الثلاثاء، أغسطس 04، 2020

ياسر بكر يكتب : تغريدة "العنبرة "!!

ياسر بكر يكتب : تغريدة "العنبرة"!!

 


في أيام الصبا .. وميعة الشباب .. كانت مرارة هزيمة يونيو 1967، وما أعقبها من  ممارسات القمع التي أشعرتنا بـ "الخوف"، وفقدان الإحساس بالأمان .. كنا نردد في خوف:

 

"كلمتين يا مصر هما

.. هما أخر كلمتين

حد ضامن يمشي آمن

.. ولا آمن يمشي فين ؟!!"


وفي أخر أيام العمر لم نستشعر الأمان .. الكثير من الأصدقاء يتم ملاحقتهم في قضايا رأي في ظل ممارسات تعتمد الإقصاء والاستبعاد والمنع والحجب والمصادرة.. تلتقمهم غياهب السجون دون جريرة، وتتقيأهم في قرف دون لمسة اعتذار أو حفلة "عنبرة"؛ .. فلم يخرج صوت فرح من الزنزانة ليمزق الصمت والإظلام والظلم ليعلن عن خروج أحدهم حسب طقوس "العنبرة".. لم يصيح أحدهم فرحاً :

 

" عنبر .. يسمع

وكل العنابر تسمع

كله يسمع

حتى الحديد .. يسمع

والصاحي والنايم .. يسمع

.. واللى متعلق ع الحديد .. يسمع

.. واللي مربوط ع العروسة .. يسمع

 .. واللي تحت الفلكة يسمع

واللي في التأديب، واللي في التغريب .. برضة يسمع

الليلة دي بنحتفل بأخونا (...) العترة .. المجدع

عشان هيفرجوا عنه بكرة

عشان يروح لامه..

عشان يروح لامه ..

عشان يروح لامه ..!!"

 

"العنبرة" أحد الملامح الثقافية للحياة الاجتماعية في السجون المصرية التي يطلق عليها السجناء مسمى :"العنبكوكة"!! .. و"العنبرة" هي احتفالية السجناء ليلة خروج أحدهم بعد انقضاء فترة العقوبة أو الحبس والاحتياطي الذي صار ممارسة منبتة الصلة بصحيح القانون دون ضوابط وصار عقوبة معلقة على عنق من لا تهمة له وعجزت النصوص عن نسبة عقوبة إليه بقيد ووصف!!؛ ..  بما يعني أن "العنبرة" احتفالية بانفراج القهر، وكسر القيد التي وصفها سيد حجاب بـ "انكسار الروح في دوح الوطن"، و "احتضار الشوق في سجن البدن"!!

 

.. بدأت ظاهرة "العنبرة" في السجون والليمانات المصرية بواسطة السجناء الجنائيين الذين لم يكونوا يستشعروا الخجل من ممارساتهم الإجرامية، وكانوا يعتبرون صحف سوابقهم بمثابة سجلاً  للفروسية والفخار !!

 

لم يكن للسجناء السياسيين قديماً علاقة بـ "العنبرة" حيث كانوا ينزلون في سجن الأجانب ويتمتعون بمزايا وحقوق المسجون السياسي من دخول الصحف والسجائر والسيجار والورق والأقلام وكان لهم الحق في الكتابة واقتناء جهاز الراديو وارتداء البزات الأنيقة والروب دي شامبر وحق الحصول على الطعام يومياً من الخارج، وحق دخول الزوجات والأهل إلى مكان احتجازه !!

 

كان سجن الأجانب عبارة عن فيلا ضخمة أنيقة بيضاء اللون في شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليا) على ناصية شارع عماد الدين مكان محطة البنزين الحالية في مواجهة مبنى شركة المقاولون العرب .. كان السجن مفروشاً بأثاث جميل،‏ به حجرات نوم كاملة‏، ونوافذ عادية تطل علي الشوارع المحيطة‏، ومطبخ جيد ووجبات غذائية لا تقل عن مستوى المطاعم‏ الفاخرة آنذاك،‏ والزيارة مفتوحة في أي وقت في حجرات استقبال مثل صالونات الفنادق الفاخرة‏،‏ وكان السجن مفروشا بالسجاد‏، والسلالم بالمشايات الحمراء،‏ ومن طرائف الأحداث المرتبطة بهذا أن الزميل الأستاذ فتحي الرملي (يرحمه الله) طلب من مأمور السجن أن يحضر مأذون بولاق ليعقد قرانه على زميلتنا الأستاذة سعاد زهير مدير تحرير مجلة بنت النيل !!

 

ومع انقلاب يوليو 1952 لم يعد للسجناء السياسيين أيه حقوق وتم إيداعهم في السجون مع الجنائيين وإغراء عتاة المجرمين بهم بزعم أنهم جواسيس وخونة الوطن وعملاء للإستعمار.. مع استقبالهم بحفلات التشريفة التي قتل في أحداها الكاتب شهدي عطية على يد إسماعيل همت أحد زبانية التعذيب في سجن أبو زعبل !!

 

.. وامتزجت أهازيج "العنبرة" في الابداعات الساذجة للسجناء الجنائين بأشعار المثقفين أمثال فؤاد حداد ومحمود شندي وعبد المعطي حجازي ونجيب سرور وسيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وشوقي عبد الحكيم وأمل دنقل ومجدي نجيب لتشكل فسيفساء من التنوع عن قهر السجن والسجانة .. لكنها ظلت تحمل الاستهلال الساذج التي بدأت به كأحد القوالب الثابتة :

 

" واحد يا فل

.. اتنين يا ورد

تلاتة يا لبط ولومنجية

.. أربعة يا افندية

يا زهرة شباب الوطنية

الليلة دي بنحتفل بأخونا (...)

العترة .. المجدع

عشان هيفرجوا عنه بكرة

عشان يروح لامه..

عشان يروح لامه ..

عشان يروح لامه ..!!"

 

وفي "العنبرة" كتب نجيب سرور :

 

" أنا أبويا جدع

قصدي أبويا كان

أبويا كان عنده الكفاح غية

ومات غريب في الوطن يا قسوة الغربة

واللي أبوه زي أبويا يبقى ما تيتمش

أبويا وصاني وصية وقال :

تصنها زي نن العين :

"يابني بحق التراب

وحق حق النيل

لو جعت أو تعريت أو حتى لو شنقوك

أوعاك في يوم تلعن مصر"

***

وكتب عبد الرحمن الأبنودي عن "العنبرة" : 

 

«يا حارس السجن يا قارص على اقْفَالُه

ياللّى حبست الولد.. ماسألتهوش: «مالُه»؟!

لا تكون فاكرنى حاوصِّـى واقول: «على مهلك»..

أو.. «خِفّ إيدك عليه خوف لا الولد يهلك

الواد دا حِتِّةْ بطل.. مسجون وعارف ليه..

وراضى عن سجنُه يا سجَّان.. وساعى إليه

إنت اللى غلبان.. ومحتاج من يوصِّـى عليه

إنت اللّى في الأصل كان السجن يستاهلك

وهوّه زنزانته أمُّه... والليمان خاُله!!»


وقد خلد أحمد فؤاد نجم طقس" العنبرة" في إحدى قصائدة التي حملت  ذات الاسم جاء فيها :

 

شخشخت بالزهر مانصفنيش ولا مرة"
وراهنت بالمهر والبقشيش على مرة
والسجن للحُر وان كان مر ، ولا مرة ..
فكرتنى بالتوبة من دى النوبة .. ولا مرة

بعد مساء الخير على حراس الليل
كنجي .. برنجي .. وشنجي
كله لبط و لومنجي بس البدلة بتفرق
والعيب ع المخزنجي

 

....

....

***

 

اعرفكم جميعاً ان السجن سور ..
اعرفكم جميعا ان الفكرة نور
وعمر السور ما يقدر يحجز بنت حور
وعمر النور ما يعجز يقزح الف سور
اعرفكم جميعا ان الظلم شايخ
واعرفكم جميعا باب السجن خايخ
واعرفكم جميعا ان ما لوش أكرة
واعرفكم جميعا انه هايبقى ذكرى
وابشركم جميعاً .. ان الوعدة بكرة والنور عندنا وعندكوا .. يا حبايب

***

 

.. وكان سيد حجاب معتقلاً يكسر الأحجار في جبل طرة، ويحملها في مقطف إلى حيث أراد السجان، وهو يهمس :

 

" شيلني .. شيل يا جدع

عمر الكتاف ما هتنخلع

عشان بلدنا يا وله .. وجمال بلدنا يا وله

كله يهون

يا ما زقزق القمري على ورق اللمون"

 

***

 .. وبعد سنوات من انتهاء التجربة يعيد سيد حجاب اجترارها في تتر مسلسل "ليالي الحلمية" بقوله :

 

"لابد من بكرا اللى طال انتظاره

ده مهما طال الليل بيطلع نهاره

ومهما طال درب الهموم والمساخر

لابد ما يعود المسافر لداره ".

 ***

 .. وذهبت أيام السجن، .. وبقيت رائعتا سيد حجاب تتغنى بها الأجيال!!

 ***

.. إنه وهج الحكايات في صقيع الأيام وعتمة الليالي !! .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق