الجمعة، ديسمبر 01، 2017

ياسر بكر يكتب : صديقي الشهيد سليمان أبو حراز



ياسر بكر  يكتب : صديقي الشهيد سليمان أبو حراز
الكاتب الصحفي ياسر بكر وزوجته د. عفاف جمعة في ضيافة الشيخ سليمان أبو حراز

الكاتب الصحفي ياسر بكر في ضيافة الشيخ سليمان أبو حراز




.. هكذا قتل السفاحون سليمان أبو حراز الشيخ الطيب!!

ما أقسى الكتابة بمداد الوجع حين تنبت الأشواك في حروف الكلمات؛ وتفيض أوعيتها بالمرارة التي يصعب ابتلاعها أو ارتجاعها؛ فتتحول إلى غصة في الحلوق!!، وعندما تفوق الغصة قدرة الاحتمال تتضخم الحروف وتتحول إلى علامات استفهام غاضبة ومتوحشة وشرسة تخمش أظافرها في وجه من بدد الأمان في ربوع الوطن!!. 

.. وتكبر علامات التساؤل النبيل مثل كائنات أسطورية تنشر أجنحتها في سماء الوطن، وتفرض ظلالها على واقعه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتظل تجأر وتزأر طلباً لإجابات كثيرة أحدها: لماذا قتل هذا الشيخ؟!!، وبأي ذنب قتل؟!.

.. عن النهاية المأساوية الغاشمة لصديقي الشيخ الشهيد سليمان أبو حراز (98 سنة) مذبوحاً بسيف حملته أيدي قذرة لقتلة بلا وجوه .. عن تلك الجريمة البشعة أتحدث، ولا أستثني أحد من المسئولية حتى المشاركين بالصمت الجبان!!

لم يكن الشيخ أبو حراز أحد علماء المسلمين، ولم يُحسب يوما على الفقهاء أو المتفيقهين!! .. لم يصعد المنابر، .. ولم يعرف كيف توظف الكلمات في سياق بلاغي للوصول إلى غرض شخصي أو تلاعب بالوعي أو دعم نظام حكم يضمه إلى بطانتة ويغمره بعطاياه!! .. الرجل لم يذهب إلى مدرسة أو كُتّاب!!، ولم يعرف شكل حروف الكتابة، ولم يدري ما القراءة؟!،  ولم يغادر منطقة القصيمة على بعد 4 كيلومترات من العريش.

.. ولم يكن الشيخ أبو حراز قطباً صوفياً أو شيخاً لطريقة صوفية أو خليفة لأحد مشايخ الطرق الصوفية كما أشاع البعض زوراً لتبرير مأساة قتله!!

كان رجل بدوياً شديد البساطة يعيش في مزرعته في منطقة بين القصيمة والعويجة على طريق نخل مع أولاده وأحفاده يحلب الماعز ويفلح الأرض، وينتظر موسما جني الخوخ، وجمع الزيتون ليفرح بعرس الأحفاد من الصبيان والبنات ويزفهم إلي بيوت الشعر المصنوعة من شعر الإبل والخرفان أو الأكواخ المبنية من أغصان شجر العوسج وسعف النخيل، والعوسج نبات صحراوي تحبه الجمال وتأكله بنهم، أما الماعز فلا تأكله، ولا تأكله إلا حين تندر الأعشاب الأخرى. ويعتبر نبات العوسج حطباً جيداً للوقود لا ينبعث منه إلا قدر قليل من الدخان كما يستخدمه البدو في بناء أكواخهم.

ورث الشيخ أبو حراز عن أهله في البادية تدينا فطريا دون تزيد  .. لم يدعي لنفسه ولاية،  ولم يزعم أنه من أولياء الله الصالحين، ولم يدعى لنفسه مقاما من مقامات المقربين .. لكن المصادفة لعبت دوراً في حياة الرجل؛ فعندما احتل الصهاينة سيناء بعد هزيمة 5 يونية 1967 قبض جنود الصهاينة على الشيخ أبو حراز، ورغبوا في اقتياده إلى وحدتهم وأركبوه سيارتهم؛ فتعطلت السيارة فلما أنزلوه من السيارة زال عنها العطل، تكرر هذا الأمر مع الشيخ أبو حراز أكثر من مرة، وهذا ما جعل الجنود الصهاينة يشيعون أن في الشيخ أبو حراز سراً ، وأنه رجل مبروك !!

وسرى خبر كرامة الشيخ وسط البادية، وتوافد على بيته طلاب الحاجات، وتعب الرجل من أن ينفي عن نفسه ما أُلصق به لكن نفيه لم يكن يلقى القبول؛ فقد كان يُحمل على مأخذ التواضع !!، وأمام االإصرار كان الرجل يطيب خاطر من يقصد بابه دون أن تحمل كلماته معنى محدداً .

عندما كنت أضيق بضغوط المدن وسخافات البشر كنت أذهب إليه في مزرعته حاملاً بعض الهدايا من عبوات الشاي وأكياس السكر مساهمة في أداء حق الضيافة لبعض المترددين عليه، فقد كان ضيوفه كثيرون، والظروف لا تسمح له أحياناً بالوفاء بواجباتهم، كان دائم المداعبة لي؛ فعندما قدمت له شالاً بسيطاً قائلاً :

ـ هذا الشال من عند سيدنا الحسين بالقاهرة.

قال ضاحكاً :

ـ بنروح هناك .. وأشار بيده "فركة كعب" .

وعندما التقطت له بعض الصور .. قال :

ـ تضعها في برواز في بيتك ؟

قلت : إن شاء الله.

قال ضاحكا،ً وهو ينظر إلى زوجتي :

ـ ده مش بيتك .. ده بيت زوجتك .

عندما أصبح اللواء يوسف صبري أبو طالب محافظاً لشمال سيناء زار الشيخ أبو حراز، وتوطدت أواصر الصداقة بين الرجلين، فكانا يتبادلان الزيارة، وذات مرة حمل الشيخ أبو حراز بشارة لصديقة اللواء يوسف صبري أبو طالب وزير التنمية المحلية بأنه سيصبح قائد الجيش، ساعتها قال له اللواء يوسف صبري أبو طالب ضاحكاً :

ـ وسعت منك دي يا شيخ سليمان؛ محدش بيقلع البدلة الميري ويلبسها تاني !!

قال الشيخ بيقين :

ـ بنشوف .

.. وتحققت نبوءة الشيخ؛ فعاد اللواء يوسف صبري أبو طالب إلى الجيش وزيراً للدفاع في أبريل 1989 بعد ترقيته إلى رتبة الفريق خلفا للمشير أبو غزالة .. كان المثير للانتباة أن الفريق يوسف صبري أبو طالب هو أول وزير دفاع مصري يقسم اليمين لتولي المنصب بملابس مدنية كما تم أداء القسم في ظرف شديد التعقيد على متن طائرة الرئاسة أثناء اصطحاب الرئيس مبارك له في رحلة إلى العراق حيث فاتحه الرئيس في أمر تولي منصب وزير الدفاع، وما أن وطأت عجلات الطائرة أرض الوطن حتى أُعلن عن توليه المنصب !!

في أخر مرة التقيت به قلت وأنا أصافحه مودعاً :

ـ أشوفك عل خير .

ورد الشيخ :

ـ اللقاء نصيب .

.. ولم أفهم معنى الرسالة إلا بعد إذاعة نبأ استشهاده، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

***

يرحم الله صديقي الشيخ سليمان أبو حراز الذي اغتالته يد الغدر .. وأخفت جثمانه حتى لا يقيم له السيناوية مقاماً .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق