعي  أو بغير وعي ـ تمت ترجمة بعض المصطلحات واستعيرت تقسيمات التاريخ الأوربى كما سادت الرؤية الاستشراقية .. وهو ما أوقع الدراسين والباحثين الذين لم تترسخ أقدامهم بعد في البحث العلمي في شباك  الترجمة عن الأوربيين؛ فوقعوا في خطأ النقل غير الواعي وبدأوا يستعملون مصطلح "صليبي" و"حملة صليبية" في تناولهم للحدث الذي درج أسلافهم علي معالجتهم تحت مسمى "الفرنج" و"حركة الفرنج" .. ووجة الخطورة أنه عندما يستخدم فى اللغة العربية مصطلح "صليبي" و"حملة صليبية" فإنه يوحي بأن الحركة كانت دينية ترتبط بالصليب رمز الميسحية ولا تضعها في إطارها الصحيح باعتبارة مغامرة استيطانية وهجرات شعوبية همجية غاشمة، وأن استخدام هذا المصطلح يسئ إلي إخواننا المسيحيين الشرقيين الذين عانوا مثل إخوانهم المسلمين من وحشية الفرنج وعدوانهم !!

.. وأيضا استخدم الأستاذ أمين معلوف مسمى "الحروب الصليبية" في عنوان مؤلفه :"الحروب الصليبية كما رأها العرب" رغم أنه لم ترد في مخطوطات المؤرخين العرب لفظة "صليبي" ولم يتحدث هؤلاء المؤرخين عن "حروب صليبية" بل عن حروب وغزوات أفرنجية، وقد كتبت الكلمة التي تدل على الإفرنج بأشكال مختلفة باختلاف المناطق والمؤلفين والأزمنة : فرنج ، فرنجة، إفرنج، إفرنجة .

الأسباب الحقيقية للحملات :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت تلك الحملات التي دعت إليها البابوية نتاج افراز لتفاعل فساد الكنيسة الأوربية والإقطاع، وكان كليهما يستشعر الخطر الذي يهدد وجوده من "ثورة الجياع"؛ فقد قضى النظام الاقطاعى بأن تعيش الغالبية العظمى من الفلاحين والأقنان والعامة تحت سيطرة أقلية من الأمراء والفرسان الإقطاعيين، وتولت البابوية تخدير العامة بخرافات طمعاً في ملكوت الرب في مملكة السماء، لكن تلك الخرافات لم تعد ذات جدوى للبطون الجائعة والأجساد العليلة خاصة بعد انتشار الوباء المخيف الذى يأكل أطراف البشر "مرض الجذام" الذي أطلق عليه الأوربيين حينها اسم "نار القديس أنطونيو ".

والمعروف أن النظام الإقطاعي في أوربا قام في العصور الوسطى على أساس تملك الأرض بحيث صارت مكانة كل أمير أو فارس بما يتحكم فيه من أرض وصار يقال أنه: "لا سيد بدون أرض".. لكن ظروف النظام الإقطاعي تطورت وأدت إلى وجود نسبة كبيرة من الفرسان والأمراء بدون أرض؛ لأن القانون الإقطاعي حرص دائماً على عدم تجزئة الإقطاعيات بين الورثة ونص على أن تكون الأرض من نصيب الأبن الأكبر وحدة دون بقية الأبناء ولذلك أسرع هؤلاء للانضمام للحملات من أجل جاه دنيوي ومكاسب سياسية، من نهب أراضي الشرق التي تفيض لبناً وعسلاً  !!

أما عن الحج فهو ليس فريضة دينية في المسيحية مثلما الحال في الإسلام إلا أنه نوع من الجذب العاطفي نحو الأرض التي شهدت حياة السيد المسيح، وإن كان للحج بقصد التوبة قيمته العملية إذ كان يرغم المجرمين وأصحاب الذنوب على الابتعاد عن المجتمع عدة شهور وقد تصل إلى عدة سنين عسى أن تصل بهم إلى الهداية والسلوك القويم أو يهلكون في عرض البحر أو في مسالك الطرق ويستريح المجتمع من شرورهم.

في مخطوط  ليبنيز بعنوان :"المخطوط السري لغزو مصر" الموجود في مكتبة الأرسينال بباريس قال ليبنيز: (أخبرنا "الأسير الملهم" أننا إذا كنا نريد الشرق؛ فمفتاحه مصر .. لابد من البدء بغزو مصر) .

أشارت بعض حواشي ومذيلات بعض المؤرخين ـ والله أعلم ـ إلى أن "الأسير الملهم" هو قراقوش وزير صلاح الدين وهو مسلم سني ..

لسنا في مجتمع الملائكة، .. فقد خان أمانة الوطن بالتعاون مع المعتدي بضع نفر من الأقباط وبضع نفر من المسلمين أيضا تحت غواية المصلحة، لكن السواد الأعظم من شعوب الشرق مسلميه ومسيحييه عانوا من وحشية الفرنج واكتووا بنيران عدوانهم، .. ودافعوا عن بلدانهم بحمية وشرف في  تلك الحروب التي فرضت على شعوب المنطقة ان يدفعوا ثمناً فادحاً  للدفاع عن بلادهم، وكانت سبباً  رئيسياً من أسباب تعطل قوى الإبداع والنمو في الحضارة العربية، وأدخلت المنطقة في منحنى الأفول والتدهورالذى أدى إلى سقوطها تحت السيادة العثمانية!!

لمزيد من المعلومات اقرأ : 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق