ياسر بكر يكتب : دعوة للاحتفال بـ " يوم العار
" !!
قبل أن
تنقضى سنة 2015 .. قررت أن أحتفل بـ " يوم العار " على طريقة "أسيادنا
الأمريكان"؛ .. "أسيادنا الأمريكان" يحتفلون بالانتصارات كما
يحتفلون أيضا بالهزائم .. ويحتفلون بالبطولات كما يحتفلون بالسفالات لكن على
طريقتهم بعد تغليف كل حالة بالغلاف المناسب والإطار اللائق .. ولا مانع من تزييف
التاريخ ونسج الأساطير واختلاق الأكاذيب وادعاء النبل الإنساني؛ وتتولى هوليود
الإخراج المناسب لتجميل "وجه الذئب "؛ فلدى السيد "رامبو" الحجج
المقنعة والحلول لجميع المشكلات !!
.. في 7 ديسمبر 1941 قام اليابانيون بتحطيم
الاسطول الأمريكي في معركة بيرل هاربر وبدأ "أسيادنا الأمريكان" طقوس
الاحتفال بهذا اليوم باعتباره "يوم العار" في العقل الجمعي الأمريكي، وبدأ الإعداد لـ
"غسل العار بالعار" فكانت القنبلتين الذريتين على هيروشيما ونجازكي في
أغسطس 1945 .. ساعتها قال البعض : "إن هذا ليس عملاً أخلاقياً " ورد أسيادنا
الأمريكان: " وهل كان تدمير الأسطول الأمريكي عملاً أخلاقيا ؟!" .
ولذا ..
ولأنني لم أجد يوما للعار في تاريخ مصر الذي تعيه ذاكرتي أكثر من يوم السبت الأسود
26 ديسمبر 2015 عندما نجح الأثيوبيون في تحويل مجري النيل ليمر عبر سدهم !!
.. ربما
نكون قد أخطأنا بالترك والإهمال فيما لا يمكن تدارك تبعاته وعواقبه!! .. وربما
تكون سوابقنا من الخروقات حجة علينا لا لنا !!؛
.. ففي كثير من الأحيان تعد السوابق ثوابت يحتذى بها في تحويل مجرى التاريخ
لصالحنا أو لصالح الخصم على طريقة : "اللي تغلب به إلعب به .. "والتي
لعب بها السيد الأثيوبي عندما وقف وزير الخارجية الأثيوبي قائلا: " وهل طلبتم
مشورتنا عندما أبرمتم إتفاقية توصيل مياه النيل إلى النقب في إسرائيل؟!، حتى نطلب
منكم المشورة عندما نبني سداً على أرضنا !! "، ربما يكون السيد الأثيوبي
محقاً بعض الشيء، لكنه سيدرك مدى زيف ادعائه عندما يراجع نفسه ويرجع إلي يوميات
"السخط الشعبي المصري" على تلك الفكرة المشئومة التي طرحها الرئيس السادات،
والتي انتهت بقتله دون أن يحصل الصهاينة على قطرة مياه من نيلنا .. ولأن معالجة
الخطأ بخطأ لا يصنع صوابا؛ فلم يعد أمامنا سوى أن ننشد الصواب ونبتغي الخلاص في ظل
ظروف تاريخية شديدة الالتباس والتعقيد نُصبت لنا فيها" الخية " بإحكام،
ولن ينجينا من جنون الانتحار الجماعي في الوطن سوى أن نتذرع بالحكمة ونأخذ
بأماراتها، .. فليس هذا وقت التلاوم أو تصفية الحسابات أو البحث عن كبش فداء.
ورحت أتسأل
: متى نبدأ الإعداد لغسل العار بشرف وتحضر، وليس بغسل " العار بالعار "
على طريقة "أسيادنا الأمريكان " ؟! .. وهل تستطيع مصر الصامتة الصابرة
على سنوات الجوع أن تصبر على سنوات العطش؟! .. لقد أكتمل الحصار ولم يعد أمامنا سوى
أن نرى بأعيننا صحراء النقب وقد أصبحت جزءا من وادي النيل !! ولم يعد أمام القوي
العاملة في مصر سوى الذهاب إلى هناك طلباً لفرصة عمل ذليلة أو لقمة عيش مغموسة في
" العار التاريخي " !!
.. ورحت
ابحث عن الحل في وجوه أهلنا الحائريين المشتتين والمهمشين الذين رقصوا بطيبة
وعفوية على أغنية " تسلم الأيادي"، وبعدها تبين لهم الأيادي التي أسرف
في الدعاء لها لم تخرج من جيوب المعاطف أو البذات لتقدم عونا للنهر ينقذه من
قراصنة الحياة والجغرافيا والتاريخ، وتمايل
البعض منهم وزغردت النساء على أغنية " بشرة خير"، بل أن البعض قد جعلها
نغمة لرنين هواتفهم، .. ولم يأت الخير؛ فقد غلبتهم "جمهورية الخوف والجوع
ومصادرة الحريات" ؟! .. ولم يجدوا ملاذاً سوي السماء يرفعون أعينهم ويشيرون إليها
بأصابعهم وهم بين اليأس والرجاء!!
أصبح الصمت
الوجل سمة ملامحهم .. الصمت الخانع والخائف هو ملمح المشهد برمته .. صمت لم أره في
أصعب أوقات الهزيمة في 5 يونيو 1967 .. ساعتها لم ينكسر الشعب بل أختزل أسباب
هزيمته العسكرية في نكته بذيئة ترى أن هزيمته مجرد حالة اعتداء جنسي علي قادته
الذين أذلوه وقهروه وضللوه .. وكان النيل جزء من المشهد في متن جريان النكتة ؛ فقد
ضبط الشعب قادته يغسلون مؤاخراتهم في النيل لـ "إزالة أثار العدوان" !!
.. ولم يجد الرئيس عبد الناصر أمام نزيف الوجع اليومي أمام طعنات النكات من ملاذاً
سوى الذهاب إلى مجلس الأمة ليطلب من الجماهير في خطاب شهير الكف عن ترديد مثل هذه النكات
لأن ـ حسب زعمه ـ المستفيد الأول منها هو إسرائيل .. ولم تنجح أجهزة القهر الناصري
في مطاردة النكته؛ فالنكتة طلقة رصاص طائشة مجهولة المصدر !!
ولم يكن
قادة الهزيمة أسعد حالاً من القيادة السياسية، فانتشرت الأغنية الشعبية الشهيرة في
القرى والنجوع بكلماتها الهزلية اللاذعة : "يا بت يا أم زكي .. زكي بيعيط ..
لبسته البدلة الكاكي، قلعته البدلة الكاكي .. قعدته على ( ... ) ماله بيعيط !!"،
ولم يكن الجنود يضيقون بتلك الأغاني بل كانوا يشاركون الجماهير في غنائها
باعتبارها أحد ملامح الفكاهة المصرية، وكانوا يتغنون بها في أسمارهم التي تعد أحد
مفردات عملية الخداع الاستراتيجي في حرب
أكتوبر.
وكان صوت
الألم وطعم المرارة في أشعار نجيب سرور : " وقلنا ننضف بقة .. قالوا بلا وكسة
.. والله لنتنكس بدل النكسة ميت نكسة " .
.. وكانت
أشعار أحمد فؤاد نجم علي نسخة تشافهية من حنجرة الشيخ إمام عيسى، والتي يتناقلها
الهواة على مسجلاتهم الشخصية تشخص الحالة وتصف لها العلاج عبر أبيات تنشج بصوت
المذبوح المبحوح : " أشعار تمجد وتماين حتى الخاين .. عبد الجبار، وإن شا
الله يخربها مداين .. عبد الجبار " .. كان عبد الجبار هذا هو الرئيس عبد
الناصر!!
كان شعب
مصر يهذر .. ويصخب وتتعالى ضحكاته ساعة الهزيمة لأنه كان يدرك أنها مجرد حادث عابر
في ظروف عابرة قصمت ظهره لكنها لم تقضي عليه، أصابته بالوجع لكن علاج الوجع ليس
مستحيلاً .. أما اليوم فقد أصابه الخرس لأنه يعرف مدى العار ويدرك مدى الجرم عندما
ترك أمر " النيل .. واهب الخُلد للزمن " لافتكاسات الصغار وعبث الغلمان ..
وأصبح على شفا الحرمان من شربة ماء في زمن لم يعد فيه وجود لنموذج عم محمد
أبوسويلم أوعبد الهادي أوالشيخ حسونة ( أبطال فيلم الأرض ) أوأغنيتهم الشهيرة :
" الأرض لو عطشانة .. نرويها بدمانا"، وغياب ثقافة موروثة كانت تضع
الأرض والنهر في مقام العرض .
.. فيأهلنا
في مصر: تعالوا نخرج من "حالة الخرس الجماعي "
التي ابتلعتنا دوامتها؛ لنبدأ جميعاً في احتفالية بـ " يوم العار " في
مشهد جنائزي مقدس ونبيل؛ لعله يكون البداية الحقيقة لمواجهة الذات وممارسة النقد
الذاتي الشجاع لتصحيح المسار والبدء في خطوات جادة وعاقلة لـ "غسيل العار
" .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق