الأحد، يونيو 30، 2013

صناعة الكذب .. التعريف ـ الأنماط ـ الأهداف ـ الصدى

الفصل الأول :
ـــــــــــــــــــــ



صناعة الكذب .. التعريف ـ الأنماط ـ الأهداف ـ الصدى


    الكذب في معاجم اللغة هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، مع العلم بحقيقته وواقعه.

   .. و« صناعة الكذب » Lying Industry  مصطلح يعني نشاط اتصالي في مجال « حرب المعلومات »  Information Warfare ويتضمن هذا المنتج الاتصالي حزمة من الممارسات اللامهنية واللاأخلاقية التي تفتقد المعايير والقيم المرتبطة بمهنة الإعلام والتي يلتزم الإعلاميون بها في عملية استقاء الأنباء ونشرها والتعليق عليها وفي طرحهم لأرائهم؛ بغرض صنع وترويج منتج إعلامي فاسد، يهدف إلى خلق صورة ذهنية عن أحداث ووقائع لا وجود لها في الحقيقة من خلال توظيف آليات وأنماط الدعاية السوداء Black Propaganda التي تقوم على السرية، وتكون من ورائها في الغالب أنظمة حكم وأجهزة مخابرات لا تكشف مطلقًا عن الأهداف الحقيقية لصناعة ذلك المنتج، أو مصادر تمويله أو الجهات المالكة أو المستأجرة أو الممولة لمنصات إطلاقه.

    وغالبا ما يتم تسويق ذلك المنتج المشبوه بغطاء من الشعارات البراقة والرنانة التي تجتذب العامة، وغالباً ما تكون ظاهرها السماحة والبراءة والدعوة إلى القيم النبيلة مثل الحرية والديمقراطية والعدالة ومحاربة التطرف والتعصب والإرهاب ونشر الأمن وصالح المواطن وإرساء قيم الإسلام السمحة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، لكنها في الواقع تضم في باطنها سموم الخداع والتضليل من أجل إضعاف الروح المعنوية وتفتتيت وحدة الأمة؛ بإطلق سهامها على الخصوم بوصفهم بالألقاب المشينة وإطلاق النكات للسخرية منهم، ومن خلال رسم الصور الكاريكاتيرية المسيئة لهم، وإذاعة الدعايات المليئة بالأكاذيب وإطلاق الشائعات، .. الأخطر من كل ذلك هو محاولة كسب بعض العناصر المعزولة في المجتمع لصالح الجهة المنتجة والمستفيدة من ذلك المنتج الاتصالي المشبوة بتشجيعهم على المعارضة والتمرد والتخريب في داخل البلاد،  وافتعال الأزمات.

   كما تسعى تلك الأنشطة المشبوهه التى ترتدي زوراً سمت الإعلام إلى استدراج بعض العناصر الوطنية من خلال استضافتها في برامج تبث إذاعيا وتليفزيونيا للحصول على معلومات من خلال استخدام وسائل الإثارة أو توريط المتحدث في الإدلاء بمعلومات سرية باستخدام شعارات زائفة لإيهام عامة الناس أن الحقيقة و النَّصَفة والموضوعية هي المطلوب الأول والأخير مثل «الرأى والرأى الآخر» و « الواقع كما هو»، و « أن تعرف أكثر»،  و«صوت الناس وصورة الحياة»، أما واقع الحال فمختلف تماماً..

   لكن مثل هذه الحيل والخداع لا تنطلي على الخبراء، وأيضا على المواطن العادي الذى يمتلك قدر من الثقافة والوعي؛ فيمكنه الوقوف على حقيقة « لعبة الكذب» Lying Game  من خلال توجيه الخمسة أسئلة المتعارف عليها بشأن أي منتج اتصالي والإجابة عليها بنفسه؛ فيصبح بإمكانه تحديد مواقفه الذاتية بِشان اختياراته وبشأن ما يتعلق بالصالح العام في مجتمعه، وهي :

1 ـ من أنتج المادة الاتصالية ؟ ( من صانع المنتج ؟ )
2 ـ ما مضمون المادة الاتصالية ؟  ( ماذا تقول ؟)
3 ـ لمن توجه المادة الاتصالية ؟ ( من المتلقي ؟ )
4 ـ ما الوسيلة التي تنقل عبرها المادة الاتصالية ؟
5 ـ ما الصدى ؟

   .. وإذا توقفنا قليلاً للتأمل عند مصطلح « صناعة الكذب»، نجد أنه ابن ثقافته ونتاج عملية طويلة ومتراكمة من العمل والجهد والتفكير وعمليات الصواب والخطأ، لوضع حدود وعلامات لسياق فكري وثقافي وحضاري يجسد حالة بعينها، بما يتفق مع النظريات العالمية السائدة منذ بدايات ومنتصف القرن الماضي في استخدام عنصر الخداع في قيادة الجموع وتوجيهها وإحكام السيطرة عليها، وأن المصطلح يعكس أمانة اللغة ودقتها في إطلاق التسمية اللغوية المناسبة على مجموعة من المفاهيم أو الممارسات لتوصيف الحالة من خلال ابتكار مسمى يتفق عليه أفراد الجماعة الواحدة.

غسيل المخ :
ـــــــــــــــــــــ

   وتهدف « صناعة الكذب »  إلى ما يسمى بعملية «غسيل المخ» للأفراد والجماعات، و« غسيل المخ » مصطلح يعني جعل الجهاز العصبي للإنسان يفقد حالة الاتزان الديناميكي من خلال تعرضه للإثارة من خلال العديد من المتناقضات ( الخبر ونقيضه)؛ فيلجأ إلى التوقف الوقائي فيصبح المخ عاجزاً أو متوقفاً عن تأدية وظائفه وهو ما يسمى بحالة ( قتل العقل ) أو ( الاستحواز على العقل)؛ فيسهل توجيه ضد رغبة أو إرادة أو عقل الفرد الحر، ويسهل اقتلاع بعض الأفكار، وإحلال أفكار بديلة .

   استخدمت كلمة « غسيل المخ » لأول مرة بواسطة الصحفي الأمريكي إدوارد هنتر في ترجمة للكلمة الصينية « هس ناو»  بمعنى « إصلاح الفكر»، واقترن أسم العالم الروسي بافلوف أستاذ علم وظائف الأعضاء بتلك العمليات من خلال العديد من الأبحاث العلمية التي أجراها عن رد الفعل الشرطي .

   وقد استخدم الصينيون والروس تلك العمليات القذرة علي بعض السجناء والمعتقلين الذين وجه إليهم الاتهام بمناهضة الفكر الشيوعى، وتبدأ العمليات اللا أخلاقية لغسيل المخ بمرحلة العزل :

   وفي هذه المرحلة يعزل الشخص أو الجماعة عن مصادر المعلومات الحقيقية، والتشويش على ذهنه، وإيهامه بأن الجميع قد تركوه وحده يواجه مقدراته؛ ثم تبدأ المرحلة الثانية وهى مرحلة خلخلة التوزن النفسي :

  وفي هذه المرحلة تبدأ خلخلة التوزن النفسي من خلال التجويع لساعات طويلة، والحرمان من ساعات النوم الطبيعي، والإيذاء البدني، والإذلال وإهانة الكرامة الإنسانية، ومحاصرة الشخص أو الجماعة المستهدفة بشتى أنواع المخاوف بما يشيع فيها الإحساس بعدم الأمان، بما يفقده الثقة والولاء لأي فرد أو جماعة أو عقيدة، ثم تبدأ المرحلة الأخيرة وهى مرحلة الغرس أو التحول :

    وهي مرحلة اقتلاع الأفكار وزرع غيرها من الأفكار البديلة عبر إقامة حلقات نقاش  تسفه الأفكارالمراد اقتلاعها، وتؤكد على عدم جدواها عن طريق: إثبات استحالة تحقيق هذه المبادئ والأهداف وتصوير المبادئ والأهداف على غير حقيقتها، وتضخيم الأخطاء التي تقع عند محاولة تحقيق هذه المبادئ والأهداف، وتدعوالشخص المسنهدف أو ( الجماعة المستهدفة ) ليعيد تقييم أفكاره ويعيد النظر في مواقفه، وقد حققت تلك  الممارسات القذرة نجاحاً مع العملاء والسجناء والمعتقلين وأسرى الحروب .

الاستحواز علي العقل :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
   وقد رصدت بعض التقارير قيام الأمريكيين بتلك الأعمال القذرة في سجن أبو غريب في العراق، وفي معتقل جوانتانامو، وقيام الإسرائيليين بعمليات مشابهه ضد الأسرى الفلسطينيين في سجوت الاحتلال، ورصدت تلك التقارير تطور هذه الممارسات اللا أخلاقية واللا إنسانية باستخدام موجات كهرومغناطيسية توجه إلي المخ، بعدها يبدأ توجيه رسائل ذات مغزى إلي العقل دون المرور على حاستي السمع والإبصار بما يحقق عملية ( الاستحواز على العقل )؛ بما يسهل عملية انتزاع الاعترافات، والحصول علي المعلومات .

الإعلام و( غسيل المخ ) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
 وقد رصدت بعض  الدراسات في مجال الإعلام أمكانية إخضاع الإنسان لعملية غسيل المخ بوسائل تختلف تماما عن الوسائل السلبقة، فيمكن مثلا إجراء عملية ( غسيل المخ ) للمواطن حر الإرادة فى الشارع وفى مسكنه، ووسط أهله، وعلى المقهى وسط أصدقائه من خلال بعض  وسائل الإعلام الي تبدأ عملها بمحاصرته بحزام من التدفق الإعلامى الغزير برسائل محددة المضمون مع أختلاف الوسائل الناقلة للرسائل  (منقرأة  ـ مسموعة ـ مرئية ـ اليكترونية) بهدف عزل الشخص أو الجماعة عن مصادر المعلومات والمعرفة الحقيقية، والتشويش على ذهنه، وإيهامه بأن الجميع قد انصرفوا إلي ما يحقق مصالحهم، وتركوه وحده يواجه مصيره؛  والتشكيك بما يصبو إليه من مقدرات، وممارسة الإلحاح الإعلامي عليه بتلك الوتيرة مع التنوع في الأساليب، وزوايا التناول، واختلاف شخوص المتحدثين؛ بما يعطي الانطباع عن الإجماع على مضمون الرسالة مع الحث غير المباشر علي الاندفاع في اتجاه بعينة، وتنظيم حلقات نقاش (برامج التوك شو) تسخر من أفكاره وتؤكد عدم جدواها، وتضخم الأخطاء، وتصدر له حالة من الإيهام بكونه خارج عن الإجماع، وأنه يعزف النغم النشاز لكونه يغرد خارج السرب، وأن التراجع ليس عيباً، وتدعوه  ليعيد تقييم أفكاره ويعيد النظر في مواقفه؛ ليلحق بالركب والقفز في أخر عربة من القطار.

   والمثال الصارخ لذلك ما حدث أثناء اغزو الأمريكي للعراق عام 2003؛ حيث بدأ عزل المواطن العراقي عن المصادر الحقيقية للمعلومات بقصف تليفزيون بغداد، وبذلك أصبحت الساحة خالية لإعلام العدو يبث أكاذيبه عن استلام القوات العراقية من خلال صور مصطنعة لبعض المرتزقة الذين يرتدون زي الجيش العراقى، والخطاب اللين على عدم جدوى المقاومة، مع التحبيذ أن ذلك من الحكمة التى يقتضيها الموقف، وأن الاستسلام في تلك الحالة ليس عيباً بعد أن هرب القادة وتركوا الجيش والشعب يواجه مصيره، مما كان له الأثر البالغ في الانهيار السريع وسقوط بغداد الذي أعلن عنه الإعلام المضلل للقوات الغازية عبر فيلم بعنوان : « ليلة سقوط بغداد »، ذلك الفيلم الذي تم اصطناعه بواسطة فريق سينمائي من هليود، استخدمت فيه الكاميرات كادرات مغلقة لتوحى كذبا بالجماهير الغفيرة التي تجمعت لتسقط تمثال صدان حسين، لكن واقع الحال بعيداً عن الخداع لم يكن سوى عدد قليل من الأطفال المشردين وعدد من العملاء !! 
   ويصبح الأمر أكثر خطورة إذا ما أضفنا إلى تلك المخاطر التحدي الذي جلبتة شبكة اإنترنت، وما تبعها من « حرب المعلومات » الدائرة في العالم الافتراضي .

حرب المعلومات :
ـــــــــــــــــــــــــــ

   يتصور البعض أن حرب المعلومات INFORMATION  WAR FARE هو ما تتعرض له الحواسب الآلية من تدمير بفعل الفيروسات  Virses أو الاختراق وسرقة البيانات بفعل الهاكرز Hackers، وهذا تصور قاصر؛  فحرب المعلومات مفهوم أوسع وأشمل من ذلك بكثير؛ فحرب اامعلومات هى أحد أشكال الحرب الباردة التى لا تشعل نار ولا تثير دخان ومع ذلك تحقق أبلغ الأضرار بالخصم من خلال اختراق أوعية معلوماته الاليكترونية والسطو عليها ومعاجتها واستخدامها في إلحاق الضرر به من الناحية العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية .

   وتنقسم حرب المعلومات إلى سبعة أقسام: حرب القيادة والسيطرة,الحرب الاستخبارية، الحرب الإلكترونية، حرب العمليات النفسية، حرب قراصنة المعلومات،  حرب المعلومات الاقتصادية، حرب المعلومات الافتراضية.
   وهناك أسلحة متنوعة تُستخدم لتنفيذ هذه الحرب مثل: فيروسات الحاسوب (Virses), الديدان (Worms) , أحصنة طروادة ( Trojan horses)، القنابل الذكية (logic bombs)، الأبواب الخلفية (Backdoors)، الرقائق (Chipping)، الماكينات والميكروبات فائقة الصغر ( Nano Machine and Miecrobes)، الاختناق المروري الإلكتروني، مدافع High Energy Radio   Freqency  والتى يطلق عليها ( Herf) ، وقنابل   Elctro Magntic Pulse التي يطلق عليها (Emp ) .

   لكن ما يهمنا هنا في هذا البحث هو الحرب النفسية ودور الإعلام فيها،  وللوقوف على ذلك يجب مناقشة مفهوم التبعية التكنولوجية، والاعتراف بأننا عالة على التكنولوجيا لأننا نكتفي بدور المتفرج المستهلك فقط ولم نكن يوماً منتجين لها أو معنيين بتلك الأمور،  بما يعنى أننا صرنا مجرد إضافات كمية إلى عبث الوجود في عالم التكنولوجيا .

التبعية التكنولوجية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
  
   يقصد بالتبعية التكنولوجية الاعتماد الجزئى أو الكلي على المجتمعات الأجنية فيما يتعلق بالبنى التحتية للاتصال ( المرافق ـ  المعدات ـ تسهيلات الإنتاج ) التي يحتاجها النشاط في مختلف مراحلة سواء جمع المعلومات أو إعدادها أو نشرها أو توزيعها، وتتضمن مرحلة جمع البيانات وسائل الاتصال السلكى واللاسلكى، والأقمار الصناعية، ووكالات الأنباء، وشبكات الكوابل .

   أما مراحل إداد البيانات فهي تستلزم ضرورة توفير أجهزة الصباعة وأدواتها وآلات الجمع الالكتروني، وآلات التصوير، وبنك المعومات، والحواسب الالكترونية .

المصيدة الاليكترونية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

   وااخلاصة أننا نعتمد على مصادر الإنتاج الإعلامى، والاتصال لا سلطان لنا عليها، ولا علم لنا بدقائقها أو عالمها الخفي، ومن هنا يبرز السؤال :
   ـ هل دخلنا المصيدة الالكترونية ( Honeypot ) ؟! .. وهل قام العدو بتجنيد أجهزتنا الحاسوبية من أجل خدمة أهدافه الإعلامية والنفسية والمخابراتية؟!،  .. وهل انتقلت العدوى الاليكترونية من أجهزة الأفراد العاديين إلى أجهزة الدولة، والقطاع المصرفي، والاتصالات، وساعتها تكون معلوماتنا تحت أعين الأعداء يستطيعون أن يتلاعبوا بها وأن يوظفوها لخدمة أهدافهم ؟!

   سؤال يصعب الإجابة عليه في الوقت الراهن؛ فغالباً ما يصعب الإجابة على مثل تلك الأسئلة في زمن السلم !!، لكن المؤكد أن الحرب القادمة في المنطقة ستجيب علي كل التساؤلات بصراحة ووضوح؛ فالكثير من الدول تقوم بنشر جنودها الاليكترونية عبر المتديات الالكترونية والشبكات الاجتماعية والبريد الالكتروني ومن خلال التجسس على الإشارة وشبكات الموبيل من خلال برامج فيروسات يتم إخائها بطريقة متقنة، وتنتقل من فرد إلى آخر، وتبذأ في إرسال الملفات الشخصية إلى العدو فضلاً عن الفيروسات التى يتم زراعتها في في الألعاب والتطبيقات .

   لكن بعض التقارير أشارت إلى تشكيل خلايا إلكترونية مناوئة للدولة، تحرض على العنف، وتدعو إلى العصيان المدني، وتشكك الشعب بمقدارته، وبث أخبار مضللة  .
***
   وقد رصدت الدراسات الإعلامية عبر العصور بعض ممارسات ( لعبة الكذب) مع اختلاف الوسيلة الناقلة للرسائل الإعلامية المكذوبة والمضللة،  وقد تمكنت الدراسات فى حصر أساليب ( لعبة الكذب ) في عدة أنماط :

1 ـ أسلوب الكذب والاختلاق:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    وهذا الأسلوب يعمد إلى الكذب واختلاق وقائع لا وجود لها، وحجب المعلومات الصحيحة أو تقديمها مشوهة أو محشوة بالأكاذيب عليه لصرف ذهن المتلقي إلى جهات أخرى غير الواقع، بما يفقده القدرة على التفكير وتدفع به في الاتجاه الخاطئ بما يسهل من عمليات السيطرة عليه واقتياده نحو الهدف.

   وهذا النوع من الأكاذيب لا يتم إطلاقها بالصدفة أو عفو الخاطر، وإنما يعكف على إعدادها فريق من أكفأ المختصين في بحوث الإعلام وتوجيه الرأي وقيادة الجموع بأسلوب علمي دقيق يراعى فيه الظرف والتوقيت وطبيعة الفئة المستهدفة مع تجنب اللهجة العدائية حتى لا تثار في تلك في نلك الفئات مشاعر العناد والرغبة في المقاومة، ويطلق عليهم « طهاة الأخبار المطبوخة »، وتمر تلك «الأخبار المطبوخة» بالعديد من مراحل الإعداد والتجريب من خلال «إلقاء الطعم» عبر تضخيم الأخطاء، وتقديم الأكاذيب مغلفة ببعض الحقائق التي يعرفها العامة حتى تنال ثقتهم، ثم يتم تضخيم الأكاذيب وإطلاقها في شكل بالونات الاختبار عبر التسريبات والشائعات والنكات ومعرفة أثارها ومدى تقبل الناس لها قبل وضعها على منصات الإطلاق، وهو الأسلوب الذي انتهجه جوزيف جوبلز وزير إعلام هتلر ولخصه في عبارته الشهيرة:
   «اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب؛ حتى تصدق نفسك، فيصدقك الناس، فإن لم يصدقوك، فاخترع لهم عدوًا وهميًا وخوّفهم منه ، فإن لم يصدقوك، فاتهمهم بالخيانة»، تنفيذا لأوامر هتلر الذي كان يعتقد أن: « كلما كبرت الكذبة أمكن في بعض الأحيان أن تثبت في الأذهان».

   .. وقد اعترف أحد قادة المجلس العسكري الذي عُهد إليه بإدارة البلاد بعد ثورة 25 يناير 2011 وتنحي الرئيس حسني أنه استخدم هذا الأسلوب لضبط إيقاع المتظاهرين السلميين في ميدان التحرير من خلال إطلاق بعض الشائعات للتخفيف من وتيرة التصعيد.

   ويعمد هذا الأسلوب إلى إدخال الغش على المتلقي من خلال إغراقه بكم من التقارير المكذوبة في إطار زائف يخفي حقيقتها، ويصعب على المتلقي العادي التمييز بينه وبين أشكال وقوالب الخطاب الإعلامي الجاد التي تلزم الصدق وتقدم الحقيقة؛ فيلجأ القائمون على «صناعة الكذب» إلى نشر وترويج «أشباه الأخبار» أو «تلغيم الأخبار» أو استخدام «الرطــانة اللغوية الجوفاء» والاستخدام المسيء للغة للوصول إلى «التباس اللفظ والمعنى» على النحو التالي:

أ ـ أشباه الأخبار:

   يقصد بأشباه الأخبار (pseudo news)، ذلك الكذب الذي يقدم للبسطاء وأنصاف المتعلمين وكأنه أخبار، ولكنه لا يحمل في مضمونه أي خبر أو معلومة جديدة على الإطلاق.

   وتتم صياغة أشباه الأخبار في أنماط وقوالب من خلال أداء شديد الاحترافية بعد تغليفها بعناصر البريق والجذب والإثارة والتشويق وتقديمها للمتلقي في إطار الانفراد الصحفي ليزداد إقباله عليها وقبوله لها، وكأنها أخبار حقيقية.

ب ـ تلغيم الأخبار:

   يقصد بـ «تلغيم الأخبار» التلاعب في الصياغة الخبرية؛ بما يستهدف استفزاز القارئ واستنفاره، وهذا الأسلوب يتخذ أنماطًا متعددة منها:

   1 ـ وضع عناوين مثيرة لا علاقة لها بمضمون الخبر؛ في استفادة شريرة لما توصلت إليه الدراسات الإعلامية من نتائج مفادها أن الكثيرين من قراء الصحف يكتفون بقراءة العناوين فقط ولا يدققون في التفاصيل، وأشارت تلك الدراسات إلى أن:

• 75 % من قراء الصحف يلاحظون الصورة.
• وأكثر من 50 % يلاحظون العناوين.
• وأن 29 % يلفت نظرهم كلام الصور.
•  بينما لا تلفت المادة التحريرية سوى انتباه 25 % من القراء.

ومن ثم فإن بعض هذه الفئات من القراء سوف تتلقى الرسالة الخطأ.
   2 ـ السماح للرأي بأن يتسرب إلى أعمدة الأخبار، من خلال تقديم التقارير الإخبارية الملونة التي تحمل طابع النصح.

   3 ـ لجوء بعض الصحفيين إلى الحيل التي يتبعها كتاب القصص في محاولة لجعل قصصهم أكثر حيوية، فهم يعيدون بناء الفقرات في القصة الصحفية بحيث تتحول إلى حوار بين أشخاص الخبر برغم أن الصحفي ليس لديه أي دليل على حدوث هذا الحوار.

   4 ـ الاعتماد على المصادر المُجهلة في إعداد الأخبار والتقارير؛ ليمكن إعدادها بطريقة أكثر إمتاعًا، وكذلك يمكن فبركتها من البداية للنهاية؛ بحيث تؤيد المنطق الذي تستند إليه التقارير.

   5 ـ عدم تحري الدقة في ذكر الألقاب والصفات والتعريف بالأشخاص الذين تناولتهم القصة الخبرية.

 ج ـ الرطانة اللغوية الجوفاء:

    ويقصد بـ «الرطانة اللغوية الجوفاء» استخدام كلمات رنانة ذات بريق يخلب العقول بغرض إشعال الحمية في النفوس وتهييج المشاعر في الصدور أو إثارة النعرات الطائفية والعرقية دون استناد إلى أسباب عقلية أو منطقية.
د ـ التباس اللفظ والمعنى:

    ويقصد بـ «التباس اللفظ والمعني » عدة مظاهر أهمها:
التوليد القسري للغة لإيجاد كلمات جديدة وإدخالها من الباب الخلفي إلى لغة الناس في حياتهم اليومية، وغالبا ما تكون هذه الكلمة لا تعبر عن واقع مستجد بما يستوجب تعبيرًا جديدًا فالواقع لم يثمرها تلبية لاحتياجات حقيقية، أو أن الكلمة القديمة قد أعطيت معني جديدًا بقصد تشويهها أو الانحراف بها عن الدلالة المحددة المقصودة من رسوخها في وجدان الناس ومخيلتهم وغالبًا ما تكون الكلمة مجرد «لفظ» تقع بينه وبين التطبيق مسافة هائلة فيتحول إلى شعار للتضليل.

   .. وتمثل تلك الكلمات انتصارًا للديماجوجية عندما تتحول إلى عملة «شرعية»، لا يتم التعامل بغيرها في سوق الفكر وتنساب عبر ميكرفونات الإذاعيين وتتسرب عبر أقلام الكتاب!!، من أمثلة تلك الكلمات «حركة الجيش» بديلاً عن كلمة «انقلاب عسكري»، وكلمة «تحالف قوى الشعب» بديلا عن كلمة «هيمنة التنظيم الواحد»، وكلمة «النكسة» بديلاً عن كلمة «الهزيمة»، وكلمة «إزالة آثار العدوان» بديلا عن «احتواء تداعيات الهزيمة»، وكلمة «الانفتاح» بديلاً عن كلمة «اقتصاد السوق الحر»، وكلمة «تحريك الأسعار» بدلاً من كلمة «الغلاء»، وكلمة «انتفاضة الحرامية» بديلا عن كلمة «ثورة شعبية»، وكلمة«الحقد» بديلاً عن كلمة «المطالبة بالحقوق» وكلمة «الشفافية» بديلاً عن كلمة « تكافؤ الفرص».

2 ـ أسلوب الإلحاح والتكرار:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   صناعة الكذب لا غنى لها مطلقًا عن التكرار الدائم والإلحاح المستمر، وهي وسيلة من وسائل تثبيت المعلومات المراد إشاعتها بين الجماهير، وعن التكرار يقول هتلر في كتابه « كفاحي « :
   « ذكاء الجماهير ضئيل ونسيانهم كبير؛ فلذلك لابد من تكرار نفس الشيء لهم ألف مرة «

 3 ـ أسلوب استخدام الدين في الخطاب:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   استخدام الدين في الخطاب من خلال التوجه إلى المتلقي والنفاذ إلى أعماقه من خلال تمييع عقائده باستخدام كلمات حق يراد بها باطل لتحقيق مصالح بعينها، من خلال تحويل الدين إلى أساطير تسحق كل ما في العقل من قدرة على الفهم، وتحبط ما فيه من وعى أو علم .

4 ـ الاستمالة العاطفية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   ويستعمل فيها أسلوب دغدغة المشاعر ومخاطبة العواطف بالاستضعاف تارة والاستعطاف تارة أخرى بغية التأثير في المتلقي.

5 ـ الشعارات:
ــــــــــــــــــــــ
    وهي عبارة عن الكلمات البسيطة المصاغة في شكل الأناشيد أو الأغاني أو الأهازيج التي تصدر عن القادة الميدانين الذين ينظمون الجماهير في الشارع ويوجهون حركتهم.

7 ـ النكتة والصورة الكاريكاتيرية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
   وهي إثارة روح الفكاهة والسخرية، وتستخدم للنفاذ إلى العقل بدون عناء، وهي وسيلة مختصرة ولكن عميقة الدلالة والأثر.

 8 ـ التشهير :
ــــــــــــــــــــــــ
   وذلك ببث الاتهام حول الشخص المستهدف لهز ثقته بنفسه وإفقاد المحيطين الثقة به .

9 ـ الأسلوب الاستنكاري:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
   هو أن تطرح الإشاعة بلهجة استنكارية تثير لدى المتلقي تحفّزًا استنكاريًا في محاولة لمعرفة الحقيقة واستنكارها، ثم يأتي الأسلوب الإثباتي، وهو تثبيت امتداد الأسلوب الأول، حيثُ إن إيجابية رد الفعل في الأسلوب الأول هو تقرير ما ورد بالإشاعة لحقيقة ثابتة.

 10 ـ استمالة التخويف:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
   بمحاولة خلق عدو وهمي للأمة، يتربص بها ويتحين الفرصة في أية لحظة لأن يوقعها في دائرة الخطر، وهذا أسلوب يستخدمه الزعماء الديكتاتوريون في الغالب؛ إذ يصنعون في مخيلة شعوبهم عدوًا كبيرًا وخطيرًا يستخدمونه كفزاعات لإثارة المخاوف، ليبرروا به سياساتهم الخاطئة فينصرفوا إليه، وينشغلوا به بدلاً من قضاياهم المصيرية، وعن « استمالة التخويف « يقول هتلر :

   « إن أهم أسلحتنا هي اضطراب الذهن وتناقض المشاعر والحيرة والتردد والرعب الذي ندخله في النفوس والقلوب » .

11 ـ ادعاء الأسلوب العلمي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
   يحاول البعض أن يطرح الدعاية السوداء بأسلوب يدّعي أنه علمي لنيل ثقة المتلقي، كما تحاول بعض أنماط تلك الدعاية تعظيم صفة المتحدث بإضفاء ألقاب وصفات وهمية عليه مثل لقب الدكتور، خبير استراتيجي، خبير إعلامي، ناشط سياسي، خبير أمني، ناشط حقوقي، الخبير الدولي؛ ليسهل التأثير على المتلقي فيتقبل منه الإشاعة برحابة صدر.

 12 ـ أسلوب الاحتواء:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    وهو محاولة إيهام المتلقي بالتعاطف مع رأيه، وبعد أن يطمئن إليه يبدأ القائم على عملية الاتصال ببث أفكاره شيئًا فشيئًا، فلا يجد معارضة من المتلقي في تقبّل رأيه لأنه وثق من أنه متفق معه في المبدأ والفكرة.

   .. ولا شك أن كل الأساليب السابقة من أنماط «صناعة الكذب» تنطوي على الأركان الكاملة للجريمة الإعلامية.

***

   وقد رصد الباحثون من خلال متابعة واستعراض المواد الإعلامية التي قدمها الإعلام الرسمي في مصر أثناء فعاليات ثورة 25 يناير 2011، العديد من الحيل الإعلامية التي تصنف تحت مسمى الدعــاية السـوداء Black propaganda وهي: استباق الأحداث، والتهوين من جانب والتهويل من جانب آخر، بالإضافة إلى اختلاق وقائع لبث الفزع في قلوب المشاهدين، وهو ما يسمى بـ (استمالة التخويف)، واستخدام الخطابات العاطفية التي تهدف إلى استمالة مشاعر الجمهور واستقطابهم، وهو ما يسمى بـ (الاستمالة العاطفية)، وتشتيت ذهن المتلقي عن المتابعة العقلانية والمنطقية للحدث الرئيس وهو الثورة، مع العمل على تشويهها من خلال الحديث عن مندسين وجواسيس أجانب بين المتظاهرين وأجندات خارجية ومؤامرات وهو ما يسمى بـ (استمالة التخوين).

الجريمة الإعلامية:
ــــــــــــــــــــــــــــــ

تختلف الجريمة الإعلامية عن غيرها من سائر الجرائم العادية في أمرين:

   1 ـ أن معظم الجرائم الإعلامية تتم بتحريض وتدبير مجرمين من نوع خاص (حكام ـ أجهزة استخبارات)، ومن وراء ستار وبادعاء دافع كاذب لارتكابها هو في الأغلب والأعم مصالح الأوطان وحماية أراضيها والحفاظ على عقائد مواطنيها ومكتسباتهم، ولا يكشف هؤلاء المجرمون عن أنفسهم أو عن نياتهم الحقيقية، بل إن من هؤلاء المجرمين ـ إمعانا في التخفي ـ من يشترك في البكاء على ضحية جريمته كما لو كان عزيزًا عليهم.

  2 ـ أن الجريمة الإعلامية مازالت حتى الآن جريمة فوق القانون؛ لأن الباحثين عن المجرمين فيها مازالوا يتعاملون معها من منطلق الخوف من الاقتراب من بصمات المجرمين أو محاولة رفعها تجنبًا لمواجهة لا قبل لهم على احتمال نتائجها.

   .. ومع ذلك تظل الجريمة الإعلامية شأن كل الجرائم منذ بدء الخليقة منقوصة، فلا توجد الجريمة الإعلامية الكاملة مهما حاول المجرم الأخذ بأسباب الحيطة وتوخي الحذر لتبدو جريمته كذلك؛ وهو ما دفعنا في هذا البحث إلى إبراز التناقض العملي والعلمي في سياق الحدث من خلال الاثنتي عشرة قصة خبرية (موضوع البحث) ـ كما ورد في التناول الصحفي لها ـ ومحاولة الاقتراب من مختلف زواياه مع التركيز على تجاوز ما هو شخصي تجاهه، ومحاولة إعطائه البعد الجماعي والاجتماعي والإنساني والسياسي والثقافي والتاريخي.

مقاصد « صناعة الكذب » :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   تتلخص مقاصد صناعة الكذب في أغراض شتي، أهمها :

   1 ـ حراسة ثقافة التخلف :

   ويهدف هذا النمط من « صناعة الكذب « إلي إعاقة تنمية المجتمع أو نهوضه، وحراسة أسباب تخلفه وأميته من خلال الترويج للدجل والخرافات في إطار مؤامرة ثقافية واجتماعية ؛ تهدف إلى أن يضاف إلى العناصر الاجتماعية الثقافية ذات الأهداف السلبية ما هو أسوأ منها ومثال ذلك :

   أ ـ في 5 مايو 1968 نشرت صحيفة الأخبار في عدها رقم 4946 بيان من أحد الآباء الكهنة الأفاضل يؤكد فيه ظهور السيدة العذراء في كنيسة الزيتون، وفي نفس العدد مؤتمر صحفي لقس فاضل يحكى فيه عن معجزات شفاء أمراض مزمنة لم يفلح الطب في علاجها، وحل مشكلات مستعصية لأشخاص شهدوا تجلياتها من فوق قباب الكنيسة .

   ب ـ  .. ولم يكد يمضى أسبوعين، حتى نشرت جريدة « أخبار اليوم » في عددها رقم 1228 بتاريخ 18 مايو 1968 قصة خبرية بعنوان : « العذراء ، هل ظهرت في المنزل رقم 13 ش الحجر بباب الشعرية ؟ «، وذكرت الصحيفة أن السيدة / صوفي عطا الله صاحبة المنزل اشتاقت لرؤية السيدة العذراء، لكن ظروفها لم تمكنها من الذهاب إلي كنيسة الزيتون، وبينما هي تقوم بغسل ملابس أسرتها بكت من شدة شوقها إليها ، وبينما هي تقوم بنشر الغسيل وجدت صورة السيدة على العذراء مطبوعة علي الصينية التي كان بها الغسيل، ومنذ ذلك اليوم لم يعد لسكان حي باب الشعرية من حديث إلا عن الصينية التي طبعت عليها السيدة العذراء صورتها، وتحول المنزل إلي مزار للتبرك بالصينية !!

   ج ـ ما بثته شاشة تليفزيون الدولة في 25 ديسمبر 1968 أثناء رحلة «أبوللو 8 »  إلى القمر، وبعد انتصار الإنسان في هذه الرحلة ونجاحه العظيم، فقد ذكرت المذيعة سلوى حجازي أن محمد لبيب ( دجال بركة السبع) استطاع أن ينقل الخاتم من إصبع يدها اليسري إلى يدها اليمني، وأن هذا الدجال استطاع أن يرد علي سؤال كُتب في وريقة أمسكها بيده الصحفي أنيس منصور دون أن يرى مضمون السؤال عن المستقبل المهني لذلك الصحفي، ولم يكتفي الأستاذ أنيس منصور بذلك فواصل حملة صحفية في عموده اليومي « مواقف « عن عجائب علم الفنجان وعلم الكوتشينة وعلم قراءة السحاب وتحضير الأرواح بواسطة استخدام سلة من البوص وغيرها من العلوم ( الزائفة ) .

2 ـ ترسيخ الشعور بالدونية :

   ويهدف هذا النمط من « صناعة الكذب »  إلي ترسيخ الشعور بالدونية، وأن الإنجاز إذا تحقق فهو وليد الصدفة أو قوى غيبية، وليس محصلة للإعداد الجيد أو الجهد الدءوب؛ فمنذ عقود طويلة وحتى سنوات قليلة لم تكن أوربا ومن بعدها وريثها أمريكا تنظر إلى الإنسان المصري إلا على كونه مجرد فلاح أي مجرد إنسان كسول وقدري ولا يصلح إلا لترديد الخرافات، ويسيّر حياته بالتواكل ويواجه أعدائه بعمل «الأحجبة» والتعاويذ التي تعطل مراكبهم في البحر، وأنهم يواجهون بارود الأعداء بالدعاء عليهم على طريقة الدعاء الشهير : « يا عزيز .. يا عزيز .. كبة تأخذ الانجليز » ، وقراءة عدية ياسين علي قوى البغي والطغيان، ويشيع موتاه باللطم والصراخ والعويل .

   فمثلاً عندما فاجئ شعب مصر العالم بتحضره التلقائي في تشييع جنازة الرئيس عبد الناصر من خلال جنازة ضمت الملايين الذين انتظموا علي إيقاع اللحن الجنائزي: « الوداع يا جمال يا حبيب الملايين .. الوداع» ؛ قالت الصحف الثلاث الصادرة في القاهرة وقتها أن هذا اللحن وليد الصدفة وحزن الجماهير، لكن حقيقة الأمر إنه في اليوم السابق للجنازة كتب أبيات الشعر وارتجل لها لحناً الدكتور عبد الرحمن عرنوس الأستاذ بمعهد الفنون المسرحية، ومدرب فرقة «شباب البحر»، وهي فرقة فنية من أبناء بورسعيد المهاجرين طافت شوارع القاهرة وهى تردد الأغنية التي سرعان ما انتشرت في طول البلاد وعرضها.
   وفى أكتوبر 1973 فاجئ شعب مصر العالم بتحول هذا الفلاح المصري إلى مقاتل منظم في جيش حديث، وأن ما حققه من انتصار أبهر العالم، وأصبح موضوعاً للبحث والدراسة والتحليل في معظم أكاديميات العالم العسكرية، ومع الدقائق الأولى سيطر علي العالم الشعور بالمفاجأة ، ومع الدقائق التالية بدأ يسيطر على الجميع الشعور بالحذر، .. ثم كان الإحساس الجارف بالخطر؛ ومن ثم بدأت « صناعة الكذب» في تفريغ هذا النصر من مضمونه بنفس أسلوب الدعاية التي تنتهجها إسرائيل في تخطيط مدروس بقصد الحط من شأن الجندي المصر، ومثال ذلك :

   أ ـ قيام شيخ من الدعاة الأفاضل بالترويج عبر الصحف أن هذا الانتصار ما كان أن يتحقق لولاً أن الملائكة حاربت إلي جانب الجنود المصريين!! .. ، طبعاً لا ننفى حسن النية عن فضيلته، لكن أيضا لا نعفيه من الإساءة إلى دينه بتلك المبالغة السخيفة التي أطلقها معتقداً أنه يخدم شعبه ومعتقده بينما هو في الحقيقة أهان القدرات والجهود الحقيقية للجندي المصري وأساء إلى المعلوم من ثوابت الدين .

   .. فلو افترضنا صحة ما ادعاه فضيلته ـ وهو فرض لا نسلم به أبدا ـ فإننا أمام كارثة  تعنى أن الاستعداد والتدريب الشاق وعنصري الابتكار والتجديد في الفكر والسلاح والوسائل وإتباع المنهج العلمي في التخطيط على مدى ست سنوات لم يكن كافياً لتحقيق النصر لولا مشاركة الملائكة !!

   ب ـ داعية فاضل ثان راح يروج لكذبة أخرى في إطار الخرافة عبر الصحف والمنابر، وهى أنه عندما انقطعت المياه عن مدينة السويس تفجرت آبار من المياه في معجزة إلهية؛ لتروى المجاهدين من أفراد المقاومة، لكن حقيقة الأمر هو أنه عندما انقطعت المياه عن المدينة المحاصرة لمائة يوم (22 أكتوبر 1973 ـ 29 يناير 1974 )، استعان رجال المقاومة بذاكرة كبار السن من سكان المدينة ليدلونهم على أماكن الآبار القديمة، وراحوا يحفرونها بسواعدهم طلباً للماء حتى تحقق لهم ما أرادوا، وليوفروا المياه القادمة من القاهرة لقوات الجيش الموجودة في سيناء.*(1 )

ج ـ  داعية فاضل ثالث راح يروج أن نداء العبور : « الله أكبر .. الله أكبر» كان نتيجة للحالة الروحانية التي أحدثتها اشتراك الملائكة في القتال.

 .. والحقيقة أن هذا النداء قد وضع ضمن بنود خطة « المآذن العالية »  التي أعدها الفريق سعد الدين الشاذلي ( يرحمه الله) التي تغير اسمها قبل العبور إلي الخطة « بدر «؛ وكان ذلك من خلال توزيع 50 من ميكروفونات الترانزستور التي تعمل بالبطارية على القادة على طوال خط المواجهة؛ وتسلم 20 منها إلي الجيش الثالث، و30 منها إلي الجيش الثاني في استثمار علمي مدروس للحالة الروحية والنفسية للجنود الصائمين وإثارة الحمية فيهم .*(2 )
   د ـ من الأشياء الهامة جداً أن حرب أكتوبر لم يتم تصويرها، ولم يدخل إلي منطقة القتال مصور واحد إلا بعد ظهر يوم 8 أكتوبر أي بعد بدء القتال بيومين.

   وقد شكلت الصور المزيفة التي نشرت في الصحافة الوطنية والصحافة العالمية ـ في أطار صناعة الكذب ـ إساءة متعمدة إلى المقاتل المصري، فقد كانت تلك الصور مجرد مشاهد تمثيلية قام بها جنود كومبارس يعبرون بطريقة غوغائية انعدم فيها  عنصرا الضبط والربط الذي كان مفروضا أثناء عملية العبور.

3 ـ هزيمة الشعوب والجيوش قبل أن تبدأ معركتها :

   من أهم أهداف «صناعة الكذب» في حالات النزاع المسلح؛ إشاعة روح الإحباط والهزيمة في شعوب وجيوش الخصوم ، فتهزم قبل أن تبدأ معركتها، وقبل أن تطلق الرصاصة الأولى، وتستسلم دون قتال .

4 ـ الدعاية للحاكم لكونه الخيار الأمثل :

   يهدف الحكام المستبدون من «صناعة الكذب»؛ إقناع الجماهير بكونهم الخيار الأمثل لصالح الأوطان والشعوب، وأنهم صمام الأمان، وأنه حال تخليهم عن مواقعهم تعم الفوضى ويضيع الاستقرار، وتبدد أحلام الرخاء .
 5 ـ إثارة روح الفرقة بين أبناء الوطن الواحد :

   تستهدف بعض أنماط «صناعة الكذب» تمزيق وحدة الأوطان وإشاعة روح الفرقة بين أبناء الوطن الواحد عبر إثارة النعرة العرقية، والفتنة الطائفية بين أتباع الديانات المختلفة من خلال إطلاق الشائعات عن التبشير، والتبشير المضاد، والإساءة للمعتقدات والمقدسات .

6 ـ الوقيعة بين الشعب وجيشه :

   وهذا النوع من أنماط «صناعة الكذب» يستهدف الوقيعة بين الشعب وجيشه الوطني، عبر تحويل انتصارات الجيش إلى هزائم، وتحويل انجازاته إلى خسائر، والإساءة إلى رموز العسكرية، وإظهار القادة في صورة الباحثين عن المغانم، وعقد الصفقات على حساب المصلحة الوطنية، وهي الحالة التي حاولت  «صناعة الكذب» عبر أنماط الدعاية السوداء التي مولها الصهاينة، أن تصور للبعض أنها تنطبق علي الحالة المصرية بعد ثورة 25 يناير 2011؛ فأطلقت  الأشداق النجسة الشعار البغيض: « يسقط، .. يسقط، حكم العسكر»، الذي ردده  بعض الموتورين والجهلاء والمأجورين، وكان لجموع المصريين رأي أخر، فقد حموا جيشهم بأرواحهم، واحتموا بدرعه .

 7 ـ إثارة الضغائن بين الشعب والشرطة :

   ويهدف هذا النمط من «صناعة الكذب» إلى إشاعة روح الكراهية بين المواطن وجهاز الشرطة بهدف إضعاف الجهاز باعتباره خط الدفاع الأول عن الأمن القومي؛ وإهدار سيادة القانون لكون رجل الشرطة هو أول نقطة في التقاء المواطن بالقانون وهو قاضي التحقيق الأول للواقعة في مسرح حدوثها.
 
    وذلك من خلال خلق صورة ذهنية سلبية بالتركيز علي بعض التصرفات الشاذة لبعض أفراد الشرطة المنحرفين، وإظهارهم في ثوب الفئة المارقة التي تعلو علي المساءلة، ويصعب احتواء ما ترتكبه من مخالفات في إطار المحاسبة القانونية، وتضخيم بعض التصرفات التي اتسمت بالفساد والعنجهية  لبعض أفراد الجهاز من حاملي الدرجات والرتب الصغيرة في الإساءة إلي العقيدة الوطنية للشرطة المصرية علي النحو الذي حدث في الحالة المصرية مساء يوم 28 يناير 2011، وكانت نتيجة الشحن الزائد لبطاريات الغضب؛ اندلاع طاقات من السخط أمام أقسام الشرطة، وإضرام النيران فيها ، والاستيلاء علي أسلحتها.

منهج البحث:
ـــــــــــــــــــــ

   أولا ً: التاريخ كما عرفه ابن خلدون في مقدمته : « خبر عن حدث» ، وفي العصر الحديث أصبحت الصحافة هي ناقلة الخبر عن الحدث، وأصبح الصحفيون أول من يكتبون التاريخ من مصادرة الأولى، وصارت الكتابة الصحفية هي البروفة الأولية المنطبعة للتاريخ وأحد أهم المصادر لكتابته .

   .. لكن في عصور الاستبداد وفي ظل حكم الأنظمة القمعية حالت الظروف التي ألمت بالصحافة، وأحاطت بالصحفيين دون نشر حقيقة « الخبر عن الحدث» كما جرت وقائعه على الأرض عبر الأقوال المكذوبة والشهادات المغلوطة !! وهو ما يتصدى له هذا البحث من خلال تقييم التناول الصحفي لبعض الأحداث التي يحوطها اللبس ويكتنفها الغموض، ومحاولة استظهار الحقيقة، واستنباط الدليل، والوقوف علي الأسباب من خلال مقارنة ما نشر الصحف بغيرها من الوسائل الأخرى للمعرفة والتدقيق في مفردات مشاهدها، ومحاولة إخضاعها لطبائع الأمور، وبما يستقيم مع منطقها؛ للوصول إلى كيف حدث ولماذا حدث ؟!

   وحتى لا أكلف نفسي بما لا أطيق، ولست مُعداً له .. أؤكد بما لا يدع مجالاً للبس أن هذا البحث ليس محاولة لكتابة التاريخ أو محاولة لتصويب بعض وقائعه الجديرة بالاهتمام التي وقعت في الماضي، فهذا علم له أصوله وقواعده ومختصوه وأنا لست منهم.

  كما أؤكد أننا لا نحاكم التاريخ ولا نتحاكم حول وقائعه، لكن بصدد تقييم التناول الصحفي لبعض الأحداث، وما تركه هذا التناول من انطباع أول ظل راسخًا في الذاكرة الجمعية وأصبح جزءا من نسيجها بما يصعب تغييره، وخاصة أن الكثير يتعاملون مع النسيج الإعلامي لبعض القادة والزعماء والساسة (الصورة الذهنية)، دون أن يكلفوا أنفسهم محاولة الاقتراب من النسيج الإنساني، وما يحتويه من تضاريس التكوين البشري من مشاعر الحب والكره والرضا والسخط واليأس والرجاء والأمن والخوف وسائر الغرائز والرغبات الإنسانية الأخرى.

ثانيا: اعتمد البحث على أربعة مصادر للمعلومات:

   أ ـ المصادر الأولية للمعلومات من خلال التناول الصحفي لما نشر بالصحف الصادرة غداة الحدث.

   ب ـ الوثائق المتعلقة بالحدث موضوع البحث ـ إن توافرت لنا ـ وأحكام القضاء ـ إن وجدت ـ فيما قضت به بشأن الحدث موضوع البحث.

   ج ـ المذكرات الشخصية المنشورة (يوميات ـ ذكريات ـ سير ذاتية) لمن عاصروا الحدث أو كانوا في بؤرة الحدث أو في دوائر صنع القرار بشأنه، ومحاولة التوقف أمام ما يمكن أن نطلق عليه (المسكوت عنه) في هذه المذكرات، وهو مجموع الأحداث والتفاصيل التي يصر كاتب المذكرات أن يغلق أمامنا الأبواب للدخول إلى حقيقتها.

   د ـ الاستماع وتسجيل الشهادات الشخصية للأحياء ممن عاصروا الحدث أو كانوا في بؤرة الحدث أو في دوائر صنع القرار بشأنه، ومناقشتهم في أقوالهم ومحاولة استيضاح بعض ما خفي منها.

ثالثًا:   يعتمد منهج البحث على إبراز التناقض العملي والعلمي في سياق الحدث موضوع البحث ـ كما ورد في التناول الصحفي له ـ ومحاولة الاقتراب منه من مختلف زواياه مع التركيز على تجاوز ما هو شخصي تجاهه، ومحاولة إعطائه البعد الجماعي والاجتماعي والإنساني والسياسي والثقافي والتاريخي.

صعوبات البحث:
 ـــــــــــــــــــــــــــــ

  واجه الباحث صعوبات كثيرة في تدقيق المعلومات التي اعتمد عليها البحث والتي استقاها من المصادر الأربعة للمعلومات التي سبقت الإشارة إليها كمصادر للمعلومات، وقد جاء مكمن الصعوبة في كل منها على النحو التالي:

أولا: الصحافة المصرية

   أمدتنا الصحف بكم هائل من الأخبار ومقالات الرأي التي تعد «البروفة الأولية» للتاريخ،. وقد وضعنا نصب أعيننا حال الاستعانة بما ورد فيها في هذا البحث أن الصحافة المصرية كانت خلال تلك الفترة الزمنية موضوع البحث (1949 ـ 2005) في أغلبها خاضعة للرقابة عليها بداية من الأحكام العرفية بسبب حرب فلسطين ثم الأحكام العرفية بعد حريق القاهرة، وبعد انقلاب يوليو 52 ظلت الرقابة على الصحف قائمة بزعم حماية الثورة من أعدائها، وبعد هزيمة 67 استمرت الرقابة لكون الدولة في حالة حرب.

    وبعد حرب أكتوبر 1973 أعلن السادات رسميًا إلغاء الرقابة على الصحف في 8 مارس 1974، لكن واقع الحال كان يقول بغير ذلك فقد كان الإلغاءً صوريًا، فقد استبدل السادات الرقيب الحكومي الموظف بالرقيب «رئيس التحرير»، الذي كانت تصله التعليمات عبر قنوات الأجهزة أو من خلال أوامر السادات المباشرة، وتعرضت صحف المنابر التي تحولت إلى أحزاب للمصادرة، فتم مصادرة جريدة الأهالي على مدى 14 أسبوعًا متتالية، وفي كل مرة كان يتم نظر الطعن على قرار المصادرة أمام دائرة بعينها، وقاض بعينه في محكمة جنوب القاهرة، وكان الحكم دائما بتأييد قرار المصادرة؛. وقد تم مكافأة القاضي المذكور بتعيينه في وظيفة النائب العام، ثم اختياره وزيرًا للعدل.

   ولم يكن حظ جريدة الأحرار أفضل حالاً من جريدة الأهالي، فقد توقفت عن الصدور بعد مصاعب كثيرة في طباعتها في مطابع مؤسسات الصحافة القومية، وتعذر الحصول على حصص الورق اللازمة لذلك من السوق السوداء!!
ولاقت جريدة الشعب من العنت الكثير ما بين المصادرة والملاحقة حتى توقفت عن الصدور بقرار إداري في 20 مايو عام 2000.

   ومع اغتيال السادات أعلن تطبيق قانون الطوارئ واستمر العمل به إلى ما بعد قيام ثورة 25 يناير 2011 بعام ونصف العام، بما يعني أن الصحف كانت تتبنى وجه نظر أحادية الجانب، وهي وجهة نظر النظام الحاكم، وبما يتفق مع أغراضه، مع حجب الآراء ووجهات النظر المناوئة، إضافة إلى محاذير أخرى أهمها:

   أ ـ أن الصحف قد تنشر الخبر في طبعتها الأولى، وتقوم بحذفه في طبعتها الثانية لسبب غير مفهوم.
   ب ـ أن الصحف قد تنشر الخبر وبعد يوم أو أيام تنشر تصحيحًا أو تكذيبا له.

   ج ـ أن الصحف لا تهتم بنشر كل الأخبار، وقد تولي بعض الأخبار التافهة اهتمامًا، بينما تغض الطرف عن بعض الأخبار الجديرة بالاهتمام.

   د ـ أن بعض الصحف القديمة قد أصابها التلف وتمزقت بعض صفحاتها، نتيجة عوامل الزمن وتردى وسائل الحفظ ، كما كان من الصعب الاطلاع على بعض مجلدات تلك الصحف لخضوعها لعمليات ترميم تستغرق وقتاً طويلاً.

   .. وقد وضعنا ذلك كله في الاعتبار، وأيضا فقد عوّلنا في بحثنا فيما يتعلق بالصحف كمصادر أولية للمعلومات على كونها وجهة نظر النظام الحاكم، كما توخينا الحذر في الأخذ عنها، وعند الأخذ ببعض ما جاء بها، قمنا بإجراء المقارنات بينها وبين المصادر التاريخية الأخرى للتأكد من دقة الوقائع وشمولها.

ثانيا: الوثائق المتعلقة بالحدث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   يقصد بالوثائق المتعلقة بالحدث ما صدر عن وزارات الحكومة ومصالحها والجهات الرسمية في الدولة من قوانين وأوامر وتشريعات وإحصاءات وتعدادات والبيانات الرسمية والقرارات، وما صدر عن مجلسي البرلمان من مضابط الجلسات وملاحق القوانين والقرارات والشهادات الرسمية أمام المحاكم، وما نشر من أحكام ومحاكمات، وكل ما نتج عن الحدث من وثائق أرشيفية أو خطب الزعماء وبياناتهم وتصريحاتهم أو قرارات الأحزاب أو الصور الفوتوغرافية والقرارات الصادرة من الأحزاب والنقابات وبرقيات التقارير التي يرسلها السفراء والقناصل إلى حكوماتهم وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

أ ـ وثائق غير منحازة

   الوثائق غير المنحازة، هي الوثائق التي لم يقصد بها أن تكون أدلة على موضوعات بعينها في المستقبل مثل سجلات المحاكم، ودفاتر مكلفات الأطيان الزراعية، ودفاتر مكلفات المباني، والقوانين، وغيرها من أوامر ونواهي إنجاز الأعمال، والمنشورات الصادرة عن الأحزاب، والنقابات في إطار ممارستها لأنشطتها المختلفة.

ب ـ وثائق منحازة

الوثائق المنحازة، هي التي يقصد بها أصحابها التدليل على موضوعات بعينها كشهادة الشهود في المحاكم واعترافات المتهمين وإنكارهم، والروايات المباشرة، أو غير المباشرة (اليوميات Diaries ـ السير الذاتية Memoirs ـ الذكريات Recollections)، وهي أقل قيمة من الناحية العلمية؛ لاحتوائها على قدر يقل أو يكثر من الأباطيل.
ج ـ وثائق مصطنعة

   يقصد بالوثائق المصطنعة تلك الوثائق التي يتم اصطناعها بالتزوير أو إعدادها تحت تأثير الإكراه الجسدي أو المعنوي، ومثال تلك الوثائق الوثيقة التي كتبها الأستاذ مصطفى أمين، وكانت ضمن أوراق القضية رقم 10 جنايات أمن دولة عليا والتي يعترف بموجبها بقيامه بأعمال جاسوسية لصالح الأمريكان، وقد ثبت لمحكمة جنايات القاهرة برئاسة المستشار أنور مرزوق أنها كتبت تحت الإكراه الجسدي وتحت آلام تعذيب لم يتحمله، وقد لوحظ أن الوثيقة لم تكتب بقلم واحد ولا وقت واحد، وأن فقراتها غير متواترة وغير متناسقة، كما لوحظ أن شرائط التسجيل تحتوي علي فراغات كثيرة وأنه تم التلاعب فيها من خلال عمليات المونتاج.
   وقد اعترف د . محمد حسين هيكل رئيس مجلس الشيوخ في مذكراته، بأنه أدخل عليه الغش بدس وثيقتين مزورتين عليه ، إحداهما عبارة عن صورة بالقلم الرصاص من خطاب أرسله النحاس باشا إلى المفوضية الروسية، والوثيقة الثانية تؤكد الوثيقة الأولى لكنها مكتوبة بخط محمود بك شوقي ابن شقيقة النحاس باشا وسكرتير عام مجلس الوزراء .

   مما حدا بالنحاس باشا والأستاذ إبراهيم فرج وزير البلديات إلى تقديم بلاغ إلى النائب العام عبد الرحيم بك غنيم النائب العام آنذاك ، وقد أوضحت التحقيقات أن هذه الوثائق مزورة وأن الذي دسها عليه ضابط كبير بالمعاش يدعى محمد سليمان هجرس وكان هذا الضابط يشتغل قبلا في المخابرات الحربية وأن هذا الضابط قدم هذه الوثائق مقابل خمسين جنيها حصل عليها من علوبة باشا وأن الذي اصنعها موظف بالسكة الحديد يدعى عبد العزيز جاد الحق . *( 3 ) وهذا يقودنا إلي ما يسمى : « نشاط تجار الورق » .

د ـ نشاط تجار الورق :

   و « تجار الورق »  هم مجموعة من البشر لا خلاق لهم يقومون بتجميع المعلومات من مصادرها المعلنة، ويقومون باصطناعها في شكل الوثيقة؛ لإدخال الغش علي المراكز البحثية، والإيقاع بالأجهزة الأمنية .
.. وكان مكمن الصعوبة في أربعتهم هو:

   1 ـ أنه لا يمكن معرفة دلالة الوثيقة إلا في إطار العصر الذي صدرت فيه، ولا يمكن فهم القرار إلا في إطار الظروف التي تم اتخاذه فيها.

  2 ـ أن الحكومات المتعاقبة على حكم مصر قد أسبغت على وقائع تاريخنا ووثائقه صفة «سرى»، ودون وجود قوانين تنظم تداول المعلومات وسبل الكشف عن الوثائق، أو السنوات اللازمة للكشف عن مكنوناتها، وهو ما جعل خزانة الوثائق في مصر مغلقة دائما!!
   .. وزاد الأمر صعوبة أن الكثير من الجماعات على ساحة العمل الوطني مثل الإخوان المسلمين ومصر الفتاة وحدتو والحزب الشيوعي المصري قد عمدت إلى السرية من خلال الانخراط في تنظيمات سرية، وأنهم يحرقون أوراقهم بعد عقد اجتماعاتهم، لذلك كان الاعتماد على بعض الروايات الشفهية، والمذكرات الخاصة وهذا النوع من الوثائق المنحازة له عيوبه، منها المبالغة والكذب وليّ عنق الحقائق والرؤية الذاتية للأمور.. ولذلك كان الأخذ عن بعضها بحذر، والاكتفاء بإبراز المفارقات العلمية والعملية بينها وبين ما جاء في وثائق أخرى تحمل سمة «غير المنحازة»!!

   3 ـ أنه من الصعب على الباحث تمييز الوثائق المصطنعة، ما لم يتم الكشف عنها وفضحها بمعرفة سلطات التحقيق، أو يكون الباحث مدعومًا من مركز أبحاث يمتلك تقنيات الكشف عن تلك الوثائق.

ثالثا ً: المذكرات الشخصية

   أ ـ كان مكمن الصعوبة الثانية أن معظم المذكرات (اليوميات Diaries ـ الذكريات Recollections ـ السير الذاتية Memoirs) أن كاتبها يحاول جاهدًا أن يجعل من نفسه دائما وأبدًا القطب الأوحد الذي تدور في فلكه أحداث الكون؛ فهو يسجل لنفسه المواقف المضيئة ويتخذها مادة للدفاع عن النفس وتمجيد الذات، ويدعي الصواب لنفسه، ويحتكر لذاته الآراء السديدة والنظرة البعيدة الثاقبة القادرة على سبر أغوار التاريخ بما فيه من العظات والعبر، واستشراف ما هو آتٍ، فهو دائمًا البطل الذي لا يعترف بخطأ ارتكبه، بل ينسبه للآخرين، وهو أيضًا الحكيم إذا طاش عقل الجميع، وهو الشجاع إذا وهن القوم، وهو الأمين إذا خان الرفاق!!

   وهذا ما جعلنا نأخذ عنها بالكثير من الحذر واضعين في الاعتبار أن التجرد عند الكتابة عن الذات من الصعوبة بمكان، بما يجعلها أمرا خارجا عن إرادة البشر؛ فتكون المغالطة إلا من رحم ربي، كما يعمد الكاتب أحيانًا إلى إغفال وإخفاء بعض الوقائع التي لا تناسب أوضاعهم التي صاروا إليها، وهو ما نطلق عليه في بحثنا هذا مصطلح «المسكوت عنه»، وإذا افترضنا حسن النية بأن ذاكرة الكاتب قد تخونه أحيانًا في تسجيل بعض الوقائع فيحدث الخطأ؛ والمحصلة سواء بسواء..

   وسنتناول في هذا الصدد بعض النماذج من مذكرات أحمد عرابي وحسن البنا وزينب الغزالي ومصطفى النحاس وتحية عبد الناصر وجيهان السادات وبرلنتي عبد الحميد وسنتوقف عند بعض المراحل في هذه المذكرات، لنطرح التساؤل حول «المسكوت عنه» في تلك المذكرات، والتي يحاول كتابها أن يوصدوا أمامنا الأبواب للدخول إلى خزائن التاريخ وتصفح أوراق كتابه بشأنها!!
   .. وليس هذا فقط، بل كانت ثمة صعوبة أخرى متمثلة في اختلاف شهادات الأشخاص حول الحدث الواحد سواء في سياق السرد أو زوايا الرؤية.
   ب ـ ولم تكن الصعوبة في الاعتماد على المذكرات هي التناقضات الكثيرة في الشهادات المختلفة للعديد من الشخوص، بل تعدتها إلى التناقضات في شهادة الشخص الواحد حول حدث واحد؛ فعندما تتاح له فرصة الكتابة عنه أكثر من مرة على فترات متباعدة وفي ظروف مختلفة ومن مواقع متغيرة (سياسيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا أو وظيفيًا)؛ تبدو الرؤى متناقضة والآراء ولغة الكتابة وأسلوب عرض الموضوعات ومضامين المعلومات مختلفة، وسنضرب مثلاً لذلك بكتابات الرئيس أنور السادات.

   .. وهو ما حدا بنا في هذا البحث؛ وحتى لا نقع فريسة للتخمينات والشائعات والأكاذيب إلى اعتبار ما جاء في هذه المذكرات مجرد شهادات بالإثبات أو النفي، لا تمثل إلا وجهة نظر أصحابها ما لم تدعمها وثيقة أو مستند أو حكم قضاء، وندلل على ذلك بعدد من الأمثلة:

مذاكرات عرابي:

   ذكر الزعيم أحمد عرابي في مذكراته بعنوان: «كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية عام 1298ـ 1299هـ الموافق 1881 ـ 1882 م »، أنه بدأ في كتابتها بعد عودته من المنفى في جزيرة سرنديب، حيثُ رست سفينته في ميناء السويس في 29 سبتمبر1901، أي بعد انقضاء 19 عاما على أحداث الثورة التي أطلق عليها العامة «هوجة عرابي»، وقال عرابي إنه :
   « فأنى اطلعت على كثير من الجرايد والتواريخ العربية والإفرنجية الموضوعة في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية، فلم أجد فيها ما يقرب من الحقيقة أو يشفى غليل الأمة، بل كل كاتب يذهب في تدوين ما كتبه لترجيح مذهبه، ولو كان بعيداً عن الحقيقة بمراحل ولذلك رأيت أن أكتب للناس كتاباً يهتدون به إلى الحقيقة، تمحيصاً للتاريخ، من درن الأهواء الفاسدة، والمفتريات العاطلة ... قياما بالواجب علىَّ لأبناء وطني الأعزاء، وبرا بهم، وتصحيحاً للتاريخ وخدمة للإنسانية وبنيها»

   وإلى جانب ذلك فقد ذكر عرابي أن الدافع الأكبر وراء تأليفه لكتابه هو وجود الكثير من الأسرار عن الثورة إلي لا يعرفها غيره؛ فعقد العزم على الإدلاء بشهادته حول حقيقة أحداثها، وانتهى الزعيم من كتابة تلك المذكرات التي وقعها باسم أحمد عرابي الحسيني المصري في 26 يوليو 1910 أي قبل وفاته بعام في 22 سبتمبر 1911، ولم يكن عرابي ـ قبل ذلك ـ حريصًا على تدوين يومياته.

   كانت الملاحظة الأولى علي مذكرات عرابي أنه لم يكشف ستاراً عن شيء غير معروف ولم يفشى أسراراً لا يعرفها أحد، وذكر الكثير من الوقائع التي لم يقدم عليها دليلاً، ولم تساندها شهادات أحد من أهل زمانه، وكأن عرابي كان يسبح في الفراغ وحده؛ فذكر وقائع لم تذكرها الصحف الصادرة آنذاك، والتي كان بعضها يؤيد الثورة العرابية، ولم يرد لها ذكر فيمن عاصروا الحدث من خطباء الثورة العرابية، والمشاركين فيها، أو الذين تجمهروا لمشاهدته حسبما جاء في مذكراته؛ أو كتابات عبد الله النديم، أو ما ذكره بعض رفاق السلاح، ولا يوجد لها ذكر إلا في مذكرات عرابي، بما يجعل البعض يميل إلى الرأي القائل أنها من شطحات خياله التي ترسخت في الأذهان بعدما نقلتها عنه الكتب المدرسية بعد انقلاب 23 يوليو 1952 الذي تعاطف قادته مع عرابي وأرادوا إنصافه؛ حتى أصبحت تلك الأكاذيب من المُسلمات التي لا يجوز مناقشتها، يقول عرابي في ص 74، 75 من المذكرات عن مشهد المواجهة بينه وبين الخديوي في سراي عابدين يوم 9 سبتمبر 1881:

   « فلما كمُل اجتماع الجيش في عابدين، كان الميدان غاصا بجماهير المتفرجين من الوطنيين والأجانب، ونوافذ البيوت المجاورة للسراي ملأى بالمتفرجين والمتفرجات.

   وأما الخديوي فإنه لما عاد من العباسية دخل من الباب المسمى بـ «باب بريز»، وصعد إلى الإيوان ونزل منه ومشي في الميدان وحواليه المستر كوكسن (قنصل إنجلترا في الإسكندرية) والجنرال جولد سميث (مراقب الدائرة السنية) ونفر من جاويشية المراسلة الخديوية، حتى إذا ما توسط الساحة، طلبني، فتوجهت إليه لأعرض مطالب الأمة، وكنت راكبًا جوادي وشاهرًا سيفي ومن خلفي نحو ثلاثين ضابطًا، فلما دنوت منه صاح بي أن: ترجل واغمد سيفك، ففعلت»

   ويواصل عرابي السرد إلى أن يصل إلى نهاية الحوار:

ـ «قال (الخديوي): كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه الأرض عن أبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا.
 ـ فقلت (عرابي): لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا، فو الله الذي لا إله إلا هو إننا لن نورث، ولن نستعبد بعد اليوم.

فأشار المستر كوكسن على الخديوي بالرجوع إلى السراي زاعمًا أنه يخشى عليه سواء إذا زادت المخاطبة عن ذلك الحد».

   وقد نشرت جريدة الأهرام هذه الواقعة بعنوان: «حادثة مصر» في عددها رقم 1198 الصادر بتاريخ 10 سبتمبر 1881 بقولها:

   « وفي نحو الساعة الخامسة وردت العساكر إلى فسحة سراي عابدين، وكان قد أرسل حضرات الضباط بشير كولاري (كلمة تركية تعني المراسلة) إلى جناب القناصل يعلنون فيه أنه ليس لهم غاية في إيقاع ضرر بأحد من الأجنبيين والوطنيين، ولكن لهم غاية واحدة تنحصر في ثلاث مسائل، أولها تغيير الوزارة، واستبدالها بوزارة يؤلفها دولتلو شريف باشا، والثانية إقامة مجلس النواب، والثالثة وجوب السير بالقانون العسكري الذي شكله القومسيون المشكل من وطنيين وأجنبيين.

   وفي الساعة التاسعة تفرقت العسكر معلنة تمام خضوعها لسمو الخديوي المعظم».

   ولم يشر مراسل الأهرام الذي ذكر أنه كان موجودا في «الفسحة» خلال المظاهرة إلى تلك المحادثة بين الخديو توفيق وعرابي، التي جاءت فيها عبارته المشهورة: « لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا، فوالله الذي لا إله إلا هو إننا لن نورث، ولن نستعبد بعد اليوم».

   .. وبمقارنة ما ذكره عرابي مع المصادر التاريخية الأخرى يتضح أن هناك فقرات حذفها عرابي خلال مخاطبة الخديو وهى قول الخديو له :

   ـ  ألم أك سيدك ومولاك؟ ألست الذي رقيتك إلى رتبة أميرالاي؟، فيجيبه عرابي» نعم «، ثم سأله: « لم حضرت بالجند إلى هنا ؟ «فقال « لطلبات عادلة، وهى عزل وزارة رياض باشا وتشكيل مجلس النواب وزيادة عدد الجيش والتصديق على قانون العسكرية الجديد وعزل شيخ الإسلام الشيخ محمد العباسي المهدي، فقال الخديو « كل هذه المطالب ليس من شأن الجند أن يطلبها « فسكت عرابي ولم يجب بشيء .

   كما يتضح أيضا أن عرابي أضاف من خياله مقولته التاريخية :

« لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا، فوالله الذي لا إله إلا هو إننا لن نورث، ولن نستعبد بعد اليوم».

   كما يتضح أيضا أن عرابي قد خانته ذاكرته في أمرين :

• أن المستر كوكسن لم يكن موجوداً في بداية المظاهرة ، فقد حضر بعد ساعة من حدوثها
• أنه لم يصف أحد حركة عرابي بأنها ثورة إلا في عام 1896 ، وقبل ذلك التاريخ لم يكن استخدام كلمة ثورة معروفا بالمعنى الذي نفهمه الآن ، فالثورة الفرنسية مثلاً كان يطلق عليها « فتنة » أو « قومة » وكانت حركة عرابي يطلق عليها « هوجة ».

   .. ويسترسل عرابي في رواياته عن أحداث مختلقة من شطحات خياله، ولا سند لها من الواقع أو التاريخ؛ للتدليل كذبًا على أن حركة الضباط العرابيين كانت تستهدف الدفاع عن الأمة، لكن حقيقة الأمر أنها كانت للدفاع عن مصالح فئوية تتعلق بمصالح الجيش.

   .. يدعي عرابي أن العريضة التي قدمها إلى رياض باشا وأدت إلى « حادث السلاملك »، الذي عرف فيما بعد باسم حادث «قصر النيل» يوم 31 يناير، كانت تحتوي على مطلب تشكيل مجلس نواب من نبهاء الأمة تنفيذًا لأمر الخديوي الصادر عقب ارتقائه مسند الخديوية، وروى قصة مليئة بالتفصيلات ـ أجمع المختصون ـ على كونها ملفقة عن مقابلة دارت بينه ومعه رفيقاه علي بك فهمي وعبد العال بك حلمي وبين رياض باشا، قال رياض ـ على حد زعم عرابي ـ في مذكراته:

ـ  « ليس في البلاد من هو أهل لأن يكون عضوًا في مجلس النواب».

   فرد عرابي قائلاً: « إنك مصري وباقي النظار مصريون والخديوي أيضا مصري، أتظن أن مصر قد أنجبتكم ثم عقمت؟!!، كلا؛ فإن فيها العلماء والكبراء والنبهاء، وعلى فرض أنه ليس فيها من يليق لأن يكون عضوا في مجلس النواب، أفلا يمكن إنشاء مجلس يستمد من معارفكم ويكون مدرسة ابتدائية تخرج لنا بعد خمسة أعوام رجالاً يخدمون الوطن بصائب فكرهم ويعضدون الحكومة في مشروعاتها الوطنية، وكأنما كبر لديه ما سمعه منا، ثم قال سننظر بدقة في طلباتكم هذه»

   .. لكن حقيقة الأمر كانت غير ذلك فقد تقدم بعض الضباط المصريين بـ «عريضة» إلى رئيس النظار يوم 30 يناير 1881، تشكو العريضة من عثمان رفقي باشا ناظر الجهادية، لأنه يعامل ضباط العسكرية بالذل والاحتقار، كما تشكو العريضة من إحالة الضباط الوطنيين (المصريين) إلى الاستيداع دون غيرهم من الضباط من بني جنسه (الجراكسة)، وتنتهي بطلب رفع سعادة المشار إليه من مسند نظارة الجهادية الذي لا تسمح القوانين الحرة بتوجيه هذا المسند لمثل سعادته، وحملت العريضة توقيع أحمد بك عرابي.

   وكانت هذه هي البداية ليوم «السلاملك»، الذي بدأت أحداثه في أول فبراير 1881، عندما حررت ثلاثة أوامر بمثول ثلاثة من أمراء الجند إلى المحاكمة العسكرية وهم علي بك فهمي، وأحمد بك عرابي وعبد العال بك حلمي، التي قضت بتجريدهم من رتبهم وسجنهم، وانتهت الأحداث بتحرك قوات الحرس الخديوي بقيادة البكباشي محمد عبيد واقتحام الديوان وتحريرهم، وتقديم رفقي باشا لاستقالته.

   وقد نشرت جريدة الأهرام الحادثة في عددها  رقم 1027 الصادر بتاريخ 3 فبراير 1881 أي بعد يومين من حدوثها، وذكرت الأهرام «أن الضباط الثلاثة توجهوا إلى عابدين وتشرفوا بحضرة الجناب العالي، وأعلنوا عن خضوعهم وانصياع رجال العسكرية على حفظ القانون، وأن الراحة مستتبة وقد مر الاضطراب مرور السحاب»، ولم تذكر الأهرام شيئًا عما رواه عرابي من بنات خياله الخصب!!

   ويواصل عرابي استخفافه بقارئ مذكراته فيقول: « باغتنا الانجليز بالعدوان على غير استعداد منا».

   ولاشك أن ما قاله عرابي ينطوي على تزوير واضح للتاريخ؛ فقد كان يعلم أن الأسطول الإنجليزي في مياه الإسكندرية منذ 17 مايو 1882 أي قبل ما يقرب من الشهرين من بدء معركة التل الكبير التي قضى عرابي ليلتها في 12 سبتمبر 1882 في إقامة حضرة ذكر تمايل فيها مع جنوده على إيقاع الدف وأناشيد المدائح النبوية، وختمها بعديَّة ياسين وقراءة الأوراد والدعاء على الأعداء بتشتيت الشمل وتفريق الجمع، ذكر أحمد شفيق باشا في مذكراته :

 « أصدر عرابي أمره إلي الجيش بالتزام الراحة فصرف الجنود ليلتهم في الأذكار تحت إشراف الشيخ عبد الجواد » *( 4 ) ( أحد مشايخ الطرق الصوفية)

   ومن المضحكات المبكيات أن صديقي المرحوم البمباشي حسن رضوان قومندان الطوبجية في استحكامات التل الكبير أخبرني أنه في مساء 12 سبتمبر دخل عليه في الطابية أحد أرباب الطرق الصوفية، وتقدم إلي أحد المدافع وقال:
   ـ هذا مدفع السيد البدوي، ثم انتقل إلى مدفع آخر فوضع عليه علماً وقال أنه لسيدي إبراهيم الدسوقي، ثم إلي مدفع ثالث وقال : إنه مدفع سيدي عبد العال، وقال صديقي : ولكن لم يمر بضع ساعات حتى صارت هذه المدافع لويسلي»*(5 )

   نام بعدها نومًا عميقًا ليستيقظ ليشهد الهزيمة التي حلت بجيشه؛ فلم يكن عرابي دارسًا للعلوم العسكرية، ولم يخض غمار المعارك والحروب بما يجعل منه ضابطًا كفؤًا يعتمد عليه؛ فقد نال رتبته بالترقية من تحت السلاح.

   المسكوت عنه في مذكرات عرابي كثير، فهو لم يذكر لنا واقعة تسليم سيفه للقائد البريطاني الجنرال دروري لو على أبواب القاهرة، وتسليم نفسه أسيرًا للجيش الانجليزي، وهو ما نشرته جريدة الأهرام في عددها رقم 1446 الصادر بتاريخ 15 سبتمبر 1882 بعنوان: «البشرى الكبرى»، وجاء فيه:

«الجيش الانكليزي قبض على العاصي عرابي».

   وهو ما جعل المصريين يشعرون بالسخط عليه واحتقاره؛ لأنه خدعهم وَضييع البلد بجهله وسوء تصرفه، وكانوا يرون أن استشهاده أشرف من عار الاستسلام الذي أرجعه البعض لوجود اتفاق خاص سابق، وأكدت جريدة الأهرام ذلك. واستمرت الجريدة في حملتها على «العاصي عرابي ورفاقه البغاة» في عدديها الصادرين بتاريخ 29 سبتمبر و3 أكتوبر 1882.

   وقد أثبتت الأيام صحة ما ذهبت إليه جريدة الأهرام؛ فقد ذكر برودلي محامي عرابي في كتابه بعنوان : « How We Defend Orabi And His Freinds ?  »  ، بأنه :

   «أشار على عرابي أن بالاعتراف بتهمة العصيان على الخديو، وأن يرضى بأن يقيم في المكان الذي تعينه له الحكومة عند تركه مصر في نظير وعد من الانجليز باستبدال حكم الإعدام بالنفي، وبأن يرتب له معاشاً سنوياً من الحكومة المصرية ووافق عرابي على هذه الشروط ». * (6 )

   وقد وصفت جريدة الأهرام في عددها رقم 1511 بتاريخ 4 ديسمبر 1882 وقائع محاكمة عرابي في جلسة لم تستمر أكثر من خمس دقائق، اعترف خلالها عرابي بارتكاب العصيان ضد الحضرة الخديوية، كما أبدت الأهرام دهشتها في عددها رقم 1514 الصادر بتاريخ 7 ديسمبر 1882 من الحكم على عرابي لأن «حكم الإعدام وحكم تخفيفه صدرا في وقت واحد».

   .. وانقلبت جريدة الوطن التي كانت لسان حال عرابي عليه، بعد أن استشعرت أن عرابي باع الوهم للمصريين ووصفته ورجال الثورة في عددها الصادر بتاريخ 26 سبتمبر 1882 بأنهم: «أشبه بالطاعون إذ مطمح أنظارهم موجه إلى غايتهم الذاتية فلا يبالون بتخريب البلاد. ولو حلت بمصر داهية طامة لكانت أخف من هؤلاء الناس الذين خسروا دنياهم وآخرتهم ».

   أيضا لم يذكر عرابي شيئًا عن الإهانات التي كان يلقاها من أولاد البلد الذين كانوا يبصقون على وجهه ويوسعونه ضربًا وسبابًا، بعدما قال بعد عودته من المنفى إلى أرض الوطن في حديث نشرته جريدة المقطم في عددها الصادر بتاريخ 3 أكتوبر 1901:

   «.. أما فيما يختص بي فإني لم أجد من الذين قاتلتهم غير معاملة الكرام الذين يستحق معروفهم الشكر، وكرمهم الإكرام فإنهم حفظوا حياتي من الإعدام، ولما بت وحيدًا بذل قوم منهم المال لمساعدتي؛ فكنت أستعين بمالهم في الدفاع عن نفسي، وبمالهم أرسلت التلغراف الطويل الذي نشر في التايمز قبل سفري من مصر لبيان حقيقة أمري، وقبلما أفارق هذا القطر طلب مني اللورد دوفرين أن أطلعه على ما أرى هذا القطر محتاجًا إليه من الإصلاح فكتبت تقريرًا من 19 مادة ذكرت فيها ما أراه واجب لإصلاح حال البلاد والعباد، وأنا أراها الآن مستوفاة في الإصلاح الذي تم بحسن تدبير جناب الورد كرومر الإداري والمصلح الكبير».

   وقد بدت لغة الازدراء لعرابي واضحة في أشعار أحمد شوقي ومحمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم وأحمد شفيق باشا ومحمود فهمي باشا رئيس أركان حرب الجيش ومصطفى كامل وعبد الرحمن الرافعي.
مذكرات حسن البنا:

   في مذكرات حسن أفندي البنا بعنوان: « الدعوة والداعية»، يؤكد المرشد بأنه بدأ في كتابة تلك المذكرات بعد عام 1943، أوضح البنا أن «النيابة» كانت قد عثرت على مذكراته في ذلك العام، وضاع معظمها، وأن هذا ما دفعه إلى إعادة كتابتها من جديد من الذاكرة وأنه مازال يذكر الوقائع وكأنها «بنت الساعة».
وتحدث البنا عن نشأته وحياته الدراسية وذكريات دار العلوم ودعوته في المقاهي، وتعيينه في الإسماعيلية، وتكوين جمعية «الإخوان المسلمين»، والثورة التي قامت ضده بسبب «الهبة» التي تلقاها من شركة قناة السويس لبناء دار الإخوان في الإسماعيلية، ثم تفكيره في تكوين فرق الرحلات للإخوان المسلمين على نظام الكشافة، الذي تحول إلى فرق الجوالة التي أصبحت ـ فيما بعد ـ نواة جيش الإخوان، وتحدث عن انتقال الدعوة للقاهرة، ثم ظهور مجلة الإخوان المسلمين في مايو 1933 ثم مجلة النذير في مايو 1938.

   البنا في هذه المذكرات يقدم نفسه في صورة الإنسان الكامل الذي لم يكذب في حياته مرة واحدة.. ولم يخطئ مرة واحدة.. ولم يمر بلحظة ضعف إنساني أبدا، وهو الأول على تجهيزية دار العلوم، رغم أن هذا لم يثبت في سجلات المدرسة، وهو ما يعطي انطباعًا بأن هذه المذكرات مكتوبة لجمهور التابعين، الذين أخذوا عنها دون تدقيق أو تمحيص؛ فرددوا ما جاء بها وزادوا عليها صفات ترفع صاحبها فوق ما هو إنساني وتبلغ به حد القداسة مثل  «الرجل الملهم» و «الرجل النوراني» و « الرجل القرآني »، وقد ترسخت تلك الصورة الذهنية في رءوس المريدين، ولم يتركوا لأنفسهم فرصة الاقتراب من النسيج البشري لشخصية مرشدهم، وهو ما كشفت عنه مجموعة رسائل حسن البنا لوالده؛ حيثُ تكشف الرسائل عن شخص أقل من العادي، يتعرض للسخرية من بعض معارفه بسبب تغير زيه الأزهري، وارتداء زي الأفندية، فيسب زملاءه في مدرسة دار العلوم ويصفهم بالكلاب ـ حسبما جاء في خطاب ـ بتاريخ 30 يناير 1926 بقوله:

   «وقد قابلنا جمع غفير منهم بقوله (أهلا حسن أفندي) فأفهمتهم الحقيقة وانتهت، والله يفضح كلاب دار العلوم اللي طلعوا الصيت ده».

   وفي خطاب أخر يقول عن مسلك إحدى القرويات معه في قرية العطف:
«بدرة خبلتني على فلوسها»، وكلمة «خبلتني» في العامية المصرية تعني الغلظة في القول!!

   وفي خطاب ثالث بتاريخ 6 أغسطس 1927 يشكو ضيق اليد: «لعدم وجود النقود فإني الآن متحير أشد الحيرة في نقود حضوري وثمن السمن فكيف أتمكن من الإتيان بغيرها ويفعل الله ما يشاء وإني في العطف قد يمضي عليّ الأسبوع أو الأكثر وليس في جيبي مليم، وقد بلغت مصروفات مشوار سنديون وشمشيرة الكل أربعة قروش صاغ كانت هي كل ما معي».

   وثمة خطاب رابع ـ بدون تاريخ ـ من الإسماعيلية، لكن وقائعه توحي أنه كتب أواخر سنة 1928، يعتذر فيه عن الوفاء ببعض التزامه تجاه أسرته؛ لأنه تورط في دفع مبلغ تبرع لمسجد العرايشية:
   « سأفصل لكم في هذا الخطاب حساب ثلاثة أشهر مضت أي منذ فارقتكم لتعلموا أن ليس في تصرفي شيء من الإسراف ولا الخفاء ولا الاستبداد برأيي، وإنما أنا مسوق بقوة الظروف التي لا تغلب، وإذا كانت ظروفي هكذا فما ذنبي أنا. وإن كان يؤلمكم الخمسين قرشا التي دفعت في المسجد فقدروا الظرف الذي تورطت فيها لدفعها وقدروا أجرها».

مذكرات النحاس:

   رغم المحاولات المستمرة لضباط انقلاب 23 يوليو 1952 للانقلاب على التاريخ طوال ثلاثين عامًا ظلوا خلالها في مقاعد الحكم منفردين بمواقع السلطة والقوة، مما لم يتح للكتاب والمؤرخين تسجيل الأحداث والوقائع بأمانة وموضوعية إلى الحد الذي جعلهم يعتبرون أن تاريخ مصر وكفاح شعبها من أجل الحرية إنما يبدأ مع فجر 23 يوليو52 متناسين تاريخ مصر الذي بدأ مع فجر التاريخ.

   ورغم محاولات التعتيم والتجاهل، ظل مصطفى النحاس باشا في وجدان الشعب المصري، وذاكرة التاريخ رمزا للديمقراطية، ورمزا للدستور، ورمزا للكفاح الوطني الطويل؛ وهو ظهر جليًا للعيان يوم وفاته في 23 أغسطس 1965؛ حيثُ امتلأ ميدان التحرير عن آخره بالجماهير التي قاربت المليون؛ جاءت لتشيع جثمان الرجل الذي أحبته في مشهد من النادر أن يتكرر، ورغم أن عبد الناصر أصدر قرارًا باعتقال وحبس كبار الوفديين الذين مشوا في الجنازة.
   وفي عام 2000 نشرت مذكرات الرجل بجهد خاص يحتسب لسكرتيره في مجلس الوزراء الشاعر الأستاذ محمد كامل البنا الذي ظل على وفائه للرجل في زمن عزت فيه عملة الوفاء؛ فاحتفظ بالمذكرات وحافظ عليها، وعني بترتيبها وإعدادها للنشر، ولولا ذلك الجهد، وتلك الأمانة لفقد جزء عزيز من ذاكرة الوطن؛ فلا شك أن مذكرات الزعيم مصطفى النحاس وثيقة تاريخية بالغة الأهمية.
 
.. تحدث الزعيم في مذكراته عن الكثير من أســرار الفترة ما بين 1927و1952، لكن «المسكوت عنه» أيضا كثير في تلك المذكرات؛ فهو لم يذكر قصة زواجه وهو في سن تقترب من الخامسة والخمسين، وفاتح مكرم عبيد باشا، وطلب منه أن يبحث له عن عروس، ووجد مكرم عبيد باشا ضالته في فتاة صغيرة جميلة جذابة ومن عائلة كريمة، لكنها تصغر الباشا بثلاثين عامًا، وعندما فوتح والدها في أمر هذا الزواج قال لمكرم باشا بمنتهي الصراحة: «إني رجل فقير ولا أملك شيئًا، ولا أستطيع أن أجهز ابنتي بما يليق بمكانة زعيم الوفد».
وعندما وضعت هذه الحقائق كلها أمام النحاس باشا قال لمكرم باشا: «وأنا أيضا رجل فقير، ولا أستطيع أن أدفع مهرًا للعروس، وعليك أن تبحث الأمر مع طلعت حرب باشا رئيس بنك مصر؛ لإقراضي المبلغ على ألا يشترط وجود ضمان شخصي أو غير شخصي».

وبهذه البساطة تم الزواج بين زوجين فقيرين وهذا ليس عيبًا، لكن العيب أن دولة رئيس الوزراء لم يلفت نظره حالة البحبوحة، ورغد الحياة التي يعيشها بعد زواجه، والتي وردت وقائعها في «الكتاب الأسود» الذي كان عبارة عن عريضة قدمها النائب مكرم عبيد باشا إلى الملك فاروق في 29 مارس 1943 والتي أحالها الديوان الملكي إلى البرلمان في 10 إبريل 1943،. صحيح أن «الكتاب الأسود» لم يكن صحيحًا كله.. وأيضا لم يكن باطلاً كله، لكن تعامل النحاس باشا معه وعدم إبلاغه النيابة العامة لتحقيق ما ورد فيها بمعرفتها يعد من «المسكوت عنه»؛ ويضفي الكثير من ظلال الشك على حقيقة موقفه القانوني هو والسيدة زوجته؛ فلجأ إلى ـ اللعبة المعروفة ـ بأن توجه بعدد من الشيوخ أو النواب اختيروا بالاسم للتوجه بأسئلة إلى رئيس الحكومة أو إلى أي وزير من وزرائها حول واقعة معينة وردت في «الكتاب الأسود»، وبعد تلقي الإجابة، يقوم السائل بإلقاء كلمة شكر وثناء على الحكومة، ولا يخلو الأمر من سب الخصوم.

   لم يكتف دولة رئيس الوزراء بذلك بل طبع محاضر تلك الجلسات في كتاب من 610 صفحات بعنوان «الكتاب الأبيض» طبعته المطابع الأميرية في 8 سبتمبر 1943 بكمية بلغت 6 ألاف نسخة من أموال الحكومة، وقدمه إلى رئيس الديوان ردا على عريضة مكرم باشا وانتهت الأزمة!!، رغم أن صفحات «الكتب الأسود» لم تزد على 320 صفحة، ولم تزد الكمية المطبوعة منه على مائتي نسخة أرسلت إحداها ملفوفة في شريط أحمر لدولة الهانم صاحبة العصمة زينب هانم الوكيل كما تعود المحاسيب أن يناودها ـ إمعانا في السخرية ـ من السيدة لتدخلها في شئون الحكم وضغوطها على النحاس باشا لمنح بعض أقاربها بعض الاستثناءات وكثيرا من الامتيازات؛ وهو ما وضعه في موقف لا يحسد عليه.
مذكرات زينب الغزالى :

   في مذكرات السيدة / زينب الغزالي بعنوان : « أيام من حياتي»، تحاول الحاجة زينب ـ كما تحب أن تلقب نفسها بتلك الكنية ـ إيهامنا من السطر الأول من المذكرات أنها لم تكن في خصومة عادية مع شخص عادي، بل كانت في خصومة مع رأس النظام؛ فتقول : « كان عبد الناصر يكرهني »، واستغرقتنا في حديث عن تلك الكراهية دون أن تقدم سبباً مقنعاً لها .. بداية من محاولته قتلها في حادث سيارة، مروراً حل المركز العام للسيدات المسلمات التي كانت ترأسه وإغلاق مجلة « السيدات المسلمات» التي كانت ترأس تحريرها، ومساومتها علي الانضمام للاتحاد الاشتراكي مقابل أن تصبح وزيرة للشئون الاجتماعية، وإصرارها علي رفض الذهاب لاستقبال الرئيس جمال عبد الناصر في المطار ودون أن تقدم لنا تبريراً منطقياً لما تضفيه على نفسها من أهمية تجعل من رئيس الدولة مصراً على أن تكون في شرف استقباله، وانتهاء باعتقالها في 5 أغسطس 1965فيما اسمته المؤامرة الكبرى، وكيف أمر عبد الناصر بتعذيبها فوق تعذيب الرجال بخطاب رسمى مذيلاً بتوقيعه وممهوراً بخاتم رئاسة الجمهورية حتى خرجت من السجن بعد وفاته في 10 أغسطس 1971 .

   تحاول الحاجة زينب إيهامنا بما لا يتفق مع طبائع الأمور ولا يستقيم معها؛ فتحاول أن تصدر لنا الوهم بأننا أمام امرأة قدت من صخر فهي ضد الماء والنار وضد الكسر والجوع والعطش وضد الجلد والكلاب العقورة وذئاب السلطة المسعورة الجائعة لنهش لحمها ومصمصة عرضها حتى أخر قطرة من عفاف، وأنها تحملت من صنوف العذاب ما يعجز عن احتماله أولى العزم من الرجال من ذي القوة والبأس ، وبإحصاء بسيط  لما روته الحاجة زينب عن ما لاقته من تعذيب بأمر الرئيس عبد الناصر نكتشف أنها :

   جلدت 500 جلدة  6  مرات ، و250 جلدة مرة واحدة ، وعلقت على  أعمدة الحديد والخشب 11 مرة ، وضربت بالسياط 46 مرة على أوقات متفرقة ، ووضعت في غرف الكلاب المسعورة 9 مرات لمدة 3 ساعات في كل مرة وأن الكلاب ظلت تنهش جسدها ولم تترك أنيابها أي موضع ، فروة الرأس الكتف الظهر ، ثم أخرجوها فإذا الثياب لم تتسخ وكأن ناباً واحداً لم تنهش في جسدها  ، وتركت  بلا طعام أو ماء 6 أيام متتالية، وأدخلت زنازين الماء 5 مرات وغرف النار 3 مرات ، وأحضروا لها وحوشاً بشرية حاولوا أن يفعلوا بها الفحشاء 3 مرات ، في المرة الأولى أدخلوا عليها وحشاً في صورة جندي وأغلقوا عليهما الزنزانة ، فتحول الوحش إلى كائن وديع وقال لها ك « لا تخافي يا خالة لن أؤذيك ولو قطعوني « ، ولما فتحوا الزنزانة أعدموه فوراً لخيانته  ، وفى المرة الثانية أحضروا لها مجموعة من الذئاب وأغلقوا الزنزانة ، وعندما اقترب منها ذئب انقضت عليه وغرزت أسنانها في عنقه ، فإذا به يسقط تحت أقدامها خائراً ويخرج من فمه زبد أبيض مثل رغاوي الصابون ، فحملوا الجثة وتركوها وهم مذعورون ، وفى المرة الثالثة .. أعدوا حفنة من الجنود لافتراسها سقوهم الخمر والحشيش وما يشتهون من طعام ، وحقنوهم في المستشفى ليصبحوا مثل الكلاب المسعورة ، ولكنهم فشلوا في مهمتهم .

   وعن البيعة وانضمامها لجاعة الإخوان المسلمين تقول الحاجة زينب أنها بايعت حسن البنا علي سلم دار الشبان المسلمين بعد حل الجماعة في ديسمبر 1948، وكانا وحدهما وأنه قبل بيعتها، لكن علي عشماوى يذكر في مذكراته أنه عندما سألها في وجود الأخ عبد الفتاح إسماعيل عن كيف بدأت علاقتها بالإخوان أجابته نصاً وبالحرف الواحد : ( أنها فى إحدى الليالي وكانت ـ حالتها الروحانية غاية في الصفاء ـ صلت العشاء ، ثم نامت وفى نومها رأت الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة، وقال لها أنه آن الآوان لتتصحح مسارعملها الإسلامي، وتعمل من خلال جماعة الإخوان المسلمين ، وقدم لها يده ، ووضع كفها بين كفيه ،  ثم تلا البيعة وهى تردد خلفه حتى انتهت ، ومن يومها وهى تعمل مع الإخوان بتلك البيعة )، بما يضع الباحث في مأزق؛ فلا أحد حضر بيعة الحاجة زينب للبنا على سلم جمعية « الشبان المسلمين »، ومات الشاهد الوحيد الذى يستند إليه علي عشماوى في روايته.

 مذكرات الحاجة زينب في مجملها تمثل حالة من الهراء الذي يضعها في مرتبة أقل من مستوى التقييم من منطلق التفكير العلمي الذي يحترم العقل !!، .. لكن « المسكوت عنه » في تلك المذكرات كثير خاصة فيما يتعلق بدور الحاجة زينب في نقل أموال تمويل الإرهاب، وتعليمات زعماء الإرهاب إلي أدوات تنفيذ الجرائم من الشباب المغرر بهم .

مذاكرات تحية عبد الناصر:

    نشرت السيدة تحية محمد كاظم الشهيرة بـ (تحية جمال عبد الناصر) مذكراتها بعنوان «ذكريات معه»، وكالعادة استقبل من أسموا أنفسهم بـالناصريين المذكرات باحتفاليات الإشادة التي أحيطت بهالة التقديس وغلالة من التوقير شأن كل ما يتعلق بالرئيس عبد الناصر (يرحمه الله)؛ فلم يذكر اسم تحية كاظم مجردًا أبدا، فدائمًا ما كان مقترنا بصفة السيدة الجليلة، وغضوا الطرف عما ذكرته في مذكراتها عن ليلة الإعلان عن نبأ هزيمة 67 في ص 114:

   « نمت حتى الصباح وقمت كالعادة وأصوات الجماهير والهتافات لم تنقطع وتعلو بشكل لا أقدر أن أصفه وخرجت من الحجرة، وظل هو (عبد الناصر) راقدا على السرير..».

   .. نامت زوجة الزعيم حتى الصباح وقامت كالعادة، وظل الزعيم راقدا على السرير وكأن شيئًا لم يكن!!

   .. ولو أن أحدًا غير أرملة الزعيم نبس ببنت شفة مما قالته لنهشته ألسنة من أسموا أنفسهم بـالناصريين وقطعته أقلامهم إربًا، ودقت عظامه مع نعته بأبشع الصفات متهمين إياه ببلادة الحس الوطني وانعدام الشعور الإنساني، لكنهم فيما يتعلق بزعيمهم، وكل من، وما له صلة به؛. فعين الرضا عن كل عيب كليلة،
وقد امتد هذا إلى كل ما يتعلق بالحياة العامة والخاصة لعبد الناصر حتى أن أحد الكتاب قد ألف كتابًا بعنوان: «المرأة التي أحبها عبد الناصر.. أسرار وخطابات بنت الباشا التي لم يتزوجها». . بالطبع لم تكن هذه السيدة هي تحية عبد الناصر بل كانت « سين هانم » التي كان يحبها عبد الناصر وينتظرها أمام سينما فكتوريا؛ ليمتع نظره برؤيتها ـ على حد تعبير ـ الكاتب وعلى مسئوليته.

.. ويسترسل الكاتب أنه عند تشييع جنازة السيدة (سين هانم) في 17 مايو 1970 وقبل وفاة عبد الناصر بشهور، وضع عبد الناصر على عينيه نظارة سوداء وأسدل ستائر سيارته من كل جانب وسار بها أمتارا خلف الجنازة دون حراسة ودون أن يشعر به أحد فيفسد عليه جلال اللحظة ».

   .. كانت هذه معالجة أحد الكتاب رغم العلم يقينًا أن الشعب المصري بطبيعته يستنكف ويرفض الحديث عن علاقة بين رجل وامرأة خارج إطار الزواج.

   كان لا بد من توضيح طبيعة تناول من أسموا أنفسهم بـالناصريين لكل ما يتصل بالزعيم حتى يمكن أن ندرك سبب الحفاوة بمذكرات تحية عبد الناصر رغم المغالطات الكثيرة فيها، والتي نلتمس لها العذر عن بعضها؛ لكونها ناقلة عن زوجها الذي كان كل عالمها، ونافذتها الوحيدة على الدنيا، لكن لا نعفيها من مسئوليتها عما جاء نتاج شهادتها عما أدعت أنها رأته بعينها في إطار الحفاظ على حرمة التاريخ.

   تقول تحية عبد الناصر عن ليلة الثورة في ص 65:

« وقبل الساعة الحادية عشرة مساء قمت ودخلت حجرة النوم. رجع جمال ودخل الحجرة وكنت مستلقية على السرير وكانت مضاءة.
كان من عادته أن يغسل وجهه قبل النوم فقلت في نفسي: إنه لم ينم ولا ساعة منذ يومين وها هو ذا الليلة سينام مبكرًا.. ووجدته بعد أن غسل وجهه فتح الدولاب وأخرج البدلة العسكرية ووجدته يرتديها.. فقمت وجلست وقلت له بالحرف الواحد: انت رايح فين بالبدلة الرسمية دلوقت؟».

   هكذا تضعنا السيدة تحية في مواجهة إحدى مغالطتها الكثيرة؛ فكل الشهادات الموثوق بها تقطع بأن قوات يوسف صديق قد قبضت بعد الساعة الحادية عشرة مساء ليلة الثورة على عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وهما يتجولان بملابس مدنية، وثارت ضوضاء وتوقف يوسف صديق ليستطلع الأمر فوجد عبد الناصر وعبد الحكيم مقبوضًا عليهما، فأمر بإطلاق سراحهما ليرجعا إلى منزليهما لارتداء ملابسهما العسكرية، ولم يعودا إلا بعد انتهاء يوسف صديق من مهمته بالسيطرة على القيادة.

   وتنتقل السيدة تحية للحديث عن حادث المنشية، فتقول في ص 84:

« لقد كان محمد نجيب هو الذي دبر المؤامرة لاغتيال جمال عبد الناصر ثم بعد ذلك حكم عليه بالسجن، ولم يذهب محمد نجيب للسجن بل ذهب إلى قصر زينب هانم الوكيل بأمر من جمال عبد الناصر، حتى أفرج عنه بعد سنوات قليلة».
ولا شك أن ما ذكرته السيدة تحية مغالطة مفضوحة فلم يثبت حتى الآن ثمة شبهة تشير بصلة للواء محمد نجيب من قريب أو بعيد بحادث المنشية، ثم تسترسل قائلة: «حكم عليه بالسجن»، وتلك مغالطة ثانية، فنحن لا ندري أي محكمة تلك التي عاقبت اللواء نجيب بالسجن، ثم تكمل السيدة تحية: « حتى أفرج عنه بعد سنوات قليلة »؛ لتضعنا أمام مغالطة ثالثة؛ فثلاثون عامًا من الإذلال والهوان والإقامة الجبرية من وجهة نظر السيدة تحية سنوات قليلة!!

   .. أيضا «المسكوت عنه» كثير في مذكرات تحية عبد الناصر، فلم تذكر لنا السيدة تحية في مذكراتها شيئًا عن سرقة خزينة الرئيس عبد الناصر بعد وفاته، رغم أنه من المستحيل فتح الخزينة إلا باستخدام مفتاحين معًا، وكان أحدها في حوزتها، والآخر في عهدة محمد أحمد سكرتير الرئيس، كما كان من المستحيل فتحها دون معرفة الأرقام السرية.

   من خلال معاينة النائب العام المستشار على نور الدين يوم 26 نوفمبر 1970 للخزينة المسروقة تبين سرقة محتويات علبة كُتب عليها أنها تحتوي على تسجيلات لتسعة محاضر من اجتماعات مجلس قيادة الثورة وبعض التسجيلات للقاءات هامة جرت بين الرئيس وبعض كبار الشخصيات، ووجدت دوسيهات فارغة كانت تحتوي على بعض الملاحظات العامة للرئيس حول بعض الأحداث والأشخاص، وعدد من الوثائق والتقارير السرية للغاية، وكل المفكرات التي تعوّد الرئيس عبد الناصر أن يدوّن فيها أفكاره وبعض آرائه الشخصية في بعض كبار المسئولين في الدولة والأشخاص المقربين منه، والتي كانت بلا شك يمكن أن تكون مرجعا هامًا يكشف الكثير من أسرار مرحلة من تاريخ مصر.

   . وانتهت التحقيقات إلى طريق مسدود؛ مما حدا بالنائب العام لإصدار قراره بالحفظ إداريا!!

   أيضا لم تذكر لنا السيدة تحية شيئًا عن الذمة المالية للرئيس عبد الناصر (ملحوظة: نحن لا نتهم أحدا، ولا ندين أحدا ولكننا نحاول إبراز «المسكوت عنه» في المذكرات)، وعما ألصق بها بشأن إصدار الملك السابق سعود بن عبد العزيز في 28 مايو 1967 لشيكين، الأول بمبلغ ثلاثة ملايين دولار، والثاني بمبلغ مليوني دولار، وكان أحد الشيكين لأمر الرئيس عبد الناصر والأخر لأمر السيد صلاح نصر مدير المخابرات العامة.. كان ظاهر الأمر هو تبرع الملك السابق لدعم المجهود الحربي، لكنهما لم يحولا إلى الذين يتولون إدارة المجهود الحربي بل حولا إلى حساب خاص للرئيس عبد الناصر، وصدق على التوقيع بالتحويل الأستاذ أحمد فؤاد رئيس بنك مصر آنذاك؛ فقد كانت حقيقة الأمر أن إصدار الشيكين جاء في إطار صفقة مشبوهة لتدبير انقلاب ضد الملك فيصل وإعادة الملك السابق سعود إلى الحكم.

   .. وقد بدأ الرئيس عبد الناصر في الإيهام بذلك من خلال الإيعاز إلى الصحف بنشر أخبار تسيء إلى ملك السعودية؛ فقد نشرت صحف القاهرة الثلاث في 22 مايو 1967 في صفحاتها الأولى أخبارًا تصف الملك فيصل بالخيانة وأنه لا يمانع في تسليح إسرائيل، والملك سعود يقول: «فيصل خائن للعرب بتعاونه مع الاستعمار».

   وتابعت صحف القـاهرة الثلاث في 24 مايو 1967 خبرا آخـر عنوانه: «فيصل يطلب حماية عرشه»، جاء بالخبر:

   « أن الملك فيصل طلب من الحكومة البريطانية حماية عرشه بكل الوسائل، وأنه يعاني من انهيار عصبي عنيف».

   لكن أمر ذلك الانقلاب بات مستحيلاً بعد الهزيمة التي حلت بمصر؛ مما حدا بالملك السابق سعود بالعودة إلى منفاه في أثينا.

   .. واقعة أخرى تمس الذمة المالية للرئيس عبد الناصر ولم تقترب منها السيدة تحية في مذكراتها، ففي يوم 7 يونيه 1967، في الوقت الذي كلف الرئيس الأستاذ محمد حسنين هيكل بإعداد بيان يعلن فيه حقيقة الهزيمة، وتنازله عن منصب الرئيس، تسلم شيكًا بمبلغ 10 ملايين دولار من الملك السابق سعود بن عبد العزيز على بنك هولندا بأمستردام لأمر الرئيس جمال عبد الناصر وقام بتحويله إلى بنك باريس والبلاد الواطئة Banque de Paris et des Pays Bas لتحصيله من بنك هولندا وإيداعه في حساب خاص لديه، وقد صدق على صحة توقيع عبد الناصر السيد محمود صدقي مراد كان نائبًا لمحافظ البنك المركزي المصري آنذاك.

   وفي نفس اليوم صدر القرار الجمهوري 1350 لعام 1967 (لم ينشر في الجريدة الرسمية) بالإذن لوزير الاقتصاد والتجارة الخارجية نيابة عن الجمهورية العربية المتحدة باقتراض مبلغ عشرة ملايين دولار أمريكي من الملك السابق بالشروط والأوضاع المرفقة بالقرار، أي أن الرئيس اعتبر المبلغ الذي وضعه في حسابه الخاص دينا على مصر في نفس الوقت الذي قرر أن يقطع الصلة بينه وبين الحكم.

   وبعد وفاة الملك سعود قام مستشار هيئة الوصاية على تركته باتخاذ إجراءات مطالبة الحكومة المصرية بسداد المبالغ التي دفعها الملك سعود إلى الرئيس عبد الناصر وصلاح نصر، فقابل فؤاد الصواف وكيل الوزارة لشئون النقد وبحثا الأمر معًا، وكانت المفاجأة، بأن الحكومة لا تعلم شيئًا عن مبلغ الخمسة ملايين دولار المدفوعة بشيكين باسمي الرئيس عبد الناصر وصلاح نصر، أما مبلغ العشرة ملايين دولار فهذا المبلغ دين على تركة الرئيس عبد الناصر ونصحه بالتوجه إلى ورثته، ثم اتفق في النهاية على أن تقوم الحكومة بسداد مبلغ العشرة ملايين دولار.

   أكد السيد صلاح نصر واقعة الشيكات وقيمتها، لكنه نفى علمه بتداعياتها لاستقالته في 26 أغسطس ودخوله السجن .* ( 7 )

   لم تقل لنا السيدة تحية شيئًا عن مصدر ثروات أشقاء الرئيس عبد الناصر، وثروات أبنائه خاصة أن الرئيس عبد الناصر كان يتباهى بأنه رجل فقير، وقد نشرت جريدة الأهرام عند وفاته أن ما كان في جيبه في ذلك اليوم لا يتعدى بضعة قروش وكان ذلك اليوم هو من أيام الشهر الأخيرة!!

 مذاكرات جيهان السادات:

   نشرت السيدة جيهان صفوت رءوف الشهيرة بـ(جيهان السادات) مذكراتها بعنوان «سيدة من مصر» في طبعة باللغة الإنجليزية، وتمت ترجمتها إلى العربية، بدأت السيدة جيهان بأسلوب احترافي ينطوي على الرمز ويبعث بإشارات مفعمة برسائل الغزل للقارئ الأوربي بما يستهويه من عشق المصريات egyptomania، من خلال جعل الأهرام وأبو الهول في خلفية مشهد المذكرات، فمثلا تروي قصة ذهابها هي وأنور السادات بعد انتهاء مراسم عقد القران للجلوس تحت قدمي أبو الهول في سفح الأهرام، ولا يفوتها أن تحكي عن عيد شم النسيم وطقوس إلقاء دمية «عروس النيل» عند مقياس النيل في الروضة التي يعتقد أن سيدنا موسى تم العثور عليه عندها، وأن تجعل من كنائس مصر التاريخية في خلفية المشهد.

   .. ولم تنس السيدة جيهان أن تضيع على نفسها فرصة الإفادة من توظيف سحر الشرق في مهمتها؛ فقدمت نفسها ومصر العظيمة في إطار من الفلكلور، خلا من الصدق وأساء إلى الواقع وحقائق التاريخ، فمثلاً تقول في ص 20 أنها تعودت أن تقابل السادات بالزغاريد عن عند باب المنزل كل عام مع عودته من العرض العسكري يوم 6 أكتوبر:

   « كنت أفعل دائما في ذلك اليوم، سأقابله عند باب البيت بالزغاريد، وسيخرج جميع الجيران إلى الشرفات وستقوم السيدات بمشاركتي في الزغاريد، ويملأن الجو بالتحيات والتهاني».

   وتستمر السيدة جيهان في مغالطاتها فتتحدث عن القهر الذي تعانيه المرأة في مصر، وطلاقها إذا لم تنجب الولد، وتحكي عن تجربتها الشخصية عندما أنجبت الولد في ص 199:
« .. وجاء والد أنور ودخل دون أن يقول كلمة، وبدأ يصلي على الأرض عدة ركعات، وأخذ يقول:
ـ شكرًا لله... ولدي أنجب ولدًا.

    ووصلت أم أنور ست البرين مرتدية ثيابها السوداء، وفتحت عيني عليها وهي تحوم حول الحجرة وترقص في حركة هيستيرية ولا تتوقف إلا لتقبلني».

   واستغرقت السيدة جيهان في أحاديث طويلة عن مراسم السبوع و«دق الهون» وزفة الشموع، وشهر رمضان، ووجبة السحور، وساعة الإفطار وحرفة «المسحراتى».

   ولم تنس أن تؤكد أن نصف أطفال مصر كانوا يموتون قبل سن الخامسة، وتحدثت عن الفقر في ربوع مصر وعن الحياة في القرى ومرض «عمي النهر» والفقراء والمشردين.

   لتصل بنا إلى ضرورة ما يستدعي التغيير الاجتماعي في ص 356 في تمهيد للحديث عن الدور الذي لعبته في الحياة المصرية بعد حرب أكتوبر من خلال مجال الخدمات الاجتماعية وقيامها برئاسة ثلاثين منظمة وجمعية خيرية، مما اضطرها لإخلاء غرفة في بيتها حولتها إلى مكتب يضم ثلاثة موظفين وسكرتيرا صحفيا، وهو ما ادعت أن البعض أطلق عليه بغير الحق وعلى سبيل الافتراء والتهويل «مكتب السيدة الأولى»:

   « وفي غرفة نومي تناثرت أوراق البحوث والعروض لمشاريع جديدة وامتلأت سيارتي بالدوسيهات والملفات، لقد قمت بتحويل إحدى الغرف في منزل الجيزة إلى مكتب، وقمت بتعيين ثلاثة موظفين فيه، وقمت بتعيين سكرتير صحفي لأن جهودي على الساحة العامة بدأت تستقطب الإعلام العالمي».

   .. بالتأكيد لم يكن ما ذكرته السيدة جيهان عن مكتب السيدة الأولى مجرد غرفة بمنزلها صحيحًا؛ فالمكاتبات على أوراق خطابات تحمل شعار رئاسة الجمهورية ـ مكتب السيدة الأولى تدحض تلك المزاعم، كما أنها أصبحت ضيفًا دائما على المحافل العربية والدولية، ولذا استعانت بالأستاذ موسى صبري ليكتب لها خطبها، فكان يكتب لها أسبوعيا مابين ثلاث وأربع خطب مما حدا بأحد كتاب جريدة « الشعب » للتساؤل عن الدور الدستوري لحرم رئيس الجمهورية.
   .. « المسكوت عنه» كثير في مذكرات السيدة جيهان، فهي لم تكتب شيئًا عن حقيقة الأحداث ليلة انقلاب 23 يوليو 1952 وقصة المشاجرة التي افتعلها السادات ليتخذها ذريعة لتحرير محضر بقسم الشرطة.

   ولم تذكر لنا شيئًا عما يوجه إليها من اتهامات سواء كانت اتهامات مالية أو اتهامات بالتدخل في شئون الحكم وتعيين بعض الوزراء ورؤساء المؤسسات الصحفية، وتدخلها في شئون الجيش، حسبما جاء في تقرير رفعه الفريق محمد علي فهمي إلى المشير الجمسي يفيد أن جيهان السادات تدعو كل أسبوع عددا من زوجات الضباط من الرتب بين العقيد واللواء وتستمع إلى أرائهن في أزواجهن أثناء تناول الشاي ثم تدعوهن مرة أخرى مع أزواجهن لتناول العشاء وتطلب منهم أن يحدثوها بسلبيات القائد العام ورئيس الأركان وقادة الأسلحة وأن هذه اللقاءات يجري تسجيلها لنقلها للرئيس. *(8)

    ولم تذكر السيدة جيهان شيئاَ عن استفزاز رجل الشارع من بعض تصرفاتها؛ وانتقاد خطباء المساجد لها من فوق المنابر لقيامها بتصرفات يرفضها الدين الإسلامي منها على سبيل المثال: أن الرئيس الأمريكي جيمي كارتر وضع قبلة على خدها أثناء استقباله لها، واستقبال المغني الأسباني خوليو لأسرة الرئيس السادات عند حضورها حفلا أقيم في القاهرة بالأحضان.

مذاكرات برلنتي عبد الحميد:

  نشرت السيدة نفيسة عبد الحميد حواس الشهيرة بـ (برلنتي عبد الحميد) مذكراتها بعنوان «المشير.. وأنا»، تحدثت السيدة برلنتي عن أصلها الطيب وجدها الصوفي المدفون إلى جوار ضريح سيدي الطشطوشي بباب الشعرية، وأغفلت السيدة نفيسة الحديث عن نشأتها في حي البغالة بالسيدة زينب، وتجاهلت الحديث عن والدها الأسطى عبد الحميد حواس المنجد البلدي بالحي الفقير .

   وببراعة كاتب السيناريو أغفلت الحديث عن زيجاتها قبل المشير مختزله إياها في جملة واحدة ( أنا كنت متزوجة من قبل )، وانتقلت إلى الحديث عن علاقتها الزوجية بالمشير عبد الحكيم عامر مؤكدة بأسلوب غير مستساغ أن الرئيس عبد الناصر كان يعلم بأمر هذا الزواج، وأنه كان يقول لها تليفونياً :
 « يا متوحشة سيبيه لنا شوية » ، رغم أنها لم تقدم في مذكراتها صورة لوثيقة عقد هذا الزواج.. ولم تقدم هذه الوثيقة إلي أية جهة رسمية، ولم ترد عل ما كتبه الأستاذ محسن محمد من مزاعم حول هذا الزواج في العدد 11794 من جريدة الجمهورية بتاريخ 13 /4 / 1986 تحت عنوان: « من القلب»، وجاء فيه :

    « برلنتي عبد الحميد فنانة مصرية رآها المشير فأعجب بها وقرر الزواج منها، ولكنه خاف النتائج السياسية لهذا القرار، فقد كان القائد العام للقوات المسلحة، والرجل الثاني فى مصر بعد الرئيس جمال عبد الناصر، تفتق ذهن المشير عن حل غريب للمشكلة، عقد زواج سجل فيه أن الزوج هو شقيق المشير ولكن الزوج الفعلي هو المشير ولم يهتم المشير أو السيدة برلنتي برأي الدين أو رأي الشريعة إلا عندما أصبحت السيدة برلنتي تنتظر مولودها من المشير»  .

   .. وأيضا تجاهلت السيدة ذكر زيجاتها بعد موت المشير،  كل هذا لا بأس به؛ فالناس مأمونون على أنسابهم، وعلاقات الزوجية والفراش تدخل في إطار الخصوصية الواجبة الاحترام والتي تلزمنا بعدم الاقتراب من حدودها، لكن ما يهمنا  هنا أن زواجها بعد موت المشير يقطع الصلة بينها وبين كونها أرملته بما يسقط عنها تلك الصفة . *( 9 )

   ثم أدخلتنا السيدة برلنتي بهدوء إلى دوامة الصراع الناعم بين رجلين أدمنا خمر السلطة (المشير عامر والرئيس عبد الناصر)، وفي سبيل بلوغ نشوتهما داسا بأحذيتهما على لحم الوطن الذي أثخنته جراح الهزائم المتتالية على أيديهما في 56 وسوريا واليمن وانتهاء بالهزيمة الثقيلة في 67، وشغلتنا بمحاولة دحض قصة انتحار المشير، والتأكيد على خبر قتله بالسم!!

   .. المسكوت عنه في مذكرات السيدة برلنتي كثير، لكننا نمسك عن الخوض في تفاصيله لكونها لا تفيد بحثنا، لكن ما لا يمكن السكوت عنه هو أن السيدة  برلنتي قد ذكرت في ص 375:

   « قلبوا المنزل رأسًا على عقب، بحثوا، ومزقوا، وحطموا.. ونقلوا كل ما وجدوه في المنزل من أوراق، وبدا أنهم يبحثون عن أشياء معينة.
وقد عثروا على مذكرات المشير عن أسرار حرب يونيو 1967 ».
ولم يظهر لهذه المذكرات أثر بعد ذلك.
كما عثروا على شريط مسجل عليه كل ما دار قبل وأثناء حرب يونيو.
ويروي أمين (أمين عامر ابن شقيق المشير) أن هذا الشريط، كان في حوزة عمي إلى أن لاحظ  تزايد الحشود العسكرية حول البيت، فأخذ يبحث عن مكان يخفي فيه هذا الشريط، فأخفاه وراء لوحة معلقة في غرفة الصالون».

   وهو كلام عار تمامًا من الصحة فطبائع الأمور، وشواهد مجرياتها تؤكد أن المشير لم تتح له الفرصة ليكتب مذكرات عن ظروف النكسة في ظل الحياة المضطربة التي عاشها بعدها، ومحاولة احتواء تداعياتها وبين إقالته في 11 يونيو 1967، وسفره إلى بلدته أسطال للإقامة فيها، ومحاولة تدبير أمور معاشه هناك ببيع أرضه، ثم عودته إلى القاهرة ليفاجأ بسحب أفراد حراسته؛ فيحاول تكوين حرس خاص من 300 رجل من أهل قريته أُطلق عليهم على سبيل الدعابة « ميلشيات الجلاليب » ، وبعض الضباط المفصولين الموالين له، وهو الأمر الذي أضاف إلى كاهله عبئا جديدا، أدخله في دوامة تدبير نفقات إعاشتهم ببيع قطعة أرض يملكها في الدقي،. ثم محاولته القيام بانقلاب عسكري للعودة إلى قيادة الجيش، والذي حدد لتنفيذه يوم 27/ 8 / 1967 وكان الغرض منها الاستيلاء بالقوة على القيادة العامة للقوات المسلحة معتمدا على قوات الصاعقة الموجودة في «أنشاص»، والتي كان عليها تأمين وصول المشير إلى القيادة الشرقية في منطقة القناة ثم تنصيبه قائدا عاما للقوات المسلحة، ثم يقوم المشير بإعلان مطالبه لرئيس الجمهورية من هناك؛ فإذا لم يستجب له الرئيس، تحركت قطاعات من القوات المسلحة لفرض هذه المطالب بالقوة بمعاونة القوات الجوية لضمان نجاح الخطة، ذلك الانقلاب الذي فشل بسبب القبض عليه ليلة 26 / 8/ 1967 ووضعه قيد الإقامة الجبرية.. ثم الإعلان رسميًا عن انتحاره، وانتشار الشائعات عن نحره.

    بما يعني أنه لم تكن هناك مذكرات.. إلا أنه في عام 1968 نشرت مجلة لايف Life ثلاث حلقات من مذكرات ادعت نسبها إلى المشير عامر، ثم اكتشفت الصحيفة زيف تلك المذكرات وأنها غير صحيحة، فتوقفت عن متابعة النشر.

   وقد أكد الخبراء آنذاك أن هذه المذكرات من تلفيق مخابرات دولة عربية شقيقة كانت في خصومة مع نظام عبد الناصر بسبب حرب اليمن، كما رجح الخبراء أن تكون وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قد ساعدت في إعدادها بهدف زعزعة الجبهة الداخلية في مصر.

مذكرات السادات 

   كان اللافت للانتباه في كتابات السادات تناقضاته مع نفسه في « بحثه عن ذاته »، فقبل موت عبد الناصر كان السادات لا يكف عن ترديد الاعتراف بـ «المسافة التاريخية» التي تفصل بينه وبين جمال عبد الناصر القائد التاريخي لانقلاب 23 يوليو 52 الذي أسماه ثورة، وبعد موت عبد الناصر أصبح السادات رئيسًا للجمهورية، وأصدر كتاب « البحث عن الذات » عام 1978، قفز فيه علي تلك « المسافة التاريخية » ، وأنكر دور « القائد التاريخي »  مؤكداً في صـ 30، 38، 43 علي معلومتين هامتين وجديدتين، الأولى: أن المؤسس الحقيقي لتنظيم الضباط الأحرار الذي قام بانقلاب يوليو 1952 هو أنور السادات وليس عبد الناصر، الثانية: أن تنظيم الضباط الأحرار قد أنشئ عام 1939 وليس في أواخر عام 1949.

   وهو كلام يختلف في جملته وتفصيله مع ما سبق أن ذكره السادات في كتابه «صفحات مجهولة»، الذي أصدرته دار التحرير للطبع والنشر (العدد 84 ـ كتب للجميع ـ نوفمبر 1954)، وكتاب (قصة الثورة كاملة) الذي أصدرته دار الهلال عام 1955 ثم أعادت إصداره في طبعة مزيدة ومنقحة في العدد رقم 64 ـ يوليه 1956 من سلسلة كتاب الهلال، يقرر السادات في ص 51، 52 أنه في عام 1949 بعد المحنة الكبرى، بعد أن عاد جيش البلاد من فلسطين ومعه المأساة الكبرى، بدأ الضباط الأحرار في تكوين هيئة تأسيسية للضباط الأحرار ثم السيطرة على الجيش تمامًا بتنظيم ضخم متماسك، فيقول بالحرف الواحد:

   « .. وتكونت الهيئة التأسيسية فعلاً، وكانت تضم في البداية جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم وخالد محيي الدين وعبد المنعم عبد الرءوف.
ثم تضاعف نشاط الضباط الأحرار بعد تلك الخطوة مما حتّم زيادة أعضاء الهيئة التأسيسية، فانضم إليها عبد الحكيم عامر وصلاح سالم وجمال سالم وعبد اللطيف البغدادي وكاتب هذه السطور (أنور السادات) ».

   .. هكذا يعترف السادات صراحة أنه لم يكن مؤسس تنظيم «الضباط الأحرار»، ولم يكن ضمن هيئته التأسيسية الأولى، وأنه انضم إلى التنظيم في مرحلة لاحقة!! ولم يكن هذا هو الاعتراف الوحيد بتلك الحقيقة، فقد اعترف السادات في ص 52:

   « وفي يناير 1950 أجريت انتخابات رئاسة الهيئة التأسيسية، وانتخب جمال عبد الناصر رئيسًا لها بالإجماع».

وفي ص 56 من نفس الكتاب يقول السادات:

   «وفي يناير 1951 أجريت انتخابات جديدة للهيئة التأسيسية للضباط الأحرار، وأعيد انتخاب جمال عبد الناصر رئيسًا لها للمرة الثانية».

ثم عاد وأصدره في سلسلة كتاب الهلال (العدد 76 ـ يوليو 1957) بعنوان (أسرار الثورة المصرية، بواعثها الخفية وأسبابها السيكولوجية) تقديم الرئيس جمال عبد الناصر، ويقول فيه عن التنظيم:

   «.. وتبدأ القصة بمجموعة من الملازمين الشبان تخرجوا في الكلية الحربية عام 1938 واجتمعوا للخدمة معًا في «منقباد» بمحافظة أسيوط ونجد أن المجموعة أخذت تلتف حول شاب من بينهم يمثل الشخصية الصعيدية الكاملة، وكان هذا الشاب هو جمال عبد الناصر الذي استحوذ بخصاله واتزانه على إعجاب واحترام زملائه». 
يقول السادات في الصفحات من 207 إلى 209:

• وفي هذا العهد عادت القوات المصرية من فلسطين، ودعي عبد الناصر لمقابلة إبراهيم عبد الهادي برفقة عثمان المهدي رئيس أركان حرب الجيش لتحذيره عن نشاطه مع الإخوان المسلمين (المعروف أن المقابلة كانت بتاريخ 25 مايو 1949).

• بدأنا في تكوين القاعدة، وفي الأيام التي تلت ذلك فرغ جمال من وضع أساس التنظيم كله.

• اختار جمال للتشكيل اسم الضباط الأحرار وظهر الاسم لأول مرة.

• وضعت أهداف التشكيل وتم توزيعها على الضباط الأساسيين فيه.

***
   بهذا يعترف السادات صراحة بأن عبد الناصر هو منشئ تنظيم الضباط الأحرار، وأن التنظيم نشأ عام 1949 وليس 1939 كما ادعى السادات لاحقًا في «بحثه عن ذاته»، لكن الملاحظ أنه ليس هناك أي مجال للمقارنة سواء في لغة الكتابة ولا أسلوب عرض الموضوعات ومضامين المعلومات بين كتاب «البحث عن الذات» وبين الثلاثة كتب التي سبق أن أصدرها رغم أن الفارق الزمني بينهما لا يزيد على 20 سنة، النقطة الوحيدة التي ظل السادات ثابتًا عليها هي إهانة الرئيس محمد نجيب بغير حق؛ لإرضاء عبد الناصر، يقول السادات في ص 73 من (قصة الثورة كاملة) في فقرة بعنوان: 15 يوليو.. ونجيب لا يعرف!!

   « خطة الثورة توضع وقائد الثورة في منزله لا يعلم! قائد الثورة في فراشه والثورة نفسها تجهله.. قائد الثورة في فراشه، والثورة نفسها لاتدري هل سيوضع على رأسها، أم سيكتشف أحد حقيقته في اللحظة الأخيرة.

   لم يكن هناك وقت على الإطلاق أمام جمال ورفاقه لاكتشاف حقيقة محمد نجيب.. فنحن في 15 يوليو.. ونجيب لا يعلم شيئًا بالمرة».

   ويمضي السادات في افتراءاته على الرجل فيقول في ص 75، 76 من (قصة الثورة كاملة) في فقرة بعنوان: 19 يوليو.. ونجيب لا يعلم!!:

  « كل هذا كان يحدث وكل تلك الأحداث التاريخية الكبرى كانت تقع واللواء نجيب في بيته لا يعلم شيئًا.. بل لم يكن قد عرف أن في الجيش تنظيمًا سريا سوف يقلب نظام الحكم.. وكنا في 19 يوليو».
   ويواصل السادات العزف على تهميش دور الرجل فيقول في ص 77 فقرة بعنوان: «العمالقة على باب نجيب»!!

« وفي 20 يوليو أي قبل الثورة بثلاثة أيام توجه جمال وعبد الحكيم عامر إلى    بيت محمد نجيب لإبلاغه بأنه الزعيم والقائد ومحرر البلاد الذي سيقلب نظام الحكم

وطرق جمال باب البيت وكان عند نجيب البكباشي جلال ندا والصحفي محمد حسنين هيكل..
...................
.....................
وظلا جالسين (جمال وعبد الحكيم عامر) فترة طويلة دون أن يفاتحا نجيب في مسألة الثورة، وهو لم يكن يدري بما في رأسيهما.

   وبعد هذه الزيارة ـ في 20 يوليو ـ لمس جمال أنه ربما يكون من الخطر على الثورة الاتصال بنجيب مرة ثانية.. إذ ربما كان في ذلك الوقت موضوعًا تحت المراقبة.

وأمام هذا الخاطر قرر جمال الاتصال بنجيب بعد نجاح الخطة.. أي بعد قيام الثورة».

   ثم يعود السادات في صفحة 97 ليقول:

    « بدأت الثورة إذن ـ واللواء نجيب لا يعلم..
ويواصل السادات حملة الافتراء على الرجل فيقول في ص 100 في فقرة بعنوان: «حقيقة تعلن لأول مرة»:
«أين كان اللواء محمد نجيب.. قائد الثورة؟!
أين كان في تلك الساعة.. بعد نجاح العملية الكبرى، وبعد أن أصبح نظام الحكم بلا جيش يحميه.. ويزود عنه »!
   في الثالثة من صباح 23 يوليو بدأ أول اتصال بين قيادة الجيش الجديد أعني الضباط الأحرار وبين محمد نجيب.. وهذه الحقيقة تعلن على العالم لأول مرة!
وكان ذلك الاتصال عن طريق التليفون».

   ويواصل السادات مسلسل الإهانات بحق الرجل إلى حد الاستخفاف بشأنه إلى حد وصف دوره في قيادة حركة الجيش بخيال المآتة، وأنه كان في منزله لا يعلم شيئًا عما يدور حوله من أحداث طوال شهر يوليو 1952، فيقول السادات في ص 116:

«اللواء نجيب كان يجلس بيننا لا يدري ماذا يدور في رءوسنا».

***

   ولم يتورع السادات عن نهجه في كتابه (قصة الثورة كاملة)، ولم يعط لنفسه فرصة للتراجع والمراجعة بل مضى في غيه، فقد ذكر السادات على صفحتي 80 و81 من كتابه (أسرار الثورة المصرية، بواعثها الخفية وأسبابها السيكولوجية) الصادر عن دار الهلال ـ العدد 76 ـ يوليو 1957، والذي قدم له الرئيس جمال عبد الناصر:

   « كان نجيب مثل أي رجل في مصر وفي مثل سنه مثل أبي وأبيك.. كان موظفًا يجلس إلى مكتبه من الصباح حتى الظهر وليس في ذهنه أي شيء عن العدالة الاجتماعية أو عن الاستغلال والاستبداد ومحنة الاستعمار.. كل الذي كان يشغل باله في عام الثورة عام 1952 هو نفس الشيء الذي كان يشغل بال أي موظف كبير في مثل سنه ربما علاوة أو ترقية».

    ويتمادى السادات في ظلمه؛ فيروي في ص 170 أن نجيب لم يعرف بحكاية الضباط الأحرار إلا عندما اتصل به عبد الناصر في الساعة الثالثة من صباح 23 يوليو وأخبره أن:

   «الضباط الأحرار قاموا بالثورة الليلة والثورة نجحت والمنطقة العسكرية محاصرة وإحنا عاوزينك تيجى، وحنبعت عربية تجيبك».

   لكننا إذا ما أخضعنا روايات أنور السادات لمعايير الفحص العلمي نتبين بوضوح أنها تحمل في طياتها أسباب تكذيبها:

   أولاً: لأن السادات لم يكن صادقًا في روايته فقد خانته ذاكرته؛ فنسي أن لفظة ثورة لم تطلق على حركة الجيش إلا بعد ذلك بعام على أثر كتابة د. طه حسين مقالاً بهذا المضمون في مجلة التحرير في عددها الصادر في الأول من ديسمبر 1952، قد يقول قائل إنها مجرد زلة لسان نتيجة التكرار، فلا يجب التوقف عندها كثيرا!!

   ثانيًا: لكن ماذا يقول ذلك القائل عما ذكره كل من يوسف صديق وخالد محيي الدين وأحمد حمروش في مذكراتهم؟!، يروي يوسف صديق في مذكراته التي نشرها بعنوان:(ليلة عمري) أنه بعد انضمامه للضباط الأحرار في أكتوبر عام 1950 سأل عبد الناصر عن الضباط الذين يعملون في قيادة الحركة:

   «ولما ألححت عليه أخبرني أن أقدم ضابط هو اللواء محمد نجيب، فاسترحت لهذا الاسم الذي كنت أكنّ له الكثير من الاحترام والحب، لما يمتاز به من صفات وسمعة طيبة بين ضباط الجيش».
   ويروي خالد محيي الدين في مذكراته بعنوان: (.. والآن أتكلم) في ص 145:

«كان نجيب صاحب فكرة الإسراع باعتقال القادة المجتمعين بكوبري القبة أثناء خروجهم لشل سيطرتهم وإفشال أية خطة للتحرك المعاكس».

ويضيف خالد محيي الدين في ص 155:

   « لقد رغب نجيب في أن يشاركنا التحرك منذ اللحظة الأولى، وعندما علم أننا وضعنا خطة التحرك طالب بالمشاركة في تنفيذها، لكننا كنا نريد أن نبعده عن أي مشاركة فعلية عن عمد لنضمن سلامته؛ حتى يمكن في لحظة انتصارنا أن يتولى القيادة».

   وذكر أحمد حمروش في مذكراته بعنوان : « نسيج العمر» صـ 68:
« أن عبد الناصر أخبرة قبل يوم من قيام الثورة أن محمد نجيب انضم إليهم».

   ثالثًا: وماذا يقول ذلك القائل في ذاكرة السادات التي خانته كثيرًا في نقل وقائع الأحداث؟!! فلم يكن هذا رأي السادات في اللواء نجيب قبل خلافه مع عبد الناصر، فقد وضع أنور السادات اسم اللواء محمد نجيب على رأس أعظم عشرة رجال في العالم ضمن استفتاء قام به ونشرته مجلة المصور في عددها 4911 بتاريخ 8 مايو 1953 بعنوان: «هؤلاء هم العظماء العشرة في العالم كله»، جاء اللواء نجيب في المرتبة الأولى، والمارشال ستالين في المرتبة الثانية، والرئيس إيزنهاور في المرتبة الثالثة، ونهرو في المرتبة الرابعة، وماوتسي تونج في المرتبة الخامسة، وونستون تشرشل في المرتبة السادسة، والمارشال روميل في المرتبة السابعة، والمارشال مونتجمري في المرتبة الثامنة، وغاندي في المرتبة التاسعة، وهتلر في المرتبة العاشرة.

رابعًا: الشهادات الشخصية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    كان مكمن الصعوبة في الشهادات الشخصية للذين لعبوا دورًا في الأحداث أو اشتركوا فيها بأي شكل من الأشكال، أو كانوا من شهودها بالعيان أن هذه الشهادات تصنف ضمن الوثائق المنحازة، كما أن الكثير من الشهادات التي وردت عن بعض الأحداث شهادات تسامعية أي نقلت إلى رواتها بالسماع؛ وهو ما يستلزم التدقيق وتوخي الحذر في الأخذ بما جاء بها سواء بالنفي أو الإثبات.

***

    أخيرًا، هذا البحث محاولة علمية لتقييم بعض القصص الخبرية التي نشرت في صحافتنا تقييمًا موضوعيًا من خلال مقارنتها بالمصادر الأخرى للمعلومات دون أدنى محاولة لتجريح شخوص بعينهم من الأحياء، أو إضفاء هالات من التوقير والتعظيم عليهم بغير استحقاق، أو الإساءة إلى الموتى، أو تقديس قبورهم، في محاولة جادة لأن يكون هذا البحث تشخيصًا دقيقاً وأمينا لعلاج ما أصاب صحافة الوطن من آثار السقوط في « مأزق الغواية »؛ فمصر تستحق صحافة قوية وحرة وحديثة تليق بتاريخها وحضارتها ومكانتها.

هناك تعليق واحد: