ياسر بكر يكتب : خيانة المعلم يعقوب .. وخيانة محمد
كريم!!
(الحلقة الثانية)
كلا الرجلين يعقوب ابن حنا ومحمد كريم خانا أمانة الوطن، وكلاهما سدد
طعنة الغدر إلى ظهر بلده وأهله!! لكن الفرق بين إدانة خيانة الرجلين في الوعي
الجمعي المصري كبير!!؛ فالمعلم يعقوب موصوم بالخيانة الدامغة لأسباب طائفية، ومحمد
كريم تم استبدال سجل خيانته بسجل زائف من الفخار عن الكفاح الوطني المزعوم لذات
الأسباب حتى صار رمزاً من رموز مقاومة الأعداء على غير الحقيقة التي يدرسها طلاب
المدارس حتى الأن!!
.. المعلم يعقوب ابن حنا لا يذكره المصريون إلا ملحوقاً بسيل من
اللعنات والشتائم والسخائم، .. بينما محمد كريم لا يذكره المصريون مسبوقاً
بلقب:"السيد" رغم أنه لم يحصّل من سمات السيادة شيئا لا بالإنتساب ولا
بالإكتساب؛ فهو ليس من الأشراف المنتمين لآل البيت النبوي الشريف، ولم يحصل على
قدر من العلم يرفعه إلى مرتبة السيادة، أو يقدم من الأفعال ما يمنحه شرفاً !! ..
لكنها العادة المصرية المذمومة في التعاطف مع "المغلوبين"، ولو كانوا من
عتاة المجرمين أو خونة الأوطان!!
.. قد يكون للمعلم يعقوب القبطي بعض العذر؛ فقد نشأ الرجل في صعيد مصر
بملوي محافظة المنيا في مجتمع شديد التخلف يمارس ثقافة التمييز بكافة أشكاله
البغيضة، وقاسى كثير من أثار التمييز السلبي غير المبرر بينه وبين أقرانه؛ فقد فرض
عليه لبس العمائم السوداء أوالزرقاء، ومنع من ارتداء العمامة البيضاء مثل أترابه
في كتاب القرية، ورأى الإجحاف يمارس ضد أهله بإلزامهم بالسير أضيق الطرق ومنعهم من
ركوب الخيل وإجبارهم على حلق لحاهم، وإلزامهم بالنزول على ظهر الحمير إذا صادفهم أحد أعيان المسلمين،
والتضييق عليهم في دور عبادتهم وفي ممارسة شعائرهم !!
واستمر ذلك التمييز عندما صار يعقوب أحد الشلبية (جامعي الضرائب
للخزينة العثمانية)، وكان عليه أن يواجه سلبيات النشأة الأولى بالبحث عن أسباب
القوة؛ فانضم إلى جنود المماليك وأجاد فنون القتال .
ولما جاءت الحملة الفرنسية وجد الفرنسيون في المعلم يعقوب ضالتهم
للإيهام بأن بعض المصريين يرحبون بهم ويرغبون في وجودهم، وتفتق ذهنهم عن تكوين
فرقة عسكرية من شباب الأقباط وكان يعقوب أداتهم المنفذة .
.. وكان الغرض من تسمية عصابة
يعقوب بالفيلق القبطى إثارة الفتنة الطائفية وكان هذا الفيلق يضم مجرمين سابقين من
المسلمين والمرتزقة من أرمن وأأتراك وانه ضم على حد قول الجبرتى الذعر والحرافيش
من المنسر إلى جانب شواذ النصارى الوافدين .
.. ويروى يعقوب نخلة روفيلة في فصل كامل من كتابه بعنوان:"تاريخ
الأمة القبطية" عن علاقة يعقوب بالمماليك ثم الفرنسيين، وينفرد روفيلة بخبر
حرمان الكنيسة للمعلم يعقوب من التناول لأنه خرج عن تعاليم الكنيسة، واتخذ له
جارية غير زوجته تشبهاً بالمماليك فضلا عن الشكاوى التى كانت تقدم للكنيسة من
رعايها من سوء معاملته .
.. كما يتفرد روفيلة بموقف الكنيسة الواضح من يعقوب بعد تشكيل الفيلق
القبطى، والذى اعتبرته تعاون مع ممثل الكنيسة الكاثوليكية نابليون والذى ترى فية
الكنيسة انه خروج على تعاليمها .
.. لكن الحقيقة أن سبب غضب الكنيسة هو دخول المعلم يعقوب إلى الكنيسة
على ظهر جواده شاهراً سيفه طالباً للأفخريستا
"سر التناول" أحد
الأسرار السبعة للكنيسة، وهو ما رفضه الكاهن القائم على الأمر .. أى أن غضبة
الكنيسة على المعلم يعقوب لم تكن لأسباب وطنية بل لأسباب كنسية .
.. لزم الأباء الكهنة من النصاري اليعاقبة جدران كنائسهم وكان للبطريرك اليد العليا عليهم ملتزمين
بالأية الإنجيلية :"أعطوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، موقنين أن أخطر ما
يهدد كيان المسيحية بالإنحلال هو أن يهتم الكازون في الكنيسة بموضوع أخر غير
"خطية الإنسان"، وينشغلوا بالإنسان في حياته الاجتماعية مما يعد خروجا
على المسيحية، ومقاومة لها .
.. وبعد أن وطد نابليون أموره على البقاء في مصر كان من الطبيعي أن
يستعين بالأقباط للقيام ببعض الأعمال الحكومية البغيضة التي لا تلقى قبولاً من المسلمين والفرنسيين مثل الأمور المالية وأعمال البوليس وغيرها؛ لما اشتهروا
به من تخصص في الشئون المالية وحسابات الدخل وتقدير الضرائب وجبايتها، ولما
اشتهروا به من كفائة في علم الحساب وكان منهم مساحو الأراضي
والوزانون والصيارفة وكتبة الحسابات وهى وظائف تنطوي على مسئوليات هامة، ولم يرى الأقباط غضاضة في أداء تلك المهام من منطلق الاسترزاق
وأكل العيش خاصة أنه جرى إسنداها لهم منذ الفتح العربي وكان المماليك يعهدون
إليهم بإدارة أموالهم الخاصة .
رفع د . لويس عوض في كتابه بعنوان :"تاريخ
الفكر المصري الحديث" المعلم يعقوب إلى مصاف الأبطال رغم توافر
الوثائق الفرنسية لديه، وحاول ان يصوره للأجيال كرائد من الرواد صاحب رؤية ونظرية ترى إمكانية التحالف مع الفرنسيين لإدخال العدالة والديقراطية على المجتمع المصري ورفع الظلم عن المصريين، ومن الغريب أن ينزلق إلى ذات المستنقع في تبرير الخيانة بأسباب لا تنطلي على أحد مؤرخ
بحجم د. محمد شفيق غربال لأسباب تتعلق بالولاء الغرب؛ فقال
في كتابه بعنوان:"الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس .. مشروع استقلال مصر في
سنة 1801": "سبب تأييد يعقوب للتدخل الغربي هو تخليص وطنه من حكم لا هو
عثماني ولا هو مملوكي"، وهو كلام مرسل لا سند له من الحقيقة أو التاريخ، ولا يتفق مع طبائع الأمور ولا يستقيم معها.
.. يحاول البعض الغمز في علاقة منحرفة جمعت بين المعلم يعقوب والضابط الفرنسي ديسيه، والتي يصفها البعض أنها تجاوزت حدود الصداقة إلى حالة العشق والوله، وهو ما لا نستطيع أن نجزم به يقيناً، لكن الثابت أن كتاب الجبرتي قد حفل بذكر علاقات مؤثمة بين بعض المصريين وبعض الفرنسيين أثناء الحملة وفي مقدمتها ما ذكرة عن علاقة صديقة الأديب المعروف الشيخ اسماعيل الخشاب بشاب من ضباط الجيش الفرنسي !!
.. يحاول البعض الغمز في علاقة منحرفة جمعت بين المعلم يعقوب والضابط الفرنسي ديسيه، والتي يصفها البعض أنها تجاوزت حدود الصداقة إلى حالة العشق والوله، وهو ما لا نستطيع أن نجزم به يقيناً، لكن الثابت أن كتاب الجبرتي قد حفل بذكر علاقات مؤثمة بين بعض المصريين وبعض الفرنسيين أثناء الحملة وفي مقدمتها ما ذكرة عن علاقة صديقة الأديب المعروف الشيخ اسماعيل الخشاب بشاب من ضباط الجيش الفرنسي !!
الخيانة لا دين لها .. وشرك السقوط
في فخ الخيانة دائما لضعاف النفوس هو "الغواية بالمصلحة" التي
تهون في مقابلها مصالح الأوطان؛ خان المعلم يعقوب ابن حنا القبطي .. وكانت خيانة
محمد كريم المسلم !!
كان محمد كريم أحد قاطني الإسكندرية من أصل مغربي وعمل في الجمارك حتي
صار رئيساً لها، وعندما جاءت الحملة الفرنسية والس الفرنسيين فعينه نابليون قومندانا
للبوليس في الثغر .
.. وتعود بداية قصة الخيانة إلى ليلة نزول الجنود الفرنسيين
إلى بر الأسكندرية أسرع بدوي على فرسه، وأبلغ محمد كريم الخبر؛ فأخذ معه نحو عشرين
نفر من المماليك الإنكشارية فالتقت هذه القوة الصغيرة بطليعة من الجيش الفرنسي،
وقتلوا ضابطها وقطعوا رأسه، وعادوا به ظافرين إلى شوارع الإسكندرية ليقيموا زفة
اسكندراني !! .. لم تكن الإسكندرية محصنة ولم يكن فيها جيش كاف للدفاع عنها لا من
جانب الدولة ولا جانب المماليك؛ فلم يأت ظهر ذلك اليوم حتى كانت الأسكندرية في
قبضة نابليون الذي نزل في دار القنصل الفرنسي، .. واختفى محمد كريم أما الأهالي فقد
سلموا .. ودارت المخابرات بين محمد كريم من مخبأه ونابليون، وانتهى الأمر بأن جاء
هو ومن معه مستسلمين؛ فقبل محمد كريم أعتاب نابليون وقال :
"أنه أصبح عبده ومولاه، وخطب بين يديه؛ فرضي عنه نابليون وطلب
منه أن يكون خادما للجمهورية الفرنسية، ومساعداً لها على إبادة المماليك وتأييد
سلطان خليفة المسلمين، سلطان آل عثمان !! فأجابه محمد كريم إلى ما طلب فعينه
قومندانا للبوليس في الثغر فقام بواجبه خير قيام، إذ أعاد النظام وجمع السلاح وقدم
للجيش الغازي كل ما يحتاجه ".
.. كان نابليون قد أحضر معه 680 جواداً فقط مع أن معه
أربعة ألاف جندي من الخيالة، ولم ينس أن يحضر معه السروج والأعنة والأدوات اللازمة
لكل جواد، لم يكن في الإسكندرية ما يكفي من
الخيول فاستعان بمحمد كريم لشراء الخيول اللازمة من عرب البحيرة وتوسط كريم لدى
شيوخ قبائل الهنادي وأولاد على وبني يونس لعقد اتفاق بينهم وبين نابليون يأمنوا له
بمقتضاه الطريق من الإسكندرية إلى دمنهور، وأن يوردوا له 300 حصان وخمسائة جمل
هجين وأن يطلقوا سراح 12 جندي فرنسي تم القبض عليهم في مناوشات قرب الإسكندرية .
عمل محمد كريم عميلاً مزدوجاً للفرنسيين والمماليك بغرض أخذ الحيطة
لنفسه وإبقاء خط الرجعة مع الطرف المنتصر خاصة أن الفرنسيين غلوا يده عن كثير من
المكاسب والمظالم في الإسكندرية، واكتشف الفرنسيون خيانته لهم بعد أن عثروا في قصر
أحد المماليك على مكاتبات بخط يده عرفوا منها أنه خانهم وكاتب المماليك ومالآهم
وتجسس لهم ؛ فقبضوا عليه وحاكموه وقضوا عليه بالإعدام، وإمعانا في إذلاله وكشف
الذين خانهم من أجله عرضوا عليه افتداء نفسه بالمال، فقال لهم أمهلوني؛ فأمهلوه اثنتي
عشرة ساعة؛ فلما أصبح أرسل إلى المشايخ فحضر إليه بعضهم فترجاهم وصار يقول :"اشتروني
يا مسلمين"؛ فلم يجبه أحد، وانقضى الأجل فأركبوه حماراً وذهبوا به إلى ميدان
الرميلة وكتفوه وربطوه وضربوا عليه بالبنادق ثم قطعوا رأسه وطافوا بها الميدان .
أثار التمثيل بجثمان محمد كريم وقطع رأسه بعد قتله تعاطفاً شعبياً جعل العامة يعتبرونه شهيداً ورمزاً من رموز الكفاح الوطني، وهو في حقيقة أمره رجل
تأمر مع الجميع ضد الجميع ولعب على جميع الحبال وأكل على كل موائد الخيانة، ولا يختلف كثيراً عن المعلم يعقوب ابن حنا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق