الأحد، أكتوبر 09، 2011

ياسر بكر يكتب : " باشا الصحافة " لم يكتب مذكراته .. ولم يحرقها !!


ياسر بكر يكتب : " باشا الصحــافة "
 لم يكتب مذكراته .. ولم يحــــرقها !!

فكرى أباظة


تنويه قبل أن تقرأ :


عزيزي القارئ: لا أكتمك سرًا، أنني توقفت أكثر من مرة أثناء كتابة هذا البحث؛ حتى لا أميل بشق قلمي، فأحمل فوق رأسي ظلمًا ألقى به وجه الله؛ خاصة أننا جميعًا في دار الهلال (عمال وإداريين وصحفيين)، نعتقد جازمين أن لكلّ منا نصيبًا من إرث في التركة الصحفية لفكري باشا أباظة.
.. الباشا عميد الهلاليين (نسبة إلى دار الهلال) وشيخ الصحفيين، ومن ثم كان لا بد من تنحية هذه المشاعر وتلك الأحاسيس جانبًا؛ كي لا يتسرب وهجها إلى حروف الكتابة فتصيبها بسخونة اللغو، وتصبح مثل أعواد الثقاب المشتعلة لا تخلف إلا رمادًا أو اللاشيء.. وليأخذ المنهج العلمي مساره ليحفر نقوشه الرصينة على جدران الحقيقة، وإن تخاصمت مع مكنون المشاعر في خزائن الوجدان.
كان الإجراء الأول في حصر تركة الباشا هو السؤال عن مذكراته، البعض قال: إنها سُرقت من شقته على أثر العبث بمحتوياته بمعرفة أحد الأجهزة البوليسية بعد أزمة مقاله الشهير بعنوان: «الحالة ج»، والبعض الآخر قال: إن الباشا قد حرقها كي لا يُحرج معارفه وأهل زمانه، وقد أعلن ذلك صراحة في مقال بعنوان: «قررت حرق مذكراتي»،. لكن كان للبحث العلمي رأي آخر يقول بغير هذا، ويقر بالمخالفة لذاك!!
***
البداية:

كانت البداية، في يوم شديد القيظ من أيام شهر أغسطس، لم تستطع المراوح البدائية آنذاك أن تُلطف حرارته، التي زادها مقال فكري أباظة سخونةً، فقد تفتحت أبواب الجحيم؛ عندما كتب مقالاً بعث به من أسبانيا حيثُ كان يعالج عينيه؛ نشرته مجلة المصور في عددها رقم 1923 (بتاريخ 18 - 8-1961) بعنوان «الحالة ج»؛ استعرض فيه أحوال العالم السيئة واقترح بعض الحلول لإصلاح الأحوال؛ وجاء في البند 7 من مقترحاته ما يلي:
«تقرر الدول بالاتفاق حياد منطقة الشرق الأدنى وجميع الدول المنضمة إلى الجامعة العربية وينشأ بعد هذا ألاتفاق اتحاد فيدرالي بين الدول العربية، ويكون اختصاصه مقصورًا على توحيد الجيوش الحيادية العربية وسياستها الخارجية على أن تدمج فلسطين بأسرها في هذه الدول، وتشمل إسرائيل بعد أن تزول عنها صفتها الدينية، ويصبح الإسرائيليون من رعايا هذا الاتحاد الذي يكفل لكل الأقليات حقوقها كاملة حسب التقاليد الدولية المتبعة».
وما إن نُشر المقال حتى قامت الدنيا ولم تقعد؛ لأن مجرد التفكير علنًا وبالصورة التي نشرتها المصور يشكل جريمة لا تغتفر في رأي الدولة التي اعتبرت المقال هدما للخط الناصري ودعوة للدول الأوربية لفرض اتحاد على المنطقة العربية وبحث إمكانية الصلح مع إسرائيل ودمجها في المنطقة.


صورة رقمية من مقال الحالة " ج "

فرانكو وعبد الناصر:

بينما يرى صبري أبو المجد أن وراء إقالة فكري أباظة سببا آخر؛ولكن تم فصله تحت ذريعة مقاله (الحالة ج)؛ فقد كان فكري أباظة يحرر بابًا آخر في المصور بعنوان «كلمة الحق»، وقد جاء فيه تحت عنوان: من محب وسهير إلى بابا فكري وتضمنت الرسالة معنى:

«بالرغم من أن فرانكو أنقذ أسبانيا من مجازر الشيوعية والحرب الأهلية وقام بعدة إصلاحات في الصميم.. بالرغم من ذلك فهو لا يظفر بالحب الذي يستحقه ولا بعرفان الجميل الذي هو به جدير من بعض خصومه، وتحليلنا على قدر إدراكنا أن هؤلاء الخصوم يؤثرون الحرية الشخصية على كل مجد وإصلاح، وحرية الكلام وحرية الحِل والترحال وحرية الاجتماع التي هي غريزة آدمية؛ أي حرية ولا حيلة للمنطق فيها ولا حيلة للإقناع بعكسها».

وقد اعتبرت هذه الفقرة إسقاطًا على عبد الناصر والنظام في مصر والأوضاع فيها..

الحادث في صحافة القاهرة:

وفي يوم 18 أغسطس 1961 صدرت جريدة الأهرام وفي صفحتها الأولى خبر صغير: «أصدر الرئيس جمال عبد الناصر قرارًا بإعفاء فكري أباظة من رئاسة مجلس إدارة دار الهلال ورئاسة تحرير المصور».

هكذا صدر الحكم على الرجل الذي جاوز السبعين من العمر‏ بالإعدام المعنوي بعد أن مُنع من الكتابة نهائيا، ورُفع اسمه من على لافتة كل مطبوعات دار الهلال، وسُمح له فقط بالخروج من بيته للتوجه فقط إلى مقهى الأنجلو‏.
***
ملحوظة: لم يرسل قرار الإعفاء إلى دار الهلال، ولم ينشر في الصحيفة الرسمية، وكل ما تضمنه الملف رقم (1 / 1 إدارة التحرير) بمؤسسة دار الهلال الخاص بالسيد الأستاذ محمد فكري حسين أباظة بشأن تلك الواقعة هو قرار من الأستاذ عبد الرءوف نافع العضو المنتدب بدار الهلال، يأمر بمقتضاه بصرف المخصصات المالية للسيد الأستاذ فكري أباظة على مسئوليته الشخصية، ويتعهد بسدادها من ماله الخاص في حال اعتراض اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي على ذلك.
أسوق هذه المعلومة للرد على الذين حاولوا استغلال هذه الأزمة في الإساءة إلى تاريخ الرجلين معا، الرئيس جمال عبد الناصر والأستاذ فكري أباظة ـ بقصد أو بغير قصد ـ على غير الحقيقة، بزعم أنه لم يكن يجد ثمن الطعام أو الدواء، وأنه كان يقترض ليحصل عليهما!!

***
..‏ وبعد ‏37 ‏ يوما من قرار الإعدام ــ الفصل ــ أُبلغت مؤسسة دار الهلال بأنه قد سمح لفكري بمنحة الاعتذار، فمشي الرجل وحيدًا إلى قصر عابدين، ليكتب في دفتر التشريفات اعتذاره للرئيس عبد الناصر عن مقاله‏، ونشر له اعتذار آخر في الأهرام‏،‏ العدد 27316، الاثنين 25 سبتمبر1961 بعنوان «معركة بين ضميري وقلمي»، نشرته الأهرام مع مقدمة لمحرر الجريدة جاء بها:
«يسعد «الأهرام » أن يحمل اليوم أول مقال لفكري أباظة بعد غيبته، التي نحمد الله أنها لم تطل، نقول ذلك بشعور من العرفان ليس له حد، نحو هذه الثورة الغالية التي تمسك بسيف الحق في يدها، وبين جنبيها قلب ينبض سلامًا وحبا».

وبدأ فكري أباظة سطور مقاله بأنه كان الواجب أن أقدم هذا الإيضاح لصاحب الشأن أولا وهو سيادة الرئيس‏..‏ ولقد فعلت‏، والرجل العظيم الذي أعفى المحكوم عليهم بالإعدام من الإعدام‏، والذي أعفى الذين تآمروا على حياته من الأشغال الشاقة المؤبدة‏، هذا الرجل لا يعز عليه أن يعفو عن فكري أباظة لا من الإعفاء، وإنما من حيثيات الإعفاء إذا شاء الله‏‏، فشاء‏..‏ لا يمكن بحال أن يختفي قلم فكري أباظة في عهد جمال عبد الناصر‏..‏ 

نص المقال: 

كان «واجبا» على أن أنشر لقرائي «إيضاحًا» عن «مقالي». ..
ولقد كان «أوجب» أن أقدم هذا «الإيضاح» لصاحب الشأن ـ أولاًـ وهو سيادة الرئيس....
ولقد فعلت...
الرجل العظيم الذي «أعفى» المحكوم عليهم بالإعدام من «الإعدام»! والذي «أعفى» الذين تآمروا على حياته من الأشغال الشاقة المؤبدة! والذي «أعفى» المحرومين – بأحكام – من حقوقهم المكتسبة من هذا الحرمان، ورد إليهم اعتبارهم الشخصي، والسياسي...
 هذا الرجل لا يعز عليه أن «يعفي» – فكري أباظة – لا من الإعفاء – وإنما من حيثيات «الإعفاء». ..إذا شاء الله. فشاء...
ويمكن – بحال – أن يختفي قلم «فكري أباظة» في عهد «جمال عبد الناصر»! ولا بد أن يجد طريقه ـ في أي ميدان ـ ليستأنف جهاده وكفاحه في سبيل هذه الثورة وفي سبيل زعيمها وقائدها؟ والمسئول الأول عن الوطن العربي الكبير الواسع المساحة والفادح الأرجاء.
بقي واجبي نحو قرائي بعد أن أديت واجبي نحو سيادة الرئيس....
و«الإيضاح» الذي أنشره هو «قصة»!..قصة «معركة عنيفة» بين «ضميري» و«قلمي »! «فتنة أهلية» داخل كياني الهزيل الضئيل.
قال «ضميري» لقلمي.
«أنت لم تُحسن ترجمة ما دار في خلدك! أو لم تسجل بعبارة أصرح، وأفصح، وأوضح ما أمليته عليك إملاء!.. لعلك قد هرِمت أو «شِخت»، أو تعثرت بحكم أرذل العمر، وهو ما أنت فيه؟!». 
قال «قلمي» لضميري:
«إن الأقلام لا تشيخ! وقد تتعثر. ولكنها لا تتبدل ولا تتغير! ولقد محوت «إسرائيل» محوًا من خريطة العالم!، وحطمت «دولتها» تحطيمًا! وأعدت الأرض التي دنستها إلى «الكيان الفلسطيني العربي الكبير»، ثم جعلت مخلفاتها المتناثرة من الآدميين «رعايا» للأمة العربية الكبرى في «اتحادها الفدرالي» الذي ينبثق من إرادتها، هي كما هو ظاهر من «النص» الجلي الصريح... اللهم إلا إذا كان «الحظ التعس» قد نكب عبارتي بالغموض، وهذا « قدر». ولا حيلة لي في هذا القدر!!
وتدخلت «حنجرتي» في هذه المعركة الناشبة بين «ضميري» و«قلمي» فقالت: إن القضاء جرت «تقاليده» و«أصوله» على أن يراجع «سوابق المتهمين». .. وأنا «الحنجرة» قد هززت منبر «مجلس النواب» ـ البائد ـ هزًا فدوى دويي في أرجائه «عشرين عامًا» طوالاً من أجل «فلسطين» ـ وكنت صاحبة الصوت القاصف في الجلسات العلنية والسرية من أجل «فلسطين» ثم هززت أرجاء «الإذاعة» هزًا «مائتي مرة» من أجل «فلسطين» فإذا أضفت أيها «الضمير» جهاد «الحنجرة» إلى جهاد «القلم» وجدت أن صاحبنا ـ فكري أباظة ـ لم يخرج عن مبادئ «القومية العربية» يومًا واحدًا منذ أن كان لهبًا من ألهبة الثورة في سنة 1919- إلى أن كان – ولا يزال لهبًا من ألهبة الثورة من سنة 1952 إلى سنة 1961!!
وتدخل «وجداني» في المعركة وقال: «أيها الضمير – أيها القلم – أيتها الحنجرة مكانكم! كفى ضجيجًا وعجيجًا... أن صاحبي، وصاحبكم؟ ليس بالجاحد: فلقد أكرمه الرئيس«هذا الكيان العربي الكبير وكرّمه: فأمر الرقباء – في عهد الرقابة – بألا يراقبوا ما يكتبه، ويكتبه زميله الأستاذ الكبير «التابعي»، وحين كان سيادته في زيارة «الاتحاد السوفيتي» أتاح له الكلام في حفلة كبرى بدل نائب الرئيس فكرّم معه الصحافة والصحفيين، وعنّف سيادته أحد الدبلوماسيين الشيوعيين حين حملت على صاحبكم، وصاحبي، الإذاعات الشيوعية الرسمية تتهمه بالارتشاء من الأمريكان! وأنه يمضغ «الدولارات الأمريكية» كما يمضغ «اللبان الأمريكي»، وأكرمه وكرّمه حين شرّفه برياسة مجلس إدارة أقدم دارين وهما «دار الأهرام» و«دار الهلال»، وحين منحه «وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى» مصحوبًا ببراءة ووثيقة فيها كل التقدير والتكريم... صاحبكم وصاحبي ليس بالجاحد. ولن يكفر ولن ينسى هذا الفضل الجميل. ولن ينكر عرفان الجميل... «أيها الضمير، وأيها القلم، وأيتها الحنجرة، وأنا معكم«الوجدان»: نحن «كتيبة» يجب أن تلتف دائما حول هذا الحصن الحصين. ولن يختفي ضمير فكري أباظة، ولا قلمه، ولا حنجرته، ولا وجدانه في عهد «جمال عبد الناصر» ولا في عهد ثورته....
مستحيل! مستحيل!».

صورة رقمية من مقال الاعتذار : " معركة بين ضميرى وقلمى "
***
قدم فكري باشا أباظة اعتذارا رسميا علنيا في جريدة الأهرام، قبل أن يُسمح له بالعودة للكتابة، مما عرّضه لانتقادات تركت في نفسه جرحًا لم يندمل لأنه اعتذر عن رأي كتبه؛ مما عرّض مصداقيته للاهتزاز أمام الرأي العام، خاصة أن فكري أباظة كان يُسر لأصدقائه المقربين بأنه يشعر بأنه كزجاج أصيب بكسور، ولا يمكن أبدا أن تداوي تلك الكسور، وكان يرى أنه جرح في كبريائه جرحًا غائرًا لا يمكن البُرء منه.
.. وبعد وفاة عبد الناصر تلقى عروضا كثيرة؛ ليكتب عن تلك المحنة إلا أنه رفضها لأنه يأبى أن يتاجر بلحظات الألم في حياته.
كان البعض يرى أن الاعتذار كان مهينًا، فقد كتب الأستاذ محسن محمد في رثائه غداة رحيله في جريدة الجمهورية:
«أعلنت وفاة فكري أباظة أمس، ولكنه مات في الحقيقة والواقع منذ زمن طويل وقبل نكسة 1967، ولم يمت بالأمس، وإنما مات يوم أن أجبروه على كتابة مقاله المهين، يعتذر فيه عن رأي جريء سبق به زمانه ونشره في مجلة «المصور» في أوائل الستينيات.
كتب مقالاً عن قضية فلسطين وضرورة الوصول إلى تسوية، أيامها مُنع من الكتابة في الصحف، واضطر أن يكتب اعتذارًا مهينا في صحيفة الأهرام يتراجع عن رأيه».
.. لكن الأستاذ إبراهيم سعده يرى عكس ذلك تمامًا، فكتب مقالاً (أخبار اليوم ـ 17 ـ 2 ـ 1979) يقول فيه:

«إن الذي يُعيد مقال فكري أباظة سيجده مقالاً ساخرًا ورائعًا في نفس الوقت، فسخر من نفسه ومن قواه العقلية ومن رأيه وطلب الصفح والغفران بطريقة كوميدية لا يخفي مغزاها على البسطاء ".


***
لمزيد من المعلومات عن حقيقة ما أثير حول حرق مذكرات " باشا الصحافة " ، راجع كتاب "صناعة الكذب " :



 صور فكرى أباظة :



غداة الإنعــام علي فكـــرى أباظة بالباشوية ، لم يذهب وحـــده لتقديم الشكر فى سجل تشـريفات قصر 
عابدين ، بل اصطحب معه نقيب الصحفيين وأعضاء مجلس النقابة فى رسالة للقصر بأن التكريم ليس
 لشخصه ولكن لصحـافة مصر ، ويرى فى الصـورة فكـــرى أباظة يتأبط ذراع النقيب حسين أبو الفتح 
وإلى يمينها جلال الدين الحماصى وحافظ محمود وإلى يسارهما عبد الوارث كبير ومصطفى القشاشى
فكرى أباظة  رئيس تحرير " المصور "

مع طالبات قسم الصحافة بكلية الآداب ـ جامعة القاهرة
يتسام الدكتوارة الفخرية من أكاديمية الفنون

وداعاً باشا الصحافة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق