الفصل الثاني :
ــــــــــــــــــــــــ
خيالات
غرفة العمليات
لم أكن أتوقع أن ما أدونه من كتابات للتنفيس عن مكنونات النفس يمكن أن
يرقى إلى مستوى التجربة العالية التي تمس الوتر الإنساني، وتكشف البعد الاجتماعي،
وتزيح الغطاء عن عورات مجتمع !!.
.. بدأت تجربة التدوين Blogging بعد إحالتي للمعاش لبلوغي
السن القانونية، وعندما بدأت دائرة الحياة تخلو من مفردات وأشخاص وأعمال وتفاصيل
كثيرة اعتدتها على مدى عقود من الزمن، .. ومع الفراغ والوحدة بدأ يظهر لي من العطب
الاجتماعي ما كان خافياً علىّ من جحود البعض ونكران الأخر !!
.. ولتخفيف الحالة التي يطلق عليها : جذوة (المشاعرالوهّاجة) أقترح
علىّ زوجي أن أدون يومياتي لتكون الكتابة أحد وسائل التخفيف عن النفس مثلها مثل
الموسيقى والرسم والتريض والفضفضة والمسامرة، .. وبدأت التجربة على مضض أفعل
أحيانا .. وأغفل عنها في كثير من الأحيان !!
.. و(المشاعرالوهّاجة) هى منطقة العواطف من الوجدان التي تسقط إليها الأفكار غير المبهجة من العقل فتثير
مشاعر الغضب والحزن والضيق والملل والأسى وتخلف رواسب في اللاوعي تتسبب في تغير
التركيب الكيمائي للدم بما يحرق الأعصاب والعقل والقلب وسائر أعضاء الجسد، ويمضي
تاركاَ بصمة الحريق السوداء على الجسد والعقل والقلب والوجدان !!
بعد فترات من المواظبة على التدوين .. وفترات أخرى غير قصيرة من
إهماله أصبح التدوين بالنسبة لي عادة أهرع إليها لتخفيف متاعب الأيام .
.. فقد اكتشفت في التدوين Blogging فوائد كثيرة أهمها تسليط
الضوء على البقع المعتمة في حياتنا الخاصة .. وأنه عندما توضع الكثير من التفاصيل
على مائدة الأوراق فإنك بسهولة ودون مشقة تستطيع اكتشاف العلائق بين الأشياء وفهم روابط
الصلات بين الأشخاص والأفعال وتفاعلاتها وروابط العلة والمعلول !!
عندما تسلل المرض إلى كياني طلبت من زوجي أن يقرأ لي بعض ما كتبت ..
كان يقرأ الفقرات ويتوقف فيما بينها .. كان يضحك تارة .. ويعتذر لي تارة أخرى عن
بعض الأفعال والكلمات غير المقصودة، وينحني ليقبل يدي ورأسي، وأحيانا يبتسم في أسى
قائلاً :
ـ ده أنت قلبك أسود أوي !!.
.. كان زوجي يعرف أنها "المشاغبات الناعمة"، وسرعان ما كنت
أسترضيه ؛ فيرضى .
قلت له ذات مرة : "ما فائدة هذه التدوينات .. إنها أشبة بالغناء
في الحمام !! اسمعته أذني فقط"، كان زوجي لا يرحب بالنشر في البداية، وقال لي
رأيه الذي نقلته في صدر مقدمة هذا الكتاب، لكن أمام رغبتي،
ولما قدمته من حيثيات الإقناع وافق، وقال :
ـ ".. إن شاء الله ستقرأها الدنيا كلها .. سأصدرها إن شاء الله
في كتاب أنيق؛ إنها تجربة إنسانية عالية القيمة تمس أوتار النفوس، وتلمس شغاف
القلوب، وتثري التجربة الإنسانية بما فيها من لحظات قوة وضعف وإحباط ونجاح وصواب
وخطاً وفرح وحزن وغضب ورضاء.".
.. كنت أعرف من طول سنوات العشرة أن زوجي رجل كلمته، وأنه إذا قال فعل
.
كانت تجربة العلاج والخدمة والمستشفيات هي التجربة الطاغية ذات الحضور
الطاغي على صفحات التدوينات ربما لأنني عشت 38 سنة تقريبا في تقديم العلاج والخدمة
في المستشفيات، وكنت متلقية للخدمة على مراحل منفصلة، .. وأخيراً في مرحلة متصلة
على مدي الـ 6 سنوات الأخيرة .
.. ولأنه يوجد في حياة كل منا ما يمكن أن نطلق عليه (الحدث الطاغي)
كان ذلك الحدث في رحلة تلقي العلاج منذ عشرون سنة تقريباً عندما شعرتُ بالإجهاد وفقدان
بعضاً من الوزن وسرعة في ضربات القلب والعرق يتصبب منى بغزارة ولا أستطيع النوم وشخص الأطباء الحالة على أنها
فَرْط نشاط الغدة الدرقية Thyroid وإفرازها لكمية كبيرة من هرمون الثايروكسين Thyroxine،
وقرر الأطباء أن العلاج يستلزم إجراء جراحة لإزالة الغدة بأكملها أو جزء منها،
ولأن تلك الجراحة تندرج تحت ما يسمى الجراحات الدقيقة فقد ذهب زوجي للاتفاق مع أ.
د . أمير ناصف المتخصص في إجراء هذه العمليات، ودخلت إلى المركز الطبي للمقاولون
العرب للإجراء الفحوصات اللازمة، وهو مبني شديد الأناقة فوق قمة الجبل الأخضر
المطل على القاهرة من تحت قدميه .
كان المستشفي مفندقاً طبقاً للقواعد التي أرساها الخبراء الألمان
الذين تم الاستعانة بهم في إنشاء هذا الصرح الطبي، وكان الشيف يأتي كل صباح ليعرض
علىّ قائمة الطعام المسموح بها لأختار من بينها ما يروقني، وكانت النظافة والتعقيم
وحسن المعاملة عنواناً كبيراً على المكان.
ومع بدء عملية التخدير لإجراء الجراحة بدأت "خيالات غرفة
العمليات" Imaginations Anesthesia .. ومرت على ذهني الكثير
من الأحداث والصور والتصورات والأوهام والتوهمات والخيالات والمتخيالات .. رأيت أبي فضيلة الشيخ جمعة على جمعة (يرحمه الله) في صدر الغرفة يرتدي ملابس
الأطباء .. كان النور يشع من وجهه و ينبعث من صدره ليملأ جنبات المكان .. راح يمسح على صدري، ويقرأ في خشوع وبصوت ندي :
بِسْمِ اللَّـهِ
الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا
تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30)، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)
صدق اللَّهُ العظيم
(سورة الصافات)
.. ورأيت نفسي طفلة صغيرة
بضفائرها وأبي يمسح على شعري، ويربت على ظهري في حنو، كنت أستشعر حالة من
القشعريرة تدفعني إلى الارتماء في حضنه الدافئ, وكنت أجد الدفء والسكينة والاطمئنان
في لفحات أنفاسه، كان يُخرج من جيب ثوبه الأزهري حلوى الفندام والبنبون .. يداخلني
إحساس بالأمان والرضا .
في خيالات الطفلة الصغيرة ذات الضفائر المربوطة بالفيونكات سال الدم
من أنفي .. احتضنتني أمي رسمية عبد الحي الخولي (يرحمها الله)، واصطحبتني إلى
الحمام، وأزالت ما علق بي وبملابسي .. تحت الرشاش استمتعت بخدر الماء الدافء ..
مشطت أمي شعري وجدلت ضفائري وألبستني ثوباً أبيضاً قشيباً، ورشت علىّ من طيب عطرها!!
في الخيالات أيضا رأيتني شابة رائعة الجمال في أبهى زينتها وأثمن
حليها ترتدي ملابس العرس البيضاء؛ وفجأة يخرج كلب عقور ليمزق قطعة من ملبسها .. تسقط قطعة من جسدي تبتلعها الأرض ..
يضمني أبي ويخلع علىّ عباءته !!
يُهدئ أبي من روعي .. يحضر لى ثوباً أبيض أبهى وأغلى وأثمن .. أصلحت من
هندامي .. وأكملت زينتي .. يأتي زوج شقيقتي
سمير محمد بوشناق (يرحمه الله) ليقدم لي وردة بيضاء قائلاً :
ـ إنها الأيام .. نطقها بالفرنسية Ce est la vie.
ويمضى سمير في طريق طويل تحفه أشجار السوسن والتمر حنة والياسمين
والفل والريحان بعطر أريجها وضوء القمر يتخلل ظلالها في مشهد لا تبدعه إلا يد
الخالق، كان لسمير مكانة في قلب أبي (يرحمهما الله)؛ فكان لا يناديه إلا بـ ( صهري
العزيز) .
.. في الخيالات رأيت أخي الصغير يمتطي مهرة عرجاء لا تصلح عنصراً للمكايدة التي يبغيها؛ .. يثير عجزها وصهيلها
البائس السخرية أكثر مما يبعث على الشفقة .. كأن أخي لا يكف عن ممارسة مضايقاته
.. يحارب الوهم بسيف خشبي .. تذكرني تُرَّهاته بخزعبلات "المارشال على"
أشهر المجاذيب المجاورين لضريح سيدنا الحسين!!
.. في الخيالات أيضا رأيت أبي يجلس في شرفة بيتنا مع صديقه فضيلة
الشيخ ابراهيم جلهوم إمام وخطيب مسجد سيدتنا الطاهرة السيدة زينب (يرحمهما
الله)؛ .. قال الشيخ ابراهيم لأبي :
ـ أزف إليك بشارة المسجد الزينبي : اصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا، ..
وتلا الآية الكريمة :) ألا إن أولياء الله لا خوف
عليهم ولا هم يحزنون) .
وانحنى يقبل يد أبى ويلثم جبينه، وبادله أبى التحية بأحسن منها فقبل
يده وقبل رأسه قائلا :
ـ العفو يا مولانا .
ومضى فضيلة الشيخ ابراهيم جلهوم إلى هناك تحوطه هالات نورانية وذاب في
نبع النور.
عفوا .. إنها خيالات غرفة العملياتImaginations Anesthesia !!
***
في غرفة الإفاقة صحوت على صوت زوجي يربت على يدي، ويلثم جبيني قائلاً:
ـ الحمد لله على السلامة ..
شفاء وطهور .. ترقية وتنقية إن شاء الله.
.. وفتحت عيني لضوء النهار .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق