عرضنا المشكلة على صفحات الكتاب، والتى تتلخص
معطياتها فى انهيار الكلمة وفقدان مصداقيتها بسبب الاستبداد السياسى وفساد الذمم
الصحفية تحت ضغوط المعلنين ولوبى أصحاب المصالح المشبوهه الذى حذى حذو عصابات
المافيا ( الجريمة المنظمة ) باستئجار بعض الصحفيين من خلال بعض الأساليب الخفية
غير المشروعة مثل التى تتخذ شكل المنح النقدية المباشرة وتسهيلات معينة وعقود
وهمية وتكليف بمهام صورية ؛ لتوفير مظلة إعلامية تظهر اللصوص فى ثياب الفرسان وتبرر
فسادهم وتجعل من جرائمهم إنجازات يجب أن
يحمدوا عليها !! .
لكن
وللأمانة العلمية ، لم يكن ذلك مقصوراً على الصحفيين فقط ، بل امتد إلى الأجهزة
المختلفة فقامت هذه العصابات باستئجار بعض كبار المحامين وشراء ذمم بعض القضاة
وتجنيد بعض ضباط الشرطة والمسئولين النافذين فى دوائر صنع القرار، أى قامت بتوظيف
الأجهزة التى تأسست لمكافحتها والقضاء عليها لتنفيذ أهدافها الإجرامية .
ومع صعود الصورة واجهتها الكثير من المصاعب
تمثلت أهمها فى نمطية اللقطات وإساءة توظيف الصورة فى غير سياقها والتلاعب فى
تفاصيلها بالتغيير والتبديل والحذف والإضافة ، فضلا عن تدنى الكفاءة المهنية لعدد
غير قليل من المصورين المصريين فى الفترة الأخيرة وضعف تجهيزاتهم من المعدات ؛ مما
جعل الصحف المصرية فى كثير من الأحيان أسيرة لما يقدمه مصوروا الوكالات الأجنبية
من صور لأحداث محلية .
ولأن عرض المشكلة دون تقديم حل يجعل من الكتاب
ومؤلفه جزءا من المشكلة ؛ ولأنه لا يروق لى ذلك، فسأقدم الحل من ثلاث وجهات متكاملة
:
الوجهه
الأولى من خلال إعمال القانون من جانب الدولة، وهو ما طالب به الأستاذ محمد
حسنين هيكل من
خلال مقالين فى مجلة
(آخر ساعة) :
المقال الأول بتاريخ 13 أغسطس 1952
وطالب فيه بتطهير الصحافة واقترح ثلاثة
حلول :ـ
ـ إلغاء المصاريف السرية
للصحافة فوراً.
ـ إعلان أسماء جميع
الصحافيين الذين استحلوا لأنفسهم أموال المصاريف السرية فى جميع العهود.
ـ قيام ديوان المحاسبة (
الجهاز المركزى للمحاسبات حالياً ) بفحص حسابات جميع الصحف المصرية لنعرف ما هى مصادر
تمويلها وكيف تعيش.
وأكد هيكل أن هذا هو
الطريق للتطهير.
المقال الثانى بتاريخ 21
ابريل1954
وعنوانه: (4 اقتراحات للصحافة)..
الاقتراح الأول: تحديد
أرباح الصحف وصاحب هذا الاقتراح هو الصحافي الانجليزي الكبير ويكهام ستيد وهو يرى
ان أكبر خطر على الصحافة هو سعيها للربح فهي في هذا السعي تلجأ إلى الإسفاف وإثارة
غرائز الجماهير والتبذل فيما تنشر من أخبار ومقالات وقصص. ويقول ستيد: إن الصحف
يجب أن تحتذي بهيئة الإذاعة البريطانية ولا تحقق ربحا أكثر من 8% من رأس المال ولا
يجوز أن تتجاوز هذه النسبة.
الاقتراح الثاني: تشكيل
مجلس مستقل يشرف على الصحافة ، وصاحب هذا الاقتراح هو مجلس العموم البريطاني ،
ويحدد مجلس الصحافة المستقل حقوق الصحفيين وواجباتهم، ويكون أعضاء هذا المجلس ممن
يتصفون بالنزاهة والعدالة ، ويوكل إليهم الإشراف على الصحافة المصرية لصالح
الصحافة ذاتها ولصالح الشعب كله.
الاقتراح الثالث: عهد
شرف للصحفيين، وصاحب هذا الاقتراح هو الأمم المتحدة ، وينص العهد أو الميثاق على
أن يتحرى الصحفي الدقة فيما ينقله من أخبار والأمانة في رواية كل ما يأتيه منها
دون إخفاء شيء منها لمصلحة خاصة ، وينص على رعاية المصلحة القومية العامة والبعد
عما يضر بهذه المصلحة من الشائعات والأراجيف ، وينص على احترام سمعة الغير والنأي
عن سوء الأخبار التي تنال منهم في حياتهم الخاصة دون أن يكون من وراء هذا منفعة
عامة.
الاقتراح الرابع: إلزام
الصحافة باحترام حرية الصحافة ، وصاحب هذا الاقتراح هو إيرون كانان رئيس تحرير
أفضل الصحف الأمريكية (كريستيان ساينس منيتور.)
فإذا
ما أضفنا إلى ما قاله الأستاذ هيكل أربعة مقترحات أخرى فإننا نكون أمام خارطة طريق
جادة وحقيقية ومتكاملة للخروج بصحافة الوطن من أزمتها : ـ
ـ
عدم تجاوز الخط الفاصل بين التحرير والإعلان ، وختم الإعلانات بخاتم واضح ينبه
القارئ لكونها مادة إعلانية .
ـ
عدم جواز الخلط بين الخبر والرأى .
ـ
عدم جواز الاستخدام الجائر للصورة بتوظيفها فى غير سياقها أو التلاعب فى تفاصيلها
أو نشر صور تحتوى على مشاهد تمثيلية للإيهام بأشياء ومعان غير حقيقية .
وإذا
كان هناك ثمة ضرورة لذلك يتم ختم الصورة بخاتم واضح ينبة القارئ لكونها ( رسوم
فوتوغرافية أو مشاهد تمثيلية ) ، وليست وثائق فوتوغرافية حقيقية .
ـ
إعادة الهيبة لأرشيف الصور الصحفية ؛ بتوفير الوسائل التكنولوجية الحديثة لحفظ
الصور ، وإعادة فهرستها وفقا لأولوية وأهمية محتواها الوثائقى والتاريخى والثقافى
والصحفى ، وضمان حماية حق الملكية الفكرية للمصور فلا يتم العبث بمصنفه
الفوتوغرافى أو إساءة استخدامه أو تشويهه أو العبث به .
***
الوجهه الثانية
من خلال مقال الأستاذ
عباس محمود العقاد فى مقاله بمجلة الهلال ـ عدد نوفمبر 1952 ، بعنوان : « عالم الكتابة
والكتّاب فى حاجة إلى التطهير» ، وعالم الكتابة كما حدده العقاد يشمل الكتابة فى الصحف كما يشمل كتابة المصنفات
والرسائل وكل كتابة منشورة على العموم .
بدأ
العقاد مقاله بضرورة تطهير عالم الكتابة لكونها المسيطرة على أقدار الشعوب وهى
الموكلة بالتذكير والتبشير بغير شريك ولا نظير ؛ ولأن الكتابة فى الأمة صورة
للكاتب والقارئ فى وقت واحد ، فإذا حسنت هذه الصورة فهى علامة حسنة على خلائق
الكتاب وعقولهم وعلامة حسنة كذلك على الأخلاق والأفكار وحسن الإدراك عند القراء،
وأن الفضل فضلهم فى صدق كتابهم ونهوضهم بأمانتهم ، لأن هؤلاء الكتاب لا يقدرون على
الكذب والزور حيث يظهر الكذب والزور بيناً لكل قارئ .
وأوضح العقاد أن المصاريف السرية ليست هى كل
الأجرة التى يؤجر بها أصحاب الأقلام المسخرة والضمائر الخربة ، فهناك الوساطات فى
الصفقات والمنافع وهناك السمسرة «الأدبية»
فى الشفاعات والاستثناءات .
وطالب العقاد الحكومة بكشف ما تم صرفه من
خزائن الأحزاب والشركات على شراء الأقلام وترويج النفوذ الذى يسيطر على الحياة من
غير الطريق المستقيم .
وأكد العقاد على ضرورة فضح الأقلام المأجورة
التى تسخرها الدول الأجنبية جواسيس على أوطانها لتفسد سياسة أوطانها وتخدم مصالح
تلك الدول .
وأنهى العقاد مقاله بأن تطهير الكتابة تطهيران :
تطهير من جانب الحكومة وتطهير تقع مسئوليته على جمهور القراء، تطهير من قبل
الحكومة وتطهير من قبل القراء ، والتطهير الذى تستطيعه الحكومة أن تراجع أضابير
الدواوين وتستخرج منها أسماء أصحاب « الرواتب السرية » فى عهد كل وزارة غابرة ،
وأن تحاسب الوزراء الذين أخذوا من خزانة الدولة مالاً باسم المصاريف السرية وكيف
أنفقوه وعلى من وزعوه ، وكيف استجازوا أن يستعينوا بمال الأمة على تضليل الأمة
وحملها على قبول الرأى المأجور والثناء الزائف والفكرة التى يكتبها الكاتب غير
مؤمن بها ولا مخلص فى الدفاع عنها .
أما التطهير الثانى فهو من قبل القراء الذين
يجب أن يحترموا عقولهم ويضنوا بمصالحهم العامة أن تلعب بهم أقلام المأجورين . فيحاسبون
فى إطار المسئولية الأجتماعية كل من كذب عليهم ونقل إليهم ما يجعل تاريخهم كذب
وأمجادهم زيف وأخبارهم دجل ؛ فيعاقبوه على كذبة وزوره ؛ بالإعراض عما يكتبه فلا
تروج له تجارة بينهم ، فلا يجد لنفسه عيشاً بينهم ويمسى " منبوذاً" ويظل عبرة لغيره ممن
يكذبون ويزورون .
***
الوجهه
الثالثة تأتى من جانب الصحفيين أنفسهم فى
إطار أخلاقى يهدف إلى التطهر ويقدم حلاً رائعاً لمن فسدت ضمائرهم الصحفية واتسخت ذمتهم المالية وتلوثت
سمعتهم وأسماؤهم والذين أسماهم الشارع المصرى بـ : (المتحولون ـ سماسرة الإعلانات
ـ كتبة السلطان ـ صحفيو إقبض واكتب ) من خلال تجربة
الصحفى الانجليزى جوهــــان هـــارى Johann Hari الذى قدم للإنسانية تجربة جديرة بالأخذ فى
الاعتبار، فقد استيقظ
قراء صحيفة الإندبندت فى صباح 15 سبتمبر 2011 على مقال نشر لمعلق الجـريدة
البـارز جوهــــان هـــارى Johann Hari، بعنوان "
اعتذار شخصى "A personal
apology كان مضمون المقالة أكثر
إثارة من عنوانها، فقد سجل الكاتب بعض الاعترافات التى أقر فيها بأنه لم يكن ملتزما
تماما بآداب وأخلاقيات المهنة ، وانه أجرى تعديلات على إجابات بعض من أجرى معهم مقابلات
صحفية، ووضع إضافات من عنده
على ألسنتهم، وهو ما يعنى أنه تخلى عن الصرامة
المهنية التى تفرض عليه ألا يتدخل فى إجابات مصادره وينقلها كما هى دون أية إضافة
، كما أنه دخل موقع «ويكيبيديا» على الإنترنت وأجرى تعديلات فيما نشر عنه متعلقا بسيرته
وعمله فى الصحافة كما ألغى انتقادات وجهت إليه ، وأن اللعبة قد استهوته فسعى إلى مجاملة
أصدقائه من زملاء العمل ؛ حيث أجرى تعديلات فيما
نشره الموقع عنهم.
لم يكتف جوهان هارى بهذه الاعترافات، ولكنه قرر
أن يكفر عن فعله ويعاقب نفسه. وأن يعيد جائزة سبق أن فاز بها تقديرا لعمله الصحفى،
كما قرر أن يحصل على إجازة غير مدفوعة الأجر حتى نهاية العام المقبل من صحيفة
الإندبندنت، سوف يقضيها فى الانضمام إلى برنامج تدريب على الصحافة حسب أصولها ،
وحين يعود إلى عمله بعد ذلك فإنه سيضم إلى كل مقابلة يجريها هوامش تظهر المصادر
التى اعتمد عليها. مع إضافة تسجيل كل مقابلة إلى الموقع الإلكترونى للجريدة.
تجربة جوهــــان
هـــارى Johann Hari ذات أربعة عناصر :
1ـ الاعتذار
للقارئ عن خيانة الأمانة وتضليله.
2 ـ رد كل
مكتسبات الممارسات الضالة باعتبارها كسباً غير مشروعاً.
3 ـ البدء فى إعادة
التدريب والتأهيل لرفع الكفاءة وفق معايير مهنية.
4 ـ التعهد بتقديم
الحقيقة المدققة والموثقة.
***
قدمنا توصيات للحل ، لكننا لانملك سلطة الدفع باتجاهه ، أو الإجبار عليه ؛ لكون الباحث الجاد مثل الناصـح الأمين الذى يدل السائرين إلى الطريق القويم و « سكة السلامة » لكنه لا يملك حق الدفع بهم للسير فيه ، وهو مثل الفارس النبيل الذى يقود جواده إلى مجرى النهر، لكنه لا يستطيع إجباره على الشرب منه .
إلى أن يتم ذلك ، .. تظل قضية حرية الصحافة هى أشهر قضية مؤجلة فى مصر؛ تؤجلها كل مرحلة إلى المرحلة اللاحقة؛ فقد أخفق الجميع فى حلها.. لا « هوجة » عرابى حاولت، ولا ثورة 1919 استطاعت، ولا انقلاب يوليو 1952 حسم، ولا غضبة 25 يناير 2011 اكتملت فاعلياتها بعد؛ فمازالت أقرب إلى الانقلاب العسكرى الناعم المغلف بغطاء من إرادة شعبية منها إلى الثورة بمفهومها المستقر عليه ، فالنظام لم يسقط بعد والسياسات هى السياسات والأحزاب هى الأحزاب وإن تغيرت أسماؤها والانحيازات هى الانحيازات، ومازالت «عقلية» النظام المخلوع مسيطرة على الإعلام، ومازالت أموال الشعب تضخ فى شكل ميزانيات ضخمة لاستمرار صحف ومجلات وقنوات تليفزيونية خاسرة؛ فقد بلغت خسائر المؤسسات الصحفية القومية 13 مليار جنيه، وخسائر التليفزيون الحكومى 17 مليار جنيه، وهذا الواقع لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة مقبلة إلا على حساب مزيد من الأعباء المالية الحكومية؛ فجميع إصدارات المؤسسات القومية خاسرة باستثناء الإصدارين اليوميين للأخبار و الأهرام !! .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق