الأحد، فبراير 19، 2012

ياسر بكر يكتب : الاســــتبداد.. وانهـيار الكلمة ـ الفصل الأول



الفصل الأول

الاســــــــتبداد..
وانهـيار الكلمة

على طريقة نيوتن فى صيحته التاريخية: "وجدتها"، أعلن ميتشل ستيفن رئيس قسم الصحافة والاتصال الجماهيرى بجامعة نيويورك الدخول إلى عصر جديد، وصفه بعصر "صعود الصورة وانهيار الكلمة " فى كتاب يحمل نفس العنوان " the rise of the image, the fall of the word " والذى أكد فيه أن الصور ستكون لها اليد العليا على الكلمات.
الصورة بطبيعتها سافرة الوجه متمردة، والكلمة حمّالة أوجه.. حق يراد به باطل وباطل يرتدى سمت الحق ؛ ويراد به باطل.
وهو نفس المعنى الذى سبق إليه الأستاذ أحمد بهاء الدين حين ناقش هذه القضية المهمة فى مقاله بعنوان : "كلمات فقدت سمعتها فى حياة لغتنا الجميلة: الموضوعية.. العقلانية.. الواقعية.. لماذا صارت كلمات رديئة؟!".
فى البداية يقول الأستاذ بهاء: إن اللغة لم تكن أبدا «محايدة» والكلمة الواحدة قد تستخدم فى مجال يحمل كل معانى الجدية، وأحيانا تصبح من كثرة استخدامها فى غير موضعها، تحمل لدى الناس كل معانى السخرية، والكلمة فى مجال قد يكون لها وزن الذهب، وقد يكون لها وزن الريشة !! وإذا كانت الكلمات من القاموس السياسى للغة، فهى أكثر عُرضة للتلف، ذلك أنها كثيرا ما تكون عُرضة للاستخدام الخاطئ المتعمد من رجال السياسة أو الكتابة أو للاستخدام فى مجرد تخدير الرأى العام.
ونأخذ على ذلك أمثلة من كلمات كبيرة مثل «الوحدة» أو "الثورة" أو «الديمقراطية»، كلمات كبيرة جدا، لكن بعضها لحقه «الإجهاد» من كثرة الاستعمال اللغوي، وانعدام الاستعمال الفعلى !!
ثم يكمل الأستاذ بهاء: إن الشعب العربى هو الذى نزل القرآن بلغته، والقرآن أكثر كتاب مقدس وغير مقدس تحدث عن العقل والعمل والتفكير والتذكير، فمن المستحيل أن تكون هذه اللغة بالذات هى اللغة التى تفقد فيها هذه الكلمات سمعتها.. الغرب يتباهى علينا، ويعلمنا أنه أقام نهضته على أساس «سيادة العقل»، وكتابنا السابق على هذا كله بقرون هو أول من أقام للعقل سلطانا عظيما، وهو أول دين تجيء معجزته فى شيء واحد فقط هى: كتاب! وأكثر ما تخاطب سطوره وآياته العقل ويفرق بين ذوى العقول وسواهم..
وما معنى العقلانية والموضوعية وغيرها من المصطلحات الحديثة إلا استخدام العقل ؟! أليست الموضوعية مثلا هى البدء فى كل أمر بدراسة الموضوع، وما معنى الواقعية إلا أنه يجب أن تكون دراستنا للموضوع دراسة واقعية مستندة إلى الواقع لا إلى التمنى !! "
وأخيرا يقول الأستاذ بهاء : "والخضوع للواقع أمر.. وتغييره أمر آخر وفى هذا يختلف فكر الناس ومدى همتهم وجدوى حساباتهم، وأعظم الذين غيروا وجه التاريخ كانوا أعظم الواقعيين، لأن اختراق طرق التغيير يقتضى معرفة الطريق الممهد من الطريق الوعر ومن الطريق المسدود تماما".


التباس اللغة
فى المصطلح أو المنطق:
ـــــــــــــــــــــ


فتح مقال أحمد بهاء الدين أعيننا على واحدة من مشكلاتنا وهى التباس اللغة فى المصطلح أو المنطق؛ لأننا نمتلك لغة فضفاضة؛ تمتاز بالثراء وكثرة المترادفات؛ فإذا ألقينا كلمة فى أتون الأحداث واحترقت من فرط تكرارها دون معنى مقصود فاللغة تسعفنا بعشرات المترادفات، فنحن لا نخشى عجزاً ما فى هذا النوع من "العملة"...؛ فوارينا سوءات واقعنا ببريق الكلمات، وأسرفنا فى مدح ذواتنا وذم خصومنا، وتأليه حكامنا وتفانينا فى صياغة ما يرضيهم من مفردات اللغة ومعانى الكلام فأسمينا الأشياء بغير مسمياتها ؛ فأطلقنا على الحـاكم على مر تاريخنا مسميات عديدة بداية من "الفرعون الإله " و " الفرعون المقدس بن الإله " و " حضرة جناب الباب العالى المعظم " و " ولى النعم " و " صاحب المقام الرفيع " و " الرئيس المؤمن " و " كبير العائلة " وانتهاء " بفخامة الرئيس "، ونفس الشيء لحق كلمة " الثورة " التى صارت فى لغتنا وصفا يطلق على أول دبابة تصل إلى محطة الإذاعة وتعلن البيان رقم واحد ! وصارت فى عقول الناس العاديين مرادفة لأى حكم عسكرى ! فأطلقنا على انقلاب 23 يوليو 1952 "ثورة 23 يوليو المباركة"، وعلى هزيمة 1956 "الانتصار التاريخى على قوى العدوان الثلاثى الغاشم فى 56" وعلى هزيمة 5 يونيو 1967 " نكسة"، ونحر المختلفين مع النظام "انتحار" والرشوة "إكرامية" والضعف " تسامح " والموظف " صاحب معالى وسيادة " وغيرها من ألفاظ التفخيم والتوقير.


فمع السلطة تبدأ حالة التعاظم والتأله، وبزوالها تضيع هيبة السلطان؛ فتبدأ عنتريات الاجتراء على الحاكم المعزول، وأكاذيب الافتراء عنه واغتيال السمعة، وتلطيخ الشرف، وحملات "التجريس"، والنعت بأسوأ الكلمات، وأحط وأقذع السباب.
يروى بن خلدون فى مقدمته : "من معايب أهل مصر؛ أنهم يمرون على الحاكم المعزول فلا يسلمون عليه ويعيرونه بعزله".


وقد نقلت لنا الملاحم الشعبية المصرية بعض الأهازيج فى السخرية من الحاكم المعزول أو حتى الموظف المرفوت :
".......................
.............................
رحت يا دندوف ؛ من شان
تكيد الرجال ؛ من شان
تبقى سلطان
رجعت يا دندوف، ريشك منتوف
ضهرك مسلوخ؛ وقفاك وارم
شعرك منكوش؛ خطفوا طاقيتك
...................
............................ "
وقد لخص العقل الجمعى حال الوالى المعزول فى المثل الشعبى : "ذل العزل يضحك من تيه الولاية".


***


اتفق أحمد بهاء الدين وميتشل ستيفن أن الكلمة لم تكن أبدا «محايدة» وهو ما يذهب إليه أيضا المفكر ناعوم تشوميسكى فى أن الإعلام التجارى يقوم بتلوين الكلمات ولىّ عنقها لتنطق بمفاهيم مغايرة لحقيقة معانيها بهدف صُنع منتج من نوع جديد، المنتج هو ( الجمهور ) الذى يتم تشكيل مدركاته وفق معارف تحدد أنماط سلوكه،حتى يصبح سلعة سهلة البيع فى سوق الإعلانات من ناحية.
وهو أيضا ما ينطبق على الإعلام الموجه فى الأنظمة المتخلفة من ناحية أخرى؛ حيث يتم إنتاج جمهور مغيب عن حقيقة واقعه المعاش، من خلال غرس قيم الخنوع والاستكانة والرضا بما تقدمه له الأنظمة الاستبدادية بحيث يصبح سلعة طيّعة التداول فى قبضة الحاكم الفرد الديكتاتور من منطلق أنه ليس فى الإمكان أفضل مما كان بما يجعل من قيادته أسهل وأسلس.
وهو ما أكده الباحث الفرنسى جان بولديير بقوله: إن سيطرة شركات وسائل الإعلام ( الخاضعة لنفوذ المؤسسات الصناعية والمالية الكبرى ) من خلال فرض سلطتها فى اختيار القائمين على الإعلام وما يتبعه من تقييد للمعلومات التى توجه من خلال وسائل الإعلام ( المؤسسات الإعلامية ) لتصنع طبقة من صانعى المنتج الإعلامى ( هؤلاء يمثلون مصالح الحكومة أو الطبقة الحاكمة )، وفصلهم عن المستهلكين ( المخدوعين والذين تم إدخال الغش عليهم برسائل مغلوطة من وسائل الإعلام لتقبل وجهات نظر الحكومة أو الطبقة الحاكمة ).
.. وهو ما أعلنه مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزى السابق فى الثانى من أكتوبر 1993 فى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة:
"إن ما نسمعه أو نشاهده هو فى الواقع ما قررت وسائل الإعلام الغربية هذه إننا يجب أن نسمعه أو نشاهده"، وأشار إلى : "الاهتمام البالغ الذى تبديه وسائل الإعلام الغربية برقصة المغنى مايكل جاكسون، أكثر كثيراً من اهتمامها بإذاعة شيء يحدث فى اللحظة ذاتها ويتعلق بمذابح، وعمليات قتل جماعية، أو معاملة وحشية يتعرض لها بنو الإنسان فى أماكن أخرى من العالم".
.. وهو ما لخصه "تشرشل" بكلمات وقورة، بعيدة النظر:


" ابحث عن حقيقة الأمة فى حبر المطابع، وصفحات الصحف".


ــ فلما قيل له : "ولكن مِن الصحف المأجور، والمرتشى ؟! "


ــ قال: إنما أعنى الصحف " سيدة صوتها "، لا الصحف " صوت سيدها" .


الصحافة والحاكم:
ـــــــــــــــــ


ولدت الصحافة فى مصر فى نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر والقيد فى يدها. فقد نشأت فى كنف الحاكم فجاءت مقيدة بقيدين يشدانها إلى السلطة الحاكمة؛ قيد التبعية للحاكم وقيد فرض الرقابة، وهو ميراث ظل يلاحقها حتى اليوم، وإن اختلفت الظروف والملابسات والممارسات من حاكم إلى حاكم، ومن عصر إلى عصر، لكن علاقة الصحافة بالسلطة ظلت معقدة، مثلما ظلت علاقتها بالمجتمع على الناحية الأخرى تتآكل كلما احتكرتها السلطة و ضغطت عليها ؛ لتفقد مصداقيتها أمامه.


.. وظلت حتى الآن تواجه وضعا شديد الالتباس، بالغ التعقيد فالمؤسسات الصحفية القومية مملوكة للشعب، ويمارس حقوق الملكية عليها مجلس الشورى وتحت وصاية المجلس الأعلى للصحافة فيما يخص إدارة شئونها، وهو نمط من أنماط الملكية حول هذه المؤسسات من ملكية شعبية ـ تتمتع بالاستقلال، وتعبر عن مختلف اتجاهات الرأى العام حسب النص الدستورى ـ إلى ملكية خاصة للنظام السياسى تقوم على تبرير مواقفه واتجاهاته وترويجها والتعتيم على الحقائق ووجهات النظر الأخرى المخالفة؛ فتحولت رسالة الإعلام من كاشف للحقيقة ومحرض على التغيير نحو الأفضل، إلى تسويق الزيف، وترويج "الفهلوة" والأكاذيب، وامتداح كل صاحب سلطة والتهليل له وتمجيده إلى حد القداسة، وتلميع أنصاف الموهوبين وفرضهم على الناس، وصنع نجوم وقيادات من ورق وتسويقها للجماهير المخدوعة بالبريق الإعلامى والإلحاح المتكرر؛ فقاطرة الإعلام فى مصر تسير على قضيبين صنعا من إعلام جوبلز القائم على الكذب والتخويف والتخوين، وإعلام مردوخ القائم على الإلهاء؛ بعدما أدركت الحكومات الاستبدادية فاعلية الخطاب الإعلامى فى السيطرة والتحكم، وأن دوره لا يقل أهمية عن دور أجهزة القمع أو أجهزة مكافحة الشغب المختلفة.
الكذب والتخويف والتخوين: بنى جوبلز إعلامه على قاعدة : "اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب ؛ حتى تصدق نفسك، فيصدقك الناس، فإن لم يصدقوك، فاخترع لهم عدواً وهمياً وخوفهم به، فإن لم يصدقوك، فاتهمهم بالخيانة".
وهو ما يفعله إعلام الدولة طوال الـ60 عاماً الأخيرة من إنتاج خطاب تدليسى زائف له أجندات مشبوهة ونشره باسم الحق وهو منها براء؛ وعندما فقد هذا الإعلام مصداقيته بهزيمة 67 بدأ التخويف بمطامع الإمبريالية العالمية فى مصر، وبعد حرب 73 بدأ التخويف بتأخر الرخاء القادم، والزج بالبلاد فى حروب اكتوت على مدى تاريخها بنارها، ومع حكم مبارك بدأ التخويف بقبول الوضع القائم أو السقوط فى فوضى حكم متزمت ضيق الأفق، ومع إدراك الجماهير زيف المخاوف و"الفزاعات"، واكتشافها أن أحوالها فى ظل السلام ليست بأفضل منها أيام الحروب؛ بدأ الإعلام الرسمى بالترويج لاتهامات التخوين وتعقب المعارضين واغتيالهم سياسيا ومعنويا ؛ فظهر مصطلح " القلة المندسة " ؛ " والمجموعة الحاقدة " و"إثارة البلبلة والشغب والفتن" و"انتفاضة الحـرامية" و"أصحاب الأجــندات الأجـنبية " و"الاتهام بالجاسوسية" و"محاولة قلب نظام الحكم".
الإلهاء :.. وبنى مردوخ إعلامه على قاعدة : المثلث الذهــبى لـلإلهاء وزيادة التوزيع وكــثرة الأرباح هى " 3 S" وهى تعنى الرياضة Sport والفضائح Scandals والجنس sex .
وهو ما كشف عنه أداء الإعلام المصرى من إلهاء الجماهير بمباريات الكرة ودراما العرى، و"كليبات" الجسد، وإثارة نعرة التعصب؛ والإثارة الجنسية والطائفية والثرثرة والنميمة، وما أطلق عليها الأستاذ فتحى غانم " صحافة التسالى.. فيشار، وقزقزة اللب".


تعريف الاستبداد:
ـــــــــــــــ


فى كتابه ( طبائع الاستبداد ) يصف عبد الرحمن الكواكبى الاستبداد قائلا: ( إن الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلا أو حكما، التى تتصرف فى شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين.


..... وأشد أنواع الاستبداد التى يتعوّذ بها من الشيطان هى حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية. ولنا أن نقول كلما قلت وصفا من هذه الأوصاف خف الاستبداد إلى أن ينتهى بالحكم المنتخب المؤقت المسئول فعلا ) .


وأورد الكواكبى شذرات مما: (.. تكلم به بعض الحكماء لا سيما المتأخرون منهم فى وصف الاستبداد ومن هذه الجمل : المستبد يتحكم فى شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدى فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعى لمطالبته.


لا بد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علما. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله : فاز المتملقون (.
ويستنتج الكواكبى أن بين العلم والاستبداد حربا دائمة، يسعى العلماء فى تنوير العقول، ويجتهد المستبد فى إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام. العوام الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، ومتى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا، والعوام هم قوّة المستبد وقوته. بهم عليهم يصول ويجول، فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه على حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغرى بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته ( حنكته ) وإذا أسرف فى أموالهم، يقولون كريم، وإذا قتل منهم ولم يمثل يقولون رحيم...


***


وعن أدوات المستبد يقول الكواكبى : "إن المستبد يتخذ الممجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين أو حب الوطن أو تحصيل منافع عامة أو الدفاع عن الاستقلال. والحقيقة فى بطلان كل هذه الدواعى الفخيمة التى ما هى إلا تخيل وإيهام يقصد بها رجال الحـكومة تهييج الأمة وتضليلها، حتى إنه لا يستثنى منها الدفاع عن الاستقلال، لأنه ما الفرق على أمة مأسورة لزيد أن يأسرها عمر ؟ وما مثلها إلا الدابة التى لا يرحمها راكب مطمئن، مالكا كان أو غاصبا.


المستبد يجرب أحيانا فى المناصب والمراتب بعض العقلاء الأذكياء أيضا، اغترارا منه بأنه يقوى على تلين طينهم وتشكيلهم بالشكل الذى يريد فيكونون له أعوانا خبثاء ينفعونه بدهائهم، ثم هو بعد التجربة إذا خاب ويئس من إفسادهم يتبادر بإبعادهم أو ينكل بهم. ولهذا لا يستقر عند المستبد إلا الجاهل العاجز الذى يعبده دون الله أو الخبيث الخائن الذى يرضيه ويغضب الله."


النهر والسلطان:
ـــــــــــــــ


فى مصر ومنذ فجر التاريخ شيئان مرهوبان مرجوان، النيل والسلطان؛ وقد نجحنا فى ترويض النهر بما أقمناه من قناطر وسد، يقول د. جمال حمدان فى كتابه شخصية مصر :
" بعد بناء السد العالى، أصبح للنيل عقل وله ضمير، فالنهر الذى طالما تحكم فى رقابنا، قد تحكمنا أخيرا فى رقبته".
ولم ننجح فى احتواء الحاكم فبقى السلطان محاطاً بغلالة الرهبة وهالة التقديس بما يمتلكه وسائل البطش والجبروت وقدرة المنح والمنع، التى رفعته ــ فى مراحل من التاريخ ــ الى مرتبة الإله أو ابن الإله أو نصف النبى أو على الأقل السوبرمان، الذى يملك من القوة والقدرة والعقل والفهم ما يعجز عنه شعبه؛ بما ضخم الأنا لدى الحاكم وعزز فكرة وصايته على شعبه وإحكام قبضته عليه من جانب، وتعميق وترسيخ الشعور بالدونية لدى جموع الشعب فى تعاملهم مع الحاكم، وألقى بظلاله السلبية على الشخصية المصرية إزاء الحكم والحاكم من جانب أخر.



الفرعون فى القرآن:
ــــــــــــــــــ


كلمة فرعون فى العامية المصرية مرادف لـ "الطاغية"، وأصل كلمة فرعون هيروغليفية ( فرعا )، وتعنى القصر العظيم أو الحاكم ساكن القصر العظيم.
وقد ورد ذكرها فى القرآن الكريم 74 مرة، فرعون لقب للملك الذى يحكم مصر، ولكن القرآن الكريم يتعامل معه كاسم علم، ولذلك يأتى ممنوعا من الصرف، يقول رب العزة فى محكم كتابه: ( إن فرعون ) لأنه سبحانه وتعالى يقصد شخصا بذاته، وهو فرعون موسى الذى علا فى الأرض وطغى وأفسد ، وقد بيّن لنا القرآن فى هذه الآيات الكريمة بعضاً من أنماط سلوكه التى تتطابق مع مسلك الطغاة فى كل العصور: ـ
ــ ( فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) النازعات: 23
ــ ( يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى فتعبدوه ) القصص : 38
ــ ( قال يا قوم أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون ) الزخرف:51
ــ ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) القصص :4
.. بهذه الآيات يفتح القصص القرآنى أعيننا ويضع أيدينا على أدوات صناعة الطاغية ممثلة فى إعلام فاسد ورجل دين فاسق وجلاد فاجر من خلال الكلمات ( حشر )، (يا أيها الملأ )، ( يا قوم ) وهى تعنى جمع الناس وإعدادهم وتهيئتهم لسماع النداء، وتلقى الرسالة، والتصديق بها، وهو أمر لا يستطيعه الحاكم الفرد بذاته ولا يمكنه القيام به إلا بمعاونين وخدم.
ثم تأتى آلة البطش فى المرتبة الثانية ممثلة فى جلاد فاجر؛ لتقمع من فشل الإعلام الفاسد ورجل الدين الفاسق فى إدخالهم إلى حظيرة الطاعة من خلال الكلمات ( وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ ).


بصمات القهر
على الشخصية المصرية :
ــــــــــــــــــــ


أرجع د. جمال حمدان فى كتابه "شخصية مصر" سلبيات وعيوب الشخصية المصرية إلى القهر السياسى :
"إن معظم سلبيات وعيوب الشخصية المصرية إنما يعود أساسا إلى القهر السياسى، الذى تعرضت له ببشاعة وشناعة طوال التاريخ، هذه ولا سواها نقطة الابتداء والانتهاء مثلما هى نقطة الاتفاق والالتقاء، السلطة، الحكم، النظام، الطغيان، الاستبداد، الديكتاتورية، البطش، التعذيب، التنكيل، الإرهاب، الترويع، التخــويف، تلك هى الآفة الأم وأم المأساة، ومن هنا يجمع الكل على أن النغمة الأساسية أو اللحن الخفى المستمر وراء الشخصية المصرية فى علاقتها بالسلطة ومفتاح هذه العلاقة التعسة هو العداء المتبادل والريبة المتبادلة، هى الحب المفقود والبغض الموجود بلا حدود".
وينتهى جمال حمدان إلى أن : "سلبية المواطن الفرد إزاء الحكم جعلت الحكومة هى كل شيء فى مصر والمواطن نفسه لا شيء، فكانت مصر دائما هى حاكمها. وهذا أصل الطغيان الفرعونى والاستبداد الشرقى المزمن حتى اليوم أكثر مما هو نتيجة له. فهو بفرط الاعتدال مواطن سلس ذلول، بل رعية ومطية لينة، لا يحسن إلا الرضوخ للحكم والحاكم, ولا يجيد سوى نفاق السلطة والعبودية للقوة، وما أسهل حينئذ أن يتحول من مواطن ذلول إلى عبد ذليل".


الوعى المصرى
ولغــته العــامية :
ــــــــــــــــــ


.. لكن حقائق التاريخ تؤكد أن بصمات القهر على جلد الشخصية المصرية سرعان ما تزول وتندمل آثارها، فالشعب المصرى الذى تعرض للغزو على مدى تاريخه تعلّم أن يقاوم الغزو بالغزو، غزو من نوع آخر يحمل فى طياته فكراً مصرياً خالصاً، تتكون بنيته من رقائق الحضارات ( الفرعونية ـ اليونانية والرومانية ـ القبطية ـ العربية الإسلامية )، فيحول الغـزاة إلى خلايا تذوب فى النسيج الوطنى.
وكذلك كان الشعب العجوز ذو الجذور والحضارات الضاربة فى عمق التاريخ أسبق إلى ما أسمته حركات التغيير فى العالم المعاصر ( حرب اللا عنف )، فقاوم الطغيان بقهر من نوع جديد يخلو حتى من مجرد العنف اللفظى، ويتفق مع سماته الأصيلة الست، فمازال متديناً وفناناً وذكياً وطيباً ومهذباً، ويتخذ من الفكاهة والسخرية اللاذعة سلاحاً يقتل، ولا يسيل دماً.
فكان الوعى الجمعى الشعبى فى مصر أكثر فطنة وحدساً فى كشف زيف الكلمات فى الإعلام الرسمى، فأصبحت الكلمات التى لا تعبر عن واقعه الملموس مجرد رطانة لغوية تثير سخريته ولا تمس عقوله. وهو ما جعله يهزأ منها ويدير للإعلام الرسمى ظهره، وينصرف عنه ويبحث عن إعلام بديل Alternative media يحقق للمهمشين فرص التعبير عن أفكارهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية من خلال ( الشائعة ـ النكتة ـ الأراجوز ـ الأمثال الشعبية ـ الموال الشعبى ـ العدودة ـ الكتابة على واجهات المنازل والمحلات التجارية ـ الكتابة على هياكل المركبات ـ نشرات الماستر ـ المدونات الإلكترونية ـ الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعى ـ التعليقات على المواقع الإلكترونية ـ التظاهرات السلمية ـ الاعتصامات السلمية ـ الوقفات الاحتجاجية السلمية ـ الإضرابات السلمية ).
ولم يقتصر الإبداع المبتكر للوجدان الشعبى على وسيلة التعبير بل تعداها إلى لغة التعبير عما ترسخ فى عقله الجمعى العام من خلال صياغات مفردات مستحدثة فى لهجته العامية بكل ما فيها من ثراء وقدرة على التوليد والنحت والاشتقاق ؛ لاستخلاص أو صياغة ألفاظ وتعبيرات دالة، ومعبرة تماما عما يراد قوله بحسم ودقة تتواءم مع مفاهيم ومقتضيات الحال؛ فأصبح ما يتلقاه من وسائل إعلامه من رسائل لا تزيد على كونها :
• كلام جرايد : كلام فارغ غير قابل للتنفيذ.
• ميسواش ثمن الحبر اللى انكتب به : لا قيمة له.
• حبر على ورق : مجرد تسويد صفحات بلا هدف.
• بقبقة صحفيين : فشر ومبالغة.
• كلام فوريجية : كلام نصب وشغل بهلوانات.
• هطرسة : هلوسة بأى كلام.
• هرتلة : تخريف واستعباط .
• هرشة مخ : كلام فارغ لا داعى له.
• خربشة دماغ : تعب فى قراءة شيء لا يفيد.
• كلام فى الهجايص : كلام بلا معنى.
• هلفطة : كلام غير مسئول.
• طق حنك : كلام غير مُلزم ( وهى لفظة شامية دخلت إلى العامية المصرية ).
• بقين حمضانين : كلام فاسد يقصد به قول الزور.
• حوار مهابيل : كلام سفه.
• كلام مناويشى : كلام أشبه بالجنون.


لغة "الكابوريا":
ــــــــــــــــ


كما ابتكر الشباب لغة خاصة بهم أسموها لغة "الكابوريا"، وهى لغة مستحدثة وجديدة على المجتمع المصرى، ولها صدى مسموع فى الشارع وفى المواصلات العامة وفى الأندية والتجمعات وفى المدارس والجامعات ولها ألفاظها ومفرداتها ومصطلحاتها الدالة على قيم أصحابها وقناعاتهم وعلى سماتهم النفسية ولها إشاراتها اليدوية وتعبيراتها المنطوقة وأيضا المسموعة، والممثلة فى "لغة الكلاكسات" من خلال نفير أبواق السيارات، ومن أشهر ألفاظها المنطوقة :
• حوارات : وتعنى " ثرثرة بلا جدوى".
• كبّر : وتعنى " لا تهتم ".
• نفّض : وتعنى "لم تسمع شيئاً".
• فُُكَكَ : وتعنى "الترك والإهمال".
• بيئة : وتعنى "متدنى".
• اسكلتش : وتعنى "كلام فارغ أو عمل تافه".
• طحن : وتعنى "المبالغة".
• اشتغله : وتعنى "اخدعه أو اكذب عليه".
• وش : وتعنى "مباشر".
• فركيكو : وتعنى "شخص أجوف".
• مُزّة : وتعنى " فتاة حسناء".
• أفتكس : وتعنى " القدرة على صنع الأكاذيب ".
• روشنة : وتعنى " أسلوب لا يلتزم التقاليد".
• خبؤ : وتعنى "مغفل"
• فلاشة : وتعنى "نقل دون فهم".
• أفاتار : وتعنى "رعب".


الحاكم فى الأمثال الشعبية:
ــــــــــــــــــــــــ


الأمثال الشعبية المصرية هى الصوت المعبر عن أفكار ورؤية المهمشين والبسطاء، وهى خلاصة تجاربه الحياتية وخبراته المتراكمة على مر الزمان، والتى تعبر بصدق عن المزاج الشعبى والأحداث المتلاحقة والمتشابكة مع الواقع السياسى والثقافى والاجتماعى، وهى الدستور الشعبى للمصريين ومرآة تجاربه التاريخية.
وبين الخوف والرجاء؛ جاءت الأمثال لتكشف عن فلسفة الفكر الجماعى للأمة فى الحرص والحيطة؛ اتقاء شر الحاكم من خلال نفاقه والتزلف إليه:
ــ "ضرب الحاكم شرف".
ــ "إهانة الكبير، كبر مقام".
ــ "الناس مقامات".
ــ "العين ما تعلى عن الحاجب".
ــ "إتوصوا بنا يا اللى حكمتونا إحنا العبيد وانتو اشتريتونا".


وحتى تتقبل الذاكرة الجمعية للأمة فكرة غلبة الحاكم وخنوعها الظاهرى له؛ أدخلته فى إطار حنكة التعامل فى العلاقات المختلة بين غشم السلطان وضعف الرعية وقلة حيلتها:
ــ "الإيد اللى ما تقدرش تقطعها بوسها".
ــ " إن كان لك حاجة عند الكلب، قوله يا سيد ".
ــ "اللى الحكومة تاخد مراته ما يتعايرش".
ــ "ماحدش يقول للغولة : يا غولة عينك حمرا".
ــ " سلطان غشوم.. خير من فتنة تدوم ".
ــ "إذا كان خصمك القاضى مين تقاضي؟".
ــ " فيه عاقل يشتكى الجمل لخفه ؟ ".
.. كما أدخلته فى إطار التسامح والرضا بالقضاء والقدر، وهو ما لخصته الأمثال الشعبية:
ــ " يا بخت من بات مغلوب ولا بتش غالب".
ــ " الشكوى لغير الله مذلة ".
ــ " الرضا بالمقسوم عبادة ".
ــ " اصبر على الظالم، بكره يرحل أو تجيله زيحة ".
ــ " المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين ".


***
ذكر الطبرى فى تاريخه وصف عمرو ابن العاص للمصريين قائلا : "أرضها ذهب.. ونيلها عجب.. وخيرها جلب. . ونساؤها لعب.. ومالها رغب.. وفى أهلها صخب.. وطاعتهم رهب.. وسلامهم شغب.. وحروبهم حرب، وهم مع من غلب".
وأوردها ابن كثير والسيوطى والقلقشندى وياقوت واليعقوبى وابن عبد الحكم فى كتابه "فتوح مصر وأخبارها".


النكتة والحاكم
وهــزيمة 67:
ــــــــــــــ


النكتة أحد أسلحة المقاومة، وقد استطاع الشعب المصرى بعبقرية متفردة أن يضم الضحك إلى قائمة أسلحة الدمار السياسى الشامل ؛ يحاكم من خلالها الحاكم، ويحكم عليه بالموت دون قتل.
والنكتة السياسية تنتشر فى الأوقات العصيبة حين تشتد الأزمات وتعبر عن الرأى العام واتجاهاته، وفى كل دولة أجهزة متخصصة فى قياسات الرأى العام من خلال النكات، وهو أسلوب أمنى كان موجوداً أيام عبد الناصر، ومن بعده السادات، الذى كان معروفاً عنه أنه يبدأ يومه بقراءة تقارير الأجهزة عن النكات التى قيلت عنه وكان يسميها ( نكات الصباح ).
كانت النكات التى تفتقت عنها قريحة الشعب المصرى بعد النكسة تعكس فلسفة خاصة به، وهو أنه لم ينهزم ولكن الذى انهزم هم من خانوا أمانته وضللوه وخدعوه، فإذا عايرنا مفردات المشهد عند الهزيمة مع مضمون النكات ذات الصلة، لوجدنا تطابقاً يكشف عن عبقرية شعب يصعب خداعه؛ فهو ينفذ ببساطة إلى بواطن الأمور يلخصها فى كلمات مقتضبة ولمحات ذكية.
كان من أهم مفردات المشهد وقبل هزيمة يونيو بشهر، إسناد الأمر إلى غير أهله، والذى بدا واضحاً فى مساء يوم 4 مايو 1967، عندما استقبل عبد الناصر الـ « فيلد مارشال» مونتجمرى، ومن المفارقات الطريفة أن المشير عبد الحكيم عامر كان بصحبة عبد الناصر فى استقباله وعندما رأى مونتجمرى رتبة المشير والنياشين المعلقة على صدر عامر، الذى كان يحمل رتبة الصاغ ساعة انقلاب يوليو 1952، أخذه الذهول طويلاً، لكن عبد الناصر قدمه له من جديد قائلاً: أعرفك بـ « فيلد مارشال » عبد الحكيم عامر، فسأله مونتجمرى على الفور: فى أى حرب حصلت على اللقب؟!
وخاصة أنه من المستقر عليه أن رتبة المشير لا تمنح إلا لقائد عسكرى خاض حربا بفكر جديد، وانتصر فيها بحيث يصبح هذا الفكر فتحاً جديدأ وإضافة حقيقية إلى مجال العلوم العسكرية.
وســاد صمت طويل وبارد لم تقطعه إلا كلـمات الترحيب بالضيف الإنجليزى والحديث عن انطباعاته حول مصر بعد ٢٥ عاما من انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لم تمض أيام على هذه الواقعة التى جسدت "دراما الواقع" فى مصر الستينيات، حتى دسّ إعلام النظام على الرأى العام بيانات مكذوبة عن استعدادات وهمية لخوض الحرب فى مواجهة إسرائيل، ومع صباح يوم 5 يونيو واصل إعلام النظام بياناته عن انتصارات وهمية ساحقة وقتلى للعدو بالآلاف ودباباته المدمرة وطائراته المحطمة، وأن جيشنا المنتصر سيؤدى صلاة الجمعة فى تل أبيب ؛ بينما كان واقع الحال كما نقلته صحافة العالم أن الجيش انهزم هزيمة ساحقة فى معركة لم يدخلها؛ وأنه ينسحب بطريقة عشوائية وبدون خطة مما ضاعف من خسائره !! ومع أخر ضوء من يوم 9 يونيو أعلن عبد الناصر خبر الهزيمة، ونقل الناس فجأة من نشوة نصر أكيد وعدوا به إلى ظلمة هزيمة مروّعة، وأعطى إشارة البدء وإزاحة الستار عن "مسرحية التنحى".
.. ولكن إذا عرف السبب بطل العجب، كان الهدف هو جبر شرعية انقلاب يوليو الذى استمد شرعيته من التفاف الجماهير حوله، والتى سقطت مع إعلان الهزيمة، وإعادة تنصيب عبد الناصر على قلوب الجماهير؛ فمسرحية " التنحى " أخرجت فصولها المتقنة بعض الدوائر الضيقة الموثوق بها فى الاتحاد الاشتراكى بتعليمات من على صبرى رئيس الاتحاد الاشتراكى وبعض الأجهزة الأمنية التى تتخذ طابعاً مدنيا، والتى نظمت وقادت تظاهرة جموع البسطاء فى الشوارع من خلال توفير وسائل النقل من أتوبيسات المصانع والشركات وعربات النقل الجماعى والجرارات الزراعية لسكان الريف من محافظتى المنوفية والقليوبية، والإيحاء لهم بتجهيز بعض اللافتات بالشعارات المطلوبة، ومكبرات الصوت ؛ ولكن للأمانة العلمية أيضا كان هناك بعض الخروج العفوى من بعض الفئات التى أفادت من سياسات عبد الناصر والتى أخلصت فى الولاء لها، فقد كان هناك بالطبع بعض الضباط السابقين الذين ورثوا مراكز الأرستقراطية المعزولة كما كانت هناك بعض شرائح من العمال التى استفادت من التأميم وصغار المزارعين المستفيدين من الإصلاح الزراعى.
وقد بدأت "مسرحية التنحى" بكورس من بكاء شعراوى جمعة وزير الداخلية و نهنهة زكريا محيى الدين نائب أول رئيس الجمهورية وهو يقول: "لا، لا رئيس إلا أنت يا رئيسى"، ونحيب وعويل أنور السادات رئيس مجلس الأمة فى وصلتين استحضر خلالهما كل مواهبه فى التمثيل، الوصلة الأولى عندما أعلن المهزوم قرار التنحى فى خطابه المتلفز، والوصلة الثانية وهو يلقى بيان المهزوم بالعدول عن قراره على مجلس الأمة بنبرات استعرض فيها قدرته على التلوين الصوتى *وسط تصفيق وتهليل النواب الذين استخفت الفرحة أحدهم فقام يرقص "عشرة بلدى" !!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ذكرت د. عزة عزت فى كتابها " صورة الرئيس" نقلا عن رشاد كامل فى كتابه " الزيارة الثانية للسادات " : أن مجلة فصول نشرت عن رؤية الشاب أنور السادات لذاته عندما بعث بسطور يقدم بها نفسه للعمل بالسينما: " أنا متحكم فى صوتى بمعنى الكلمة فتارة أجدنى أقلد صوت يوسف وهبى وتارة تجدنى أقلد صوت أم كلثوم وهذه خاصية أظنها نادرة ".


لكن الحقيقة المؤكدة والتى يجب التوقف عندها طويلاً، أن التاريخ الحديث والقديم لم يعرف شعباً خرج فى مظاهرات حاشدة غير الشعب المصرى، لا ليفتك بمن تسببوا فى هزيمته واحتلال أرضه وتدمير عتاد جيشه، الذى كانت جثث قتلاه تملأ سيناء وتفوح رائحتها من الصور المنشورة على صفحات صحف العالم.
.. وبالطبع لم يكن إعلام النظام بعيداً عن هزلية المشهد، فسرعان ما لحس أكاذيبه، وراح ينحى منحى جديدا بالحديث عن : "أسرع استفتاء فى التاريخ على شعبية عبد الناصر"، وأن جماهير الشعب قالت : "لا "، و "تحت قصف المدافع وفوق قضبان السكك الحديدية تدافع الشعب إلى عبد الناصر" وذهب كتاب النظام إلى الحديث عن : "قصة 17 ساعة قضاها عبد الناصر مواطناً عادياً "، إلى أن أعادته الجماهير إلى مقعد الرئاسة ؟!

قال التنظيم السياسى والإعلام الرسمى كلمتهما، لكن كان للوعى الشعبى الجمعى كلمة أخرى أعلنها فى صورة نكات، نذكر منها ثلاثا على سبيل المثال:
ـ النكتة الأولى: تحكى النكتة أن كلا من عبد الناصر وموشى ديان افتتحا مسمطين متجاورين فى شارع الصحافة، فدخل رجل من أبناء البلد إلى محل موشى ديان يسأله : عندك مخ ؟ فرد بالإيجاب، وعندما سأله : عندك لسان؟!، أجاب : عند اللى جنبى.
.. اختصر الوعى الشعبى أسباب الهزيمة فى جعجعة حاكمه الفارغة، بينما أعمل العدو العقل، وأحكم التدابير لتحقيق النصر وإلحاق الهزيمة بنا.
ـ النكتة الثانية: تحكى النكتة أن نفرا من أهل مصر الطيبين كانوا فى طريقهم إلى المسجد لصلاة الفجر، فوجدوا عبد الناصر يغسل دبره ويستحم فى مياه النيل، وعندما سألوه عما يفعل، أجاب : أزيل آثار العدوان.
.. اختزل الوعى الشعبى هزيمته فى حادثة اعتداء جنسى وهتك عرض حاكمه.
ـ النكتة الثالثة: تحكى النكتة أن جرس التليفون دق فى منتصف الليل فى بيت عبد الناصر، فنهض فزعاً للرد، فلما رفع السماعة، جاءه من الطرف الآخر من يقول بصوت وقور : "يا ريس لقد وجدت الحل السحرى لإزالة آثار العدوان".
فقال عبد الناصر متلهفاً : "أنت مين ؟، قابلنى فوراً"، فأجابه المتصل: "أنا إسمى المسحوق رابسو".
.. هكذا لخص الوعى الشعبى آثار الهزيمة فى حالة اتساخ لطخت حاكمه بالقاذورات، لكنها لم تنفذ إلى روح الشعب أو تمس جسد الوطن !!
مظاهرات 9 و10 يونيو 1967 .. لمطالبة المهزوم بالتراجع عن قرار التنحى
 نواب الأمة تناسوا عار ومرارة الهزيمة وهللوا وصفقوا لعودة المهزوم !!


الشائعات :
ــــــــــ
الشائعة مثل النكتة هى أحد أنماط الإعلام البديل لمواجهة طغيان الحاكم بإطلاق الشائعات عليه.. وكلتا الوسيلتين بهما ملمح "انتقام وتشفٍ" يعكس حالة من العدوان تجاه الشخص المستهدف لتشويه سمعته أو تغيير موقف الناس منه، والإسقاط من مروّج الشائعة لما يضمره فى نفسه على شخص آخر، والتنبؤ باحتمالات مستقبلية يعتقد مروّج الشائعة قرب حدوثها ويهيئ الناس والظروف لاستقبالها، أو أن تكون الشائعة بالونة اختبار لمعرفة نوعية وقدر استجابة الناس لحدث معين، و جذب الانتباه.
ويرى الدكتور محمد أحمد النابلسى فى كتابه "سيكولوجية الشائعة"
أن "الشائعة" هى قضية أو عبارة نوعية مقدمة وقابلة للتصديق والتناقل دون ذكر مصدرها أو تدقيق صحتها، وهى بالتالى نوع من الاتصال – بالمعنى الإعلامى– ولكنه يجرى لنقل محتوى خاطئ لرسالة تنتشر.
وقد لاقت الشائعة قبولا من المصريين على خلفية ثقافتهم التى لخصها المثل الشعبى: "مفيش دخان من غير نار"، وعلى خلفية تجربتهم الطويلة من عدم الثقة بالإعلام الرسمى التى لخصها فى مقولة : "اسمع الكذب من الإذاعة، واعرف الحقيقة من الإشاعة".
وكان عبد الناصر يعتمد على تحليلات الشائعات؛ لمعرفة اتجاهات الرأى العام، ويتخذ بعض القرارات بعد دراسة شائعات حولها.
وقد طالت الشائعات حكام مصر جميعاً تقريبا سواء كانوا ملوكا أو رؤساء، فالملك فاروق قيل عنه إنه سكير وقمارتى وزير نساء،
ورحل الرجل وبقيت الشائعات عالقة به، وعبد الناصر لحقت به شائعات قتل عبد الحكيم عامر، ود. أنور المفتى، بل إن وفاة عبد الناصر كانت محلا للشائعات بعدما قيل إنه مات مسموماً، والسادات لاحقته شائعة تعاطى الحشيش، وتناولت الشائعات القدرات الإدراكية المحدودة لمبارك وزيجاته السرية وثروات أبنائه !!.

الحاكم فى الأدب المصرى:
ــــــــــــــــــــــ


كان شغف نجيب محفوظ بسيرة الفتوات، تجربة عبقرية أظهرت علاقة المصريين بالسلطة فى قالب روائى، دون أن يجلب لنفسه المشكلات والمتاعب فظل الكاتب المرضىّ عنه طوال أربعة عصور يصل التناقض بينها إلى حد الصراخ.


فعلاقة المصريين بالحاكم تشبه تماما علاقة أهل الحارة بالفتوة، فهم يكرهونه ويرفضونه، ومع ذلك يداهنونه وينافقونه ويرتعدون خوفا فى وجوده, ويشكرونه على أنه سمح لهم بالعيش فى الحارة تحت حمايته، فإذا خلوا إلى أنفسهم سخروا منه وصبوا عليه الدعوات واللعنات، ولكن ربما فى مرحلة من المراحل يدخلون فى حالة التوحد مع المعتدى, فيرونه محقا فيما يفعل, وربما يضفون عليه هالات قداسة فينسبونه إلى الأشراف أو يدّعون اتصاله بنسل النبى صلى الله عليه وسلم، وهذا يريحهم ويرفع عنهم مسئولية مواجهته.


والفتوة لا يسقط بإرادة جماعية من أهل الحارة، وإنما يسقط بظهور فتوة آخر ينازعه السلطة ويبارزه بالنبوت فيهزمه، ويبايع أهل الحارة الفتوة الجديد ويصبون اللعنات على القديم, ويعود إليهم وعيهم بظلمه ومساوئه، ثم يبدأون رحلة استذلال وتملق جديدة مع الفتوة الجديد، ويضفون عليه من صفات القوة والعظمة ما يجعل ذاته تتضخم وبصورة نمطية تتكرر فى حياة المصريين فى كل مرحلة من مراحل تاريخهم.


الاستثناء الوحيد تمثل فى أحداث غضبة 25 يناير والإرادة الجماعية لشباب التحرير لخلع حسنى مبارك، والتى أخذ فيها التغيير شكل الانقلاب العسكرى الناعم المغلف بغطاء من إرادة شعبية.


هتاف الصامتين:
ــــــــــــــ


فى كتابه "هتاف الصامتين" درس عالم الاجتماع الدكتور سيد عويس ظاهرة الكتابة على هياكل مركبات النقل والسيارات الخاصة، وعربات بيع الفول والطعمية أو الكشرى أو الحنطور وعربات الكارو وعلى واجهات البيوت.


وهتاف الصامتين كما وصفه وغاص فى أعماقه الدكتور سيد عويس بمثابة شكوى مكنونة يبوح بها المصرى فى سرية شديدة وفى إيماءات ذكية مكتوبة مثل:
• لك يوم يا ظالم
• كلمة الله آية ولكل ظالم نهاية
• روح منك لله
• ارحم دموع عينيه
• كفايه يا عين
• الزمن هوه اللى هيخلص لى تارى
• قليل الأصل باع واشترى فيا
• شايفك يا حرامى
• بكرة تندم يا جميل
• السلطان من لا يعرف السلطان
• أسألك يا رب، يا مجرى السحاب والعوم
ترجع السبع، سبع مثل عاداته
وترجع الكلب، كلب لرقدته على الكوم !!
• الله يلعنك يا زمان ياللى خليت للندل كلام وجبت اللى ورا قدام وخليت السيد خدام


هتاف الثائرين:
ــــــــــــــ


رصدت السنوات العشر الأخيرة تحولات فى الشخصية المصرية وانعكاساتها فى سلوكهم؛ فتقلصت النكتة فى حياتهم، وحلت محلها الشكوى من الأوضاع وضيق العيش، وبدت واضحةً حالة من الاكتئاب العام فهناك ٣٠ مليون مصرى مريض بالاكتئاب ، منهم مليون وثلاثة أرباع المليون مرضى بالاكتئاب الجسيم ، من بين مرضى الاكتئاب الجسيم 5, 1 % يلجأون إلى الانتحار.*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (المرجع : د. أحمد عكاشة ـ " المصرى اليوم" ـ 28ـ  9ـ 2009  ).

وساد شعور من عدم الرضا والعنف لم يعهدها المصريون فى تاريخهم فهم يشعرون أنهم الذين دفعوا دائما ثمن المواقف الوطنية وهم الذين استشهدوا فى الحروب، وهم الذين دفعوا من أقواتهم وقروشهم القليلة أموال "المجهود الحربى"، وهم الذين شدوا الأحزمة على بطونهم ودفعوا ثمن البناء فى أوقات البناء، ولم يحصلوا على شيء؛ فهم جائعون، وأولادهم عاطلون، وبناتهم عوانس، وإذا مرضوا لا يجدون العلاج الكريم، وإذا ظلموا لا يجدون عدالة ناجزة تنصفهم وتحفظ عليهم حقوقهم وكرامتهم، وكرامتهم مُهانة بعد أن تحولت أقسام الشرطة إلى سلخانات بشرية، فلم يعد يشعر بآدميته سواء فى التعامل مع الشرطة أو المؤسسات الحكومية أو القضاء أو غيره، والحكومة تمارس البلطجة عليهم ليل نهار، فالحكومة تحصل منه مصاريف جمع القمامة على فاتورة الكهرباء وتتركه غارقاً فيها، وتحصل منه أجرة التكييف فى القطارات ولا يوجد بها من الأصل أجهزة تكييف، وتحصل منه قيمة تذكرة ركوب مميزة لأتوبيسات خردة مكسورة المقاعد، وتخصم من راتبه قيمة التأمين الصحى، فإذا مرض؛ لا يجد سوى الهوان والمذلة، وإذا شكا تسخر من مواجعه وآلامه، وهو ما جاء صريحا فى تصريحات رئيس الوزراء الأسبق : "الشعب ماسك فى ذيل الحكومة كأنها ماما وبابا"، و"دعهم يقولوا ما يريدون، ونحن نفعل ما نريد".


وفى لقاء الرئيس المخلوع بمثقفى النخبة بمعرض الكتاب فى 16 يناير 2005 التى كانت تعرف باللقاءات الفكرية مع رئيس الجمهورية وقف د.محمد السيد سعيد ليعلن رأيه بصراحة فى حال البلاد قائلا: "يا ريس إذا كنت عايز تدخل تاريخ هذا البلد.."، وقبل أن يكمل الجملة، رد مبارك مقاطعا: "يا سيدى أنا مش عايز أدخل التاريخ بتاعكم".
ولم يتوقف د. محمد السيد سعيد وقرر أن يسلم الرئيس يداً بيد مشروعاً مقترحاً للإصلاح السياسى، وضع فيه خلاصة خبرته فى البحث فعامله المخلوع بغضب وجفاء قائلاً : "الورقة دى حطها فى جيبك وأنت متطرف وعلى فكرة بقى أنا بأفهم أحسن منك".
وروى د. يحيى الجمل أن المخلوع قال له شخصياً: "أنا معايا دكتوراة فى العند."


وعندما أظهرت الجماهير استياءها من اغتصاب حقوقها الدستورية وتزوير إرادتها فى انتخابات 2010 التى أفرزت برلمانا مزيفاً، سخر منها الرئيس المخلوع فى مجلس الشعب قــائلاً : "خليهم يتسلوا" وسـط تصفيق وضحكات سفهاء المزورين.


وتصدى لها أحمد عز أمين تنظيم الحزب الوطنى بسـلسـلة مقــالات نشرتها "جريدة الأهرام"، مكذباً ومسفهاً ومؤكداً أن الانتخابات نظيفة تماما، وأن حزبه حصل على الأغلبية المطلقة عن استحقاق.
هكذا سدت الحكومة جميع الأبواب والنوافذ فى وجهه ولم تترك له متنفساً، ومارست عليه أبشع أساليب الطغيان والاستبداد وسخرت من مواجعه، ووضعته أمام خيارين لا ثالث لهما وهما خيارا الوجود أو العدم !!؛ فتخلى عن "هتاف الصامتين"، وتحول إلى "هتاف الثائرين "! مطالباً بإسقاط النظام والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية عبر التظاهر فى ميدان التحرير والميادين الكبرى فى كل المدن المصرية والاعتصام على رصيف مجلس الشعب أو مجلس الوزراء أو أمام بوابات ماسبيرو ومقار الوزارات ودواوين المحافظات!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق