الاثنين، نوفمبر 11، 2019

ياسر بكر يكتب : شيوخ الأزهر .. بين الموالسة والتدليس !! ( الحلقة الثالثة )


ياسر بكر يكتب : شيوخ الأزهر .. بين الموالسة والتدليس !!
  
(الحلقة الثالثة)

وثيقة شيوخ الأزهر في موالسة بونابرت والتدليس على أهل المحروسة



دخل نابليون المحروسة بعد أن ساعده الخائن محمد كريم في تدبير وسائل مواصلاته من الخيول والهجين، وعقد له الاتفاق مع عرب البحيرة لتأمين طريق سيره، ولم يلق نابليون أي مقاومة تذكر باستثناء بعض المناوشات الصغيرة عند قرية أم دينار في الجيزة انتصرت فيها طلقات البارود الفرنسي على الأسلحة المتخلفة للقرويين من العصي والسكاكين والفؤوس والمناجل!!

.. وبعد أن استقر المقام لنابليون بدار الألفي بك ناحية الأزبكية، اجتمع بمشايخ الأزهر وثبتهم في أماكنهم، وأعطاهم من الامتيازات ما لم يحلموا به طوال حياتهم، وطلب منهم كتابة مكتوب يحث العامة على الطاعة وقد فعلوا، وجاء في المنشور:

"   
نصيحة من كافة علماء الإسلام بمصر المحروسة : نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونبرأ إلى الله من الساعين في الأرض بالفساد، ونعرف أهل إقليم الأسكندرية أنه حصل بعض فتنة وذلك بمدينة مصر من بعض الجعيدية وأشرار الناس تحركوا بالشر بين الرعايا والفرنسيين بسبب يتصل بقتل جملة من المسلمين ونهب بعض البيوت، ولكن حصلت ألطاف الله الخفية، وسكنت الفتنة بسرعة وانخمدت الشرور بتشفاعتنا عند صاري عسكر أمير الجيوش بونابرته، وقد قبل شفاعتنا ومنع عسكره من حرق البلد ونهبها، بأنه رجل كامل العقل وعنده شفقة ورحمة بالمسلمين ومحبة للفقراء والمساكين، ولولاه لهلك أهل مصر أجمعين، فأنتم لا تحركوا الفتن لتكونوا في أوطانكم مطمئنين، ولا تطيعوا أمر المفسدين ولا تسمعوا كلام المنافقين، ولا تكونوا مع الخاسرين سفهاء العقول الذين لا يقدرون العواقب، فإن الله يؤتي ملكه من يشاء ويحكم ما يريد، والذين حركوا الفتنة قتلوا عن آخرهم، وأراح الله منهم العباد والبلاد، قد نصحنا لكم؛ لتسلموا من الوقوع في البلية، وأن تهتموا لمهمات معاشكم وطاعتكم الدينية والدين النصيحة والسلام ختام". .

  
وقد وقَّع عليه الشيوخ :

  
مصطفى الصاوي، محمد المهدي، سليمان الفيومي، عبدالله الشرقاوي، خليل البكري، محمد أبا جبرة، محمد الأمير، محمد الدواخلي، يوسف الشبراخيتي، مصطفى الدمنهوري، أحمد العريشي، موسى السرسي .

  
يقول نابليون عن هؤلاء المشايخ الذين قبلوا العمالة وخيانة بني وطنهم في الوثيقة رقم 4188 في 19 يونيو 1799 من وثائق جيش الشرق Document n ° 4188 du 19 juin 1799 de l'armée de l'Est :

 "  الشيوخ: البكري، والشرقاوي، والسادات، والمهدي، والصاوي ألزموا أنفسهم بأفضل سلوك كنت أريده، بشَّروا باسمنا كل يوم في المساجد، وكان لتعاليمهم أعظم تأثير على الأقاليم، أغلبهم كانوا من سلالة الخلفاء الأوائل، ويتمتعون باحترام الشعب."

ثمن الخيانة معطف:

ـــــــــــــــــــــــــــــ

    في الوثيقة رقم 4362 في 16 أغسطس 1799 من وثائق جيش الشرق  Document N ° 4362 du 16 août 1799 de l'armée de l'Est : 

 
"أراد القائد العام أن يبرهن على رضائه عن الشيخ الغرياني حاكم الإسكندرية والشيخ المسيري رئيس ديوان الإسكندرية؛ فألبس كلا منهما معطفاً عظيم القيمة " .

العلم الفرنسي
على رءوس المشايخ :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  
بدأ نابليون ممارسة السلطة بجعل أعضاء الديوان "لابسين من عنده"، و" الإلباس" يعني قرار تقليد السلطة الذي يسمى في العرف الدستوري الأوربي Investiture  وصورته في العربية عندما أرسي نابليون مبدأ انتخاب رئيس السلطة القضائية، وانتخب الشيخ أحمد العريشي، ألبسه نابليون فروة مثمنة وسار به المشايخ إلى المحكمة الكبيرة في بين القصرين.

  
كان نابليون يرى أن تلبيس الزعماء المصريين تأكيداً لوضعه بوصفه السلطة العليا في البلاد، يقول الجبرتي :

 
فلما دخل المشايخ على بونابرته، نهض من المجلس ورجع وبيده طيلسانات ملونة بثلاثة ألوان كل ثلاثة طيلسان عروض (أبيض وأحمر وكحلي)، ووضع واحدا على كتف الشيخ الشرقاوي فرمى به إلى الأرض، واستعفى وتغير لونه وقال بونابرته : "إن لم يكن ذلك فلازم من وضعكم الجوكارد على صدوركم"، ـ الجوكارد وسام فرنسي ذو دوائر ثلاث متداخلة بألوان العلم الفرنسي ـ قالوا: "إن قدرنا يضيع عند إخواننا المسلمين"، وقالوا : "أمهلونا حتى نتروى في ذلك واتفقوا على اثني عشر يوما ."..   بعدها أفتى الشيخ السادات الذي أهدى إليه نابليون خاتما من الماس أن: " ذلك لا يخل بالدين "، وظهرت العمامة الأزهرية بألوان الطيلسان الثلاثة ( أبيض وأحمر وكحلي) .. ومازالت على ذلك الحال حتى الآن .

شيوخ الأزهر
والتلاعب بوعي الجماهير:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


 
   لم يكن المستشرق المحارب بونابرت وحده هو المتلاعب بوعي المصريين  فقد شاركه شيوخ الأزهر في اللعبة، وهم واعون بأبعادها؛ ولذا لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارهم ضحايا لعملية التلاعب بالوعي بل يمكن اعتبارهم "الجانب المقزز" فيها!!؛ ففي الوقت الذي قام فيه كبار شيوخ الأزهر بتشكيل الديوان الذي تولى مسئولية الحكم الصوري بعد استبدال العمامة الأزهرية بعمامة حملت ألوان العلم الفرنسي وتعليق الجوكارد La Médaille Jocard في عروة الفراجيات، وتلقي العطايا من بونابرت .. ورغم محاولات هؤلاء الشيوخ لتأنيب وتحذير المتمردين؛ فإنها لم تأت بنتيجة واستمرت المقاومة، وظلت خطب الجمعة في كثير من المساجد تدعو إلى محاربة الغازي، واجتمع نابليون بالشيوخ العشرة المقربين إليه (السابق ذكرهم وتوقيعاتهم على الوثيقة)، وقال لهم :

 
"من الضروري أن نضع نهاية لهذا الشغب، يجب أن أحصل على فتوى من الجامع الأزهر تلزم الناس بأن يقسموا يمين الولاء ".

..   وبهت الشيوخ واصفرت وجوههم، وعكست ملامحهم الحزن والرعب الذي في قلوبهم خوفا من العامة، وتحدث كبيرهم الشيخ الشرقاوي مخاطباً بونابرت:

"
أنت تريد أن تنال حماية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يحبك، أنت تريد أن تحشد المسلمين العرب تحت أعلامك، أنت تريد أن تحمي أمجاد الأمة العربية، وأنت لست وثنياً، كن مسلماً .. 100 ألف مصري، وأيضا 100 ألف عربي سوف يأتون من شبه الجزيرة العربية من مكة والمدينة؛ ليصطفوا حولك تحت قيادتك، وتنظمهم بوسائلك، سوف يغزون الشرق، وسوف تعيد أنت بناء وطن الرسول صلى الله عليه وسلم بكل عظمته .".


..
 وذهل بونابرت وأجابهم :

 
"توجد صعوبتان عظميان تعارضان تحولي أنا وجيشى إلى الإسلام، الأولى هي:  الختان، والثانية : هي النبيذ .. جنودي تعودوا على النبيذ منذ طفولتهم، لن أستطيع أبداً أن أقنعهم بالتخلي عنه  ".

  
إلي هنا والأمر لا يخرج عن دور الشيوخ في الدعوة إلى الإسلام، أو القيام بمناورة سياسية لمقتضى الحال في مواجهة غازٍ مُتغلب بالشوكة، لكن ما حدث بعد ذلك هو "الجانب المقزز" لسببين:


السبب الأول : التلاعب بوعي الجماهير لتحقيق مصالحهم الشخصية عبر موالسة نابليون والتدليس وإدخال الغش على الجماهير، وتحقيق مأرب نابليون في  مصر .


السبب الثاني : امتهان الشريعة وابتذال العلم الشرعي .

   
حيث اقترح الشيخ المهدي (يُقال إن الشيخ المهدي من أصول يهودية، وتولى منصب شيخ الأزهر في عهد محمد عليّ) أن يقوم شيوخ الأزهر الستون بدراسة عن هذا الموضوع، وفي الوقت ذاته قام الشيوخ بتسريب شائعة انتشرت عبر المساجد وساهم في ترويجها الوعاظ ومقيمو الشعائر وفحواها :  

   
)   
أن الشيوخ منهمكون في تدريس مبادئ الشريعة لبونابرت، وكبار الجنرالات، وأن بونابرت يحفظ القرآن عن ظهر قلب، وأن الشيخين العظيمين السادات والبكري يعتبرانه مسلماً، وقال البعض إنه أسمى نفسه "عليّ بونابرت"، وقال آخرون إنه أسمى نفسه : "محمد بونابرت" ، وأنه ينتوي الحج هذا العام، وأنه وعد أن يبني جامعاً كبيراً، وأن شيوخ الأزهر يدرسون إصدار فتوى تسهل إسلام جيش بونابرت بأكمله) .

   
وقد أفادت تلك الشائعات الفرنسيين؛ فلم يعد ينطبق عليهم ما جاء في آيات الجهاد في القرآن الكريم، وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم .. أبطل شيوخ الأزهر فريضة الجهاد، وأسقطوا حد السيف دفاعاً عن الوطن!!



سلاح الفُتيا:
ـــــــــــــــــــــــــــ



   ..
ولكون "الفتيا الدينية" أخطر وسائل غسيل الأدمغة، وأكثرها حسماً في" التحكم في العقول"، وقد تمثلت فاعليتها في العملية أجاكس في طهران 1953من خلال فتاوى الآيات والملالي، وأثرها في تغيير السلوك امتثالاً لأمر الله، وتقرباً إليه لكونها تقوم على سند من الشريعة؛ واجتمع شيوخ الفتيا ووضعوا الفتوى ووقعوا عليها وقالوا فيها: إن الختان هو طهارة وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرعه بل أوصى به فقط؛ ولهذا يستطيع الإنسان أن يكون مسلماً بدون ختان، أما بالنسبة للموضوع الثاني، قالت الفتوى إن الإنسان يستطيع أن يشرب النبيذ ويظل مسلماً ولكنه في هذه الحالة يكون مذنبا .

   
أبدى بونابرت سروره من الجزء الأول من الفتوى، وأبدى أسفه على الجزء الثاني منها، وقال: " كيف يستطيع أن يقنع جنوده باعتناق دين يجدون فيه أنفسهم مغضوبا عليهم، وفي وضع عصيان للأوامر الإلهية؟!" .  

   
وبعد مناقشات أفتى الشيخ المهدي بأن تقتصر الفتوى على نصفها الأول، ويؤجل الجزء الثاني إلى نقاش لاحق، وقامت المساجد في خطبة الجمعة بشرح الفتوى، وتحدث الوعاظ بقوة وفي وقت واحد لصالح الجيش الفرنسي !!

  
الجزء الثاني كان موضوع مناقشات انتهت إلى أن شيوخ الإفتاء قاموا بوضع فتوى قالوا فيها:


"   
إن من يتحول إلى الإسلام حديثاً يمكنهم شرب النبيذ مع بقائهم مسلمين، شريطة أن يكفروا عن هذا الإثم بالأعمال الصالحة وأعمال الإحسان" .

   ..
وخرج نابليون ومن بعده جيشه مدحوراً، وبقيت أعمال الشيوخ عارا معلقا فوق رؤوسهم التي قبلت أن يعتليها العلم الفرنسي في صورة عمامة مازالت باقية إلى يومنا هذا.

لم يكن للأزهر أي دور في ثورات القاهرة .. ولم تعرف المحروسة قي ذلك الوقت تداول لفظ "ثورة" ؛ فقد كانت المناوشات يطلق عليها لفظ "هوجة"، ولم تدخل لفظة "ثورة" في تدوال الأحاديث لتألفها الأسماع سمعاً والعقول فهماً إلا في عام 1895 تقريباً، وكل ما يذكر عن دور الأزهر في الحركات الوطنية هو من قبيل تجاوزات المدرسة الوطنية في الكتابة والتأريخ التي تجنح دائما إلى الادعاء في إطار الترويج للفخار الوطني المزعوم والموروث؛ فالأزهر نشأ في كنف الحاكم ولم يزل قائما في ظله .. يلقى رعايته، ويبذل في مقابلها دعماً للحاكم في سوس الرعية وتبرير تجاوزاته ومفاسده؛  .. فلم يثبت أن شيوخ الأزهر ثاروا أو حرضوا على الثورة إلا من أجل الجاماكية ( الرواتب ) أو الجراية ( مقررات الخبز التي تصرف للطلبة والشيوخ.).
 
  
حكى الجبرتي على صفحات كتابه بعنوان : "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" وقائع الثورة ضد الفرنسيين، يقول الجبرتي : "فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم، وأصبحوا يوم الأحد متحزبين وعلى الجهاد عازمين، وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وآلات الحرب والكفاح، وحضر السيد بدر وصحبته حشرات الحسينية وزعر الحارات البرانية، ولهم صياح عظيم وهول جسيم، وذهبت تلك الجموع إلى بيت القاضي؛ ليخرج معهم إلى بونابرت لمطالبته بإلغاء الضرائب الجديدة إلا أنه خاف عاقبة الهوجة، فرجمه الثائرون بالحجارة والطوب، ولم يتمكن من الهرب من أيدي تلك الحشود"  . .

يقول الجبرتي عن هؤلاء المشايخ : "وقد زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس وانهمكوا في الأمور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية ومشاركة الجهال في المآثم والمسارعة إلى الولائم في الأفراح والمآتم يتكالبون على الأسمطة كالبهائم فتراهم في كل دعوة ذاهبين وعلى الخوانات راكعين وللكباب والمحمرات خاطفين وعلى ما وجب عليهم من النصح تاركين‏"



.. إنه التاريخ الذي لا تسقط الأوراق من كتابه .


لمزيد من المعلومات اقرأ : 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق