ياسر بكر يكتب : الخيبة راكبة جمل !!
الكاتب الصحفي الأستاذ ياسر بكر |
ألم يحين الوقت بعد لنُسلم ملفات الأحداث التاريخية ووثائقها إلى مراكز
الدراسات التاريخية بالجامعات المصرية رغم مرور أكثر من ستين عاما عليها؛ ليشتغل عليها
المؤرخون وفق ضوابط ومعايير الكتابة التاريخية وحدودها الصارمة ؟!
.. إلى متى تستمر خزائن التاريخ في وطننا مغلقة بـ "الضبة"
والمفتاح، ومدموغة بالشمع الأحمر، وخاتم "سري جداً"!!
.. إلى متى تستمر حقائق التاريخ في بلدنا مثل "بيت الأفاعي" لا
يقترب منه إلا هالك حتى تظل الأكاذيب هى عناوين حياتنا ومرتكزات واقعنا !!
.. إلى متى نستمر في إعادة تدوير الأكاذيب والغناوي وعنتريات الساسة الذين
باعوا وخانوا وجبنوا في الخفاء هى الأوهام الحاكمة والمتحكمة في عقولنا عما حدث في
بلدنا، ولماذا حدث ؟!
لماذا تقدمت الهند التي بدأت تجربتها معنا بينما نحن مازلنا نتعثر في ذيول
سراويلنا ؟!
صارت الهند الدولة الأولى في مجال الفضاء والبرمجيات وتفوقت على الروس
والأمريكان وأصبحت تجنى عائدات سنوية من تلك الصناعة تزيد على 300 مليار دولار ..
وقد أعلن رئيس وزرائها في المحافل الدولية مقولته الشهيرة : "عفوا يا سادة؛
فلم نعد أمة تراقص الثعابين!!".
سر تقدم الهند يكمن في أنه قبل الاستقلال عكف نهرو وصديقه الفيلسوف الهندي
أبو الكلام زادة في سجنهما على كتابة التاريخ الحقيقي للهند !!، بينما نحن مازلنا
نعيش في الدنيا تحت مظلة كذبة لا تقارقنا جعلتنا أسرى لحالة من الانفصام بين واقع حياتنا
وأقوالنا وهى : " إحنا لا مؤاخذة أجدع ناس !! جوعى، .. ونقول : محدش بيبات من
غير عشا ، والعيش في بلدنا تأكله الكلاب، ونحن نتسول الخبز بالبطاقة أمام المخابز"
.. بينما أدرك صانع القرار الهندي أن العقل الهندي لن يبدع إلا إذا احترم المواطن
الهندي معدته ضمن منظومة حياة كريمة .
.. بذلك الفكر تقدمت الهند، بينما نحن مازلنا نبدع في الخداع ونتعاطاه بحيث
أصبحنا أول مستهلك لأكاذيبنا وسط رثاء الدنيا كلها لحالنا؛ فقد صدقنا أننا صنعنا جهاز تليفون محمول مصري رغم أنه لا يوجد في
بلدنا مسبك الكتروني واحد لإنتاج رقائق السيلكون، وبوقاحة عقور وقف شاب أمام رئيس
الجمهورية ليدعي أنه اخترع أول روبوت مصري رغم أن ذلك الربوت من صنع الصين ومعروض
بالأسواق بماركته المعروفة وبثمنه المعلن!!، وبذات الوقاحة أعلن عبد العاطي في
حضرته عن كفتة الإيدز ، ومرت الأكاذيب كلها دون حساب أو عقاب !!
في هذه الأيام في حلقي غصة ونحن نحتفل بما زعمنا أنه كان انتصاراً على
العدوان الثلاثي الغاشم في 1956، والحقيقة أننا لم ننتصر بل توهمنا بوطنيتنا
المريضة وخيالنا السقيم انتصارا، وبرغبتنا في جبر وكستنا بالسقوط في حالة مرضية
يطلق عليها علماء النفس حالة "التعويض النفسي" بينما أطلق أخرون عليها
"بارانويا"!!؛ .. فقد احتلت اسرائيل سيناء في بضع ساعات .. وكان إعلان الإنذار البريطاني الفرنسى الذي بادر معه
الرئيس عبد الناصر إلى دعوة مجلس الوزراء للإنعقاد إلا أن عبد الحكيم عامر وصلاح
سالم طلبا عقد اجتماع خاص وكانا في حالة من الزعر وأعلن كلاهما بلا تردد أنه ينبغي
أن يتوجه الرئيس عبد الناصر ورفاقه إلى السفارة البريطانية وتسليم انفسهم لها، وأن يعرضوا قبولهم للمطلب المقدم
إليهم، وقال عامر: " أن الجيش في حالة ميئوس منها، وقد لا يستطيع مقاومة غزو
تقوم به دولتان استعماريتان، وأن مصر ستصاب بدمار تام".
..
وعند وصول عبد اللطيف البغدادي طلب الرئيس عبد الناصر منهما أن يعيدا ما قالاه
أمامه، وقال البغدادي: " إن مكاننا الأن على القناة لا في القاهرة، فإذا
هزمنا ولم يقتلنا البريطانيون، يعين علينا أن ننتحر من أن نقع أسرى في أيديهم
" وإذ ذاك استدعى الرئيس عبد الناصر زكريا محيي الدين مدير المخابرات العامة وعرض
عليه ما قاله البغدادي فوافق عليه؛ وسرعان ما أشار عليهم عبد الناصر بإعداد جرعات
قاتلة من أقراص سيانيد البوتاسيوم.
..
وعن حال الرئيس عبد الناصر يقول البغدادي في مذكراته : " وفي نفس اللحظة التي
كانت السفن الحربية الآنجلو فرنسية تبحر في اتجاه بورسعيد قادمة من قاعدتها في
مالطة كان الرئيس عبد الناصر في حالة من التوتر العصبي حتى أنه كان يخاف أن ينام
وحده أثناء الأزمة وكان يطلب من البغدادي أن يشاركه حجرته .. إلا أنه لما بدأت مغامرة على الرأي العام
العالمي تؤتي ثمارها استعاد رباطة جأشه؛ فأعلن في خطاب تحد أذيع على الشعب وطالب
بالانسحاب ".
.. هذا كان
سلوك بطل الهزائم التي منيت بها مصر طوال فترة حكمة .. فلم يكن شجاعاً سوى قبل
الأزمات أو بعد انتهائها !!
..
مع الدقائق الأولي من العدوان تم تدمير سلاح الطيران المصري على الأرض وتبعثرت
القيادة العسكرية المسئولة في بورسعيد؛
القائمقام عبد الرحمن قدري، وأصدر الأميرالاي صلاح الموجي أمر بوقف إطلاق
النار، وطلب عقد هدنة مع العدو ولكنه سقوط اسيراً في أيدي العدو، وفشل قائد المقاومة الشعبية صاغ غريب الحسيني،
وعجز قائد جيش التحرير الشعبي صاغ عبد المنعم الحديدي في إقناع الجماهير بالتحرك
معهم لبعدهم عن فهم روح الشعب الحقيقية ثم هربهم بعد ذلك من بورسعيد .
.. ولم تكن
فرق المقاومة الشعبية بقيادة صاغ غريب الحسيني أفضل
حالاً من قوات الجيش فقد غلب عليها الارتجال؛ فقد أكد البعض أن السلاح تم توزيعه في بعض الأماكن بدون كشوف ولم يكن هناك
رقيب على فتح الصناديق ـ الأسلحة ـ وتوزيعها بلا رقيب ولا ورقة أو قلم وبطريقة
عشوائية .. وكانت النتيجة أن من حمل سلاح روساً حمل معه
ذخيرة انجليزية والذي حمل سلاحاً انجليزيا حمل معه ذخيرة روسية أي أنه لم يعد
السلاح ينفع ولا الذخيرة !!
يقول
الفريق محمد فوزي وزير الحربية والذي عهد إليه بإعادة بناء القوات المسلحة بعد
هزيمة 1967 في شهادته أمام لجنة كتابة التاريخ :
" لقد
مُنعنا نحن العسكريين من الحديث عن خسائر حرب 1956 حتى لا نقلل من قيمة الانتصار
السياسي " .
.. فإذا
اضيفت إلى تلك الخسائر قيمة التعويضات الجزافيه من جراء تأميم شركة قناة السويس
التي فرضت على مصر لصالح حملة الأسهم
وأصحاب السفن والتوكيلات الملاحية ـ خاصة مع اقتراب مدة انتهاء الامتياز ـ
، بالإضافة إلى تعطيل العمل بالقناة وتوقف عائداتها ، فضلا عن تكلفة إعادة
صلاحياتها للعمل من جديد؛ فإننا أمام كارثة تقصم ظهر أعظم الامبراطوريات، وليست
دولة حديثة التحرر من الاستعمار!!
.. رغم الهزيمة الواضحة للعيان راح شعراء الغفلة " يجعرون" بعزم
الصوت : "انتصرنا .. انتصرنا "، .. وقام صلاح جاهين بكتابة حوار وأغاني
لفيلم من انتاج المجلس الأعلى للأداب والفنون من إخراج عبد القادر التلمساني
للسخرية من العدوان وكانت جميع أبطال الفيلم من شخصيات الأراجوز !!
.. ورغم
مرور السنين ، مازلنا نتداول القصص المختلقة، ونجري اللقاءات عبر الميديا مع
الأبطال الوهميين للمقاومة، ومازالت خيبة الأمل راكبة جمل في ليل من الأكاذيب مالوهش نهار !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق