كتاب : الإنسان "السائل" ـ ياسر بكر ( بصيغة Word)
الإنسان «السائل»
بين «إيماضة الخمود» في الفكـر الخلدوني
.. و «نظــرية السـوائل» لـزيجمونت باومان
ياسـر بكـر
«هذا زمن الحق الضائع
لا يعرف فيه مقتول من قاتله، ومتى قتله
ورؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك !!»
شعر : صلاح عبد الصبور
الإهداء
ـــــــــــــــ
..
إلى رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
محتسبين،
وصـــابرين، ومثابرين عـلى معـــاناة
إنتاج
المعــنى، وعـلم ينتفع به، ومـا بدلـــوا تبديلا.
ياسر بكر
مقدمة :
..
«االإنسان السائل liquid Individual»
.. صورة مجازية*(1)
بغرض المقاربة بين معنيين لفهم القيمة المتغيرة، والمتصارعة، والمتسارعة،
والمتعاظمة ًللحالة المعيشية للإنسان في مرحلة «ما بعد الحداثة»
حيث يصبح الإنسان في رجة دائبة، وامتحان مستمر للقديم، وتدمير للأوثان، وصدع
للأيقونات، والأقانيم، وزرع مستمر لما هو
جديد؛ .. ليظل دائما في حالة «الانتقالي العابر»*(2)
الذي يحوِّل جديد اليوم، وحديثه إلى قديم كلاسيكي .. عابر دائما في حالة دائبة من
التغيير، والتجديد، وحالة مستمرة من الحركية، والتطور وفقاً لما ترمز إليه «ما بعد
الحداثة» من التطلع إلى «المجهول الجديد»، والتي يتسم بالفوضى، والضبابية، واللا
يقين .
.. «االإنسان السائل» يمثل حالة
:«الإنسان والمجتمع في ظل الحداثة السائلة Individual and society in the liquid modernity» حيث يصبح الفرد، والمجتمع، والأخلاق، والسلطة، والدين مجرد كلمات
مشبعة بسيولة قادرة على تكثيف أهم جوانب الواقع الحالي في حد ذاته، والبُعد الذي
يفسح فيه الدائم الطريق إلى العابر، وضرورة المنفعة قبل أي قيمة أخرى، والحاجة إلى
الرغبة التي تفزع الرجال في التغييرات، والتحولات المستمرة التي تؤثر على حياتهم،
والتي تحول الهوية من حقيقة إلى مهمة؛ لأن مفاهيم الهوية، والفرد، والفردية أصبحت
بلا معنى، يطلب العالم من الفرد بحثًا مستمرًا، ومثيرًا للجدل بشكل متزايد عن
الهوية؛ وتتبع معايير التوحيد من أجل الحصول على «دور» الأفراد؛ لأن الهوية اليوم
مهمة؛ فكونك فردا في مجتمع سائل لا يعني ببساطة كونك مستهلك جيد، ولكن أيضًا كونك
سلعة تنافسية في السوق العالمية !!
.. إذا كنت ترغب في المشاركة في المجتمع ، عليك
أن تستهلك بهذه الطريقة ـ تحويل نفسك إلى سلعة ـ ، وهذا شرط مسبق غير قابل
للتفاوض، وبالتالي فإن علاقات السوق أساسية لمجتمع المستهلكين، كما هو الحال مع
العقلية الحسابية التي تسير بمحازاتها ..
..
«االإنسان السائل» .. مجرد أفتار Avatar .. صورة
رمزية معبرة عن بؤس الوجود الإنساني، ومعاناته .. إنسان بلا صفات ثابتة .. دائم
التحولات ليصبح «إنسانا بلا روابط» يخضع للتحديث «الوسواسي القهري
الإدماني» الذي لا يثق في اللحظة الراهنة القائمة على التأقيت، واللا يقين،
وأن كل شيء موضع شك؛ «فجميع الموائمات، والاتفاقات مؤقتة، وعابرة، وصالحة لحين
إشعار آخر.» على حد تعبير زيجمونت باومان .
.. «االإنسان السائل» يمثل تجسيداً لـ
«الإنسان ذو البعد الواحد» الذي يخضع لسيطرة اجتماعية في عصر التقدم التكنولوجي
تتلبس طابعاً عقلانياً يجرد كل احتجاج، وكل معارضة من سلاحهماً عبر«نظام السيطرة
الناعمة»*(3)،
وعودة إلى مفهوم «الإنسان المستباح Homo Sacar»
ــ حسب تعبير جورجو أجامبين ـ *(4)
أو «الإنسان الضائع» ــ حسب تعبير جون
ديوي ـ *(5)،
أو «الإنسان المهـدور» ـ على حد تعبير د. مصطفي حجازي*(6)،
وهو مصطلح على مستوى المجاز يشير إلى كل آخر غريب يمكن قهره، وسلبه حقوق الإنسان
كلها، بما في ذلك حق الوجود في إطار ظهور «ثقافة المحظورات الكونية».
.. «االإنسان المستباح» ارتبط عادة
بالتجسيد المطلق للحق السيادي المطلق في استبعاد مثل هذه الكائنات البشرية الغريبة
من نطاق القوانين الإنسانية، والإلهية، حيث يصبح الكائن المستباح وجودًا يمكن
تدميره من دون التعرض للعقاب، وإن كان تدميره لا تعوزه أي دلالة دينية أو أخلاقية؛
فحياة «الرجل المستباح» لا تحمل أي مغزى بالنسبة للحاكم؛ فهو موجود بصفته
البيولوجية «في حياة عارية Ze» مثل شئ دون الأدمية، وينبغي إعالته
بالمعنى الأكثر بدائية بالطعام، والماء، والمأوى، كما ينبغي إبعاده عن طريق النفي
أو الاحتجاز في مراكز العزل العنصري عن الوجود الطبيعي للإنسانية في «حياة
سياسية Bios»
بالإقامة الجبرية في (معسكرات اعتقال النازي ـ المخيمات الفلسطينية ـ معتقل أبو
غريب ـ معتقل جوانتانامو) أو جيتوهات أو أحياء عشوائية منعزلة مثل أحياء الهنود
الحمر، وأحياء زنوج أمريكا .
ينقلنا مفهوم «االإنسان المستباح» إلى
ما يطلق عليه أجامبين :«الحياة العارية Ze» حيث تقوم السلطة برد الإنسان لكونه «مادة
استعمالية» مجردة من الإنسانية، وليس إنسان له خصائص تسري عليه أحكام الكرامة،
والحفظ، والصون .. مجرد جسد لكائن مخلوق له روح تتشابه مع روح الحيوان مجردة من كل
السمات الاجتماعية، والحقوق السياسية.
.. يرى أجامبين أن ما يتم استبعاده في
الاستثناء يبقى قائما فيما يتعلق بالقاعدة أو المعيار في شكل تعليق القاعدة، أى
تنطبق القاعدة على الاستثناء بانسحابها، وتعليق القاعدة لا يعني الفوضى بل هي
منطقة عدم التمييز بين الفوضى، والوضع الطبيعي إذا أن السيادة تحمل معها «السلطة
على الحياة» عن طريق حكم الاستثناء، ويبدي أجامبين قلقه من تصبح «لحظة
الاستثناء» هي «اللحظة الحاكمة» على المدى البعيد، ويبدي أجامبين تخوفه
من فرضية جوهرية مفادها عدم قابلية حالة الاستثناء أو حالة الطوارئ للإلغاء.
.. عن العلاقة بين «االإنسان السائل» وشخصية
«المتسكع» أو «الصعلوك» أو «المنبوذ» أو «الغرباء
والمتشردين» يذكر زيجمونت باومان شخصية المتسكع بصفته الشخصية الرمزية للمدينة
الحديثة، ويخبرنا من خلال الربط بين المساحة الجديدة لمراكز التسوق، وبين التسكع،
بأن مراكز التسوق تجعل العالم «مسوّرا بدقّة، مراقبًا إلكترونياً، وخاضعا
لحراسة عن كثب؛ بما يضفي آمنًا للحياة بصفتها تجوّلا تخلقه الغربة، والوحدة
باعتبارهما مصدر إلهام لإعادة اختراع المساحات».
.. صياغة مفهوم التسكع من خلال أبعاده
المتعددة يجعل من المتسكع ليس شخصاً جائلاً في المدينة فحسب، بل أن تسكعه يمثل
أيضًا «طريقة لقراءة النصوص» و«لقراءة آثار المدينة».
ويرى باومان أنه يمكن النظر إلى التسوّق على
أنه شكل آخر من أشكال التسكع، أو هو تحديق سيار وثيق الصلة بالنساء، ويمكن ربط
عملية «تأنيث المتسكع» بمعنى ربط سلوك تسكع النساء بنشوء المولات الضخمة
التي هي محاولة لنقل الشارع إلى داخل الأبنية،.. صورتا الغرباء والمتشردين
عند باومان التي يشير إليها بمصطلحي : (Servant Group
المجموعة الخدمية) أو (Inrermediate Group
مجموعة الوسطاء) واللتان تقتربان مع ما يطلق عليه
المفكر المصري د. عبد الوهاب المسيري:«أنموذج الجماعة الوظيفية Functioal Groupe»،
والتي تعني كل فئة بشرية قليلة يوكِل إليها المجتمع وظائف شتى يرى أن
أعضاءه لا يقدرون على تحمّلها، ويأنفون منها لأسباب مختلفة، ويُعرفون بوظائفهم
وحدها، لا بإنسانيتهم المتكاملة؛ فيُصبح أحدهم إنساناً ذا جانب واحد، لا صلة له
بالمجتمع إلا بوظيفته. *(7)
.. و«المجتمع السائل» يعني :
«المجتمع حين تكون الشروط التي يوجد ضمنها
البشر، ويقومون بالفعل متغيرة على درجة كبيرة من السرعة تجعل من قدرتهم على
استيعاب التغير، وهضم الجديد، وبناء سلوكيات، وعادات على أساسه صعباً إلى أبعد
حد.».
..البشر في مجتمع الاستهلاك يعيشون تحت
وابل انتاج كثيف لما يتم الترويج له دعائياً أنه الأفضل، فلم يعد المزاج الشخصي قادر على الحكم على
الأشياء، ولم تعد الهويات، ولا الثقافات قادرة على الاحتفاظ بشكلها زمانا طويلا،
ولا أمل في ذلك لأنها تتحلل، وتنصهر بسرعة أكبر من سرعة إعادة تشكلها، ويتفكك
مفهوم المجتمع نفسه من جذوره؛ بسبب سيولة الأبنية الاجتماعية، وسرعة تغيرها، وتحول
التاريخ السياسي للمجتمعات والافراد، وأنماط الحياة إلى سلسلة من مشروعات لا
متناهية، وتلاشي كل الصور الرومانسية للعلاقات الاجتماعية التي نقشت في داخلنا
لأعوام، بل ولعقود من خلال خضوع العلاقات الإنسانية للتسليع، والاستهلاك في لحظة
البؤس البشري، .. مجتمع انتهى بإعلان موت الإنسان لمصالح مقولات غير إنسانية مثل
الآلة، والدولة، والسوق، والسلعة، والسلطة، أو لمصلحة مقولات أحادية البعد مثل
الجسد، والجنس، واللذة !!
.. «االإنسان السائل» وصف مستعار من
«الفيزياء» و«الاقتصاد» للخروج من المفاهيم الضيقة التي يوفرها علم الاجتماع
باعتباره (علم عدم الحرية)، والذي بات الآن في لحظة فارقة بعد أن أصبحت
أدواته غير شارحة، ولا مفسرة!! .
.. يعد مصطلح «االإنسان السائل»
نتاج حالة اجتماعية، وسياق تاريخي تزامن مع نتائج «ما بعد الحداثة» بكل ما
تحمله من غموض، وابهام، ومفهوم عائم ملغوم يلغي ذاته باستمرار، ويخلق ردود فعل
متناقضة، وتواتر نادر بين الارتكاس والانبهار، بين الدعاية اللا مشروطة، والرفض
التام، وتحولات غير منطقية من «الحداثة
الصلبة» إلى «الحداثة السائلة» على حد تعبير عالم الاجتماع الإنجليزي
الجنسية البولندي الأصل زيجمونت باومان الذي أطلق مُسمى «السيولة» على
مرحلة :«ما بعد الحداثة» الذي كان يعتبره تسمية (خطأ)؛ لذا قرر أن يُسميه
بوضوح «الحداثة السائلة.».*(8)
.. وسرعان ما توسع باومان في إطلاق صفة : «السيولة»
على مناحي كثيرة في معالجته لنظرية «التقاطع المعرفي Interdiscplinarity Theory»
في علم الاجتماع من خلال ما أسماه من خلال مجموعة مؤلفاته المعروفة بـ «سلسلة
السيولة المدونة في كتب الفقة الاستراتيجي»*(9)
:
«الحداثة السائلة، الحب السائل، الخوف
السائل، الشر السائل، الأخلاق في زمن الحداثة السائلة، الحياة السائلة، الثقافة
السائلة، المراقبة السائلة.».
.مفهوم
الحداثة :
ـــــــــــــــــــــــــ
يتفق أغلب الدارسين على أن «الحداثة»
التي بدأت مع نهاية العصور الوسطى عتبة تاريخية إلى العصور الحديثة؛ فالحداثة
مرحلة تاريخية بلغتها المجتمعات الأوربية في مسارها التاريخي من خلال ظهور المجتمع
الأوربي الحديث المتميز بدرجة عالية من التقنية، والعقلانية، والتفتح، والحداثة كونياً
هي ظهور المجتمع البرجوازي الحديث في إطار ما يسمى بـ «النهضة الغربية» هذه النهضة
التي جعلت المجتمعات المتطورة صناعياً تحقق مستوى عالي من التطور مكنها،
ودفعتها إلى غزو، وترويض المجتمعات الأخرى
.
.. وقد عبر هيجل عن هذه الحداثة بـ «
عصرالأزمنة الجديدة» أو «عصرالأزمنة الحديثة» في إشارة إلى القرون
الثلاثة التي سبقت اكتشاف العالم الجديد أي الحقبة الي بدأت مع عام ١٥٠٠ م تقريباً
.
.. لكن يمكن القول بأنها حالة تحول، وحركة
تغير لأنماط التفكير، والعيش، والسلوك بعد الخروج على ائتلاف رجال الكنيسة،
والنبلاء من الاقطاعيين، وإعلان «موت الإله» أو «رحيل الإله إلى حيث ذهب، ولن
يعود»، بيد أن تأليه المجتمع لم يكتمل إلا مع ظهورسوسيولوجيا نظرية
للحداثة في سياق العلمنة، ولا سيما في أعمال إميل دور كايم فأصبحت سلطة المجتمع
على مركز الوجود الإنساني، وإن الإله لم يمت تماماً بل جرى تهميشه، واستبدال سلطة
جديدة به؛ فالحداثة الغربية كما يرى باومان شهدت ميلاد ألهه بديلة مثل الطبيعة،
والعلم، والتقدم، والدولة القومية، وصاحب كل ذلك ميلاد ثالوث (غير) مقدس جديد تمثل
في: الأرض، والأمة، والدولة .*(10).
لينتهى «أقنوم الإله»، وليحل محله «أقنوم
العلم» باعتباره إله علمانياً؛ بمعنى انتقال الإنسانية من سيطرة اللاهوت،
والكنيسة، والسحر، والخرافة إلى نور العقل والعقلانية؛ فهى باختصار عبارة تحول في
مجرى حياة الإنسان ثقافياً، واجتماعياً، وعلمياً، واقتصادياً، وأخلاقياً؛ فهي بذلك
عبارة عن نمط خاص في مقابل كل صنوف التقليد، وضروب الثقافة الإرثية التى تتمسك
بنقطة زمنية أصلية، وتتشبس بمرجعية متعالية، وأمل مقدس؛ فهي بذلك ثورة كوبرانيكية
أتت على كل جوانب الحياة الكلاسيكية التقليدية لتفتح عهدا جديدا مع العقلانية،
والتطور، والتغيير .
أما الدلالة الاجتماعية فهى ترتبط بنموذج
التحديث الاجتماعي الذي تم إحلاله بديلاً من النموذج الاجتماعي التقليدي، كان
النموذج الجديد ينتظم حول مجتمع يصنع ذاته من خلال تدمير الذات القديمة تمهيداً
لإعادة بنائها باستعمال العقل، واحترام الحقيقة القابلة للتطبيق، وأن يلبي حاجات
أعضاء المجتمع كافة.
..
وتعتبر «الحداثة» ـ وفقا للفكر الغربي المُشاع ـ مرحلة استنارة
أعلنت عن سلسلة من النهايات: نهاية القديم، ونهاية الميتافيزيقا، ونهاية السحر،
ونهاية الخرافة، ونهاية سيطرة الطبيعة، ونهاية الأسطورة، وغيرها من النهايات
الأخري، ومولد سلسلة من البدايات: بداية عصر جديد، وبداية النزعة العلمية، وبداية
النزعة التجريبية، وبداية النزعة التقنية .
.. وقد قدم زيجمونت باومان وصف دقيقأ
لتداعيات الحداثة في كتابه:«الحداثة والهولوكست» بقوله :
«شهد عصر التنوير تألية الطبيعة، وشرعنة العلم
بوصفه دينها الحنيف، والعلماء بوصفهم أنبياءها، وكهنتها .»،
ليصل بنا باومان إلى أن وعود الحداثة قد تبددت، ولم يتحقق منها شيء !! .. كان وعد
الحداثة تحرير الإنسان من الخوف؛ فالجماعة التي تمارس سيطرتها عليه سيواجهها
بالفردية، والدين الذي يحذره من عواقب أفعاله سيتم مواجهته بفصل الغيب عن الحياة،
وإعلان العلمانية، وضربات الطبيعة، والمرض، والموت سيتم التعامل معها بالعلم.
.. وأضاف زيجمونت باومان في كتابه «الحداثة السائلة» :
الحداثة مجموعة من الممارسات الإنسانية
انتقلت معها المجتمعات الغربية من أزمنة ساكنة إلى أزمنة سائلة .. الحداثة تبدأ
حالما ينفصل المكان، والزمان عن التجربة المعيشية، وحالما ينفصلان عن بعضهما البعض
إذ يسهل التنظير لهما باعتبارهما مستقلتين، ومتباينتين لاستراتيجية الفعل، وهي
تبدأ حالما يتوقف الزمان، والمكان عن الوجود على الحالة التي كان عليها على مدار
قرون عديدة في أزمنة ما قبل الحداثة عندما كان يتلاحمان، ويتشابكان بحيث يتعذر
التمييز، والفصل بينهما داخل التجربة المعيشية بمعنى إن الحداثة غيرت مقومات العيش
الإنساني، وأعادت تعريف الزمان، والمكان لتمنحهما معاني أكثر اقترانا بالرأسمالية
في مراحلها المتتالية، وبالتالي أعادت طرح أسئلة كبرى حول الإنسانية .
يرى ألان تورين في كتابه :«نقد الحداثة»
أن المفهوم الغربي الأشد وقعاً، والأكثر تأثيراً للحداثة أن التحديث يقوم على تحطم
العلاقات الاجتماعية، والمشاعر، والعادات، والاعتقادت المسماة بالتقليدية، وأن فاعل التحديث ليس فئة، أو طبقة اجتماعية
معينة، وإنما هو العقل نفسه، والضرورة التاريخية التي مهدت لانتصاره، وهكذا أصبحت
العقلانية عنصر لا غنى عنه للحداثة بصفتها آليه تلقائية، وضرورية للتحديث؛ فهي
التي تعد السياسات الاجتماعية بهدف إخلاء الطريق للعقل، وتهيئة الفاعلين
الاجتماعيين، والسياسيين، والثقافيين على نشر معرفة تشكل نموذجا للتحديث، وصياغة
أيدلولوجية ذات آثار نظرية، وعملية بعيدة المدى تحقق الأهداف .
.. ويؤكد نورين أن الغرب قد تمثل الحداثة،
وعاشها كثورة عقلية لا يعترف فيها العقل بأى مكسب من الماضي بل على العكس يتخلص من
المعتقدات، وأشكال التنظيم الاجتماعي، والسياسي التي لا تؤسس على أدلة من النوع
العلمي. *(11)
.. ويعود زيجمونت باومان في كتابه: «الحداثة
والإبهام»*(12)،
ليلقي الضوء على الإبهام الذي يحيط بالحداثة، بما يعني صعوبة الفهم، والإدراك،
واختفاء المعني الذي يغلف غاياتها، ومماراساتها، ويعرف ذلك الابهام تعريفاً
سوسيولوجياً بأنه:
« إمكانية تصنيف موضوع أو حدث فى أكثر من
فئة، وهو بذلك خلل فى اللغة، وقصور فى وظيفة التسمية المنوطة باللغة، ومعها يبدأ
الخلل فى عدم الارتياح البالغ الذى نشعر به عندما نعجز عن قراءة الموقف قراءة
سليمة.».
.. ويضيف باومان: أننا نرى فى الإبهام خللا
بسبب القلق الذى يثيره، والتردد الذى يترتب عليه، سواء ألقينا باللوم على اللغة
لعدم دقتها أو على أنفسنا لاستعمالنا غير المناسب لها، ولكن الابهام ليس نتاجا لانحراف
اللغة، ولا الكلام، بل هو جانب طبيعى من الممارسة اللغوية، أنه يصدر عن إحدى
الوظائف الأساسية للغة، ألا وهى التسمية، والتصنيف، ويزداد الابهام كلما زاد اتقان
تلك الوظيفة، ومن ثم فإن الابهام هو الأنا الأخرى للغة، ورفيقها الدائم، بل وضعها
الطبيعى .
.. ويرى باومان أنه من خلال وظيفة التسمية
أو التصنيف ترسخ اللغة نفسها بين عالم يحافظ على النظام، ويقوم على أساس صلب،
ويصلح للعيش البشرى، وعالم متقلب من العشوائية تصير فيه أسلحة البقاء البشرى (الذاكرة،
والقدرة على التعلم) عديمة الجدوى أن لم تكن انتحارية تماما.
ويكمل
باومان قائلا: لقد وعدت الحداثة بالقضاء على الإبهام، وتأسيس الوضوح التام،
والوصول إلى لحظة فردوسية ينتهى عندها الإبهام، ولم تفلح الحداثة في الوفاء بوعدها!!
.. ورغم كل هذا الإخفاق استطاعت الحداثة
الخروج من مأزق الفشل بتوزيع المخاوف الكبرى على تفاصيل الحياة اليومية، وإشعار
الفرد أن مواجهه التهديدات هي مهمته هو، وأن توفير الأمن لم يعد من واجبات الدولة
بل هو مسؤولية الأفراد .. أدارت الحداثة فشلها لصالحها، وحققت أدواتها الاقتصادية
المكاسب من هذا الوضع بدءاً من صناعة أجهزة المراقبة، والحراسة إلى صناعة السلاح،
وتجارة الحروب الدولية .
.. ولم تكتف الحداثة بذلك بل قامت عبر
أدواتها بتجريد الأفراد من كل شبكات التضامن، ومهارات مواجهة المخاوف، والمخاطر
كافة من خلال «تأميم الخوف» في ظل النظم الاشتراكية التي وعدت بتأميم خدمات
التوظيف، والصحة، والتعليم، والسلامة، والاستقلال، والسيادة، وانتقلت الحداثة في
أحدث أطوارها السائلة إلى «خصخصة الخوف»، وبدلاً من رعاية الدولة ظهر السوق
ليقدم خدمات الأمن، والأبواب الحديدية، والسيارات المصفحة، واالأسوار العالية، ومن
لا يملك تكلفة ذلك كله عليه أن يتعلم كيف يدافع عن نفسه بطرائق أقل تعقيداً، وربما
أكثر وحشية .
.. وأطلقت الحداثة فكرة السيادة التي هي في
واقع الحال «علمنة لفكرة الإله»، واطلقت معها معاني الشر؛ فآلة الدولة
تهيمن، ولكنها تفعل ذلك دون رحمة، ودون التزام أخلاقي؛ ولهذا فإن الشيطان في
السياسة ليس مجرد خيالات بل يتجسد في أشكال كثيرة أحدها هدم، وتدمير نظام أخلاقي
كوني، أو على الأقل نظام أخلاقي قابل للحياة، والنمو، والتطبيق، وثانيهما : أن
الشيطان قد يظهر على أنه فقد للذاكرة، والحس الأخلاقي .
..
الخطير في الأمر أن
تقوم الدولة بتفتيت الشر، واستبطانه في تفاصيل بيروقراطية على مستوى الإيقاع
اليومي حيث تذوب بشاعته في عيون الأفراد الذين أصبحوا مجرد تروس صغيرة في آلة الشر
الدائرة .. أصبح الشر السائل يكمن في
التفاصيل اليومية حتى بلغ حد الاعتياد، وأصبحت المدن الحديثة هى البوتقة المركزية
لصهر القيم، والأخلاق، والتطبيع مع الشر.
***
.. ولا شك أن مفاهيم الحداثة أصبحت
تمثل طرحاً جديد لـ «المشكلة الهوميرية»؛ فقد أُعطيت دلالات، ومعاني للمفهوم يصل
بها حد الغموض والضبابية، والتعتيم، والتداخل، والتناقض بينها إلى الحد الذي يجعل
كل فهم مُلغيا للفهوم الأخرى!!
مفهوم
السيولة :
ــــــــــــــــــــــــــ
يشير مفهوم السيولة عند باومان إلى تحول من
الحالة الصلبة إلى الحالة السائلة أو المائعة، وهو ما يقال عن المواد الصلبة مثل
الحديد عندما يتحول إلى مادة سائلة منصهرة؛ فالسيولة بهذا المفهوم تعنى الميوعة،
والانصهار، والذوبان؛ فالميوعة، والسيلان حالة تحول من حالة الصلابة إلى الحالة
السائلة أو المائعة؛ فالميوعة هى سمة المواد السائلة، والغازية، وتتميز عن المواد
الصلبة بعدم الاحتفاظ بقوى التماسك بين مكوناتها في حالة السكون، ومن ثم يتغير
شكلها باستمرار ما دامت تتعرض للإجهاد؛ ويكون التغير، والتلون، والتحول سمة من
سماتها الأساسية، وهو ما ينتج عنه الجريان، والانسياب، والتدفق بغير حساب، وهو أحد
سمات الموائع أو الأشياء المائعة أما الأشياء الصلبة فلا يحدث فيها جريان، ولا
تدفق، ولا ميوعة لأن الميوعة جوهر الأشياء السائلة، والموائع لا تثبت في الحيز
المكاني، ولا تعوق حركة الزمن؛ فلا تحتفظ بشكل محدد فترة طويلة، وتكون دائما على
استعداد، وميل إلى تغييره؛ فالسيولة في جوهرها عبارة عن سيلان، وانصهار، وذوبان،
وحركة، وتغير، وتحول، وميوعة، ومن خصائص الموائع أنها تتحرك بسهولة، وأنها تجري،
وتنسكب، وتنساب، وتتناثر، وتنهمر، وتتسرب، وتفيض، وتتشكل بأشكال أوعيتها الحاوية،
وتتلون بألوانها، وتسيل فلا يسهل إيقافها كما هو الحال مع المواد الصلبة، وهذا
الانسياب له القدرة مثل تيار المياه المتدفق أن يكسر الكثير من الحواجز، ويتسرب
إلى عمق البنايات التي كان يظن مشيدوها أنها صلبة، وغير قابلة للآختراق .
.. مصطلح «السيولة» تم استعارته
من حالة فيزيائية للمادة، وجعله ميزة للمجتمع الحالي، وهذا دليل على أن باومان
يفهم في تلك الميادين أو على الأقل طرق باب التخصصات الأخرى، ولم يبق حبيس
المفاهيم التي يوفرها علم الاجتماع فقط بل على العكس من ذلك تمكن من صقل مفاهيم
جديدة تخدم علم الاجتماع .. أخذ باومان تلك الحالة الفيزيائية لما تكون عليه
المادة من صلابة، وانتقالها إلى حالة أخرى تكون لزجة مائعة سائلة؛ فهو أخذ هذا
الشكل، وهذه الصورة كي بعبر بشكل بالغ، وكبير عن الكيفية التي تحول بها المجتمع من
حالة الصلابة (الحداثة) إلى حالة الميوعة (ما بعد الحداثة)، وعلى
هذا يعتبر مصطلح :«السيولة» نقطة تلاقي لما أخذه باومان من العلوم الأخرى، ووظفه
ليوصل للقارئ أن حالة المجتمع الحالى في تردية كحالة المادة المائعة السائلة التى
لا تعرف ثباتاً .
.. يجعل باومان من السيولة بهذا المفهوم تلك
المرونة التي تنهزم في وجه الصلابة في كل الميادين فيقول :
«السيولة هي الصلابة الوحيدة، واللا يقين هو
اليقين الوحيد»؛ فهو يعتبر السيولة نموذجاً لنمط
حياتنا المعاصرة لكونها تقنية الصهر، والتمييع، والإذابة، وفي ظل السيولة كل شيء
ممكن أن يحدث لكن لا شيء يمكن أن تفعله في ثقة، واطمئنان، ومفهوم السيولة لا يظهر
في سيولة الحركة، والتنقل نتيجة التطورات المتسارعة في وسائل الاتصال، والانتقال
بل هي تصل حد سيولة المشاعر، والعلاقات، والمعاني لأن المعنى قد غاب تحت نير
التنقلات، والبحث، واللهاث وراء كل جديد .
في مجتمع السيولة الذي يصوره باومان تبدو
حالة السيولة واضحة في العلاقات الاجتماعية، وداخل التركيبة الاجتماعية؛ فهو مجتمع
تتغير فيه الظروف التي يعيشها أعضاؤه بسرعة لا تسمح باستقرار الأفعال في عادات، وأعمال
منتظمة، وهكذا تتغذى سيولة الحياة، وتستمد طاقتها، وحيويتها منها.
السيولة
.. والفوضي :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يرى باومان أن الصلابة، والسيولة ليستا
ثنائية متعارضة بل حالتان متلازمتان تحكمهما رابطة جدلية؛ فالبحث عن صلابة
الأشياء، والحالات هو ما دفع إلى إذابتهما، وأبقى على استمرارية الإذابة، ووجه
مسارها؛ فلم تكن السيولة خصماً معادياً بل أثراً من أثار الصلابة، وهكذا فإن
افتقار السائل السيال النضاح النزَّار إلى شكل محدد هو ما يستدعي جهود التبريد،
والتجميد، والقولبة؛ فإذا كان شيء يسمح بالتميز بين الحداثة في مرحلتي «الصلابة»،
و«السيولة» (باعتبارهما متتالية زمنية)؛ فإنه التغير في الأغراض الظاهرة، والكامنة
وراء هذه الجهود . *(13)
ويقول باومان :
صرنا ننظر إلى المراكز الصلبة، ونقبلها على
أنها الصُهارة الذاتية «حتى إشعار آخر» إنها أقرب إلى تسويات مؤقتة منها إلى حلول
نهائية، وهكذا حلت المرونة محل الصلابة بوصفها الوضع المثالي للتعامل مع الأمور،
والأشياء؛ فالأشياء الصلبة يمكن التعامل معها ما دامت تعدُ بأن تظل قابلة للذوبان،
وتمتثل إليه .
ينبه باومان على أن السيولة لا تساوي الفوضى
بمعنى انعدام ملامح النموذج أو تهاوي النسق؛ فقد استخدم باومان مفهوم الفوضى في
بعض كتاباته بمعنى أعمق يتفق مع المفهوم في عالم الفيزياء أى بروز نمط مغاير للنسق
السائد، والمهيمن، وفي الاجتماع الإنساني يعنى استعادة الإرادة، وإدراك قدرة
المجتمع الإنساني على تقديم بدائل حياتية تحدث تغييراً في الواقع، ويمكن من خلالها
استعادة إنسانية النموذج الحداثي .
.. وأكد باومان قدرة الإنسان على المراوغة مع
السيولة من خلال خلق صيغ من الأفعال اللا سيمترية، وغير المنتظمة، ولا المنضبطة،
ولكنها تتمكن من تشكيل بعض الجزر وسط السيولة، وتلك القدرة تتحدى الصلابة المهيمنة
في سياقات، وعلى مستويات أخرى، ووظف باومان هذا التصور في تحليله لسياسات المدن،
وعلم الاجتماع العمراني .
ويرى
باومان أن أزمة العلوم الإنسانية تتلخص في أن القواعد المعمول بها صارت تتغير
بوتيرة متسارعة لا تستجيب لها الهياكل الثابتة، وهذه الهياكل تراهن على «تسييل»
مساحات عديدة كوسيلة هيمنة، وتحكم؛ لذا فإن خلخلة الهياكل قد أصبح ضرورة لجني
منافعها، وأيضاً البحث عن ثوابت في مواجهة الميوعة، والسيولة، ومن هنا لابد من
إدراك تلك العلاقة الجدلية، والتفاعلية، والحية ليكتمل المشهد ويتضح تعقيده؛ فتبرز
قدرة الإنسان على تحديد مصيره، وتغيير عوالمة .
.. ويخلص باومان إلى أن :«السيولة هي
الصلابة الوحيدة، واللا يقين هو اليقين الوحيد» .
بينما ذهب ريتشارد سبنيت أحد علماء الاجتماع
من نقاد الحداثة إلى عكس ما ذهب إليه باومان بقوله : «أن الفوضي هنا ليس فعل هدم
بل صيغ مقاومة تتحدى المنطق السائد، وتقوم بتوليد استراتيجيات باتجاه الإصلاح،
والتجديد.».
نظرية
«التقاطع المعرفي»
Interdiscplinarity Theory
:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العصر الحالي هو عصر التغييرات على مختلف
الأصعدة (السياسية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ الفكرية ـ التقنية .. ألخ)،
والأسلوب التقليدي في البحث العلمي أمر غير مجد لأنه أسلوب قائم على المحاضرات
النظرية، والتلقين، والحفظ، والاسترجاع، واجترار المعلومات دون الاهتمام بالعمل الجماعي،
والتفكير الإبداعي، وتطبيق المعارف، وهو أسلوب عقيم عجزت معه «العلوم
الإنسانية» بصفة عامة في توصيف المشكلات، وطرح الحلول، ومواجهة الطغمة القادرة
على تحويل الاكتشافات إلى امتيازات بما يخدم مصالحها، ويحقق أهدافها، وكان لابد من
حث المهتمين بعلم الاجتماع على ضرورة إيجاد سبل بحث جدبدة، وكفيلة بامتلاك مخيلة
سوسيولوجية تساهم في تقدبم الحل .
.. وبدأ العقل البشري يفكر في نظرية جديدة
تساهم دوماً في إيجاد الحل لمشكلات الإنسان خاصة الفكرية منها؛ فقد شرع الإنسان في
إعادة التفكير من جديد في الدعوة إلى زيادة التخصصات، والإكثار منها، وإلى الدعوة
إلى تنسيق الجهود، و«التجسير» والمواكبة فيما بينها، وهذا ما سمح بظهور ما
يسمى بـ «الدراسات العابرة للحقول المعرفية Cross discplinary» أو «الحقول المعرفية
البينية Inter discplinary» التي تجمع بين العديد من الميادين
والمجالات، وتوصل الإنسان إلى ضرورة مشاركة الجميع في مواجهة عقباته التي تواجهه،
وتمنع عنه مواصلة المسيرة نحو التقدم، وهكذا نتج عن هذا الجو نظريات جديدة في ظل
التنسيق، والتعاون فيما بين التخصصات، وعلى رأسها نظرية «التقاطع المعرفي Interdiscplinarity Theory»
.
قبل
تحديد المفهوم الخاص بـ «التقاطع المعرفي» لا بد من الإشارة إلى أن «Interdiscplinarity Theory»
بالإنجليزية والفرنسية ليس لها ضبط دقيق، ومقابل في اللغة العربية إذ ورد بعدة
مفاهيم في اللغة العربية؛ فهناك من يستعمل لفظة «الدراسات البينية»، وهناك
من يستعمل «ما بين التخصصات»، وهناك دراسات أخرى حبذت مصطلح «التقاطع
المعرفي»، وارتأى البعض أنه الأنسب، والأكثر واقعية لكونه يحتوي على لفظ «المعرفة».
..
«التقاطع المعرفي»
لا يظهر إلا عندما تبدأ وجه االنظر المتعلقة
بالتخصصات، والاندماج؛ فالكل في الحقيقة ليس مجرد إضافات بسيطة للأجزاء،
ولكن السعي في تركيب أعلى فهو نتيجة لعمل إعادة بناء الواقع، كما يعرف أيضا على أنه عملية صياغة للمعرفة
التي تؤدي من خلال المناهج المتتالية إلى إعادة تنظيم جزئي للميادين، والمجالات
النظرية و«التجسير» و«المواكبة» بين فاعليتها.
.. ويرى البعض أنه يستخدم في العديد من
المعاني مبحثاً علمياً discpline يتم انشاؤها بطريقة منهجية من خلال
تجميع المعرفة، ووجهات النظر، وتقنيات العمل من مختلف التخصصات العلمية.
.. ويرى البعض أنه
عملية تتضمن تقاطعاً في التصورات، والمفاهيم التي لها علاقة بإعادة وسائل التحليل،
والتفسير من التخصصات الأخرى، وليس مجرد عملية مجاورة للمناهج بعضها بعضاً، ولكن
عملية ارتباط كاملة، وتامة بين العديد من التخصصات .
.. ومن
هنا يتضح حجم الاهتمام بـ «التقاطع المعرفي»، وكيفية النظر إليه؛ فالقضية
ليست مجرد إضافات بسيطة بقدر ما هي متعلقة، ومرتبطة بإيجاد طرق جديدة لفهم الواقع،
وكيفية التعامل معه؛ فـ «التقاطع المعرفي» لم يأت ليسد فراغات بسيطة في
حياة الإنسان بل هو ضرورة ألح عليها الواقع الإنساني؛ نظراً لتعقد حياته،
وتشابكها؛ وقد كان هذا ما يعني «التقاطع المعرفي»، والبحث في ضبط مفهومه .
***
.. حاولنا من خلال «التقاطع المعرفي»
تسليط الضوء على أزمة «الإنسان المكدود»؛ فالتبست عليه المعايير، واختلطت
المفاهيم مع ظروف مجتمعه بداية من «طرائق الخلل» بلغة الفكر الخلدوني في
نظرية : «إيماضة الخمود» أو «الذبال المشتعل» مروراً بعوامل الصهر،
والإذابة، والميوعة طبقاً لـ «نظرية السوائل» لزيجمونت باومان، ونظرية
توماس كوهن عن : «النمـوذج الإرشــادي أو الإطار الفكري ـ البرادايم Paradigm» في كتابه :(بنية
الثورات العلمية) بما يعني تغير في أفق التفكير دون أن يكون بالضرورة تغير في
العناصر المكونة للتفكير، والتي فرضت الأسس الإبستمولوجية للعلم نفسها في ضوء جديد
حددته، وألقت الضوء على أزمة العلوم الطبيعية بما انطوت عليه من مشكلات معرفية
ومنطقية، .. عرض توماس كوهن :
«أن العلم شهد تطورات دفعت مفكرين عديدين
إلى أن ينحوا نحواً غير وضعي في تناول فلسفة العلم خاصة أن الفلسفة الوضعية نزعت
إلى إغفال تاريخ العلم باعتباره غير ذي صلة بفلسفة العلم بناء على الاعتقاد بأنه :
«لا منطق للاكتشاف»،
وأن عمليات ملاءمة الاكتشاف العلمي، والتقدم العلمي هي موضوع تختص بدراسته علوم
أخرى مثل علم النفس أو الاجتماع أو غيرهما حيث أن فلسفة العلم مقتصرة على منطق
البحث فحسب، وأن عالم المنطق مهمته تحديد اللغة ضمانا لدقة، وتطايق الاصطلاحات،
وأن ما يعنيه هو البنية المنطقية لكل القضايا الممكنه التي تزعم أنها قوانين علمية
.
.. واعتاد فلاسفة التجريبية المنطقية النظر
إلى تاريخ العلم باعتباره أساساً مسجلاً لعمليات إزاحة تدريجية للخرافة، والهوى،
وغير ذلك من معوقات التقدم العلمي، وتتمثل عمليات الإزاحة في إضافات متزايدة
باطراد، وتوليف للمعارف العلمية الجديدة في إطار المبحث العلمي الخاص بها، .. وهذا
هو التفسير المألوف لتاريخ العلم، والذي أطلق عليه توماس كوهن وغيره «مفهوم
التطور عن طريق التراكم » .
يعتبر كتاب توماس كوهن بعنوان: (بنية
الثورات العلمية) من الدراسات المتمردة التي أثارت جدلاً ساخناً لم
يهدأ، واحتل الصدارة في جداول عدة مؤتمرات دولية معنية بتاريخ العلم، وصدرت دراسات
عديدة تركزت على نظريته ما بين تأييد أو معارضة لها أو توضيح لأثارها، وانعكاساتها
على مناهج بحث لفروع علمية متباينة، وبخاصة في العلوم الاجتماعية .
.. وكان من الصعب المرور على ما أحدثه
الرجلين «زيجمونت باومان ـ توماس كوهن) في تطور مسيرة الفكر الإنساني دون الإشارة
إلى تأثر المفكر المصري د . عبد الوهاب المسيري بكليهما، وبصمتيهما اللتين ظاهرتا
بجلاء في مؤلفاته، واللتين اعترف بهما صراحة؛ فهناك تأثر لا ينكره المسيري بفكر
زيجمونت باومان في أنموذجين أساسيين :
الأول : «الحداثة الصلبة» الذي هو «المادية
العقلانية الصلبة» في مصطلح المسيري .
الثاني : «الحداثة السائلة» التي هي «المادية
اللا عقلانية السائلة» في مصطلح المسيري .
يقع في إطار هذين الأنموذجين أنموذج فرعي ألا
وهو : «الجماعة الوظيفية» التي يشير إليها باومان
بعبارة Servant Group الجماعة الخدمية أو
الجماعة الوسيطة Inrermediate Group
أما المسيري فيترجمها إلى الإنجليزية بعبارة الجماعة الوظيفية Function Group
استناداً إلى مصطلحات قريبة في علم الاجتماع الغربي .
كرس كل من باومان، والمسيري جهدهما النقدي
لكبح غرور العلمانية، وتضمن جهدهما النقدي
دعوة إلى تأسيس علم جديد تحت اسمين مختلفين، وإن كان الهدف واحد : «السوسيولوجيا
النقدية» لباومان، و«فقة التحيز» للمسيري.
كما أن العلاقة الفكرية بين توماس كوهين،
والمسيري تبدو جلية في مفهوم كليهما للمجاز، فقد كان لتوماس كوهن الفضل في إدراك
العلاقة المعقدة بين الحقيقة، والواقع أو بين العلم، وإدراك العالم، والتي كشف عن
تضمينات مهمة عندما ظهر كتابه بعنوان :«بنية الثورات العلمية»*(14)،(15)،
وهي تضمينات لها أهمية بالغة في التحليل المجازي عند المسيري، وباومان .
يرجع الفضل إلى توماس كوهين في انتشار
مصطلحين هامين هما «الأنموذج Paradigm»، و«تحول الأنموذج Paradigm Shift»،
والافتراض الرئيس الذي يطرحه توماس كوهن يقول أننا لا نستطيع التعامل مع العلم على
أنه مجرد تراكم متزايد للمعلومات، والحقائق، لأنه يعتمد في الأساس على سلطة
المجتمعات العلمية التي تحاول فك ألغاز وفق أنموذج حاكم (مجموعة من الافتراضات
المنهجية، والنظريات المتشابكة) تتبناه مجموعة من العلماء، وعندما تهتز ثقة
العلماء بهذا الأنموذج الحاكم تظهر الأزمة، والتناقض داخله بما يعني ضرورة «تحول
الأنموذج».
يستخدم المسيري مصطلح الأنموذج في الأغلب
الأعم للإشارة إلى أداة تحليلية، ونسق كامن يدرك الناس من خلالهما عالمهم،
ويشكلونه، ولا يستخدم الأنموذج مرادفاً للعالم أو الواقع لأن الأنموذج ليس وجوداً
عيانياً لكنه نتاج صورة عقلية، ونسق فكري، وبنية تصورية مجردة، وتمثيل رمزي
للحقيقة .. كان المسيري يعي أن استخدام الأنموذج ينطوي على إبراز مصطلحات من قبيل «النسق»،
و«البنية»، وأن الانموذج صورة عقلية، أو خريطة إداركية يجردها عقل الإنسان
من عدد هائل من العلاقات، والتفصيلات، والحقائق، وتنطوي هذه العملية بالضرورة على
الإقرار بأن عقل الإنسان ينخرط في عملية جدية من الإدراج، والانتقاء، والاستبعاد
من أجل صوغ النمط التصويري العام؛ ليكون تفسيراً مقبولاً لنص أو ظاهرة أو موقف ما،
ويلجأ المسيري في تعريفه الأنموذج إلى استخدام كلمة «إدراكي Cognitive» مرادفا لكلمة «معرفي Epistemological»، فيعرف الأنموذج بأنه:
« رؤية تصويرية أو خريطة معرفية يجردها عقل
الإنسان (بشكل واع أو غير واع) من الوقائع، والحوادث التى تقع له، والظواهر التى
يرصدها، والدراسات التي يقرؤها.» .
الخرائط الإدراكية :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تعد الخرائط الإدراكية أحد أساليب الهندسة الاجتماعية لسلب الإرادة
والتضليل المعلوماني، والتلاعب بالوعي بهدف منع الشعوب من التصرف أو ممارسة ردود
أفعال خارج السيطرة، ودفعها إلى تقبل كل الأفعال، والتصرفات التي يقوم بها طرف أو
جهة ما في إطار ما يسمى بـ «الإشباع البديل»، وهو إشباع متوهم، وليس إشباع
حقيقي يتم عمله بطريق الخداع في إطار «ضبط المجتمعات».
تسعى بعض الأنظمة القمعية إلى تنميط الخرائط
الإدراكية، وإعادة تشكيل الأنظمة المعرفية للشعب بغية الوصول إلى مجتمع متجانس في
تصوراته يتكون من نماذج نمطية متشابهة تعطي الاستجابات نفسها تجاه متطلبات النظام،
من الأساليب الرائجة في تعديل الخريطة الإدراكية، والتلاعب بالوعي صناعة المشاهد
الرمزية الاختزالية التي تقدم للجمهور معرفة زائفة، وشعوراً وهميا،ً وتصور بعيد عن
الواقع، وهذا المشهد الاختزالي يتسم بقدرته على البقاء، والالتصاق بذاكرة المشاهد
كما أنه سهل الاستدعاء كلما جاء ذكر للقضية المرتبطة بها، ولو افترضنا أننا نريد
أن نجري اختباراً حول أكثر المشاهد ارتباطاً بقضايا ساخنة، سنجد أن تلك المشاهد
الرمزية هى الأقرب للاستحضار الذهني؛ لإنها أشبة ببطاقة تعريف ترتبط مع القضية
المتعلقة بها في أرشيفات الذاكرة .
.. أحيانا ينتج عن التلاعب الادراكي خلل
داخل النظام الإدراكي؛ فيؤتي نتائج عكسية وينقلب السحر على الساحر .
***
تأملت طويلاً الصورة المجازية لـ «الإنسان
السائل» التى طرحها باومان، وغيره من العلماء بصيغ مختلفة كل بلغة
عصره، ومفاهيم زمانه، ولكني ارتأيت من منطلق الأمانة الفكرية، والعلمية أننا قد
تجاوزناها إلى ما هو أدنى، وأسوأ، وأبشع من حيث «الفقر الإنساني»، ومن هنا
جاء توصيفي لحالة ما أسميته بـ:«الكائن السائل»*(16)
الذي يشبه الزومبي المعاد إلى الحياة
بأسلوب الخداع، او الفيروس العالق بجدار الخلية البشرية في منطقة وسط بين الموت
والحياة يحقنها بالشر، والأذى، والخلل، وبرامج الموت، بمعنى أنه يمارس «العنف
الأناني» بشكل غرائزي في ظل انعدام الردع القانوني، وضعف أليات الضبط
الاجتماعي!!
***
طرقنا
أبواب التخصصات العلمية المختلفة، عسى أن نجد حلاً في ظل أزمة العلوم الإنسانية
حيث أن علم الاجتماع في البلاد العربية يمر بلحظة فارقة من وضع التخلف، والتبعية،
والانطباعية، والوصولية، وخدمة الأيدلوجيات الإستعمارية، والأفكار التي تطرحها
المؤسسات العالمية، والشركات المتعددة الجنسيات، وينساق ورائها علماء الاجتماع
العرب في بحوثهم، وقد اتسمت تلك الابحاث في بعض جوانبها بالسطحية؛ مما جعل أكثر
التوصيفات النقدية واقعية، وصدقية بصدده ما ذهب إليه أحد كبار الباحثين من وصف له
بحالة «اللا وظيفية»، والتي تتمثل في فقدان منهجية العلوم الاجتماعية
لأدوارها العلمية، والعملية، والنابع من فقدان الإطار السائد لدوره، ووظيفته،
وقدرته العلمية، الأمر الذي يفرض ضرورة التحول إلى إطار آخر، وحدا بالكثيرين
للتساؤل: هل هو علم اجتماع للناطقين بالعربية؟!! أم علم يدرس مشكلات المجتمعات
العربية لحساب الرأسملية الغربية؟!!، .. أم علم ينقل الإرث السوسيولوجي الغربي إلى
اللغة العربية إسهاماً في خلق «مجتمعات سائلة»، وإشاعة نموذج «الإنسان
السائل»، و«الثقافة السائلة»؟!!
.. حاولنا «التجسير، والمواكبة» فيما
بين العلوم المختلفة من خلال «الدراسات العابرة للحقول المعرفية Cross discplinary» أو «الحقول المعرفية
البينية Inter discplinary» التي تجمع بين العديد من الميادين،
والمجالات في ظل تشوهات ملامح العمران في المدينة العربي، والتلوث البصري في
المجال البصري الواسع في القاهرة، ودمشق، وبغداد، وصنعاء، وطرابلس، .. وحالة
الارتباك اللساني الحافل بنتوءات لفظية تعبر عن سياقات اجتماعية مختلة، و«معانى
فارغة»، وتعابير خالية من الدلالة تدعم مناخ التدهور الثقافي الغير قادر على
إنتاج ثقافة تدعم الهوية، وتمثل درعاً واقياً في مواجهة التغيير القادم من الخارج،
ويتمثل في المجتمع «المحكوم بالوسائط Mediated Society»،
و«الفردية الشبكية» اللذان يمثلان
حالتان من العلاقات، والمشاريع ذاتية التوجيه التي أصبحت أدوات تحولية للأشكال
الجديدة للمجتمع الكوني!!
***
.. أزمة خلَّفها عمران لا يتكلم بلسان أهله،
وحالة الارتباك اللساني، والانحطاط الثقافي، وانهيار «الأسرة الممتدة» بما
تمثله من العزوة، والغلبة، والعصبية واللُحمة، والقدرة على إنتاج ثقافة قادرة على
المواجهة، وتحمل قيم ضاربة في عمق التاريخ مثل الشرف، والكرامة، والإرادة،
والنخوة، والنجدة، وحلت محلها «الأسرة النواة» التي تمر الأن بطور التقلص،
والانكماش لتحل محلها «الأسرة التوليفة» أو «الأسرة المؤتلفة» أو «الأسرة
النواة بالمعاشرة» نتيجة ارتفاع معدلات الطلاق أو تكرار الزواج، أو الإنجاب
خارج شرعية الزواج نتيجة الترويج لـ «العلاقات العابرة» أو «علاقات
الجيب العلوي» أو «التواعد عبر الانترنت Cyber - Dating» أو «الجنس عبر الانترنت Cyber sex»
باعتباره أمر متعلق بـ «سيميولوجيا الصورة المرئية» بوصفها إبهاراً بصريا
يداعب الغرائز من حيث الشكل، والتقنية، وهو ما يجعل منها علامة بصرية منتجة
للدلالة، تقوم بالفعل، وتحث على فعله بما يسهم في تفريغ الكبت الغرائزي، وصناعة «الإنسان
السائل» و تخليق نمط مزاجي يطلق زيجمونت باومان:«الحب السائل»!! .
..
أطلق باومان مصطلح السيولة بشكل كبير بما يعني الصهر، والميوعة، والإذابة في كل
مؤلفاته التي عرفت فيما بعد بـ «سلسلة السيولة» ليوصل للقارئ حالة الإنسان
في ترديه كحالة المادة المائعة السائلة التي لا تعرف ثباتاً؛ لأن المعنى قد غاب،
وأن الإنسان أصبح أسير الخوف الدائم، وأن عليه التدريب المستمر على الاختفاء،
والذوبان، والانسحاب، والرحيل !! والجري وراء الفردية التي خلفتها الحياة السائلة
بحيث تراجعت الجماعة كما ان نظامها المناعي الذي كان يحميها من المشكلات صار مشكلة
في حد ذاته؛ فحالة الأشياء صارت حالة من صنعنا؛ فأضحى المجتمع «جماعة متخيلة Virtual group»
بمعنى أن المجتمع أصبح ظرف اجتماعي استغنى عن الخيال في خدمة الفحص الذاتي، وأصبح
المجتمع نافضاً يدية من العلاقات بين الأشخاص، وهو ما يسمى بـ «عالم التفاعل
المباشر بين الأفراد» الذي تبرز فيه الفردية، وتتشكل في التعاملات اليومية،
وتعزز الاختيار الحر الوهمي فقط!!؛ فالجري وراء سراب الفردية يستحوذ على الناس
بحيث لا يجدون وقت للراحة والاسترخاء.
..
والله الموفق والمستعان
ياسر
بكر
الأسكندرية
ـ ا يناير 2022
الفصل
الأول :
ـــــــــــــــــــــــ
الأنمـوذج الإرشـــادي
«البرادايم Paradigm»
** النموذج الكامن وراء معظم الأيدلوجيات
العلمانية الشاملة (النازية ـ الماركسية ـ الليبرالية ـ الصهيونية) هو ما يسمى بـ
«التطور أحادي الخط Unlinear» أي الإيمان بأن ثمة قانوناً علمياً، وطبيعياً
مادياً واحداً للتطور تخضع له كل المجتمعات والظواهر، وأن التقدم هو في الواقع
عملية متصاعدة من الترشيد المادي أي إعادة صياغة الواقع الإنساني في إطار الطبيعة
/المادة؛ فتستبعد كل العناصر الكيفية، والمركبة، والغامضة والمحفوفة بالأسرار بحيث
يتحول الواقع إلى مادة استعمالية بسيطة، ويتحول الإنسان إلى كائن وظيفي أحادي
البعد One - Dimensional Man، والتطور أحادي الخط تمثل قمته
الحضارة الغربية الحديثة التي مثلت حالة فريدة من «المركزية» أي من الإفراط في
التمركز حول الذات، وكانت الأكثر جبروتاً، وتمدداً، وشعوراً بأن من حقها ذلك، وقد
وصل الأمر ببعض رموزها الفكرية إلى التنبؤ قبل عقدين من الزمن بالوصول إلى «نهاية
التاريخ» عبر التبشير بالانتصار النهائي، وتأبيد الديمقراطية الليبرالية للبشرية،
.. وعمدت المركزية الأوربية إلى تثبيت فكرة «الغرب الأبدي» المضاد لـ «الشرق
الأبدي» من أجل تأكيد عناصر التطور المستمر في الغرب، وغلبة عناصر الثبات، والجمود
في الشرق .
.. لم تقدم «المركزية الأوربية»
رؤية للعالم فقط بل قدمت مشروعاً سياسياً استعمارياً جناحيه : الخريطة، والبارود
من أجل تعميم النموذج الأوربي الفكري، والاقتصادي، والسياسي في إطار من تعميم
نموذجها التفسيري للعلوم الاجتماعية.
.. ودون فهم لإشكالية ما قبل
المنهج بمكوناته (اللغوية، والثقافية، والدينية والأيدلوجية، والتاريخية،
والقيمية)، الذي يعد أمراً ضرورياً لفهم المنهج وتفعيله؛ لأنه يمثل المستوى الأول
للمنهج (الباراديم)، والذي يسهم بدوره في تحديد رؤية الإنسان والعالم .
..
بما جعل النتائج الواقعية لهذه المركزية الأوربية تحمل بعداً واحداً هو : أنه ليس
هناك سوى حضارة واحدة هي المتغلبة والسائدة، وأنها تقوم بملء الفراغ الناتج عن
غياب أو تدهور الحضارات الأخرى، والتي يراها الغرب تتناوب، وتتعاقب، ولا تتحاور،
وقد أدت هذه المركزية الأوربية إلى إضعاف مساهمة الحضارات الأخرى، لتكون في أحسن
الأحوال هامشاً على متن المساهمة الأوربية، والذي كان يشار إليه تحت مُسمى : «تأسيس
مدارس عربية في العلوم الاجتماعية .».
.. كان المنطق الغربي عدوانياً،
ومتغطرساً، ومعوجا؛ً فالتعددية الحضارية حقيقة تاريخية عرفها تاريخ البشرية؛ وإن
كانت المركزية الأوربية نتاج الحضارة الغربية التي ما زالت سائدة في النواحي
المعرفية والمنهجية، ولكن على المستوى النظري يجب الإقرار بأن منطق التعدد الحضاري
يستلزم القبول بمنطق تعدد الأطر المعرفية، والمنهجية في العلوم الاجتماعية؛ حيث
لكل حضارة تصوراتها، ومناهجها، وعلومها الاجتماعية .
.. إن النظرة المنهجية لأية
حضارة تبدأ من اكتشاف رؤيتها للعالم، وللحياة وللعلم، وبشكل عام رؤيتها الشاملة
حيث لا ينفصل «المادي» فيها عن الجانب «الثقافي» كما لا ينفصل مضمونها المعرفي عن
طريقتها المنهجية، وأساليبها البحثية في علومها الاجتماعية والإنسانية، ومن ثم
يترتب على قبول التعددية الحضارية :
أولاً
: عدم قبول احتكار نموذج معرفي معين لتحديد معيار «العلمية»، ووصف النماذج
الأخرى أنها «ضد ـ علمية»، وإلقاء نتائج دراساتها في دائرة الخرافة، والميتافيزيقا
.
ثانياً : عدم قبول زعم نموذج معين لـ «العالمية»،
والقول بمقدرته التفسيرية لكل الظواهر الاجتماعية، والسياسية، وأنه النموذج
القياسي الإرشادي «الأوحد» الذي يجب أن تتبعه المعرفة لكي تكون معرفة علمية .
..
ومنذ صدور كتاب توماس كوهين بعنوان : «بنية الثورات العلمية» الذي جاء إضافة في
عوالم البحث العلمي؛ يشير توماس كوهن إلى
أن: «وظيفة النموذج القياسي الإرشادي اختيار المشاكل التي يمكن افتراض وجود حل
لها طالما ظل النموذج الإرشادي مسلماً به، وطالما قبل المجتمع، والجماعة العلمية
بها، واعتبرها مشكلات مقبولة، أما المشكلات المعيارية فإنه يكون نبذها باعتبارها
ميتافيزيقية، ولا تستحق إضاعة الوقت معها .» .
..
ركز كوهين في كتابه على الطبيعة الجمعية للنشاطات العلمية التي اسماها بـ «المتحد
العلمي» أو «المتحد الاجتماعي» مؤكداً أن العالم الفرد لا يمكن اعتباره
ذاتاً كافية للنشاط العلمي، وانتهى كوهن إلى نتائج بعيدة المدى ابستمولوجية،
ومنهجية، وكان كوهن لا يرى أن هناك تنقلات منطقية بين النماذج الإرشادية المنفصلة
إذ يشبهها بعوالم مختلفة يعيش فيها الباحثين .
.. وأن النماذج الإرشادية غير
قياسية إذا ثمة انقطاع أو قطيعة بين المفاهيم النظرية الآساسية المختلفة في العلم،
ومن ثم فإن حركة العلم أو لنقل النظريات العلمية، أو النماذج الإرشادية الجديدة
ليست نتيجة منطقية، ولا تجريبية للنظريات السابقة عليها؛ .. إنها لا قياسية
وحقائقها نسبية، وفي كل حقبة علمية أو مع كل ثورة علمية تكون السيادة لنموذج
إرشادي له الغلبة، والنماذج الإرشادية في التاريخ الواحد مختلفة عن بعضها اختلافاً
أساسياً، وتحل بعضها مكان بعض على مدى مسار التطور التاريخي للمعرفة العلمية .
.. ورفض كوهن رأي الوضعية المنطقية في اعتبار
بنية النظريات العلمية نسقاً من العلاقات الشكلية الخالصة لأبنية لغوية إذ يرى أن
نسق النظرية غارق، ومنغمس في مخططات معرفية هادفة تحدد كلا من طابع، ومسارات كل
تطور جديد للنظرية، وكذا أسلوب تحديد التجارب وتفسيرها .
كان أخطر ما وجهه المفكرون من
نقد لنظرية كوهن يتعلق بتعريفه للمنهج العلمي، وومعايرة الخاصة بالتمييز بين
العلم، وغير العلم على نحو أوقعه في تناقضات منطقية في تطبيقه لهذه المفاهيم؛ ذلك
أن كون يساوي بين مناهج بحث الأقدمين والمحدثين حتى وإن تعارضت، وعلى الرغم مما يراه
انقطاعاً بين النظريات في التاريخ، .. ومنهج كوهن هذا يفضي كما يراه منتقدوه إلى
نسبية المعرفة؛ فـ «كل معرفة صحيحة قياساً إلى نسقها، وبالنسبة إلى نموذجها
الإرشادي دون معايير للحكم على الصواب أو الخطأ»، ويفضي هذا المنهج أيضا إلى
التهوين من شأن التحليل العلمي كمعيار حاسم في البحث العلمي .
.. وما دام الرأى عند كوهن أن
نظريات أرسطو وبطليموس ونيوتن وأينشتين نظريات علمية على قدم المساواة؛ فليس
غريباً أن يظل الباب مفتوحاً، ولو نظريا حسب منهج كوهن لاحتمالات عودة نظرية قديمة
لتحل محل أخرى جديدة طالما أننا لا نملك المعيار .
.. بهذا الطرح كان لتوماس كوهن
الفضل في إدراك العلاقة المعقدة بين الحقيقة، والواقع أو بين العلم، وإدراك
العالم، والتي كشف عنها في تضمينات مهمة في كتابه : «بنية الثورات العلمية»،
وهي تضمينات لها أهمية بالغة في التحليل المجازي عند المفكر المصري د. عبد الوهاب
المسيري وعالم السوسيولوجي الإنجليزي باومان اللذين يمكن فهم المواقف النقدية التي
يتبناها كلاهما (باومان وعبد الوهاب المسيري) في إطار الثورة على هيمنة العلوم
الوضعية منذ القرن التاسع عشر، وهو نفس الموقف الذي يتبناه الفيلسوف الألماني الأمريكي
إرك فوجيلين الذي يؤكد أن ازدهار العلوم الطبيعية المنفصلة عن القيمة أدى إلى
الآعتقاد أن هذه العلوم تمتلك «فضائل كاملة» .. كانت الأنطولوجيا هي كبش الفداء؛
وبناء عليه لم تعد الأخلاق أو السياسة من طبقة العلوم التي تحقق فيها الطبيعة
الإنسانية .. يذهب فوجيلين أن كل تحليل من توجة أنطولوجي يبقى تحليل غير علمي لأن
علم السياسة يتجاوز صحة المقدمات، والافتراضات إلى حقيقة الوجود نفسها .
في العقد الأخير من القرن
العشرين كرس المسيري جهده في تحليل فكرة التحيز المعرفي بإصدار مؤلفين الأول
بعنوان : «إشكالية التحيز» في سبعة مجلدات جاء المجلد الأول بعنوان : «فقة
التحيز» شرح فيه المسيري «ديناميت التحيز»، وأسطورتي «الموضوعية»،
و«الذاتية» إذ استبدل المسبري مصطلحي «الموضوعية» و«الذاتية»
بمصطلحي «أكثر تفسيرية» و«أقل تفسيرية» جاعلاً من التأويل عملية
اجتهاد مستمرة، ويرى المسيري أن فقة التحيز علم لا يسعى إلى التحكم التام بالظواهر
الإنسانية، ولا يتخلى عن الأبعاد الأنطولولوجية، والمعرفية للمجاز .
تقترب رؤية المسيري من رؤية
باومان إلى حد كبير إذ يؤمن باومان بأن التحدي الذي تمثله الهيرمينوطيقا للعلوم
الاجتماعية يتمثل في مشكلتين أساسيتين : الإجماع، والحقيقة، وتؤسس العلوم الوضعية
التزاماً متجرداً غير متحيز للحقيقة، وتستأصل أى التزام يتجاوز البعد العلمي،
ويعتبره ينتمي إلى عالم اللا واقعية، والتخييل، والفانتازيا، والنزعات الطوباوية،
وأن نجاح العلوم الوضعية يعود إلى فصل الخطاب العلمي، والخطاب الأخلاقي، والخطاب
الجمالي؛ فالانبهار بالحقائق العلمية الموضعية الصلبة، ورفض باومان رفضاً قاطعاً
هذه «الإبستمولوجيا الوضعية الضيقة» أو «الإمبريالية الوضعية» ووجهه
سهام نقده إلى «التكنولوجيا المحايدة Technology-Neutral»، و«سلطة المصالح الأداتية» التي تعزز
الانفصال الدائم بين الذات والموضوع، والمتحكم والمتحكم به، والمخضع والخاضع؛
فالتكنولوجيا لا يمكن أن تكون محايدة .
يرى د . حامد عبد الماجد قويسي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة قطر: أن الوعي بإشكالية المنهج يتحقق على ثلاث
مستويات:
المستوى الأول للمنهج :
باعتباره طرق البحث، وخطواته؛ فالمنهج هو الطريق المؤدي للاقتراب من الحقيقة عبر
الالتزام بمجموعة من القواعد التي يسترشد بها العقل البشري للاقتراب من حقيقة
الظواهر موضع الدراسة، وبعتمد المنهج مجموعة عمليات يقوم بها الباحث من وصف
الظاهرة، وتحليلها، وتفسيرها، والتنبؤ بمسيرتها، ومآلاتها، وتقييمها، والتحكم
فيها، ويتطلب هذا تحديد خطوات التعامل مع المشكلة البحثية، والفروض، والمتغيرات،
والمقاييس، وغيرها، والتي تحدد عملياته وصولاً إلى نتيجة معينة بمعنى آخر فإن
المنهج مجموعة الخطوات والقواعد المنطقية المنظمة .
المستوى الثاني للمنهج: يتعلق بالوعي
بالمنهج باعتباره أساليب البحوث وأدواتها وإجراءاتها؛ أى الوعى بالمنهج من حيث
كونه مجموعة الأدوات البحثية الكمية، والكيفية لجمع البيانات، والمعلومات
الميدانية التي يتم تنظيمها، ومعالجتها، وإخضاعها لإجراءات معينة بأساليب محددة،
وبهذا المعنى فإن المنهج هو الوسائل أو الدواب التي يمتطيها الباحث على الطريق
لغرض الوصول إلى هدفه ومبتغاه، ومن بين هذه الأدوات نجد الملاحظة، وتحليل المضمون،
والاستبيان، والمقابلة .
المستوى الثالث للمنهج:
ويرى د. قويسي أن من الضروري إقامة تمييز بين المستوى الأول، والثاني للوعي
بالمنهج (Method) تمييزاً له عن المستوى الثالث المتمثل في
المنهجية (Methodology)، والذي يراه موضع الإشكالية، والاختلاف في
تأويل المنهج، ويقدم مفتاح «الحلول» العلمية لها، والذي يتمثل في الباراديم paradigm أو
الإطار السائد في العلوم الاجتماعية الحديثة إذ لا يوجد تحديد علمي دقيق لمفهوم
الباراديم الذي قدمه توماس كوهن في دراسته حول بنية الثورات العلمية، وتتنوع
التعريفات المتداولة من «النموذج القياسي» إلى «النموذج التفسيري»،
و«الإطار المعرفي الفلسفي»، وغيرها، ودون الدخول في جدل المسميات سنحاول
قدر الإمكان الإمساك بالمضمون، والدلالات حيث يتضمن الباراديم أو الإطار السائد في
العلوم منهجياً مجموعة من النظريات الكبرى، والأطر النظرية، والمفاهيمية،
والنماذج، والاقترابات العلمية، وغيرها، وتحدد وظيفة الإطار السائد أو الباراديم Paradigm .*(1)
«اطروحات السوائل»:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان البعض يرى زيجمونت باومان صاحب نظرية اسموها «نظرية السوائل» تمثلت
في العديد من مؤلفاته التي حملت نفس الاسم، والمعروفة بـ «سلسلة السيولة
المدونة في كتب الفقة الاستراتيجي»، لكن باومان نفسه يرى أن تلك الأطروحات لم
تبلغ في دقة بنائها حد النظرية !!
كان باومان ضالعاً في العديد من
المرجعيات العلمية بحيث أن حضوره لم يقتصر فقط على علم الاجتماع بل كان من
المناهضيين لسياسة الانفراد بالتخصص، والتوغل فيه دون الاطلاع على ما لهذا التخصص
من تقاطعات ضرورية مع التخصصات الأخرى، وكان يرى أن علم الاجتماع لن ينمو، ويتطور،
ويزدهر إلا إذا نزل من السجن الانفرادي (التخصص) ـ على حد نعبير باومان
ـ إلى الساحة المشتركة للعلوم حيث يجد
نفسه متقاطعاً مع باقي التخصصات .
باومان يعتبر شخصية رئيسية
في علم الاجتماع الأوروبي، ويهيمن على عمله القلق الناجم عن تعاقب الأزمات
السياسية، والاقتصادية، والأخلاقية التي تؤثر على مجتمعاتنا المعاصرة من التكلفة
البشرية للعولمة إلى الأخلاق، وتحييد الآثار الأخلاقية للأفعال البشرية، وتوابع
عالم المستهلك، ويحمل عمله تشخيصاً للأوجاع الحاصلة دون السماح لنفسه بالوقوع في
أُطر «النظـــرية»، وذلك من خلال تنويع التفسير، والانخراط في حوار مستمر مع
العلماء والمفكرين.
كان بعض علماء السوسيولوجيا يرى أن المجتمع
الحالي أصبح سائلا في قيمه، وعادته، وتقاليده، وثقافته، وتربيته، ودينه، وتاريخه،
وهذا مضمون ما يفترض كونه نظرية «السوائل» لباومان في علم الاجتماع التي
مكنته، وأجبرته أن يكون متقاطعاً معرفياً أى يستعين بالتخصصات الأخرى؛ فقد أخذ من كل ميدان شيئاً، وركبه مع ميدان آخر
ليوصل لنا رسالة أن المجتمع الحالي مجتمع خطير سائل قريب من الانهيار؛ فبعد إطلاعه على الاقتصاد وجد ان الناس يجتهدون
في الاستهلاك أكثر من الإنتاج، وهذا ما يسميه بـ «النزعة الإستهلاكية»، وهو
ما يطلق عليه ابن خلدون :«عوارض الترف والغرق في النعيم» المؤذن بخراب
العمران .
.. وبعد اطلاع باومان على
التاريخ وجد أن الناس يعتقدون أموراً لكنها في الحقيقة كذب وبهتان، تصدى باومان
لخدعة القرن العشرين «الهولوكست» .. عاد باومان للأحداث التاريخية،
ودراستها دراسة تفصيلية؛ فلم يكترث بصحة الأرقام، والضحايا، ولم يهتم بإحصاء عدد
المعسكرات، ولم يجمع الخرائط التى تحدد مواقع الإبادة بل أجتهد في دحض الأسطورة
السائدة في الفكر المعاصر، والتي تروج لها إسرائيل من منطلق أنها حادثة أقر بها
هتلر ضد اليهود .
.. ليصل بنا باومان إلى ما
أسماه «معاناة إنتاج المعنى»، ويكشف أن «الهولوكست» من نتاج الحداثة
الغربية ليس إلا، والدليل على ذلك أن هناك يهود شاركوا في المحرقة، وبالتالي فـ «الهولوكست»
قضية سيادة «الحداثة» آنذاك .
الحقيقة الثانية التي أكدها
باومان أن :
ليس كل تاريخ يبقى ثابتاً مثل
ما تعودنا عليه، وأن هناك مغالطات وضعت لأغراض محددة يعلمها صاحبها، وعليه فإن
الجانب التاريخي عنده يُظهر أنه رجع إلى التاريخ، وأخذ منه غير أنه لم يتناوله
باعتباره حدثاُ تاريخيا يتم سرده بل مزج معه جانباً نقدياً؛ مما أضفى على حادثة «الهولوكست»
ـ على سبيل المثال ـ أبعاداً متنوعة لم تقتصر فقط على بعد واحد .
نقد باومان للتاريخ يشعرنا
أننا أمام ابن خلدون آخر حيث دعا ابن خلدون في مقدمته إلى النظر، والتفكير في نقل
الأخبار، والرواية، وعدم الثقة بالناقلين، والتعديل، والتجريح، والاطلاع على
الأحوال، والوقائع في العمران .
وهو ما يصفه ابن خلدون
بقوله :
«وكثيرا ما وقع للمؤرخين،
والمفسرين، وأئمة النقل من المغالط في الحكايات، والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد
النقل غثاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها
بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر، والبصيرة في الأخبار؛
فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولا سيما في إحصاء الأعداد من
الأموال، والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب، ومطية الهذر، ولا بد من
ردها إلى الأصول، وعرضها على القواعد ..».
كان تزييف التاريخ، والترف
نقطتي الالتقاء بين باومان، وعالم الاجتماع العربي ابن خلدون حول «خراب
العمران»، و«انهيار المجتمعات» حسب ظروف المجتمعات، واختلاف التسميات.
«الأيقنة»:
ـــــــــــــــ
يصف المفكر المصري د. عبد الوهاب المسيري عمليات
تزييف التاريخ بـ «الأيقنة»، و«الأيقنة» تعني إلغاء المسافة بين
الدال والمدلول، إلى أن يصبح الدال مدلولاً ملتفاً حول نفسه، ولا يشير إلى شيء
خارج ذاته، وحالة «التأيقن» الكاملة هي حالة الالتفاف حول الذات بحيث لا
يشير الشيء المتأيقن أو الأيقونه إلى أي شيء خارجة؛ فهو مرجعية ذاته، ولا يشير إلا
إلى ذاته؛ فمركزه، ومصدر وحدته، وتماسكة تكمن داخله*(2)، وهو ما يصدق بجلاء على التاريخ الصهيوني
في تناوله لـ «المسالة اليهودية» .
يرى د. المسيري تزييف
التاريخ أنه :«عزل للوقائع التاريخية عن سياقها، وإطارها بحيث تصبح ظواهر غير
تاريخية، ولا تنتمي إلى أى نمط، ويوظفها المستفيدون بالطريقة المناسبة لهم، والتي
تخدم مصالحهم، وهو ما يطلق عليه مُسمى : «الأيقنة» أي التحول إلى «أيقونة»
يتعبد الإنسان أمامها لأنها أصبحت موضع الحلول، والتأليه أو صارت إله أى تصنم !! .
«الإنسان السائل»
في الفكر الخلدوني :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
لاشك أن هناك ارتباط بين ما
أسماه باومان : «سيولة الإنسان»،
وما أسماه ابن خلدون بلغة عصره : «طروق الخلل» التي تصيب صلابة
الإنسان، ولحمته التي عبر عنها ابن خلدون بـ «الشوكة والعصبية»
أي القوة، والتضامن الجمعي «النبالة»، و«طرائق الخلل»هى تلك الأساليب
التي تنذر بالهلاك، والانقراض إلى الركون إلى الراحة والنعيم، والأخذ بمذاهب
الملوك في المباني، والملابس، والاستكثارمن ذلك، والتأنق فيه بمقدار ما حصل من
الرياش، وما يدعو إليه من توابع ذلك، وذهاب خشونة البداوة، وضعف العصبية،
والبسالة، والتنعم في البسطة، والترفع عن خدمة أنفسهم، وولاية حاجاتهم، ويستنكفون
عن سائر الأمور الضرورية في العصبية حتى يصير ذاك خلقاً لهم، وسجية؛ فتنقص
عصبيتهم، وبسالتهم في الأجيال بعدهم، وعلى قدر ترفهم يكون إشرافهم على الفناء؛ فإن
عوارض الترف، والغرق في النعيم كاسر سورة العصبية التي بها التغلب، وإذا انقرضت
العصبية قصر القبيل عن المدافعة، والحماية فضلاً عن المطالبة، والتهمتهم الأمم .
.. و يكون العدوان على الأموال
من أجل سداد نفقات الترف التي لا تستطيع العوائد المعتاة للدولة تغطيتها، ومن هنا
تشتد الحاجة إلى أموال الناس، وهنا يلعب العامل النفسي دوراً مهماً في تحليل اين
خلدون : «إذ ليس الترف سوى الرغبة في الاستمتاع بمقادير هائلة من اللذة كنمط
ثابت للحياة.».
موقف ابن خلدون من الترف، والإسراف يُظهر
تكوينه الفكري بصفته فقيه مالكي المذهب من التقسيم الشائع لمستويات الحياة في
الفقة الإسلامي إلى ضروري، وحاجي، وتحسيني كما يوضحه الشاطبي في كتاب (الموافقات)،
ويتعلق المستوى الضروري بما لا بد منه من أمور لوجود الحياة الإنسانية، واستمرارها
في حد ذاتها كالدين، والعقل، والنفس، والثروة، والنسل، ومن دونها تنعدم الحياة
الإنسانية أما الحاجي فيتصل بمستوى أرقى من الأمور يحتاجها الإنسان لإزالة المشقة،
والعنت من حياته، وتحقيق اليسر، والسعة فيها؛ ولذا لا يقود فقدانها إلى اختلال أو
انعدام الحياة بل لأن تصير أكثر صعوبة، وغلظة، وأخيراً يرتبط التحسيني بتلك الأمور
الكمالية الزائدة التي تضفي متعة وسرورا، ولا يؤدي فقدها بطبيعة الحال إلى الإخلال
بما هو ضروري أو حاجي .
«الظلم مؤذن
بخراب العمران» :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
يبين ابن خلدون من خلال تجسيده لفن التنظير السياسي الذي سبق إليه
الكثيرون من خلال الميدأ : «الظلم مؤذن بخراب العمران»، ولحمه بأرائه في
فصل أخر بعنوان : «كيفية طروق الخلل إلى الدولة ؟!» من خلال طروق الخلل إلى
الأفراد، ويسوق لنا الحكمة التي نقلها عن المسعودي، والمسماة بـ «الحكمة
الدائرية» لكون نقطة البداية فيها التي تمنحنا منطلقات علمية، وحقيقية هي نقطة
النهاية التي تمنحا معلومة منطقية على غرار نموذج تحليل النظم لعالم السياسة
الأمريكي ديفيد إيستون، وينكون ذلك النموذج من : المدخلات، والمخرجات، وعملية
التحويل، والتغذية العكسية أو التغذية المرتدة.
.. وهو ما نقله ابن خلدون عن المسعودي بقوله :
«ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا
بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل» .
بيان ذلك أن نظام الملك له
مدخلان أساسيان يرتبطان ببعضهما البعض؛ فالملك أو السلطة تحتاج إلى تأييد ومطالب
الرجال، والرجال لا يجندون إلا بالمال أو الرواتب والأعطيات، ويتولد المال أو
الثروة عن العمارة أى الأنشطة الاقتصادية وحركة الحياة التي تعمر البلاد، وتنتج
الأرباح .. تلك الأرباح التي يفرض عليها الخراج وفق سياسة تقوم على العدل، وهذه
أهم مخرجات نظام الملك .
ويقدم ابن خلدون صورة
لطبيعة العلاقة بين الدولة، والعمران بقوله: «الدولة صورة، والعمران هو
مادتها»، ويلقي الضوء : «على فساد الدولة بفساد مادة العمران بالضرورة»
.. إذن المجتمع هو المادة، والدولة، ونظام الحكم هو الصورة بما يعني حسب المنطق
الأرسطي، وعلى هديه نجد ابن خلدون يجعل العمران أي الاجتماع البشري هو المادة،
والدولة أو نظام الحكم هو الصورة، وهذه الأخيرة لا يمكن أن توجد في العالم الأرضي
من دون مادة حاملة لها؛ فلا شك أن فساد المادة سيفضى لا محالة إلى زوال الصورة،
وبداية النهاية؛ فالهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع .
«إيماضة ألخمود»
أو «زبالة المشتعل» :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول ابن خلدون : «ربما
يحدث عند أخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها، ويومض ذبالها إيماضة الخمود
كما يقع في الذبال المشتعل فإنه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال،
وهي انطفاء.»*(3) .
في ما كتبه ابن خلدون عن «ايماضة
الخمود» أو «زبالة المشتعل» ما يحيل إلى الذاكرة المعرفية ما كتبه «جان
جاك روسو» عن الأضواء التى تلهينا عن أعراض النهاية !!
« سلوك الماللك
في تدبير الممالك» :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الربع الأخير من القرن
العشرين كشف الأستاذ الدكتور حامد ربيع أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
النقاب عن وثيقة تعود إلى الربع الأول من القرن الثالث الهجري بعنوان :«سلوك
المالك في تدبير الممالك» كتبها شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع
للخليفة المعتصم بالله العباسي بناء على طلبه، والكاتب يقر ذلك صراحة في بداية
مؤلفه بقوله :«أنه انما دون هذه الدراسة بناء على طلب الخليفة «القوي العادل» الذي
جمع بين شجاعة هارون الرشيد وحكمة المأمون .*(4)
.. قلبت تلك الوثيقة الأمور
رأساً على عقب في جميع المفاهيم المتداولة في علم السياسة إذ أثبتت أن ميكافيللي
ليس هو مؤسس علم السياسة كما هو مشاع،
وليس الفقة الأوربي هو الذي عرف نظرية إعمال السيادة، ولسنا في حاجة لأن
نبحث في الفقة الألماني لنجد هدماً لما قدمته لنا الثورة الفرنسية، ونظرية القانون
الدستوري على أنه الإعجاز الفكري والتنظيري .
وقد اثبتت الدراسات أن الحضارة
الإسلامية عامرة بالعديد من المخطوطات صدرت عن علماء متخصصين في الثقافة السياسية
كان يطلق عليهم :«كتاب الحكمة السياسية» من أمثال الحسين ابن محمد ومؤلفه
المعروف بعنوان:«رسل الملوك ومن يصلح للسفارة»، وابراهيم ابن ابي اليزيد
الهندي بعنوان : «رشاد الملوك في سداد السلوك»، وغيرها من المخطوطات التى
لا تقل عن مائة نص كتبها حكماء ليسوا فلاسفة، ولكنهم مستشارون أو ندماء دعتهم
السلطة أو شعروا بواجبهم في أن يطرحوا على الحاكم كيف يتعامل مع أعوانه،
والمحكومين .
وفي مخطوط ابن أبي الربيع أيضا
نجد أسس «علم العمران البشري» من خلال الحديث عن الاهتمام بالتقدم
العمراني؛ يخصص ابن أبي الربيع قسماً هاماُ يتحدث فيه عن مفهوم التدبر يجعل عنصره
الأول والأساسي ما أسماه بـ «عمارة البلدان» بل ويميز بين عمارة المزارع،
وعمارة الأمصار ثم يعقب ذلك بالشروط التي يجب أن تتوافر عندما يسعى الملك لإنشاء
مدينة أو ما في حكمها؛ فمفهوم تخطيط المدن يفترض المجتمع المستقر المتسع الأرجاء
حيث الثقة والطمأنينة تسيطران على علاقة المواطن بالدولة، وكذلك الإيناع
الديموجرافي، والتخصص المهني يكمل الإطار النفسي للاتجاه نحو الاستقرار في المدن،
وهي جميعها عناصر واضحة في مؤلف ابن أبي الربيع .
.. وأيضا يعلن أبن أبى الربيع
في فلسفته أركان المملكة التي يلخصها في أربعة أركان هى :«الملك والرعية والعدل
والتدبير»، وهي ذاتها التي ذكرها أرسطو، وابن خلدون، وديفيد اريستون كل بلغة
عصره، وكلها تشير إلى ما اسماه المسعودي : «دائرة الحكمة» لبقاء الدولة،
ويذكر ابن أبي الربيع موصفات الظاهرة السلوكية .
يحاول ابن أبى الربيع أن يكشف
عن فلسفته حول إطار التعامل البشري في عالم الإنسانية الاجتماعية حيث نجد أن هذا المؤلف ما هو إل اتنظير للحقيقة
السلوكية كمحور لإطار الوجود البشري .
من أهم المفاهيم في فكر ابن أبي
الربيع تنظير الحقيقة السلوكية كمحور لإطار التعامل البشري في عالم الإنسانيات،
والتي تعد العمود الفقري .. يقودنا سرد ابن ابي الربيع إلى كشف خصائص السلوك
كحقيقة انسانية، ويذكر ابن أبي الربيع موصفات الظاهرة السلوكية :
أولاً : السلوك اختيار.. مبدأ
الحتمية لا تعرفه مفاهيم ابن أبي الربيع بل هو يعلن بصراحة منذ صفحاته الأولى أن
الفرد قادر بإرادته، ومن خلال الاستقراء، والتأمل، وأن الاختيار هو محور التعامل
السلوكي.
ثانياً : السلوك بهذا المعنى
قدرة على الارتقاء، وهو يصل بهذا الخصوص إلى حد أن الفرد يولد، وهو يتضمن عناصر
سيئة، وأن إرادته هي تسمح له بتخطي تلك النقائص .
ثالثاً : وهذا يعني أن السلوك هو
تعبير عن صلاحية الفرد لتطويع ذاته.. إنه إعلان عن مبدأ المسئولية، وعن رفض فكرة
مطلق لفكرة الجبر، وعن تقبل لمعنى، وحدود مبدأ الالتزام السياسي .
***
العولمة :
ـــــــــــــــ
.. انتجت «الحداثة
السائلة» في أخر أطوارها مُسمى: «العولمة» التي بدأت مع الألفية
الثالثة، ومع تغلغل العولمة کأفکار، وسياسات، ونظم معرفية، ومؤسسات کونية؛ ولذا
کان من الطبيعي أن تکون قضية العولمة من أهم القضايا الجديرة بالبحث بين العلماء
العرب؛ فارتأى البعض منهم أن «العولمة» مرحلة تاريخية، وتجليات لبعض الظواهر
الاقتصادية، وانتصارًا وتكريساً للقيم الأمريكية، وتعبيرًا عن الثورات التقنية،
والاتصالية، وأکد البعض على ضرورة التمييز بين عملية العولمة Globalization، والعولمة کمذهب أو أيديولوجيًّا Globalism، في الوقت الذي أكد فيه البعض ضرورة التمييز
بين العولمة، والعالمية باعتبار الأولى خطاب هيمنة، وسيطرة، والثانية تعني بشکل
أکبر الوعي بالتنوع، والتعددية، والتعارف، والاختلاف، بينما طرح فريق ثالث مسألة «عولمة
المفاهيم»، وعلاقتها بالخصوصية الثقافية، والجغرافية، والسياسية للمنطقة.
.. ويعتبر کتاب جلال أمين
بعنوان «العولمة»*(5)
مثال جيد في هذا السياق؛ فالسؤال الحاکم للكتاب هو «ما الذي تتم عولمته
بالضبط؟» هل هي الأفكار؟ هل هي السلع ؟ هل هي وظائف الدولة القومية؟ هل هي
الأسواق؟ أم ماذا بالضبط؟، ويرى جلال أمين أن الحديث المتواتر والرائج عن انتهاء
الحدود وسيادة الأفكار العالمية المتعلقة بالديمقراطية، وحقوق الإنسان، وغيرها من
المفاهيم البراقة، هذا الحديث يخفي جوهر العولمة الذي يعني في الأساس مزيدًا من
تسلط الدول الكبرى من خلال الشرکات متعدية الجنسية على مقدرات الدول الأضعف في
المنظومة الاقتصادية العالمية، أو کما يقول في کتابه :«عولمة نمط معين من
الحياة، أداتها الأساسية الآن هي الشرکات العملاقة متعدية الجنسية»، ويظهر في
الكتاب نقاش نقدي لمفهوم العقلانية، وارتباطها بالقبول غير المشروط لمنتجات، وقيم
، ومؤسسات العولمة في عالمنا العربي، فيرى أمين أن التعامل مع العولمة على أنها
ظاهرة، وتوجه لا فكاك منه يقدم على أنه خيار عقلاني بينما هو في جوهر الأمر خيار
بائس، ويائس، ويعکس غياب القدرة على المقاومة . . الوجه الحقيقي للعولمة کما يراها
أمين ليست في العقلانية بل في تزايد قدرة الشرکات الکبرى، والدول الكبري على
ممارسة القهر من خلال التقدم التکنولوجي الذي يصل إلى نتيجة مؤداها أن التقدم
التكنولوجي، ومنتجه الرئيس (المجتمع التكنولوجي الجديد) هو المنتصر الحقيقي،
والمسيطر الوحيد على مجتمعات العالم .
يشترك المهدي المنجرة في كتابه
:«عولمة العولمة من أجل التنوع الحضاري»*(6) مع منطق جلال أمين حول العولمة؛ فيرى أنها
محاولة من الدول الكبرى لممارسة السيطرة على الدول الصغرى من خلال التنسيق،
والتحالف مع النخب الوطنية سواء من داخل رجال السياسة، والاقتصاد، أو حتى الأکاديميا؛
فالعولمة تشير إلى «اللا تنظيم.. (بمعنى) تنظيم نزع ملكية الشعوب بمبارکة
الزعامة المحلية التي لا يفوتها الاغتناء بالمناسبة»، ويرى أن هذه العملية في
حقيقة الأمر من شأنها أن تنزع أي مضمون لتحول ديمقراطي حقيقي في دول العالم
الثالث؛ فيجب أن تظل الأنظمة السياسية خاضعة، وتمارس ديمقراطية صورية.
جوهر العولمة عند المنجرة ليست
فقط في سيادة قيم السوق، وسياساته کما يرى جلال أمين، بل والأهم في التنميط
الثقافي لصالح نموذج بذاته هو النموذج الأمريکي، وهو الأمر الذي انعكس على ممارسات
الأمم المتحدة التي فقدت صفتها الأممية لصالح کونها جهازًا يعبر عن مصالح، وقيم،
وثقافة القوة الكبرى، ويرى المنجرة أن السبيل الوحيد للنجاة من العولمة هو في «إعادة
عولمة العولمة» بمعنى استعادة التعددية الثقافية، والقيمية في داخل النظام
الدولي بما يسمح لكل مكوناته بالتعبير عن نفسها بشکل متوازن .
« العولمة» في
حقيقتها نظام لـ «تفكيك الدول»، و«تصفية مقومات اقتصادها الوطني» عبر «الانفتاحات»
الاقتصادية، وعمليات الخصخصة بالسلطوية السياسية في ظل منظومة فساد يقودها الحكام
المحليين من فئة الكومبرادور Combador، وهو ما اسماه عالم الاقتصاد السويدي جونار
ميردال:
بـ «نظرية الدولة الرخوة» التي تعد أخطر المزالق لما يطلق عليه «الدولة
الكومبارس» أى «الدولة التابعة» التي نعثر عليها في أروقة الأمم
المتحدة، وفي مجلس الأمن، جاهزة للتصويت على كل القرارات المدعومة من الإمبراطورية
الأمريكية، وأيضا ما أسماه نعوم تشوميسكي : بـ «الدولة الفاشلة»، وما أسماه
باومان بـ «السيولة».
«الدولة الرخوة Soft
state» :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعرف جونار ميردال «الدولة
الرخوة Soft state» بـ «الدولة التي تصدر القوانين، ولا تطبقها،
ليس فقط لما فيها من ثغرات، ولكن لأن لا أحد يحترم القانون، الكبار لا يبالون به؛
لأن لديهم من المال، والسلطة ما يحميهم منه، والصغار يتلقون الرشاوي لغض البصر
عنه، أما الفقراء الذين لا مال لهم، ولا رشاوي؛ فيتم ضبطهم بواسطة أساليب قديمة
متجددة من القمع والتهم.».
رخاوة الدولة تشجع على الفساد،
وانتشار الفساد يزيدها رخاوة، والفساد ينتشر من السلطتين التنفيذية، والسياسية إلى
التشريعية، حتى يصل إلى القضاء، والجامعات، صحيح أن الفساد، والرشوة موجودان بدرجة
أو أخرى في جميع البلاد، ولكنهما في ظل الدولة الرخوة يصبحان «نمط حياة».
ويقدم ميردال وصفا للطبقة
الحاكمة التي تتكون في هذه الدولة، فهي تجمع من أسباب القوة ما تستطيع بها فرض
إرادتها على سائر فئات المجتمع، وهي وإن كانت تصدر قوانين، وتشريعات تبدو وكأنها
ديمقراطية في ظاهرها، فإن لهذه الطبقة من القوة ما يجعلها مطلقة التصرف في تطبيق
ما في صالحها، وتجاهل ما يضر بها، وأفراد هذه الطبقة لا يشعرون بالولاء لوطنهم
بقدر ما يدينون بالولاء لعائلاتهم أو أقاربهم، أو عشائرهم ومحاسبيهم .
يبين جونار ميردال كيف استطاع
النوع البشري المهيأ بنزعات التدمير تلك أن يظل على قيد الحياة حتى الأن ؟ تتميز
الدولة الرخوة بالعديد من الخصائص، .. من بين هذه الخصائص :
ـ وجود ترسانة قانونية متقدمة
بدون تطبيق: تتوفر الدولة الرخوة على ترسانة قانونية متطورة، غير أن هذه النصوص
القانونية تبقى من دون تطبيق بمعنى آخر تظل حبر على الورق، وعليه يكون وجودها كعدمها،
إلا في حالة محددة، حيث يمكن استعمالها لمعاقبة مناهضي الفساد أو المطالبين
بحقوقهم أو المجرمين، واللصوص من الطبقات المسحوقة.
ـ وجود مؤسسات دستورية أكثر من
اللازم بدون دور واضح: في الدولة الرخوة يلاحظ وجود تعدد، وتنوع في المؤسسات
الدستورية، وغيرها إلى درجة تتداخل، وتتشابه معها صلاحيات المؤسسات، غير أن الهدف
من هذه المؤسسات يبقى بعيد عن خدمة المصلحة العامة، بل وجودها في غالب الأحيان
يكون إرضاء للنخب السياسية، والبيروقراطيين؛ فمن الأشخاص الذين يشكلونها في غالب
الأحيان يتبين أنها مجرد مؤسسات لخلق مناصب للأعيان، وستر المكشوف أمام عيون
المجتمعات الديمقراطية.
ـ وجود نخبة فاسدة تسعى لتحقيق
مصالحها الشخصية أولا، ويراد بها مجموعة من الأفراد يمتلكون مصادر، وأدوات القوة
السياسية في المجتمع، وبالتالي يصيغون السياسات العامة على مقياسهم ولصالحهم .
ـ تفشي الفقر والتخلف: توجد
الفئات الاجتماعية الهشة، والضعيفة التي لن تستفيد من العدالة الاجتماعية،
والعدالة المجالية في وضعية فقر، وتخلف، بسبب سياسات الإقصاء المتعمد.
ـ انقسام المجتمع إلى طبقات
متعددة أو طبقتين: تؤدي سياسة الدولة الرخوة إلى تقسيم المجتمع إلى طبقتين أو
أكثر، الشيء الذي ينتج عنه وجود فوارق كبرى، وواسعة بين أفراد المجتمع الواحد.
بالإضافة إلى استشراء الفساد
بمختلف أنواعه، وغلبة التسلط على الحوار، وتأزم علاقة الدولة بالمجتمع، وضعف
التنمية أو غيابها.
«الدولة الفاشلة Failed
States» :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طبقاً لما أصدرته مجلة
«السياسة الخارجية» ومؤسسة «صندوق السلام» فإن الدولة الفاشلة تُعتبر: «هيئة
سياسية مُفككة لدرجة فقدان الحكومة قدرتها المركزية على سيطرتها، وسيادتها على
كافة أراضيها.».
أهم سمات الدولة الفاشلة:
أولاً: ضعف قدرة الدولة الشرعية في اتخاذ
قرارات عامة.
ثانياً: فقدان الدولة،
ومؤسساتها لشرعية احتكارها استخدام القوة، وبالتالي تكون غير قادرة على حماية
مواطنيها، وأراضيها.
ثالثاً: عدم القدرة على تلبية احتياجات
المواطنين، وتوفير الخدمات العامة الأساسية للشعب.
رابعاً: تلاشي مصداقية
الكيان الممثل للدولة خارج حدودها.
«الإنسان السائل»
في مصـــــــــــر :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أصبح الإنسان في مصر تحت تأثير
الضغوط الشديدة، والمتسارعة، والمتعاظمة كحالة المادة المائعة السائلة التي لا
تعرف ثباتاً؛ لأن المعنى قد غاب، والإنسان أصبح أسير الخوف الدائم تدبير احتياجاته
المعيشية بأساليب أغليها غير مشروع في ظل غلاء الأسعار، وقلة العائد، وأن عليه
التدريب المستمر على الاختفاء، والذوبان، والانسحاب، والرحيل !! والجري وراء
الفردية التي خلفتها الحياة السائلة، وتراجعت الجماعة كما ان نظامها المناعي الذي
كان يحميها من المشكلات صار مشكلة في حد ذاته؛
وأضحى المجتمع قي حد ذاته «جماعة خائلية»!!
.. فقد الإنسان صلابته، ومعها
إنسانيته، وهويته، وثقافته .. فقد عقله التاريخي، .. وانفصل عن واقعه الحضاري، وتم
تغييب وعيه بوجوده على خريطة الوجود الإنسانى!!
.. تم تسليعه وتشييئه ..
أصبح مجرد شيء يتم صياغته، وتصنيعه، وقولبته وتعليبه، وصارت حالة مصنعة وفقا لأليات الهندسة الاجتماعية ليصبح متداولاً
أن :
«الإنسان صناعة الإنسان» بمعنى صناعة الإنسان الاجتماعي، والمواطن
السياسي الذي يصوت ضد مصالحه !!
.. أصبح الإنسان أسير
«مجتمع الفرجة» الذي تحوّل العالم المحسوس فيه إلى مجتمع صورة يجري فيه تسليع
كل شيء، وكل نشاط، وكل فكر، وأن التحولات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية،
والثقافية أنتجت عالماً مقلوباً واقعياً رأساً على عقب، إذ أصبح ما هو حقيقي
وواقعي فيه وهمياً وزائفاً؛ بما يراه جي ديبور عودة منمّقة إلى نظرية الاستلاب
بمعنى استلاب المتفرج لصالح الشيء، في
«مجتمع الفُرجة» يجري تسليع كل شيء بحيث يتحقق مفهوم الفرجة بشكل كامل عندما تُعلن
السلعة «احتلالها الكلي للحياة الاجتماعية» سواء كانت بضاعة، أو خدمة، أو فكرة أو
رغبة .. تتوسل بالإغراء الناعم ودغدغة المشاعر، والأحاسيس الحانية لحث الناس على
التماهي بين الأشياء والسلع!!
تنامي ظــــاهـــرة
«الكائن السائل» :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
.. أصبح «الشر السائل» يكمن في التفاصيل اليومية
حتى بلغ حد الاعتياد، وأصبحت المدن هى البوتقة المركزية لصهر القيم، والأخلاق،
والتطبيع مع الشر، وسادت المدن المصرية ظاهرة الانتقال من ظاهرة «الإنسان
السائل»، إلى ما يمكن أن يطلق عليه : «الكائن السائل» أو «الحيوان
السائل»؛ فقد أصبحت المدن المصرية أقرب إلى «حدائق حيونات بشرية The Human Zoo» ..
تسودها العدوانية، والعنف، والبلطجة، والانفجار والتحرش الجنسي، وعدم بسط الحماية على المرأة
من قبل أفراد المجتمع، وامتهان كرامتها في وضح النهار في أماكن العمل، والمواصلات
العامة، والأنانية، والفساد البنيوي ذو الصلات القوية بأسباب ضاربة الجذور في عمق
التاريخ!!،.. أو أنها صارت أشبة بـ «المقابر» حيث تغيب فيها جميع ملامح
الحياة الإنسانية، وتخلو من روحها، ومن صور التلاقي بين الناس.
.. وشهد الشارع المصري تنامي
ظاهرة النصب، والاحتيال، والاستغلال، والغش، وصارت البلطجة من أهم سمات الشارع
المصري؛ بما جعل التعامل في الشارع محفوفاً بمخاطر كبيرة لصعوبة توقع رد الفعل من
الآخر من العنف، والعدوان الذي يبلغ حد القتل أو السرقة بالإكراه؛ بعدما شهدت فترة
الانهيار الكبير إنهيار كل انماط الحياة التي كانت مستقرة، والتي انهارت بسبب
التغيير المحوري الذي وقع، وأدى إلى انهيار «االأسرة النووية»، وشهد
المجتمع المصري ما اسمته سوزان فالودي «ازمة الذكورة» عندما أخفق المجتمع
في توفير فرص العمل للرجال وأنقص أجورهم، وطالبهم يالبقاء ساعات أطول في أماكن
العمل، وأفقدهم الإحساس بالأمان الوظيفي والاجتماعي، بما ساهم في تأخر سن الزواج،
وجعل رابطة الزواج غير مستقرة نتيجة المجاملة التشريعية للمرأة على حساب الجماعة؛
فارتفعت معدلات الطلاق، ولم تعد النساء يعتمدن على الرجال، وأصبحن يدعمن أنفسهن
وأطفالهن من خلال فرص العمل التي يحرم منها الرجال، وشهد المجتمع المصري ظاهرة «الأب
الغائب»؛ فنشأ جيل كامل بدون أباء، ويعاني من الفشل التعليمي، والعنف،
والجريمة، ونشأت ظاهرة «أطفال الشوارع»، وتفشي البغاء، .. أدت الضغوط التي
فرضت على «الأسرة النواة» إلى تقلص دورها، وطرحت على الساحة أشكال عديدة من
«الأسر التوليفية أو المؤتلفه» التي ظهرت نتيجة تأخر سن الزواج، وارتفاع
معدلات الطلاق، وانتشار الدعارة، والزوج العرفي، والإنجاب خارج شرعية الزواج؛ مما
حدا بإدارة الأمن العام بوزارة الداخلية إلى حجب التقرير السنوي عن الجرائم، ومنعت
المختصين، والباحثين، والإعلاميين من الاطلاع عليه!!.
.. واختفت الأمانة بصفة عامة،
وتلاشت «الأمانة الفكرية» بصفة خاصة، والتعامل الرشيد، وساد الخداع؛ فكل
رأي صار «رأي سجالي» حيث يدافع كل عن رأيه، ويقمع عن قصد رأي محدثه، .. وفي
كل الأحوال لا تؤمن نتيجة الحديث الذي غالباً ما ينتهي بالمشاجرة التي قد تفضي إلى
القتل .
.. الكثيرون غير أمناء،
والكثيرون لا يشعرون بأيه رحمة تجاه من هم خارج النطاق المباشر لمصالحه، والأدهي
هو إمكانية فتح الرحمة، وغلقها مثل الصنبور وفق المصلحة الشخصية.
.. وأصبحت ظاهرة البلطجية أحد
أذرع الدولة الخفية التي تحميها، وتعفيها من المسؤولية القانونية،
والسياسية، حيث يسرف ضباط الأقسام في المناطق العشوائية بتسجيل شباب تلك المناطق
تحت مسمى «شباب الكارتة» أو «الأشقياء»، وتستغلهم في أعمال غير
مشروعة، وتعدهم بعدم الملاحقة، وإسقاط ما عليهم من أحكام.
***
مع بداية «المشروع الحداثي
التسلطي» الذي بدأ مع انقلاب 23 يوليو 1952 الذي ادعى زورا الحداثة، والثورية،
والاستجابة لمصالح الجماهير التي لم تبدي مشاركة حقيقية، مما اضطر ضباط الانقلاب
إلى الاعتماد على جهاز الدولة كمحرك لعملية التنمية، وقد ظهرت مخاطر هذه التركيبة
لأن «الفجوة السياسية» لم تسد، ولم يتم ولادة مؤسسات سياسية حقيقية تربط
الدولة بالمجتمع، مما أدى إلى ضرورة الاعتماد على المؤسسة العسكرية، والمنظمات
الأمنية، والجماعات السرية لضمان بقاء النظام، ودعم مكانته، وكان من نتيجة ذلك
تولي الضباط مما دعوا «أهل الثقة» مجموعة ضخمة من الوظائف القيادية في مجال
الحكم، والاقتصاد، والدبلوماسية، والإدارة المحلية، والرياضة، والثقافة وغيرها،
وهو الوضع الذي أطلق عليه فاتيكيوتس اسم «دولة العسكرة Srratiocracy» .
.. وبدأ الصراع المكتوم بين الجناح
الكاريزمي والجناح العسكري، وبدأت
تتضح ملامح القيادة القائمة على فكرة «المولى، والتايع» أى على مبدأ النصرة
الشخصية، والتعاضد الجماعي فقد كان أنصار عبد الحكيم عامر يصفونه بـ «الشهامة
الصعيدي»، وكان عبد الناصر يصفه بـ «الإقطاعية».
.. ولم يكن أمام الجناح
الكاريزمي سوى الاستعانة بفئات «الرعاع السياسي» لما يجيدونه من حشد
الجماهير، وصناعة اللافتات، وصك الشعارات، وصياغة اللوجهات، وتنفيذ المهرجانات
الشعبية التي يغطى بها النظام هزائمة، وإظهار العداءات للقوي الكبرى، وتنفيذ «سياسة
المهرجان» التي تعنى لعب دور الدول الكبرى لتدفع له الدول الكبرى مقابل التدخل
فى اليمن، والجزائر، والكونغو دعماً للمصالح الأمريكية، ودخلت مصر فى الحلقة
المفرغة التى أشار إليها مايلز كوبلاند:
«كان استمرار المهرجان ضرورياً للحصول على
الدعم، كما أصبح الحصول على الدعم ضرورياً لتمويل المهرجان».
.. ولأن مايلز كوبلاند هو صانع الألعاب فى
دراما الناصرية «كمنهج»؛ فقد قال :
«أنه كان على الزعامات
المصنوعة مخابراتيا أن تقبل الدعم، وترضى بالعمالة، .. وكنا نصنع لهم طواحين
الهواء، ونتيح لهم فرصة الانتصارات الوهمية طالما ذلك يرضى الغوغاء الذين كان تأييدهم
الجارف أحد أسباب البقاء الأطول لتلك «القيادات المطلوبة» طبقا لخريطة
العمل السياسى الأمريكى فى الشرق الأوسط .
.. فلما خرج ناصر عن قواعد
اللعبة «ضربناه علقة فى 67 ـ على حد تعبير
جونسون ـ .».
.. وبدأت سياسة «تصفير
العداد» أي إعادتها إلى نقطة الصفر.. تلك الاستراتيجية التي اتبعها عبد الناصر
بمساعدة خبراء C.I.A؛
فاتخذ عدة إجراءات للتطهير الشكلي، وأطلق إعلامه ليعلن بدء مرحلة جديدة «على
نضيف» متخلياً عن أعباء، وأخطاء المرحلة السابقة التي يتحملها «السيئون
السابقون» !!
.. وهو ما يفسر صعود «الرعاع
السياسي»، وما صاحب صعودهم من الشرور
التي أخطرها صعود «القيم الميتة»؛ فـ «الشيطان في السياسة» ـ على حد
تعبير باومان ـ ليس مجرد خيالات بل أنه يتجسد في ممارسات كثيرة أحدها تدمير نظام
أخلاقي كوني أو على الأقل نظام أخلاقي قابل للحياة، والنمو، والتطبيق بيد أن
الشيطان قد يظهر على أنه فقدان للذاكرة، والحس الأخلاقي .
وهذا ما أدى إلى حالة «ذهان
جماعي» تمثل في لمسة «الشر الراديكالي» التى راح كتاب النظام، ومنظريه،
وكتاب أغانيه (تمت كتابة 420 أغنية في التغني بشخص عبد الناصر، ووصف أمجاده
المزعومة) يبثونها في الجماهيرلنفخهم بالهواء، والذي يكمن جوهرة في رفض متعمد
لقيمة الإنسان، والكرامة، والذاكرة، والإحساس، وقوى الترابط، والتراحم .
.. كان النظام هزلياً ومن أبرز
ملامح الهزل فيه ادعاؤه: «الاشتراكية بدون
اشتراكيين» التي أفضت إلى انقلاب النظام على ذاته من داخله، وبنفس
شخوصه، وأدواته، والاتجاه إلى الغرب، وسياسة الانفتاح .. وبدأ تفكيك الدولة،
وإعادة إنتاج «المواطن السائل» بشكل مختلف مع شدة التدخل الذي مارسه
صندوق النقد الدولي في السياسة الاقتصادية المصرية منذ ١٩٨٧ عندما عجزت الدولة عن
سداد أقساط ديونها الخارجية وفوائدها، وزاد من تفكك الدولة ابتداء من ١٩٩١، عندما
وقعت مصر اتفاقية مع الصندوق عرفت باسم اتفاقية «التثبيت، والتكيف الهيكلي»،
وانطوت علي انسحاب الدولة من كثير من المهام التي اعتاد الناس أن تمارسها الدولة
منذ الستينيات من دعم الصحة، والتعليم، ووسائل المواصلات، والسلع المعيشية، وعلي
الإسراع ببيع شركات القطاع العام، وتسريح العمالة لتنضم إلى عمالة زائدة في مجال
الخدمات ليبدأ ظهور، وتنامي ظاهرة:«الحيوان
السائل» في شوارع القاهرة، وتزامن مع بداية الجيل الثاني من :
«أطفال الشوارع» ليمارس التسول، والبلطجة، والنصب، والدعارة، واللصوصية، وصار
كل شيء خاضع للمساومة والشطارة والفهلوة!!
***
.. ولأن الجغرافيا واحدة من
أهم العلوم الاجتماعية، وسميت بذلك لأن المجتمع مادتها، والناس هدفها؛ فإذا كان
التاريخ هو ظل الإنسان على الأرض؛ فالجغرافيا ظل الأرض على الزمان .. منذ منتصف
القرن العشرين، ومع تطور الجغرافيا في
طورها الثالث، ومع ظهور حقبة ما بعد الاستعمار، انتبه بعض الجغرافيين إلى الدور
الإنساني، والاجتماعي لهذا العلم، وراقبوا ضمائرهم في أن هذا العلم في حقيقته هو
علم تفتيش عن مواطن الخلل الاجتماعي في توزيع الثروة، والخدمات، والسكان، والرفاه،
والتركز السكاني، والفائض، والعوز، الجغرافيا في حقيقة تعريفها هي «علم
التوزيعات المكانية»؛ لأن الهدف الرئيس للكشف عن هذه التوزيعات هو المسارعة
بتحقيق «إعادة التوزيع» من أجل ضبط الخلل، وإصلاح المظالم التي تسبب فيها
الإنسان، ويسمى هذا التيار الفكري في الجغرافيا باسم «جغرافية العدالة،
والمساواة».
الجغرافيا الحقة تكشف عن توزيع
الفقر، أين يوجد السكان الأقل دخلا، ما هي المناطق التي تعاني من سوء الصرف الصحي،
ضعف، ورداءة مياه الشرب، التكدس السكني، توطن المرض، التلوث، أين توجد مناطق العجز
في المستشفيات وفقا لعدد السكان، مناطق الحاجة لصيدليات، مناطق الحاجة إلى نقاط
تركز أمنية ردعا للمجرمين، مناطق شح مياه الشرب، العوز في المدارس، والتعليم
الأساسي..
كان لابد من الاستئناس بفكر
عالم الجغرافيا المفكر المصري د. جمال حمدان .. يقول حمدان الذي يبدو متشائما في «صفحات
من أوراقه الخاصة».. مذكرات في الجغرافيا السياسية :
«سيأتي اليوم الذي تطرد فيه
الزراعة تماما من أرض مصر، لتصبح كلها مكان سكن، دون مكان عمل، أي دون عمل، أي دون
زراعة، أي دون حياة أي موت! لتتحول في النهاية من مكان سكن على مستوى الوطن إلى
مقبرة بحجم دولة؛ لان مصر بيئة جغرافية مرهفة، وهشة لا تحتمل العبث، ولا تصلح
بطبيعتها للرأسمالية المسعورة الجامحة الجانحة؛ فالرأسمالية الهوجاء تعني مقتل مصر
الطبيعية.».
.. ويضيف حمدان: « إن مصر
تتحول لأول مرة من تعبير جغرافي الى تعبير تاريخي بعد أن ضاقت أمامها الخيارات،..
ويصف بقاءها، واستمرارها بأنه نوع من القصور الذاتي، وأنها أصبحت كيان منكمش في
عالم متمدد، وأنها كيان متقلص في عالم متوسع» .
ويضيف حمدان : «من المتغييرات
الخطرة التي تضرب صميم الوجود المصري ليس فقط من حيث المكانة، ولكن في المكان ذاته
ما يلي :
١ ـ اصبحت أرض مصر معرضة للتأكل
الجغرافي لأول مرة في التاريخ كله، وإلى الأبد إذ تحولت من عالم متناه بالطبع،
والطبيعة، والجغرافيا إلى عالم متأكل بفعل الإنسان؛ فالسد العالى أوقف نمو أرض مصر
أفقيا، ورأسياً، وعرضها للتأكل البحري والصحراوي.
2 ـ أصبحت أرض مصر «ارضاً
مغلقة» بيولوجيا بلا صرف، وبالتالي لا تتجدد مياهها، وتربتها.. كما لم يعد تجدد
أرضها، وترابها، ومن ثم أصبحت بيئة تلوث نموذجية، وبقدر ماهي بللورة مركزة
طبيعياً؛ ستصبح بللورة تلوث مكثفة حتى الموت البيولوجي .
3 ـ لأول مرة ظهر لمصر منافسون،
ومطالبون، ومدعون هيدرولوجيا.. كانت مصر سيدة النيل بل مالكة النيل الوحيدة ـ الآن
فقط ـ انتهى هذا إلى الأبد، واصبحت شريكة محسودة، ومحاسبة، ورصيدها المائي محدود،
وثابت، وغير قابل للزيادة إن لم يكن للنقص، والمستقبل أسود، ولت أيام الغرق، وبدأت
أيام الشَرَّق، وعرفت الجفاف لا كحظر،
ولكن دائم «الجفاف المستديم» بعد «الري المستديم.».
4 ـ في الوقت نفسه بلغ سكان مصر الذروة المتصورة،
ووصل الطفح السكاني إلى مداه، ولم يبقى سوى المجاعة، فلم تعد الأرض قادرة على ما
يتوسع إسكانا في المدن، والقرى، والطرق !! *(7)
.. والحقيقة أن ما توصل إليه
د.حمدان من معرفة نتيجة استنطاق خرائطه، واستقراء مناهج البحث التي توسل بها التي
جاءت متوافقة مع بعض شذرات من الفكر الصهيوني الذي تم صياغته في شكل قصص توراتية
عن خراب مصر .. تقول التوارة المنحولة في نسخها السبعينية ذلك:
« حيث ورد في سفر يوئيل
الإصحاح 3 آية 19: «مصر تصير خراباً»، ولن تكون مصر خراباً إلا بجفاف
النهر؛ حيث يقول سفر إشعياء الإصحاح 11 الآية 15 : «ويبيد الرب لسان بحر مصر»
.. الذي هو النيل !! وجاء في نفس السفر في الإصحاح 19 الآية 5 : «ويجف النهر،
وييبس، وتنتن الأنهار وتضعف، وتجف سواقي مصر»؛ وفي نفس السفر، وذات الإصحاح في
الآية 2 جاء: «ويذوب قلب مصر داخلها، وأهيج مصريين على مصريين، فيحاربون كل
واحد أخاه، وكل واحد صاحبه .» *(8)..
يقول د. سعيد عاشور : «أن
هناك في المراجع العربية ما يشير إلى أن ملوك الحبشة هددوا أكثر من مرة بتحويل
مجرى النيل في بلادهم، وتجويع مصر، وقد أرسل ألفونس ملك أرغونة إلى ملك الحبشة سنة
١٤٥٠ يطلب منه العمل على تحويل مجرى النيل، ولما اشتد النزاع بين المماليك،
والبرتغاليين عقب اكنشاف طريق رأس الرجاء الصالح أرسل البوكرك قائد الأسطول
البرتغالي إلى ملك البرتغال يطلب إمداده بعدد من العمال المدربين على قطع الصخور،
وحفر الأرض للعمل فوراً على تحويل مجرى النيل.».*(9)
كانت الكنيسة المصرية هي
الدرع الواقي لنيل مصر من عدوان الأحباش بصفتها راعية للكنيسة الحبشية، وبعد خروج
الأحباش من راعيتها أثر خلاف سياسي بين الرئيس السادات وهيلاسلاسي .. بدأ إحياء
المشروع وتحديثه؛ .. ففي مارس 1974 نشرت مجلة «أوت» مقالاً بعنوان: «مياه
السلام» للمهندس اليشع كلي مدير التخطيط
طويل المدى في شركة تاحال، وهي شركة مساهمة إسرائيلية تمتلك الحكومة الإسرائيلية
52 % من أسهمها، ويمتلك الباقي مناصفة الوكالة اليهودية، والصندوق القومي اليهودي،
كتب اليشع كلي:
«لحل مشكلة المياه التي
ستضطر إسرائيل لمواجهتها لبضع سنوات قادمة، رأى اليشع أن الحل في إحضار مياه من
نهر النيل إلى النقب الشمالي»، وفي إبريل 1974 ومع أول زيارة لمندوب صندوق النقد
الدولي لمصر لعرض حزمة من إجراءات «الاغتيال الاقتصادي» لمصر، كانت هناك زيارة
أخرى متزامنة مع الزيارة المصرية لدولة أثيوبيا لعرض حزمة من الإجراءات عصبها «بيع
المياه» لدول حوض النيل، وإسرائيل.
.. وخلال الاندفاع نحو الخصخصة
كان كثير من الشركات الضخمة قد وضعت نصب أعينها السيطرة على الشركات الصغيرة،
ووضعت خطتها بـ «خصخصة المياه » في أفريقيا، وأمريكا اللاتينية، والمنطقة
العربية .
.. وتم إحياء السيناريو الذي سبق
أن تقدم به تيودور هرتزل في زيارة لمصر في 25 مارس عام 1903، تلك الزيارة التي عرض
فيها على الخائن بطرس نيروز غالي توصيل مياه النيل إلى سيناء؛ لتصبح وطناً بديلا
للفلسطينيين عن أرضهم .. وجاء رفض الفكرة من قبل اللورد كرومر لأسباب تتعلق
باستقرار الوجود الإنجليزي في مصر .
.. وتم حقن المشروع بالحياة في
عهد الرئيس أنور السادات، كان السادات بعد حدوث الثغرة، ووقوع الجيش الثالث
الميداني في الحصار لا يستطيع أن يعصي أمراً للأمريكيين الذين قايضوا على فك حصار
الجيش الثالث الميداني بتحقيق المطالب الإسرائيلية، أو تجويع الجيش وإجباره على
الاستسلام، والانسحاب بدون سلاح في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الحروب، ..
وتحققت أولى خطوات الحلم الإسرائيلي في السيطرة على مياه النيل، وتحويلها لصالح
إسرائيل؛ بإعلان الرئيس السادات في يوم الثلاثاء 27 نوفمبر 1979 أثناء إعطاء إشارة
البدء في حفر ترعة السلام فيما بين فارسكور والتينة عند الكيلو 25 طريق
الإسماعيلية ـ بورسعيد، وطلب من المختصين عمل الدراسات لتوصيل مياه نهر النيل إلى
مدينة القدس؛ لتكون مساهمة من الشعب المصري لجعل مياه النيل في متناول المترددين
على المسجد الأقصى، ومسجد الصخرة، وكنيسة القيامة، وحائط المبكى .
.. وقال : « باسم مصـر، وأزهـرها
العظيم، وباسم دفاعــها عن الإسـلام تصبح ميـاه النيل هي «آبار زمزم» لكل المؤمنين بالأديان السماوية، .. وكما كان
مجمع الأديان في سيناء بالوادي المقدس طوى رمزا لتقارب القلوب في وجهتها الواحدة
إلى الله سبحانه وتعالى، كذلك ستكون هذه المياه دليلاً جديداً على أننا دعاة سلام،
وحياة، وخير» .
.. كان السادات لا يتحرى الصدق
في تصريحاته، وكان التلاعب الساداتي بـ «وعي الجماهير» يغلف الكارثة بطابع ديني ..
رغم أن الدين لا يعني التفريط في الحقوق الوطنية، وقد شاركت أجهزة الإعلام في خداع
الجماهير بالانحياز الدائم لما يقوله بغرض إضفاء الشرعية الشعبية عليه، لكن بيجن
في رده على خطاب السادات بتاريخ 4 أغسطس 1980 قد فضح أكاذيب السادات؛ حيث أوضح أنه
لم يتم الاتفاق على توصيل المياه إلى القدس، وإنما تم الاتفاق على توصيل المياه
إلى النقب .
.. كان إعلان السادات عن كارثة
توصيل مياه النيل لإسرائيل، وما سبقه من إعلان السادات في يوم الاثنين 23 يوليو
1979 عن إنشاء مجمع للأديان فوق جبل موسى، يضم خمسة أبراج، ثلاثة منها يعلوها
الهلال والصليب، والرابع تعلوه نجمة داود، أما الخامس فيضم الهلال والصليب ونجمة
داود معاً، وما اتبعه من أوامر لطبع الكتب المدرسية المشتركة بين الإسلام
والنصرانية؛ مما يكشف عن ماسونيته، فالماسونية دعوه مشبوهة للتآخي الإنساني،
وتنحية الأديان تحت شعار زائف ينادي بـ «أبوة الله، وأخوة البشر»، وقد
أشارت دائرة المعارف الماسونية إلى أن المحفل الماسوني السوري في اجتماعه بتاريخ
21 فبراير 1958 قد اعتمد أنور السادات أستاذا أعظم شرفيا في المحفل الماسوني
الأكبر.
.. رأى بعض المحللين أن تصرفات
السادات محاولة لتقديم البدائل للصهاينة بمد مياه النيل إلى صحراء النقب؛ لتكون
عوضاً عن تخليهم عن الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن مجمع الأديان بديل عن القدس التي
تتمسك بها إسرائيل عاصمة موحدة !!
وفي الوقت الذي أعلن فيه
السادات توصيل مياه النيل إلى إسرائيل؛ لتكون ماء زمزم الجديدة لجميع الأديان ـ
على حد قوله ـ .. أمعن في حرمان أهلنا في سيناء من قطرة ماء تسقي عطشهم، وتروي
أرضهم؛ فقد قام المهندس حسب الله الكفراوي وزير التعمير آنذاك بشق ترعة السلام فى
أرض سهل الطينة تلك الأرض المتجددة الملوحة!!
حالة السخط الشعبي على مشاريع
السادات، وسياسته التي انتهت باغتياله، وأدت إلى تعثر إقامة تلك المشاريع، ولم يكن
أمام الصهاينة سوى العبث بنيل مصر عبر إغراءات تقدم لدول المنبع، فقد شاركت
إسرائيل في إقامة 25 سداً من السدود التي نفذتها إثيوبيا على أراضيها خلال الفترة
من أول نوفمبر 1989م، وحتى منتصف فبراير 1990، والتي يبلغ عددها 37 سداً على النيل
الأزرق وحده الذي يأتي منه خمسة أسباع مياه النيل.
وقد سعت إسرائيل بكل ما أوتيت
من وسائل للسيطرة على منابع النيل؛ وكانت تنتظر قيام دولة جنوب السودان؛ لتباشر
شراء مياه النيل منها؛ لتصل إسرائيل عن طريق مصر بعد دفع رسوم المرور المقررة لذلك
(4,5 سنتات ـ 58 قرشاً ـ عن كل متر مكعب)، وقد لعب البنك الدولي دورًا مشبوهاً في
تنفيذ هذا المخطط؛ حيث سعى إلى تسهيل المخطط لتوصيل المياه إلى إسرائيل، وبصورة
قانونية، ولما حالت مصر دون تحقيق هذا الأمر لجأت إسرائيل إلى ورقة ضغط أخرى هي سد
النهضة الإثيوبي لخنق مصر.
.. واليوم إسرائيل تسعى
لإلغاء اتفاقيات المياه الحالية عن طريق دعم دول المنبع لتوقيع اتفاقيات جديدة
مشتركة بينهم تتجاهل دول المصب، وتعيد تقسيم حصص المياه بتعديل اتفاقية الإطار
التعاوني لصالح دول المنبع، وقد نجحت إسرائيل حتى الآن ـ جزئياً ـ في مساعيها حين
قامت إثيوبيا، وتنزانيا، وأوغندا ورواندا في مايو 2010 بالتوقيع على اتفاقية في
عنتيبي، ولحقت بهم كينيا ثم بوروندي في 2011 بعد انفصال دولة جنوب السودان، وفي
أول إبريل 2011 بدأت أثيوبيا في إنشاء «سد النهضة» .
وفي 23 مارس 2015 وقع الرئيس
عبد الفتاح السيسي، والرئيس السوداني عمر البشير، ورئيس وزراء إثيوبيا هايلى ماريام
خلال اجتماعهم بالخرطوم وثيقة إعــلان المبادئ لـ «سد النهضة» الإثيوبي، .. ولم
تتضح لنا وسط أجواء التعتيم الاطلاع ـ حتى الآن ـ على ملامح بنود وثيقة المبادئ.
خطورة المشروع معناه نقل مياه
النيل إلى النقب الشمالي الغربي؛ لتتصل هذه القنوات الجديدة بالقنوات القديمة
المنبثقة من نهر الأردن، وتتصل مياة النيل بمياه نهر الأردن، وتمتد شبكة الأنهار
إلى الجنوب لتعمير النقب بشرياً، وزراعيا،ً وصناعيا،ً وذريا!!
واقترنت الأفعال المشبوهة بلغة
مراوغة أبدعتها الديبلوماسية البريطانية يما لها من مورث تاريخي في تضييع الحقوق
بما لها من قدرة توظيف «خداع اللغة» للترويج الإعلامي لإحداث لمعان زائف على
الكلمات وصياغة تعابير منقطعة الصلة بالقانون، ولا تتفق مع الطبيعة الجغرافية
للأنهار، ولا المعايير الدولية للتعامل بشأنها كطرح مصطلح (الأنهار العابرة
للحدود)، بدلاً من (الأنهار الدولية)، و(الاستخدام الأمثل، والتوزيع
المنصف، والمعقول) بدلاً من (توزيع الحصص)، ومصطلح (المياه
المتصرفة) بدلاً عن (المياه المتدفقة).*(10)
***
.. ليتحول «الإنسان المصري»
بدون النيل، وفي ظل حالة «الانهيار الحضاري» إلى «كائن سائل» بدون هوية، أو
ثقافة، وليس له طعام أو مأوى إلا في (مزابل) النفايات!!
الإنهيار الحضاري :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الإنهيار الحضاري هو حالة
الجفاف التي تصيب الحياة العقلية، والتوقف الفعلى للعقل التأملي الفعال الذي يطرح
على مائدة البحث شتى معضلات الوجود الكوني، والاجتماعي، ويشحذ الاجتهاد المعرفي،
ويدفعة للاكتشاف، وترجمة الكشوف العلمية، والمعرفية في مبتكرات تفتح سلسلة منها
قنوات، ومسارات لتدفق الفعل الحضاري .
.. وهى حالة من الموات تنذر
بأن التاريخ الاجتماعي، والمعرفي للإنسان يعاني حالة من الجدب التي تجعله غير قادر
على التفكير، والإبداع، والابتكار، والتجديد في شتى مناحي الحياة، وتقديم
المبادرات الحضارية، والارتياد المستمر للمجاهل للتحرر من من حالة الركود الحضاري،
.. ولا تصبح للحياة العقلية قيمة تتعدى الإطناب، والتفصيل، والرطانة، والطنطنة على
هامش ما يملكة من معارف قديمة، وإجابات معلبة، ونماذج، وقوالب جاهزة.
وأصبح طرح السؤال واجباً : عما
إذا كانت العلوم المسماة إنسانية، هي فعلاً إنسانية؟!
.. وهو ما أصبح محل شك !!؛
لوجود مجموعة عوامل تؤثر سلباً في إنسانية العلوم الإنسانية،.. والحقيقة أنه يمكن
الوثوق بالنظرية في العلوم الطبيعية، والتطبيقية؛ لأن نتائجها بادية للعيان،
وقابلة للاختبار أما النظرية في العلوم الاجتماعية، والإنسانية فلا يمكن الوثوق
بها، ويذهب البعض إلى أنه يمكن الانطلاق من دون نظرية في بعض المجالات، ويستدلون
على ذلك بأن علماء الحضارة الإسلامية لم ينطلقوا من نظريات بعينها، رغم أن مطالعة
أي كتاب لهم يشي بأن وراءه منطقا، ونسقًا نظريًا محكمًا سواء في الصياغة أو في
الأدوات المستخدمة أو في نظام الاستدلال أو في التقسيم المنهجي، وإلحاق الفرع
بالأصل، والمثيل بمثيله، والنظير بنظيره، الأمر الذي يبرهن على وجود إطار نظري
كامن إذ لا يمكن تصور عمل معرفي من دونه، وإذا كانت النماذج النظرية أو النظرية
الاجتماعية حاضرة في أي عمل بحثي.
.. عانت العلوم الاجتماعية
قي الفكر الأوربي من سيطرة نظريات زائفة، ومناهج العلوم الطبيعية الزائفة، وليس
أدل على ذلك من دعوتها إلى «الحداثة» من خلال خزعبلات داروين التي تم حقنها
بالحياة على يد ريتشارد دوكنز فيما أسماه بـ «االدارونية الجديدة .. صانع
الساعات الأعمى»*(11) والتي لا تزيد عن كونها مساجلات نظرية
تستهدف السفسطة، وملء الفراغ، والتسويغ للا أخلاقيات إلقاء البشر في سلال المهملات،
ومزابل النفايات، فـ «الحداثة» تعاملت مع الإله بجهالة وسوء أدب مع الله «صانع
الساعات الأعظم سبحانه وتعالى»، ومع العالم بوصفه الساعة التي تعمل من دون
الحاجة إلى تدخل أى قوة خارجية أو التي حولت العالم إلى غابة دارونية، والبشر إلى
نباتات عضوية أو حيوانات مفترسة !! .
.. يؤكد دوكنز بلا دليل أن
الانتخاب الطبيعي الذي يتحكم في اتجاه التطور هو لا عشوائي، وإن كان في نفس الوقت
لا يتجه لهدف في المستقبل، وهو إذ يؤدي إلى تصميمات مركبة؛ فهو بمثابة صانع ساعات
معقدة، ولكنه صانع ساعات أعمى بلا رؤية وبلا غرض .
لم يستطع دوكنز أن يفسر كيف
بدأ الانتخاب الطبيعي في عالمنا، ولم يشير إلى استغلال تلك الأراء المزيفة
استغلالاً سياسياً لتبرير الحروب على أنها وسيلة لبقاء الأصلح أو تبرير السلطة،
والثروة بمزاعم عن الحتمية الوراثية لذلك .
.. «صانع الساعات الأعمى»
عنوان اقتبسه دوكنزمن رسالة «اللاهوت الطبيعي» للقس وليم بالي أحد علماء
اللاهوت في القرن التاسع عشر، والتي نشرها في عام 1802، والتي يبدأها بالي بفرضية ليصل من
خلالها إلى نتيجة هزلية بقوله :
«لنفترض أنني أثناء عبور مرج
حطت قدمي على قطعة حجر، وسُئلت كيف وصل الحجر إلى هناك، لعلى أجيب بأني لا أعلم؛
فربما يقبع هناك منذ الأبد، ولكن لنفرض أني وجدت ساعة على الأرض، وأنه ينبغي البحث
عن كيف حدث أن وجدت الساعة في ذلك المكان؛ فلن أجيب تلك الإجابة التي سبق أن أدليت
بها بشأن الحجر، وهذا هو الفرق بين الأشياء الفيزيائية كالحجارة، والأشياء المصممة
المصنوعة مثل الساعات إذ ينبغي أن يكون للساعة صانع صمم تركيبها، وأدرك استخدامها؛
فصانع الساعات له تبصر بتصميم تروسه وزنبركاته، ويخلط ما بينها من ترابطات، وقد
وضع نصب عينيه هدف مستقبلي أما ما يصنع الساعات في الطبيعة هو «الانتخاب الطبيعي»
الذي اكتشفه داروين في تلك العملية الأتوماتيكية العمياء غير الواعية التي بلا
عقل، ولا تخطط للمستقبل، والتى يقال عنها أنها تلعب دور صانع الساعات في الطبيعة،
فهو صانع ساعات «أعمى» ..
***
.. الدارونية أسطورة ساذجة من
الممكن أن تصلح نموذجاً تفسيريا للأغبياء لتبرير أفعال الافتراس الطبقي، والغصب،
والقتل، والعدوان، ونهب الشعوب!! .. لكنها لا تمت للعلمية بصلة !! بناء على الجزم
بأنه: «لا منطق للاكتشاف».
.. الدارونية منظومة تستند إلى
خرافة همجية لا تميز بين الإنسان، والأشياء بمعنى أن القوة هي المعول عليه الأساسي
للإستراتيجية الأمريكية أي أن عقيدته أو ديانتها هى «القوة» بحيث تصبح الذات
الأمريكية التي حملت السلاح هي إله الكون الذي يحدد كل شيء، .. والداروينية هي
أيضا المرجعية النهائية للنشاط الاقتصادي الرأسمالي؛ فالإستهلاك في مجتمع
المستهلكين ليس إشباع الحاجات، والرغبات، والأمنيات بل تسليع المستهلك أو إعادة
تسليعه، إنه رفع حال المستهلكين إلى حال السلع القابلة للبيع، وهو ما يمكن المجتمع
من سهولة التخلص منهم على شكل نفايات؛ فإن الصناعة الأكثر رواجاً في «المجتمع
السائل» هي صناعة «التخلص من النفايات»، بل سرعة ومهارة التخلص من
النفايات .. إذ أن بقاء ورفاهية أفراد المجتمع يقاسان بمدى سرعتهما في التخلص من
المنتجات، والبضائع، وإرسالهما مستوع النفايات، ولم تقتصر صناعة النفايات على
البضائع، والمنتجات المادية بل تعدتها إلى المنتوجات البشرية لأن من أهم سمات
الحداثة السائلة إنتاج معدلات ضخمة من النفايات البشرية بفضل ابتكار حديث وهو : «صناعة
التخلص من من النفايات»، وقد انتعشت
هذه الصناعة بحسب باومان بفضل تحول الكثير من أنحاء الكرة الأرضية إلى سلال مهملات
أو (مزابل) التخلص من البشر .
الدارونية والبستنة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعد «ثقافة البستنة»، و«إنتاج
نفايات البشر» هما إعادة صياغة لـ «الدارونية»؛ فـ «ثقافة البستنة»
يتم الترويج لها باعتبارها خطة لحياة مثالية، وتنظيم مثالي للأوضاع الانسانية؛
لكونها ثقافة تُستمد من الارتياب في الطبيعة العفوية لتصبح بذلك ثقافة الإبادة،
والتخلص من البشر؛ «ثقافة البستنة» ابتدعها الأمريكان لشرعنة الإبادة؛ لتصبح تلك
الثقافة للتخلص من البشر ثقافة إعتيادية
بزعم تطهير المجتمعات من الإرهاب، ونشر الديمقراطية، وغيرها من الحجج التي تبيح
رمي البشر في مزابل النفايات البشرية التي أعدت بعناية في بعض أماكن الكرة الأرضية
!!
.. «البستنة» مشتقة من لفظ
«البستان»، والقائم عليه هو «البستاني الأمريكي» الذي يحدد ماهية الحشائش الضارة،
ويقرر إزالتها لأن التخلص منها عمل بناء لا هدام .. يقوم به البستاني بعمله بشكل
روتيني يومي، وبهذه الطريقة تتم عملية إبادة البشر الضارين غير النافعين!!
.. والحقيقة أن هناك مشكلة
أساسية تواجه المجتمع المنتظم حول قيم «نفعية»، وهي التخلص من البشر «غير
المفيدين» أو السمات «عديمة الجدوى» عند الإنسان، والسيطرة عليها؛ فمثل
هؤلاء البشر قد يفصلوا، ويعزلوا أيكوجياَ في جيتوهات، أو مناطق منعزلة مكانياً حيث
لا تثير رؤيتهم ألم المفيدين .
الدارونية والبرجماتية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدارونية هى منطق الأقوياء الذين أرسوا
مبدأ :«البقاء للأقوى»، وهم يدركون أن على الضعفاء الإذعان لهم، والتكيف مع
الواقع الذي تمليه إرادتهم، و«البرجماتية» بكل لا أخلاقياتها شكل من أشكال «دارونية
الضعفاء، والمهزومين، والمهمشين»، ومرجعية التافهين في تسيير أمور حياتهم
الخاصة، وفي تفاعلهم مع بعضهم البعض خارج إطار الدولة ..
..
تلك البرجماتية التي تفسر ظاهرة تنامي :
«الكائن السائل» في
الشارع المصري الذي أصبح مجتمع للانكسار، وتصدع الروابط الانسانية، والتي يلخصها
الفكر الشعبي العامي في مقولتي :«اللي تغلب به .. إلعب به»، و«كل واحد بيقول : الله نفسي.»؛ الذي
كشف عن داء عضال ينهش في كيان المجتمع، وينبئ عن حالة وصفها عالم الاجتماع المجري
كارل مانهيام (1893-1947) باسم : «حالة الأنوميا Anomie» وتعني : «خواءً اجتماعيا»*(12) وتتلخص أعراضها في تفكك الروابط بين الفرد
ومجتمعه، وتعرض البنية المجتمعية للتكسر والتحلل، وشيوع الجريمة، والفوضى، والتفكك
الأسري، والانهيار الحضاري لأن الوجود الفردي لم يعد راسخ الجذور في وسط مجتمع
ثابت ومتكامل وموحد، ويفقد الشطر الأكبر من نشاط الحياة معناه، ودلالاته، واتجاهه،
حتى وإن ظلت هناك قوة تحمل اسم «الدولة» تبطش بالمستضعفين حفاظاً على هيكل السلطة
.. ولكن بنية المجتمع باتت بنية عقيم مصابة بحالة من فقدان المناعة .
.. مفهوم «الأنوميا Anomie» عند اميل دوركايم التي وصفها في كتابه: «الانتحار»)؛ يقترب من حالة السيولة عند زيجمونت باومان إذ يرى دور
كايم أنها حالة من الاضطراب، والقلق لدى الأفراد نـاجمة عن إنهيار المعايير،
والقيم الإجتمـاعية، أو الافتقـار إلى الهدف، والمثل العليا.
دخل المصطلح إلى علم الاجتماع
على يد عالم الاجتماع المجري كارل مانهيام (1893-1947)، وبني عليه عالم الاجتماع
إميل دوركـايم عام 1897، في كتابه «الانتحار»*(13)، وتتجلى حالة الأنوميا عند دوركـايم في ظل
حالة التفكك التنظيمي لمؤسسات المجتمع، وانهيار المعايير، والانفصال بين الأهداف
الاجتماعية المعلنة، والوسائل الصحيحة لتحقيق هذه الأهداف، ويشعر المرء سيكولوجيا
بالاغتراب، والعبثية، والإنهيار الأخلاقي مما ينعكس سلباً، وعزلة، وانحراف؛
فالأنوميا هي ثورة الفرد على كل معايير المجتمع من تقاليد، وأعراف، و دين إلخ، وقد
تحدث إميل دوركايم في هذا الصدد عن الإنتحار الأنومي، وهو إنتحار ناتج عن كسر
الفرد لمعايير مجتمعه، والتخلي عنها، في هذه الحالة يصبح الفرد يعاني من حالة
إغتراب داخل المجتمع تؤدي به إلى العزلة، والإنفراد لينتج عنهم الإنتحار .
***
.. وكي لا يكون الكلام مرسلاَ،
ومطلقاً على عواهنه، أو مجرد توهمات تحت تأثير حالة مزاجية عارضة نستشهد بدراسة
علمية جرت بمعرفة مركز الدراسات الاجتماعية بجامعة القاهرة برعاية وزارة التنمية
الإدارية، ومركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء بعنوان: «الأطر
الثقافية الحاكمة لسلوك المصريين واختيارتهم .. دراسة لقيم النزاهة والشفافية
والفساد»*(14)
.
.. أكدت الدراسة أن «التغيرات
التي شهِـدها المجتمع المصري تركت آثارا كبيرة علي سلوكِـيات المواطنين، ومنظومة
القِـيم، وشكل الأطر الثقافية، والاجتماعية»..
.. نفضت الدولة يديها من
مسئوليتها؛ بما فتح المجال للمبادرات الشخصية، وللأفراد لإيجاد حلول فردية لكثير
من المشكلات الاجتماعية بالاعتماد على إمكانيات ضئيلة، ووسائل غير كافية تماماً،
وغير واعية باقدر الكافي، وينجم عنها حلول «ظرفية مؤقتة، ومتعجلة»، وغير
مجدية، ولا تصلح لأن تكون حلولاً على المدى البعيد، وسرعان ما نجد أنفسنا مضطرين
إلى البحث عن حلول أخرى؛ بما أدخلنا في وضع مأساوي حالك السواد لخصه د. نزيه
الأيوبي في مقولة :«دولة ضارية، .. ومجتمع مهمش»؛ ولأنه لا يمكن فهم مأساة
المجتمع العربي، وتخلف العلوم الإنسانية فيه، وعجز الأنموذج الإرشادي (باراديم)،
وقلة حيلة علماء الاجتماع، وحيرتهم دون فهم الطبيعة التسلطية لأنظمة الحكم، وطبيعة
الدولة السلطانية القائمة على القبلية، والعصبية، وطبيعتها الغنمية للقائمين
عليها، ومواليهم بتقسيم الجماهير إلى: «أولئك الذين معنا»، و«أولئك
الذين ليسوا معنا» .. وتقديم المكافآت السخية لـ «أولئك الذين معنا»،
ومقاطعة «أولئك الذين ليسوا معنا» .. أما أصوات الذين يشعرون بالنفور فيتم
إغرق أصواتهم بضجيج الدهماء من خلال الاتهام بالتخوين، والعمالة، أو على الأقل يتم
وصفهم بـ «القلة المندسة» أو «القلة الحاقدة» وترسيخ يقين أن «القيادة
تعرف أكثر»، و«أنك ليست لديك الصورة الكاملة» مع التلويح بالنبذ لمن
يظهرا رأياً متفرداً بغرض التخويف من الإقصاء، أو نقص المكانة، أو إنهاء الوجود
ذاته ..، أما الأشخاص الذين يقفون في منطقة الحياد، فيجب إغراقهم في الضجيج، بحيث
لا يحظى الإنسان بفواصل كافية من الصمت؛ كى يركز، ويكمل عملية التفكير حتى النهاية
بالمعنى المترابط، وقد برزت في الغرب المعاصر ظاهرة عرفت بـ «ديمقراطية الضجيج»،
وهؤلاء عادة ليس لهم أي تأثير في الواقع، ولا يتم استدعاؤهم سوى لإظهار التأييد
للوضع القائم فقط؛ لينصرفوا بعد ذلك إلى البقع المعتمة دون الحصول على شيء!!.
يدخل تحت ما يسمى بـ «ديمقراطية
الضجيج» إغراق الخبر الذي يستحيل تجنبه في تيار عشوائي من المعلومات الخالية
من أي معنى، والمبتذلة أو عبر ما يسمى «الحقن بالحلم» عبر نشر الأخبار
المبهجة !!
.. يقول شيللر:
«كما تعيق الدعاية التركيز،
وتنشر المعلومة المقطوعة الصلة بالاتزان، فإن تقنية معالجة المعلومة الجديدة تسمح
بملء الأثير بتيارات من المعلومات غير الضرورية، التي تُعقِّد على الفرد أكثر
عملية البحث اليائسة عن المعنى.».
أولاً : الدولة العربية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
حاولنا أن ننقل سمات وطبيعة
الدولة العربية من خلال رؤى أربع من أساطين الفكر السياسي العرب ، وهم : د. نزية
نصيف الأيوبي، ود. محمد السيد سعيد، ود. وائل حلاق، ود. هبة رءوف عزت من خلال
أطروحاتهم المنشورة .
1 ـ د. نزية نصيف الأيوبي :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. ينقلنا د. الأيوبي إلى مأساة
الدولة العربية بكل ما تحمله من تخلف في مؤلفه بعنوان : «تضخيم الدولة العربية»*(15)، والذي صدر في النصف الثاني من تسعينيات
القرن العشرين بالإنجليزية، وصدرت ترجمته العربية في عام ٢٠١٠، يبدأ هذا العمل
الموسوعي بافتراض مقتضاه أنه بالرغم من أن معظم الدول العربية هي دول صلبة وضارية،
فإن قلة قليلة منها هي التي يمکن أن نعتبرها دولًا قوية حقيقة؛ فمعظم هذه الدول
تمتلك جيوشًا وبيروقراطيات، وسجونًا متعددة، ولكنها تفتقر إلى القدرة فيما يتعلق
بجباية الضرائب أو کسب الحروب أو حتى في تشكيل إطار أيديولجي لقيادة مجتمعاتها
بشکل يتجاوز استعمال القوة القهرية، ويتبنى الكتاب منهج الاقتصاد السياسي لتحليل
اثنتي عشرة دولة عربية (مصر، وسوريا، والعراق، والأردن، والمملکة العربية
السعودية، والکويت، والإمارات العربية المتحدة، ولبنان، واليمن، وتونس، والمغرب)
بشكل أساسي مع الإشارة إلى حالة ترکيا وإيران کلما لزم الأمر لاختبار الفرضية
السابق الإشارة إليها؛ وحاول الأيوبي من خلال الکتاب تحقيق هدفين رئيسين:
الأول : يتعلق باختبار صحة
فرضية خصوصية المنطقة العربية بشکل يستدعي تفسيرات خاصة، وفردية لتحليل کل
ظواهرها.
الثاني : يتعلق بقراءة العلاقة
بين الاقتصاد السياسي، والثقافة السياسية لهذه الدول - والمنطقة العربية بشكل
أکبر- من خلال استقراء کتابات الباحثين العرب أنفسهم.
.. وناقش الأيوبي بقدر کبير من
التفصيل الكتابات النظرية حول فكرة، ومفهوم الدولة خاصة من وجهة نظر المارکسيين
القدامى، والجدد وإن کان أولى اهتمامًا خاصًّا لتحليل جرامشي عن نظرية الدولة،
وخاصة مفهومي الهيمنة، والتشارکية، کما ناقش بقدر من الاستفاضة تأثر علماء السياسة
العرب المعاصرين في نظرتهم للدولة
بالمدرسة السلوکية الأمريکية، ومقولاتها الرئيسة بالرغم من التباعد بين بيئة
مفاهيم هذه المدرسة، وبيئة الدول العربية التي يراها الأقرب لتحليل جرامشي
ومدرسته، فالدولة في المنطقة العربية وغيرها من مناطق العالم غير الأوربي قد تطورت
بشکل قانوني رسمي (من حيث علاقتها بالتراث الاستعماري)، وإن لم تتطور بنفس الدرجة
بالمعنى السوسيولوجي (بمعنى علاقتها بالمجتمع)، کما عانت من النمو غير المتوازن في
قطاعات الاقتصاد، والتنمية لصالح النمو في قطاع البيروقراطية، وأجهزة القمع، وقدم
الأيوبي قراءة نقدية تفصيلية لعلاقة العرب بالدولة، وخاصة تطور نظرتهم من المجال
الإسلامي (الأمة) للمجال الدولتي (الدولة بمعناها الحديث)، وما ارتبط بها من
مفاهيم العدل أو الحرية أو غيرها.
.. يستقرئ الأيوبي أفكار کل من
حامد ربيع حول الوظيفة السياسية، والدعوية للدولة في التراث الإسلامي مقارنة
بالدولة في الفكر الأوربي، وتأثير ذلك على تطور الدولة، وغربتها عن السياق العربي*(16)، وأفکار عبد الله العروي حول علاقة الفرد
بالدولة في مسيرتها التاريخية والتي يمکن القول إن الدولة ظلت جهازًا غريبًا عن
المجتمع؛ يتحکم في حياته، وإن کان لا يعبر عنه*(17) ويخلص إلى مناقشة مطولة نسبيًّا حول مفهوم
الدولة، والمفاهيم المتصلة به من وجهة نظره، والتي يمکن تلخيصها في ثلاث مفاهيم :
التشارکية في المصالح بين مجموعة ضيقة من النخب، والهيمنة، واللاتوازن في السيطرة.
ينتقل الأيوبي بعد ذلك لمناقشة
العلاقة بين أنماط الإنتاج، وأصول الدولة العربية الإسلامية، وتشکل الدولة في
العصر الحديث، وتأثير الاستعمار عليها، ويرکز في فصل خاص على دراسة فکرة الوحدة
العربية، وعلاقتها بالدولة القطرية، ويختبر فرضياته المنطلقة من الاقتصاد السياسي،
واقتراب الثقافة السياسية في دراسة ما أسماهم بالجمهوريات الراديکالية الشعبوية،
والملکيات المحافظة القائمة على أساس القرابة، وينتقل بعد هذا إلى دراسة تفاصيل
علاقات القوى في داخل الدول العربية، وانعکاسات مفهوم الهيمنة کما قدمه في البداية
من خلال دراسة العلاقات المدنية العسکرية، والنمو البيروقراطي بالإضافة إلى ظاهرة
الخصخصة، ومستقبل الديمقراطية، وخاصة دور المجتمع المدني، وينتهي بفصل خاص عن الدولة
القوية والصلبة والضارية، والذي يعيد فيه مناقشة الفروق بين الدول القوية
القادرة على التغلغل في مجتمعاتها من خلال شبکة علاقات، ومصالح معبرة عن المجتمع،
ويقارن هذا المفهوم بالدولة الصلبة، والتي يميزها من خلال قدرتها على السيطرة
الأمنية على مجتمعاتها دون قدرة على السيطرة بنفس الشکل في مسائل إنفاذ القانون أو
القدرة التوزيعية، وتتميز الدولة الضارية باستبدادها بمجتمعها على جميع الأصعدة،
ويؤکد الأيوبي على ضرورة التفرقة بين الدولة القوية، وقوة الدولة على مستوى مؤسسات
الأمن والبيروقراطية، فالدولة العربية في وجهة نظره هي دول ضعيفة في مجتمعات قوية،
ويحاول الاستدلال على هذه النتيجة من خلال تحليل مفصل للنظم الضرائبية في الدول
العربية، وکيف أن فلسفتها، وطريقة تطبيقها، والتداعيات السياسية، والاقتصادية
المترتبة عليها تؤکد ضعف الدولة، وينتهي باستنتاج يراه واضحًا؛ إذ إنه ليس من
الضرورة أن تنمو الدولة بشکل استبدادي على حساب المجتمع؛ فمن الممكن للاثنين أن
يزدهرا معًا.
.. الخط الحاکم لتحليل الأيوبي
للدولة العربية، وتضخيمها هو الاقتصاد السياسي، وعنصر الثقافة السياسية اللذان
يقدمان في نظره تفسيرًا للخصوصية العربية دون الإغراق في الحديث عن فردية التجربة،
على مستوى آخر فهناك تساؤل مشروع عن قدرة هذا العمل على تقديم تفسير لظاهرة الدولة
الحديثة، ومشکلاتها خارج الدول الاثنتي عشرة التي درسها في السياق العربي؛ فمحاولة
الإجابة عن کل شيء قد تصل بنا إلى عدم القدرة على الإجابة عن أي شيء.
ولکن في کل الأحوال تظل
الدولة/ السلطة هي المفهوم، والظاهرة الأهم في المخيال السياسي لعلماء السياسة
العرب بشکل عام، والمصريين بشکل خاص.
2 ـ د . محمد السيد سعيد :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يدعم وجة نظر د . نزيه
الأيوبي ما تضمنه کتاب محمد السيد سعيد عن: «الانتقال الديمقراطي المحتجز في
مصر»*(18) الذي نشر
في طبعته الأولى في عام ٢٠٠٦، وسط ما بدا أنه مزاج عام لدى بعض الحكومات
العربية، والضغوط الدولية لتحقيق تحول ديمقراطي بشکل ما، خاصة في ضوء ما طرحه جورج
بوش حول «مبادرة الشرق الأوسط الکبير» عقب الغزو الأمريکي للعراق في ٢٠٠٣،
فقد شكل العقد الأول من الألفية الجديدة ما بدا أنه استجابة من النظم السياسية
العربية للضغوط الشعبية تجاه مزيد من الانفتاح الديمقراطي، ويحاول سعيد في کتابه
دحض هذه المقولة على اعتبار أن السعي للديمقراطية من جانب الشعوب العربية والحالة
المصرية على وجه الخصوص هو أمر قديم يعود إلى نهاية الستينيات من القرن العشرين،
هذا التراث من الحراك الشعبي قوبل بالرفض، والمواجهة من جانب النظم السياسية، إلى
جانب جهود هذه الأنظمة في إجهاض هذه الحرکات من خلال تقديم إصلاحات دستورية،
وقانونية فارغة من المضمون، وإن نجحت في کسب مزيد من الوقت لصالح استقرار،
واستمرار الأنظمة الحاکمة، تظهر مفاهيم الإصلاح الدستوري، والمجتمعي بشکل مترابط
مع مفاهيم الإصلاح الاقتصادي، والسياسي کشروط ضامنة لبدء لتحول ديمقراطي حقيقي
واستمرار هذه التحول؛ فيرى الکاتب أن مشروعات الإصلاح الدستوري، والقانوني التي
تطرحها النظم الحاکمة في غياب حوار مجتمعي حقيقي حول مضمون هذه الإصلاحات،
وعلاقتها بالمنظومة الإصلاحية الکبرى في المجتمع، هو أمر يفرغ هذه الإصلاحات من
جوهرها ومضمونها في الوقت نفسه يرصد سعيد شعورًا متزايدًا بميلاد رغبة متزايدة في
المجتمع تجاه إحداث إصلاح حقيقي، وإن کانت هذه الرغبة لا تزال في تلك الفترة
بمثابة الرماد غير الظاهر للعين، ويحاول سعيد أيضًا من خلال الكناب تقديم قراءة
نقدية لعدد من المفاهيم التي سادت کثيراً في أدبيات دراسة المنطقة لتبرير
الاستبداد وتراثه؛ فيرى أن استبداد النظم العربية لم يُبنَ على نظرية سياسية
للاستبداد الشرقي، أو الفرعونية السياسية، ولکن بُني على تطورات ومعطيات تاريخية
ارتبطت بمراحل بناء الدولة الحديثة في العالم العربي.
.. في مقابل هذا يطرح سعيد
رؤيته لما أسماه بـ «التحلل السلطوي» في الدولة المصرية على سبيل المثال؛
فالنظام السياسي لم يعد قادرًا على استيعاب المجتمع داخل حقله الأيديولوجي، وغير
قادر على إحداث طفرات اقتصادية، ولا إصلاحات اجتماعية، ومن ثم فالبناء السياسي،
والاقتصادي الذي أسس على معادلة الأمن، والسياسة، والخدمات الاجتماعية فقد واحدة
من أهم أسس شرعيته، وبدأ في مرحلة التحلل السياسي، ويطرح سعيد معادلة جديدة وجديرة
بالاهتمام في مسألة الانتقال الديمقراطي؛ فيقدم رؤيته الناقدة للتطور الديمقراطي
في أوربا، ومسألة ربطه بفکر التنوير، والفکر الدستوري؛ فيرى أن تطورات الديمقراطية
حدثت حينما تكاتفت ثلاثة عوامل بالأساس؛ التعددية السياسية الحقيقية، والتوازن
الحرج بين مختلف القوى السياسية، والثالثة هي إدراك وممارسة الحلول السلمية للصراع
السياسي بناء على مبدأ الأغلبية؛ أي بعبارة أخرى ما أسماه بـ «التعلم
الديمقراطي»، وينتقل سعيد لمناقشة ما أسماه بـ «المعطيات الذاتية
والموضوعية للديمقراطية» في المجتمعات العربية، على اعتبار أنها (أي
الديمقراطية) وسيط تاريخي للانتقال للعصر الحديث، وتتحول الديمقراطية وفق رؤية
سعيد لأداة، وليست لغاية في حد ذاتها.
3 ـ د . وائل ب . حلاق :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في سياق الحديث عن كيان الدولة
من منطلقات الفكر الإسلامي جاء كتاب
د . وائل . ب . حلاق بعنوان :«الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق
الحداثة الأخلاقي»
*(19) تتمثل أطروحة الكتاب الرئيسة في أن مفهوم
«الدولة الإسلامية» مستحيل التحقق، وينطوي على تناقض داخلي؛ وذلك بحسب أي تعريف
سائد لما تمثله «الدولة الحديثة»، وتناول د . حلاق «مقدمات» وصف «الحكم
الإسلامي النموذجي»، ويرسم حدود مفهوم «النموذج» كما سيجري استخدامه
بوصفه مفهومًا مركزيًّا في أطروحة الكتاب الكلّية، وينتقل يصف إلى وصف «الدولة
الحديثة النموذجية»، ويحدّد «خصائص الشكل» التي تمثّل الصفات الجوهرية
للدولة الحديثة، ويقوم بتفكيك تلك الخصائص، معترفًا في الوقت عينه بالتغيرات
المتزامنة، والتنوّعات المتلاحقة في تكوين تلك الدولة.
.. وتناول د. حلاق مبدأ الفصل بين السلطات
بين حكم القانون، وحكم الدولة، فناقش مفاهيم الإرادة السيادية، وحكم القانون في ما
يخص المبدأ؛ هادفًا من وراء هذه المناقشة إلى استعراض الأطر، والبنى الدستورية لكل
من الدولة الحديثة والحكم الإسلامي، وتسليط الضوء على الاختلافات الدستورية بين
نظامي الحكم هذين، واعتمادا على هذه الاختلافات، يستكشف الاختلافات بين القانوني،
والسياسي، والأخلاقي، ومعنى القانون، وعلاقته بالأخلاق، ويؤكد من خلال هذا العرض
الفلسفي أساسا الاختلافات النوعية بين المفهوم الأخلاقي للدولة الحديثة، والحكم
الإسلامي، ويحوّل هذا العرض إلى عرض ذي طابع سياسي، وستتعزّز هذه التباينات
القانونية - الأخلاقية بفعل التباينات السياسية كاشفة عن مجال آخر من عدم التوافق
بين الدولة الحديثة، والشريعة.
.. يرى د. حلاق أن : الدولة
القومية الحديثة، والحكم الإسلامي يميلان إلى إنتاج مجالين مختلفين من تكوين
الذاتية، وأن الذوات التي ينتجها هذان المجالان النموذجيان تتباين تباينًا كبيرا،
الأمر الذي يولد نوعين مختلفين من التصورات الأخلاقية، والسياسية، والمعرفية،
والنفسية، والاجتماعية للعالم، وتلك الاختلافات العميقة بين أفراد الدولة القومية
الحديثة، ونظرائهم في الحكم الإسلامي إنما تمثل التجليات المجهرية المصغرة
للاختلافات الكونية المادية، والبنيوية، والدستورية، وكذلك الفلسفية، والفكرية .
ويتحدث د. حلاق عن الأشكال
الحديثة للعولمة، ووضع الدولة في هذه الأشكال المتعاظمة القوة، وانهما يكفيان لجعل
أي صورة من الحكم الإسلامي إما أمرا مستحيل التحقق، وإما غير قابل للاستمرار على
المدى البعيد هذا إذا أمكن قيامه أصلا، وبعبارة أخرى، يصل المؤلف إلى نتيجة
مفادها:
«إذا جرى أخذ كل العوامل في
الحسبان؛ فإن الحكم الإسلامي لا يستطيع الاستمرار نظرا للظروف السائدة في العالم
الحديث .».
ويختم د. حلاق كتابه بتفحص
مآزق أخلاقية حديثة مع الإشارة إلى أسسها المعرفية، والبنيوية بصفتها تؤسس لأصل
الأزمات الأخلاقية التي واجهتها الحداثة في كلّ صورها الشرقية والغربية؛ حيث
يرى المؤلف أن استحالة فكرة الحكم الإسلامي ناتجة بصورة مباشرة من غياب بيئة
أخلاقية مواتية تستطيع أن تلبي أدنى معايير ذلك الحكم وتوقعاته، ويرى أن هذه
الاستحالة هي تجل آخر لعدة مشاكل أخرى ليس أقلها شأنا الانهيار المطرد للوحدات
الاجتماعية العضوية، ونشأة أنماط اقتصادية استبدادية، إضافة إلى ما هو أكثر أهمية
من ذلك، وهو الدمار الشامل للموائل الطبيعية، والبيئة.
.. ومع ذلك يؤكد د.حلاق أن
الكتاب لا يهدف إلى إصابة القارئ المسلم والعربي بالإحباط واليأس من عدم قدرته على
الفكاك من ورطة الحداثة التي وجد نفسه فيها بلا اختيار منه، ومن استحالة قيام دولة
إسلامية تحافظ على خصوصيته الأخلاقية، والتاريخية، وإنّما غايته هي توفير سبيل
للمسلمين إلى الحياة الحسنة المستندة إلى موارد تاريخ الإسلام الأخلاقية، واثبات
أن أزمات الإسلام السياسية وغيرها ليست بالفريدة أو الخاصة، بل هي جزء لا يتجزأ من
العالم الحديث، في الغرب كما في الشرق.
في الوقت الذي يرى البعض أن
كتاب «الدولة المستحيلة» يعد «إجهاضاً معرفيا»ً لفكرة الإسلام السياسي يرى
البعض أنه محاولة لـ «التجسير» بين الذات والآخر .
4 ـ د . هبة رءوف عزت :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في هذا السياق تقدم د. هبة
رءوف عزت أطروحتها بعنوان :«الخيال السياسي للإسلاميين .. ما قبل الدولة وما
بعدها»*(20) ، الفکرة المرکزية لدى الکاتبة، والتي
تحاول مناقشتها بقدر من التفصيل هو «تماهي تصور الدولة عند التيار الإسلامي بدرجة
کبيرة مع تصورات الدولة القومية الحديثة على الرغم من كل الشعارات، والعناوين من
خلال ما تبين للباحثة عبر سنوات من البحث في مفهوم الدولة القومية، وما تؤكده من
معرفة قوية بأبعاد السلطة، والحكم في النظام الإسلامي، من خلال منهج الملاحظة
بالمشاركة الذي مارسته من خلال الخبرة العملية، والانخراط في واقع الصحوة
الإسلامية لجيل السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين.».
وتعد الدراسة تحليل نقدي
لأفكار حقبة مهمة سبقت الانتفاضات العربية؛ بما يعين على فهم أسباب الارتباك في
الإدارة السياسية، والعلل الكامنة في بنية الدولة الحديثة التي لم ينتبه إليها
القطاع الأوسع من التيار الإسلامي، وظن أنها حصن يمكن الاستيلاء عليه، في حين أن
من درس الدولة القومية، ونشأتها، وعرف خرائطها التاريخية، والمنطق الكامن فيها
يعلم أنها ثقب أسود يلتهم الأيدلوجيا، والأخلاق لصالح الهيمنة، والتحكم، ومصالح
رأس المال، وأنها كيان قائم على العلمانية؛ الأمر الذي يستلزم فهم التيار الإسلامي لشروط كل مرحلة
يريد أن يقطعها من أجل التغير، وأن يثق في قدرته على تغيير هذه الشروط والسياقات،
ووعي بالضوابط الدقيقة لذلك كي لا تضيع الغاية، وتُفقد البوصلة.
ترى د. هبة رءوف ضرورة إعادة
التفکير في الدولة الحديثة التي ورثها العالم (وليس المنطقة العربية أو الإسلامية
فقط) من منتصف القرن السابع عشر، وهذه الدولة تقوم على أضلاع ثلاثة (فهى
«قومية» نشأت على بزوغ الفكر القومي، وهي «قطرية» قامت على ترسيم الحدود الجغرافية
لنفسها أو استباحة حدود الأخرين بالاحتلال، وهي « حديثة» لأنها تأسست على أركان
فكر الحداثة الذي لآ يؤمن بالغيب، ويعتبر ما وراء الطبيعة خارج إطار العلم، وتحت
سقف الدولة، وهو فكر يحكم موازين القوى في مجالى التشريع والأخلاق.)، ولا يمکن
فهم علاقتها بالمجتمع دون إدراك الأسس النظرية التي اعتمدت عليها في نشأتها،
وعلاقتها بالأضلاع الثلاثة، وترى د. هبة أن أساس الدولة في المنظومة العقدية،
والتشريعية الإسلامية مختلف فهو يقوم على استقلال القضاء، والعلماء، والأوقاف،
والفصل الرأسي والأفقي بين سلطان الملك، ومؤسسات العلم، ودائرة العدل، وکفالة
الاستقلال المادي لهذه المؤسسات من ثم فإن محاولات أسلمة الدولة القطرية الحديثة
هي مسألة محكوم عليها بالفشل بسبب اختلاف المنطلقات الفکرية، والفلسفية، وآراء کل
منهما.
كان الهم الأساس الذي انطلقت
منه د هبة متعلقا بالخطاب الإسلامى، فى محاولة منها للخروج مما تُسميه «الثنائية
المفخخة» التى تضع العلمانية فى مقابل الحاكمية/الشريعة التى اعتبرتها «حائلًا دون خيال الإسلاميين، وخطابهم السياسي؛
مما جعل أطروحاتهم فى حالة ركود عبر قرن كامل» .
ترى د. هبة أن المشکلة في
محاولة إيجاد علاقة بين الدولة القطرية والمنظور الإسلامي؛ فالخطاب الإسلامي
الرائج في كثير منه (حسب وجهة نظر الباحثة) خطاب ليبرالي رأسمالي في جوهرة،
ومتسربل بالديباجة الدينية، ويسعى إلى الأسلمة بتنقية الهياكل من ظواهرها
الرأسمالية من دون نقض لها أو إعادة تأسيس هياكل اقتصادية، وسياسية، وإدارية مؤسسة
على بنيان الإسلام، وفلسفاته في العمران التي تقوم على العدل، وشراكة الناس في
مقومات الحياة؛ فهو بمثابة تعبئة النبيذ القديم في أوان جديدة دون إدراك ضرورة
الاشتباك مع النبيذ القديم اصلًا، وأهمية إنتاج شيء جديد بالكلية .. تشتبك هبة
رءوف مع النقد «الإسلامي» لمفهوم العلمانية، وتقدم رؤية مختلفة لضرورة تحرير
المفاهيم .
ثمة التقاء بين د. هبة رءوف
ود. وائل حلاق في أمرين :
أولاهما : أن د. حلاق رفض
المقولة التي شاعت في الكتابات الإسلامية والاستشراقية على حد سواء من أن «باب
الاجتهاد قد أغلق في الإسلام»، ويذهب إلى القول من خلال دراسة تاريخية أن هذه
المقولة لم تعكس الواقع الفعلي في التاريخ الإسلامي*(21)، بينما ترى د.هبة أن باب الاجتهاد لم يغلق
بل تجري إعاقته؛ ففي شأن التجديد هناك قرقعة، ولا جديد مؤتمرات تنعقد وكتابات
تنشر، لكن لم تحدث نقلة نوعية يشعر بها المتابع للساحة أو يلمسها الساكن في عالم
المسلمين؛ فشعارات التجديد تسد الأفق بلغط كثير أغلبه سياسي الهوى تردده منصات
تحارب التجديد، وأهله في الواقع، وتنوم العقل كى لا يفكر كثيراً ثم ينتقل من
التفكير إلى التغيير، أما فعل التجديد الحقيقي فتقوم عليه ثلة من الأخرين يتبعثرون
على ثغور عديدة منها الفقهي، والعلمي، والفلسفي لكنهم يعانون قلة الموارد، وضعف
الإمكانيات في حين يتم شغل أصحاب العقول في شتى المجالات بالفرعي من الأمور، أو
بلقمة العيش التي تصرف العقل عن تلمس الحكمة، وإبداع الأفكار، وتذل أحياناً أعناق
الرجال في حين تسيطر على المشهد الثقافي، والفكري رموز من خلف السلطات المهيمنة
على العقل من مؤسسات سياسية، واحتكارات اقتصادية دينية، وأبنية تقليدية غايتها
تجميد الساحة التجديدية في علوم الدنيا، والدين .
وترى د. هبة أن التجديد ليس
أفكار متناثرة يغزلها عقل مبدع، بل هو صناعة ثقيلة للعقل المجدد في كل العلوم،
ولكن العقل المسلم في عمومه ركن للنقل من التراث، أو نقل التكنولوجيا من دون
الإحاطة بقواعد المعرفة التي أنشأتها؛ فالتجديد ليس دعوى تطلق في المؤتمرات
السنوية دون أن تتضافر الجهود لتفتح سراديب التخلف، وتخرج الأمة إلى عالميتها
الثانية .
ترى د.هبة أن واقع الأمة يدلنا
أن هناك «قوى ممانعة ضد التجديد» تتمثل في تلك المؤسسات بعينها التي من
المفترض أن تقود التجديد، ولكنها تكلست حتى صارت مؤسسات إعادة إنتاج للفكر أو
منصات للإرتزاق السياسي، والاقتصادي، وهو ما نلمسه على الساحة : مؤتمرات التجديد،
وبرامج التفنيد، وكتابات الترديد، يُنفق عليها الملايين لتشغل وقت المفكرين،
والفقهاء؛ فتعوق تواصل الجهد البحثي، وتجمع الكبار من دون أن تتيح مساحة للعقول
الشابة، وتجتر القضايا ذاتها من دون أن تبحث في الشواغل الحقيقية التي يمكن أن
تغير نوعية حياة الناس، وتحقق مفصود الشرع من عدالة وحرية، وتتحدث د. هبة عن تجديد
عكسي ينقض كل فكرة أو رأى جديد؛ بوضعها في خانة الخصوصية التي لا تقبل التعميم أو
العمومية التي لا تقبل التطبيق .
وتؤكد د.هبة أن
جهوداً ضخمة تُبذل لكنها خارج السرب، والتغريد خارج السرب ثمنه باهظ، ومحصوله قيد
التفعيل، ويحتاج الجهد، والمال لنشره ،وتعميم فوائده، وبيان حجمه للناس، وإرشادهم
إلى كيفية تغيير نمط الحياة؛ ليثمر التجديد ثماره، ولا بظل حبيس الأوراق من دون
قدرة على تغيير الواقع الذي تحكمه التقاليد، أو يهيمن عليه من بيده السلطة
والمقاليد، أو تحاربه نخب المنتفعين من استيراد الجديد من دون استنبات لعقل رشيد
يرفع لواء الاجتهاد .
وترى د.هبه أن هناك قضايا ملحة في عالم المسلمين
اليوم، وفي العالم بأسره لا ينطبق على التعامل معها فقط منطق التجديد؛ ومن هنا لزم
التجديد بالاقتران بالاجتهاد؛ فالتجديد نفض غبار عن أفكار وتفعيلها، لكن الاجتهاد
هو التعامل مع مستجدات غير مسبوقة، وتقويمها لصالح الإنسان بما يحقق نفعه العاجل،
ولا يجور على مصلحته الآجلة .*(22)
ثانيهما : أن د. حلاق يرى إن
التيارات الإسلامية عامة أحق من غيرها باللوم لغياب الروح النقدية، وما يلحق بذلك
من تقليد سطحي، وتكاسل عن البحث الموضوعي المتأني في الجذور التاريخية، والأسس
القيمية للتوجهات المختلفة، وما ينتج عن ذلك من آفات أخرى، وتحديداً في التعاطي مع
الحداثة والحضارة المعاصرة مثل الإنهزامية، والانتقاص من الذات، وعدم القدرة على
تصور فهم آخر للتفدم؛ فكل هذه أمور لا يعترف بها صراحة مع وجود استثناءات بسيطة
ممن يجهرون بتبرؤهم من الثقافة الى نشأوا فيها أو يدعون صراحة إلى اعتناق الحداثة
بكل ما فيها .*(23)
.. ويسهم د. حلاق في عملية
مراجعة الحركات الإسلامية لتصوراتها التاريخية، والنظرية، ومواقفها العملية، ..
وعدم مساندة الظهير الشعبي، وعزو ذلك إلى مؤمرات مؤسسات الدولة القديمة المتجذرة،
والفاسدة في الوقت نفسهأ، وإلى قوى داخلية طغى مقتها للتيارات الإسلامية على حرصها
على مصلحة الدولة، أو أخرى خارجية اعتقدت بأن وصول التيار الإسلامي إلى الحكم في
يهدد دورها الإقليمي أو أمنها القومي، ولا
يمكن للتيار الإسلامي إلا أن يعترف بالفشل أو بالاخفاق في فهم طبيعة الدولة
الحديثة، ومدى ملائمة أفكاره لها، وقدرته على تطويعها دون إعطاء الفرصة لاستدراجه
تماما إلى ما سعى إلى مواجهته والقضاء عليه، ويرى د. حلاق : «أنه لا ينبغي أن تكون
عملية المراجعة أقل من شاملة، ومبدعة، ومتحررة من نظرة إلى التاريخ مغرقة في
الطوباوية أو إلى الدولة الحديثة كنموذج وحيد.».*(24)
ترى د.هبة من منطلق ما
استقر في عقلها عبر سنوات من المعايشة أن معظم «التنظيمات» الإسلامية هي بنية
حداثية بامتياز، بعيداً عما تقوله عن نفسها أو كيف يصنفها غيرها : التقسيم
والتعقيد وتوزيع المهام بشكل يقسم المسئوليات، ويحجب المبررات ويخلق الحُجب بين
المستويات، وبناء الطاعة على الثقة لا المساءلة، ومركزية القيادة والفصا بين من هم
داخل التنظيم ومن هم خارجه، وغياب الشفافية في التمويل وانعدام المساءلة في التصرف
وتحمل التبعات عند الخطأ (الذي هو دوما اجتهاد مأجور) وخلق ثقافة خاصة بالمنتمين،
وأدبيات خاصة بالتنظيم/ الهيكل تعيد تأويل المرجعية في أطوله،ا وتخلق نصوصاً
يحفظها المنخرطون بأكثر مما يطلعون على العلوم الشرعية أو المصادر الأصلية،
بالإضافة إلى الضيق بالنقد واتهام صاحبه، وبناء معالم سلوكية تحقق الاختلاف على
الأخرين، حتى وإن خالفت أحيانا ما في الأصول من سعة، وسقطت في تقليدية كامنة غير
واعية، وتحقيق الشعور المتسم بالتمايز والمفاضلة، والأهم : اعتبار الوصول إلى
السلطة هو غاية التمكين، واعتبار الفشل مؤامرة، والكوارث ابتلاءات لا توجب الإقرار
أو الاعتذار أو المراجعة أو تنحية المسئول عنها، لوضوح افتقاده القدرة، والأهلية
أو طرح أي احتمال للفساد والهوى ( «عصمة» خفية من نوع ما) .*(25)
أزمة المجتمع ..
ومأزق العلوم الإنسانية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجع أسباب أزمة العلوم
الإنسانية بصفة عامة، وعلم الاجتماع بصفة خاصة في العالم العربي إلى ظروف القهر،
والهيمنة السياسية التي تمارسها الدولة العربية، وإما إلى حالة العلم نفسه أما
فيما يتصل بظروف القهر، والهيمنة السياسية؛ فإن علماء الاجتماع العرب محكومون
بالنظم السياسية التي يعملون تحتها حيث يتعذر البحث العلمي الجاد في كثير من
الموضوعات، والقضايا التي تهم المجتمعات العربية، والتي عادة ما توصف بأنها قضايا «حساسة»
من الناحية السياسية، ولا يمكن الاقتراب منها، وذلك مثل قضية الديمقراطية،
والتبعية الاقتصادية، والفكرية للغرب، والتفاوت في مستويات الدخل، والمشاركة
السياسية للأقباط في الانتخابات، وبحث الروح المعنوبة للجنود عقب هزيمة يونيو
١٩٦٧، وبحث ظاهرة «أمراض الخندقة» بعد حرب 1973، وتنامي ظاهرة السلوك الخشن بعد
إدماج المسرحين من الخدمة العسكرية في وظائف مدنية وبحث أحداث تمرد الأمن المركزي
عام 1986، وبحث موضوع السلوك الجنسي عقب حادث «فتاة العتبة» عام ١٩٩٣،
وازدياد حوادث الاغتصاب، والتحرش الجنسي الجماعي، وبحث تصفية القطاع العام وتسريح العاملين
به عام 1993، وبحث
استطلاع رأى الملاك والمستأجرين حول تعديل العلاقة بينهم في الأراضي الزراعية عام 1997، وبحث آثار الإنفلات التي خلفتها
الانتفاضة السياسية 25يناير 2011، وتنامي ظاهرة البلطجة وتفشي الدعارة وتقنيعها
وتقنينها تحت مسميات مختلفة؛ ليضحى الميراث في المجمل ثقافة اجتماعية مسطحة اكتفت بما تناقلته من رغوة
المصلحات والقضايا المنفصلة عن سخونة وتشابك هموم مجتمعها.
.. ويذهب البعض إلى أن
المجتمع هو محل محتكر للدولة، وليس محلا ًللبحث العلمي، وأن مثل تلك المحاولة لن
تنجح إلا في المنافي أو المخابئ السرية، ويرى أخرون أن حالة الهيمنة السياسية على
المجتمع لم تعطل نمو مستقل لعلم الاجتماع وحسب، وإنما ساعدت على نمو طبقة من
الباحثين الانتهازيين (الكمبرادورز) الذين يعتمدون فكريا ومالياً على دول خارجية،
كما يقومون باستغلال صغار الباحثين وإفسادهم في الترويج للأكاذيب!!
.. وقد حاول علماء الاجتماع
العرب الدفاع عن دورهم المشبوة في خيانة قضايا الأمة في مؤتمر عقد في وهران
(الجزائر) في مارس 2012، وقيامهم بدور «المخبرين المحليين» لجيش من
الباحثين العالميين، والصحافيين، والدارسين الذين يعقدون بانتظام جولات في الجامعات
العربية، ومراكز الأبحاث بحثاً عن معلومات، وتحليلات عن السياسة العربية، والمجتمع
، وبخاصة في أوقات الاضطرابات الاجتماعية، والسياسية .
.. وقد تناولت عالمة الاجتماع
د. منى أباظة الأستاذة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة العلاقات غير المتساوية بين
علماء الاجتماع العرب، والغربيين في مقال بعنوان : «سياح أكاديميون يرتادون
الربيع العربي»، وتناولت فيه حالة الاختراق البحثي أثناء الانتفاضة السياسية
في 25 يناير 2011، وحالة الانقسام الأكاديمي الدولي المستمر حول العمل؛ حيث
الانقسام بين ما يسمى «المنظرون» للشمال وبين «المخبرين» الذين هم أيضاً «موضوع
دراسة في الجنوب يستمر في النمو».*(26)
كان مصدر الخطر على علم
الاجتماع، وسمعة القائمين عليه صعود النفعية الاجتماعية، وتنامي مؤشراتها من خلال
الاتجاهات التي تستهدف إخضاع علم الاجتماع للمطالب النفعية الاجتماعية، والسياسية
التي تزداد كثافتها راهناً بفضل انتشار أفكار الفعالية الذرائعية، وأشكالها
التنظيمية، مع ما ينطوي عليه تصاعد هذه الأفكار ضمنياً على تشجيع ما يسمى «البحوث
التطبيقية»، والبحوث المتصلة بالسياسات على حساب «البحوث الأساسية»،
ويؤكد البعض أنه ما من عالم اجتماع إلا ويرغب أن يصبح منظراً أو مستشاراً للطبقة
الجديدة الحاكمة، وأن ينضم إليها إن أمكن من خلال عملية التسويق، والهرولة؛ وبهذا
تأكلت مصداقية علماء الاجتماع في نظر عامة !!
.. يذكر د. ريتشارد أنطون في كتابه : «الدراسات
الأنثروبولوجية في الشرق الأوسط» الصادر في نيويورك سنة ١٩٧٣ عدة حقائق هامة عن
دراسات الأنثروبولوجية في مصر أهمها :
1 ـ انطلقت الدراسات
الأنثروبولوجية على المستوى الأكاديمي في مصر في عقد السبعينيات من القرن الماضي ـ
وهو تاريخ متأخر نسبياً ـ ويسجل د. ريتشارد أنطون ملاحظة جديرة بالاهتمام حيث
يلاحظ تميز الدراسات المصرية منذ بدايتها الأولى بإجراء الدراسات الميدانية على
نطاق واسع، وبشكل مركز، ويلاحظ أن رؤوس الموضوعات، والفروض التي انطلقت تلك
الدراسات للتحقق منها مشتقة من كتابات العلماء الفرنسيين (وليست مصرية) .
2 ـ ويلاحظ د. ريتشارد أنطون
أن االدراسات الأنثربولوجية في السبعينيات كانت تركز على دراسة مشكلات مصر
الاجتماعية، والاقتصادية (من منطلقات واطروحات فرنسية، وليست مصرية) وخاصة
مشكلة النمو السكاني السريع والأسرة وتنظيمها، والتحضر، والتصنيع، وتوطين الفلاحين
في الأراضي المستصلحة، ومشكلة العمالة المصرية المهاجرة بمستوياتها المختلفة، كان
ذلك يمثل حالة من «الانسحاق الحضاري»؛ فالأخر هو الذي يحدد لنا رؤوس
الموضوعات المبحوثة، ويحدد لنا الأسئلة عن أنفسنا، ويطرح علينا الفرضيات، ويضيق
علينا في الاختيارات؛ ليصل بنا إلى حيث يريد أن يضعنا.
3 ـ ارتباط أولويات البحوث
الاجتماعية، والأنثروبولوجية بأولويات الحكومات القائمة على أساس أن المؤسسات
الحكومية هي جهة التمويل الوحيدة القادرة على دعم البحوث الاجتماعية؛ فجميع
الدراسات في مصر تعتمد على التمويل الحكومي، وهو ما يفرض على تلك الدراسات الخضوع
التام لأولويات المؤسسات الحكومية، واحتياجات المجتمع التخطيطية والتنموية، وهذا
ليس ليس عيباً ولا عار على الباحث، لأن خضوعه لتلك الأولويات هو توظيف كامل لعلمه
في خدمة عمليات التغيير الموجه لخدمة حركة المجتمع، ولخدمة القطاعات الأكبر من
أبناء مجتمعة، لكن كان العيب في هذه الدراسات هو القفز من رؤوس الموضوعات إلى
الفرضيات، وانتهاء بالنتائج دون إشارة إلى المناهج المستخدمة، والوسائل المتبعة .
كان العيب الثاني :أن الباحثين
المصريين في مجال الأنثروبولوجيا ينتمون إلى مدارس مختلفة يصعب إذابة الفوارق
بينها كما أنه لم يوجد العالم المصري القطب الذي يستطيع أن يستوعب تفردات تلك
المدارس، وأن يسخر أطروحاتها لخدمة المجتمع؛ فقد حصل الدكتور أحمد الخشاب على
الدكتوراة من جامعة لندن في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي (1953)، فأدخل
التقاليد البريطانية في الأنثربولوجيا إلى جامعة القاهرة، وما لبث أن عاد في منتصف
الستينيات د. عاطف وصفي بعد أن درس الأنثروبولوجيا في أمريكا؛ فدخلت معه تقاليد
الأنثربولوجيا الثقافية الأمريكية إلى جامعة القاهرة، ثم عاد د. محمد الجوهري في
السبعينيات بعد أن درس الأنثروبولوجيا في جامعة بون بألمانيا التي تعد من أهم
معاهد دراسة الفلكلور في العالم فدخلت معه تقاليد الأنثربولوجيا الألمانية.. كانت
المدرسة الألمانية تقوم بالأساس على «دراسة الفلكلور» من خلال إلقاء الضوء
على ما في صدور الناس من معتقدات، وما يدور في عقولهم من تصورات، ورؤى للعالم،
وكذلك ما يمارسونه من عادات اجتماعية موضوعها «المأثور الشعبي»؛ بما يعين
على فهم العقلية الشعبية، وعلى الاقتراب من الخريطة الاجتماعية !!
كان المصري الوحيد الذي جمع
بين الأنثروبولوجيا من منظوريها الإنجليزي والفرنسي هو الدكتور أحمد أبوزيد مؤسس
ما يطلق عليه تجاوزاً: «مدرسة الأسكندرية» حيث بدأ هو وزملائه على عيسى،
وعاطف غيث، لكن ما كان يعاب عليهم هو : أن الفروض التي انطلقت تلك الدراسات للتحقق
منها مشتقة من كتابات العلماء الفرنسيين (وليست مصرية).
.. وقد أشار أحد الباحثين إلى
الحيرة التي أحس بها أفراد ذلك الجيل حينما حاولوا بعد عوتهم من أوربا أن يطبقوا
ما درسوه، ولكنهم لم يجدوا مجتمعاً صناعياً، ولا طبقات متميزة، وإنما وجدوا
مجتمعات زراعية، وبدأت معاناة ذلك الجيل، وهم يحاولون الموائمة بين المفاهيم،
والنظريات التي تدربوا عليها في الغرب، والواقع الاجتماعي العربي الذي عادوا إليه
.
.. ولم تكن أحوال الاجتماعيين
العرب أفضل من نظرائهم المصريين؛ بما يعني أن الاجتماعيين العرب جميعاً لم يتفقوا
على وضع أسس فكرية، ومرجعية لقيام علم اجتماع عربي لسببين :
أولهما: أن معظم المحاولات التي قام بها
الباحثون استندت إلى مرجعيات غربية متعددة المدارس الفكرية الأمر الذي أفرز حالة
من الفوضى في المفاهيم، والمصطلحات المستخدمة، وتضارب الأهداف، وبذلك ضاعت الرؤيه،
وتبعثرت الرسالة .
ثانيهما : عدم وجود تنظيم أكاديمي عربي
يجمع الاجتماعيين العرب الذي يرون توطين علم الاجتماع في الوطن العربي .
.. أزمة علم الاجتماع، والقائمين
عليه ليست خافية على أحد، وقد تضمنها تقرير التقرير العالمي لليونسكو عن العلوم
الاجتماعية لعام 2010، والذي أفاد أن في مأزق العلوم الاجتماعية قد أنتج تضخماً
كمياً هائلاً في مجال الأبحاث صاحبه فقر
مدقع في النوعية، والجودة، وانعدام الهدف، والدور .. بلخص ذلك التقرير الذي يصدر
بصفة دورية كل عشر سنوات الأزمة حيث جاء به :
«إنه في العالم العربي يوجد
عدد كبير من الطلبة، والجامعيين ذوي المواهب العالية في العلوم الاجتماعية، لكن لا
يوجد لبحوثهم هدف محدد»؛ فلم تقدم حلولاً لقضايا المجتمع الهامة .
.. لاحظ محررو التقرير أن واحد
من بين خمسة أفراد من الحاصلين على الدكتوراه في العلوم الاجتماعية الذين يعملون
في الولايات المتحدة هم من الذين ولدوا في الخارج في البلاد العربية وأفريقيا.
التقرير الذي لخصه لنا رشيد
جرموني في : «أن الأقطار العربية مازالت تعاني نقصاً حاداً في مخرجاتها التعليمية،
وبشكل خاص في العلوم الاجتماعية، وهو ما ينعكس على دورها في مواجهة الإشكالات
المجتمعية المتوالدة والمتكاثرة، وأيضا في إحداث تغيرات اجتماعية معينة.»، وهذه
حقيقة يدعمها واقعنا التعليمي والبحثي؛ إذ أن الأولوية تعطى دائماً للعلوم المادية
اعتقاداً من بأنها تخرجنا مما نحن فيه من تأخر حضاري، وهى مغالطة خطيرة تداعياتها
غير محسوبة العواقب على مجتمعنا العربي .*(27)
بحيث أصبحت العلوم الاجتماعية
تشكو من أزمة داخلية عميقة لا تمكنها من النظر في الأزمة الكبرى التي يمر بها
المجتمع؛ بما أوجب على عالم الاجتماع العربي المخلص لعلمه أن يمارس عملين في أن
واحد عملاً فكريا لتخليص العلم من عقمه، وعملاً سياسياً للتحرك بالمجتمع نحو حل
أزمة التخلف والتبعية، وهو ما يمثل درب من دروب الانتحار الوجودي!!
لذا كان التفكير في إقامة
علوم إنسانية، واجتماعية في المجتمع العربي تعني بمشاكله المتعددة تستدعي إعادة
الاعتبار لها من حيث هي علوم ضرورية في تناول القضايا المرتبطة بالإنسان كمبدع،
ومبتكر للمعرفة بمختلف فروعها الطبيعية، والبيولوجية، والإنسانية في رؤية متكاملة
من دون تفريط في أحد جوانبها، وهذا لتدارك المثالب التي وقعت فيها حضارة الغرب
حينما ركزت على ما هو طبيعي؛ مما أدى ببعض رواد العلوم الإنسانية، والاجتماعية إلى
اتخاذ العلوم الطبيعية نموذجاً للعلوم الإنسانية؛ فوحدوا بين الإنساني، والطبيعي
من دون مراعاة مكونات الإنسان العقلية، والنفسية، والتاريخية وهي مكونات أساسية في
دراسة الفرد، والمجتمع .
.. وفي النهاية تحولت ممارسة
البحث في العلوم الانسانية في المنطقة العربية إلى مجرد «سجالات نظرية» من
باب التواجد فقط لحفظ ماء الوجه، ولا قيمة لها، بينما يرى بعض علماء الاجتماع
ضرورة توطين العلم في الوطن العربي حتى يساعدهم في صوغ رؤية موحدة لإنشاء علم
اجتماع عربي من خلال محاولة لـ «أقلمة localization» المعرفة أو «توطينها Indigization»، والتوطين يقصد به الاعتماد على القدرات
الذاتية، ويتضمن ذلك الاستغلال الأمثل للقوى البشرية، والموارد الطبيعية،
والتقنيات، ومبادئ الملكية، والتحكم، أو «التوليف Domestication»، ويعني الجهود التي نروم من خلالها تحويل ما
هو أجنبي، وجعله أكثر ملاءمة لأحوالنا، وحاجتنا المحلية.
بينما يرى البعض ضرورة خوض تجربة أسلمة
العلوم الاجتماعية من حيث الصياغة، والتأصيل، والتوجيه، والتأسيس على الأصول،
وتنقسم هذه الأراء إلى ثلاث نماذج رئيسية : أولها : تكاملي ـ منهجي ( اسلمة العلوم الاجتماعية)،
وثانيهما : تأصيلي ـ معياري (تأصيل العلوم الاجتماعية)، وثالثهما :
تأصيلي ـ انكفائي ( رفض النموذج الغربي) بمعنى رفض التفاعل مع الحضارة الغربية
التي بلغت أوج تطورها العلمي؛ لأن ذلك يؤدي إلى الانغلاق الذي لا يجدي نفعاً ..
قدم بعض العلماء العرب مشاريع علمية لتوطين العلوم الإنسانية، والاجتماعية في
الوطن العربي، وكان أكثر هذه المشاريع استناداً إلى أسس علمية ومنطقية هو مشروع
الأستاذ الدكتور حامد ربيع .
مشروع د. حامد ربيع:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يؤكد د. حامد ربيع في اطروحته حول فكرة «توطين
العلوم» على وجود تلازم بين أزمة المجتمع العربي، وضعف وعيه القومي، وأنه لا
سبيل لنهضة هذا المجتمع دون إحياء لتراثه الفكري الإسلامي .. يرى العلماء العرب أن
نموذج د. ربيع يضع أسسا متينة لاستراتيجية سياسية ـ قومية لكنها لا تخلو من «فجوات
معرفية» حيث لم يحدد د. ربيع الجهة التي يوكل إليها تنفيذ الاستراتيجية أهو
«المفكر السياسي»؟ أم هو «رجل الشارع»؟ خاصة أن د. ربيع يسقط النخب الحاكمة من
الاعتبار؛ لأنها نخب قد انقصلت بحسب تقديره عن هموم الأمة وقضاياها، وليست لها
فاعلية أو وعي بالمصالح الاستراتيجية للأمة إضافة إلى تعود هذه القيادات على
الكذب، وممارسته بعناد، وصلابة حتى انتهت بأن تصدق هى ذاتها تلك الأكاذيب؛ يساعدها
على ذلك خوف من تحول السلطة عنها، واستعداد المواطن للتملق، الذي تحول إلى سلوك
ثابت، وصار شِرطاً أساسياً للحصول على الحقوق، والبعض من الحكام يعتقد أن الكذب هو
تعبير عن الدهاء، والقدرة على التلاعب بالموقف، واتهم د. ربيع تلك الطبقات بتخلف
المنطق القيادي، وعدم المقدررة على استيعاب حقيقة التطورات، والانفصال عن الطبقات
المحكومة في أبراج عاجية تسودها الأنانية، والتجمد، وعدم وضوح الرؤية، وعدم القدرة
على اعطاء كل موقف وزنه الحقيقي أو التعامل معه من منطق الفاعلية، والقدرات
الواعية.
.. وأكد د. ربيع أن القيادات
العربية لا تفهم، ولا تعرف، ولا تقبل فن المناقشة، وهى لاترى في هذه المناقشة
وسيلة للوصول إلى الحقيقة، وإنما تراها أسلوباً من أساليب عدم الاحترام؛ فإذا فرض
على هذه القيادات المناقشة المنطقية ـ في موقف ما ـ فإنها تنتقل ببساطة وسهولة إلى
الإسفاف، والبذاءة .
ويتوجه د. ربيع باللوم إلى
العلماء العرب بقوله : «هل تعى الطبقة المفكرة والمثقفة أم أنها سوف تظل سادرة في
غيها مستمرئة خيانة قضايا أمتها، وممارسة كل أشكال الزفة السياسية خدمة لأى
حاكم؟».*(28)
في النهاية يخلص د . ربيع إلى
أنه لا يرى إمكانية لأن تقوم النخب الحاكمة بوظيفة «المؤرخين الشعبيين»،
ولا يرى إمكانية المعانقة بين المشروع العلمي القومي في الواقع العربي المعاصر،
ولذلك فهو يعلق الأمل بإمكانية «المعانقة» بين الحاكم الاستراتيجي، والعالم
المستشار، وذلك مثل حالة ابن أبى الربيع مع الخليفة العباسي، أو مثل حالته هو مع
الرئيس صدام حسين .*(29)
.. توفي الدكتور حامد ربيع في
1989م في مكتبه بالجيزة في ظروف غامضة تحوطها شبهة أثر تناول فنجان من القهوة أعده
ساعي مكتبه، ولم يكشف الفحص الطبي عن سبب محدد، وذهب مشروعه العلمي إلى مقبرة
التاريخ .
***
.. وظل موضوع توطين العلوم
الإنسانية، وخاصة العلوم الاجتماعية يتراوح في أذهاننا بين اليأس، والرجاء إلى أن
قذف علماء الاجتماع العرب بالقفاز في وجوهنا (32 عالم عربي من 11 دولة عربية) في
مؤتمر عقد في وهران (الجزائر) في (20، 21، 22 مارس 2012، وشارك فيه 32 باحث من 11
دولة عربية بإشراف مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت ـ لبنان)، والمركز الوطني
للبحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (وهران ـ الجزائر)، والجمعية
العربية لعلم الاجتماع (تونس)، وقد
لخص علماء الاجتماع العرب إشكاليات العلم وفقاً لمنظور الممارسين في :
فقر النظرية، وعدم القدرة على
توليدها، وغياب مجتمع علم الاجتماع أو ضعفه، والتوجه التطبيقي للعلوم الاجتماعية
أو ما يمكن للمرء أن يصفه بـ «مقارنة الهندسة الاجتماعية، وما يتعلق بهيمنة
عمل الاستشاريون تحت تأثير وكالات التمويل الأجنبي، وغياب علم الاجتماع العمومي (Public
Sociology)، وفشل الأكاديمية العربية في تنمية ثقافة
البحث *(30).
***
وتلك التوصيات تدل على أن
مصدريها فاقدون الثقة بأنفسهم، وعلومهم ومؤسساتهم العلمية والبحثية (جامعات ـ
مراكز بحث)، وغياب علم اجتماع نابع من صميم الحياة الاجتماعية للمواطنين في العالم
العربي الأمر الذي يضعنا أمام أمرين :
1 ـ التفرقة بين الذين يعيشون على علم الاجتماع،
والذين يعيشون من أجله!!
2 ـ التميز بين الكتابة الموجهه
لوافع خارجي أو لجماعة علمية في إطار غربي معين، أو لواقع محلي يقوم على استمرارية
ما لثقافة استعمارية، أو لرسم سياسات حكومات ذات ثقافة، وتوجهات غربية .
يلقي تقرير المرصد العربي
للعلوم الاجتماعية على أجندات التمويل الأجنبي التي تسمى «الليبرالية الجديدة»،
والتي تحيط بعمل العلوم الاجتماعية، والتي جعلت من العلم مجرد سوق استهلاكي كأي
سوق أخر حيث ينظر إلى الطلاب كمستهلكين (عملاء أو زبائن)، وإلى العلم في حد
ذاته كوظيفة هدفها الربح لا أكثر (منتج
أو سلعة)، وإلى المؤسسات العلمية بما فيها الجامعات كنوع من الشركات لا
كمؤسسات ذات أهداف أجتماعية، وعلمية، ومدنية تتعالى على النظرة الاقتصادية المحضة؛
حيث يحتاج العلم إلى الدفاع عن نفسه ضد هذه الاتجاهات السوقية، والثقافة
الاستهلاكية*(31) ويؤكد التقرير أن نسبة الباحثين العرب
المستفيدين بدرجة ما من تمويل دولي تصل إلى ٤٠%، ومع ذلك لا يمكن الخروج
باستنتاجات نهائية حول العلاقة بين التمويل، وأجندات البحث *(32).
ويشير التقريرأن مؤسسات البحث
أصبحت جزء مهماً من سوق عمل علماء العلوم الاجتماعية العرب، وأن مركزين في مجال
العلوم الاجتماعية يدخلان ضمن أهم ١٠٠ مركز في العالم، وهما الأهرام للدراسات
السياسية والاستراتيجية في القاهرة ، ومركز كارينجى للشرق الأوسط في بيروت (وهو
منظمة أمريكية يعمل فيها طاقم بحثي عربي في الغالب)، ويتناول التقرير تنصيف
المراكز العربية المتضمنة في ١٠٠ مركز العالمي من حيث تخصصاتها حيث تهتم أربعة
مراكز بالبحث في الأمن القومي، وثلاث ٣
مراكز تتناول شئون العلاقات الدولية، ومركز عربي واحد في مختلف المجالات الأخرى
للبحوث الاجتماعية. *(33)
ويشير التقرير إلى بروز ظاهرة
جديدة نسبياً تتجسد في ظهور فئات أخرى غير تقليدية من المراكز البحثية العربية إلى
الصدارة العالمية، فهناك أربعة مراكز عربية تتبوأ مرتبة عالية في مجال دعم المطالب
(Advocacy)؛ بما يعنى اتجاه المراكز
البحثية إلى العمل الدعوي، والتشبيكي، وغير التقليدي، ويشير إلى المسالك
المستقبلية لعمل مراكز البحث العربية .*(34)
الفصل
الثاني :
ــــــــــــــــــــــــ
«العلوم الكولونيالية»
.. وخــــــــــــراب العمـــــــران
.. كان العرب سباقين بوضع أسس
العلوم الاجتماعية، وعلى رأسها علم الاجتماع بفضل ما قدمه ابن خلدون في هذا المجال
باسم «علم العمران البشري» في القرن الرابع عشر الميلادي، ومن سبقوه من
العلماء في التحوم حول بعض مسائل هذا
العلم دون استيفائها، ولإيضاح أدلتها؛ حيث يعبر ابن خلدون في مقدمة مؤلفه الشهير :
«العبر، وديوان المبتدأ، والخبر في أيام العرب، والعجم، والبربر، ومن عاصرهم من
ذوي السلطان الأكبر» عن وضعه لأسس «علم العمران البشري» يقول ابن خلدون
:
«.. ونحن قد ألهمنا الله إلى
ذلك إلهاماً، واعثرنا على علم جعلنا سن بكره (مثل عربي يُقال لمن يصدق قوله بما
في نفسه)، وجهينة خبره (مثل عربي يُقال لمن عنده الخبر اليقين)؛ فإن
كنت قد استوفيت مسائلة، وميزت عن سائر الصنائع أنظاره، وأنحاءه فتوفيق من الله
وهداية، وإن فاتني شيء في إحصائه، واشتبهت بغير مسائله؛ فللناظر المحقق إصلاحه،
ولى الفضل لأني نهجت السبيل، وأوضحت له الطريق، والله يهدي بنوره من يشاء.»*(1) .
ولا يدعي ابن خلدون النجاح
التام في تحقيق أغراضه، ولا بستبعد النقص، والقصور، ولا يسبعد النقص، والقصور في
أبحاثه؛ فيطلب من أخلافه انتقاده أولاً، وإتمامه ثانياً.
.. ويظهرابن خلدون ذلك التأكيد
بوضوح من بعض العبارات التي كتبها في خطبة الكتاب إذ يقول :
« فأنشأت قي التاريخ كتابا
رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا، وفصلته في الأخبار بابأ باباً، وأبديت
فيه لأولية الدول، والعمران عللاً وأسبابا.»، ويضيف : «فهذبت مناحيه تهذيبا،
وقربته لأفهام العلماء والخاصة تقريبا،ً وسلكت في ترتيبه، وتبويبه مسلكا غريباً،
واخترعته من بين المناحي مذهباً عجيباً، وطريقة مبتدعة وأسلوبا، وشرحت فيه من
أحوال العمران، والمدن، والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من الأعراض
الذاتية.».*(2)
ثم يدعي بأن الكتاب الذي وضعه
: «استوعب أخبار الخليقة استيعابا، وذلل من الحكم النافرة صعاباً، وأعطى لحوادث
الدول أسباباً، فأصبح للحكمة صوانا،ً وللتاريخ جراباً.». *(3)
ثم يعرض للمباحث التي
تناولها بقوله :
«لم اترك شيئاً في أولية
الأجيال، والدول، وتعاصر الأمم الأول، وأسباب التصرف، والحول في القرون الخالية،
والملل، وما يعرض في العمران من دولة، وملة، ومدينة، وحلة، وعزة، وذلة، وكثرة،
وقلة، وعلم، وصناعة، وكسب، وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة، وبدو، وحضر، وواقع منتظر
إلا استوعبت حمله، وأوضحت براهينه، وعلله .»*(4)
.. وبعد هذا الزهو والفخار، والإعجاب بالذات
يبدي ابن خلدون نوعاً من التواضع في مخاطبة علماء زمانه بقوله :
«جاء هذا الكتاب فذا بما
ضمنته من العلوم الغريبة، والحكم المحجوبة القريبة، وأنا من بعدها موقن بالقصور
بين أهل العصور معترف بالعجز عن المضاء في مثل هذا القضاء، راغب من أهل الأيادي
البيضاء، والمعارف المتسعة الفضاء التظر بعين الانتقاد لا بعين الرضاء، والتغمد
لما يعثرون عليه عليه بالإصلاح أو الإغضاء؛ فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة،
والاعتراف من اللوم منجاة، والحسنى من الإخوان مرتجاة.»*(5)
ويقدم الاعتذار عن أي نقص أو
قصور في الكتاب بقوله :
«وإن كنت قد استوفيت مسائله،
وميزت عن سائر الصنائع أنحاءه، وأنظاره؛ فتوفيق من الله، وهداية، وإن فاتني شيء في
احصائه، واشتبهت بغيره؛ فللناظر المحقق إصلاحه.».
ويختتم كلامه بقوله :
« ولي الفضل لأني نهجت له
السبيل، وأوضحت له الطريق، والله يهدي بنوره من يشاء.».
كان ابن خلدون بصدد البحث عن «بناء
معياري» يُعد من القواعد التي يعرض
عليه، والأصول التي يرد إليها؛ بغية إصلاح ما عطب، واختل من التاريخ بالإغراق في
الأكاذيب، والخرافات، والضلالات، والأساطير التي أصبحت نموذجاً تفسيريا هاماًً وفق
للمعارف المتاحة في زمانه لما صعب فهمه من الظواهر؛ فقاده الدرس والبحث إلى مبادئ «علم
العمران البشري»، وما توافر منها من تحكيم أصول العادة، وقواعد السياسة،
وطبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع الإنساني، وليس قيس الغائب على الشاهد، والحاضر
بالذاهب؛ فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، وهذا
الفن يحتاج إلى العلم بقواعد السياسة، وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم، والبقاع،
والأعصار في السير، والأخلاق، والعوائد، والنحل، والمذاهب، وسائر الأحوال،
والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينة، وبين الغائب من الوفاق أو بون ما
بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها، والمختلف، والقيام على أصول الدولة،
والملل، ومبادئ ظهورها، وأسباب حدوثها، ودواعي كونها، وأحوال االقائمين بها،
وأخبارهم حتى يكون مستوعباً لأسباب كل حادث، واقفاً على أصول كل خبر، وحينئذ يعرض
خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول؛ فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان
صحيحاً، وإلا زيفه، واستغنى عنه .
ويصف ابن خلدون «علم
العمران البشري» بأنه : علم مستقل بنفسه، فإنه ذو موضوع، وهو العمران البشري،
وما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال
الملك، والكسب، والعيش، والتساكن، والعلوم، والصنائع بوجوه برهانية يتضح
بها التحقيق في معارف الخاصة، والعامة، وتدفع بها الأوهام، وترفع الشكوك، ومنها
أيضاً الحاجة إلى الحكم الوازع، والسلطان القاهر، وما يلحقه من مسائل، وبيان ما
يلحقه من العوارض، والأحوال لذاته واحدة بعد الأخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم
وضعياً كان أو عقلياً . .
.. وقد أدرك ابن خلدون أن«علم
العمران البشري» من العلوم الجديدة التي ربما غفل عنها السابقون من العلماء،
أو ربما عرفوه، ودرسوه، ولكنه لم يصل لمن بعدهم لأغراض غير شريفة شأن العديد من
العلوم التي اندثرت مع الزمان، واختفت تحت طَي النسيان، والقدم .. أكّد ابن خلدون
مشروعية هذا العلم، سواء أكان لاستحقاقه لأن يصنف كعلم مستقل، وجديد قائم بذاته،
ومنفصلاً عن غيره، أو كونه علما لم يسبق له
إليه أحد من المفكّرين السابقين، يقول ابن خلدون :
«أن الكلام في هذا الغرض (علم
العمران البشري) مستحدث الصنعة غريب النزعة عزيز الفائدة اعثر عليه البحث،
وأدى إليه الغوص، وليس من علم الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في استمالة
الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه، ولا هو أيضا من علم السياسة المدنية إذ السياسة
المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق، والحكمة ليحمل
الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع، وبقاؤه فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين
اللذين ربما يشبهانه، وكأنه علم مسنبط النشأة، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه
لأحد من الخليقة ما أدري ألغفلتهم عن ذلك، وليس الظن بهم أو لعلهم كتبوا في هذا
الغرض، واستوفوه، ولم يصل إلينا فالعلوم كثيرة، والحكماء في أمم النوع الانساني
متعددون، وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل فأين علوم الفرس التي أمر عمر
رضى الله عنه بمحوها عند الفتح؟، وأين علوم الكلدانيين، والسريانيين، وأهل بابل،
وما ظهر عليهم من آثارها، ونتائجها؟ وأين علوم القبط، ومن قبلهم؟، وإنما وصل إلينا
علوم أمة واحدة، وهم يونان خاصة لكلف المأمون بإخراجها من لغتهم، واقتداره على ذلك
بكثرة المترجمين، وبذل الأموال فيها، ولم نقف على شيء من علوم غيرهم، وإذا كانت كل
حقيقة متعلقة طبيعية يصلح أن نبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها وجب أن يكون
باعتبار كل مفهوم، وحقيقة علم من العلوم يخصه لكن الحكماء لعلهم إنما لاحظوا في
ذلك العناية بالثمرات، وهذا إنما ثمرته في الأخبار فقط كما رأيت، وإن كانت مسائله
في ذاتها، وفي اختصاصها شريفة لكن ثمرته تصحيح الأخبار، وهي ضعيفة فلهذا هجروه*(6)
يقول ابن خلدون في مقدمة
كتابه عن سبق الأولين له في وضع مبادئ (علم العمران البشري):
« وهذا الفن (علم العمران
البشري) الذي لاح لنا النظر فيه نجد منه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في
براهين علومهم، وهي من جنس مسائله بالموضوع والطلب :
مثل ما يذكره الحكماء
والعلماء في إثبات النبوة من أن البشر متعاونون في وجودهم؛ فيحتاجون إلى الحاكم،
والوازع .
.. ومثل ما يذكر في أصول الفقة
في باب إثبات اللغات أن الناس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون،
والاجتماع، وتبيان العبارات أخف .
ومثل ما يذكره الفقهاء في
تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلط للأنساب مفسد للنوع، وأن القتل
أيضا مفسد للنوع، وأن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع، وغير ذلك من
سائر المقاصد الشرعية في الأحكام؛ فإنها كلها مبنية على المحافظة على العمران؛
فكان لها النظر فيما يعرض له، وهو ظاهر من كلامنا هذا في هذه المسائل الممثلة .
وكذلك أيضا يقع إلينا القليل
من مسائله في كلمات متفرقة لحكماء الخليقة لكنهم لم يستوفوه .
فمن كلام الموبذان (لقب رجل
الدين عند الفرس) إلى الملك بهرام ابن بهرام في حكاية البوم التي نقلها المسعودي
في كتابه «أخبار الفرس» التي مفادها أن:
«ذكر أن بوماً ذكراً يروم نكاح
بوم أنثى، فطلبت منه أن يعطيها مهرها عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام بن
بهرام، فاستهان الذكر بذلك، وقبل شرطها، وقال لها أنه لو دامت أيام مُلك بهرام
فإنه سوف يعطيها ألف قرية خربة لا عشرين!».
َتعجب بهرام من كلام الموبذان،
فخلا به، وسأله عن مراده، وما الذي قصده بهذا المثل، فقال له الموبذان:
أيها الملك : إن الملك لا يتم
عزه إلا بالشريعة، والقيام لله بطاعته، والتصرف تحت أمره، ونهيه، ولا قوام للشريعة
إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى
المال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة،
نصبه الرب، وجعل له قيماً، وهو الملك.
.. ومن كلام أنوشروان في هذا
المعني بعينه : «الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة،
والعمارة بالعدل، والعدل بإصلاح العمال، وإصلاح العمال باستقامة الوزراء، ورأس
الكل بافتقاد الملك حال رعيته بنفسه، واقتداره على تأديبها حتى يملكها، ولا
تملكه.» .
وفي الكتاب المنسوب لأرسطو في
السياسة المتداولة بين الناس جزء منه إلا أنه غير مستوف، ولا معطى حقه من
البراهين، ومختلط بغيره، وقد أشار في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات التي نقلناها عن
الموبذان، وأنوشروان، وجعلها في الدائرة القريبة التي أعظم القول فيها هو قوله :
«العالم بستان سياجه الدولة،
الدولة سلطان تحيا به السنة، والسنة سياسة بسوسها المَلِك، والمُلك نظام يعضده
الجند، والجند أعوان يكفلهم المال، والمال رزق تجمعه الرعية، الرعية عبيد يكنفهم
العدل، العدل مألوف، وله قوام العالم.».
يرجع ابن خلدون إلى أول الكلام: «العالم بستان»
..مؤكداً أنها ثمان كلمات حكيمة سياسية ارتبط بعضها ببعض، وارتدت أعجازها على
صدورها، واتصلت في دائرة لا يتعين طرفها فخر بعثوره عليها، وعظم من فوائدها.».*(7)
.. وينبه ابن خلدون قارئ مقدمة كتابه إلى
تأمل كلامه في فصل الدول، والملك، واعطائه حقه من التصفح، والتفهم ليعثر في ثناياه
على تفسير هذه الكلمات، وتفصيل إجمالها مستوفي بيان بأوعب بيان، وأوضح دليل،
وبرهان اطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو، ولا إفادة موبذان .
ويشير ابن خلدون إلا أنه وجد
في كلام ابن المقفع، وما يستطرد في رسائله من ذكر السياسات الكثير من مسائل غير
مبرهنة كما برهنها هو في مقدمة كتابه الشهيرة، إنما يجلبها في الذكر على منحى
الخطابة في أسلوب الترسل، وبلاغة الكلام .
.. ويذكر ابن خلدون أن القاضي
أيو بكر الطرطوشي في كتابه «سراج الملوك» قد حوم على أبواب تقرب من مقدمة
ابن خلدون، ومسائلها لكنه لم بصادف فيه الرمية، ولا أصاب الشاكلة، ولا استوفى، ولا
أوضح الأدلة، إنما يبوب الباب للمسألة تم يستكثر من الأحادث، والآثار، وينقل كلمات
متفرقة لحكماء الفرس، وحكماء الهند، والمأثور عن دانيال، وهرمس، وغيرهم من
الحكماء، ولا يكشف عن التحقيق قناعا، ولا يرفع بالبراهين الطبيعية حجابا إنما هو
نفل، وتركيب شبيه بالمواعظ، وكأنه حوم على الغرض، ولم بصادفه، ولا تحقق قصده، ولا
استوفى مسائله .*(8)
تصحيح التاريخ
ونشأة (علم العمران):
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان ابن خلدون من المؤمنين
بأن التاريخ «علم الحقيقة» و«مخزون التجربة الإنسانية» من الأحداث،
والأفعال، والأفكار، وهو استجابة لرغبة الإنسان الخالدة في أن يعرف عن نفسه، وعن
الآخر؛ بما جعل فن التأريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية؛ إذ يوقفنا على
أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم،
وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين الدنيا فهو
محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر، وتثبيت يفضيان بصاحبهما إلى
الحق، وينكبان به عن المزلات، والمغالط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد
النقل، ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران، والأحوال في
الاجتماع الإنساني، وليس قيس الغائب على الشاهد، والحاضر بالذاهب؛ فربما لم يؤمن
فيها من العثور، ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق .
.. وقد ارتأى ابن خلدون أن :
«كثيرا ما وقع للمؤرخين، والمفسرين، وأئمة النقل من المغالط في الحكايات، والوقائع
لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها، ولا
قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم
النظر، والبصيرة في الأخبار؛ فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم، والغلط، ولا
سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة
الكذب، ومطية الهذر، ولا بد من ردها إلى الأصول، وعرضها على القواعد.» .*(9)
وقد ارتأى ابن خلدون أنه كاد
يخرج عن غرض كتابه بالإطناب في هذه المغالط التي زلت أقدام كثير من الأثبات،
والمؤرخين الحفاظ في مثل هذه الأحاديث، والأراء، وعلقت بأفكارهم، ونقلها عنهم
الكافة من ضعفة النظر، والغفلة عن القياس، وتلقوها هم أيضا كذلك من غير بحث، ولا
روية، واندرجت في محفوظاتهم حتى صار فن التاريخ واهياً مختلطاً، وناظره مرتبكا،
وعد من مناحي العامة .*(10)
وارتأى ابن خلدون أن صاحب هذا
الفن يحتاج إلى العلم بقواعد السياسة، وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم، والبقاع،
والأعصار في السير، والأخلاق والعوائد، والنحل، والمذاهب، وسائر الأحوال، والإحاطة
بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه، وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من
الخلاف، وتعليل المتفق منها، والمختلف، والقيام على أصول الدولة، والملل، ومبادئ
ظهورها، وأسباب حدوثها، ودواعي كونها، وأحوال االقائمين بها، وأخبارهم حتى يكون
مستوعباً لأسباب كل حادث، واقفاً على أصول كل خبر، وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما
عنده من القواعد، والأصول فإن وافقها، وجرى على مقتضاها كان صحيحاً، وإلا زيفه،
واستغنى عنه .*(11)
يضع ابن خلدون يده على الأسباب الحقيقية
التي أصابت التأريخ في عصره بالفساد، والعطن، وشوهته بالأكاذيب، والخرافات، وحادت
به عن جادة الصواب، وابتعدت به عن مراميه في ابتغاء الحقيقة، وحدودها المنطقية
وضوابطها الصارمة، وفهمها في علتها وربطها بالمعلول، ولخصها في أسباب لا تختلف عن (آفة
التأريخ) في عصرنا هذا:
أولاً : صار انتحال مهنة التأريخ مجهلة،
ويرجع ابن خلدون أمر اشتغال العوام بالتأريخ إلى اشتغال أهل العصبية بالملك،
والسلطان فدفع لعلم التأريخ من قام به سواهم، وأصبح حرفة للمعاش، وشمخت أنوف
المترفين، وأهل السلطان عن التصدي للتعليم، واختص انتحاله بالمستضعفين، وصار
منتحله محتقراً عند أهل العصبية، والملك، واستخف بها العوام، ومن لا رسوخ له في
المعارف مطالعته، وحمله، والغوص فيه، والتطفل عليه؛ فاختلط المرعي بالهمل، واللباب
بالقشر، والصادق بالكاذب، وصار من مهمة هؤلاء المستضعفين : «اصطناع الرجال».
اصطناع الرجال :
ـــــــــــــــــــــــــــ
.. وكان المؤرخون لتلك العهود يضعون تواريخهم لأهل الدولة، وأبناؤها
متشوفون إلى سير أسلافهم، ومعرفة أحوالهم؛ ليقتفوا آُثارهم، وينسجوا على منوالهم
حتى في اصطناع الرجال من خلف دولتهم، وتقليد الخطط، والمراتب لأبناء صنائعهم،
وذويهم، وكان القضاة من أهل عصبية الدولة، وفي عداد الوزراء .
ثانيا : تبدل الأحوال والعوائد؛ فكل جيل
تابع لعوائد سلطانه؛ فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم مزجت من عوائدهم، وخالفت بعض
الشيء ثم لا يزال التدرج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة؛ فما دامت
الأمم، والأجيال تتعاقب في المللك، والسلطان لا تزال المخالفة في العوائد،
والأحوال واقعة .
.. والقياس والمحاكاة للإنسان
طبيعة معروفة، ومن الغلط غير مأمونة تخرجه من الذهول، والغفلة عن قصد، وتعوج به عن
مرامه؛ فربما يسمع السامع كثيراً من أخبار الماضيين، ولا يتفطن لما وقع من تغير
الأحوال، وانقلابها؛ فيجريها لأول وهلة على ما عرف، ويقيسها بما شهد، وقد يكون
الفرق بينهما كثيرا؛ فيقع في مهواة من الغلط، وهو ما يطلق عليه : «الغلط الخفي».
«الغلط الخفي»:
ــــــــــــــــــــــــــ
.. وتحدث ابن خلدون عنما اسماه بـ «الغلط
الخفي» في التاريخ، والذهول عن تبدل الأحوال في الأمم، والأحوال، والأجيال
بتبدل الأعصار، ومرور الأيام، وهو داء دوري شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب
متطاولة؛ فلا يكاد يتفطن إليها إلا الأحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم،
والأمم، وعوائدهم، ونحلهم لا تدوم على وتيره واحدة، ومنهاج مستقر، انما هو اختلاف
على الأيام، والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص
والأوقات، والأمصار؛ فكذلك يقع في الأفاق، والأقطار، والأزمنة، والدول، وهو ما
يحمل المؤرخون المعاصرون على استدعاء الماضي، وإعادة بنائه بالتوسل بـ «المنهج
الاستردادي»؛ للوقف على طبيعة، وظروف، وأحوال العصر الذي جرت فيه الأحداث.
.. وأيضا يلجأ المؤرخون المعاصرون بمناهجهم
المستحدثة إلى القراءات المختلفة للأحداث من خلال القراءة الشعبية للتاريخ،
واستقراء التاريخ، والآثار، والقراءة الدينية، والمأثور الشعبي الذي يعد نمط هام
من أنماط القراءة الشعبية للتاريخ؛ لأنه يحمل تفسيرات شعبية لأحداث التاريخ من
خلال النثر، والشعر والحكاية، والعادات، والخرافات، والأغاني، والرقصات، والملابس،
.. ويحمل أيضا رؤية الشعوب لأصولها، وتاريخها، وأبطاله، ويحمل التفسير الشعبي
للظواهر الطبيعية، ومن أيضا من خلال التوسل باللغة، وفهم السياقات الاجتماعية التي
تكتسب فيها اللغة، وتستخدم، والوقوف على معنى المعنى، ومرامي المغزى.
«أسباب الكذب» :
ــــــــــــــــــــــــــــ
يؤكد ابن خلدون أن حقيقة التاريخ أنه خبر عن
الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال
مثل التوحش، والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ
عن ذلك من الملك، والدول، ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم، ومساعيهم من
الكسب، والمعاش، والعلوم، والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعة الأحوال
.
ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته، وله
أسباب تقتضيه؛ فمنها التشيعات للأراء والمذاهب؛ فإن النفس إذا كانت على حال من
الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص، والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه،
وإذا خامرها تشيع لرأى أو نحله قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك
الميل، والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد، والتمحيص؛ فتقع في قبول الكذب،
ونقلة.
ومن الأسباب المقتضية للكذب
في الأخبار أيضا الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل، والتجريح .
.. ومنها الذهول عن المقاصد
فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه،
وتخمينه؛ فيقع في الكذب .
.. ومنها توهم الصدق، وهو كثير،
وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين.
.. ومنها الجهل بتطبيق الأحوال
على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس، والتتصنع؛ فينقلها المخبر كما رأها، وهي
بالتصنع على غير الحق نفسه .
.. ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة
والمراتب بالثناء، والمدح، وتحسين الأحوال، وإشاعة الذكر بذلك؛ فتستفيض الأخبار
بها على غير حقيقة؛ فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلعون إلى الدنيا،
وأسبابها من جاه، وثروة، وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل، ولا متنافسين في
أهلها .
ومن الأسباب المقتضية للكذب
أيضا، وهى سابقة على جميع ما تقدم : الجهل بطبائع الأحوال في العمران؛ فإن كل حادث
من الحوادث ذاتاً كان أو فعلاً لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته، وفيما يعرض له من
أحواله؛ فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث، والأحوال في الوجود، ومقتضياتها
أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تميز الصدق من الكذب، وهذا أبلغ في التمحيص من كل
وجه يعرض.*(12)
***
.. يلاحظ أن بعض الأمور التي يذكرها ابن خلدون
عن أسباب الكذب من نوع الغلط، والوهم «اللاقصدي»، وبعضها من نوع التلبيس،
والكذب «القصدي» بالمعنى الذي يفهم من كلمة الكذب، وبعضها من نوع «عدم
التمييز» من جراء عدم التفكير، أو الجهل، أو الانخداع، وقد ميز ابن خلدون هذه
الأنواع بعضها عن بعض غير أنه ذكرها تحت اسم عام، وهو «الكذب» أى أنه استعمل هذا
الأسم للدلالة على كل ما هو مخالف للواقع سواء انتجت هذه المخالفة من كذب المخبر،
وتلبيسه، أم من توهمه، وغلطه، أم من جهله، وانخداعه .
***
كان موضوع الكذب حقلا لكتابات بعض المفكرين
أشهرها كتاب «تاريخ الكذب» للمفكر الفرنسي جاك دريدا، وكتاب «صناعة
الكذب» للكاتب الصحفي والباحث المصري ياسر بكر .
جاك دريدا
و«تاريخ الكذب» :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقدم جاك
دريدا في كتابه بعنوان «تاريخ الكذب» أطروحات تمهيدية لبلورة جينالوجية
تفكيكية لمفهوم الكذب في محاولة للوصول إلى إمكانية تشكيل تاريخ خاص بالكذب من حيث هو كذلك، وهي
اطروحة تعتريها صعوبة لا يمكن تجاهلها، وتكمن في ضرورة التمييز بين تاريخ الكذب
كمفهوم، وتاريخة في حد ذاته، والذي يحيل إلى عوامل تاريخية، وثقافية تساهم في
بلورة الممارسات، والأساليب، والدوافع التي تتعلق بالكذب، والتي تختلف من حضارة
إلى أخرى، بل وحتى داخل الحضارة الواحدة نفسها، وتحديد أوجة القرابة التي توجد بين
الكذب، ومفاهيم أخرى فيجب على سبيل المثال التأكيد كما يفعل كانط على العلاقة
العضوية التي تربط الكذب بالوعد ومن ثم الحنث؛ فالكذب في خاتمة التحليل إخلال
بالوعد الذي أعطاة الكاذب ضمنياً للأخرين بقول الحقيقة لهم، وبالتالي فهو يسعى إلى
توجيه سلوكهم أي أن الكذب يتضمن بعداً إنجازيا غير قابل للإختزال .
.. كما أنه
يجب وضع حدود صارمة بين الكذب، والخطأ، ومن ثم يجب افتراض بأن نقيض الكذب ليس
الحقيقة أو الواقع ، بل الصدق؛ فالقدبس أغسطين يذهب إلى أنه بإمكاننا أن نقول
قولاً خاطئاً دون أن نعتبر كاذبين، وذلك إذا كنا نعتقد عن حسن نية بأن ما نقوله
صحيح، وإلا يكون قصدنا خداع الآخرين ، كما أن بإمكاننا أن نقول قولاً صحيحاً، وأن
نعتبر رغم ذلك كاذبين إذا كان القصد من قولنا هو خداع الأخرين .
.. النتائج
التي يستخلصها جاك دريدا من هذه الفرضية تشكل المحاور الثلاثة لتحليلاته؛ فهو
يفترض وجود علاقة جوهرية بين الكذب، والقصدية، ويذهب إلى أنه من المستحيل؛ وذلك
لاعتبارات بنيوية البرهنة بالمفهوم الضيق لهذه الكلمة بأن أحداً ما قد كذب، وذلك
على الرغم من أننا بوسعنا البرهنة على أنه لم يقل الحقيقة .
.. يؤكد
دريدا من جهة ثالثة استحالة الكذب على الذات !! هل يإمكان الإنسان أن يقول بذاته
عن قصد أشياء مختلفة عن تلك التي يفكر فيها فعلاً، وأن يفعل ذلك بقصد خداعها،
وإلحاق الأذى بها أى كيف يمكن الكذب على الذات دون اعتبارها بمثابة آخر مستقل يجب
ـ كما يرى جان جاك روسو ـ الالتزام بواجب الصدق تجاهه !!
.. كانت
الصعوبة التي تجعل مشروع تشكيل تاريخ خاص بالكذب من الصعوبة بمكان؛ فكيف يمكن
للكذب أن يكون له تاريخ مستقل إذا كان التاريخ، والتاريخ السياسي على وجة الخصوص
يعج بالكذب !!
.. ويستمر
دريدا في طرح أو افتراض علاقة متصلة بين الكذب، والخطأ ومن ثمة بين الحق، والصدق
ما يمكنة بالفعل من طرح قضية الكذب في أسلوب محايد، وبعيد عن الاعتبارات الاخلاقية
أي كمسألة نظرية، وإبستيمولوجية .
.. ويرى
دريدا أن خطوة مثل هذه لا يمكن الجزم في شأنها بأنها غير مشروعة أو عديمة الجدوى
إلا أنه لا يمكن الرجوع إليها إلا إذا قبلنا بإدخال البعد الأخلاقي للكذب، وغير
قابل للإختزال في الاعتبار؛ أى أن كنه ظاهرة الكذب من حيث هي كذلك، لا علاقة لها
بمسائل المعرفة، والحقيقة، والصحة والخطأ، ويعبر دريدا عن رغبته في أن يخطو في
اتجاه الهوة التي توجد بين البعد الأخلاقي للكذب، وأحد أشكال تاريخة السياسي؛ ليصل
إلى أنه من الصعب الاعتقاد بأن يكون للكذب تاريخ ، ثم من يستطيع رواية تاريخ
الكذب؟!، ومن بإمكانه الجزم بأن تاريخ الكذب الذي يعد بروايته سيطابق الحقيقة ؟!
يؤكد
دريدا أن الكذب حسب تعبير ارسطو : يشكل
دعاء أو الدعوة بالشر في فضاء محدد من اللغة، وعندما تلجأ الشعوب إلى التخيلات
بغرض التعويض النفسي عن الاحباطات، والهزائم، والانكسارات، وكذلك أحلام اليقظة
للمهمشين والمحبطين، والابتكار المتعمد للأشياء المتخيلة ؟!
.. ويتسائل
دريدا : أين نصنف الظواهر المختلفة المرتبطة بالصمت، والتي تهدف إلى خداع الأخرين،
وأحياناً إلحاق الأذي بهم، وقد تكمن من ورائها على العكس من ذلك مقاصد حسنة لا
يمكن التشكيك فيها !!
.. وهل يمكن
اعتبار الابتسامات المتكلفة من باب حسن اللياقة أو النظرات، وحركات اليد المضمرة
على أنها مجرد أكاذيب ؟!!
.. ويؤكد
دريدا على ملاحظته الإقصاءات الشاملة، والصعبة التي يجب اللجوء إليها بكل دقة
منطقة حرة للكذب، منطقة يمكن لمفهوم الكذب الطليق أن يجد فيها حدوداً سهلة التحديد
.
.. ويؤكد
دريدا على ظاهرة الكتلة ـ وهى أن التعريف الخام، والجامد، والصلب، والواضح وبالحرف
الواحد الطليق للكذب، ويمكن من الإحاطة بمفهوم سائد في ثقافتنا؛ فذلك أولا وقبل كل
شيء لأنه لا يوجد في ثقافتنا أخلاق، أو قانون، أو سياسة بإمكانهم الاستمرار في
حالة زوالها الكلي .
.. وينطلق
دريدا من فرضية أن للفهم السليم للكذب الطليق تاريخ فإنه من المحتم على هذا الأخير
أن يجد نفسه في صيرورة قد تهدد باستمرار بإضفاء طابع النسبية على سلطته، وقيمته
بالإضافة إلى هذا، وهنا تكمن الصعوبة الثانية يجب التمييز بين تاريخ الكذب كمفهوم،
وتاريخة في حد ذاته، والذي يمثل تاريخ، وثقافة يؤثران في الممارسات، والأساليب،
والدوافع، والتقنيات، ومختلف الطرق، والنتائج التي يمكن ربطها بالكذب؛ فحتى عندما
نأخذ ثقافة ما حيث يسود بدون منازع مفهوم واحد للكذب محدد لا يتغير أبداً فإن
التجارب الاجتماعية، والتأويلات المختلفة، وأساليب ممارسة فعل الكذب تبقى قابلة
للتغير !!*(13)
ياسر بكر
و«صناعة الكذب» :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يستلهم ياسر بكر الفكر الخلدوني عن تعريف
التاريخ في مقولة ابن خلدون العميقة :
« إعلم أنه لما كانت حقيقة
التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك
العمران من الأحوال مثل التوحش، والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم
على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك، والدول، ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم،
ومساعيهم من الكسب، والمعاش، والعلوم، والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران
بطبيعة الأحوال.»، يعد ابن خلدون أول مفكر في تاريخ البشرية يمارس ما يسميه المؤرخون
في العصر الحديث: «التاريخ من أسفل البناء الاجتماعي» أي تاريخ «الأنفار»،
أو ما تطلق عليه المدرسة الهندية في كتابة التاريخ : «تأريخ التابع»، وتعرف
التابع بأنه : «كل ما دون النخبة».. خاصة أن التاريخ بصفة عامة
اقتصر في أغلبه على التأريخ للملوك، والحكام، والقادة من منطلقات الفخار الوطني
الزائف، والمزعوم، والمتوارث، وأغفل كل ذكر للبشر العاديين .... وكان المورخون
القدامي يتحرجون من تناول سير هؤلاء، وتاريخهم الاجتماعي ـ إن لم يكن حتى الآن ـ
لأسباب بعضها يرجع إلى منطلقات ساذجة تتعلق بالعيب، والحرام، والتمييز، والتهميش!!
.. وفي ظل التحدي الذي جلبته
الصحافة الورقية صار الصحفيون هم ناقلوا الخبر عن الاجتماع البشري، وأحوال العمران
.. أي صاروا هم كتاب التاريخ في بروفته الأولى المنطبعة، ولأنه ليس من السهل
الاطلاع على علة الحدث في مرحلته الأولي، فضلا عن أن الصحافة في مصر نشأت قي كنف
الحاكم بما يجعل الكثير من المواد الصحفية المنشورة تخضع للتعديل، والتحوير،
والفلترة بما يدعم النظام القائم في حينها، وهو ما أورث الصحف في البلدان التى
غابت فيها الديمقراطية، وحرية تداول المعلومات لميراث ثقيل من القهر جعلها تبث عبر
صفحاتها الكثير من القصص الخبرية «المفبركة».
.. أخذ ياسر بكر من الفكر
الخلدوني وبنى عليه في تمحيص 13 قصة خبرية مكذوبة في الصحافة المصرية في الفترة من
1949م إلى 2005 م باعتبار الكذب المرحلة الأولى في عمليات تزوير التاريخ بأسلوب
يعمد إلى اختلاق وقائع لا وجود لها، وحجب المعلومات الصحيحة أو تقديمها مشوهة أو
محشوة بالمغالطات لصرف ذهن المتلقي إلى جهات أخرى غير الواقع، بما يفقده القدرة
على التفكير، وتدفع به في الاتجاه الخاطئ بما يسهل من عمليات السيطرة عليه،
واقتياده نحو الهدف.
وهذا النوع من الأكاذيب لا يتم
إطلاقها بالصدفة أو عفو الخاطر، وإنما يعكف على إعدادها فريق من أكفأ المختصين في
بحوث الإعلام، وتوجيه الرأي، وقيادة الجموع بأسلوب علمي دقيق يراعى فيه الظرف،
والتوقيت، وطبيعة الفئة المستهدفة مع تجنب اللهجة العدائية حتى لا تثار في تلك في
نلك الفئات مشاعر العناد، والرغبة في المقاومة، ويطلق عليهم «طهاة الأخبار
المطبوخة»، وتمر تلك «الأخبار المطبوخة» بالعديد من مراحل الإعداد،
والتجريب من خلال «إلقاء الطعم» عبر تضخيم الأخطاء، وتقديم الأكاذيب مغلفة
ببعض الحقائق التي يعرفها العامة حتى تنال ثقتهم، ثم يتم تضخيم الأكاذيب، وإطلاقها
في شكل بالونات الاختبار عبر التسريبات، والشائعات، والنكات، ومعرفة أثارها، ومدى
تقبل الناس لها قبل وضعها على منصات الإطلاق، وهو الأسلوب الذي انتهجه جوزيف جوبلز
وزير إعلام هتلر ولخصه في عبارته الشهيرة:
«اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب؛ حتى
تصدق نفسك، فيصدقك الناس، فإن لم يصدقوك، فاخترع لهم عدوًا وهميًا، وخوّفهم منه،
فإن لم يصدقوك، فاتهمهم بالخيانة»، تنفيذا لأوامر هتلر الذي كان يعتقد أن: «
كلما كبرت الكذبة أمكن في بعض الأحيان أن تثبت في الأذهان».
ويعمد هذا الأسلوب إلى إدخال
الغش على المتلقي من خلال إغراقه بكم من التقارير المكذوبة في إطار زائف يخفي
حقيقتها، ويصعب على المتلقي العادي التمييز بينه، وبين أشكال، وقوالب الخطاب
الإعلامي الجاد التي تلزم الصدق، وتقدم الحقيقة؛ فيلجأ القائمون على «صناعة الكذب»
إلى نشر، وترويج «أشباه الأخبار» أو «تلغيم الأخبار» أو استخدام «الرطــانة
اللغوية الجوفاء»، والاستخدام المسيء للغة للوصول إلى «التباس اللفظ،
والمعنى» على النحو التالي:
أ ـ أشباه الأخبار:
ـــــــــــــــــــــــــــ
يقصد بأشباه الأخبار (pseudo
news)، ذلك الكذب الذي يقدم للبسطاء وأنصاف
المتعلمين، وكأنه أخبار، ولكنه لا يحمل في مضمونه أي خبر أو معلومة جديدة على
الإطلاق.
وتتم صياغة أشباه الأخبار في
أنماط، وقوالب من خلال أداء شديد الاحترافية بعد تغليفها بعناصر البريق، والجذب،
والإثارة، والتشويق، وتقديمها للمتلقي في إطار الانفراد الصحفي ليزداد إقباله
عليها، وقبوله لها، وكأنها أخبار حقيقية.
ب ـ تلغيم الأخبار:
ـــــــــــــــــــــــــــ
يقصد بـ «تلغيم الأخبار» التلاعب
في الصياغة الخبرية؛ بما يستهدف استفزاز القارئ، واستنفاره، وهذا الأسلوب يتخذ
أنماطًا متعددة منها:
1 ـ وضع عناوين مثيرة لا علاقة
لها بمضمون الخبر؛ في استفادة شريرة لما توصلت إليه الدراسات الإعلامية من نتائج
مفادها أن الكثيرين من قراء الصحف يكتفون بقراءة العناوين فقط، ولا يدققون في
التفاصيل، وأشارت تلك الدراسات إلى أن:
• 75 % من قراء
الصحف يلاحظون الصورة.
• وأكثر من 50 %
يلاحظون العناوين.
• وأن 29 % يلفت
نظرهم كلام الصور.
• بينما لا تسترعي المادة التحريرية سوى انتباه
25 % من القراء.
ج ـ ماكينات غسيل الأخبار :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هو أحد أساليب ترويج
الأكاذيب بنشرها عبر منصات إطلاق مجهولة في أماكن نائية، ويتم النقل عنها،
وتداولها باعتبارها حقيقة مؤكدة !!*(14)
***
في أبريل 2017 نظم مركز هسبريس
للدراسات والإعلام ، بشراكة مع مؤسسة «دويتشه فيله» ندوة فكرية حول موضوع «الأخبار الكاذبة، وتأثيرها على
الرأي العام والإعلام»، شارك فيها إعلاميون، وخبراء في التواصل الرقمي، والمنصات
الحديثة، ونظرا لأهمية موضوع الكذب وخطورته، فقد تحول إلى مادة دسمة للبحث، والنظر
للكثير من الباحثين العرب والأجانب، ومن أبرزهم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الأستاذ في الكلوليج الدولي
للفلسفة بباريس، الذي ألف كتابا بعنوان : « تاريخ الكذب» لتحديد جينالوجية الكذب، ومفاهيم أخرى، وناقشت
كتاب الصحفى المصري الصحفي المصري ياسر بكر بعنوان:«صناعة الكذب»
الذي يرصد فيه «صناعة الصحافة المصرية للكذب في نصف قرن».
«ثورة التاريخ»:
ــــــــــــــــــــــــــ
بعد
انتهاء الحرب العالمية الثانية أسفرت حركة التاريخ التي أفرزت التطورات التي أدت
حركات التحرر الوطني، والاعتراف بحقوق الشعوب في إدارة شئونها إلى بروز اتجاهات
جديدة في الدراسات التاريخية تهتم بنشاط الإنسان في مجالات الاقتصاد، والاجتماع،
والسياسة، والثقافة، والفن، والدبلوماسية، ونظم الحكم، والمؤسسات، والطبقات، وما
إلى ذلك، وكانت مثل هذه الاتجاهات الجديدة في الدراسات التاريخية، والتي اصطلح على
تسميتها بـ «التاريخ الجديد» نتاجا للتطورات التي جرت على العالم فيما بين
الحربين العالميتين وبعدهما، وتمثلت نتيجة هذا كله فيما أطلق عليه «الثورة
التاريخية»، وهي ثورة صامتة حققت من التقدم في مجال المعرفة التاريخية في
الربع الأخير من القرن العشرين ما لم يتحقق طوال تاريخ التاريخ بأسره منذ كان
وليداً في حجر الأسطورة إلى أن صار علما له فلسفته، وتاريخه، ومناهجه.
.. وكان من نتائج «ثورة
التاريخ الصامتة» أن تطورت مناهج البحث وأدواته من ناحية، وتغيرت النظرة إلى
المصادر التاريخية التي يعتمد عليها الباحثون من ناحية أخرى، وتخلت النظرة القديمة
للتاريخ باعتباره مرادفا لسير الحكام، وحروبهم عن مكانها لنظرة جديدة ترى في
التاريخ مرادفاً لمسيرة البشر الحضارية على هذا الكوكب عبر الزمان، وترى أن كل ما
حققه الإنسان أو تطلع إليه بأمل أو فكر فيه جدير بالدراسة، والتسجيل، والبحث،
والفهم، ومن ثم فإن كل الأفعال البشرية خيرا كانت أو شراً.. حروباً أو إنجازات ..
ثقافة وفنا أو زراعة، وصناعة.. طموحاً أو يأساً .. رفعة أو ضعة.. كلها جديرة بأن ينظر
فيها الباحثون، والدارسون علّهم يفهمون قصة الوجود الإنساني على هذا الكوكب،
والقوانين التي تحكم هذا الوجود.
.. لكن أهم ما تمخضت عنه هذه
الثورة الصامتة أن التاريخ لم يعد علم ينتمي للماضي إلا من حيث موضوعه، ولكنه صار
علما ينتمي للحاضر، والمستقبل من حيث هدفه، وفائدته.
ولم تعد مهمة المؤرخ أن يعيد «تصوير
الماضي» وأن يحكي «ماذا» حدث، وإنما صارت مهمة المؤرخ أن يفهم «لماذا»
حدث، وما حدث، ومدى تأثير هذا الذي حدث في الماضي على حاضر الجماعة الإنسانية،
ومستقبلها، ولأن الدراسات التاريخية الحديثة تحاول أن تفهم الإنسان بوصفه فرداً في
جماعة إنسانية، فإن المصادر التاريخية التقليدية لم تعد كافية لتحقيق هذا الفهم،
ومن ثم كان لابد من البحث في «مناطق» أخرى غير تلك التي تعود عليها
المؤرخون حيث أن المصادر التاريخية التقليدية : الحوليات، والمدونات التاريخية،
والوثائق، والآثار، وشهادات المعاصرين، والمذكرات،.. وغيرها، لم تعد هي فقط
المصادر التاريخية المحترمة، فقد أخذ عدد متزايد من المؤرخين يبحث في «مناطق»
وجدانية، وعاطفية هي ما يتضمنه الموروث الشعبي الذي يمثل «القراءة الشعبية
للتاريخ».*
(15)
***
ظهرت العلوم الاجتماعية في
الغرب في منتصف القرن التاسع عشر أثر الثورة الصناعية، وظهور المدن، وما واكبها من
مشكلات، وتحديات اجتماعية، وثقافية سبقها ثورة سياسية على الأنظمة الاقطاعية
والدينية؛ حيث يعتبر علم الاجتماع، وسيظل استجابة للثقافة «النفعية»، وتعد الطبقة
المتوسطة الحامل التاريخي لهذه الثقافة .
يجمع معظم الباحثون على أن علم
الاجتماع قد ولد على يد ابن خلدون في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، إلا أنه لم
يتصل علم الغرب به، واهتمامهم به إلا في القرن التاسع عشر الميلادي، ومن ثم يقرون
أن هذا العلم لم يتبلور في صورته الحديثة، ويتخذ هذا الاسم إلا على يد العالم
الفرنسي أوجست كونت في القرن التاسع عشر الميلادي !!
.. منذ منتصف القرن التاسع عشر
تزايد الاهتمام بدراسة العمليات النفسية، وعلاقتها بالحياة الاجتماعية مثل : «علم
النفس المقارن»، و«علم نفس الجماعة»، و«علم النفس الاجتماعي»، و«علم
نفس الأجناس»، و«علم نفس الجماهير»، و«علم نفس الشعوب»، و«علم
نفس الطوائف»، و«علم الأنثربولوجيا
الثقافية»، كانت الأمال كبيرة، ومنعقدة على تلك العلوم في أن تحل لنا من
استشكل علينا، وكان عصياً على الفهم من حيث تركيب الشعوب، وفهم ثقافتها، وفهم
السياقات الاجتماعية التي تكتسب فيها اللغة، وتستخدم وأثر ذلك على سلوك الأفراد
وروح الجماعات، وكيف يمكن الأخذ بها نحو الأفضل.
إلا أن نشأة تلك العلوم
حديثاً في العالم العربي لم تكن استمراراً لجهود أسلافنا الفكرية، وعوضاً عن ذلك
تم استبدالها باستيراد نسخة غريبة عن واقع مجتمعاتنا، ومتعالية على تراثه بسبب حالة
النكوص الحضاري التي تمر بها امتنا فجعلتنا مستلبين فكرياً، وعلمياً، وتاريخياً
قاقدين للثقة بأنفسنا، وتاريخنا، وقد وافق ذلك هيمنة على القطاعات السياسية،
والاقتصادية، والتعليمية .
.. ورغم أن القائمون على تلك
العلوم لم يفلحوا في تحديد موضوعاتهاـ واختبار مناهجها يأساليب علمية، وتحديد
مصطلحاتها بدقة؛ فلا يوجد مثلاً ما يُطلق عليه «النظرية الاجتماعية»؛ فـ «النظرية
الاجتماعية» مجرد تصورات شخصية لبعض
علماء السوسيولوجيا يتم الارتكان إليها بصورة انتقائية، ولا تستند إلى واقع أو
منهج .. فتختلف من مجتمع إلى أخر حسب ظروفه الاجتماعية، وسياقاته السياسة، ومدى
توظيف هؤلاء الباحثون في دعم النظام القائم !!
ومع ذلك يصر القائمون على تلك
العلوم على إقحامها عنوة في شتى مناحي الحياة، ومنها مجال «الثقافة الشعبية» بغرض
مسخ تلك الثقافة، وتشويهها، وإزاحتها إحلال ثقافة بديلة مكانها، وزراعة «ذاكرة
بديلة» قائمة على قيم زائفة، وخادعة بغرض تحويل المواطنين إلى وحدات متشابهة
كأنها خرجت من خط إنتاج واحد، وتنعدم فيما بينهم مواصفات التمايز الفردي تحت تأثير
«العدوى النفسية»؛ .. كان تقاعس الباحثون عن رؤية واقعهم الاجتماعي رؤية
نقدية، ومن ثم وضع أيديهم على المشكلات، والموضوعات الحقيقية الأجدر بالدراسة،
فعلم الاجتماع في كل الدنيا هو أكثر العلوم الإنسانية انتقاداً لنفسه، ووعياً
بنواحي قصوره، وسلبياته، ويكفي أن نقرأ انتقادات علماء الاجتماع الذين يتحدثون عن
عدم انضباط القوانين أو التعميمات السوسيولوجية؛ فهذه المبالغة في النقد الذاتي
المعروفة عند المشتغلين بعلم الاجتماع تمثل مظهراً من مظاهر الصحة.
وزاد الأمر سوءاً ذلك الاضطراب
في أداء العلوم الاجتماعية لدورها الذي يرجع في الأساس إلى تدخل مقيت أو فهم مغلوط
من جانب السلطة لطبيعة الواقع الاجتماعي الذي تحكمه، أو لإمكانات البحث العلمي
الاجتماعي، وقدرة أصحابه على الإسهام في صياغة السياسات الاجتماعية، وترشيدها .
.. والحقيقة أنه لايمكن الحديث في
العلوم الاجتماعية، والإنسانية عن موضوعية أوحياد؛ إذ أن كل باحث يرى الحقائق من
منظوره هو، ومن واقع تجربته الشخصية، ومن خلال خبراته الذاتية، ورؤيته الكلية،
والنماذج المنبثقة عنها، وقد نفى الأستاذ محمود شاكر في سياق حديثه عن «المنهج»
بشكل حازم إمكانية أن يكون المنهج محايداً؛ لذلك طرح فكرة :«ما قبل
المنهج»،
وما قبل المنهج ينبه إلى تلك الأبعاد المتصلة بالذات الإنسانية، وباللغة،
والمعتقد، والرؤية الكلية للكون، وهذه الأبعاد تشكل رؤية الباحث، وتحدد زاويته في
النظر، والتحليل، والتفكير، وتؤثر بدرجة أو بأخرى على نتيجة تحليله، وطريقة فهمه،
وتفسيره*(16).
.. وهو ما أكده كارل بوبر بقوله
: «إذا افترضنا أن العالم الاجتماعي يسعى حقاً في طلب الحقيقة، فإن المذهب
التاريخي ينبهنا إلى الصعوبات المترتبة على هذا الفرض المتعلقة بالميول، والمصالح
مثل التأثير في مضمون النظريات، والتبريرات العلمية؛ فلا مفر من الشك في إمكانية
السيطرة على التحيز، وتجنبه.
كما ينبغي أن نتوقع تعدد وجهات
النظر بقدر ما يوجد من مصالح، ودائماً تكون الكلمة الفاصلة لـ «النجاح السياسي»
وحده .*(17) .
.. كان الارتباك واضحاً بين
الباحثين المصريين، وبين علماء الاجتماع الدوليين؛ فقد أعلن كارل بوبر عن : عقم
«المذهب التاريخي» في مناهج العلوم الاجتماعية *(18)
المقصود بـ «المذهب التاريخي
Historicism» طريقة في معالجة العلوم الاجتماعية تفترض
أن التنبؤ التاريخي هو غايتها الرئيسية كما تفترض الوصول إلى هذه الغاية بالكشف عن
«القوانين» أو «الاتجاهات» أو «الأنماط»
أو«الايقاعات» التي يسير التطور التاريخي وفقاً لها .
وبرهن كارل بوبر على كذب
«المذهب التاريخي» بعدة أسباب أهمها :
١ ـ يتأثر
التاريخ الإنساني في سيره تأثيراً قويا بنمو المعرفة الإنسانية .
٢ـ لا يمكن لنا
بالطريقة العقلية أو العلمية أن نتنبأ بطريقة نمو معارفنا العلمية.
٣ ـ إذن فلا
يمكننا التنبؤ بمستقبل سير التاريخ الإنساني ..
٤ ـ وهذا معناه أننا يجب أن نرفض إمكان قيام
تاريخ نظري؛ أي إمكانية قيام علم تاريخ اجتماعي يقابل علم الطبيعة النظري، ولا
يمكن أن تقوم نظرية علمية في التطور التاريخي تصلح أن تكون أساساً للتنبؤ
التاريخي.
٥ ـ إذن فقد أخطأ
المذهب التاريخي في تصوره للغاية الأساسية التي يتوسل إليها بمناهجه .*(19)
فمنذ نهاية القرن قبل الماضي
راح عدد من العلماء الأوربيون من أمثال جوستاف لوبون يركزون على عملية الإيحاء في
السلوك الاجتماعي، بناء على فرضية «غريزة الرضوخ» أو «غريزة الخنوع »
لدى الإنسان، وكما أن للإيحاء جوانب إيجابية فإن له جوانب سلبية، وتستهدف الجوانب
السلبية لعملية الإيحاء، والتي تهدف لجعل الإيحاء أداة فعالة في يد العقل الباطن
يلفظ بها بكل الوسائل عوامل الدفع الإيجابي في حياة الإنسان، ويتمسك بها بكل أسباب
الهدم، والتعاسة، وقد أصدر الفسيولوجي
النفسي الروسي ف . م . بيختيروف عام 1903 كتابه بعنوان: «الإيحاء ودوره في
الحياة الاجتماعية» وصف فيه ظاهرة الإيحاء الجماهيري تحت تأثير «العدوى
النفسية»؛ أي عند نقل المعلومة بمساعدة شتى المنظومات الرمزية، كان الإيحاء
لديّه مرتبطا مباشرة بالتلاعب بالوعي بل إنه يمثل عملية «اقتحام للوعي» !!
لم تستطع هذه العلوم أن تزيد
من علمنا شيئا أو تقدم لنا جديدا يحظى بالاهتمام، ويرجع ذلك ان الذين تولوا طرح
تلك العلوم كان يقفزون من الفراغ إلى الفراغ أو بمعنى أدق أن القائمين على تلك
العلوم قاموا بما يشبه «قفزة الضفدعة leapfrogging» في تجاوز الموضوعات، والظواهر إلى نتائج لم
يقدموا عليها أدلة أو براهين، ولم يتبعوا مناهج علمية معتبرة؛ فلم يوجد
اتفاق حقيقيي بين الباحثين بصدد الموضوع أو المنهج أو نتائج البحث فكل باحث يقطع
من مجال الملاحظة العادية ما يشيد عليه قصوره من الرمال بمواد متناثرة، ومتناقضة من هنا، وهناك !!
ولم يلبث في بداية السبعينيات من القرن الماضي أن تحدث عالم
الاجتماع الأمريكي الفن جولدنرعنما اسماه :«الأزمة القادمة لعلم الاجتماع
الغربي» في ظل المناخ السئ الذي يعمل فيه المنظرون الاجتماعيون في إطار بيئة
اجتماعية منهارة سواء تلك البيئة الحضرية المصابة بالشلل، أو في حرم الجامعات التي
ضُربت بقوة .*(20)
هاجم الفن جولدنر Alvin W. Gouldner العلوم الاجتماعية الوضعية (منزوعة
القيمة Value Free) وانتقد (Scientism عبادة العلموية) في العلوم الاجتماعية الأمريكية مؤكداً أن
هذه النزعة تؤدي إلى دراسات مستمدة من افتراضات واعية جزئياً بحقيقة الواقع فحسب،
وطالب علماء الاجتماع بالاعتراف باستحالة تحقيق الموضوعية الكاملة، والسعي لفهم
المصادر الاجتماعية والنفسية لتحيزاتهم، والتي اسماها (الخلفيات Background) أو (domin Assumption ادعاء المجال)، والاهتمام بالعواقب الاجتماعية لنتائج
دراستهم؛ فمهمتهم الأساسية هى إنتاج دراسات، ونظريات تساهم في تحرير الإنسان بدلاً
من الاستمرار في قمعه، ودعا إلى ما اسماه (علم الاجتماع الانعكاسي Reflexive) حيث يكون الباحث واعياً بذاته، يكشف
تحيزاته قبل أن يسعى إلى كشف تحيزات غيره .
.. وهكذا فإن جولدنر ينتقد
النموذج الوظيفي، ومنهجيته لأنه يعكس مصالح البرجوازية، ويخدم احتياجاتهم، حيث تم
استبدال المنفعة، والسلطة بالاعتبارات الأخلاقية؛ ففي المجتمعات البرجوازية تم فصل
السلطة عن الأخلاق، وأصبحت الأخلاق شأناً
خاصاً .
بدأت الأزمة التي تحدث عنها
الفن جولدنر في السبعينيات من القرن الماضي، وبعد الفن جولدنر بعقدين وفي سنة
١٩٩٠م تحدث روبرت بروس Robert
Prus عن أزمة العلوم الاجتماعية في ضوء ما ينشر
في مجلات العلوم الاجتماعية المحشوة بالأبحاث الكمية السببية التي تنتج معرفة
علمية من حيث الفرضيات، والمتغيرات، والاختبارات، والعينات، والتحليل الإحصائي
للبيانات بينما الأطر النظرية إما وظيفية دوركايمية أو ماركسية (بمعنى القيام على
النفعية في العلوم الإنسانية بتشييءالإنسان، واستغلاله)، إلا أنه خلف هذا التيار
الوضعي الشائع تحدي فكري كبير يرقى إلا كونه (تحول في النموذج السائد Paradigm
Shift) يتمثل في النموذج التأويلي الذي سيكون له
تبعات عميقة، وشاملة لفكرة النظرية، والمناهج، والبحث الأمر الذي سيهزم التصميم
الوضعي الذي قدمه أوجست كونت، والمستمد من صورة العلوم الطبيعية، لأنه غاب عن
أوجست كونت إدراك القاعدة التأويلية الاجتماعية في العلوم الطبيعية، ويرى بروس أن
فكرة ارتباط العلم بالموضوعية، والسببية يجب مراجعتها، وأن تحقيق وحدة العلوم على
أسس تأويلية أمر ممكن، ويفترض النموذج التأويلي أن الحقيقة يمكن معرفتها من خلال
الخبرة البشرية، وأن هناك تنوعاً في الحقيقة، على عكس السائد في النموذج الوضعي
الذي يفترض أن هناك حقيقة موضوعية واحدة، وتفترض التأويلية كذلك أن البشر يندمجون
في نشاطات، وأفعال انعكاسية تأملية واعية، لها معاني مختلفة مرتبطة بتأويلاتهم
المختلفة للعالم من حولهم، عكس الوضعيين الذين يرون البشر يقومون بأفعالهم بسبب
عامل أو متغير محدد .
.. وبعد جولدنير بنحو ثلاث
عقود وفي عام ١٩٩٩ نشر كلا من جوزيف
لوبريانو Joseph Lopreano، وتيموثي كريبن Timothy Crippen كتاباً بعنوان : «أزمة في علم الاجتماع : الحاجة إلى
داروين»
تناولا فيه أزمة علم الاجتماع المعاصر الذي يواجة خطر السقوط بسبب محاولات ربطه
بالسياسة بدلاً من تطويره كموضوع علمي له قوانينه العامة، وعلاقات معترف بها مع
بقية العلوم الإنسانية الأخري وعلى رأسها علم االنفس، واعتبر أن حبل النجاة لعلم
الاجتماع يكون من خلال ارتباطه بالتقاليد الدارونية، وهو الأمر الذي سبقهم إليه
بعض العلماء الذين تسألو ا عن سبب تجاهل النموذج التطوري الداروني في فهم السلوك
البشري، والتغيير الاجتماعي، وتنوع أشكال الحياة .
يرى عالم الاجتماع النرويجي
فيلوس سيجورد سكيربيك Philos Sigurd Skirbekk
عام ٢٠٠٨ أن علم الاجتماع المعاصر يعاني من مجموعة من الأزمات على رأسها عدم
امتلاك علماء الاجتماع الغربيين نموذجاً معرفياً شائعا،ً ومتفق عليه كمرجع للبحث
في مختلف المجالات، وعليه فإننا من النادر أن نشهد تفسيرات سوسيولوجية أصيلة، وقد
فشل علماء الاجتماع المعاصرين من الجيل الذي سبقهم في تقديم إجابات حول أسئلة
تتعلق بمجموعة من المشاكل السياسية، والثقاقية، والتي تتجلى أبرز ملامحها في أنه
تخلى عن روح النقد، والتحرير في عالم يحتاج إلى هذه الروح كي تستنفر فيه إمكانيات
التمرد، والثورة في مواجهة قوى دولة الرفاهية الباطشة، والمسلحة بالثقافة التي
تدعمها تكنولوجيا الإعلام والمعلومات، والتي تسعى إلى فرض نمط، ونوعية حياتها على
العالم، وتشويه ثقافات المجتمعات الأخرى، وتعديل واقعها الاجتماعي؛ بما يجعلها فريسة
سهلة لاستلاب مواردها، وتحويلها إلى سوق كبيرة لتصريف إنتاج دولة الرفاهية الأقوى
في العالم، وهكذا اكتملت الدائرة التي بدأت بالأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع
باعتبارهما علمين استعماريين، وانتهت في النهاية استعمارية على نحو ما بدأت ..
يشير عالم الاجتماع المصري
د. على ليلة إلى ملاحظة دقيقة في مقدمة ترجمة كتاب الفن جولدنر حيث يقول :
«حاول الفن جولدنر كعالم
اجتماع راديكالي واع، وبارز أن يلمس جملة من القضايا في مؤلفه «الأزمة القادمة
لعلم الاجتماع الغربي» منها أن التنظير الاجتماعي الذي استسلم لدولة الرفاهية،
وسلم بشروطها بل بدأ يلعب دوراً في الحفاظ على سيطرتها على العالم خلال عصر
العولمة، وقد نجح في ذلك بامتياز؛ فقد سجل ملاحظاته خلال عقد السبعينيات غير أن
ملامح الأزمة ألتي بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين استمرت تفرخ أزمات
متوالية بصورة مستمرة حتى انتهت الألفية الثانية، وقد اتسع نطاق الأزمات، وساحتها
حتى ملأت فضاء العلم، وحينما جاءت الألفية الثالثة طرق علم الاحتماع أبوابها، وهو
يحمل أزماته على كاهله.».
.. وتتابعت حلقات تلك الأزمات خلال العقود الأريعة
المتتابعة حتى انتهت آخر حلقاتها مع غروب القرن التي بدأت فيه، وتركت علم الاجتماع
مع بداية القرن ٢١ في حاجة إلى تأمل جديد، ولكن من نوع آخر، وإذا كان القرن السابق
قد قدم تأملاً لطبيعة الأزمات التي فُرض على علم الاجتماع أن يواجهها فإن التأمل
الذي نحتاجه في القرن الجديد ينبغي أن يهتم بالبحث عن سبل الخروج من الأزمة أو
الأزمات التي مر بها التنظير الاجتماعي؛ وذلك لتقديم حلول تساعد على استمرار
خصوبة، وفعالية هذا التنظير، وكفاءته، وقدرته على فهم واقعه الجديد.
يرى الفن جولدنر أن الأزمة الأولى التي واجهت
التنظير الاجتماعي انقسامه على ذاته مع نهاية الحرب العالمية الثانية إلى علمين :
علم اجتماع يوجهه التنظير الماركسي في مقابل علم اجتماع أخر يوجهه
التنظير المحافظ أو الليبرالي، وبذلك كان علم الاجتماع المنقسم على ذاته أكثر
ارتباطاً بالأيديولوجية؛ حيث شكلت الأيدولوجية الطاقة التي تفجر إبداعاته، وفي فترة
الحرب الباردة التي امتدت من منتصف الاربعينيات، وحتى التسعينيات كان علم الاجتماع
في كل من الكتلة الاشتراكية، والرأسمالية يؤدي دوره في الحفاظ على واقعه
الاجتماعي، والدفاع عنه، وتبرير التفاعلات التي تقع في إطاره، وإبراز نقائص،
وأخطاء الواقع الآخر، وعلى هذا النحو أدى الصراع بين واقع الكتلتين : الاشتراكية،
والرأسمالية، إلى اهتزاز الثقة في علم الاجتماع؛ .. لأن التنظير الاجتماعي شكل خط الدفاع الأول في هذا الصراع،
ومع سقوط الاتحاد السوفيتتي سقطت الأيديولوجية، وبدأ علم الاجتماع بلا أيديولوجية
توجهه وتستنفر طاقاته، وإبداعاته، وتراجع علم الاجتماع عن كونه علماً يمارس دوراً
نقدياً بالنظر إلى مرجعية أيديولوجية محددة، ويسعى إلى ترشيد حركة المجتمع
استناداً إلى توجيهاتها .
ـ ويتمثل البعد الثاني للأزمة
في المنهجية التي نقلها علم الاجتماع عن العلوم الطبيعية في الفترة التي عاصرت
نشأته، وأنه مهد بمنطلقاته العلمانية، وتوجهاته السياسية الطريق لقيام الثورة
الفرنسية .. تلك المنطلقات التي أفقدت العلوم الإنسانية ـ بصفة عامة ـ إنسانيتها؛
فعالم الاجتماع ليس ساعاتي، أو مبرمج
حواسب رقمية، أو ميكانيكي سيارات .
ويرجع السبب في ذلك أن تلك العلوم لم تجد ما تبنى عليه فنحن
نعلم تاريخياً أن علم الطبيعة نشأ بعد علم الرياضيات قائما على الكثير من نظرياته،
وكذلك علم الكمياء نشأ بعد علم الطبيعة قائما على الكثير من حقائقة، وأن علم
الأحياء نشأ بعد علم الكيمياء مستفيدا مما توصل إليه، وكذلك علوم الحواسب،
والبرمجيات مدعوما باكتشاف (0) وثنائية (1،0)، ودورها في الطفرة الهائلة التي
ابتليت به البشرية بصناعة الفيروسات المهندسة، والمصممة مختبريا، وأخرها كوفيد 19
(كورونا).
كانت مشكلة تلك العلوم التي
من المفترض كونها إنسانية أنها لم تحدد مجال البحث الخاص بكل منها تحديداً كافيا،
ولم تعرف موضوع كل منها، ولم تكفل سلامة مناهجها الخاصة، ويبدو ان الباحثين فيها
لم يتفقوا تماما على رأى عام يرتضونه لأنفسهم عن طبيعة دراستهم، وما تتصف به من
طابع خاص، وهذا السبب وراء ما يشعر به المتلقي لتلك العلوم من الحرج، والغموض،
والاضطراب عندما ينتقل بين هذه المواد وقد أعرب بعض العلماء عن حسرتهم لهذا الأمر،
ومن تلك العلوم :.
1 ـ «علم النفس السياسي»:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. في سنة 1879 أسس فلهملم
فونت أول معمل نفسي، وكان فونت مشتبكا مع تيارات الصراع السياسي، والفكري في عصره،
وأسس فونت مجلة اسماها:«دراسات فلسفية» ثم غير اسمها إلى «دراسات نفسية»، وكانت
مقالات فونت بدايه ما أطلق عليه «علم النفس السياسي»، وبمرور الأيام تم رصد
تدخل السياسة في تحديد مسار علم النفس السياسي؛ فقد قررت اللجنة المركزية للحزب
الشيوعي سنة 1926، وهي اللجنة التي تحدد النظريات النفسية الأولى بالاتباع، وأيها
تستحق الإدانة والتحريم، والتي أصدرت قرار بإدانة علم التربية سواء من حيث النظرية
أو من حيث التطبيق باعتباره يمثل مواقف علمية زائفة، ومعادية للماركسية *(21)
كانت العلاقة بين العلوم
الإنسانية عامة ـ ومن بينها علم النفس ـ علاقة تمتد إلى تاريخ العلوم جميعا، وإن
كانت الأزمات، والحروب بمثابة البوتقة التي جسدت دوما تلك العلاقة، وما ينبغي أن
تقوم به تلك العلوم لقهر الأعداء، وتدمير شعوبهم .. بمعنى أن تلك العلوم لم تستخدم
في تحقيق خير الإنسانية بقدر ما اسهمت في خدمة قوي الشر، والعدوان .
بمعنى أن الحروب بما تثيره من
قضايا، وما تفرضه من متطلبات، وما تخلقه من مشكلات، وبما لكل ذلك من طبيعة ملحة
تترك آثاراً عميقة ليس على نفوس البشر فحسب بل على مسار المعرفة الإنسانية عامة، وفي
مجال الاكتشاف، والاختراع على وجه الخصوص، وليس ذلك غريبا فالحاجة أم الاختراع،
وليس من حاجة، ولا احتياج بأكثر، ولا أقصى مما تفرضه الحروب.
وقدد حدد دويجلر وفريجدا في
كتابه : «الشخصيات الوطنية والقوالب الوطنية القومية National
character
and
national
stereotypes» الأسباب العملية لتك الدراسات على الوجه التالي :
1ـ امكانية استخدام هذه
الدراسات في الحرب النفسية باعتبارها يمكن أن تسهم في فهم عدو فعلي أو محتمل؛
وبالتالي فإن تلك الدراسات في جوهرها سلاح فعلى حال كشفها ضعف ذلك العدو، وأوهامه،
ومعاييره، وقيمه، ورموزه؛ بما يسهم في هزيمته !!
2 ـ إمكانية استخدام تلك
الدراسات في مجال الدعاية الداخلية في تبرير اتجاهات العدوان، وتخفف من حالة
التأثم حيال استخدام شتى الوسائل لتحقيق ذلك .
3 ـ فضلاً عن ذلك فإن تلك
الدراسات لا تقدم لنا المعلومات عن أعدائنا فقط بل عن حلفائنا أيضا، وأنها قد
تمكننا من المضي معهم بشكل أفضل، ومن التعامل معهم بكفاءة أكبر، وقد نصل إلى فهم
أفضل لما يعانونه من مشاكل؛ وبالتالي يصبح في وسعنا مساعدتهم بكفاءة أكثر .
وتؤكد مارجريت ميد (عالمة انثربولوجيا ثقافية)
تلك الأهداف بقولها :
«لقد استخدم هذا الاتجاة لتحقيق العديد من الأهداف السياسية : إنجاز
مهام حكومية معينة، وتيسير العلاقة مع الحلفاء، وترشيد العلاقة مع جماعات الأنصار
(الجواسيس) في البلدان الخاضعة لسيطرة العدو، والمساهمة في تقييم قوى الأعداء،
ونواحي ضعفهم، وتقديم المشورة في إعداد الوثائق على المستوى الدولي .» .
..
ولا شك أنه في البلاد التي نهضت فيها الدراسة الأنثربولوجية، واحتلت مكانا
مرموقاً بين فروع العلوم الاجتماعية نجد أن الأفكار التي تخرج بها دراسات الاتصال
الثقافي يمكن أن تستخدم عمليا في أوجة متعددة، وليس هذا فحسب بل أن العديد من
المواقف التطبيقية تتيح لعالم الأنثربولوجيا الثقافية التحكم بشكل وثيق في بعض
عوامل التغيير، كما تسمح بإجراء اختيار معملي لبعض الفروض، والنظريات؛ فهذا
التطبيق العملي يفيد الممارسة اليومية؛ فالأنثربولوجيا التطبيقية إذن تنطوي على
توجية سلوك البشر من أجل تحقيق غايات معينة، ولعل هذا البعد هو الذي حدا ببعض
علماء الأنثربولوجيا إلى رفض الأنثربولوجيا التطبيقية أوإبداء العديد من التحفظات على الانتفاع بنتائج هذا العلم في
الأغراض العملية، ولعل لهؤلاء العلماء بعض العذر في موقفهم هذا حيث يرتبط هذا الاستخدام
العملي بكثير من القضايا الأخلاقية، ويتصل بمشكلات ممارسة الباحث لمسئوليات
العملية .
لقد نشر لاسويل (أحد أهم الخبراء في التلاعب بالوعي) سنة 1970 مقالاً
بعنوان :«هل يجب على العلم أن يخدم السلطة السياسية؟!» أشار فيه بوضوح إلى
أن:
«القول بتأثر السلطة
السياسية بالمعرفة العلمية، وتأثيرها فيها ليس من قبيل الاكتشاف الجديد .».*(22)
ورغم العلاقة بين علم
النفس، والسلطة السياسية فقد امتنع العلماء عن صك مصطلح «علم النفس السياسي»
ربما نفوراً من الافصاح عن مواقفهم السياسية أو ترفعاً عن إلصاق شبهة السياسة
بالعلم، وتقديم مساهماتهم في التطبيقات السياسية العملية .
لقد نشر هانز أيزنك كتاب
بعنوان : «سيكولوجية السياسة» لم يستخدم تعبير «علم النفس السياسي»
على مدى صفحات الكتاب .
أما بيتر بريز أستاذ علم النفس
في جامعة كيب تاون بجنوب أفريقيا فقد أصدر عام ١٩٨٠ كتاباً بعنوان : «علم النفس
الاجتماعي، والسياسة» أعلن فيه تطبيق إحدى نظريات علم النفس الاجتماعي لتفسير
العملية السياسية المتعلقة بالهوية لتفسير العملية السياسية التي عايشها في موطنه،
وقد عبر في المقدمة عن رؤيته السلبية للسياسة مستعيراً عبارة الشاعر الفرنسي بول
فاليري :
«كانت السياسة هى فن منع
البشر من التدخل فيما يعنيهم، ثم اضيفت إليها دفع هولاء البشرإلى اتخاذ قرارات لا
يفهمونها.».
رصد العالم الروسي سيرجي مورزا في كتابه
بعنوان : «التلاعب بالوعي» الكثير من أساليب التلاعب بالوعي، وفضح أكاذيب جلبرت
فرانكة عن غرس «الكتروا دات» في المخ البشري للتحكم في تصرفاته من خلال التوجية
عبر وسيط راديوي، .. وأكد مورزا أن أكاذيب فرانكة كانت بهدف التغطية على تجارب
عمليات غسيل المخ القذرة التي تمت في بعض الجامعات الألمانية بتمويل أمريكي، والتي
تم استخدام نتائجها في حرب فيتنام وبالتحديد في العملية «فينكس Phoenix العنقاء» وإذابة الفلوريدات التي يطلق عليها
«مثبطات العزائم Stimulants inhibitors»
.
2 ـ «سيكولوجية الجماهير»:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهي
النتائج التي كانت تستخدم في اللعب بالمعاني الكلية دون أن تهتم بتحديدها أو
ايضاحها مثل ما ساقه جوستاف لوبون في كتابيه «نفسية الشعوب» و«سيكولوجية
الجماهير»؛ فكل جمهور من الناحية العقلية في مستوى أقل من مستوى الأفراد الذين
يتألف منهم، وعلى هذا الأساس يكون الجمهور بصفته مستوى أدنى لتحديد المستوى العام،
وقد صاغ شيللر تلك الحقيقة بأسلوب أكثر لياقة وتوفيقا بقوله:
«إذا أخذت كل أمرئ على حدة،
وجدت أنه مزود بالحكمة، والذكاء على نحو غي معقول، فإذا نظرت إليه، وهو في جماعة،
وجدت في نفس الوقت أنك لست إلا حيال جماعة من الأغبياء!!» .
وقد لاحظت السيدة «رولاند» أن :
«الناس تطول آذانهم عندما يوجدون في جماعة»،
وبذلك ليس لعلماء النفس الذين يدرسون سيكولوجية الجماهير فضل التجديد على سابقيهم .
.. وعن دور الحشود في الخداع،
والتضليل يقول رب العزة سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن أداء فرعون في إدخال
الغش على الرعية :
« فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ
أَنَاْ رَبُّكُمُ الاَْعْلَى ـ صدق اله العظيم» ـ النازعات، آيه 23، 24
يقول شكسبير في مسرحية
«أنطونيو وكليوباترا» عن طبيعة الحشود:
« إن حشد العقلاء أمر معقد
للغاية إما حشد القطيع لا يحتاج إلا راعي، وكلب.» .
وقد أدرك أحمد شوقي روح
الجماعات فصاغها في مسرحية : «مصرع كليوباترا» التى كتبها سنة 1927؛ فوصف غياب
العقل في جموع القطيع بقوله:
اسمــع الشـــــعبَ كيف يُوحون إليه
ملأ الجـوَّ هُتافـًا بحياتيْ قاتليْه
أثَّر البهتانُ فيه وانطلى الزور عليه
يا له من بَبَّغاء عقله في أذنيه
3 ـ «علم النفس الاجتماعي» :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الفترة من عام ١٨٩٠ إلى
١٩٠٠ نشأ فرع جديد قائم بذاته، وهو الذي يسمى «علم النفس الاجتماعي»، ولم
يكن لهذا الفرع روح العلم فقد كان له مظهره، وهو ذلك الفرع الذي ظل يحمل مسمى «علم
نفس الجماهير»، وتنطوي معظم دراسات علم النفس الاجتماعي على نفس العيوب التي
تبدو بجلاء من وجهة النظر العلمية؛ لأسباب أهمها:
أن الباحثين في هذا العلم
يستعيرون الظواهر من هنا، وهناك تبعاً للمناسبات، وبناء على معلوماتهم الخاصة أى
أنهم كانوا يستعيرونها من ملاحظاتهم اليومية، ومن التاريخ القصصي؛ وسرعان ما أدت
هذه الظواهر إلى التعميم المفرط في الغلو، وإلى نتائج قياسية قاهرة شديدة الوقع في
النفس، وسهلة التناول بالمعاني الكلية دون أن تهتم بتحديدها، وإيضاحها .
إن علم وظائف الأعضاء لم يصبح علماُ بمعنى
الكلمة إلا منذ اليوم الذي استطاع أن يحدد فيه الظواهر العضوية، وأن يفصلها عن
غيرها من الظواهر، وذلك عندما جرد الحقائق الحيوية من كتلة الأراء الوهمية التي كانت متضمنة فيها، كذلك لن يصبح علم النفس
فردياً كان أم اجتماعياً علماً لا يرقي إليه الشك إلا إذا أصبح قادراً على القيام
بهذه العملية نفسها فيما يمس الظواهر النفسية .
وليس ثمة ما هو أشد بداهة،
ووضوحاً بحسب الظاهر من تلك الصيغة التي ذكرها «بلدوين»:
«إن علم النفس يدرس الفرد أما علم الاجتماع
فيدرس الجماعة»، ولكننا إذا أردنا
الانتقال من النظرية إلى التطبيق فإن الصعوبة الكبرى تنحصر أين ينتهي الفرد؟!،
وأين يبدأ المجتمع ؟!
ورغم حالة الدجل التي ترتدي ثوب
«العلمي» والتخبط؛ فلا يوجد اتفاق حقيقي بصدد الموضوع أو المنهج أو نتائج البحث
فكل باحث يقطع من مجال الملاحظة العادية ما يشيد عليه قصوره من الرمال بمواد
متناثرة، ومتناقضة من هنا وهناك!!
.. وبدأ النقاش حول كيف يمكن
أن نجعل من «علم النفس الاجتماعي» أن يصير «موضوعيا وعلماً» بمعنى
الكلمة، بدلاً من أن نأخذ في تعداد النتائج المشكوك فيها إلى حد كبير أو قليل دون
أن نلقي عليها نظرة عامة أو دون نمحصها بالنقد، ونعني بهذه النتائج المشكوك فيها
نتائج هذا العلم الذي لم يهتد لموضوعه، ويمكن أن يصبح «علم النفس الاجتماعي»
موضوعيا، وعلما بمعنى الكلمة متى حددنا له نقطة البدء في الدراسة، وعينا اتجاهاته
الواضحة، ووجدنا له فروضاً يمكن اتخاذها أساساً للبحث، وهى الفروض التي سوف تقاس
قيمتها بصفة نهائية بناء على ما تؤدي إليه من نتائج فيما بعد، في حين أنها كانت
تقاس أولاً وقبل البرهنة بمطابقتها للتجربة، ولشروط التفكير مطابقة عامة .*(23)
يفترض الباحثون في هذا المجال
أن «علم النفس الاجتماعي» يبدأ بظاهرة تقع تحت الملاحظة : وهي أن نتائج النشاط لدى
إحدى الجماعات الإنسانية كاللغة، والصناعة، والفنون، والأخلاق، والعادات،
والتشريع ـ أو لنقل بعبارة أفضل من ذلك إن
المعارف العامة، والرموز، والعقائد، وقواعد السلوك العام ـ تدخل في نطاق شعور
الفرد، وتعمل على تعديله، وملاحظة مثل هذه
الظاهرة تفرض علينا واجباً أول وهو: إعداد قائمة بكل العناصر التي يحتوي عليها
شعور الفرد، والتي لا تأتيه من تلقاء ذاته؛ بل عن طريق الجماعة؛ فإذا كان «علم
النفس الاجتماعي» هو علم الظواهر النفسية التي تتوقف على وجود جماعة من الأفراد؛
فإن عدد كبير من الظواهر الواقعية التي يصفها الناس بأنها ظواهر فردية يرجع مجال
البحث فيها حقيقة إلى «علم النفس الاجتماعي» دون أن تكون ثمة حاجة إلى وجود
الجماهير، والجماعات بالفعل في اللحظة التي تنشأ فيها هذه الظواهر، وحينئذ يجب أن
تكون نقطة البدء في «علم نفس اجتماعي» فرضاً يوضع سلفاً، ويقبل أن تدخل عليه
تعديلات بصفة دائمة، ونعني به ذلك الفرض الذي سوف يحدد مدى المجال الذي يحتمل أن
يمتد إليه موضوع هذا العلم، ومجموعة المسائل التي يجب على علم النفس العام أن
يدعها له.*(24)
من البديهي أنه يأتي «علم
النفس الاجتماعي» بعد علم النفس الفردي، وأنه يجب أن نبدأ بالفرد لكى ننتهي
بالمجتمع لا أن نبدأ بالمجتمع لكى ننتهي إلى الفرد، ولكن هذه البداهة أيضا تعوذها
أدلتها، وليس هناك ما يدل على أنها بداهة خادعة، كما أننا نفتقد النظام الذي ينبغي
في دراسة الظاهرة الفردية، والظاهرة الاجتماعية الفردية !!
ومع هذا ظل الباحثون يضعون في
حساب «علم النفس الاجتماعي» موضوعات مازالت تعد حتى الآن من مجال البحث في «علم
النفس الفردي»، وهي الظواهر التي تطلق عليه الأسماء الآتية : سيكولوجية
الذكاء، وسيكولوجية الإرادة، وحتى سيكولوجية الحياة الوجدانية .
يرى الباحثين أن العلوم التي
تعالج العقلية الإنسانية ومظاهرها، وأسباب هذه المظاهر ونتائجها يكن ترتيبها تبعاً
للترتيب الآتي :
أولاً : علم
النفس العضوي
تانيا : علم
النفس الاجتماعي
ثالثاً : علم
النفس الفردي
***
4 ـ علم «الفلكلور»:
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
لم
يتعرض علم من العلوم الإنسانية لمشكلات الاستخدام العملي لمواده، ومناهجة،
وأفكاره، ومحنة «الانتفاع» بمادته، وتطويرها في ضوء ايدلوجيات معينة بمثل ما تعرض
له «علم الفلكلور» وأبرز تلك المحن التي مر بها هذا العلم تطويره، واستخدامه
لتأكيد بعض قضايا الفكر القومي النازي في ألمانيا الهتلرية، وفي مصر في مرحلة ما
بعد انقلاب يوليو ١٩٥٢ وبدأ تنفيد سياسة : «عسكرة المجتمع Stratocracy».
***
لكن ما يجب أخذه في الاعتبار
هو أن الأراء الفردية ليست مقنعة إلا في القليل النادر كذلك لا يمكن التفكير في
سرد التفاصيل التاريخية التدريجية لجميع الأراء، والمناقشات حول موضوع «علم النفس
السياسي»، و«علم النفس الاجتماعي»، و «علم الفلكلور» كما يجب الأخذ في الاعتبار أن
تلك المحاولات انتجت لنا علوم زائفة أساءت إلى شرف العلم، وامتهنت كرامة الإنسان،
وخدعته، و«تلاعبت بعقله»، واسهمت في توجيه سلوكه على غير ما يرغب، وعلى غير
إرادته، وقد أنتجت تلك العلوم الزائفة أحد أشكال «الاحتيال الإجرامي المقنن»
أو «التصيد الاحتيالي» والذي أُطلق عليه على سبيل الاصطلاح مُسمى «الهندسة
الاجتماعية Social Engineering».
«الهندسة الاجتماعية
Social
Engineering»:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهندسة الاجتماعية عبارة عن
مجموعة من الحيل، والتقنيات المستخدمة لخداع الناس، وجعلهم يقومون بعمل ما أو
يفصحون عن معلومات سرية، وشخصية، قد
تـُستخدم الهندسة الاجتماعية دون الاعتماد على أي تقنية، والإعتماد فقط على أساليب
الإحتيال للحصول على معلومات خاصة من الضحية، وقد تطورت تلك الممارسات فأصبحت تتم
عن طريق الهاتف أو البريد الإلكتروني مع انتحال شخصية ذي سلطة أو فتاة جميلة على
مواقع التواصل الاجتماعي أو ذات عمل يسمح للمحتال أو المخترق بطرح أسئلة شخصية (على
سبيل تحديث البيانات) دون إثارة الشبهات لدى الضحية.
وفي ظل التحدي الذي جلبته
الانترنت أصبحت الهندسة الاجتماعية Social
Engineering التي يُطلق عليها «علم فن اختراق العقول»
ذات شعبية كبيرة في ظل النمو الهائل، والمتسارع لشبكات التواصل الاجتماعي والبريد
الالكتروني، والأشكال الأخري للإتصالات الكترونية، وفي في مجال أمن المعلومات،
وأصبح هذا المصطلح مستخدما للأشارة إلى مجموعة من الأساليب التي يستخدمها المجرمون
في الحصول في الحصول على المعلومات الحساسة أو إقناع الضحايا المستهدفة ببعض
الإجراءات التي تساعد على اختراق أنظمتهم، والإضرار بها .
ومصطلح «الهندسة الاجتماعية» ليس
له معنى متفق عليه، ولكن من أقرب التعريفات :
«أنها استخدام المهاجم
لحيل نفسية ليخدع ضحاياه المستهدفين ليمكنوه من الوصول إلى معلومات عنهم.».
.. وتعرَّف
أيضا بأنها :
« أي عمل يؤثر على الشخص
لاتخاذ إجراء يكون او لا يكون في مصلحتهم عن طريق مجموعة من التقنيات المستخدمة
يقومون بعمل أو يفضون بمعلومات سرية، وشخصية عنهم، وهو أمر لا يتم بدون إدراك
وإلمام لطبيعة الجوانب النفسية، والفسيولوجية، والتكنولوجية للأشخاص الذين يتم
التأثير عليهم، وبالتالي التعرف على الطريقة الأنسب لتحقيق ذلك الغرض .».
وهي أيضا «عملية القرصنة» على
الأشخاص بشكل أساسي عن طريق استخدام المهاجم للمهارات الاجتماعية الكلامية أو
باستخدام أحد التقنيات بغرض الحصول على معلومات عنهم .
كذلك يمكن تعريفها : بأنها
التلاعب بالبشر، وخداعهم بهدف الحصول على بيانات أو معلومات كانت ستظل خاصة،
وآمنة، ولا يمكن الوصول إليها، وبالتالي فتقنيات الهندسة الاجتماعية تعمل على
إعطاء الجمهور ما يود، ويحب الحصول عليه من نتائج؛ فالقائمين عليها يدرسون رغبات
الجمهور جيداً، ويقدمون لهم التقنيات التي تستهويهم وتجذبهم ليشاركوا فيها، وفي
مقابل إعطاء المشاركين معلوماتهم يطواعية يحصلون على نتائج عن انفسهم تتوافق،
وقناعاتهم، ومحببة إلى أنفسهم.
وتأخذ عدة أشكال وتقنيات فنية أهما :
١ ـ التطبيقات بمحاكاة الشخصية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهى عبارة عن مجموعة التطبيقات
التي تعمل على الحصول على بعض المعلومات عن الشخصية، وملامحها لاستخراج صورة
مشابهة لصورة الشخص المشارك في هذه التطبيقات، ولكن بصورة مغايرة على ما هو عليه
في الواقع كتطبيق فيس آب Face
App، وفلسفة التطبيق تعتمد في الاساس على مجموعة
معلومات عن الشخص المشارك فيه إلى جانب صورة شخصية له، ومن ثم يحصل المشارك على
صورة له وهو كهل أو عجوز مقارنة بصورته الحالية .
٢ ـ الاختبارات الشخصية التنبؤية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهي نوعية من تقنيات الهندسة
الاجتماعية تعتمد على مجموعة من المعلومات التي يتم الحصول عليها من قبل المشارك
فيها ـ والتي تعتتبر شرط حتى يكما الاختبار ـ حتى تظهر له النتيجة عن نفسه وشخصيته
في نهاية إجابة على أسئلة الاختبارات الخاصة .*(24)
علوم الخداع
و«التلاعب بالوعي»:
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد انتجت لنا تلك العلوم
الزائفة التي تمثلت في علوم الخداع، والتلاعب بالوعي، والتي يطلق عليها مسميات
مختلفة، يقول ميشيل فوكو عما اسماه بـ «رسم الذات
Self Stylization»،
ورسم الذات تعني:
«كممارسة إنسانية عقلانية
للحياة، والحرية، وتجري تلك الممارسات بـ «تكنولوجيا الذات Self
Technology»
التي تسمح للأفراد بأن يؤثروا من خلال وسائلهم الخاصة، أو بمساعدة آخرين في
عمليات محددة على أجسادهم، وأفكارهم، وسلوكهم، وطريقتهم في الوجود، من أجل تحويل
أنفسهم لتحقيق حالة محددة من السعادة، والطهر، والحكمة، والكمال، أو اللا أخلاقية
أي تحقيق حالة ما أو هدف ما ».
وهي ما يطلق عليه الكاتب
الأمريكي إسرائيل زنجويل: «بوتقة الصهر».
و«صناعة الإجماع» تماثل
فكرة الهيمنة عند أنطونيو جرامشي:
«نظام تسيطر فيه طريقة معينة
للحياة، والتفكير، وليس فيه إلا مفهوم وحيد للحقيقة، ينتشر في المجتمع بكل مظاهره
المؤسسية والخاصة، ويصوغ بروحيته الأذواق، والأخلاق، والعادات، والمبادئ الدينية،
والسياسية، وكل العلاقات الاجتماعية، وخصوصاً في ملامحها الثقافية، والأخلاقية،
فإن الهيمنة هي السيطرة التي يتم التوصل إليها بالموافقة أكثر من القوة من قبل
طبقة أو فئة على بقية المجتمع» .
بينما يرى والتر ليبمان عميد
الصحفيين الأمريكيين أثناء الحرب العالمية الأولى: «أنها الثورة في فن الديمقراطية،
وأنه يمكن تطويعها لخدمة ما وصفه بـ « تصنيع الإجماع»، بمعنى يجعل الرأي العام
يوافق على أمور لا يرغبها بالأساس عن طريق وسائل دعائية .. وأن الحديث عن المصالح
العامة ـ من وجهة نظره ـ كفيل تماما بخداع الرأي العام».
ويرى ليبمان أن هناك وظيفتين في
النظم الديمقراطية :
الوظيفة الأولى : منوط
بها الطبقة المتخصصة الرجال المسئولون يقومون بالتفكير وفهم التخطيط للمصالح
العامة .
والوظيفة الثانية : منوط
بها القطيع الضال (الجماهير من غير النخبة)، ووفق ذلك التحليل ـ من وجهة نظر
ليبمان ـ فإن وظيفة هذا القطيع تتمثل في كونهم مشاهدين، وليسوا مشاركين في الفعل،
فمن وقت لآخر يسمح لهذا القطيع بتأييد أحد أفراد الطبقة المتخصصة، وهذا ما يطلق
عليه الديمقراطية، وأداتها (الانتخابات).
بمعنى أن مفهوم الديمقراطية
صار نفسه مفهوما شكلياً خاليا من أي مضمون، ويستخدم فقط كشعار أيديولوجي لا يؤخذ
على محمل الجد من قبل المحترفين، يقول هارولد لاسويل الذي يعد من أشهر
المتــلاعبين بالوعي، وتزييف الإرادات في «موسوعة العلوم الاجتماعية » :
«ليس علينا أن نتنازل للدوجما عن الديمقراطية
التي يمكن للناس وفقا لها أن يحكموا على مصالحهم الخاصة».
ولا يخجل هارولد لاسويل من
الجهر بالإساءة إلى شرف العلم باستخدامه
في التلاعب بوعي الشعوب، وصناعة رأى عام زائف بقوله :
«لا بأس من دعوة الجماهير من
آن لآخر للخروج في تظاهرات جماعية لدعم النظام القائم بعد أن نجحنا في إقناعهم
بالتصويت ضد مصالحهم !!».
من خلال إضفاء نوع من «العقلنة
الزائفة» على القيم الخادعة والكاذبة والمخادعة .. أي محاولة إيجاد قبول لما
لا أصل، ولا حقيقة له!!
.. يرى هارولد لاسويل عالم
الاجتماع الأمريكي ومؤسس الاتجاه العلمي دور الكلمة في الدعاية (ومن ثم التلاعب
بالوعي)، والذي بدأ دراساته منذ الحرب العالمية الأولى، وعمم النتائج عام 1927 في
كتاب بعنوان: «تقنية الدعاية في الحرب العالمية»، والذي وضع فيه التحليل الدلالي
للنصوص، أي استخدام هذه الكلمات من أجل نقل المعاني أو تشويهها، وقد بنى لاسويل
منظومة كاملة نواتها تشكيل «الأسطورة السياسية» عن طريق انتقاء الكلمات
المناسبة .
.. بمعنى اختلاف مفهوم
المصطلح رغم وحدة المضمون باختلاف موقع أمريكا منه؛ فإذا كان حقل المصطلح الذي
ينطوي على «المعلومات المخادعة» بغرض العدوان موجه أمريكيا بما يخدم
المصالح الأمريكية؛ فهو «القوة الناعمة Soft Power »، وإذا كان موجه من الغير (روسيا ـ الصين ـ
إيران) فهو «القوة الحادة Sharp
Power » .
وهو ما عبر عن جوزيف ناي في
أطروحته بعنوان «القوة الناعمة Soft
Power » التي نشرها سنة 2004 في توصيف وظائف المصطلح
بقوله :
« إننا لا نكتفي بتحطــيم
أعدائنا فقط،.. بل نجعلهم يفعلون بأنفسهم ما نريد بما يخدم مصالحنا ».
وقد اقتبس جوزيف ناي مصطلح
(القوة الناعمة Soft Power)
من ثنائية الصلب، والناعم في مكونات الحواسب، فأجهزة الكومبيوتر تتألف من روافد
الشق المادي الصلبة (تكنولوجيا عتاد الحاسوب Hardware)، وروافد الشق الذهني الناعمة (نظم برامج
المعلومات Software)، وقد أخذت تلك المسميات في
الانتشار مع بداية التسعينيات من القرن الماضي على أثر انتشار الكومبيوتر
والإنترنت.
عرَّف ناي القوة الناعمة بأنها
:
«القدرة على الحصول على ما
تريد عن طريق الجاذبية والاستمالة والإغواء و الجذب دون أن تظهر رغباتك للعيان ومن
دون أن تترك بصمات؛ فبدلاً من تكتيكات التهديد حقق رغباتك عبر دور المصلح المنقذ
وتقديم النموذج الثقافي السياسى، وزرع الأمل بأن الخلاص في يد أمريكا المانحة
لحقوق اإنسان والديمقراطية وحرية التعبير وما شابة من عناوين مضللة العقول ومدغدغة
للأحلام ملامسة للمشاعر، وبدلاً من استعراض الصواريخ أو بث الرعب عبر الإذاعات
والمنشورات للفتك بإرادة العدو يتم إرسال أشرطة الفيديو أو الأقراص اللمغنطة أو
صفحات التواصل الاجتماعي للشباب والأطفال والنساء والرجال كل حسب رغباته بدلاً عن
الإرغام، وهي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج، وتحقيق
الأهداف بدون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للعوامل، والوسائل العسكرية والصلبة؛
لأن القوة لا تصلح إلا في السياق الذي تعمل فيه، فالدبابة لا تصلح للمستنقعات، والصاروخ
لا يصلح لجذب الآخرين نحونا؛ فعندما تتمكن من جعل الآخرين يعجبون بمُثُلك، ويريدون
ما تريد فإنك لن تضطر إلى الإنفاق كثيراً على العصي والجزرات (أي عوامل الإرغام
والإغراء)؛ لتحريكهم في اتجاهك، فالإغراء أكثر فاعلية من الإرغام على الدوام
وبعبارة أدق فإن القوة الناعمة هي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على
النتائج التي يتوخاها المرء، وتستطيع أن تجتذبهم وتقنعهم بأن يريدوا ما تريد.
كما تحدث جوزيف س. ناي عن
مصادر قوة أميركا الناعمة وقوة الآخرين الناعمة (أي أعداء أميركا أو منافسيها على
الحلبة الدولية)، وعن البراعة في استخدام القوة الناعمة، وأخيرا القوة الناعمة
وسياسة أميركا الخارجية، وقد أغفل الكاتب عن قصد ذكر التطبيقات السرية للقوة
الناعمة في حالات الحرب والمواجهات العسكرية، لأن هذه المخططات ستبقى طي الكتمان
في أروقة البنتاجون والمخابرات المركزية الأميركية .
موارد « القوة الناعمة» :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حدد جوزيف ناي هذه الموارد
بثلاثة روافد:
1ـ القيم والمؤسسات الأميركية.
2 ـ جاذبية الرموز الثقافية
والتجارية والإعلامية والعلمية الأميركية.
3 ـ صورة أميركا وشرعية سياساتها
الخارجية وتعاملاتها وسلوكياتها الدولية.
كما حدد ناي عناصر القوى
الناعمة بأنها :
1 ـ مصانع هوليود وكل الإنتاج
الإعلامي والسينمائي الأميركي، رغم أن «بوليوود» الهندية تنتج أفلاما أكثر منها في
كل عام.
2 ـ الطلاب والباحثون الأجانب
الوافدون للدراسة في الجامعات والمؤسسات التعليمية، فمن بين 1.6 مليون طالب مسجلين
في جامعات خارج بلدانهم، 28% منهم موجودون في الولايات المتحدة، وأكثر من 86 ألف
باحث أجنبي كانوا منتمين في مؤسسات تعليمية أميركية في عام 2002؛ فهم سيشكلون
جيوشاً يحملون معهم آلاف النوايا الطيبة والودائع الحسنة عندما يعودون إلى بلدانهم
وأوطانهم، ويتقلدون المراكز والمواقع العليا، وسيصبحون سفراء غير رسميين لخدمة
أميركا.
3 ـ المهاجرون ورجال الأعمال
الأجانب العاملون في السوق الأميركي وقطاع الأعمال؛ حيثُ تجتذب الولايات المتحدة
ما يقرب من ستة أضعاف المهاجرين الأجانب أكثر من ألمانيا التي تليها في ذلك .
4 ـ برامج التبادل الثقافي
الدولي والمؤتمرات الدولية التي ترعاها وتشارك في تنظيمها أميركا.
5 ـ الشركات الاقتصادية العابرة
للقارات، والرموز، والعلامات التجارية مثل كوكا كولا وماكدونالدز وغيرها.
وبالإجمال ترتكز القوة الناعمة
على كل المؤثرات الإعلامية والثقافية والتجارية والعلاقات العامة، وكل مورد لا
يدخل ضمن القدرات العسكرية المصنفة ضمن القوة الصلبة؛ فمعركة الحرب الناعمة تبدأ
أولا مع الرأي العام تمهيدا للانقضاض على النظام المستهدف .
وتتركز الأدوار الهامة التي
تقوم بها الحرب الناعمة، في استهدف ثلاث غايات :
1ـ استمالة جزء من هذا الجمهور
نحو المشروع الأميركي في السيطرة والهيمنة، وتوجيه الفئات المستقطبة للانقلاب على
المشروع القومي لبلادهم والارتداد على شعاراته وأفكاره السابقة.
2 ـ بلبلة الأفكار وتشويش النفوس
لتعطيل وتجميد نشاطات وطاقات جزء من جمهورنا من خلال الدعوة لنظريات ومواقف
الحياد.
3 ـ إحداث حالة من التردد المفضي
إلى اللامبالاة والتقاعس عن نصرة الحق.
ويخطط القائمون على «الحرب
الناعمة» لتحقيق تلك الغايات عبر الوسائل
التالية:
• كسب الشرعية لصالح القوة
العظمى، أو القطب الأوحد (أمريكا)، ونزع الشرعية عن المؤسسات الدولية .
• بث اليأس والإحباط والشكوك
حيال الرموز والمعتقدات والمستقبل.
• زيادة حدة الانقسامات
والصراعات وأخذ العدو لدور المنقذ والمُخلص .
• تهيئة الأرضية للتحرك
الاستخباراتي .
***
.. وهذه الوسائط والتطبيقات لا
تنفي وجود بعض الممارسات الإجرامية التي يجرى استخدامها للتأثير على المخ البشري،
وتنطوي كلها على إهانة شرف العلم، والإساءة إلى حقوق الإنسان، وهذه الوسائل لا
تدخل في دائرة «حرب المعلومات»، ولكنها تندرج تحت مسمى «الجريمة المنظمة» التي
يرتكبها أفراد يتمتعون بقدرات علمية عالية، يتم توظيفها في أغراض إجرامية أو مسمى
«الجريمة المارقة» التي ترتكبها « عصابات دولية »
ودول وأجهزة استخبارات ولا تخضع للمساءلة القانونية، وإذا خضعت فالأسباب لا
علاقة لها بالقانون أو كرامة الإنسان، ولكن لأسباب مرتبطة بتحقيق هدف سياسي، ومن
تلك الوسائل :
العقاقير المؤثرة في المخ،
وبالتالي في حالة المزاج والسلوك البشري ومن بينها: المنشط والمهدئ، والمثير
للبهجة أو الاكتئاب، ما يجعل الإنسان أكثر تهذيباً أو شجاعة أو إقداماً وتحديا
للمخاطر، أو ما يطلق لسان صاحبه من عقاله فيتدفق بالحديث في سلاسة وطلاقة دون
تلعثم، ومن تلك العقاقير عقار «الأتروفين» العقار المؤثر على تخفيض الروح
العدوانية، والذي اقترح بعض المهتمين بالشأن العام في بعض البلدان وضع جرعات منها
في مياه الشرب لضمان هدوء الجماهير وامتثالها لقادتها وزيادة شعورها بالقناعة .
كما أنه توجد العديد من العقاقير
التي تزيد من عدوانية الناس عن طريق إضافتها لمياه الشرب أو ملح الطعام، أو حتى
نشرها في الهواء لضمان سهولة تحريكهم صوب الهدف المنشود، كما نجح الأمريكان في اكتشاف
عقار « إل . سي . دي .» والذي يتحلل في المياه، ويمكن بإذابة رطل منه في مستودع
للمياه بمدينة كبيرة إصابة الملايين بمختلف الأعراض النفسية والعصبية .
.. وفي الستينيات من القرن
الماضي ادعت إدارة الحرب الكيماوية في الجيش الأميركي إنتاج عقار يعرف باسم « بي.
زد.» لاستخدامه في الحروب، وقد ادعى
الأمريكان أن من أبرز صفات هذا العقار أن مفعوله مؤثر في تشتيت فكر العدو وانحرافه
عن هدفه أو ما يسمى بلغة المخابرات «بالعجز المطلوب»، وقد أثبتت حرب فيتنام كذب الادعاء الأميركي.
وقد أثبت المختصون أنه يمكن وضع
«الفلوريدات» في مياه الشرب كوسيلة خطيرة لتوزيع المهدئات أو مثبطات الهمم، وذلك
لاحتواء الثورات أو الاضطرابات أو حتى مجرد عمليات الاحتجاج.
.. وهكذا أصبح من الممكن أن تسلب
إرادة الإنسان منه دون أن يدري، وبالتالي يتحول إلى مجرد أداة طيّعة في يد من
سلبها.
ما دامت في صلب المواجهة الدائرة وقوى المقاومة والممانعة في العالم..
وبالرغم من محاولته إخفاء هذه المخططات، لكنها أفلتت منه في ثنايا بعض النصوص
والعبارات في طيات الكتاب .
في إشارة لها معنى ودلالة لمفهوم «القوة
الناعمة» ذهب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول إلى القول : «لا أستطيع
أن أفكر في رصيد لبلدنا أثمن من صداقة قادة المستقبل الذين تلقوا تعليمهم هنا في
أمريكا»
يمكن تحديد مظاهر تأثير القوة
الناعمة الأمريكية على حياة الشعوب المستهدفة بالأمركة في جذب الشباب والنساء إلى
أنماط الحياة والثقافة الشعبية الأمريكية من المأكولات السريعة والأزياء والملابس
وأدوات الزينة والأغاني والموسيقى والأفلام التي شكلت أذواق ملايين البشر، وصارت
مظهراً من مظاهر التحولات الاجتماعية والثقافية، فضلاً عن نشر اللغة الإنجليزية
كلغة تخاطب يومي في بعض البلدان، واعتبارها مسوغ أساسي في شغل الوظائف، والانتشار
الواسع والسريع للمدارس والجامعات إلى جانب المراكز الثقافية، والبحثية الأمريكية
في البلاد المستهدفة توازيا مع تعاظم النفوذ السياسي والعسكري الأمريكي، واستخدام
أساليب الخطاب الودود ودغدغة المشاعر الذي يطلق عليه بريجنسكي : (أسر العقول
والأفئدة) بقوله : إن الانتشار السريع للإنترنت كأداه جديدة للاتصال ما هو إلا
مظهر واحد من مظاهر التأثير العالمي لأمريكا بوصفها الرائد الاجتماعي للعالم.»،
فمواقع التواصل الاجتماعي وشبكة الانترنت من الأدوات التي تعمل أمريكا على
توظيفها، وتسخيرها لصالح الرأى العام العالمي، والترويج للنموذج الليبرالي، وتسويق
الأهداف المبتغاة نحو الطريق التي تريده أمريكا عبر مواقع التواصل الاجتماعي (
فيسبوك ـ تويتر ـ يوتيوب، ومحركات البحث مثل ياهو وجوجل) والتي تعد من أهم الشركات
الأمريكية العالمية التي تعني بالتجسس، وجمع المعلومات حول العالم، وتعد أداة
فعالة في عمليات تغيير الأنظمة حول العالم، وهذا
ما حدث في تونس ومصر حيث قامت بتعبئة الرأي العام التونسي والمصري واستطاعت
تجميع الألاف من المواطنين لإسقاط نظام بن على في تونس ثم نظام مبارك في مصر؛ بما
لا يدع مجالاً للشك أن هذه الأداة هي إحدى وسائل أمريكا لتغيير الأنظمة حول العالم
.
يقول إريك شميث مدير جوجل أن
هناك «ديناً جديداً» تقدمة الشركات العاملة في مجال تقنيات المعلومات والاتصال
وعالم الانترنت، رسالة هذا الدين هى أنه : «إذا حققت تواصلاً تقنياً بين أعداد
غفيرة من البشرفإن ذلك سيجعل عالمنا أفضل .. لكن استطيع أن أؤكد في الوقت ذاته أن
الأنترنت هو أول اختراع للبشرية في تاريخها لا تستطيع فهمه، وأنه أكبر معمل
تجارب للفوضى عرفه الإنسان.» .
لكن زيجمونت باومان لا يشارك
شميت رأيه .. يقول باومان : إحدى التبعات المشئومة لأيدلوجية النت تتمثل في
استبدال «الهوية المشتركة» لتحل محلها «المصالح المشتركة»؛ فلا بد
من رفض «الدخلاء والمجهولين والمختلفين»، وهو مايطلق عليه « البستنة» !!
أغلب رؤى التغيير القادمة من
الخارج تنظر إلى المجتمع على أنه بستان تصنف نصف قطاعاته بأنها حشائش بشرية ضارة
لابد من عزلها، ومن الأفضل رميها في مزابل النفايات البشرية من أجل عالم لا يشوبه الاختلاف وخالي من المخالفين عن طريق
تغيير الأنظمة المعارضة للولايات المتجدة ولمصالحها فتعطى تلك الأنطمة فرصة واجدة لتغير
مواقفها أوتزال نهائياً !!.
.. وطبقا لنظرية الخداع
الأمريكي التي صاغها هارولد لاسويل في منظومة كاملة نواتها تشكيل «الأسطورة
السياسية» عن طريق انتقاء الكلمات المناسبة عاد جوزيف ناي في سنة 2017 ليناقض
نفسه دون ذرة من خجل بالحديث عنما أسماه «القوة الحادة Sharp Power »،.. وهو مفهوم جديد في العلاقات الدولية يُرجع البعض جذوره إلى القرن التاسع عشر، وأعيد
استخدامه بشكل واسع بعد أن تم استخدامه في تقرير صدر سنة ٢٠١٧ عن «الوقف الوطني
للديمقراطية»، وهو وكالة أمريكية تعد أحد فروع .C.I.A، ويعني بالترويج للديمقراطية المزيفة خارج
أمريكا بما يخدم المصالح الأمريكية.
ظهر المفهوم على غلاف مجلة
الإيكونوميست أوخر عام ٢٠١٧ تحت عنوان : «القوة الحادة : المظهر الجديد للنفوذ
الصيني»، ووظفه جوزيف ناي لاحقا في مقال له في مجلة « فوريم أفيرز Forum Affairs» حيث عرف «القوة الحادة Sharp Power » بأنها الاستعمال المخادع للمعلومات لمآرب
عدوانية، وهو ما يتفق مع مفهوم ومضمون (القوة الناعمة Soft Power)، ويتناقض معها في التسمية وفقا لنظرية «التلاعب
الأمريكي»!!
القوة الصلبة Hard Power:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقبل الاعتداء على العراق سنة
2003 .. كان الكلام الأمريكي المخادع عن
استخدام (القوة الناعمة Soft
Power) و «القوة الصلبة Hard Power» وتدخل الجيوش في الاحتلال العسكري للعراق
بشكل غاشم في انتهاك حرمة البيت العراقي
وونهب تراث المتاحف، والمخطوطات التاريخية من المكتبات واغتصاب النساء العراقيات،
وامتهان كرامة الرجال في السجون، واختراق العقول في غرف المعيشة من خلال الصور
التي اصطنعتها الأطقم الهوليودية وبثتها القنوات الفضائية عن سقوط بغداد (ممثلة في
لقطة إسقاط التمثال)، والصور المصطنعة عن الاستسلام المزري للجنود العراقيين،
واطعامهم بطريقة مهينة بعد سقوطهم من الإعياء والجوع والبرد بصورة تم استنساخها من
صورة قديمة نشرتها مجلة لايف Life
للجنود المصريين بعد هزيمة 5 يونيو 1967.
.. كانت «أصول اللعبة»
معروفة؛ فلم يكن مطلوباً سوى تقرير إخباري مُعد ببراعة، وصورة صحفية مصطنعة بتقنية
عالية !!، واصطناع الأزمات وسحب السفراء، والحصار، وفرض العقوبات وإثارة قوى المعارضة داخل البلاد
وتمويلها وتسليحها ودعم مطالبها للتغيير أو تحريكها لقلب نظام الحكم، وتسخير جهود
الهيئات الدولية (الأمم المتحدة) لتصبح أبواق الدعاية للعدوان والخادم الأمين
لأهدافه!!
يقول وليام كريستول ولورانس كابلان :
«ما وجه الخطأ في فرض السيطرة
لخدمة أهداف سليمة ومثل عليا»؛ فالدول تحتاج في حالات معينة إلى كل القوتين الصلبة
والناعمة وبالشكل الذي لا يمكن الاستغناء عنه وهو ما يسمى بـ «القوة
الذكية Smart Power» .
«القوة الذكية أوالقوة الكيسة Smart Power»:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعد
القوة الذكية من الأطروحات الحديثة نسبياً في الفكر الاستراتيجي الأمريكي الذي
لطالما بحث عن التجديد الدائم في بطون الأفكار؛ لكي يخرج بأطروحات فكرية نموذجية
متكاملة تكون بصيغة نظريات أو مشاريع أو استراييجيات تأخذ مجالها إلى المجال
التطبيقي من قبل مختلف الإدارات التي تعاقبت على الحكم في أمريكا حيث ظهر مفهوم
القوة الذكية بعدما اصيبت أمريكا بخيبات أمل عسكرية في منطقة الشرق الأوسط بعد أحداث
١١ سبتمبر٢٠٠١ خصوصاً في العراق وأفغانستان، وهي تختلف عن القوة الناعمة والقوة
الصلبة بل هي تركيب ذكي من الاثنين؛ إن الانتقال الفكري الذي حدث في الفكر
الاستراتيجي الأمرسكي أدى إلى تطور مفهوم القوة الناعمة بعد دمجة في مفهوم القوة
الصلبة لكي يولد مفهوم القوة الذكية، وهذا (التزاوج المفاهيمي) لم يأت بشكل
اعتباطي بل جاء نتيجة تفاعلات فكرية داخل أمريكا عبر العديد من مراكز الأبحاث
والدراسات، والمعاهد، والجامعات، ومراكز الفكر التي تمد صانع القرار بالدراسات
والمشاريع الاستراتيجية؛ فالسياسات والخطوط العريضة لاتخاذ القرار في أمريكا هي
نتاج عقول المنتسبين لتلك المؤسسات الأكاديمية والبحثية وليست اجتهادات فردية
وشخصية فقط .
فالقوة الذكية تعني وضع
استراتيجية متكاملة لموارد دولة من أجل تحقيق أهدافها، وهو النهج الذي يؤكد على
ضرورة وجود قوة عسكرية واقتصادية، ولكن تهتم بالقيم، والثقافة، والشراكة،
والتعاون، والشرعية، والمؤسسات، ويشير النموذج التالي إلى أساسيات كل من القوة
الناعمة، والقوة الصلبة أو الخشنة؛ فالقوة الناعمة تعتمد على الجاذبية، والقدرة
على التأثير باستخدام أساليب، وأدوات ثقافية في حين تعتمد القوة الصلبة على الإكراه،
والإغراء من خلال المدفوعات، والقوة العسكرية، والعقوبات الاقتصادية، والرشاوي إن
جوهر القوة الذكية هو الفاعلية، والتكامل المرن والنشط فى استخدام مختلف
مصادر القوة الوطنية التي تمزج بين عناصر إستراتيجيات القوة الصلبة، والقوة
الناعمة معاً حيث توفر أمناً أفضل ضد التغييرات، والتهديدات المستمرة .
القوة «الافتراضية» :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان
جوزيف ناي من أهم من تحدثوا عن القوة الافتراضية كشكل جديد من أشكال القوة، وهي
مرتبطة بامتلاك المعرفة التكنولوجية والقدرة على استخدامها وقد حدد ناي ثلاثة
أنواع من الفاعلين الذين يمتلكون القوة الافتراضية :
١ ـ يتمثل النوع الأول في
الدولة التي لديها القدرة على تنفيذ هجمات إلكترونية، وتطوير البنية التحتية
وممارسة السلطات داخل حدودها ومثال ذلك قيام مصر بقطع الانترنت وخدمات المحمول
لمدة ثلاث أيام أثناء انتفاضة ٢٥ يناير ٢٠١١، ولم يكن التصرف المصري نابعاً من فهم
وتقدير سليم لطبائع الأمور بل كان استنساخاً من التجربة الصينية حيث قامت الحكومة
الصينية في ٢٠٠٩ أثناء أحداث شغب في منطقة شينجيانج بقطع خدمات المحمول والانترنت
عن المنطقة مما تسبب في حرمان ١٩ مليون من سكانها من إرسال رسائل نصية.
2 ـ ويتمثل النوع الثاني من
الفاعلين من غير الدول ، ويستخدم هؤلاء الفاعلون القوة الافتراضية لأغراض هجومية
بالأساس إلا أن قدرتهم على تنفيذ هجوم افتراضي تتطلب وكالات استخباراتية متطورة،
وفك رموز مشفرة، وعادة لا تمتلك هذه الجماعات نفس إمكانيات الدولة في مجال استخدام
القوة الافتراضية، ولكن يمكن أن ينفذ الفاعلون من غير الدول هجمات متنوعة تشمل
اختراق مواقع الكترونية، واستهداف أنظمة الاتصالات الدفاعية «Defense
Communication
System»
3 ـ وينصرف النوع الثالث إلى الأفراد الذين
يمتلكون معرفة تكنولوجية وقدرة على توظيفها، وعادة ما تكون هناك صعوبة في الكشف عن
هويتهم كما أنه من الصعب ملاحقتهم .
***
لم
يكن الهدف من تلك العلوم الكولونيالية المزيفة الضالة المضللة ذات الطابع النفعي،
وتكنولوجيات «القوة الافتراضية» سوى إحكام السيطرة على الشعوب والتلاعب بها لأغراض
عنصرية، واستعمارية وسيطرة رأس المال، وتكريس الهيمنة النخبوية، وتحقيق «الدارونية
الاجتماعية» التي قامت على اكذوبة من يصرون على إطلاق مًسمى «نظرية» عليها من
منطلق أن لكل قاعدة شواذ، بينما أكد دارون نفسه في كتابه :«أصل الأنواع» أن
:«الاستثناء يبطل صحة القاعدة.»، وكان مصطلح «البقاء للأقوى» من وضع هربرت سبنسر،
وليس داروين كما يشاع بطريق الخطأ، وقد ساهم سبنسرفي ترسيخ مفهوم الارتقاء، واعطى
له ابعادا اجتماعية، فيما عرف لاحقا بـ «الدارونية الاجتماعية»!!
الفصل
الثالث :
ــــــــــــــــــــــــ
«لعـــــــــــــــبة» الحـــــــــــاكـم
الفـــــــــــــرد..
والمشروع الحداثي«التسلطي»
.. لم يكن مسلك الشعب المصري
المتمثل في بيئته الأخلاقية «السائلة» التي تختلط فيها المعايير، وتتداخل الحدود
نتيجة تحول طفري لكنه نتيجة تراكم تاريخي قائم على عمليات سياسية قائمة على نظم
حكم مختلفة، وعقائد دينية متباينة بداية من الفرعون الواحد، ومروراً بعقيدة
التليث، وانتهاء بعبادة الإله الواحد الأحد ، وتحولات اجتماعية، وثقافية،
واقتصادية عميقة، ومعقدة، ومتراكمة عبر حقب طويلة ومختلفة من الزمان تعرضت فيها
الشخصية المصرية لعمليات من الرج العنيف، والضغط، والصهر، والإذابة، والتهجين،
والتدجين، وخداع قوامها «حاكم فرد»
يمتلك الحكمة والرشد اللذان
يجعلانه قادر على صواب الرؤية والحماية، والرعاية، و«مشروع حداثي تسلطي»
يجعل البلاد تفيض لبناً وعسلاً !!.. بمعنى قيام منظومة الحكم على نظرية: «العصا
والجزرة» .. القهر، والحلم !!
.. ويذهب الحاكم الفرد، ومعه
أكاذيبه، ويندرج «المشروع الحداثي التسلطي» تحت مسمى :» «محاولة فاشلة» لم
يؤتي ثمارها لكونه قائمة على أسطورة وكذبة تحكي لنا جزء من بدايتها مقابر العبيد
«بناة الأهرامات»، والتي تقع على بعد 500 متر من الأهرامات في سراديب حفرت في
الأرض لعدة كيلومترات؛ لتكون مقابر للبؤساء الذين خدعتهم الأسطورة وأغراهم الحلم؛
فشيدوا الأهرامات على مدى مائة وثلاثين عاماً، حملوا خلالها ثمانمائة مليون صخرة
تزن الواحدة منها طنين ـ تقريباً ـ جاءوا بها من أسوان إلى حيث الجيزة الآن (980
كيلومترا)؛ ليشيدوا تسعة أهرامات، ستة صغيرة، وثلاثة كبيرة؛ لتصبح فيما بعد صروحاً
تذكارية للفراعين؛ حيث لم يثبت حتى الآن أن الأهرامات استعملت كمقابر حسبما شاع في
عهود مضت!!
.. سقطت الأسطورة، وبقيت
بصمتها على جدران المعابد، وذهب صوت المصري أدراج الرياح، ومعها رجائه للفرعون
الإله :
« أنت .. أنت الميزان؛ فلا تكذب .».
..ذهب الفرعون، وبقيت الكذبة
تنهش في عقل الشعب المصري .. لم يكن «الفرعون الإله» سوى حاكم فرد ولد من رحم كذبه
اختلقها كاهن لتصبح القاسم المشترك لكل مشاريع الحكم التسلطية على مدى التاريخ مع
اختلاف الأساليب، والتسميات، والمسميات !! .
.. بين أيدينا وثيقة مبتكرة
كُتبت بلغة يغلب عليها طابع العامية المصرية ما بين منثور ومشعور، وهى بعنوان: «هز
القحوف في شرح قصيد أبي شادوف»*(1)،(2)،(3)،
ورغم توافر أكثر من نسخة بين يدي فقد أعتمدت بشكل كامل على نسخة الطبعة الثانية التي
طبعت على نفقة الشيخ محمود موسى شريف الكتبي، طبعة المطابع الأميرية ببولاق مصر
المحمية ـ سنة 1308هـ ـ 1890م، ولم أتحرج من نقل «الألفاظ» التي يعدها
البعض «خادشة للحياء» الواردة في ذلك النص، لكوني عددت ما جاء فيه من ألفاظ
جزء من تشخيص الحالة التي يصفها الكاتب، وأن غض الطرف عنها أخطر أشكال «عقدة
الإنكار» التي كلفتنا كثيراً؛ فلم نعرف واقعنا، ولا كيف نعالج سلبياته!!، وقد
خطر ببالي أيضا أنه ربما لا يستطيع الباحث أو القارئ أن يحصل على مخطوط تلك
الوثيقة أو مطبوعها فيصبح الكلام عنها ـ هنا ـ كلام في المطلق يصعب إنزاله على
النص المبحوث .
وقد صبغ الشربيني مُؤلَفه
بصبغة وصفية؛ فجاءالكتاب مليءٌ بالعبارات الساخرة تعبث بالألفاظ، وتستخدام الغريب
منها، والخارج على المألوف كأداة تنفيس عن كبت عميق لا يقدر صاحبه أن يواجه الواقع
الاجتماعي بأساليب إصلاحية بناءة؛ ولهذا جاء المُؤلف متسمًا بصبغة وصفية تقريرية
مصاغة في قالب هزلي ساخر، و«القحوف» في عنوان القصيد ليست قحوف سعف النخيل،
وليست ذلك النوع من لباس الرأس الذي يشبه الطواقي الطويلة، ولكن «القحوف» تعني
عظم فوق الدماغ، وما انتلف من الجمجمة، ولا يدعى قحف حتى يبين أو ينكسر منه شيء،
وهي تستخدم في بعض المواضع للدلالة على قلة الفهم، وغلظة الطبع، وانعدام الذوق، و«أبوشادف»
كناية عن الفلاح المصري؛ فالشادوف أحد أدواته لرفع المياه من مكان منخفض إلى
مكان مرتفع، والعنوان في مجمله يحمل كناية : «الاقتراب من عقل الفلاح المصري»
!!.
.. وتظهر قصيدة أبي شادوف قسوة
الحكم العثماني على الفلاح في جباية الملتزم لجباية الضرائب، وعنف الكاشف، وإلزام
الفلاح بتقديم الطعام لهم، والعلف لركائبهم، والتكليف بالعونة «السخرة» بدون أجر:
«ولا ضــرني إلا إن ابن عمي محيلبة***
يوم تجي الوجــبة علي يحيف*(4)
ومن نزلة الكُشّـَاف شابت عوارضي*** وصار
لقلبي لوعــة ورجيف
يوم يجي الديوان تبطل مفاصـيلي *** وأهُرُّ
على روحـي من التخــويف
ويا دوب عمري في الخراج وهمه *** تقضى ولا
لي في الحصاد سعيف
ويوم تجي العونة على الناس في البلد
*** تخبيني في الفرن أم وطيف
وأهرب حدا النسوان والتف بالعبا *** ويبقى
ضراطي شبه طبل عنيف»
وقد أورد المؤرخ محمـد بن إياس الحنفى
القاهرى فى الجزء الخامس من كتابه «بدائع الزهور، ووقائع الدهور» أشكالًا
من أشد أنواع الظلم المملوكى، والعثمانى ضد المصريين، حتى عرف أبناء المحروسة
«الانتحار» بسبب الفقر، وغلبة الديون عليهم، وكانت واقعة غريبة عليهم كما يشير ابن
إياس، حيث يقول إن بعض العوام - فى عام 825 هـ - شنق روحه، فمات قهرًا، لما ضاق
الأمر عليه.
فى كتابه «حكاية الفلاح المصرى
فى العهد العثماني»، يقول الدكتور جمال كمال محمود عن حال الفلاح فى ذلك العصر:
«إن الفلاح وصل إلى حال أقل من
حال العبيد، حيث كان يلزم بالسخرة فى الأعمال العامة، وأعمال المُلتزم، والباشا
الوالي.. كما فرضت عليه أنواع غريبة من الضرائب، ومن ذلك ضريبة «كراء الأسنان»
فكان الملتزمون، والمماليك العثمانية إذا مروا بقرية التزم أهلها بتقديم الطعام
لهم كنوع من الإتاوة، وأن يدفع لهم الأهالى قبل تناولهم الطعام ضريبة الكراء،
مقابل الجهد الذى تبذله أسنانهم فى مضغ الطعام.».*(5)
ضريبة القرع :
ــــــــــــــــــــــــ
.. وكان شر البلية ما يضحك ففى
سيرة السلطان المملوكى التركى الجركسى الأشرف سيف الدين برسباى الذى حكم مصر 17
عامًا ما يؤكد ذلك، ويزيد عليه؛ حيث ذكر المقريزى وابن إياس واقعة غريبة عن ذلك
السلطان، ورويا تفاصيلها التالية:
«كان السلطان مجتمعًا مع عدد
من الأمراء، وانكشف رأس أحدهم، فسخر منه باقى الأمراء أمام السلطان وكان أصلع،
فطلب الأمير من السلطان أن يوليه كبيرًا للقرعان، فوافق له، فكان الأمير ينزل إلى
شوارع القاهرة، ويأمر الناس بكشف رؤوسهم، ومن كان أقرع أو أجلح فرض عليه جباية
القرع.».
جباية الميري :
ــــــــــــــــــــــ
وتسمى جباية الأموال:
«الأموال الأميرية أو المال الميرى أو الميرة» أي المال الذى تجمعه الدولة،
وتتصرف فيه كما يعن لها،.. وهى ضريبة تفرض على الأرض الزراعية باعتبار المزارع
مستأجر لها من الدولة بموجب «عقد طابو»، وتكاليف عرفية لم يدل عليها دليل
من الكتاب، والسنة حسب لفظ دراسة الضرائب فى الدولة العثمانية، وإنما فرضتها
الدولة بموجب سلطة ولى الأمر .. كان قانون السلطان سليمان القانونى ابن سليم
الأول، المسمى بـ «الطابو» خاص بتنظيم علاقة المصريين أو على الأحرى الشعوب
المحتلة عثمانيًّا، بالأراضى الزراعية ينص علي : «الدولة هى المالكة لرقعة الأرض،
ومن يزرعها مستأجرًا دائمًا لها»،.. و«سند طابو» كلمة تركية معناها عقد دائم
لاستئجار الأرض الزراعية.. وعليه أصبح آل عثمان يملكون الأراضى الزراعية، من حقهم
تفكيك حيازتها ثم إعادة توزيعها حسب أهوائهم،.. وأمام هذا الوضع المأساوي كان من
الطبيعى أن يهرب الفلاح من زراعة الأرض، فى ظاهرة سميت «التسحب» فقد كان
الفلاح يسحب أسرته، ويهرب من القرية ليلًا، فيرسل الملتزم جنوده لتعقب الهاربين
للقبض عليهم، وإعادتهم للجلد، والحبس ثم زراعة الأرض.
وقد أوضح ابن خلدون أثر
الاستيلاء على أموال الناس بالباطل، وبغير حق في باب بعنوان : «الظلم مؤذن بخراب
العمران» بقوله :
«إعلم أن العدوان على الناس في
أموالهم ذاهب بأمالهم في تحصيلها، واكتسابها لما يرونه من أن غايتها، ومصيرها
انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها، وتحصيلها انقبضت أيديهم عن
السعي في ذلك، وعلى قدر الاعتداء، ونسبته يكون انقباض الرعايا في السعي،
والاكتساب؛ فإذا كان الاعتداء كثيراًعاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن
الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخول النهب من جميع أبوابها، وإن كان الاعتداء
يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته، والعمران، ووفوره، ونفاق أسواقه إنما هو
بالأعمال، وسعى الناس في المصالح، والمكاسب ذاهبين، وجائين ؛ فإذا قعد الناس عن
المعاش، وانقيضت أيديهم كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال وابذعر الناس في
الأفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج من نطاقها، فخف ساكن القطر، وخلت
دياره، وخربت أمصاره، واختل باختلاله حال الدولة، والسلطان لما أنها صورة للعمران
تفسد بفساد مادتها.».*(6)
ويشير أن ابن خلدون على أشكال
أخرى من الظلم بقوله :
«ولا تحسبن الظلم إنما أخذ
المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض، ولا سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من
ذلك، وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حق لم
يفرضه الشرع فقد ظلمه؛ فجباية الأموال بغير حق ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة،
والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد
على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الأمال من أهله.».
ويؤكد ابن خلدون على أن أشد
الظلمات، وأعظمها في إفساد العمران هى المتمثلة في تسخير الرعايا بغير حق؛ فيقول :
«إن الأعمال من قبيل
المتمولات؛ لأن الرزق، والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران؛ فإذا مساعيهم،
وأعمالهم كلها متمولات، ومكاسب لهم، بل لا مكاسب لهم سواها؛ فإن الرعية المعتملين
في العمارة إنما معاشهم، ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك؛ فإذا كلفوا في غير شأنهم،
واتخذو سخريا في معاشهم بطل كسبهم، واغتصبوا قيمة عملهم ذلك، وهو متمولهم فدخل
عليهم الضرر، وذهب لهم حظ كبير من معاشهم ، بل هو معاشهم بالجملة، وإن تكرر ذلك
عليهم أفسد آمالهم في العمارة، وقعدوا عن السعي فيها جملة؛ فأدى ذلك إلى انتقاص
العمران، وتخريبه.».
ويتناول ابن خلدون تأثير
السلطة على أخلاق الشعوب، وكيف تتغير أخلاق الناس من جراء الظلم، وأن الشعوب
المقهورة تسوء اخلاقها .. يقول اين خلدون:
«إن الملك إذا كان قاهراً
باطشاً بالعقوبات منقباً عن عورات الناس، وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف، والذل، ولاذو
منه بالكذب، والمكر، والخديعة؛ فتخلقوا بها، وفسدت بصائرهم، وأخلاقهم، وربما خذلوه
في مواطن الحرب، والمدافعات؛ ففسدت الحماية بفساد النيات، وربما أجمعوا على قتله
لذلك؛ فتفسد الدولة، ويخرب السياج، وإن دام أمره عليهم، وقهره فسدت العصبية، وفسد
السياج من أصله بالعجز عن الحماية.».*(7)
.. فالاستبداد يقلب موازين
الاخلاق؛ فيجعل من الفضائل رزائل، ومن الرزائل فضائل؛ فالناس من الكد، والتعب في
حاجات العوائد، والتلون بألوان البشر في تحصيلها يكثر منهم الفسق، والسفسفة،
والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه، وغير وجهه؛ فتجدهم أجرياء على الكذب،
والمغامرة، والغش، والخلابة، والسرقة، والفجور في الإيمان، والربا في البيعات،
وتجدهم أبصر بطريق الفسقـ ومذاهبه، والمجاهرة به، وبدواعيه، وتجدهم أيضا أبصر
بالمكر، والخديعة يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر، وما يتوقعونه من العقاب
على تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة، وخلقاً لهم .
ويتناول ابن خلدون أحوال
العمران في الرخاء، وما يطرأ عليه من تفسخ، وضعف «النبالة» أو «تضامنها
الجمعي» أو «العصبية» عند نزول البلاء؛ فيقول: «.. والناس فى
السكينة سواء؛ فإن جاءت المحن تباينو.».
وهو ما يرصده زيجمومنت باومان
بعد ابن خلدون بستة قرون يقول زيجمومنت باومان :
« وينقضي عهد المصاهرة
التقليدية، واختفاءها من واقع الممارسة، ويزيد من المأزق الذي تعانية القرابة؛
فشبكات القرابة تفتقر إلى جسور مستقرة’ للمسئوليات المتدفقة؛ فصار يعتريها الضعف،
والوهن كما تصبح حدودها ضبابية وخلافية؛ فصارت تتفكك في أرض من دون سندات ملكية
واضحة، ولا حيازات موروثة قاطعة؛ فليست بوسع شبكات القرابة أن تكون على يقين
بإمكانات بقائها، ولا حساب عمرها المتوقع، وهذه الهشاشة لا تزيد من قيمتها
النفيسة؛ فما دامت هذه الشبكات هشة، وواهية، وواهنة؛ فإنها تثير الشفقة.».*(8)
لم تعد علاقة «القرابة» قائمة
على صلات الدم، وأواصر العصب بل أصبحت قائمة فقط على «المصلحية»، و«النفعية»،
ووشائج «المعاشرة» اليومية !!
وبعد ابن خلدون بثلاثة قرون
جاءت دراسات علماء الحملة الفرنسية لتؤكد صدق أقواله .
اللامبالاة، والخمول
في حياة المصريين :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما جاءت الحملة الفرنسية إلى
مصر استرعى انتباه الفرنسيين أن مؤسسة واحدة فقط في القاهرة تُعد أكثر شيوعًا من
المسجد: هو المقهى فقد أحصى جيش نابليون ١٣٥٠ مقهى في مدينة الألف مئذنة، أي بنسبة
٢٠٠ مواطن لكل مقهى، حيث يجلس الناس يعلّقون على المارة، ويتبادلون أخبار الحي،
وبسترقون النظر إلى النساء المارات!!.
وقد أجرى علماء الحملة
الفرنسية اختباراً بسيطا على عينات مختلفة من سكان الحارات للوقوف على مدى «المشاركة
الإيجابية» في مجتمع القاهرة بوضع أحجار كبيرة أمام مداخل بعض الحارات؛ فكان
المارة يعتلون الحجر، وينزلون إلى الجانب الآخر ليدخلون الحارة، أو يلتفون حوله من
أحد جوانبه، ويدخلون الحارة دون أن يكلف أحدهم نفسه السؤال عن سبب وضع هذا الحجر،
أو محاولة زحزحته بعيداً عن مدخل الحارة !!
.. وقد رصد علماء الحملة
الفرنسية عدة أمور أخرى أهمها:
* أن المصريين شعب شديد الكسل،
والخمول حتى أن الفرنسيين قالوا: «إننا لنظنهم بلهاء أو معتوهين؛ فحركاتهم،
وأحاديثهم، وأبسط انفعالاتهم، ومسراتهم تشي بعدم اكتراث مذهل لا يشغلهم طوال
نهارهم سوى تدخين غلاينهم الطويلة، والتي يطلقون عليها (شبكة الدخان)، وشرب
القهوة، ويستخدم الأغنياء تبغ اللاذقية الفاخر مخلوطاً بخلاصة أوعصارة الخشاش
المطبوخ أما الفقراء فيقنعون بالتبغ المحلى مخلوطاً بنوع من عصارة القنب ـ الحشيش
ـ للوصول إلى حالة من الخدر تنسيهم ألامهم، ومضايقاتهم، .. ويباع الأفيون في مقاهي
القاهرة، والأفيون هو نوع من المعجون المخلوط بالأعشاب !! حتى يخيل للبعض أنهم شعب
من البلهاء يقضون طوال أيامهم في استرخاء يدخنون الغلاين الطوليه».
* أنهم شعب لا يثور بدون أيدي
تحركه أو قيادة تقوده، فقد كان المحرك لثورة القاهرة الثانية بعض عناصر تابعة
للمخابرات الإنجليزية، وعناصر عثمانية للضغط على الفرنسيين للجلاء عن مصر !!
*انعدام المشاركة الإيجابية في الشأن العام (تجربة وضع
الحجر أمام الحارات) .
.. وقدر رصد علماء الحملة
الفرنسية في كتاب «وصف مصر» أن المصريين يتمتعون بقدرة هائلة على (الثبات
الانفعالي Emotional Constancy)،
والثبات الانفعالي هو قدرة الشخص على التحكم في انفعالاته، والمحافظة على الهدوء،
والاتزان مهما كانت الضغوط المحيطة به؛ فالمصريون لا يكشفون عن ما يعتمل في نفوسهم
عن طريق قسمات ملامحهم، وتعبيرات وجوههم؛ فصورة الوجة ليست مرآة لأفكارهم؛ فشكلهم
الخارجي في كل ظروف حياتهم يكاد يكون هو نفسه .. إذ تغلب عليه حالة من الموات ..
إذ يحتفظون في ملامحهم بنفس الحيدة، وعدم التأثر سواء حين تأكلهم الهموم أو يعضهم
الندم أو كانوا في نشوة من سعادة عارمة، وسواء كانت تحطمهم تقلبات غير منتظرة أو
كانت تنهشهم الغيرة، والأحقاد، أو يغلون داخلهم من الغضب أو يتحرقون للإنتقام؛
وأرجع العلماء ذلك إلى الاعتقاد في
القضاء، والقدر، كما تعود إلى تعرضهم دوماً لنزوات الطغاة الذين يعم ظلمهم البلاد؛
ففي كل يوم تنشأ أخطاء، وبشاعات جديدة تصبح «الغفلة» معها بالنسبة للمصريين
نوعاً من الحيلة لمواجهة هذا العسف، ويحاولون من خلالها أن يتفادوا الخطر؛ .. بما
يجعل المصري أمام حالة من التسليم المستعذب للألم؛ فالشكاوي، والصيحات أمور لا
فائدة منها أمام جبروت الطغاة !!*(9)
.. وكان البحث في طبائع الحياة
الاجتماعية للمصريين من إرهاصات دخول العلوم الاجتماعية إلى المجتمعات العربية،
والإسلامية مع دراسات الأنثروبولوجيا، والاستشراق، والتي استمرت مع البعثات
التعليمية، والتبشيرية وطلائع الاستعمار المبكر للمنطقة العربية، والإسلامية، ولم
يكن مستغرباً أنه كانت في مقدمة الحملة الفرنسية التي احتلت مصر (١٧٩٨ ـ ١٨٠٣م)
بعثة علمية متنوعة التخصصات انتجت سفراً ضخماً هو كتاب «وصف مصر» الذي يحوي
رصداً دقيقاً لكافة جوانب الحياة الاجتماعية المصرية.
المشروع الأسري لـ «الباشا» :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن أي تصور لمشروع محمد على
لا يخرجه عن كونه مشروعاً خاصاً بالحكم الأسري لأسرة محمد على، أى أن الباشا لم
يرد إلا حكم مصر له، ولسلالته من بعده بموجب فرمان فبراير 1841، وبذلك يصبح بناء
الدولة، ووظيفتها مرتبطاً بهدفه الرئيس في حدوده وطبيعته، وقد حرص الباشا على
استخدام تقنيات وأبنية حديثة للدولة، وكان القانون فيها أداة لتطويع الإنسان
(الآلة)، واستغلاله، وتأهيله مع حرصه على صورة المحدث على النسق الأوربي.
الخطأ الشائع والمتداول عن أن
محمد على مؤسس مصر الحديثة مجرد أكذوبة روجها أبناء محمد على، وأحفاده مستعينين
ببعض المرتزقة من الكتاب، والمؤرخين، والرحالة الأوربيين الذين زاروا مصر، وقابلوا
الباشا مثل لورد ليندساي، و د. وايلد والد الكاتب أوسكارد وايلد، والرحالة جيمس
سان جون وساعد أفراد أسرة محمد على في
ذلك استمرار حكمهم للبلاد لفترة تقترب من قرن، ونصف تمكنوا خلالها من ترسيخ تلك الأكذوبه في عقول خمسة أجيال تقريباً،
وحشرها في الكتب المدرسية، وترديدها في المحافل بمناسبة وبغير مناسبة !!
ولم تكن مشاريع الري ممثلة
في قناطر القاهرة (القناطر الخيرية)، وشبكة الترع إلا من أفكار السان سيمون، وهم
حفنة من الماسون الفرنسيين من خريجي مدرسة البوليتيكنيك، الذين أخذوا على عاتقهم
تنفيذ الأفكار العملية للماسونية مستعينين برجالهم في شتى الأماكن، وكان من رجالهم
في مصر رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك.
أما ما يروجه المضللون عن
إنشاء محمد علي للترسانة البحرية؛ فهو محض تضليل؛ فقد أنشأ مراد باشا تلك الترسانة
في بولاق، ولم يكن لمحمد علي سوى فضل التوسع فيها، ونقلها إلى الإسكندرية، .. أما
ما يروجه المضللون عن أن محمد علي هو الذي أدخل زراعة القطن في مصر فهو محض هراء،
فقد دخلت زراعة القطن إلى مصر قبل الحملة الفرنسية بعقود، وقبل أن يأتي محمد علي
إلى مصر!!
.. تعامل محمد على مع المصريين
بوصفهم عبيد لتنفيذ مشروع الباشا، وأسرف في تنجيد الرجال في الجيش، والأسطول،
ومشاريع السخرة بحيث أصبحت قرى بأكملها بدون رجال؛ بما دفع المصريين لتشويه
أجسادهم، وفقأ أعينهم، وتسمية أولادهم بأسماء البنات، وكان التسحب من الجيش يمثل
أزمة تهدد مشروع الباشا حيث استمر تسحب الفلاحين بالألاف من القرى على الرغم مما
وضع من قوانين، وما تضمنته من عقوبات أو من اجراءات منها نظام تراخيص المرور
لمنعهم من النزوح من قرية إلى أخرى، كان عدد المتسحبين من الجيش ستون ألفا،ً ومن
البحرية عشرون ألفاً من عدد القوات الجيش البالغ ربع مليون نفر مقسمة على الجيش ـ
130 ألف نفر ـ والأسطول ـ 120 ألف نفرـ في الوقت الذي كان عدد سكان مصر 2,5 مليون
نسمة، .. حتى أن بعض المراجع قد ذكرت أن حملته على الشام كانت بهدف استعادة ست
ألاف فلاح فروا إليها!!
.. ولم تفلح محاولات محمد علي
في الاستعانة بالوعاظ، والفقهاء؛ ليقنعوا الفلاحين بأن الخدمة العسكرية ليست
كالسخرة،.. ولعب هؤلاء بـ «ورقة الطائفية» من خلال تذكير الفلاحين بأن الفرنسيين
استطاعوا بسهولة حين كانوا في مصر أن يجمعوا من الأقباط فرقة في جيشهم بسبب تلهفهم
على خدمة عقيدتهم؛ .. فإذا كان هذا حال الأقباط؛ فلا شك أن حال المسلمين سيكون
أفضل؛ فقلوبهم تمتلئ بالتقوى، والحماس للدفاع عن الدين، وأن الخدمة في الجيش واجب
ديني .. لكن تلك الدعوات لم تلق إلا آذانا صماء، ولم تستطع تلك الدعوات التلاعب
بهم، فالحروب هي «حروب الباشا»، لا «حروب مصر»، وأن الباشا كوّن «جيشاً أسرياً»،
وليس «جيشاً قوميا»!!
.. وهناك الكثير من الدلائل
التي تشير إلا أن الدعارة كانت تتزايد في مصر خلال عهد محمد على، وهو أمر لا يعود
إلى انهيار مفاجئ في الأخلاق أو أي زيادة مفاجئة في الرذيلة على نحو ما تمثله كوتشوك
هانم، وتختها ورقصتها الشهيرة (رقصة النحلة) التي تتخفف فيها من
ملابسها حتى تصل إلى العري التام، والتي خلدها جوستاف فلوبير في :«رسائل
فلوبير»؛ كان انتشار الدعارة نتيجة التوسع الجائر برعونة، ودون روية في
التجنيد الإجباري، ومشاريع السخرة أن تزايدت الدعارة بشكل غير مسبوق لما ترتب على
التفكك غير المسبوق للحياة الأسرية الذي نتج عن سياسة التجنيد النهمة التي أجبرت
الألاف من الرجال على التنقل من مدينة لأخرى، ومن منطقة لأخرى تاركين خلفهم
الزوجات، والأمهات، والبنات تحت وطأة الجوع؛ فاضطر العديد من الزوجات الشابات؛ وقد
هجرن بهذا الشكل، وتحت وطأة الجوع أو لتجنب هلاك أبنائهن إلى العمل بالدعارة .
.. وانتشرت ظاهرة «الخولات»
في المجتمع المصري، وهم مجموعة من الغلمان المخثين الذين يرقصون في الشوارع بملابس
نسائية، ويقلدن حركات النساء، وأفعالهن، يصف جوستاف فلوبير هؤلاء الغلمان بقوله :
«شاهدنا راقصين من الرجال .. تصوّر وغدَين في غاية البشاعة، لكنهما فاتنان في
فسادهما، وفي نظراتهما الشذراء وحركاتهما الأنثوية، يرتديان ملابس النساء،
وعيونهما مكحّلة، ومن حين إلى آخر كان قائد الفرقة، أو القوّاد الذي جلبهما، يقوم
بالعزف حولهما، يقبّلهما على البطن، والمؤخّرة، وفي الظهر، ويقوم بحركات بذيئة
محاولاً وضع توابل إضافية على شيء واضح في حدّ ذاته» .
كان جيش الباشا يشكل ضغطاً
على النساء؛ فبالإضافة إلى انتشار الدعارة بين النساء تشير(سجلات ضبطية مصر)
إلى إزالة بكارة الكثيرات من فتيات القاهرة، وأنهن مستعملات، .. ونتيجة حالة الفسق
انتشر مرض الزهري بين الأنفار، وانتشر بين طلبة المدارس العسكرية في القاهرة؛ فحين
أبلغ كلوت بك بأن عدد الطلبة المصابين بالزهري في مدرسة واحدة ٣٠٥ نفر؛ أرجع ذلك
إلى عدم وجود أدب، وإلى أفعال غير لائقة، وفي النهاية قرر كلوت بك أن جذر المشكلة
يكمن في الدعارة .
عن المشهد في مصر في ظل تلك
الحالة من الانفلات، وصف سان جون في كتابه بعنوان : «مصر» زيارة قام بها لبني سويف
في مارس ١٨٣٣م تمثل مشهداً نموذجيا للحالة الأخلاقية في مصر :
« عند وصولنا إلى المدينة كان
سمة ثمة صخب، وسرعان ما اكتشف السبب كان أحمد باشا يكن قد وصل على التو من الحجاز،
ومعه قسم من الجيش المصري، وكان الجنود ينتشرون في أنحاء المدينة؛ ليمارسوا المتع
الفظة، وانتشرت الفتيات في المدينة، ومعهم الموسيقيين، والمغنين، والراقصات،
وامتلأت الفنادق بهذه الحثالة العسكرية بحيث تعذرالعثور على غرفة.*(10)
أرجع كلوت بك هذه الحالة من
الانفلات الأخلاقي إلى ارتفاع معدلات الطلاق، وإلى «الطبيعة الشبقية للنساء
المصريات»!!
.. وتوالى احتلال بلدان المنطقة
طوال القرن التاسع عشر، وتأسيس المعاهد، والكليلت، والجامعات في المنطقة التي غلب
عليها الدراسات الإنسانية، والاجتماعية، ومنها جامعة القديس يوسف في لبنان، وكلية
جوردن في السودان، وكلية فكتوريا في مصر، والجامعة الأمريكية في مصر، ولبنان التي
كان هدفها جميعاً «صناعة النخب الحداثية» .
اللورد كرومر
و«هاتولي حبيبي»:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. وجاء الاحتلال الانجليزي
إلى مصر، وجاء معه اللورد كرومر المعتمد العام البريطاني في مصر، وبأسلوب
المخابرات البريطانية في العمل راح كرومر يتغلل في جميع مناحي الحياة في مصر،
ويمارس اختراق المجتمع بشتى الوسائل، والأساليب، وحدث أن كان الرجل مدعواً لإحدى
حفلات الزفاف مع الزعيم سعد زغلول، وكان مطرب الحفل عبده الحامولي يتغنى بأغنية
يقول مطلعها :
«.. حبيبي راح هاتوه لي يا ناس..»
وراح المطرب يرددها كثيراً،
وبدأ الملل يتسرب إلى كرومر الذي دفعه الفضول لمعرفة معنى العبارة، وطلب ترجمتها،
عندها اتخذها حجة على إقامة الدليل على أن الشعب المصري شعب خامل لا يحسن التفكير،
أو التدبير، أو القدرة على الإنجاز؛ فحتى في العشق لا يُكلف المحب نفسه مشقة البحث
عن حبيبه، طالبا من الناس ان يجيئوا به إليه!!
واتخذ كرومر تلك الحكاية
وسيلة يتندر بها في كل محفل لوصف طبيعة الفرد العربي بصفة عامة، والمصري بصفة
خاصة، والتدليل على أن موروثاته الثقافية انعكست على مواقفه السياسية،
والاجتماعية، والاقتصادية، وان الشعوب العربية إتكالية، تجيد لغة النواح، حتى
تستجدي عطف الآخرين ليهبوا لنجدتها من منطلق نصرة الضعيف، لا من منطلق القناعة بأن
لها حقاً ملزماً يحتم على الآخرين الوقوف معها لاستعادته.
وراح لورد كرومر يكشف عن عورات وجداننا، وسوء أفعالنا،
وضعف همتنا، وانعدام إرادتنا .. قال اللورد كرومر في كتابه بعنوان :«مصر الحديثة»
إن مصر تحكم بثلاث كلمات تبدأ بحرف C اللاتيني : «الكورباج Courbash، والسخرة Corvette، والفساد Corruption».
يقول كرومر: «أنه عندما جاء
لورد دوفرين إلى مصر كان عاقداٌ العزم على ألا يحكم هذا البلد تحت أي ظرف من
الظروف باستعمال الكرباج، وأصدر منشور
بذلك، وكانت النتيجة كارثية عندما لم يعد لمنظومة السخرة التي كانت مفروضة في ظل
حكم الكرباج وجود، ورفض الفلاحون الذهاب إلى الأعمال بناء على طلب المديرين، ولم
يعد بالوسع إجبارهم، ولم نعد قادرين على تطهير الترع، وتوصيل المياه إلى الحقول،
وبدأت الزراعة تنهار، ولم يعد في مقدورنا حماية شواطئ النيل في وقت الفيضانات
العالية،.. وأدركنا الحقيقة التي مفادها أن الأمر قد يحتم جلد الشعب المصري لمنعه
من الموت جوعاً.».
الفساد في حياة المصريين :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. وعن الفساد البنيوي المتجذر في
أخلاق، وتاريخ المصريين يقول كرومر:
« لم يحدث أن كان هناك فساد في أي بلد من البلدان مثل الفساد الذي عشش في
كل أنحاء مصر .. كان المصريون يقبلون الرشاوي، ويدفعونها بدءاً من الحمّار شبة
العاري الذي يصيح مطالباً بالبقشيش، ومروراً بالمطالبة بقرش أو قرشين من سائح فصل
الشتاء، وانتهاء بالباشا عالى المقام الذي يمكنه الحصول على عونة عن طريق دفع
مبالغ كبيرة معظمها أو كلها تقريباً على سبيل الرشوة، كان المقاول يرشي الوزير
كيما يحصل على عقد بشروط مناسبة له هو، تم يقوم بعد ذلك برشوة كاتب الأشغال حتى لا
يتحرى الدقة عما إذا كانت نصوص العقد قد نفذت تنفيذاً دقيقاً، .. وكان المرؤوس
يرشى رئيسه طلباً للترقية، وكان مالك الأرض يرشي المهندس للحصول على المزيد من
الماء لأرضه، وحقوله أكثر مما
يستحق، وكان القضاة يرتشون من المدعي، والمدعى عليه في أى قضية من القضايا، وكان
القرار يصدر لصالح ذلك الذي دفع رشوة أكبر، وكان مساحو الأراضي الحكوميون يرشون
لتزوير قياسات الأرض، وكان مشايخ القرى يحصلون على رشوة نظير الإعفاء من السخرة،
ومن الخدمة العسكرية، وكانت الشرطة تحصل على رشوة من كل سيئ الحظ الذين تحتم عليهم
الاتصال بها، وكان المسافر بالسكك الحديدية يجد أنه من الأرخص أن يدفع بقشيشاً
للحارس، أو المحصل بدلاً من أن يدفع ثمن التذكرة، وعلى سبيل التمهيد لرشوة المدير
كيما يقوم بتحري مظلمة من المظالم كان يتحتم على الشاكي رشوة الأتباع الجياع الذين
يتسكعون حول مكتب المديرية قبل إبلاغ الرجل الكبير شخصياً بالشكوى المقدمة.
كان واقع الأمر أن تفشي الرشوة
في المنظومة الإدارية المصرية كان بلا نهاية، وكانت الحياة الاجتماعية، والحياة
الرسمية المصريتان مشبعتين بالفكرة التي مفادها أن المطالب الشخصية، والمصالح
الشخصية المصرية أيضا، وبغض النظر عن عدالتها لا يمكن الوفاء بها بدون دفع بقشيش
!!*(11)
الهيمنة الإ نجليزية
على العقلية المصرية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يمكن الكشف عن أساليب الهيمنة
الإ نجليزية على الثقافة العربية بالرجوع إلى الخطط
الاستعمارية التعليمية في المستعمرات العربية في القرن التاسع عشر، وما قام به
دانلوب مستشار التربية في مصر في عهد المعتمد السامي البريطاني كرومر، إذ عمل على
الكشف عن خصائص العقلية الشرقية، وتجذيرها في «البنية التعليمية»، واستند
في ذلك إلى خاصية معينة من خصائص العقلية الشرقية، ألا وهي تقديسها للمكتوب،
للكلمة المكتوبة للنصوص، وراح يصدر تعليماته الدورية إلى المفتشين، والنظار على
أساس تنمية الذاكرة، والحفظ بالذاكرة، دون كل ما من شأنه أن ينمي ملكة التفكير
النقدي، والإبداعي الخلاق، وكان الهدف من هذه الخطة وضع استراتيجية للهيمنة
الثقافية على مصر، من خلال إنتاج مثقفين بلا ثقافة، لأنهم لا يمتلكون، وسائل
الثقافة الفعالة، وهي الحوار، والنقاش، والجدل، والنقد بل يكتفون بالحفظ،
والتكرار، والاجترار، وهذا ما يكشف عنه رأي دانلوب بقوله :
«إن الضمان الوحيد لاستعباد مصر على مر
الأجيال لا يكمن في الاحتلال العسكري، والاستعمار الاقتصادي بقدر ما يكمن في ضرب
الفكر المصري في الصميم بحيث يصبح عاجزاً عن التطور، والإبداع، والخلق، ويظل
معتمداً على غيره ليتحرك.».
ورأى دانلوب أنه لكي يتحقق هذا
الهدف لابد من أن تتجه سياسة التعليم كلها ـ في مرحلة الابتدائية، والثانوية،
والعالية على السواء ـ إلى الحفظ دون المناقشة، والترتيل دون النقد، ومحاكاة
المراجع، والأساتذة دون تشريحها، وتكوين رأي مستقل فيها، واحترام الكلمة المكتوبة
دون امتحانها، والتصارع فكرياً معها.».*(12)
.. وكانت رافعة المشروع
«الحداثي التسلطي» الاستعماري هى إنشاء أول قسم أكاديمي للعلوم الاجتماعية
بالجامعات المصرية سنة 1925 في السياق التاريخي لإعلان استقلال مصر صورياً عن
بريطانيا بموجب تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢، وكان ذلك في أعقاب ثورة ١٩١٩ ، ومتزامناً مع
وضع دستور ١٩٢٣ في الحقبة الليبرالية في مصر التي امتدت حتى استيلاء الجيش على
السلطة في مصر سنة ١٩٥٢ حيث قدم ضباط الانقلاب نسخة أخرى من «المشروع الحداثي
التسلطي» بعد جلاء المستعمر الإنجليزي .
يوجه د. نزية الأيوبي
انتباهنا إلى أمر شديد الأهمية بخصوص المعضلات التي تواجه الدولة بعد مرحلة من
الاستعمار، وبعد التحرر الوطنيهو أن الدولة من الصعب أن تعود إلى طبيعتها، وهو ما
يطلق عليه :«الدولة المبتسرة» أو «الدولة الخديجية»؛ لأن جزء من
المعضلة يُعزى إلى طبيعتها اللا متوازنه، وإلى حقيقة كونها متخلفة في النمو في
جوانب معينة، ومفرطة في النمو في جوانب أخرى؛ فالدولة في المجتمعات المستعمرة
سابقاً لم تخلقها بورجوازية وطنية بل بورجوازية استعمارية أجنبية قامت بتضخيم حجم
الآلة البيروقراطية خصوصاً في جناجها العسكري لخدمة أغراضها الخاصة في المستعمرات؛
بما أن هذه الأغراض كانت معزولة عن الجزء الرئيسي من المصالح الوطنية؛ فإن هذه
الدول كونت كماً كبيراً من «الاستقلال الذاتي النسبي» إزاء القوى الاقتصادية،
والاجتماعية الأهلية، وبصفتها استمرارية للإرث الاستعماريالذي أدى إلى هذا بصورة
حتمية، ومنح الدولة سلطة هامة في شئون المجتمع الاقتصادية، والسياسية. *(13)
.. ولأن المجتمع المصري كان في حالة إرباك بعد
العديد من الإجراءات التى اتخذت مظهر الثورية،
ومع ضعف المشاركة الشعبية، وعدم وجود تنظيم سياسي قوي، وغياب التقاليد
الديمقراطية الأسبق زمنا ًاضطرت الدولة إلى الدخول في «تشاركية» مع القوات
المسلحة، وأن تلعب دور قيادياً في عملية التطور الاجتماعي بحكم الضرورة.
.. فمع بداية انقلاب 23 يوليو
1952 بدأت «عسكرة الدولة» بتبني شعار:«المواطنون عيال الدولة» من خلال
توفير الاحتياجات المعيشية للمواطنين من خلال دعم سفية بلغ في سفهه توزيع كوبونات
الكيروسين على كافة فئات الشعب دون تميز، وضمان الدولة لحق العلاج المجاني،
والتعليم المجاني للجميع، والتوسع في التوظف، وإتاحة فرص الترقي الاجتماعي شرط
الولاء للنظام، والالتزام بسياسة المهرجان الذي يتغنى بانتصارات، وأمجاد لا وجود
لها في الواقع !!؛ وسقط المشروع بأكمله مع هزيمة يونية 1967 بما يحملة من ترميز،
ورموز، وعلامات !!
.. ومع بداية عصر السادات قاد
انقلاب من داخل النظام في 15 مايو 1971؛ ليضع نهاية لمهزلة نظام :«اشتراكية بلا
اشتراكيين»، ويتبنى سياسة فوقية لضرب مصر بهوس المد الوهابي، والأخونة من خلال
نشر قيم السلفية المحافظة التي سرعان ما انقلبت على الرئيس السادات بعد كامب
ديفيد، وتبنت الأفكار الجهادية، وتحولت إلى سلفية مجاهدة رفعت السلاح على الدولة،
وأغرقت البلاد في الدماء، وقتلت الرئيس السادات، .. وتزامن انقلاب الرئيس السادات
مع التوجه السياسي نحو الغرب، وتحول مصر إلى سياسة «الانفتاح الاقتصادي»
وما انتجته من نمط «الاستهلاك المتوحش» في ظل فساد الطبقة العاملة المصرية
التي تعودت على «ثقافة الاستهلاك»، و«بذل الجهد الأقل» أن تحصل على
الكثير من المكتسبات المالية دون بذل جهد في العمل أو تحقيق إنتاج حقيقي؛ .. ودخلت
مصر إلى عاصفة النار، ودوامات الدم !!
.. وفُرض على البلاد قانون
الطوارئ عشية اغتيال الرئيس السادات؛ مما سهل على الدولة وضع المواطنين
أمام حتميتين : «إما الخصخصة أو الموت جوعاً»، ولم يلغ إلا في أكتوبر 2021.
.. وفي ظل نظام الخصخصة تم تسريح «جحافل
العمال والموظفين» من المصان، والشركات، والكثير من أجهزة الدولة لينضموا تحت مسمى
«عمالة زائدة» إلى قطاع الخدمات بأجور متدنية جعلت سلوكهم أقرب إلى
أخلاقيات البلطجيةـ واللصوص، والمحتالين، والمتسولين في ظل انخفاض دخل الأسرة بما
جعلهم يفقدون الأمن الاجتماعي، والأمن الاقتصادي!!
.. كانت شرعية نظام مبارك تقوم
على خطاب سمج لا يمل من تكراره بدأه بـ «النزاهة، والطهارة»، وأن «الكفن
ما لوش جيوب»، ثم اتضح بعد ذلك أن الجيب الأصغر لبذة فخامة الرئيس يسع الوطن
بأكمله، وفي مرحلة أخرى تحدث عن ضرورة وجوده على رأس الحكم لدعم ثنائية الأمن،
والاستقرار في مقابل الفوضى، والاحتراب الأهلي، ولم يخجل من إعلانها صريحة عبر
أبواقه الإعلامية:«إما أنا أو الفوضى!!»، كان أخطر ما أنتجه نظام الرئيس مبارك
(1980 ـ 2011م): ظاهرة أطفال الشوراع (التي بدأ ظهور الجيل الثاني منها مع
بداية سنة 2005م)، وتنامي ظاهرة البلطجة كأحد آليات الضبط الاجتماعي،
والسياسي، وتنفيذ «المهام القذرة» لبعض فئات الطبقة المتوسطة والتجار،
ورجال الأعمال الذي يصعب إتمامها، أو أخذ الحقوق من خلال القنوات القانونية
المباشرة، ولا يعني هذا أن البلطجة أصبحت دائرة خارج أو ضد حيز العدالة،
والإجراءات الجنائية بل أصبحت جزءاً مكملاً لها كما أصبحت أحد أذرع الدولة
الخفية التي تحميها، وتعفيها من المسؤولية الجنائية، والسياسية، ومع توحش
الجهاز الشرطي ككل، وهيمنة سلطته على الدولة، والمجتمع، صارت قوات الأمن بشكلها
الرسمي والمؤسسي، وغير الرسمي واللامؤسسي المؤلفة من مجموعات البلطجية، والمرشدين،
أحد أهم عناصر إنتاج الفزع في المجتمع إلى جانب أقسام الشرطة التي تحولت إلى مسالخ
بشرية.
.. وفي ظل تزاوج المال بالسلطة،
وما خلفه من نشوء خندق فساد الكبار: (من رجال الحكم، ورجال المال والأعمال،
وكبار ضباط الجيش والبوليس، والإدارة الحكومية في تحالف غير مسبوق في تاريخ مصر)،
وبالمقابل تشكل خندق فساد الصغار الذي وجد وسائلة في تعويض الفقر، والحرمان
المتزايد في نمط آخر من الفساد تمثل في انتشار الدروس الخصوصية، وتعاطي الرشوة،
والإكراميات مقابل أداء الخدمات الوظيفية للجماهير، وامتدت شبكة الفساد لتشمل
الخدمات الحكومية كافة بدءاً من أقسام الشرطة مروراً بالمستشفيات العامة، وانتهاء
بالمحاكم، وقد اصبحت تلك الممارسات تمثل أخطر روافد الاقتصاد الخفي، والتى ساهمت
في انتعاش أنشطة أخرى مثل الدعارة، والبغاء، والمخدرات، وعمليات تهريب وغسيل
الأموال عبر القنوات الرسمية، ونظم الاستيراد وغيرها .
كان التحول الأخطر في عصر حسني
مبارك تحول الفساد من انحرافات فردية إلى بنية اجتماعية، ونظام مؤسسي حينما تحلقت
جماعة رجال المال حول مائدته الأسرية لتخلق بذلك أسوأ شبكة سرية للفساد، والإفساد،
حيث اختلط المال الحرام بالسلطة، وقراراتها، ولم يكتف بذلك، بل وأنه عبر سياسات
معينة، وقرارات جمهورية استهدفت إفساد أفراد، وجماعات، ومؤسسات؛ ليتحول الأمر خلال
ثلاثين عاماً إلى إفساد مجتمع بأكمله .
.. وكان من أخطر أشكال الفساد
هو ما قام به جمال مبارك، وأطلق عليه البعض:«شراء ديون مصر»، وهى أخطر
عملية نصب بالاستيلاء على موارد الدولة بزعم شراء ديون هي في الواقع معدومة، و«التلاعب
بالبورصة» للحصول على مكاسب بغير حق!!، والحصول على السمسرة، والعمولات من بيع
الشركات، والمصانع في عملية الخصخصة، وكان أخطر أشكال الفساد هو تأسيس الشركات ـ على
الورق ـ للإستفادة من المزايا، والإعفاءات الممنوحة للمستثمرين، ومدة السماح،
واغلاقها ـ على الورق ـ أيضا بعد انتهاء المدة المحددة قانونا للاستفادة من
الاعفاءات الجمركية، وبيع الورادت في السوق السوداء !!
كان أخطر سمات الحكم في عصر
مبارك هو : «تقاسم الأداء الأسري للحكم»؛ فكان الرئيس مبارك يتولى مسئوليات
وزرات الدفاع، والخارجية، والداخلية، والإعلام، وكانت السيدة سوزان مبارك تتولى بنفسها
اختيار وزراء الصحة، والتعليم، والشئون الاجتماعية، والثقافة، وتشرف عليهم، وانضمت
إلى اختصاصها وزارة الإعلام بعد قيامها باختيار أنس الفقي وزيراً للإعلام!!، وكان
جمال مبارك يتولى اختيار وزراء المالية، والاقتصاد، والصناعة، وقطاع الأعمال،
والتعمير، والاستثمار، ويشرف عليهم لتسهيل مصالحة، ومفاسد الدائرة الضيقة المحيطة
به من رجال الأعمال!!
.. وفي ظل هذا المناخ التي أصبحت فيه الدولة
بكل مواردها، وأجهزتها ومؤسساتها تدار لصالح حفنة من الفاسدين، واللصوص، وبدأ
الحديث عن «التوريث»، وتهيئة المناخ لخلافة جمال مبارك على الحكم، وقد أعطى
السيناريو السوري الأمل للداعمين لمسلسل التوريث بعبور بشار الأسد إلى رئاسة سوريا
عبر جسر البعث، وكوادره التي تضبط إيقاع الحركة في الشارع، وتحكم سيطرتها على
مفاصل الدولة، وتصور بعضهم أنه يمكن استنساخ التجربة بإدخال تعديلات على السيناريو
المصري عبر سن بعض الإجراءات التشريعية التي أفقدت الأسرة النواة تماسكها عبر
المجاملات التشريعية للمرأة؛ بما أسهم في تفاقم (أزمة الذكورة) في المجتمع
المصري!!
.. وبدأت الحكومة بعض
الإجراءات لتدجين بعض الفئات عالية الصوت،
.. وبدأت نفس النهج في إفساد السلك الدبلوماسي، وافساد استاذة الجامعات،
وضباط الجيش، والشرطة بمنع فرص غير مستحقة لأبنائهم بحيث خلت مؤسسات الدولة من
الكوادر الخلاقة القادرة على الابتكار؛ بما أخل بمبدأ تكافؤ الفرص، وأرسى قواعد
الاستبعاد الاجتماعي، وأسهم في تراجع التصنيف العلمي للجامعات إلى أدنى مستوياته!!
حركة كفاية :
ـــــــــــــــــــــ
في عام 2004 كون مجموعة من
النشطاء السياسين «الحركة المصرية من أجل التغيير» التى رفعت شعار «كفاية»
لرفض التجديد للرئيس مبارك لفترة خامسة، وقطع الطريق على محاولات التوريث ورفعت
شعار :«لا للتمديد ..لا للتوريث».
حركة 6 أبريل:
ـــــــــــــــــــــــ
بدأت بإعلان بعض الشباب تضامنهم
مع إضراب العمال فى 6 أبريل 2008، وتبنيهم فكرة الكاتب الصحافى مجدى
أحمد حسين أن يكون الإضراب عاما فى
مصر، وليس للعمال فقط.
بدأ هؤلاء الشباب فى تشكيل مجموعات لنشر فكرة الإضراب، فقد أنشأت
إسراء عبد الفتاح جروب « خليك فى
البيت»على موقع « فيسبوك» دعت فيه إلى إضراب يوم 6 أبريل 2008، كما دعت
أيضا للتظاهر فى عدة أماكن بمحافظة القاهرة،
والإسكندرية، والمحلة.
وفى وقت قصير انتشرت فكرة
الإضراب فى جميع أنحاء مصر، وشارك فى هذه المجموعة أكثر من 71 ألف شخص، ومن خلال
إرسال رسائل إلى الأعضاء؛ مما أدى
لاستجابة بعض الأحزاب، والحركات المعارضة المصرية لفكرة الإضراب، مثال ذلك
حركة موظفى الضرائب العقارية، حركة
إداري، وعمال القطاع التعليمى، ونقابة
المحامين، وحركة 9 مارس التى تضم أساتذة
الجامعات، بالإضافة إلى بعض المثقفين، والمدونين، وناشطى الإنترنت.
حركة استقلال القضاء :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظهر تيار استقلال القضاء مع
بداية سنة 2004، واتخذ من نادى القضاة محطة لانطلاقه، ليخوض أولى معاركه مع السلطة
بعد إحالة المستشارين هشام البسطويسى، ومحمود مكى للتأديب بدعوى خروجهما عن
التقاليد القضائية، وهى المعركة التى تطورت مع تصدى قضاة التيار لتزوير الانتخابات
البرلمانية فى عام 2005.
وقد تمت تصفية كل رموز ذلك
التيار بالإحالة للتأديب لعدم الصلاحية لارتكاب أفعال لا تليق بشخص القاضى،
وانتهى الأمر بسجن بعضهم في قضايا جنائية !!
باراك أوبامـــــا
رئيس الإنترنت :
ـــــــــــــــــــــــــــ
وصفت مارى
جوردن مديرة مكتب صحيفة «واشنطن بوست» فى
لندن باراك أوباما بأنه «رئيس الإنترنت» فقد ساهم الإعلام الإلكترونى
بفضاءاته الفسيحة بقوة فى تحديد هُوِيَّة الفائز فى الانتخابات الرئاسية للمرة
الأولى فى تاريخ الولايات المتحدة؛ وبدت الشبكة الإلكترونية كما لو أنها هى صندوق
الاقتراع الفعلى؛ فقد سجل التاريخ أن الفضل الأول فى فوز أوباما للشباب عموما؛
ولجيل الإنترنت من الناخبين الجدد .
فقد راهن
أوباما شخصياً وكذلك القائمون على حملته الانتخابية الرئاسية؛ على هذا الإعلام
الجديد مبكراً جداً ليس فقط من بداية هذه الحملة؛ بل منذ عام 2004 حين اعتمد على الإنترنت فى انتخابات
الكونجرس، ... وقد بدأ أوباما حملته التمهيدية داخل الحزب الديمقراطى سعياً للفوز
بترشيحه فى «فضاء الإنترنت» إذ استضاف عدداً من المانحين الإلكترونيين لتناول
العشاء معه؛ وبث تفاصيل اللقاء معهم كاملة على موقعه الخاص على الشبكة العنكبوتية
.
.. ومع تقدم الحملة الانتخابية استخدمت حملة أوباما
بكثافة، وفاعلية المواقع الثلاث الأكثر شهرة فى أوساط الأجيال الجديدة، وهى
(الفيسبوك، ويوتيوب، وماى سبيس )، فكان لهذه المواقع أثر هائل فى الوصول إلى عدد
لا يقل عن 75 مليون شخص معظمهم من الشباب، وإطلاعهم على أخبار الحملة الانتخابية،
وتطوراتها وكليبات المؤتمرات واللقاءات التى تحدث فيها .
ففى
الولايات المتحدة ؛ يملك معظم الشباب (حوالى 70 %) صفحة على الفيسبوك، ويقضى كل
منهم ما لا يقل عن عشرين دقيقة يومياً فى متابعة أخبار أصدقائه، ونشاطاتهم، كما أن
موقع يوتيوب أتاح عرض لقاءات أوباما، وعرض مقاطع فيديو مما يعرض على قنوات التليفزيون
المختلفة، والوصول بها إلى الشباب الذى يقل إقباله على الإعلام المرئى، والمكتوب
.
أصدقاء أوباما :
ـــــــــــــــــــــــــ
.. وتؤكد
الأرقام الواردة في الدراسة التى نشرت على موقع بيو (مشروع الإنترنت البيولوجية Internet
Project
Biological) أن أوباما لديه 1726453 صديق على الفيس
بوك، و510799 على ماي سبيس مقارنة بمنافسه ماكين الذي لديه 309691 صديق فقط على
الفيس بوك، و87652 فقط على ماي سبيس .
إرهصات انتفاضة يناير :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومع التحدي الذي جلبته
الإنترنت بدأت إرهصات انتفاضة يناير؛
فبدأت تولد في الفضاء الافتراضي للإنترنت ما يسمي بـ «الإحتجاجات
الرقمية E- Protests» التي لاقت قبولاً من المواطن المصري لخلوها
من عنف الإحتجاجات العادية، وكونها في مأمن من بطش، وإيذاء الشرطة، ونشأ ما يُسمى
بـ «مواقع التواصل الاجتماعي Social
Media» التي أوجدت ما يُعرف بالـ «المجموعات Groups».
.. أوجد الفضاء الافتراضى
الالكتروني Cyberspace ما أطلق عليه أندكت اندرسون
«المجتمعات الخائلية Virtual Communities»
من خلال التنسيق، والتفاعل بين الأفراد من ذي العواطف، والمعتقدات، والأفكار، والانتماءات
المتقاربة الذين لا يرتبطون معاً بصلات وشائجية، وتنظيم صفوفهم عبر الفضاء
الافتراضي؛ ليبدأ تنظيم الصفوف على الأرض.
.. وبدأ عنف الشرطة يتزايد،
واشتدت القبضة الأمنية، وراحت تمارس الترويع بدون مبرر من خلال الخطة «ردع» التي
أعدها اللواء أحمد رشدي وزير الداخلية الأسبق بزعم إعادة الإنضباط إلى الشارع
المصري في الثمانينيات من القرن الماضي، وأخرجها من الأرشيف اللواء عدلي فايد مدير
الأمن العام، وأقرها اللواء حبيب العادلي وزير الداخلية لبث الرعب في قلوب
المواطنين عبر تحويل أقسام الشرطة إلى «مسالخ بشرية» يتم تعليق الضحايا مثل
الذبائح في أقبيتها، وممارسة «التعذيب الممنهج» بالصعق بالكهرباء، وهتك الأعراض،
وإهانة كرامة الرجال، وإنسانيتهم بإذلالهم، والعبث بمؤخراتهم بالعصي والأصابع؛ فقد
نشر نشطاء فيديو إدخال العصا في دبر عماد الكبير على أيدي أفراد من جهاز الشرطة في
أحد الأقسام، وتصوير عملية التعذيب بمعرفتهم، وتداوله بقصد التفاخر، وتلفيق
القضايا، واحتجاز النساء رهائن لحين تسليم المطلوبين .
كان اللواء عدلي فايد مدير
الأمن العام ضابط متواضع الكفاءة، وكانت كل مؤهلاته أنه دفعة حبيب العادلي وزير
الداخلية، وحسن عبد الرحمن رئيس جهاز مباحث أمن الدولة في كلية الشرطة؛ فأتوا به
من منطلق كونه من «أهل الثقة»، وقد كلف ذلك الاختيار مصر الكثير؛ فالرجل بأدائه
الردئ أفسد العلاقة بين أهالي سيناء، ووزارة الداخلية باعتقال قرابة 4 آلاف من
أبناء سيناء اعتقالاً عشوائياً بتوسيع دائرة الاشتباة عقب حوادث إرهابية، وأهان
شيوخ القبائل، وانتهك حرمة المرأة البدوية باحتجازها رهينة في أقسام الشرطة لحين
تسليم ذويهم، وهى إهانات لا يقبلها المجتمع السيناوي، ومازالت سيناء إلى يومنا هذا
تجني ثمار الإرهاب الذي وضعت بذوره تصرفات غير مسئولة لضابط ضعيف الامكانيات .
.. واستحدثت الشرطة الاستعانة
بقطعان البلطجية لتأديب بعض المعارضيين السياسيين والنشطاء؛ فتمت إهانة المهندس
ابراهيم شكري رئيس حزب العمل في 2004 أثناء حضورة مؤتمر شعبي في باب الشعرية
لمناهضة التمديد، والتوريث على يد إحدى النساء القوادات المسجلات خطر «دعارة» تدعى
«أم أحمد»؛ مما اضطر الرجل لاعتزال الحياة السياسية، ولزوم بيته حتى وافته المنية
.
.. وفى 25 مايو 2005 تم
الاعتداء على الأستاذة نوال على الصحفية بجريدة الجيل أمام نقابة الصحفيين أثناء
دخولها إلى مبنى النقابة لحضور دورة فى اللغة الإنجليزية .
القوة الافتراضية
في مواجهة النظام :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
.. نشر المدون وائل عباس صور
الاعتداء على الأستاذة نوال على من خلال مدونته Blog بعنوان :«الوعي المصري» التي دأب من خلالها
على فضح تجاوزات الشرطة، ومنها واقعة تعذيب عماد الكبير، وكانت اللطمة القاسية
لنظام حسني مبارك هو إعادة نشر مجلة The
Economist على غلافها صورة الاعتداء على الأستاذة نوال
على، ونقلته عنها بعض الصحف العالمية!!
وزاد من تشجيع المدونين
المصريين Bloggers على فضح تشوهات نظام حسني مبارك رعاية محرك البحث
العملاق جوجل Google للتدوين، والتشجيع عليه
باستضافة المدونات مجاناً حتى بلغ عدد المدونات في مصر180 ألف مدونة قبيل ثورة
يناير2011 حملت لافتات تدل على القهر مثل مدونة «مواطن مصري واخد على قفاه»،
وبعضها يدل على التهميش مثل مدونة «مرفوع من الخدمة»، وبعضها يدل على الانعزال،
والشعور بالاغتراب مثل مدونة «مدونة تهتم بإثنان فقط : أنا ونفسي»، وبعضها يدل على
المعاناة مثل مدونة «لقمة عيش»، وبعضها يدل على اليأس مثل مدونة «خربانة يا
جدعان».
كانت المدونات أحد أشكال
«الإعلام البديل Alternative Media»
للتعبير عن أوجاع المهمشين الذين لم تتح لهم فرصة للتعبير عن أنفسهم في وسائل
الإعلام الرسمية .
.. وأصبحت المدونات أحد أشكال
ممارسة «الديمقراطية الرقمية»، وساهم في تنشيط المدونات، والصفحات على مواقع
التواصل الاجتماعي ظهور ما يسمى بظاهرة «المواطن الصحفي» الذين سارعوا تسجيل وقائع
الأحداث، وتصويرها بكاميرات هواتفهم المحمولة، ونقلها عبر صفحاتهم على الانترنت،
.. واصبحت العديد من تلك الصفحات لها ميزة الـ «سبق الصحفي»، وأصبحت وسائل الإعلام
الرسمية تنقل عنهم!!.
ولم يهتم نظام حسني مبارك
بتلك الإرهاصات، واعتبرها ممارسات مشاغبة لـ «شوية عيال لاسعة» دون أن
يتفهم أن الانترنت أسقط حواجز الحدود، وقيود الرقابة، وأن عصر «الكتابات
العابرة للحدود» قد بدأ، وأن العالم بصدد فكر لا يقتصر على الأوطان داخل
الحدود التي حددتها الخرائط، ولا على الشعوب بأجناسها المختلفة، وقومياتها المتعددة
بل ينتمي إلى الإنسانية، وأن الذين يمارسون ذلك النشاط يعدون مواطنون عالميون .
كما أن الانترنت أعطى
مستخدميه القدرة على التخفي بارتداء «طاقية الإخفاء الإلكترونية» التي تمكن
المستخدم الواحد من التعامل بأكثر من اسم مستعار، وأكثر من هوية مزيفة؛ فما كان
خيالاً بالأمس أصبح واقعاً ملموساً اليوم !!
.. وفي ظل ميزة
«التفاعلية النشطة Interactive
Communication» التي تتيح تجميع الألاف من البشر في دقائق
حول مناقشة الأفكار، وبلورتها، وتنقيحها بحيث تبدو مثل كرة الثلج التي سرعان ما
يزداد حجمها، ويتغير مسارها في دقائق قليلة؛ وساعد على ذلك أيضاً ليونة، وسهولة
تشكيل المعلومات الرقمية، وصياغتها في قوالب مختلفة قابلة للحفظ في أوعية
الكترونية، ويسهل استعادتها، وتداولها؛ ففي عام 2008 قرر عمال غزل المحلة الإضراب
في السادس من أبريل، وقرر ناشطون على النت مساندة الإضراب، وتبني اقتراح الأستاذ
مجدي أحمد حسين ليشمل الإضراب مصر كلها، وخلال ساعة انضم أكثر من 70 ألف مشترك إلى
إحدى صفحات الإضراب على «الفيس بوك».
كان ما حدث يوم 6 ابريل جرس
إنذار للنظام؛ فقد أدرك الأستاذ عبد الله كمال الصحفي بـ «روز اليوسف»، وعضو أمانة
السياسات بالحزب الوطني أن الإنترنت أصبح لاعب جديد على الساحة، وأنه سيغير شكل
الحياة السياسية في مصر خلال سنوات، وأوصى بوجوب تحقيق أقصى استفادة منه، فاستحدث
الجهاز الأمني فرعاً للإنترنت، وكون الحزب الوطني لجان الكترونية تحوي مئات الشباب
الذين توظفوا مقابل أجور خيالية للقيلم بوضع التعليقات المؤيدة للحكومة، وللحزب
دون القيام بإصلاحات حقيقية .
كانت كل الشواهد تشير إلى
أن دور الرئيس مبارك قد انتهى وأن من الأفضل إقناعه بالتخلي طواعية عن الحكم لكن
عناد الرجل في التشبث بالسلطة فاق كل الحدود، والتصورات؛.. فقد احتوى خطاب أوباما
في نصه الأصلي بجامعة القاهرة على العبارة: «آن للرئيس مبارك أن يعتزل ويستريح»،
وبذل د. عبد المنعم سعيد جهود كبيرة مع مسئولي السفارة الأمريكية بالقاهرة مستعينا
بصديقة السفير الإسرائيلي ليتم حذف تلك العبارة، وتمت مكافأة د. عبد المنعم سعيد
على ذلك بتعيينه رئيساً لجريدة الأهرام .
وبعد ذلك دعى عماد الدين
أديب في مقال بعنوان : «الخروج الآمن لمبارك»، دعى فيه الرئيس مبارك إلى
التخلي طواعية عن السلطة شريطة تأمينه هو، وأفراد أسرته من الملاحقة القضائية،
وبالطبع لم يكن أديب يستطيع كتابة مثل هذا المقال بدون ضوء أخضر، ومظلة حماية من
جهات خارجية .
وبدأت أبواق مبارك تهاجم عماد
الدين أديب وتسخر من كتاباته بعناوين كان أهمها:«الخروج الآمن لأديب!!»
وكتب فهمي هويدي مقالاً في جريدة الشروق يقطر مرارة بعنوان : « رضينا .. والهم
ما رضي !!»
.. وعندما جاء د. محمد البرادعي إلى مصر
استقبله في المطار مئات من الشخصيات العامة، والنشطاء السياسين، وأطلق الشاب محمود
الحته على موقع الفيس بوك صفحة بعنوان : «البرادعي رئيساً لمصر»، وبعد
ساعات كان عدد أعضاء الصفحة 150 ألف عضو، وبدلاً من أن يتفهم نظام مبارك رغبة
الناس في التغيير، وإحداث إصلاحات جذرية تحسن من واقع المواطن المصري لجأ إلى
الإساءة للبرادعي، وطالت الإساءات بشكل فج
أفراد من أسرته .
كانت التقارير الأمنية التي
يرفعها اللواء حبيب العادلي، واللواء حسن عبد الرحمن مدير مباحث أمن الدولة تشير إلى
أنه تم «تدجين الشعب المصري»، وأنه لن يستطيع أن يرفع رأسه، ولن يستطيع أن يكسر
حاجز الخوف .
.. ثم كانت واقعة قتل الشاب
السكندري خالد سعيد في 6 يونية 2010 على أيدي شرطيين سريين من قوة قسم شرطة سيدي
جابر، .. وتم التعتيم على القضية في الإعلام الرسمي، وعندما تناول بعض النشطاء
الواقعة قام الإعلام الرسمي بتشوية الضحية بإطلاق صفات سلبية على الشاب القتيل مثل
«عاطل الإسكندرية»، و«شهيد البانجو»، و «الديلر» بمعنى تاجر المخدرات، والهارب من
أداء الخدمة العسكرية .
وانبرى شباب النشطاء عبر
صفحاتهم الإلكترونية يفندون أكاذيب الإعلام الرسمي بالوثائق، والمستندات التي كان
أهمها «شهادة أداء الخدمة العسكرية»، وتسجيل شهادات شهود الواقعة عبر وسائط
«المالتي ميديا Multi Media»،
ونشرها على المواقع، وكانت من بينها الصورة البشعة للشاب القتيل في المشرحة، وبها
أثار التعذيب الوحشي .. كانت الصورة البشعة صادمة لـ «الأغلبية الصامتة» من
جموع الشعب المصري التي ارتأت أن «الصمت الجبان» هو السبب في قتل ابنائها،
وتعذيبهم، وإهانة كرماتهم على أيدي الشرطة، وبقاء ابنائهم عاطلين، ومهمشين دون
تعليم جيد، أو رعاية صحية، وزاد من إحساس تلك الطبقة بالقهر تزوير الانتخابات
البرلمانية في 2010، واستخفاف الرئيس مبارك بهم بقوله : «خليهم يتسلوا» !!
وعندما أنشأ المهندس وائل
غنيم مدير التسويق لشركة جوجل بمنطقة الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا صفحة على الفيس
بوك بعنوان:«كلنا خالد سعيد» يعاونه في إدارتها الشاب عبد الرحمن منصور الطالب
بكلية الإعلام ـ جامعة المنصورة بلغ عدد المشاركين في الصفحة خلال دقيقتين 300
مشارك، في اليوم الأول بلغ عدد المشاركين 36 ألف مشترك ليصل بعد ذلك إلى أكثر من
نصف مليون خلال أيام، وليبلغ مساء يوم 25 يناير 2011 مليون مشترك.
.. وأنشأ محمد ابراهيم الشاب
المصري المقيم في إنجلترا صفحة بالإنجليزية على الفيس بوك بعنوان: «كلنا خالد
سعيد» لتعريف العالم بقضية مقتل خالد سعيد كان لتلك الصفحة دوراً هاما في حشد
الدعم للقضية من مختلف الجنسيات حول العالم ,
وقد تمت الدعوة للتظاهر يوم 25
يناير 2011 عبر صفحة «كلنا خالد سعيد»، واستجاب للدعوة 100 ألف مواطن خلال ساعتين،
وكسر الشعب المصري حاجز الخوف، وتم تحديد وسائل انطلاق التظاهرات سيرا على
الأقدام، وتحديد أماكن تجمعاتها، وأساليب عملها من خلال ما تعلمه الشباب المشارك
عن «حرب اللا عنف» من مؤلفات بريجنسكي، وجين شارب، وجوزيف ناي، ومطبوعات
أكاديمية التغيير في قطر .
.. كان الذي استرعى انتباهي هو
استخدام هؤلاء الشباب الصغار لـ «الإستمالات العاطفية» للشارع المصري من
خلال الهتاف : «يا أهالينا ضموا علينا»؛ بما يعكس وعياً وفهماً لـ
«سيكولوجية الجماهير» طبقا للمفاهيم التي وضعها جوستاف لوبون لردم الفجوة بين علم
نفس الفرد، وعلم نفس الجماهير؛ فدافع عنهم الأباء، واحتضنهم الأمهات، ومع حلول
المساء جاء شباب الأتراس إلى ميدان التحرير؛ ليشعلوا شماريخهم مما اضفى أجواء
احتفالية على الميدان بألعابهم النارية، وأغانيهم المرحة، وأدخل إحساساً بالبهجة على المتظاهرين، وكانت انطلاقة
ثورة شعب مصر الحقيقة لأول مرة في تاريخه .
***
.. وكانت انتفاضة 25 يناير
2011، .. وكانت صورة الشاب السكندري القتيل خالد سعيد هى الصورة التي أطلقت شرارة
الثورة .
الرئيس مبارك لم يتخلى طواعية
عن السلطة كما أشيع، وتم نقله للكافة عبر كلمة قصيرة متلفزة ألقاها اللواء عمر
سليمان؛ فقد كان الرئيس مبارك مصراً على إبادة المتظاهرين، وإراقة الدماء، وقد ذهب
إلى غرفة عمليات القوات المسلحة، وقام بالتوقيع على الخطة «إرادة» التي أُعدت
للتنفيذ عن طريق القوات الجوية في حال حدوث شغب في البلاد، وهو ما يعني قتل 3
مليون مصري متواجدين في ميدان التحرير.
.. ورفضت القوات المسلحة تنفيذ
الخطة تنفيذ إرادة في مواجهة الثوار، وقررت حماية الثوار، والاحتماء بهم؛ بالقيام
بانقلاب ناعم بغطاء من إرادة شعبية حسبما جاء في مذكرات الفريق سامي عنان التي
نشرت بعض حلقاتها في الصحف ثم اختفت في ظروف غامضة .
اتفق المجلس العسكري علي عدم
تنفيذ تعليمات مبارك لأن الخيار بين بقائه في الحكم، وإبادة 3 ملايين مصري كان
أمراً مرعباً .. وبعد أن علم مبارك بقرار الجيش اتصل بالمشير طنطاوي، وسبه، وقال
له :
ـ «انتوا بتخونوني».
وتمادى مبارك في تسفله على
القيادات العسكرية؛ فأصدر المشير طنطاوي التعليمات بتحويل ابراج الدبابات تجاه
القصر الجمهوري في رسالة معلنة وواضحة لمبارك، والمتعاطفين معه، وكان يوما عصيبا
علي أسرة مبارك .. بكى أفراد من الحرس، وتشاجر علاء مبارك مع شقيقه جمال، وحمله
المسئولية عما يحدث لوالده هو واصدقائه من «غلمان أمانة السياسات»، .. وبكت
سوزان مبارك، .. وتوجهت مدافع الدبابات تجاه وزارة الداخلية، وحلقت طائرات حربية
فوقها لتحمل رسالة مماثلة إلى اللواء حبيب العادلي مفادها أن: «كل شئ قد انتهى.»؛
فقد كانت هناك مؤامرة يقودها جمال مبارك، وحبيب العادلى للانقلاب على الرئيس مبارك
أثناء الثورة تم إعدادها في ورقة من 8 بنود تمثل خط الدفاع الأخير، وتحدد ساعة الـ
blackout (التعتيم)، وكيفية التصرف حيال الأوضاع، لكن
العادلى استخدم هذه الورقة فى غير ظروفها الحقيقية، .. كان تحليق الطيران الحربي
فوق وزارة الداخلية رسالة صريحة لأخطر مجرم في تاريخ مصر.. تسلمها، وفهمها، وكان
عليه أن يقبع في الشيخ ريحان في انتظار الأوامرلإجلائه بسلام .
كان خلع مبارك أشبة بعملية خلع
ضرس صعبة؛ فقد عبر المخلوع بما ينبئ عن سوء نواياه تجاه الوطن، وناسه، وأفصح عن
الدماء السوداء في قلبه في جملة تطفح بالغل، والكراهية، والنذالة، والخسة، وفقدان
الشرف؛ فقال :
ـ هوا طنطاوي عاوز البلد يبقي
يشيلها، وانا حخليها خرابة..
***
شهد المجتمع المصري مؤخراً
تطورات اجتماعية مثيرة للانتباه؛ فالتغيرات الاقتصادية (رفع الدعم عن الجنيه، وعن
المواد الاستهلاكية الأساسية، وتعويم الدولار، وأصبح الدين العام 172 ,1 تريليون
جنية، وصارت فوائده تمثل 100% من الناتج القومي) ألقت بظلال ثقيلة على الحياة
اليومية في البلاد، وجاءت وطأتها أشد قسوة على الشرائح الأفقر؛ فمصر دخلت في دائرة
مفرغة من التضخم، ثم رفع سعر الفائدة، ثم تقليل سعر الفائدة لتقليل التضخم،
والتشجيع على الاستثمارالذي لا يأتي !!
.. وصار في مصر أسواق لفضلات الطعام من بقايا
مخلفات محلات الجزارة، والمطاعم،
والفنادق، من العظم، وأرجل، وأجنحة الدجاج، وعظام صدورها المخلية؛ ومنتجات الألبان
المغشوشة، والأطعمة الغير صالحة للاستخدام الأدمي؛ حتى تتمكن بعض الشرائح من
السكان من الوصول إلى غذائها؛ فهناك 45 % من بين 104 مليون مواطن تحت خط الفقر.
الفصل
الرابع :
ـــــــــــــــــــــــ
الإنسان السائل
.. «االإنسان السائل»
هو ذلك الإنسان الذي خضع لعوامل كثيرة من
الرج، والصهر، والضغط التي نتج عنها حالة من الإسالة، والإذابة، والميوعة شكلت
مصطلح «االإنسان السائل» الذي يُعد نتاج حالة اجتماعية، وسياق تاريخي تزامن مع
مرحلة «ما بعد الحداثة» بكل ما تحمله من «السيولة» التى أغرقت جميع مناحي الحياة،
فتداخلت الحدود، وتراخت السمات، واختلطت المعايير، وازدادت ضبابية، وتشابهت حتى
صار من الممكن أن نتحدث عن سيولة أو ذوبان في حدود الدول أو معالم المجتمع أو سمات
الهوية الفردية أو خصائص الثقافات، وسيولة الجانب الأخلاقي، وسيولة التعاملات،
وسيولة البشر بتدفقهم من مكان إلى آخر، وسيولة المال بل وإلغائه للحدود التقليدية،
وسيولة الهويات بتغييرها المستمر، والسيولة السلوكية من خلال النزعة الاستهلاكية،
وما عنته من تمظهرات في السلوك وفي المعتقدات، والتحولات غير منطقية من «الحداثة الصلبة» إلى «الحداثة
السائلة» على حد تعبير عالم الاجتماع الإنجليزي الجنسية البولندي الأصل زيجمونت
باومان في معالجته لنظرية «التقاطع المعرفي Interdiscplinarity Theory» في علم الاجتماع من خلال ما أسماه من خلال
مجموعة مؤلفاته المعروفة بـ «سلسلة السيولة» :
«الحداثة السائلة، الحب السائل، الخوف
السائل، الشر السائل .. العيش مع اللا بديل، الأخلاق في زمن الحداثة السائلة، الحب
السائل .. هشاشة الروابط الإنسانية، الحياة السائلة، الثقافة السائلة، المراقبة
السائلة.».
.. بدأ باومان أطروحته بأن :
المجتمع الحالي لا يُفهم من وجهة واحدة ضيقة
بل لابد من اتحاد فيما بين التخصصات المختلفة؛ لذا كانت معالجته لنظرية «التقاطع
المعرفي» و«مفهوم السيولة» الذي قام على فكرة الفعل الاجتماعي الموجه ثقافياً بفعل
مؤسسات الفكر والعلم، ومؤسسات البيروقراطية لخدمة آليات السوق، ومؤسسات الإقراض
الربوي!!؛ إذ ليس بوسع المستهلك دخول عالم الحياة الاستهلاكية إلا عندما يتحولون
إلى سلع، ويستطيعون إبراز قيمتهم الاستعمالية؛ فالتفرقة بين المستهكين، وموضوعات
الاستهلاك في الحياة السائلة هي تفرقة لحظية عابرة غالبا، ومشروطة بالظروف دائماً.
.. مصطلح «السيولة»
تم استعارته من حالة فيزيائية للمادة، وجعله ميزة للمجتمع الحالي، وهذا دليل على
أن باومان يفهم في تلك الميادين أو على الأقل طرق باب التخصصات الأخرى، ولم يبق
حبيس المفاهيم التي يوفرها علم الاجتماع فقط بل على العكس من ذلك تمكن من صقل
مفاهيم جديدة تخدم علم الاجتماع .. أخذ باومان تلك الحالة الفيزيائية لما تكون
عليه المادة من صلابة، وانتقالها إلى حالة أخرى تكون لزجة مائعة سائلة؛ فهو أخذ
هذا الشكل، وهذه الصورة كي يعبر بشكل بالغ، وكبير عن الكيفية التي تحول بها
المجتمع من حالة الصلابة (الحداثة) إلى حالة الميوعة (ما بعد الحداثة)، وعلى هذا
يعتبر مصطلح :«السيولة» نقطة تلاقي لما أخذه باومان من العلوم الأخرى، ووظفه ليوصل
للقارئ أن حالة المجتمع الحالى في ترديه كحالة المادة المائعة السائلة التى لا
تعرف ثباتاً .
..
يجعل باومان من السيولة بهذا المفهوم تلك المرونة التي تنهزم في وجه الصلابة في كل
الميادين فيقول : «السيولة هي الصلابة الوحيدة، واللا يقين هو اليقين الوحيد»؛
فهو يعتبر السيولة نموذجاً لنمط حياتنا المعاصرة .. إنها تقنية الصهر، والتمييع،
والإذابة، وفي ظل السيولة كل شيء ممكن أن يحدث لكن لا شيء يمكن أن تفعله في ثقة،
واطمئنان، ومفهوم السيولة لا يظهر في سيولة الحركة، والتنقل نتيجة التطورات
المتسارعة في وسائل الاتصال، والانتقال بل هي تصل حد سيولة المشاعر، والعلاقات،
والمعاني لأن المعنى قد غاب تحت نير التنقلات، والبحث، واللهاث وراء كل جديد .
في مجتمع السيولة الذي يصوره
باومان تبدو حالة السيولة واضحة في العلاقات الاجتماعية، وداخل التركيبة
الاجتماعية؛ فهو مجتمع تتغير فيه الظروف التي يعيشها أعضاؤه بسرعة لا تسمح
باستقرار الأفعال في عادات، وأعمال منتظمة، وهكذا تتغذى سيولة الحياة، وتستمد
طاقتها، وحيويتها منها .
«نظرية السوائل»:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كان البعض يرى زيجمونت باومان صاحب نظرية اسموها «نظرية السوائل» تمثلت
في العديد من مؤلفاته التي حملت نفس الإسم، والمعروفة بـ «سلسلة السيولة المدونة
في كتب الفقة الاستراتيجي»، لكن باومان نفسه يرى أن تلك الأطروحات لم تبلغ حد
النظرية !!
كان باومان ضالعاً في العديد من
المرجعيات العلمية بحيث أن حضوره لم يقتصر فقط على علم الاجتماع بل كان من
المناهضيين لسياسة الانفراد بالتخصص، والتوغل فيه دون الاطلاع على ما لهذا التخصص
من تقاطعات ضرورية مع التخصصات الأخرى، وكان يرى أن علم الاجتماع لن ينمو، ويتطور،
ويزدهر إلا إذا نزل من السجن الانفرادي (التخصص) ـ على حد نعبير باومان
ـ إلى الساحة المشتركة للعلوم حيث يجد
نفسه متقاطعاً مع باقي التخصصات .
باومان يعتبر شخصية رئيسية
في علم الاجتماع الأوروبي، ويهيمن على عمله القلق الناجم عن تعاقب الأزمات
السياسية، والاقتصادية، والأخلاقية التي تؤثر على مجتمعاتنا المعاصرة من التكلفة
البشرية للعولمة على الأخلاق، وتحييد الآثار الأخلاقية للأفعال البشرية، وتوابع
عالم المستهلك، ويحمل عمله تشخيصاً للأوجاع الحاصلة دون السماح لنفسه بالوقوع في
أطر «النظـــرية»، وذلك من خلال تنويع التفسير، والانخراط في حوار مستمر مع
العلماء، والمفكرين؛ بما حدا به ليؤكد في أكثر من موضع :
«أن الواقع أكبر من أي تصور،
وأعمق من أي نظرية .».
باومان وابن خلدون ..
قــــــــرابة العلمـــــاء :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يرى البعض أن ثمة قرابة بين باومان وابن خلدون،
.. وقرابة العلماء ليست صلات دم أو أواصر نسب أو جيرة مكان لكنها مقاربة فكر، وإن
تباعدت الأزمان، وهو ما يربط بصلة مقاربة فكرية بين ابن خلدون، وزيجمونت باومان
الذي يرى أن المجتمع الحالي أصبح سائلا في قيمه، وعادته، وتقاليده، وثقافته،
وتربيته، ودينه، وتاريخه، وهذا مضمون نظرية «السوائل» لباومان في علم
الاجتماع التي مكنته، وأجبرته أن يكون متقاطعاً معرفياً أى يستعين بالتخصصات
الأخرى؛ فقد أخذ من كل ميدان شيئاً، وركبه
مع ميدان آخر ليوصل لنا رسالة أن المجتمع الحالي مجتمع خطير سائل قريب من
الانهيار؛ فبعد اطلاعه على الاقتصاد وجد
ان الناس يجتهدون في الاستهلاك أكثر من الإنتاج، وهذا ما يسميه بـ «النزعة
الإستهلاكية»، وهو ما يطلق عليه ابن خلدون :«عوارض الترف والغرق في النعيم»
المؤذن بخراب العمران .
.. وبعد اطلاع باومان على
التاريخ وجد أن الناس يعتقدون أموراً لكنها في الحقيقة كذب وبهتان، تصدى باومان
لخدعة القرن العشرين «الهولوكست» .. عاد باومان للأحداث التاريخية، ودراسها
دراسة تفصيلية؛ فلم يكترث بصحة الأرقام، والضحايا، ولم يهتم بإحصاء عدد المعسكرات،
ولم يجمع الخرائط التى تحدد مواقع الإبادة بل أجتهد في دحض الأسطورة السائدة في
الفكر المعاصر، والتي تروج لها إسرائيل من منطلق أنها حادثة أقر بها هتلر ضد
اليهود .
.. ليصل بنا باومان إلى أنه لا يمكن في
أغلب الأحداث التاريخية فهم الحدث في علته الأولي المُعلن عنها؛ فغالباً ما تختفي
الأسباب الحقيقية خلف الشعارات البراقة، والمبررات، والحجج الزائفة التي يصعب
رفضها، وتلقى قبولاً شعبيا !!؛ إذ غالباً ما تقف أسباب، وذرائع، ومصالح غير معلنة
وراء الحدث، وغالباً ما يلجأ المستفيدون إلى اخفائها، والتعتيم عليها، والتعمية
عنها؛ ولذا يجب إخضاع الحدث لضوابط الفحص التاريخي، وحدوده الصارمة، وأهمها:«السببية
التاريخية»، وهو
ما أسماه بـ «معاناة إنتاج المعنى»، ويكشف أن «الهولوكست» من نتاج
الحداثة الغربية ليس إلا، والدليل على ذلك أن هناك يهود شاركوا في المحرقة،
وبالتالي فـ «الهولوكست» قضية سيادة «الحداثة» آنذاك، ولم تكن ضحاياه من
اليهود وحدهم .. كان ضحايا الهولوكست 20 مليون شخص منهم 6 ملايين يهودي فقط ، وكان
ضحايا الهولوكست من الأفراد الذين يعدهم الفكر الغربي إضافات كمية إلى عبث الوجود
بجهلهم، وقذراتهم، وممارستهم الوحشية كجماعات وظيفية تساند طبقة الإقطاعيين
المتحالفة مع الكنيسة، وتقف عائقاً ضد الانطلاقة الجامحة لرأس المال؛ ليخلق مجتمع
مناسباً لأغراضه، والانتقال إلى طور العولمة !! .
ويحاول اليهود اليوم في الجدل
الدائر حول تبرير العالم للإبادة الجماعية، وظهور سلسلة جديدة من الادعاءات بأن
جماعة ما ليست إلا ضحايا من أجل الانتقام من ظلم الماضي، والدفاع عن ضجايا الماضي
حتى لا تتكرر معاناتهم، وهو ما ينتقده عالم الاجتماع الفرنسي لوك بولتانسكي Luk
Boltanski في كتابه بعنوان : «معاناة بعيدة :
الأخلاق والإعلام والسياسة Distant Suffering : Morality, Media and Politics» في إطار أطروحة حول نواة مفاهيمية تتطلع
إلى بناء نظرية فعل تستند إلى نظرية إميل دوركهايم لـ «الحقيقة الأخلاقية»
بقوله :
إن دروس التاريخ في غالب
الأمر هي أسلحة من يمتلكون القوة، ومن بستغلون ضحايا الماضي حتى يستحوذوا على
المستقبل بينما يتجاهلون معاناة الحاضر، وهناك وجة آخر يدعيه من أصبحوا «ضحايا
بالتفويض» التي يعرفهم بأنهم فئه فريدة من الطبقة الارستقراطية اللاعبة لدور
الضحية ممن لديهم استحقاق وراثي للتعاطف، والغفران الأخلاقي الذي يدين به المجتمع
لأصحاب المعاناة.
يفحص لوك بولتانسكي الطرق
التي حاول بها المتفرجون رؤية الكارثة
منذ نهاية القرن الثامن عشر، والاستجابة بشكل مقبول لما رأوه من الوحشية في
التعامل مع كل ما هو آخر، ويناقش أساليب الإنتاج الاجتماعي للا مبالاة، ويتساءل
عما إذا كان لا يزال هناك مكان للشفقة في السياسة الحديثة.
الحقيقة الثانية التي أكدها
باومان أن : ليس كل تاريخ يبقى ثابتاً مثل ما تعودنا عليه، وأن هناك مغالطات وضعت
لأغراض محددة يعلمها صاحبها، وعليه فإن الجانب التاريخي عنده يُظهر أنه رجع إلى
التاريخ، وأخذ منه غير أنه لم يتناوله باعتباره حدثاُ تاريخيا يتم سرده بل مزج معه
جانباً نقدياً؛ مما أضفى على حادثة «الهولوكست» ـ على سبيل المثال ـ
أبعاداً متنوعة لم تقتصر فقط على بعد واحد .
نقد باومان للتاريخ يشعرنا
أننا أمام ابن خلدون آخر حيث دعا ابن خلدون في مقدمته إلى النظر، والتفكير في نقل
الأخبار، والروية، وعدم الثقة بالناقلين، والتعديل، والتجريح، والآطلاع على
الأحوال، والوقائع في العمران .
وهو ما يصفه ابن خلدون بقوله :
«وكثيرا ما وقع للمؤرخين،
والمفسرين، وأئمة النقل من المغالط في الحكايات، والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد
النقل غثاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها
بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر، والبصيرة في الأخبار؛
فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولا سيما في إحصاء الأعداد من
الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب، ومطية الهذر، ولا بد من
ردها إلى الأصول، وعرضها على القواعد ..».
كان تزييف التاريخ، والترف
نقطتي الالتقاء بين باومان وبين عالم الاجتماع العربي ابن خلدون حول «خراب
العمران» و«إنهيار المجتمعات» حسب ظروف المجتمعات، واختلاف التسميات.
***
.. «االإنسان السائل» نتاج توصيف مجازي لحالة الفردية التي حولت
جسد المواطن الذي يرمز للأمة إلى جسد المستهلك الذي يلهث وراء السلع في سوق لا
يحقق له الرضا الكامل، ولا الأمن أبداً، وبدلاً من توحد القلوب على هوية جماعية
تتفرق القلوب على تنافس حول السلع، و «الاستعراض»، كما سماه جي ديبور في كتابه :«مجتمع
الفرجة» ـ لمقاومة الشعور الداخلي بالهشاشة، والخوف بعد توغل الخصخصة، وانسحاب
الدولة من أدوارها الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، وافساح الطريق أمام عولمة
الاقتصاد، وعولمة الجريمة، وعولمة الارهاب، وتحولها إلى «الدولة السجانة» و«الدولة
الأمنية» التي تستثمر رأس مال الخوف حتى تضمن شرعية وجودها بعدما تخلت عن كل
الأدور التي كانت تكتسب منها شرعيتها.
.. لم تقتصر الدولة على خصخصة السلع، والخدمات بل
تعتدها إلى «خصخصة الخوف» عبر تجريد الأفراد عبر أدوات «الحداثة
السائلة» من كل شبكات التضامن، ومهارات مواجهة المخاوف والمخاطر؛ ليصبح الأمان
مهمة الفرد، وبدلاً من رعاية الدولة ظهر السوق ليقدم خدمات الأمن، والأبواب
والسيارات المصفحة، واالأسوار العالية، ومن لا يملك تكلفة ذلك كله عليه أن يتعلم
كيف يدافع عن نفسه بطرائق أقل تعقيدا! وربما أكثر وحشية .
أفرد باومان كتاباً عن الخوف
بعنوان :«الخوف السائل»*(1) عن
حالة الخوف التي يواجهها الإنسان نتيجة لخوف حقيقي من فقدان كل شيء، ومواجهة
المجهول باستراتيجيات نفسية أهمها :
الاستغراق في اللحظة الراهنة،
والسلوك الاستهلاكي، والتمحور حول اللذة اللحظية من خلال اللجوء إلى الاقتراض الذي
توفره النظم الرأسمالية الربوية للتعايش مع المجتمع الاستهلاكي، وطبيعته الحياة
السائلة فيه من خلال القروض اللازمة لذلك بأجل وفائدة!!، وبمواكبة من الإعلام الذي
يعد بالمستقبل هنا والأن،.. يرى علماء الاجتماع أن الاقتراض تعبير عن حالة خوف من
عدم التحقق، والرغبة في الاقتناص قبل الأوان، واستباقها !! .. «الحياة السائلة»
حياة محفوفة بالمخاطر التي يحياها المرء في حالة من اللا يقين الدائم، وأشد هاجس
يساور المرء في تلك الحياة هو الخوف أن تأخذه على حين غرة، ومن الفشل في اللحاق بالمستجدات المتسارعة، ومن
التخلف عن ركب السائرين، ومن إغفال تواريخ «نهاية الصلاحية»، ومن الاحتفاظ بأغراض
مهجورة، ومن فقدان اللحظة التي تدعو إلى تحول في اتجاة السير قبل عبور نقطة اللا
عودة؛ فالحياة السائلة سلسلة من البدايات الجديدة، ولذا فإن النهايات السريعة
المؤلمة التي لولاها لكانت البدايات الجديدة خارج طوق الفكر هي أصعب لحظات «الحياة
السائلة» وأوجعها، وهكذا فإن تعلم أسبقية التخلص من الأشياء صار أحد فنون «الحياة
السائلة»، وإحدى المهارات اللازمة لممارستها .
يرى باومان إن النفايات هي
المنتج الرئيس، بل المنتج الأكثر انتشاراً في المجتمع الاستهلاكي الحديث السائل؛
فإنتاج النفايات هو أضخم الصناعات في المجتمع الاستهلاكي، وأكثرها حصانة من
الأزمات، وذلك يجعل التخلص من النفايات أحد أبرز التحديات التي لابد للحياة
السائلة من مواجهتها، والتعامل معها؛ ففي عالم يحفل بالمستهلكين، وموضوعات
الاستهلاك تتأرجح الحياة بشدة بين حدين : ملذات الاستهلاك، ووأهوال القمامة، وربما
تكون الحياة في الأزمنة كافة، حياة نحو الموت، ولكن في المجتمع الحديث السائل ربما
تمثل الحياة نحو مقلب القمامة والنفايات أفقا،ً واهتماماً للأحياء أقرب من غيره،
وأكثر استهلاكاً للطاقة والجهد .*(2)
.. وفي فضاء العري «السيبراني» وتدفقاته اللا محدودة لم يعد «االإنسان
السائل» يخجل مما أصابه من «العمى الأخلاقي» و«حالة التأخر
الأخلاقي»!!
حيث ان التكنولوجيا، والشبكات
الاجتماعيه صارت أشكالاً للسيطرة؛ فصار بالإمكان رؤية الجميع، وهم يكشفون عن
أنفسهم، ويسجلون بياناتهم، ويشاركون في السيطرة، والانفصال، وينصب الجهد على طرق
الإبقاء على كل فرد في حالة لا توجد فيها إمكانية إخفاء أي شيء عن الآخرين، ..
وهكذا تحتضر الخصوصية أمام أعيننا بل لم يعد لها وجود؛ فلم يعد رسائل لا يقرؤها أو
يراقبها غرباء .
.. واختفى ما كنا نطلق عليه
حقاً وصدقاً كلمة «سر» لقد صار
السر إما بضاعة معروضة للبيع، أوسلعة تجارية، أوكلمة مرور إلى نجاح عابر، أو نقطة
ضعف تعبر عن نقيصة تعذر على المرء أن يخفيها،
ومن ثم التعرض للإبتزاز، والتهديد بالفضيحة، وسلب البقية المتبقية من
الكرامة والاستقلال، .. ولم يعد للناس أسرار بالمعنى القديم، ولم يعد الناس يفهمون
معنى كلمة «سر».
.. الناس ينفثون عن أزماتهم في
محاولة للتغلب على مشاعر العزلة، وعدم الأمان حيث يجسد الفيسبوك جوهر ظاهرة:
« افعل الأمر بنفسك .. تجرد
من ملابسك، وأرنا أسرارك، وافعل ذلك بنفسك وبإرادتك الحرة، واسعد بما تفعل.».
.. وصدرت العديد من الكتب التي
تشجع على عري الجسد، والنفس مثل:
«نهاية الخصوصية، واستراق
النظر، والجمهور العاري، ولا ملاذ، والخصوصية في خطر، والطريق إلى الأخ الأكبر،
وأمة واحدة تحت المراقبة، وأنا أعرف من تكون وأرى ما تفعل.».
.. وأصبح البشر تحت سطوة الشر السائل المسمى «غسل الدماغ» الذي تلجأ
إليه القوة الناعمة بدلاً من القوة الخشنة بالمعنى الذي حدده جوزيف ناى، والذي
حققت فيه التكنولوجيا قفزة فارقة جديدة للغاية .. إننا واقعون بإحكام في شبكة
عنكبوتية من المراقبة الإلكترونية، ويجري إغوائنا بأن نلعب دور العناكب التي تنسج
خيوط تلك الشبكة أو نكون خدمها الطيعين المتحمسين في الغالب الأعم، شئنا أم أبينا،
وفي كل الحالات، من دون استئذاننا، ويمثل غسل الدماغ المعاصر تلك النقمة التي
ترتدي عباءة النعمة؛ فالوظيفة الظاهرة للوغاريتمات السلاح الأساسي لغسيل الدماغ في
الوقت الراهن هو السماح لنا بالإبحار عبر ٢,٥ كوينتليون بايت (كوينتليون = مليون تريليون
=000 ,000 ,000 ,000 ,000 ,000 ,1 (واحد عن يمينه ثمانية عشر صفرا) من البيانات
التي تولّد كل يوم معلومات تفوق مليون مرة ما يستطيع أن يخزنه العقل البشري،
واستنتاج نتائج قابلة للتنفيذ،. هذه النعمة الظاهرة التي توحي بها تلك الوظائف هي
الأمل بأن أجهزة الكمبيوتر، وما بها من لوغريتمات ستحملنا في أمان عبر محيطات
البيانات التي سنغرق فيها إذا حاولنا أن نسبح بأنفسنا، فضلاً عن الغوص بأنفسنا ..
واقع الأمر أن بحثاً واحداً على موقع جوجل يذهلنا بالامتداد الشاسع المزعج المروع
العويص لتلك المياه، وأما النقمة الخفية فهي أن الذين يسمح لهم «منا» بالإبحار عبر
محيط البيانات هم السلطات المهيمنة، السلطات التي تراقبنا، والنتائج القابلة
للتطبيق التي يستنتجها هؤلاء البحارة تمكنهم من تحديد كل واحد منا على حده حتى
تستهدفنا لأغراض محددة مثل إرغامنا أو إغوائنا بإنفاق أموالنا، أو حشدنا لقضايا
ليست من اختيارنا، أو استهدافنا لجولة من الطائرات بدون طيار.
.. حالة من «الوباء
الاجتماعي»، و «العمى الأخلاقي»، .. «الميوعة» و«السيولة»
تزداد كل دقيقة بأبلغ الأوصاف؛ وهوحال ينبئ بخطورة بالغة لأن المجتمعات تسير في
درب فنائها بهذه الكيفية دون أن تعي .
.. «الميوعة»، و«السيولة»،
و«الوباء الاجتماعي»، و«العمى الأخلاقي» شكلت مجتمعاً للفرجة أداته الاستهلاك
السفيهه، وأهم عناصره اجترار «الوجاهة الكاذبة»، و«الطبقية العبيطة»،
وفقد الارتباط بأهم شيء، وهو الإيمان بأنه يمكنه تغير شيء في العالم، ومسرحه «الفضاء
السيبراني» حيث يتم تفتيت الشر، واستبطانه في تفاصيل صغيرة حيث تذوب بشاعته في
الوسائط المتداخلة، وإبداعات «حراس البوابات» الذين أصبحوا مجرد تروس صغيرة
في ألة الشر الدائرة، ولا يعنيهم إلا ما يكسبونه من أموال.
.. و«الجاني» شبح يتخفي تحت
«طاقية الإخفاء» الالكترونية، ويتسلل وراء ملايين الأسماء، وملايين الهويات، ومئات
الألسن، والمعتقدات، والملايين من عناوين البريد الالكتروني، .. والضحايا
«منتحرون» مثل «خرفان بانورج moutons
de Panurge» في الأدبيات الفرنسية، ويعني انسياق القطيع
الضال بلا فهم أو وعي أو إرادة وراء آراء أو أفعال الآخرين.
.. كل شيء صار افتراضياً حتى
العلاقات الحميمة صارت بدون تلامس عبر المشاهدة من خلال مضاجعة الخيال، وعشق الصور
عبر التيك توك Tik Tok
ووتش Watch المدفوعة الثمن بالكوينات
(العملات الرقمية) أو المواعدة، والمواقعة على الأرض بقوانين العالم الافتراضي بما لا يحقق رغبة
الإشباع بقدر ما يحقق الأمنية حيث لا تتوافق الاهتمامات التقنية مع العواطف
الإنسانية؛ فالتركيز على الأداء الجيد لا يترك وقتا،ً ولا متسعاً للإحساس بالنشوة،
.. وأنت تتجول في أوربا الموحدة ستجد في مختلف العواصم الإعلانات الأتية :
«قابل حلم حياتك، دعنا نرتب لك
لقاء سهلاً في رأس السنة مع شريك سيعجبك ـ أحصل على الطفل الذي تريد (بنوك
الحيونات المنوية، واستئجار الأرحام) ـ إجهاض آمن، ورعاية صحية فائقة : هذا حقك ـ
نقدم استشارات من أجل علاقة جنسية أفضل ـ لا تشغل بالك بوالديك لدينا أفضل خدمة
لرعاية المسنين .» .. كهذا أصيح الفرد يسنطيع تلبية احتياجاته من السوق، وبعيداً
عن الأسرة، وأصبحت الأسرة مجرد كيان هزيل من المشاعر غير المؤثرة أو المنتجة .
كما تنتشر ما يسمى بـ «علاقات
الجيب العلوي» أى تلك العلاقات التي يمكن إخراجها من الجيب عند الاحتياج،
ودفعها إلى أسفل حال انعدام الرغبة.
.. كهذا تعده ألة التسويق
الرأسمالي بـ «منتهى اللذة .. منتهى النشوة .. غاية المتعة»؛ لتدمر فيه ما تتسم به
العلاقات الوجدانية من ديمومة ـ عفوية ـ تلقائية ـ عاطفية حيث التأقيت، والمدى
القصير الذي تقوم عليه حسابات المجتمع الاستهلاكي القائمة على توليد الحاجات بشكل
مستمر .
هكذا يتم استدراجه إلى عالم
الصلات العابرة ظناً منه أنه يتخفف من مسئوليات، ولا يحرم نفسه من فرص قد تظهر،
وأفاق قد تستجد لكنه يجد نفسه فريسة عالم النفايات في مجتمع الاستهلاك بكل أعبائه،
وقوانينه حيث تختفي الثقة، وتسود المغامرة، وتتبارى فتيات المتعة الجنسية،
والقوادون في عرض ما يتم تزيينه أنه الأفضل، والأكثر إثارة، وإمتاعاً !!
في مجتمع الاستهلاك الجنس مثل
المواد القابلة للإستهلاك مغرية، والنفايات منفرة، وتحقيق الرغبة يليه التخلص من
النفايات (رجل ـ امرأة) بمجرد انتهاء المهمة .
ليس هذا فحسب فقد أعلنت شركات
عديدة في مجال صناعة الروبوت أنها بصدد إنتاج روبوت يمكن ممارسة الجنس بواسطته،
والاستغناء عن البشر .
.. فقدت العلاقات الوجدانية
حميميتها، وفقدت الحروب أيضا إنسانيتها؛ فقد أنتجت حرب تحرير الكويت ما يسمى بـ «الحرب
الخائلية»، تلك الحرب المنقولة من خلال الطواقم السينمائية الهوليودية، التي
تم ربطها بأرتال الدبابات لتبث واقعاً متخيلاً عبر شبكة .C.N.N، لا
علاقة له بما يجري في ميدان القتال من قتل وحشي وتدمير لكل شيء، وهو ما أطلق عليه
جوزيف ناي اسم «تسليح المراسلين» !!؛ يما ينطوي على اختزال الميدان في رقعة
حجرة المعيشة، والزمان في المسافة بين مقعدك وشاشة التلفاز، والمطلوب فقط تقرير
إخباري مُعد بشكل جيد، وصورة ذات تقنية عالية !!.
.. صارت الحرب صورة تبثها طواقم
التصوير عبر هواتفها الخلوية من فوق أرتال الدبابات لتنقل للمشاهد أمام الشاشات
معارك افتراضية في ميادين افتراضية!! يسهم الليل، والخوف في تعميق قابلية المتلقي،
وتصديقه لها «إن قوى الإرادة عند الإنسان تقاوم بالنهار كل محاولة تحاول إخضاعها
لإرادة أخرى، فإذا استهدفتها المحاولة نفسها ليلاً فلا تلبث أن تخضع للسيطرة، ذلك
إن قوة الإرادة تضعف في آخر النهار، وإننا نلاحظ
أن الكنيسة الكاثوليكية تصطنع الظلال المنبعثة من خلال قشر بيض النعام في
المعابد؛ لتسبغ عليها جوا من الجلال والرهبة، هذا الجو يجعل المؤمنين في حالة
نفسية يسهل على الواعظ أن يتلاعب بقلوبهم، وعواطفهم، ويسهل عملية الاعتراف على
العصاة من مرتكبي الخطايا.
.. ولهذا السبب يكمن السر وراء
الضوء الخافت في عيادات الطب النفسي.
افتعال الحروب لا يستلزم سبباً
حقيقياً .. يكفي تضليل الرأى العام، وإقناعه بأن الحرب ضرورية، ومرغوبة للغاية فما
عليك إلا أن تفتعل أزمة، وأن تضحي ببضع عشرات من الأرواح البريئة قربانا سياسيا،
وأن تزيد من إحساس الناس بعدم الأمان، وعندئذ وبين عشية، وضحاها سيرغب الناس في يد
مسيطرة باطشة، وفي خطابات سياسية خشنة، وفي شن الحرب !!
.. فيكفي نشر صورة «بطة بحرية»
ملوثة بالسواد تم اصطناعها على شاطئ مستنقعات ألاسكا لإقناع العالم أن صدام حسين أفسد البيئة البحرية في منطقة الخليج
العربي بما يهدد الوجود الإنساني!!
.. ويكفي نشر صورة مصطنعة لحريق
لا يزيد عن خمسة أمتار على مستنقعات ألاسكا ومعالجته بوسائل الخداع الهليودي لتقنع العالم أن صدام حسين فجر
أبار البترول في الكويت وحرم العالم من نعمة وهبها الله له !!
.. الإعلام أصبح «الشر
السائل» القادر على ارتداء أقنعة فعالة، وحشد الهواجس، والرغبات الإنسانية في
خدمته تحت دعاوى زائفة، ولكنها دعاوى يصعب دحضها، وإثبات زيفها؛ فهو يستعرض نفسه
كأنه تقدم الحياة المحايد والمتجرد من الأهواء، وكأنه السرعة غير المسبوقة للحياة،
وللتغيير الاجتماعي، وما هو عليه من نسيان، وفقدان للذاكرة الأخلاقية كما أن الشر
السائل يرتدي عباءة غياب البدائل، وامتناعها .
.. «الشر السائل» يلجأ إلى إخفاء النقمة في
صورة النعمة باعتباره السمة الرئيسية المميزة لتكنولولوجيا غسيل الدماغ التي ترتدي
عباءة «الاهتمام بالأمن» مع أنها تستخدم أساساً لأغراض بعيدة إلى حد ما من
اهتمامات السلامة، والأمان .
زاد الإعلام من ألفة الشر،
واعتياده لدى الشعوب، وأصبح الناس العاديون يمررون الكثير من الوحشية، ويسهمون
فيها!!
وساعد تكنولولوجيا البث
التليفزيوني القائمة على المسح النقطي Raster
Scan على تعميق تلك الحالة من البلادة؛ فقد أكد
هربرت كروجمان Herbert Krugman
في عام 1970 اكتشاف ما يحدث من الناحية الفسيولوجية في دماغ شخص يشاهد التلفاز،
وأنه وجد أنه خلال 30 ثانية تحولت موجات الدماغ «بيتا» المهيمنة التي تشير إلى
اليقظة، والانتباه الواعي إلى الموجات «ألفا» التي تشير إلى نقص تلقي الانتباه،
وعدم تركيزه، وهذه حالة من الخيال، والحلم النهاري تقع تحت ما يسمى بـ «عتبة
الوعي» .
وأشار مزيد من البحث إلى أن
النصف الأيسر من كرة الدماغ الذي يعالج
المعلومات بشكل منطقي وتحليلي، ينقطع عن الاستماع عندما يشاهد الشخص التلفاز، يسمح
هذا الانقطاع للنصف الأيمن من الدماغ الذي يعالج المعلومات عاطفيا، ودون نقد أن
يعمل دون عائق؛ فالمنتج التليفزيوني في سمته الغالبة «سلعة مخدرة»، ويتزايد
هذا التأثير المخدر مع قيام القائمين على البث التليفزيوني بإذاعة مواد ممصوصة
الحيوية تصيب المشاهد بالملل، والهمد الجسماني مما يساعد على النوم !!
.. أصبحت الصورة صانعة الحدث
وسابقة عليه، .. وأصبح الواقع في حد ذاته نسخة باهته من الصورة في تعبير بأس عن
«الفردية الموحشة»،.. ونضال «الأريكة» في زمن اللا عقل، واللا يقين .. والتردي
الإنساني !!
«الظلم مؤذن
بخراب العمران» :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
يبين ابن خلدون من خلال تجسيده لفن التنظير السياسي الذي سبق إليه
الكثيرون من خلال الميدأ : «الظلم مؤذن بخراب العمران»، واتبعه بتوضيح
لأرائه في فصل أخر بعنوان : «كيفية طروق الخلل إلى الدولة ؟!» ؛ فيقول
:
.. «عندما يصل صاحب الدولة
إلى طور الإسراف، والتبذير، ويكون في هذا الطور متلفاً لما جمع أولوه في سبيل
الشهوات، والملاذ، والكرم على بطانته، وفي مجالسه، واصطناع أخدان السوء، وخضراء
الدمن، وتقليدهم عظيمات الأمور التي لا يستقلون بحملها، ولا يعرفون ما يأتون،
ويذرون منها مستفسداً لكبار الأولياء، ومن قومه، وصنائع سلفه حتى يضطغنوا عليه،
ويتخازلوا عن نصرته، مضيعاً من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته، وحجب عنهم
وجه مباشرته وتفقده ؛ فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون، وهدما لما يبنون وفي هذا
الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص
منه، ولا يكون لها معه براء إلى أن تنقرض .»*(3)
وعن طروق الخلل إلى الأفراد
يقول ابن خلدون في فصل عن : «خراب الأمصار بخراب الدولة» :
«الرعايا تبع للدولة؛ فيرجعون
إلى خلق الدولة إما طوعاً لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم.» .
كما يقول في فصل عن : «طروق
الخلل للدولة» :
«يقلد الآخر من أهل الدولة في
ذلك الأول، مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف.. ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف
في النفقات، وينتشر ذلك في الرعية؛ أن الناس إلى دين ملوكها، وعوائدها .».
.. ويسوق ابن خلدون لنا الحكمة
نقلها عن المسعودي والمسماة بـ «الحكمة الدائرية» لكون نقطة البداية فيها
التي تمنحنا منطلقات حقيقية، ومنطقية هي نقطة النهاية على غرار نموذج تحليل النظم
لعالم السياسة الأمريكي ديفيد إيستون، ويتكون ذلك النموذج من : المدخلات،
والمخرجات، وعملية التحويل، والتغذية العكسية أو التغذية المرتدة، وهو ما نقله ابن
خلدون عن المسعودي بقوله : «ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا
بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل» .
بيان ذلك أن نظام الملك له
مدخلان أساسيان يرتبطان ببعضهما البعض؛ فالملك أو السلطة تحتاج إلى تأييد، ومطالب
الرجال، والرجال لا يجندون إلا بالمال أو الرواتب، والأعطيات، ويتولد المال أو
الثروة عن العمارة أى الأنشطة الاقتصادية، وحركة الحياة التي تعمر البلاد، وتنتج
الأرباح .. تلك الأرباح التي يفرض عليها الخراج وفق سياسة تقوم على العدل، وهذه
أهم مخرجات نظام الملك .
ويقدم ابن خلدون صورة
لطبيعة العلاقة بين الدولة، والعمران بقوله: «الدولة صورة، والعمران هو
مادتها»، ويلقي الضوء : «على فساد الدولة بفساد مادة العمران بالضرورة»
.. إذن المجتمع هو المادة، والدولة، ونظام الحكم هو الصورة بما يعني حسب المنطق
الأرسطي، وعلى هديه نجد ابن خلدون يجعل العمران أي الاجتماع البشري هو المادة،
والدولة، أو نظام الحكم هو الصورة، وهذه الأخيرة لا يمكن أن توجد في العالم الأرضي
من دون مادة حاملة لها؛ فلا شك أن فساد المادة سيفضى لا محالة إلى زوال الصورة،
وبداية النهاية؛ فالهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع .
«إيماضة ألخمود»
أو «زبالة المشتعل» :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول ابن خلدون :
«ربما يحدث عند أخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد
ارتفع عنها، ويومض ذبالها إيماضة الخمود كما يقع في الذبال المشتعل؛ فإنه عند
مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال، وهي انطفاء.» .
ابن خلدون وميكافيللي :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كشف بعض الباحثين عن قرابة
فكرية بين اين خلدون (1377 م)، وميكافللي (1520م)، وعزى بعضهم تلك القرابة إلى
تشابة في الأفكار، وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، وتم حصر السبب في أمرين :
أولاهما : التأثير الخفي لابن
خلدون على مكيافللي نظر لأن مكيافللي متأخر عن ابن خلدون بقرابة قرن ونصف من الزمن
تقريباً.
ثانيهما: المصادفة المحضة .
يينما ارتأى البعض فرضين أخرين هما :
أولهما : وجود مصدر مشترك
يحصرونه في كتاب السياسة لأرسطو .
ثانيهما : تشابة الظروف
التاريخية .
والحقيقة أن ابن خلدون في مقدمة
كتابه الشهيرة يصف كتاب:(السياسة) لأرسطو الذي لم يكن لدي العرب الأصل الكامل له
بقوله :
«وفي الكتاب المنسوب لأرسطو
في السياسة المتداولة بين الناس جزء منه،
إلا أنه غير مستوف، ولا مُعطى حقه من البراهين، ومختلط بغيره، وقد أشار في
ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات الني نقلناها عن الموبذان، وأنوشروان، وجعلها في
الدائرة القريبة التي أعظم القول فيها هو قوله :
العالم بستان سياجه الدولة،
الدولة سلطان تحيا به السنة، السنة سياسة يسوسها المَلِك، والمُلك نظام يعضده
الجند، والجند أعوان يكفلهم المال، والمال رزق تجمعه الرعية، الرعية عبيد يكنفهم
العدل، والعدل مألوف، وله قوام العالم، العالم بستان، ثم نرجع إلى أول الكلام فهذه
ثمان كلمات حكيمة سياسية ارتبط بعضها ببعض، وارتدت أعجازها على صدورها، واتصلت في
دائرة لا يتعين طرفها فخر بعثوره عليها، وعظم من فوائدها .».
كما أن ميكافيللي لم يكن يقرأ
اليونانية، لكن السبب القاطع أنه لم يتصل علم الأوربيين بالحضارة اليونانية إلا في وقت متأخر من خلال الترجمات العربية
لها التي عُثر عليها في الأندلس، وكانت أوربا في عصر ميكافللي عبارة عن أحراش،
ومستنقعات غارقة في ظلام الجهل، والمرض من جراء القذارة، وعدم الاستحمام، وكان
اشهر تلك الأمراض مرض الجذام الذي كانوا يطلقون عليه :«نار القديس أنطونيو» إضافة
إلى التخلف الناجم عن ائتلاف الكنيسة، والاقطاعيين النبلاء، وما خلفه من عبودية
الأقنان !!
***
.. فقد الإنسان صلابته، ومعها
إنسانيته، وهويته، وثقافته .. فقد عقله التاريخي، .. وانفصل عن واقعه الحضاري، وتم
تغييب وعيه بوجوده على خريطة الوجود الإنسانى!
.. تم تشييئه .. أصبح مجرد
شيء يتم صياغته، وتصنيعه، وقولبته، وتعليبه، وصارت حالة الأشياء حالة من صنعنا؛
وفقا لأليات الهندسة الاجتماعية ليصبح متداولاً أن : «الإنسان صناعة الإنسان»
بمعنى صناعة الإنسان الاجتماعي، والمواطن السياسي الذي يصوت ضد مصالحه !!
.. صار كائناً زومبياً Zombie أو على أليق وصف مجرد روبوت!! مُعاد إلى
الحياة أو معد للحياة بأسلوب الخداع، مجرد لعبة أنتجها القهر، والقمع .. ثم
الخداع، والتلاعب، والتضليل .. لا يستطيع أن يعيش واقعه أو يتفاعل معه سوى بقوانين
العالم الافتراضي، وتحت مظلة الكوخ الشبكي!!
.. أو على حد تعبير كافكا صار
مثل «صرصور» مُلقى على ظهره .. يسمع، .. وقد يرى لكنه لا يستطيع أن يحرك ساكنا !!
.. أصبح الإنسان أسير
«مجتمع الفرجة» الذي تحوّل العالم المحسوس فيه إلى مجتمع صورة يجري فيه تسليع كل
شيء، وكل نشاط، وكل فكر، وأن التحولات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية،
والثقافية أنتجت عالماً ًمقلوباً واقعياً رأساً على عقب، إذ أصبح ما هو حقيقي،
وواقعي فيه وهمياً وزائفاً؛ بما يراه جي ديبور عودة منمّقة إلى «نظرية
الاستلاب» بمعنى استلاب المتفرج لصالح الشيء، في «مجتمع الفُرجة» يجري تسليع
كل شيء بحيث يتحقق مفهوم الفرجة بشكل كامل عندما تُعلن السلعة «احتلالها الكلي
للحياة الاجتماعية» سواء كانت بضاعة، أو خدمة، أو فكرة أو رغبة .. تتوسل
بالإغراء الناعم، ودغدغة المشاعر، والأحاسيس الحانية لحث الناس على التماهي بين
الأشياء، والسلع!!
.. صارت الفُرجة مجتمعا،ً وأصبح المجتمع فُرجة؛
بما يحيل إلى الذاكرة المعرفية ما كتبه «جان جاك روسو» عن الأضواء التى تلهينا عن
أعراض النهاية، واستنادًا إلى ما يراه روسو، فإن أشكال كافة الحكم تتجه في آخر
الأمر إلى الضعف، والذبول، ولا يمكن كبح التدهور إلا من خلال الإمساك بزمام
المعايير الأخلاقية، ومن خلال إسقاط جماعات المصالح الخاصة، وهو ما كتبه من قبله
عبد الرحمن ابن خلدون عن «إيماضة الخمود» عندما عرض لنظريته عن «الذبال
المشتعل»!!
كان ابن خلدون أسبق من
فرنسيس بيكون ( 1561 ـ 1626) بقرنين تقريباً في فهمه لنظرية : «دورة الحضارة» التي
لخصها في مقولة : «إن الحضارة غاية
العمران، ونهاية لعمره، ومؤذنة بفساده»، والتي أوجزها فرنسيس
بيكون بقوله : «منتهى المدنية الرجوع إلى البدائية» .. بمعنى أن نقطة
البداية هي طفولة الشعوب ثم فتوتها، ونضجها، وانتهاء بهرمها، وتحللها، ونهايتها في
البدائية، والتحلل القيمي، والوحشية، والهمجية، وهي ما يطلق عليه في الادبيات
الفرنسية : «أخلاق أخر الزمان»، ويتم تداول ذلك المفهوم في الفكر الشعبي
المصري بمقولتي : «جيل أخر زمن»، و«زمن العجائب» بمعنى اللا عقل،
واللا يقين !!
يقدر ابن خلدون عمر الدولة
بما لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال مائة وعشرون سنة (قدر عمر الجيل بأريعين سنة)
تكون الدولة في زمن الجيل الأول فتية عفية حيث يكون أفرادها لم يزالوا على
البداوة، وخشونتها، وتوحشها من شظف العيش، والبسالة، والافتراس، والاشتراك في
المجد؛ فلا تزال بذلك سورة العصبية فيهم؛ فحدهم مرهف، وجانبهم مرهوب، والناس لهم
مغلوبون.
.. ومع الجيل الثاني يتحول
حالهم بالملك، والترف من البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف، والخصب، ومن
الاشتراك في المجد إلى الانفراد الواحد به، وكل الباقين عن السعى فيه، ومن عز
الاستطالة إلى ذل الاستكانة؛ فتنكسر ثورة العصبية بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة
والخضوع، ويبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركو الجيل الأول، وباشروا أحوالهم،
وشاهدوا اعتزازهم، وسعيهم إلى المجد، ومراميهم في المدافعة والحماية؛ فلا يسعهم
ترك ذلك بالكلية، وإن ذهب ما ذهب، ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت
للجيل الأول أو على ظن من وجودها فيهم!!
أما الجيل الثالث فينسون عهد
البداوة والخشونة كأن لم تكن ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة
القهر ويبلغ الترف غابته بما تفنقوه (تنعَّم بعد بُؤس) من النعيم وغضارة العيش؛
فيصيرون عيالاً على الدولة ومن جملة النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم .*(4)
وتسقط العصبية بالجملة،
وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة ويلبسون على في الشارة والزي وركوب الخيل وحسن
الثقافة يموهون بها، وهم في الغالب أجبن من النسوان على ظهورها ، فإذا جاء المطالب
لهم لم يقاوموا مدافعته فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل
النجدة ويستكثر بالمواليا ويصطنع من يغني الدولة بعض الغناء حتى يتأذن الله
بانقراضها فتذهب بما حملت بعد هرمها وتخلفها !!
ويناقش ابن خلدون تلك القضية
التي تحاول المجتمعات الحديثة أن توجد لها حلاً، والتي طرحها المفكرون في الغرب
بعده بأربعة قرون وخاصة روسو، وبعبارات شبيهة بعبارات روسو، فيناقش الأثر المفسد
للحضارة، وللثقافة الفكرية، وللرفاهية المادية، ويعتقد ابن خلدون مثلما اعتقد روسو
من بعده أن هذا التقدم ينطوي على الاستبداد، والفساد، ونتيجة ذلك السيئة على
الأفراد؛ فالاستقلال، والكرامة يتنافيان مع الحياة الحضرية، ومع الرفاهية اللتان
تتطلبان عبودية الأكثرية!!
يرى ابن خلدون أن أهل المدن
عادة سلبيون؛ فهم يتحاشون بصفة عامة الاشتراك في المنازعات بين الطامحين في
الحكم، ويظهرون الخضوع للحكومة، ويدفعون
لها الجزية مقابل حماية وهمية، وأنهم يتصفون بأنهم بلا خلقية كبيرة؛ فهم أنانيون
سيئو الخلال، وقد فقدوا صفات الرجولة التي تؤمن استقلال أي شعب، وهم يخضعون لجميع ألوان الاستبداد، ولا يحاولون
أن يقاموا الطغيان، ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الاخلاق
الذميمة، ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة، وولدانهم حتى لقد ذهب عنهم مذاهب
الحشمة في أحوالهم، ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات، والاسترسال فيها لكثرة
الترف؛ فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل، والملاذ، ويتبع ذلك التفنن في شهوات
الفرج بأنواع المناكح من الزنا، واللواط .
أما أهل الريف فتأثيرهم
السياسي ضعيف جداً أو معدوم، وهم مضطرون أن يدفعوا الضرائب دون أن يستمتعوا بما
يحظى به سكان المدن من أمن، ومزايا، فلا توجد لديهم في مواطنهم أمور الفلح، ومواردها
معدومة، وكذلك معظم الصنائع فلا يوجد لديهم بالكلية نجار، وخياط، وحداد، ويفتقدون
ما يقيم لهم ضروريات حياتهم !!
وعن خلق التجار يقول ابن
خلدون :
«إن خلق التاجر نازلة عن خلق
الرؤساء، وبعيدة عن المروءة لأن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع، والشراء، وجلب
الفوائد، والأرباح، ولابد في ذلك من المكايسة، والمماحكة، والتحذلق، وممارسة
الخصومات، واللجاج، وهي عوارض هذه الحرفة، وهذه الأوصاف نقص من الذكاء، والمروءة،
وتجرح فيها .
.. وتتفاوت الآثار يتفاوت
أصناف التجار في أطوارهم : فمن كان منهم سافل الطور محالفاً لأشرار الباعة أهل
الفسق، والخلاعة، والفجور في الأثمان إقراراً، أو إنكاراً، كانت رداءة الخلق عنده
أشد، وغلبت عليه السفسفة، وبعد عن المروءة، واكتسابها بالجملة، وإلا فلا بد له من
تأثير المكايسة، والمماحكة في مروءته .»
.. وهو ما يصفه زيجمونت باومان بـ «السيولة» حيث أصبح
الإنسان كحالة المادة المائعة السائلة التي لا تعرف ثباتاً؛ لأن المعنى قد غاب،
والإنسان أصبح أسير الخوف الدائم، وأن عليه التدريب المستمر على الاختفاء،
والذوبان والانسحاب، والرحيل!! الخوف يعني أن تفكر بنفسك باستمرار، وأن تكون
عاجزاً عن تتبع مسار موضوعي للأحداث، والشعور بالرعب، والشعور بأن كل ما يحدث ضدك،
ويصبح الاختيار الوحيد المتاح هو ضمان ألا تصيبك الكارثة، أما أن تصيب غيرك فهذا
مما لا يمكن تجنبه؛ فالإقصاء جزء من الحداثة السائلة، وهناك دائماً ضحايا فاحرص
ألا تكون منهم؛ فالظروف كلها معادية لـ «الفعل التضامني» ..
في الكتابات المعاصرة عن ابن
خلدون يرى محمد عابد الجابري أن
ابن خلدون يعتبر أهم مفكر إسلامي يضع الدولة في بؤرة اهتمامه الفكري، وقد
ركز على إسهام ابن خلدون في ربط تطور الدولة بـ «نمط الإنتاج»؛ فابن خلدون
يعطي المرتبة الأولى للخصائص الاقتصادية؛ فهو يرتب الشعوب بتمايزها تبعاً لأساليب
الإنتاج لديها ثم يضع في المقام الأول الحياة الحضارية بحرفها المتنوعة، ثم
المزارعين المتجمعين في قرى، والذين يقيمون في السهل أو في الجبل، وأخيراً يأتي
البدو .
بينما يرى ابن خلدون أن
الصنائع تكسب صاحبها عقلاٌ، وخصوصاً الكتابة، والحساب لأنه يحصل عنها، وعن ملكتها
قانون علمي مستفاد من تلك الملكة؛ فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلا.
.. ويرى جوستون بوتول أن
نظريات ابن خلدون ترسم حالة يمكن ان نطلق عليها«اقتصاد السكون»، ويتميز هذا
النظام بافتقاد كبير إلى المرونة؛ فالإقراض منخفض جداً، ولا يكون إلا من القروض
بالربا، وتسود هذا النظام عدم كفاية الأمن التي تأتي من تحكم السلطة، ومن التنظيم
التقليدي للصناعة.
يتحدث باومان في كتاب :
«الخوف السائل» عن أن الحياة السائلة حياة محفوفة بالمخاطر يحياها المرء في
حالة من اللا يقين الدائم، وأشد هاجس يساور المرء في تلك الحياة هو الخوف أن تأخذه
على حين غرة، ومن الفشل في اللحاق بالمستجدات المتسارعة، ومن التخلف عن ركب
السائرين، ومن إغفال تواريخ «نهاية الصلاحية»، ومن الاحتفاظ بأغراض مهجورة،
ومن فقدان اللحظة التي تدعو إلى تحول في اتجاة السير قبل عبور نقطة اللا عودة؛
فالحياة السائلة سلسلة من البدايات الجديدة، ولذا فإن النهايات السريعة المؤلمة
التي لولاها لكانت البدايات الجديدة خارج طوق الفكر هي أصعب لحظات الحياة السائلة،
وأوجعها، وهكذا فإن تعلم أسبقية التخلص من الأشياء صار أحد فنون الحياة الحديثة
السائلة، وإحدى المهارات اللازمة لممارستها .
وعن الجري وراء الفردية التي
خلفتها الحياة
السائلة،
يخبرنا باومان أنه لا يمكن للانجازات الفردية في المجتمع الحديث السائل أن تكتسي
صلالة الأشياء الفردية لأن المزية تتحول في لمح البصر إلى عيب، والقدرة إلى عجز،
أما ظروف الفعل، والاسترايجيات التي يلجأ إليها الفرد؛ فإنها تتقادم بسرعة؛ فليس
من الحكمة أن يتعلم المرء من التجربة ليعتمد على استراتيجيات، وتكتيكات نجحت في
الماضي؛ فتجارب الماضي لا يمكن ان تستوعب ما يطرأ على الظروف من تغيرات سريعة غير
متوقعة إلى حد كبير، وهذا يعني أن الركون إلى أحداث ماضية في استقراء المسارات
المستقبلية صار ينطوي على مجازفات غير مسيوقة بل، وعلى حسابات مضللة في الأغلب
الأعم، وغدت الحسابات المحكمة خارج طوق الفكر، والخيال؛ ذلك أن أغلب المتغيرات في
المعادلة إن لم تكن جميعها صارت مجهولة، ولا يمكن الركون إلى احتمالات مساراتها
المستقبلية ركونا تاماً مطمئناً.
.. وتراجعت الجماعة كما ان
نظامها المناعي الذي كان يحميها من المشكلات صار مشكلة في حد ذاته؛ وأضحى المجتمع قي حد ذاته «جماعة متخيلة Virtual group»*(5)!!
.. الجماعة المتخيلة كما وصفها
بندكت أندرسون تعني ببساطة أن الجماعة الحقيقية المباشرة من أسرة، وجيرة، ومجتمع
عضوي لم تعد مسؤولة، وحينئذ لن يجد الفرد في الجماعة الجديدة ما يطلق عليه ابن
خلدون :«النبالة» أو «العصبية» بمفهوم «الحميمية الجمعية»؛
فهو لا يعرف من المسؤول فيها عن دعمه والتضامن معه مصدراً للأمن، بل سيفتش عن
الأمن في المال، والمادة، والسلعة، ويصبح ما يملكه وحده معيار ثقته بنفسه،
والمستقبل .
.. في «الجماعة المتخيلة» يجد
الفرد نفسه مراقب طوال الوقت، وقد أصبح سجين «آلة التحكم العالمية Panopticon» التكنولوجية، وكلمة : «بانوبتيكون»
تعني مراقبة (opticon) الكل (Pan)» الذي أصبح بديلاً عن السجن الذي قام
بتصميمه الفيلسوف الإنكليزي، والمنظر الاجتماعي جيريمي بنتام في عام 1785، هو نوع من السجون مفهوم التصميم هو
السماح بمراقب واحد مراقبة جميع السجناء دون أن يكون المسجونين قادرين على معرفة
ما إذا كانوا مراقبين أم لا !!، لكنهم يعرفون بوضوح الغرض من «مراقبتهم
السيبرنطيقية Cybernetics»، وأنه يخدم يطبيعة الحال هدف الذين وضعوهم
هناك .. إن النزلاء هم موضوعات للسجن، والحبس، والعزل، والعمل الإجباري، والتهذيب،
والغرض من وضعهم في الحبس هو تغييرهم أو تعديلهم إلى أشخاص أخرين ليسوا هم، وهم
أنفسهم ليس لديهم هدف في أن يصبحوا تلك الأشخاص .
.. إن ما يوحد النزلاء هو
تصميم المشرف أوالمراقب على أن تكون إرادته بديلاً لغياب إرادة النزلاء التي لا
يعتمد عليها، ولا يعول عليها .. إن إرادة المشرفين المراقبين هي إرادة تماثل إرادة
(حراس السجن ـ ورؤساء العمل ـ والأطباء ـ والمدرسين) بغض النظر عما إذا
كانت تلك الأوامر، والإملاءات، شرعية، أو قانونية !! أو ما إذا كانوا يستبطنون
مقاصد، وأهداف مراقيبيهم، ويحعلونها أهدافهم الخاصة؛ فلا تهتم المنشأة بما يفكر به
النزلاء لكنها تهتم بما يفعلونه، وقد تيدو الهيمنة الأيدلوجية، والسيطرة الثقافية،
والتلقين أو أى جهد آخر مهما كان مطلوباً للوصول إلى الخضوع الروحي أو التبعية
الروحية في سباق السجن شيئاً غريباً، وغير مبرر، وغير مقبول، وقد لا ئسأل أي امرئ
عما إذا النزلاء سوف يعملون في النهاية ما يراد عمله برغبة، ومستعدون، ومهيئوون
له؛ فهم في النهاية منتج لخط إنتاج مصنع لإنتاج النظام الاجتماعي!!.
.. «الإنسان السائل» مراقب
طوال الوقت من خلال منصات الرقابة بما فيها أدوات الاتصال الاجتماعي التي باتت
نافذه يطل من خلالها على العالم، وفي الوقت ذاته يطل العالم عليه، ويتابعه من خلال
اختراق كاميرا المحمول، وكاميرا حهاز اللاتوب لمراقبته، وتتبع خطواته، وتسجيل
حواراته الخاصة .
المراقبة السائلة ليست مجرد آلة
رصد أو كاميرا في ركن من متجرأو أمام بناية سكنية إنها التطبيق تستخدمه للبحث عن
طريقك فيدل جهات أخرى على مسارك، وحركتك، وعين صغيرة مثبته على جهاز اللاب توب
تسجل محادثاتك مع الأصدقاء، وهي أجهزة رصد، وتجليب لكل ما يخصك من تفاصيل تدخلها
بعفوية عند التسجيل لخدمة أو موقع الكتروني ليتم تراكم هذه المعلومات، وتبادلها
بين جهات السيادة، ومؤسسات التسويق، وهي منظومة متابعة، وتعقب، وتتبع، وفرز، ورصد
ممنهج، واستهداف .
ناهيك عن أجهزة الفحص الدقيق
للجسد في مداخل محطات المترو، وعند بوابات المطارات، وأجهزة مطابقة البصمات في
تسجيل الحضور في أماكن العمل، وأجهزة مطابقة بصمة العين للحصول على تأشيرة كثير من
الدول، وفي المؤسسات السيادية، وفتح الحسابات الاستثمارية
أدوات صغيرة وفرتها تكنولوجيا
النانو أقل ثمناً، وأعلى كفاءة تخترق أسوار الانتباة بكل ما تحمله من مخاطر على
الحرية، والخصوصية بما يجعلنا خاضعين لرقابة شديدة التعقيد، وهو ما يصفه باومان
بأنه لون جديد من «النباتات الزاحفة»!!
إن المراقبة فيما يمكن أن
نسميه : السجون الرأسمالية المفتوحة «الكومبوندات أو المدن والأحياء المسيجة»
التي نسكنها كمستهلكين لا تقدم نفسها على أداة للقمع بل صارت تقترن بالمتعة، والترفية،
والوجاهة !!
أصناف المراقبة ليست واحدة؛
فمنهم من تجعله المراقبة أكثر أمناً، ومنهم من تستخدم معلومات المراقبة في تصنيفه
اجتماعيا، واقتصاديا، وسياسياً؛ فيكون عرضة للنبذ، والإقصاء بحيث لا يحصل على
الخدمة نفسها أو تسهيلات الدفع أو إمكانية
الاقتراض أو الحصول على الفرص نفسها في الوظائف، والتصعيد المهني بل والمكانة
الاجتماعية ذاتها .
يقول باومان أن : « وسائل
التواصل الاجتماعي هي نتاج التفكك الاجتماعي؛ فالسلطة في الحداثة السائلة لا بد أن
تتمع بحرية التدفق؛ فهي التي تقوم بتشكيل أطر حياة الناس، والتوازنات تحكمها
فالشبكات الكثيفة المحكمة للروابط الاجتماعية القائمة على الأرض، وحدودها لا بد من
التخلص منها ذلك لأن هشاشة الروابط الاجتماعية هى التي تسمح لسلطة العولمة بالعمل،
والاجتياح الناعم أحياناً، والخشن أحيانا أخرى !!».
يرى جوستون بوتول أن طريقة ابن
خلدون تستبعد التركيز على الفرد، وتركز كل اهتمامها على محاولة تفسير الظواهر
الاجتماعية*(6)، وهو الأمر الذي يجمع بين وجهتي نظر ابن
خلدون وباومان، حيث يرى باومان أن الحرية ليست حق طبيعي بل هي خلق المجتمع، وترتيب
اجتماعي، وأن الفردية هي امتياز شخصي لمن
يملك فقط *(7)
.. ويرى زيجمونت باومان أن
فاعلية الحرية في شكلها المرتبط بالرأسمالية تتطلب أن يبقى بعض الناس الأخرين غير
أحرار؛ فأن تكون حراً يعني أن يكون مسموحاً بايقاء الأخرين غير أحرار، وأن تكون
قادراً على ذلك، وأن تنفرد بصفتين أساسيتين لهما أهمية سوسيولوجية هما : الفردية،
والقدرة على مجاراة اقتصاد السوق الرأسمالية؛ ففي ظل الحياة الاجتماعية الموجهة
بالأخلاق الاستهلاكية أصبح العمل أداة، ووسيلة في جلب الأرباح المادية التي يبحث
عنها المرء ليحقق بها كامل استقلاله الذاتي، وحريته في سوق الاستهلاك ..
.. ويحلل زيجمونت باومان
سيكولوجيا الفردية، وانها تبدو في إحساس التميز عند الفرد، وهذا الإحساس يعمق
الاعتقاد في قيمة الموجود الإنساني، ويحث صاحبه على التفكير، وإمعان النظر في
ذاته، وما تطلبه من عنايةـ ووعي ذاتي فضلاً عن اعتبار الفردية اختلافاً مركزياً
بين الثقافات المختلفة .
***
.. ويستمر تدفق أمواج العولمة بأدوارها
المختلفة، وأوجهها السافرة والمخفية بمعاونة «ثقافة الاستهلاك» المدعومة
بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وأبحاث علماء الاجتماع الرقمي Digital Sociology*(8) في مراكز الفكر Think Tank الذين يقومون بدور حارس الصيد لـ «الإنسان السائل» الذي سقط في الثقب الأسود
للسيولة التي تهدد بابتلاع كل شيء!!.
مراجع الكتاب :
1ـ
د. أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان ـ 1982
2 ـ جوردون مارشال ، موسوعة علم
الاجتماع، ترجمة : د.محمد الجوهري وأخرون، أوكسفورد، نيويوك 1998الطبعة الثانية ،
3 مجلدات ـ الترجمة العربية ـ القاهرة 2007
3 ـ اندرو إدجار، بيتر سيد جويك،
موسوعة النظرية الثقافية .. المفاهيم والمصطلحات الأساسية ، ترجمة د. هناء
الجوهري، المركز القومي للترجمة ـ العدد ١٣٥٧ ـ القاهرة ٢٠١٤
4ـ ميل تشيرتون، آن براون ، علم
الاجتماع .. النظرية والمنهج، ترجمة د. هناء الجوهري، المركز القومي للترجمة،
العدد ٢٠٧٥ ـ القاهرة ٢٠١٢
5 ـ فلوريان كولماس، دليل
السوسيولسانيات، ترجمة : خالد الأشهب، ماجدولين النهيبي، المنظمة العربية للترجمة
ـ بيروت ٢٠٠٩
6 ـ د. عبد العزيز نوار، تاريخ
مصر الاجتماعي.. منذ فجر التاريخ حتى العصر الحديث، دارالفكرالعربي ـ االقاهرة
1988
7 ـ اليكس إنكلز ، مقدمة في علم
الاجتماع، د. محمد الجوهري وأخرون ـ ، ، ط6 ، سلسلة علم الاجتماع المعاصر، عدد 15،
دار المعارف ـ القاهرة 1983
8 ـ د.حسين فهيم ، قصة
الأنثروبولوجيا ، عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت،
العدد 98، الكويت ـ فبراير1998
9ـ كارل بوبر، عقم المذهب
التاريخي، دراسة في مناهج العلوم الاجتماعية ، ترجمة عبد الجميد صبره، منشأة
المعارف بالأسكندرية ١٩٥٩
10 ـ جينفر م. ليمان، تفكيك دور
كايم .. نقد ما بعد بعد بنيوي، ترجمة محمد حافظ دياب، ط ١، المشروع القومي
للترجمة، العدد ٢٠٨٥ـ القاهرة ٢٠١٣
11 ـ نيكولاس جين، مستقبل النظرية
الاجتماعية،( حوارات مع سبعة من علماء الاجتماع وأحد علماء السياسة وأحد علماء
اللسانيات) ترجمة : يسري عبد الحميد رسلان، المركز القومي للترجمة، ط ١ ـ العدد
١٧٣٧ ـ القاهرة ٢٠١٤
12 ـ إيان كريب ، النظرية
الاجتماعية من باسونز إلى هابرماس، ترجمة : د. محمد حسين غليوم ، عالم المعرفة ـ
العدد ٢٤٤، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت ١٩٩٩
13 ـ بيير بورديو ،أسئلة علم
الاجتماع ـ حول الثقافة والسلطة والعنف الرمزي ، ترحمة ابراهيم فتحي، دار العالم
الثالث ـ القاهرة ١٩٩٥
14 ـ ابن خلدون ، مقدمة ابن
خلدون، بتحقيق المستشرق الفرنسي: أ . م.
كاترمير ، ٣ مجلدات ـ عن طبعة باريس ١٨٥٨ ، مكتبة لبنان ـ بيروت ١٩٩٢
15 ـ ابن خلدون ، مقدمة ابن
خلدون، 7 مجلدات، دار الطباعة الخديوية ببولاق مصر المعزية ـ القاهرة ١٢٨٤هـ ـ
1867 م
16 ـ أبو زيد ولى الدين عبد
الرحمن بن محمد ابن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم
والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، اعتنى به : أبو صهيب الكرمي، بيت
الأفكار الدولية، عمان ـ الرياض ، بدون تاريخ
17 ـ ابن خلدون ، مقدمة ابن خلدون
، تحقيق عبد الله محمد درويش، ط ١، دار يعرب ـ دمشق ٢٠٠٤
18 ـ ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون
، ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس : خليل شحادة، مراجعة: د . سهيل زاكار، دار
الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت ٢٠٠١
19 ـ أبو خلدون ساطع الحصري،
داسات عن مقدمة ابن خلدون،دار المعارف بمصرـ القاهرة ١٩٥٢
20 ـ جوستون بوتول، ابن خلدون ..
فلسفته الاجتماعية، ترجمة : غنيم عبدون، أقلام عربية ، ط 1 ـ القاهرة 2018، 2019.
21 ـ شهاب الدين أحمد بن محمد بن
أبي الربيع، سلوك المالك في تدبير الممالك، تحقيق وتعليق وترجمة: د.حامد عبدالله
ربيع ، جزءان ـ مطابع دار الشعب بالقاهرة ـ القاهرة ١٩٨٣
22 ــ حجاج أبو جبر ، نقد العقل
العلماني .. دراسة مقارنة لفكر زيجمونت باومان، وعبد الوهاب المسيري، ط1 ،المركز
العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، ط 1 ، بيروت 2017
23 ـ مؤلفون عديدون، ابستيمولوجيا
العلوم الإنسانية في الفكر العربي والفكر الغربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة
العربية،ط١ ـ بيروت 2017
24 ـ زيحمونت باومان، وديفيد ليون،
المراقبة السائلة، ط ١، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم : د. هبة رءوف عزت، الشبكة
العربية للأيحاث والنشر ـ بيروت ٢٠١٧
25 ـ زيجمونت باومان ، الحرية ،
ترجمة د. فريال حسن خليفة ، مكتبة مدلولي ـ القاهرة ٢٠١٢
26 ـ زيجمونت باومان، الحداثة
والهولوكست، ترجمة : حجاج أبو جبر، ودينا رمضان، مدارات للأبحاث والنشر ـ القاهرة
٢٠١٤
27 ـ زيجمومنت باومان، الحب
السائل .. عن هشاشة الروابط الإنسانية، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم : د. هبة رءوف
عزت، سلسلة الفقة الاستراتيجي، العدد ٥ ، ط ١ ، الشبكة العربية للأبحاث والنشرـ
بيروت ٢٠١٦
28 ـ زيجمومنت باومان، الثقافة
السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم : د. هبة رءوف عزت، سلسلة الفقة الاستراتيجي،
ط ١ ، الشبكة العربية للأبحاث والنشرـ بيروت ٢٠١8
29 ـ زيجمومنت باومان، الأخلاق في
عصر الحداثة السائلة، ترجمة سعيد البازعي، وبثينة ابراهيم، هيئة أبوظبي للسياحة
والثقافة ، مشروع كلمة، ط ١ ـ أبو ظبي ٢٠١٦
29 ـ زيجمونت باومان، الخوف
السائل، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم : د. هبة رءوف عزت، الشبكة العربية للأبحاث
والنشر، ط ١ ـ بيروت 2017
30 ـ زيجمونت باومان، الحياة
السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم : د. هبة رءوف عزت، سلسلة الفقة الاسنراتيجي،
العدد ٤ ،ط ١، الشبكة العربية للأبحاث والنشر ـ بيروت 2016 ـ ص 22
31 ـ زيجمونت باومان، الأزمنة
السائلة .. العيش في زمن اللا يقين، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم : د. هبة رءوف عزت،
الشبكة العربية للأبحاث والنشر ، ط 1ـ بيروت
2017
32 ـ زيجمونت باومان، الحداثة
السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم : د. هبة رءوف عزت، سلسلة الفقة الاسنراتيجي،
العدد 2، ط ١، الشبكة العربية للأبحاث والنشر ، ط 1ـ بيروت 2016
33 ـ زيجمونت باومان، الحداثة
والإبهام، ترجمة : حجاج أبو جبر، المركز القومي للترجمة ،العدد 3164 ،
القاهرة 2018
34 ـ ديفيد هارفي، مدن متمردة..
من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر، ترجمة لبنى صبري، الشبكة العربية للأبحاث
والنشر، ط ١ ـ بيروت ٢٠١٧
35 ـ جي ديبور، مجتمع الفرجة،
ترجمة أحمد حسان ، دار شرقيات للنشر والتوزيع ـ القاهرة ٢٠٠٠
36 ـ فيليب تايلور، قصف العقول ..
الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووي، ترجمة سامي خشبة عالم المعرفة ـ العدد 256، ـ المجلس الوطني
للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت أبريل 2000
37 ـ يورجن هابرماس، القول
الفلسفي للحداثة، ترجمة: فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة ـ سوريا ١٩٩٥
38 ـ هربرت ماركووز،الإنسان ذو
البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، ط ٣، دار الآداب، بيروت ١٩٨٨
39 ـ جورجو أجامبين، حالة
الاستثناء، نقله إلى العربية : د. ناصر اسماعيل، دار مدارات للأبحاث والنشر، ط١،
القاهرة ٢٠١٥
40 ـ د . مصطفى حجازي، الإنسان
المهدور .. دراسة نحليلية نفسبة اجتماعية، ط ١، المركز الثقافي العربي ـ الدار
البيضاء ٢٠٠٥
41 ـ د. عبد الوهاب المسيري،
الجماعات الوظيفية اليهودية .. نموذج تفسيري جديد ، دار الشروق، ط ٢ ـ القاهرة
٢٠٠٢
42 ـ ألان تورين، نقد الحداثة،
ترجمة : أنور مغيث، المركز القومي للترجمة ـ العدد ٣٨ ، القاهرة ١٩٩٧
43 ـ توماس س. كوهن، بنية الثورات
العلمية، ترجمة: حيدر حاج اسماعيل، المنظمة العربية للترجمة ، ط١ ـ بيروت،
سبتمبر٢٠٠٧.
44 ـ توماس كوهن، بنية الثورات
العلمية، ترجمة : شوقي جلال، عالم المعرفة ـ العدد ١٦٨، المجلس الوطني للثقافة
والفنون والآداب ـ الكويت ـ ديسمبر ١٩٩٢.
45 ـ مؤلفون عديدون، أزمة العلوم
الاجتماعية .. المظاهر والأفاق، مقال حامد عبد الماجد قويسي بعنوان:إشكالية الوعي
المنهاجي في علومنا الاجتماعية : الظاهرة السياسية نموذجاً، سلسلة ندوات ومؤتمرات،
إصدار ١، ط١، مركز ابن خلدون للعلوم
الإنسانية والأجتماعية ـ جامعة قطر ٢٠٢١
46 ـ د. عبد الوهاب المسيري، الحلولية، ووحدة
الوجود، الشبكة العربية للأيحاث والنشر، ط ١ ـ بيروت ٢٠١٨
47 ـ د. جلال أمين، العولمة ، دار
الشروق، ط ١ ، القاهرة 2009
48 ـ د. المهدي المنجرة، عولمة
العولمة من أجل التنوع الحضاري، منشورات الزمن، العدد ١٨ـ ط ٢ ـ الرباط ٢٠١١
49 ـ د. جمال حمدان، «صفحات من
أوراقه الخاصة» .. مذكرات في الجغرافيا السياسية، ط ١ ، دار الغد العربي ـ القاهرة
١٩٩٦
50 ـ د . سعيد عبد الفتاح عاشور،
أضواء على الحروب الصليبية، المكتبة الثقافية ١١٨، الثقافة والإرشاد القومي ..
الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ القاهرة 1964
51 ـ ريتشارد دوكنز .. الدارونية الجديدة .. صانع الساعات الأعمى،
ترجمة مصطفى ابراهيم فهمي، ط 2، دار العين للنشر ـ القاهرة 2002
52 ، شوقي جلال، التراث والتاريخ
، كتب عربية، القاهرة 2006
53 ـ أميل دور كايم، الانتحار،
ترجمة : حسن عودة، الهيئة العامة السورية للكتاب ـ دمشق ٢٠١١
54 ـ وزارة الدولة للتنمية
الإدارية، لجنة الشفافية والنزاهة، «الأطر الثقافية الحاكمة لسلوك المصريين
واختيارتهم .. دراسة لقيم النزاهة والشفافية والفساد»، ـ القاهرة 2009
55 ـ نزية ن. الأيوبي، تضخيم
الدولة العربية .. السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، ط ١، ترجمة أمجد حسين،
المنظمة العربية للترجمة ـ بيروت 2010
56 ـ محمد السيد سعيد، الانتقال
الديمقراطي المحتجز في مصر، الهيئة العامة المصرية للكتاب، مكتبة الأسرة ـ القاهرة
2016
57 ـ وائل ب. حلاق، الدولة
المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة:عمرو عثمان، المركز
العربي للأبحاث ودراسة السياسة، سلسلة ترجمان ـ ط ١ ـ بيروت ٢٠١٤
58 ـ د. هبة رءوف عزت ،الخيال
السياسي للإسلاميين .. ماقبل الدولة وما يعدها، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط
٢ ـ بيروت ٢٠١٥
59 ـ د. هبة رءوف عزت، نحو عمران
جديد، الشبكة العربية للأبحاث والدراسات، سلسلة الفقة الاسنراتيجي ـ عدد ١ ، ط ١ ـ
بيروت ٢٠١٥
60 ـ د. حامد عبد الله ربيع،
خطابات إلى الأمة والقيادة، ثلاثون رسالة سباسية حول : دو المفكر السياسي
ومسئوليته المجتمعية، مكنبة الشروق الدولية، ط ١ ـ القاهرة ٢٠٠٧
61 ، محمد بامية، العلوم
الاجتماعية في العالم العربي، أشكال الحضور، التقرير الأول للمرصد العربي للعلوم
الاجتماعية ـ المجلس العربي للعلوم الاجتماعية
62 ـ جاك دريدا، تاريخ الكذب،
ترجمة رشيد بازي، المركز الثقافي العربي ـ ط 1 ـ المغرب ، الدار البيضاء ـ بيروت ،
لبنان 2016
63 ـ دافيد أو ـ سيز، ليوني هادي،
روبرت جيرفيس، المرجع في علم النفس السياسي، ترجمة : ربيع وهبة، مشيرة الجزيري،
محمد الرخاوي ـ المشروع القومي للترجمة ـ العد ١٤٨٤ ـ ط ١ ـ القاهرة ٢٠١٠
64 ـ شارل بلوندل، مقدمة في علم
النفس الاجتماعي، ترجمة : د. محمود قاسم و د . ابراهيم سلامة، مكتبة الأنجلو
المصرية ـ القاهرة ١٩٥١
65 ـ العلامة الشيخ محمد ابن يوسف
ابن عبد الجواد ابن خضر الشربيني، هز القحوف قي شرح قصيدة أبي شادوف، الطبعة
الثانية ، التي طبعت على نفقة الشيخ محمود موسى شريف الكتبي، المطابع الأميرية ببولاق مصر المحمية ـ سنة
1308هـ ـ 1890م
66 ـ تحقيق ومقدمة :همفري تيمن
ديفيز، تقديم: د. نللى حنا، هز القحوف بشرح قصيد أبي شادوف ـ بيترز ـ لوفين ـ 2005
67 ـ يوسف ابن محمد الشربيني، هز
القحوف بشرح قصيد ابي شادوف، تحقيق همفري ديفيز، المكتبة العربية ـ معهد جامعة
نيويورك ـ أبوظبي .
68 ، د . جمال كمال محمود، الأرض
والفلاح في صعيد مصر في العصر العثماني، الهيئة العامة المصرية للكتاب، تاريخ
المصريين، العدد ٢٨٥ ـ القاهرة ٢٠١٠
69 ـ د .أنور عبد الملك، دراسات
في الثقافة الوطنية، دار الطليعة، بيروت، 1967
70 ـ بندكت أندرسون، الجماعات
المتخيلة.. تأملات في أصل القومية وانتشارها، ترجمة : ثائر أديب، ط 1، شركة قدمس
للنشر والتوزيع ـ بيروت 2009
71 ـ جوستون بوتول، ابن خلدون في فلسفته، ترجمة : غنيم
عبدون، أقلام عربية، ط١ ـ القاهرة ٢٠١٨ ،
٢٠١٩
72 ـ فيدل سليستر، مدرسة
فرانكفوت.. نشأتها ومغزاها ـ وجهة نظر ماركسية ، ترجمة خليل كلفت، المشروع القومي
للترجمة، العدد 154 ـ القاهرة ٢٠٠٠
73 ـ هربرت ماركووز،الإنسان ذو
البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، ط ٣، دار الآداب بيروت ١٩٨٨.
74 ـ د. على ليلة، النظرية
الاجتماعية وقضايا المجتمع .. قضايا التحديث والتنمية المستدامة، ج ١ ، مكتبة
الأنجلو المصرية ـ القاهرة 2015
75 ـ د. محمد الجوهري، المدخل إلى
علم الاجتماع ، القاهرة 2007
76ـ د. محمد الجوهري وأخرون،
مقدمة في دراسة التراث الشعبي ، ط ١ ـ القاهرة ٢٠٠٦
77 ـ محمد الجوهري، علياء شكري،
مقدمة في دراسة الأنثروبولوجيا ـ القاهرة
٢٠٠٧
78 ـ وليامز هانز ، ما وراء
التاريخ ، ترجمة وتقديم : أحمد أبو زيد ، المركز القومي للترجمة ـ العدد 1700 ـ
القاهرة 2011
79 ـ بحوث في الأنثروبولجيا
العربية، مؤلفون عديدون، تحرير : ناهد صالح، مطبوعات مركز البحوث والدراسات
الاجتماعية ، ط1 ـ القاهرة 2002
80 ـ محمد سبيلا، نوح الهرموزي،
موسوعة المفاهيم الأساسية في العلوم الإنسانية والفلسفة ، منشورات المتوسط، المركز
العلمي العربي للأبحاث والدراسات والإنسانية ، ط 1 ـ المغرب ٢٠١٧
81 ـ ادجار هوفر، النظرية
المكانية في اختيار المكان المنسب للنشاط الاقتصادي ، ط ١، تعريب عزت عيسى
غوراني،دار الأفاق الجديدة ـ بيروت 1974
82 ـ د. محمد الجوهري وأخرون، علم
الاجتماع التطبيقي ـ القاهرة 2008
83ـ د. مازن مرسول محمد، حفريات
في الجسد المقموع .. مقاربة سوسيولوجية ثقافية، ط ١ ، دار الأمان ـ الرباط ٢٠١٥
84 ـ محمد الجوهري، دراسات
انثروبولوجية معاصرة، دار المعرفة الجامعية ـ الأسكندرية ١٩٩٨
85 ـ إدريس مقبول ، الإنسان
والعمران واللسان: رسالة في تدهور الأنساق في المدينة العربية، المركز العربي
للأبحاث ودراسات السياسات ـ الدوحة 2020
86 ـ د. عبد الوهاب المسيري
وأخرون، إشكالية التحيز.. رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، ط ٢، المعهد العالمي للفكر
الإسلامي ـ الولايات المتحدة الأمريكية ١٩٩٦
87 ـ د.الزواوي بغوره، ما بعد
الحداثة والتنوير.. موقف الأنطولوجيا التاريخية ـ دراسة نقدية، ط 1 ـ دار الطليعة
للطباعة والنشر ـ بيروت 2009
88 ـ سيرجى قرة /مورزا، التلاعب
بالوعى ، ترجمة : عياد عياد ، وزارة الثقافة ، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق
2012
89 ـ الفن جولدنر، الأزمة القادمة
لعلم الاجتماع الغربي، ترجمة على ليلة، المشروع القومي للترجمة، المجلس القومي
للترجمة ـ العدد ٦٦٧ ـ القاهرة ٢٠٠٤
90 ـ د. على عباس مراد، الهندسة
الاجتماعية .. صناعة الإنسان والمواطن ،ط ١، ابن النديم للنشر والتوزيع، دار
الروافد الثقافيةـ الجزائر، بيروت ٢٠١٧
91 ـ هربرت أ. شيللر، المتلاعبون
بالعقول .. كيف يجذب محركو الدمى الكبار في السياسة والإعلان ووسائل الاتصال
الجماهيري خيوط الرأي العام ؟، ترجمة : عبد السلام رضوان ، عام المعرفة ، العدد
٢٤٣ ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت 1999
92 ـ هربرت ماركووز،الإنسان ذو
البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، ط ٣، دار الآداب بيروت ١٩٨٨.
93 ـ د . خالد فهمي، الجسد
والحداثة، الطب والقانون في مصر الحديثة،ترجمة :شريف يونس دار الكتب والوثائق
القومية بالقاهرة ـ القاهرة ٢٠٠٦
94 ـ علماء الحملة الفرنسية، ترجمة
زهير الشايب، وصف مصر .. المصريون المحدثون، الطبعة 3 ـ دار الشايب ـ القاهرة 1992
95 ـ اللورد كرومر، مصر الحديثة ،
ج٢ ،ط ١، ترجمة صبري محمد حسن ـ المركز القومي للترجمة،عدد رقم ٢١٥٧ القاهرة ٢٠١٥
96 ـ محمد الجوهري، علياء شكري،
مقدمة في دراسة الأنثروبولوجيا ـ القاهرة
٢٠٠٧
97ـ وليامز هانز ، ما وراء
التاريخ ، ترجمة وتقديم : أحمد أبو زيد ، المركز القومي للترجمة ـ العدد 1700 ـ
القاهرة 2011
98ـ بحوث في الأنثروبولجيا
العربية، مؤلفون عديدون، تحرير : ناهد صالح، مطبوعات مركز البحوث والدراسات
الاجتماعية ، ط1 ـ القاهرة 2002
99ـ محمد سبيلا، نوح الهرموزي،
موسوعة المفاهيم الأساسية في العلوم الإنسانية والفلسفة، منشورات المتوسط، المركز
العلمي العربي للأبحاث والدراسات والإنسانية ، ط 1 ـ المغرب ٢٠١٧
100ـ د. قاسم عبده قاسم، القراءة
الشعبية للتاريخ، دار عين، القاهرة 2014
101 ـ مجموعة مؤلفين، جدليّات
الاندماج الاجتماعي وبناء الدولة والأمة في الوطن العربي، المركز العربي للأبحاث
ودراسة السياسات، ط 1 ـ بيروت 2014
102 ـ ياسر بكر، حرب المعلومات،
حواس للطبع والنشر ـ القاهرة 2017
103ـ ياسر بكر، صناعة الكذب، حواس
للطبع والنشر ـ القاهرة 2013
104 ـ سيرجى قرة /مورزا، التلاعب
بالوعى ، ترجمة : عياد عياد، وزارة الثقافة ، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق
2012
105 ـ ياسر بكر، «فئران المركب»
.. دراسة في التاريخ الاجتماعي، E. Book ـ القاهرة2021.
106 ـ دافيد إدواردز، دافيد
كرومويل، حراس السلطة .. أسطورة وسائل الإعلام الليبرالية ـ ترجمة آمال الكيلاني،
مكتبة الشروق الدولية، القاهرة 2007
107 ـ سارة البلتاجي، الأمن
الاجتماعي ـ الاقتصادي والمواطنة النشطة في المجتمع المصري، المركز العربي للأبحاث
ودراسة السياسات ، ط 1ـ بيروت 2016
108ـ ياسر بكر، «شعب من الأوز» ..
مقدمة في علم اللغة الاجتماعي، E. Book ـ القاهرة2020.
109 ـ د. ليلى عنان، الحملة
الفرنسية بين الأسطورة والحقيقة: كتاب الهلال رقم 500 أغسطس 1992، القاهرة 1992
110 ـ د. ليلى عنان، الحملة
الفرنسية تنوير أم تزوير، كتاب الهلال ، العدد رقم ٥٦٧، القاهرة ـ مارس ١٩٩٨
111 ـ د.ليلى عنان ، الحملة
الفرنسية في محكمة التاريخ، كتاب الهلال رقم 574 أكتوبر 1998 ـ الفاهرة 1998
112 ـ د.نللي حنا، مصر العثمانية والتحولات العالمية
1500 ـ 1800 هـ ، ترجمة مجدي جرجس، المركز القومي للترجمة ـ عدد رقم 2805، الطبعة
1 ـ القاهرة 2016
113 ـ نابليون بونابرت، مذكرات
نابليون.. الحملة على مصر، ترجمة : عباس أبو غزالة، المركز القومي للترجمة، العدد
2318 ـ القاهرة 2019
114ـ ياسر بكر، «الثقاقة الشعبية»
.. وتشكيل العقل المصري ، E. Book ـ القاهرة2021.
115 ـ د. خالد فهمي، كل رجال
الباشا .. محمد على وجيشه وبناء مصر الحديثة، ترجمة : شريف يونس، ط1، دار الشروق ـ القاهرة 2001
116ـ ياسر بكر، أخلاقيات الصورة
الصحفية، حواس للطبع والنشر ـ القاهرة
2012
117 ـ علم الاجنماع الرقمي .. منظورات نقدية، تحرير:
كيت أورتون، جونسون، ونيكبريور، ترجمة:هاني خميس أحمدعبده، عالم المعرفة، العدد
٤٨٤، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ط 1 ـ الكويت، يوليو٢٠٢١
.
الدويات
العلمية المُحكَّمة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ مقال :رشيد جرموني، التقرير
العالمي حول العلوم الاجتماعية لسنة ٢٠١٠، تقاسم المعرفة، مجلة إضافات، مجلة
أكاديمية فصلية محكمة، تصدر عن الجمعية العربية لعلم الاجتماع بالتعاون مع مركز
دراسات الوحدة العربية، العدد ١٦، بيروت ـ
خريف 2011
2 ـ مقال د. حسام فايز عبد الحي، مشاركة الجمهور في تقنيات الهندسة الاجتماعية عبر موقع فيس بوك وعلاقتها بالخصوصية والتعويض النفسي لديهم ، مجلة البحوث الإعلامية.. مجلة علمية و محكمة تصدرها كلية الإعلام بجامة الأزهر ، العدد ٥٥ ـ ج ١ ـ اكتوبر ٢٠٢٠