العدد 1855 ـ بتاريخ 13 ـ 5 ـ 2012 ، صـ 74
رؤية حول أخلاقيات الصورة الصحفية لياسر بكر |
أخلاقيات الصورة الصحفية
عشنا
زمنا نردد بقلوب مطمئنة وعقول مصدقة مقولة مأثورة تؤكد أن الأرقام لا
تكذب، لنصحو على حقيقة مفزعة أن الأرقام تخدع وتنصب وتضلل، عندما تخرج من
سياقها لتتراقص وتتلاعب بين يدى حواة النظريات والتفسيرات.. ثم وقعنا مرة
أخرى فى وهم وشباك جملة رنانة تقول إن الصورة أصدق أنباء من الكلم، وأنها
عنوان الحقيقة الناصعة حتى فاجأتنا تقنياتها بقدرات سحرية جبارة تأتى بما
لم يأت به الأوائل فى الغش والخداع..
وتؤكد لنا هذه
الدراسة القيمة والثرية أن الصورة استخدمت قدراتها هذه منذ أيام لينين.
رحلة طويلة ودقيقة تتسم بالفكر والمعلوماتية قام بها الكاتب الصحفى ياسر بكر فى تتبع الصورة الصحفية، متى بدأت ولماذا كانت ومراحل تطورها والوسائل التى ساهمت فى ذلك، معرجا فى ذات الوقت على قضية انهيار الكلمة وضعف تأثيرها واهتزاز مصداقيتها والتى ضربت الصحافة والإعلام خلال عقود طويلة مضت.
لتتأكد بعد أكثر من 220 صفحة من كتاب (أخلاقيات الصورة الصحفية) للزميل ياسر بكر مدى ارتباط الكلمة والصورة بروابط عضوية من المستحيل الفصل بينهما، فإذا كنا نثق فى أنه فى البدء كانت الكلمة، فأيضا الصورة كانت أول شىء لجأ إليه الإنسان البدائى للتعبير عن نفسه وأفكاره.
ويذكر ياسر بكر أن الصور الأولى التى ظهرت فى الصحف كانت رسوما يدوية تطبع من قطع خشبية حفرت عليها الرسوم باليد.
وأول صورة ظهرت بهذه الطريقة نشرت عام 1638 بصحيفة «الويكلى نيوز» الإنجليزية مع موضوع خبرى نشر عن حريق هائل بجزيرة سانت مايكل وكانت الصورة للمكان الذى شبّ فيه الحريق.
أما الصحف المصرية فكانت أول صورة بها من نصيب الأهرام فى عام 1881 وكانت لفرديناند ديليبس ومعه طفلته، وقد بلغت هذه الصورة درجة كبيرة من الدقة والاتقان.
الآن الدراسة التى يتضمنها كتاب «أخلاقيات الصورة الصحفية» بقلم المتميز ياسر بكر جديدة وتتمتع بقدر عال من الوثائقية والمعلومات وتستحق الانتباه لكل ما جاء به من تفاصيل ودقائق، إلا إننى سأتوقف تحديدا عند الجزئية التى رصد فيها بدايات اللعب والتزوير فى الصور الصحفية فى الثلث الأول من القرن العشرين، حيث أصبحت عملية التلاعب فى الصورة إحدى أهم وسائل تزوير التاريخ، وذلك باستخدام الصور المزورة لتزييف الوعى والإيحاء بأفكار ومعان وآراء مغايرة لا وجود لها فى الواقع.
وقد بدأت عملية التلاعب هذه فى الصورة عام 1917 عندما عمدت القيادات الروسية إلى التلاعب فى صور لينين قائد الثورة الروسية بطريقة بدائية (الفوتو مونتاج) من خلال محو رجال الأمن المجاورين للبنين وإضافة صور بعض الأشخاص أمامه وهو يخطب فى الجماهير لإعطاء انطباع جيد لدى المشاهد بمدى حب الشعب له وعدم وجود حواجز أمنية تحول بينه وبين شعبه.
أما عن أشهر الصور المفبركة فى مصر كما يشير ياسر بكر فهى الصورة التى نشرتها مجلة «المصور» بالعدد 2557 بتاريخ 12 أكتوبر 1973 لجندى فاغرا فاه باسطا ذارعيه فى الهواء فى بلاهة بعنوان كبير حرب التحرير» ومن يومها يتم تداول الصورة على أنها انفراد لمصور المجلة مع أن الصورة مصطنعة، والصورة الثانية بعد حرب أكتوبر 1973 تمت إزالة صورة الفريق سعد الشاذلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة من صور غرفة عمليات الحرب بناء على تعليمات السادات، وفبركة صورة ظهر فيها مبارك مكانه، وجاء هذا التزوير مفضوحا، وهناك صورة ثالثة خلال حرب تحرير الكويت، حيث جرى تصوير غارقة فى بحيرات التلوث فى جزيرة الاسكا، وقالوا إنها صورة ناتجة عن تخريب العراق لحقول النفط.
أما الصورة الرابعة فكانت فى بداية العمليات البرية على العراق 2003، حيث تم إلباس بعض المواطنين العاملين فى إحدى الدول العربية المجاورة بلباس جنود عراقيين وجرى تصويرهم فى حالة استسلام للجنود الأمريكيين لتدمير الروح المعنوية للشعب والجيش العراقى فى بداية المعركة.
وكما سبق وقلت فإن كل صفحة من صفحات كتاب «أخلاقيات الصورة الصحفية» يضمّنها ياسر بكر، إما معلومة جديدة وإما أخرى صادمة وكلها موثقة عنده بالدليل فى عهد مبارك، إلا أننى سأتوقف عند بعض هذه التفاصيل، أولها فى عهد مبارك تم حجب صور الفريق أول محمود شاكر عبد المنعم قائد ثانى القوات الجوية فى حرب أكتوبر وتغييب دور الرجل ليصبح مبارك هو قائد الضربة الجوية الأوحد الذى تتغنى به المحافل، وكان أول ما فعله عندما تولى منصب رئيس الجمهورية أنه اتصل بأسرة الرجل الذى توفى فى عام 1980 وقال لهم: «لو عندهم صور ليا أو تجمعنى مع الوالد ياريت تبعتوها لى» وبحسن نية من الأسرة سلموا الصور إلى جهة ما، ليتم إخفاؤها فى إطار طمس دور الرجل وسرقة تاريخه وهو نفس السلوك الذى سلكه أيضا مع مسئول مجلة «المصور» بعد صدور عدد خاص برقم 2975 بتاريخ 16 أكتوبر 1981 بعنوان «مبارك رئيسا للجمهورية» نشرت المجلة فيه مجموعة صور له أهدتها إليها أسرة المرحوم الطيار رجائى عباس من ألبومه الخاص، فالصور تحكى أن الرجل دائما فى مقدمة السرب لكونه الأول ومبارك أبدا فى ذيله لكونه الأخير.
ثانى التفاصيل التى استوقفتنى هذه الأسئلة التى مازالت معلقة فى حادث اغتيال السادات منها: لماذا وافقت «أخبار اليوم» على بيع حق استغلال أفلام حادث اغتيال السادات التى انفرد بها مصورها مكرم جاد الكريم لوكالة «جاما» الفرنسية مقابل 50 ألف دولار، حصل منها المصور على 5 آلاف دولار، وهل يجوز التفريط بالبيع فى وثيقة تاريخية وثقافية وصحفية كهذه؟.. والسؤال الثانى: من قتل مصور السادات الشخصى محمد يوسف رشوان الذى صور تفاصيل كثيرة كان من الممكن أن تساعد سلطات التحقيق؟ ومن سرق الأفلام من كاميرته بعد وفاته؟.
فرشوان كما تكشف الصور التى يتضمنها الكتاب لم يكن خلف السادات أو جواره.. بل كان بعيدا يقف على السلالم المؤدية للمنصة بين السادات ونائبه مبارك، والقتلة لم يقتلوا أحدا فى هذا المكان، أما التفصيلة الأخيرة من هذا الكتاب الكنز فهو عن علاقة الإخوان المسلمين بالماسونية، حيث يقول الشيخ محمد الغزالى فى كتابه «معالم الحق فى كفاحنا الإسلامى الحديث» عن تولى المستشار حسن الهضيبى لمنصب المرشد العام للجماعة: استقدمت الجماعة رجلا غريبا عنها ليتولى قيادتها وأكاد أؤمن بأن من وراء هذا الاستقدام أصابع هيئات سرية عالمية أرادت تدويخ النشاط الإسلامى الوليد، ولقد سمعنا كلاما كثيرا عن انتساب عدد من الماسون بينهم حسن الهضيبى نفسه لجماعة الإخوان وربما كشف المستقبل أسرار هذه المأساة.
وأخيرا.. وبعد توجيه الشكر العميق والتحية الخاصة للزميل ياسر بكر على هذا الكتاب القيّم، نرجوه الحرص على استكمال مشروعه المهم والأساسى الذى بدأه وينتوى معه كشف المستور فى تاريخ الصحافة المصرية على مدار تاريخها.
المقال على الرابط :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق