مجتمع "الفرجة" ـ ياسر بكر ..بصيغة Word
ـــــــــــــــ
«كل شيء تافه .. هذا هو الانحطاط بعينة .. صعود الرعاع الذي يعني مرة أخرى صعود القيم الميتة .. يالها من خديعة !! يالها من كذبة كبرى!! إن ذهنية القطيع هى التي تسود على كل ما يمكن أن يكون استثنائيا في هذا البلد .».
واسيني الأعراج
من رواية «مرايا الضرير»
مقدمة :
.. للمرة الرابعة، وربما لن تكون الأخيرة نُعيد التساؤل :
.. ماذا حدث، .. ويحدث للمصــريين ؟!!
أقول للمرة الرابعة، وربما لن تكون الأخيرة؛ في ظل التغييرالحاد والمتعاظم والمتسارع لأنماط الحياة الاجتماعية في مصر؛ ما بين ليبرالية العهد الملكي قبل انقلاب 23 يوليو 1952، ونيوليبرالية النظام بعد 3 يوليو 2013 بشراكة خليجية نستطيع رصد عدة مراحل للتغيير الاجتماعي في مصر أهمها: النظام الشمولي بعد انقلاب 23 يوليو1952 القائم على (رأسمالية الدولة)، الذي كان من أخطر مفاسده أنه اعتبر المواطنين «عيال الدولة»؛ فمنحهم بسخاء قابلوه بانتهازية، وعبث بثروات البلاد ومقدراتها، ومروراً بمرحلة «الانفتاح الاقتصادي» التي أدت إلى عمليات فرز طبقي سريعة صعدت بالبعض سريعأ إلى أعلى، وهبطت بالكثيرين إلى أسفل، وما انتجته من نمط «الاستهلاك المتوحش» في ظل فساد الطبقة العاملة التي تعودت أن تحصل على الكثير من المكتسبات المالية مقابل الولاء، ودون بذل جهد في العمل أو تحقيق إنتاج حقيقي؛ وتزامن ذلك الانفتاح مع صدور قانون الاستثمار وظهور (القطط السمان fat cats) بمعنى الطفيليين الذين ركبوا موجة الانفتاح، وتاجروا بكل البضائع، وحققوا لأنفسهم ثروات طائلة، وتحول موائهم إلى زئير، وأداروا اللعبة السياسية من وراء الستار، وتلاعبوا بالقوانين، وعبثوا بأمن البلاد إلى الحد الذي بلغ إفشال القطاع العام الداعم الوحيد، والحقيقي للاقتصاد الوطني في سنوات المواجهة مع دولة الكيان الصهيوني، .. وبعد اغتيال الرئيس السادات انكشف المستور؛ .. فالرخاء القادم كذبة كبيرة، والديون كثيرة، وخزينة الدولة خاوية، والمؤامرة مثل «جبل الجليد» .. الجزء الظاهر على السطح لا يعلن عن حقيقة، وحجم المختفي تحت الماء!!
.. وفُرض على البلاد قانون الطوارئ عشية اغتيال الرئيس السادات؛ مما سهل على الدولة وضع المواطنين أمام خيارين : «إما الخصخصة أو الموت جوعاً».
.. وفي ظل فساد آليات الخصخصة التي أبدعت فاعلياته «خيول الحكومة الهرمة» في عصر الرئيس مبارك الذين تعاملوا مع القطاع العام باعتباره «مال سايب بدون صاحب»، وتم تسريح الملايين من «جحافل العمال والموظفين» لينضموا إلى صفوف «العمالة الرثة»؛ بما جعل سلوكهم أقرب إلى أخلاقيات البلطجية، واللصوص، والمحتالين، والمتسولين في ظل انخفاض الدخل، وأرتفاع الأسعار بما جعلهم يفقدون الأمن الاجتماعي والأمن الاقتصادي!!
.. وانتهاء بـ «النيوليبرالية» القائمة على «دورة الرواسب» التي أسس لها عالم الاجتماع الإيطالي فلفريدو بارتيو عبر ثنائية الدهاء والقوة التي اسماها «صفوة الأسود، وصفوة الثعالب»*(1) بشراكة خليجية في مجالات العمران، والصحة، والتعليم، والمواصلات؛ فنشأت منتجعات الأغنياء من المدن المسيجة (المحاطة بالأسوار وأبراج الحراسة والبوابات الإليكترونية التي لايتم عبورها إلا بواسطة الكروت الممغنطة أو بصمة الإصبع)، والشواطئ المغلقة، والكمبوندات، والمستشفيات الاستثمارية المفندقة، ومنتجعات الاستشفاء، ومعامل التحاليل الطبية ومراكز الأشعة، وسلاسل الصيدليات الكبرى التي تتبع الكيانات الاقتصادية الضخمة التي تديرها مافيا الدواء، والمدارس الأجنبية والجامعات الأهلية .
.. انسحبت الدولة تماماً من ميدان تقديم الخدمات المجانية واتسعت آلية «التسويق» بحيث امتد مفهوم السوق ليشمل مجالات جديدة في الحياة الاجتماعية؛ إذا اصبحت بعض القطاعات مثل التعليم والرعاية الصحية والمواصلات والاتصالات والفنون مطالبة بإعادة تحديد مفاهيمها حتى تتسق أنشطتها مع مبدأ انتاج السلعة وتسويقها بين المستهلكين بمعنى تقديمها بسعر السوق بعد أن كانت تقدم مجانا أو مدعومة، الأمر الذي أسقط الكثيرين في هاوية العوز والمتاعب، وخلق العديد من المشكلات الاجتماعية، وجعل العلاقات بين الناس محكومة بالصراع من أجل الاسترزاق بالطرق القويمة، والغير قويمة.
وفي هذا الإطار حل مفهوم «الفئات الاجتماعية» بدلأ من مفهوم «الطبقات الاجتماعية»؛ فلم يعد المجتمع يمتلك حالة الاستقرار التي يصنف في إطارها البشر حسب أوضاعهم الاجتماعية إلى طبقات تستمر فترة طويلة حتى تعي وجودها، وتتحول من كتلة فاعلة في ذاتها إلى طبقة لذاتها خاصة أن الوعي يأتي من خارج الطبقة، ويتدفق إلى ساحتها من تكنولوجيا الإعلام والمعلومات عبر شبكة المعلومات الدولية، ومن خلال تكنولوجيا الهواتف الذكية التي نجحت في تغيير البُنى الاجتماعية للبشر من خلال أعمال مخابراتية في ثوب ألعاب اليكترونية.
.. وتواكب هذا المناخ الخانق مع التحديات التي جلبتها شبكة الانترنت؛ فأصبح شباب الطبقة المتوسطة ـ المتوسطة منفتحاً على مؤلفات بريجنسكي (خارج السيطرة ـ الفشل الكبير ـ خطة اللعبة ـ القوة والمبدأ)، وجين شارب (حرب اللا عنف)، وجوزيف ناي في (القوة الناعمة)، وغيرها من مؤلفات تفكيك الدول وإثارة القلاقل فيها بهدف إفشالها .. تلك الكتب التي تتولى: «أكاديميات التغيير» ببعض الدول المستخدمة استخباراتياً طباعتها ونشرها وتوزيعها مجانا ضمن مخططات مشبوهة .
وفي المقابل كان من أهم أساليب (السيطرة الصامتة) التي تتبناها الحكومات على الفئات التي يصعب إدماجها في المجتمع ـ في الوقت القريب ـ والتي فُرض عليها التهميش والإقصاء والاستبعاد الاجتماعي استخدام الخطاب الحكومي للتكنولوجيا؛ فاصبحت التكنولوجيات الخطابية نمطاً من أنماط «تكنولوجيات الحكومة» التي يجري تطبيقها بصورة منتظمة، ويتولى ذلك تكنولوجيون محترفون يجرون البحوث في الممارسات الخطابية، ويعيدون تصميمها ويقومون بالتدريب على استخدامها ضمن أليات «الهندسة الاجتماعية» لصناعة مجتمع بلا معارضة، وأساليب «الأنثروبولوجيا التطبيقية» لسوس الجماهير وتوجيهها، و«التلاعب بالوعي» بحيث لا تملك تلك الجماهير حق الاختيار الحر بإرادتها الواعية .
.. واستبقت بعض الحكومات دعوات المطالبة بالتغيير، وانتزعت فتيل الغضب من خلال الاستناد إلى دعاوى إنسانية وميثاق شرف أخلاقي قال به ـ سابقا ـ إميل دور كيم في معادلة طرفيها أن يتخلى الأغنياء عن غلوائهم وأنايتهم، في مقابل أن يتخلى الفقراء عن احتجاجاتهم ورفضهم؛ لذلك ابتدعت المجتمعات إجراءات «الحماية الاجتماعية»، و«شبكات الأمان الاجتماعي» لتوفير ما يشبع الحاجات المعيشية الأساسية؛ ليمتلكوا قدرات العيش والمشاركة.
***
.. مع بداية الألفية الثالثة أصبح التغيير المتسارع هو القاعدة بحيث أصبحت حقائق عالمنا الاجتماعي الذي نعيش فيه، والتي تميزت بالثبات والاستقرار، ويمكن أن ندركها، ونستطيع تصوير طبيعتها وحدودها، .. انقلبت الأحوال وأصبحت الحقائق سائلة ومتدفقة ما نكاد نحاول إدراكها حتى تنساب من بين أصابعنا مثل الرمال الناعمة لتصبح شيء آخر، وتفلت من اكتمال إدراكنا لها .. الأشياء تغيرت والتفاعلات قد اكتسبت طبائع جديدة والكليات، وإن استقرت حدودها قد تتشكل من عناصر تتباين في طبيعتها الأساسية عن ذي قبل؛ بما أحاطتها بصعوبة الفهم في ظل المطاعن التي أحاطت بعلم الاجتماع باعتباره تخصصاً مشوشا يضم أكثر من خمسين تخصصاً سوسيولوجياً، وعدم استقرار حيثباته العلمية، حيث تبدو مسيرته أقرب إلى المواجهة المستمرة مع مسألة علميته، وهو ما أكده بيير بورديو من أن : «رفض المعرفة، وتوهم معرفة فطرية يتوجدان متجاورين في علم الاجتماع بدل من أن يتعارضا عند الباحثين أو لدى المطبقين له.»، والظروف المؤطرة له، والتي تعيد إلى الأذهان بداياته من حيث تحديد موضوعانه، واختيار فرضياته، واختبار مناهجه وغيرها من الأمور التي تتصل بوهن دلالته، وقلة مردوداته في قراءة الراهن مع تأكل المعايير العلمية لنشاطه الأكاديمي، واصطباغها على نحو متزايد بالبيروقراطية والسوق والتباين الذي يتزايد وضوحه لدى مشتغليه بين دور الخبير، ودور الباحث، وكلها تضافرت فجعلت مشهده ملتبساً، ومهدداً بالصعاب، رغم ما تشي به النظرة السطحية من توسع نطاقه، وخروجه من الساحة الأكاديمية إلى عالم الجماهير الأوسع عبر بحوث الاستطلاع، والاتجاهات الموجهة لأغراض دعائية أو إعلانية أو سياسية*(2)؛ بما يوحي بتزايد التشكيك في قدرة هذا العلم على استيعاب متغيرات العصر حيث لم يستطع التنبؤ بسقوط المعسكر الاشتراكي أو انتعاش الصحوة الإسلامية، وعدم امكانية مواجهة مشكلات العصر (الصدامات العرقية، وتصاعد التسليح، والزيادة السكانية، وتلوث البيئة، والفقر المتوطن، والعنف اليومي)، أو في المجمل عدم استطاعته استبصار الشأن الإنساني، وتحريره مع تصاعد رهانات تشكيل عالم جديد.*(3)
العولمة :
ــــــــــــــــ
كان المواقف المحرجة تواجه عالم الاجتماع، وبخاصة فيما يتصل بالخطابات المؤازرة للعولمة، والتي تقلل من أهمية النظرية الاجتماعية حيث تنظر إليها باعتبارها بصفتها «إرهاب للحقيقة»، وتعدياً في الأساس على بناء هيكل نظري متماسك لها من خلال إعادة إنتاج المعلوماتية التي توظفها من أجل تحديد أشكال إعادة انتاج الاستقطاب على صعيد عالمي .
.. وفي ظل ما تردد عن مسميات مختلفة لـ «نظريات اجتماعية» تراوحت من البنيوية إلى الحداثة وما بعدها، إلى العولمة التي تمثل الموجة الثالثة من الحداثة، وبعد أن طرح عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار مؤلفيه بعنواني: «صناعة العالم»، و«في ظل الأغلبية الصامتة» كتب نيكولاس جين عن مستقبل «النظرية الاجتماعية» كانت الفرضية الأساسية في هذا الكتاب هي أن ماهو اجتماعي يتغير في الشكل بدلاً من الاختفاء .. طرح نيكولاس جين ثلاثة سيناريوهات :
السيناريو الأول : هو أن الاجتماعي لم يكن قائما ابداً في الواقع (لم يكن هناك أبدأ أي شيء لكن مجرد محاكاة لما هو اجتماعي، والعلاقة الاجتماعية)، والسيناريو الثاني: هو أن الاجتماعي يوجد في كل مكان، ويستثمر في كل شيء (يتواجد ضمنيا في كل مكان، وليس في أي مكان )، والسيناريو الثالث: ما هو اجتماعي كان موجوداً إلا أنه لم يعد كذلك، ويتعامل مع ما هو اجتماعي على أنه تأثير صورة زائفة في مرتبة الانتاج الكبير، والتي تختفي مع ظهور الأشكال الرقمية للمحاكاة، والانتشار الضخم للإشارات، والرموز، وهو ما يعلن أن ما هو اجتماعي يوجد فقط من المنظور المكاني ويموت في مجال المحاكاة».
يميل بودريو وأخرون غيره إلى السيناريو الأخير بأن «الاجتماعي أختفى مع ظهور الأشكال الرقمية للمحاكاة، والانتشار الضخم للإشارات، والرموز.»*(4)
.. وأصبحت «النظرية الاجتماعية» تواجه أوقاتا عصيبة في ظل السيناريوهات الثلاثة، وارتأى البعض إعادة التفكير في النظرية الاجتماعية برمتها لأسباب أهمها :
1 ـ أن العالم اليوم يشهد تحولات عميقة في شتى مجالات الحياة حيث تمارس الأشياء، والتقنية هيمنة متزايدة على حياتنا؛ مما انعكس على العنصر البشري الذي لم يعد محور تحليلات علم الاجتماع؛ بما جعل هذا التخصص يواجه الكثير من المشاكل أهمها الواسطة التقنية المتزايدة في العلاقات بين البشر، وزاوال الخط الفاصل بين الموضوعات الإنسانية، وغير الإنسانية، والأمور الشخصية، والقضايا الجماهيرية، وفي ظل التكاثر في الأشكال الاجتماعية في الثقافية العالمية الجديدة برز التساؤل عن معنى ماهو اجتماعي ؟!!
2 ـ يرى البعض من أمثال إيان كريب استحالة وجود نظرية شاملة تستطيع تفسير جميع مناحي الحياة الاجنماعية، وخصوصاً تفسير مكونين أساسين من مكوناته، وهما البنية والفعل إذ أن النظرية التي تسطيع تفسير الطواهر المتعلقة بالبنية لا يكون بمقدورها تفسير الفعل البشري.*(5)
3 ـ أن النظرية الاجتماعية تبدو وكأنها ليس لها نتائج علمية، والأسوء من ذلك أنها تتناول موضوعات نعرفها معرفة وثيقة هي حياتنا الاجتماعية، وتحولها إلى هراء لا يفهم؛ ومما يزيد الطين بلة أن دراسة النظرية الاجتماعية، وتدريسها يتمان في جو يلفه الغموض .
واستتبع ذلك اطروحات مختلفة تدور حول إدماج هذا العلم بوصفه «هندسة اجتماعية»، والنظر إليه بوصفه علم للتدخل السريع في الأزمات، أو قصر ترويج «بضاعته»على تأييد مواقف سياسية، أو الاشتغال بالجدال الحزبي واستطلاع الرأى العام، وتقليص مساهمات المشتغلين به في عملية رسم السياسات *(6).
.. ونتيجة تدني اخلاقيات البحث الاجتماعي مع ارتباط مشتغلين عديدين لهذا العلم بالمؤسسات الحاكمة، وأصحاب المصالح ظهرت شواهد توحي بتدني هذه الأخلاقيات، وعلى رأسها تقنيع مصادر الحصول على المعلومات أو تسويقها بفعل عمليات التجسس وقرصنة المعلومات، وزاد من هذا الطابع اللا أخلاقي تنامي مافيا نشطة ذات خبرة في مجال البحوث الاجتماعية ممثلة في مراكز بحثية، ودور نشر مدعمة من جهات بعينها لها مصالحها، وليس سراً اتخاذ الكونجرس الأمريكي قراراً بحجب الدعم عن المراكز البحثية الأمريكية التي لا تتخذ موقفاً داعماً للسياسة الخارجية الأمريكية؛ ولكي يتم تنفيذ المطلوب لجأ العاملون في هذه المراكز إلى صيغة ما ترضيهم، وتلقى قبولاً من المتلقي، بما قلل من أهمية «النظرية الاجتماعية»، ويبرز التقليل من أهمية «النظرية الاجتماعية» واضحاً لدى صموئيل هنتنجتون حين يذكر في مقدمة كتابه : «صدام الحضارات .. إعادة صناعة النظام العالمي»*(7) أن هذا الكتاب لا يهدف أن يكون عملاً في علم الاجتماع، وإنما تفسير لتطور السياسات الكونية بعد الحرب الباردة، وكتاب فرانسيس فوكو ياما بعنوان :«نهاية التاريخ .. وخاتم البشر» الذي يمثل اخطر خديعة واغتصاب لمفهوم التاريخ وحركته ونهايته؛ حيث يتحدث عن شرعية الديمقراطية الليبرالية كنظام حكم بعد أن لحقت الهزيمة بالأيديولوجيات المنافسة مثل الملكية الوراثية والفاشية في الفترة الأخيرة .. الديمقراطية الليبرالية قد تشكل نقطة النهاية في التطور التاريخي للإنسانية، والصورة النهائية لنظام الحكم البشري؛ وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ*(8)
لم يحظ كتاب «نهاية التاريخ» بقبول علماء التاريخ، ولا برضاء علماء الاجتماع الذين ارتأوا أنه ينطوي على تدليس مفضوح، وأنه بمثابة «وثيقة» أو «بيان أول» تعلن به الليبرالية الطائشة عن نفسها، وهي تجدد نفسها، وتزمع استئناف مشروعها وحيدة هذه المرة لا يشاركها أى خبار أيديولوجي آخر أو عسكري أو سياسي أو معارضة قادرة.
***
.. لم يعد علم الاجتماع قادراً على الإسهام في ترشيد حركة المجتمع كي يضحى استمراراً فكريا لأنشطته!!، ولم تكن مصر بعيدة عن تيارات الأحداث؛ .. فتغيرت المنظومة القيمية في المجتمع المصري وأصبحت قيما مادِية بما قلل من معايير الثقة بين الناس، وأن منظومة العدالة الاجتماعية قد شهدت خلَـلا غير مسبوق؛ فزادت حالات الفساد، والرغبة في الكسب المادي السريع، سواء من خلال تقديم الخدمات المجانية في الهيئات الحكومية بمقابل مادي، وهو ما يُـعرف بالرشوة التي يتم إطلاق مُسمى «الإكرامية» في مجال اسباغ صفة: «الحلال» عليها، وتطهيرها الظاهري من «الحرام»، أو تسمى في العامية المصرية بـ «الشاي» لإضفاء صورة «المجاملة الاجتماعية» عليها في إطار التلاعب باللغة، وتطويعها لاستيعاب السلوكيات المعوجة بما يحقق قبول الراشي ورضا المرتشي !!
.. الخلل أصبح واضحاً ويمكن رؤية أعراضه بالعين ودون استقصاء أو مناهج؛ فإذا سرت على قدميك في شوارع القاهرة لمدة ساعة من الزمن ستكتشف بعض مظاهر الانحطاط الأخلاقي الذي يتمثل في غياب مفهوم «المصلحة العامة»؛ فـ 60 % تقريباً من مساحة القاهرة تقريبا تشغلها المقاهي والمطاعم، ولم تعد لأرصفة المشاة فيها وجود، والكراجات العشوائية في الشوارع التي يسيطر عليها البلطجية برعاية فاسدين من مسئولي الأحياء وأفراد من الشرطة، وصارت البلطجة صيغة من التفاعل في الشارع المصري، وتتجلى مظاهرها في العنف عبر متصل يبدأ بالعنف اللفظي في التفاعل اليومي المحدود والمتكرر الذي يشير إلى عدم تكامل الأنا والآخر إلى ما يمكن أن يسمى بـ «العنف الأناني» حيث يتبنى صاحبه العنف لتحقيق مصالح أنانية مؤقنة، .. وجميع التعاملات خاضعة للجشع وقلة الذوق والمساومة، .. والمسألة تتوقف على «الشطارة» سواء مع بائعي السلع أو مقدمي الخدمات من أمثال مكارية العصر «سائقي التاكسي»!!.
.. وصل الأمر بالأسرة المصرية إلى حالة من انعدام «الأمن الاجتماعي» بما اسقطها في مستنقع الهوان المادي والأخلاقي معاً؛ بسبب هبوط أغلب عناصرها إلى الطبقة الدنيا إضافة إلى تأكل معانيها، وانتشرت على ساحتها قيم الفساد والانتهازية و«العشق المنحرف للسلطة» باحتراف «البلطجة»التي صارت أحد آليات الضبط الاجتماعي والسياسي، وتنفيذ «المهام القذرة» برعاية بوليسية لبعض فئات الطبقة المتوسطة والتجار ورجال الأعمال الذي يصعب إتمامها بالقانون، أو أخذ الحقوق من خلال القنوات القانونية المباشرة، ولا يعني هذا أن البلطجة أصبحت دائرة خارج أو ضد حيز العدالة والإجراءات الجنائية بل أصبحت جزءاً مكملاً لها كما أصبحت أحد أذرع الدولة الخفية التي تحميها وتعفيها من المسؤولية الجنائية والسياسية، ومع توحش الجهاز الشرطي ككل، وهيمنة سلطته على الدولة والمجتمع، صارت قوات الأمن بشكلها الرسمي والمؤسسي، وغير الرسمي، واللا مؤسسي المؤلفة من مجموعات البلطجية، والمرشدين، أحد أهم عناصر إنتاج الفزع في المجتمع إلى جانب أقسام الشرطة التي تحولت إلى مسالخ بشرية، إضافة إلى تلك الصورة القاتمة، والمرعبة للشارع المصري الذي شهد تنامي ظاهرة النصب، والاحتيال، والاستغلال، والغش، وصارت البلطجة من أهم سمات الشارع المصري؛ بما جعل التعامل في الشارع محفوفاً بمخاطر كبيرة لصعوبة توقع رد الفعل من الآخر من العنف، والعدوان الذي يبلغ حد القتل أو السرقة بالإكراه؛ بعدما شهدت فترة الانهيار الكبير إنهيار كل انماط الحياة التي كانت مستقرة، والتي انهارت بسبب التغيير المحوري الذي وقع، وأدى إلى انهيار «االأسرة النووية»، وشهد المجتمع المصري ما اسمته سوزان فالودي «ازمة الذكورة» عندما أخفق المجتمع في توفير فرص العمل للرجال وأنقص أجورهم، وطالبهم يالبقاء ساعات أطول في أماكن العمل، وأفقدهم الإحساس بالأمان الوظيفي والاجتماعي، بما ساهم في تأخر سن الزواج، وجعل رابطة الزواج غير مستقرة نتيجة المجاملة التشريعية للمرأة على حساب الجماعة؛ فارتفعت معدلات الطلاق، ولم تعد النساء يعتمدن على الرجال، وأصبحن يدعمن أنفسهن وأطفالهن من خلال فرص العمل التي يحرم منها الرجال، وشهد المجتمع المصري ظاهرة «الأب الغائب»؛ فنشأ جيل كامل بدون أباء، ويعاني من الفشل التعليمي، والعنف والجريمة، ونشأت ظاهرة «أطفال الشوارع» وتفشي البغاء، .. أدت الضغوط التي فرضت على «الأسرة النواة» إلى تقلص دورها، وطرحت على الساحة أشكال عديدة من «الأسر التوليفية أو المؤتلفه» التي ظهرت نتيجة تأخر سن الزواج، وارتفاع معدلات الطلاق، وانتشار الدعارة، والزوج العرفي، والانجاب خارج شرعية الزواج؛ مما حدا بإدارة الأمن العام بوزارة الداخلية إلى حجب التقرير السنوي عن الجرائم، ومنعت المختصين والباحثين والإعلاميين من الاطلاع عليه!! .
.. ومع هذه الطاقة التغييرية المتسارعة والمتعاظمة بدأت تتغير أشياء كثيرة من حولنا حتى مفاهيم العلم وتصوراته أصابها التغير المتسارع فمُلئت بمضامين جديدة أو أصبحت تشير إلى متغيرات جديدة أهمها العلاقة بين التغيير الخطابي، والتغيير الاجتماعي؛ فقد أصبحت اشكال التغيير باستعمال اللغة تمثل جانباً هاماً من أشكال التغيير الاجتماعي والثقافي على نطاق واسع؛ فحظيت اللغة بزيادة الأهمية الاجتماعية للتغيير، واستخدمت اللغة في التحكم في مسار التغيير وتحديد نوعيته؛ فمثلاً حل مُسمى «الفئات الاجتماعية» بديلاً عن مفهوم «الطبقات الاجتماعية» حيث أن الطبقة مرتبطة بامتلاك وسائل الانتاج أما الفئات مرتبطة بتقديم الخدمات، والاعتماد على الاقتصاد الريعي .
.. وأيضا مع نشأة الجامعات الخاصة ظهرت ممارسات خطابية جديدة داخل الأنشطة القائمة مثل إعادة تسمية «الطلاب» بوصفهم أنهم «مستهلكون» أو «عملاء»، ووصف المناهج العلمية بأنها «بضائع» أو «منتجات»، والطالب منتج بشري يجري إعداده لدعم منظومة ما .
وشهدت المنظومة المصطلحية تحول في حاضر العولمة إلى عالم من حمولات متباينة تمتلك المفاهيم والتصورات في إطارها ومدلولها المراوغ، وهو ما تؤشر له المفاهيم المتصلة بالعولمة مثل :(آلية السوق، وإعادة الهيكلة، وحقوق الإنسان، والشراكة، ونهاية التاريخ، وصراع الحضارات، وحرية الأديان، وحق الأقليات، وتداول المعلومات، والمجتمع المدني .).
.. كان مصطلح «المجتمع المدني» من أشهر المصطلحاات الخادعة التي وُظفت لإضفاء شرعية على ممارسات السلطة بوصفه مصطلح أمريكي الأصل يجد مرجعيته في أيديولوجيا التوافق على معني قبول التوافق على معنى قبول جوهر اقتصاد السوق، وممارسة الديمقراطية التعددية الانتخابية مع افتراضه ضمناً عدم الاهتمام بالدولة مقترنا بالدعوة إلى رفع شأن منظمات المجتمع المدني، وإرساء قبول شرعيتها وصلاحية ممارستها رغم أنها لا تعدو أن تكون حزم وصل توظفها القوى الإمبريالية .
وهكذا يتم تشظي المفاهيم في إطار ما يطلق عليه بيير بورديو بتوسيع نطاق «السوق اللغوي الكوني» *(9) بما يشمله من احتكارات، وعلاقات قوى، وأشكال من السيطرة لها منطق نوعي يسعى نحو تشميل التصورات التي تبني الوعي بالآخر، ومعرفته بما يعنيه ذلك من إغفال للخصوصيات، وإهمال الحدود . *(10)
***
.. أسهمت اللغة في تغير المجتمعات، واختلاف الثقافات، وانهيار «القيمة المركزية» المهيمنة على أساليب «الضبط الاجتماعي»؟!، وانحدر المصريون إلى حالة مزرية من «التحضر الرث، أوالتطور الرث» أو «فساد العمارة وتلوثها» ـ على حد تعبير ـ المعماري العراقي رفعة الجادرجي*(11) أو «التلوث السائل» أو «التحضر غير المنظم» ـ على حد تعبيرـ ديفيد هارفي*(12) أو «التحضر دون تخطيط أو تفكير»؟!!.
.. كان فساد العمران، وتلوثه البصري، وعدم قدرته على تلبية الحاجات الإنسانية والوظيفية والعاطفية والاخلاقية والجمالية السبب الرئيس في تنامي ظاهرة «تراجيديات العنف الحضري»، التي ترجع إلى أسباب معرفية قبل أن تكون أخلاقية في إحداث «التغيير السوسيولوجي، والفينومينولوجي والإيكولوجي» الذي خلَّف ورائه: «مجتمع الفُرجة»*(13) الذي يقدس : «صنمية السلعة»، و«بذل الجهد الأقل» حسب توصيف الفيلسوف الفرنسي جي ديبور، ومكونات ذلك المجتمع شبه البشرية من «الكائنات الزومبية» المعادة إلى الحياة بأسلوب الخديعة، أو «الغوريلات المدربة» المتلاعب بوعيها ـ على حد تعبيرـ فيليب تايلور بحيث لا تستطع أن تمارس حقها في الاختيار الحر بإرادتها الواعية!!*(14)، وهو ما يطلق عليه هابرت ماركوز (أحد رموز مدرسة فرانكفورت في البحث الاجتماعي التي تأسست سنة 1923*(15): «الإنسان ذو البُعد الواحد»*(16)
***
كان باعثي على هذه الدراسة أمران استرعيا انتباهي هما:
1ـ أن المدن المصرية أصبحت أقرب إلى «حدائق حيونات بشرية The Human Zoo» .. تسودها العدوانية والعنف والبلطجة والانفجار الجنسي والتحرش الجنسي، وعدم بسط الحماية على المرأة من قبل أفراد المجتمع وامتهان كرامتها في وضح النهار في أماكن العمل والمواصلات العامة، والأنانية والفساد البنيوي ذو الصلات القوية بأسباب ضاربة الجذور في عمق التاريخ!!.. أو أنها صارت أشبة بـ «المقابر» حيث تغيب فيها جميع ملامح الحياة الإنسانية، وتخلو من روحها، ومن صور التلاقي بين الناس.
الباحث :
ـــــــــــــــــ
من خلال منهج علمي قائم على الملاحظة بالمشاركة على عينات متنوعة على سبيل الاسترشاد من مقدمي الخدمات وسائقي التاكسي بـ (القاهرة والأسكندرية) كان تصرفات (أفراد العينة) يغلب عليها طابع النصب والسرقة والاحتيال والاستغلال والجشع والغش أي ما يصفه المثل العامي الشعبي : «اللعب بالبيضة والحجر»!!
2 ـ أن القرية المصرية قد تحولت إلى «مجتمع للفُرجة» فقط دون مشاركة فاعلة؛ بسبب انهيار الميل إلى التضامن والمشاركة؛ فغيابهم عن أداء الواجب الاجتماعي والأسري شبة دائم بلا أعذار، .. وحضورهم بلا فائدة بما يعني أن غيابهم وحضورهم مجرد إضافة إلى مشهد «العبث»، .. وصارت الحياة في القرى أنماطاً من «التنطع» يلتحف بغطاء من «الورع الكاذب»، والمفضوح في ظل ضعف الروابط المجتمعية، وتفشي التضامن الظاهري غير المنتج والقائم على المنفعية والمصلحية، ومبدأ الاسترزاق و«بذل الجهد الأقل»، ولا يقيمون لأخوانهم وزناً إلا بمقدار ما يعود من نفع في مشاركة الحياة!!
الباحث :
ــــــــــــــــــ
من خلال منهج علمي قائم على الملاحظة بالمشاركة على عينات متنوعة على سبيل الاسترشاد من القرويين من أهالي قريتين إحدهما بجنوب المنوفية، وأخرى بوسط الجيزة لوحظ أن سلوك (أفراد العينة) يغلب عليه صفاقة التجاهل، وافتعال النسيان بمجرد تحقيق المصلحة أو الحصول على المنفعة، كما لُوحظ اتصافهم بالبخل، وشح الضيافة، والجشع، والانقضاض على جمع المال، وعدم الإنفاق على متطلبات جودة الحياة من المأكل الصحي والملبس المناسب والرعاية الصحية والمسكن النظيف، والاتجاه الشرهة إلى شراء الأراضي الزراعية باعتبارها أحد مظاهر الوجاهة الاجتماعية، وعدم مساعدة المحتاج، ولوحظ أنهم يشعرون بالسعادة لخداع الباحث وإدخال الغش عليه؛ وهو ما يطلق عليه:«خبث الفلاحين»، وهو موروث ثقافي تاريخي للفلاح «القراري» في التعامل مع الغرباء رصدته الدراسات التاريخية، وتحدثت عنه الأعمال الأدبية، وأهمها مخطوطة بعنوان :«هز القحوف في شرح قصيد أبو شادوف» للشيخ يوسف الشربيني.
اعتمد الباحث على الإصغاء الجيد، والتدوين الأمين بالتزام الألفاظ المنطوقة، والحرص على التسجيل عبر وسائط المالتيميديا في بعض الأحوال.
***
.. وأيضا استرعى انتباهي ضعف آليات «الضبط الاجتماعي» وظهور أعراض كثيرة لـ «التفكك الاجتماعي» يمكن رد بعضها لأسباب داخلية، وأخرى لأسباب خارجية، وحتى لا يعتقد القارئ أنها مجرد تصورات شخصية تحت تأثير حالة مزاجية ما؛ فإنني أوكد أن لها ما يؤيدها من الدراسات العلمية :
1 ـ يوجد اتفاق بين مختلف اتجاهات التنظير السوسيولوجي على أننا نعيش في «عصر التفكيك» حيث انتهى عصر الكيانات الكبيرة والمتماسكة سواء على مستوى الواقع المادي، أو على المستوى المعنوي والتنظير؛ وتأكيداً لذلك أن تنظير ما بعد الحداثة قد غابت عنه السرديات الكبرى، وكذلك فإن واقع عصر «العولمة» المناظر لعصر «ما بعد الحداثة» على صعيد المعاني شهد تفكيك الوحدات المتماسكة على مخنلف المستويات؛ فقد انتشرت الفردية والتجزئة على كل الساحات؛ فانهارت العائلة وصار تفضيل البقاء عند الحالة الفردية حيث أصبح في إمكان الفرد أن يكون قادراً على اشباع حاجاته الأساسية من السوق دون الحاجة لأسرة .
وبنفس المنطق تبدلت العلاقات الاجتماعية التي كانت ذات علاقة جماعية بالأساس، وتستند إلى عواطف ومشاعر الجماعة التي تتحقق هذه العلاقات على ساحتها سواء كانت الجماعات القرابية، أو جماعات الأصدقاء أو حتى جماعات العمل، وحلت محلها العلاقات ذات الطبيعة المنفعية والمصلحية، وهي علاقات لا تعبر عن عواطف جماعية بقدر ما تعبر عن مطامع فردية أنانية ينشدها أطراف العلاقة من تأسيسها؛ فالعلاقات الفردية التجزيئية ذات طبيعة مؤقته تنتهي بمجرد أن يتحقق الهدف منها، وتعمل تلك العلاقات النفعية الفردية على تفكيك الجماعات إلى أفراد يتجمعون إلى جانب بعضهم البعض، ويشكلون نمطا جديداً من التجمع، وليس المجتمع .
تؤكد تفاعلات العولمة تلك النزعة إلى التفكيك حيث تعمل العولمة باتجاه تجانس، وتداخل عالمي على الأصعدة الثقافية، والسياسية، والاقتصادية تأكيداً لذلك أنها إذا كانت ترغب في تحقيق حالة من «المساوتية الثقافية» حيث يمتلك كل فرد ذات المعطيات الثقافية والمعرفية، ومن ثم يصبح مكتف بذاته ثقافيا، وليس في حاجة إلى الآخر .
***
كان من أهم عوامل «التفكيك الاجتماعي» .. ضعف الوازع الديني (الحلال والحرام)، وانحساره والتمدد السرطاني للتدين القشري «الشعبوي» الذي بدأ ثقافة «جنينية» قادمة من فجاج الصحراء برعاية جماعة «الأخوان المسلمين» التي جددت شبابها بضم الكوادر الفتية من «الجماعات الإسلامية» إليها، وبتمويل سعودي ورعاية استخباراتية أمريكية بغرفتيها في المنطقة (الموساد ـ والمخابرات السعودية)، .. تلك الجماعة التي بدأت «سلفية محافظة» برعاية ودعم الحكومة المصرية في عصر الرئيس السادات، ثم ما لبثت أن أصبحت ثقافة فرعية متطرفة تحاول إزاحة الثقافة الوسطية المهيمنة من خلال الانقلاب إلى «سلفية مجاهدة» تتبني العنف إلى حد تكفير المجتمع، وهز كيان الدولة، وتأسيس الشروخ في جسد الأمة، وعلى الجانب الأخر ونتيجة لسلوكيات التطرف والثقافة الفرعية التي تبرره ظهرت على الجانب المسيحي ثقافة رافضة لهذا التطرف، وتطرفت في رمزيتها وممارستها، واختفاء قيم ومعاني التسامح والتضامن والاستقامة والحفاظ على استقرار المجتمع، وغياب مفاهيم الصواب والخطأ الثقافي الذي يعد ابداعاً مجتمعيا للعقل الجمعي لتطوير فكرة ( الحلال والحرام) من خلال التفاعل البشري، وهو الأمر الذي يشير إلى حالة من «التفاعل الجدلي» بين المجتمع وثقافته، وهو التفاعل الذي يؤدي إلى تطور كليهما لتصبح الثقافة أكثر فاعلية، والمجتمع أكثر تماسكاً ..
ونتيجة للتسفية الدائم لـ «ثقافة التدين القشري» من قبل إعلام الدولة وأجهزتها على من اسموهم :«شيوخ الفضائيات» أو «شيوخ الكاسيت» قامت جماعاته بهجومات مضادة من خلال منصاتها على ما اسموهم «وعاظ السلاطين» الذين يطلبون من الناس الصبر على ألام الجوع في الدنيا حتى يأكلوا في الأخرة لحم طير مما يشتهون، وفاكهة مما يتخيرون، وأن يزهدوا في نساء الأرض طمعاً في اللؤلؤ المكنون من الحور العين !!
وساعد خطباء التطرف في مهمتهم تبني الدولة لأيديولوجيات قادمة من الخارج لا علاقة لها بمتطلبات الشعب، وأسهمت في الانفصال بين نظام الحكم، وبين ثقافة المجتمع، وفي ظل حالة التمزق الفكري والتراشق الدائم نشات: «ثقافة الانحراف»، وهي الثقافة التي تشير قيمها إلى حالة الانهيار الأخلاقي التي بلغها المجتمع سواء بفساد الكبار، وانتشار الرشوة بين صغار الموظفين، وبالتطرف أوعدم قبول الأخر، أو رفض الدولة وإدمان المخدرات، والتحرش الجنسي بالنساء، والشذوذ الجنسي، والاغتصاب، وزنا المحارم، والقتل، والاستهانة بقيم الاسرة المصرية، وإهانة كبار السن .
ثقافة الاحتجاج :
ـــــــــــــــــــــــــــ
وساعد النفخ الدائم لـ «خطباء التطرف» وأداء بعض صحف المعارضة الشكلية التي تحترف «الزنا السياسي»، والتي تتبع أحزاب ليس لها وجود في الشارع، ويغلب عليها طابع «التشرنق» أو «التقوقع» أو «التحجير» بمعنى التزام تلك الأحزاب في حركتها بمساحة حجرة مقرها لا تتعداها إلى خارج جدرانها في نشر ثقافة «الاحتجاج الاجتماعي»!!
ثقافة «الاحتجاج الاجتماعي»، وهو الاحتجاج الذي يشير إلى رفض صيغة العقد الاجنماعي السائدة في المجتمع، والحاجة إلى عقد جديد بعد أن أصبح النظام السياسي عاجز عن الاستجابة لاحتياجات المجتمع، وانتشار ثقافة الاحتجاج بين العمال والموظفين في مواقعهم والمهنين في نقاباتهم، وهو الأمر الذي يشير إلى اتساع «ثقافة الرفض» وتبلور الثقافات الفرعية، وعجز الثقافة العامة للمجتمع من أن تحافظ على تماسكه الاجتماعي .
نهاية عصر الاحتجاج :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد عامين من الفوضى التي أحدثتها أحداث 25 يناير 2011 تنبهت حكومة 3 يوليو 2013 إلى دور ثقافة الاحتجاج في توقف قلب الحركة داخل البلاد، وشل مفاصل الدولة، وتأكل الاحتياطي النقدي من 36 مليار دولار إلى 14 مليار دولار؛ فكان لابد من كبح جماح قوي التمرد، وغلق الميادين أمام عناصره المدربة على إثارة الفوضي، وحجب بعض المواقع الداعية والداعمة للفوضى، وأسقاط جميع القوانين التي كانت حامية للاحتجاج بإصدار قانون منع التظاهر بدون تصريح السلطات المختصة، وكشف فساد التنظيمات النقابية الداعمة للاحتجاج، وضبط أداء نقابة الأطباء التي حاولت بعض عناصرها فرض سياسات صحية لا تتفق مع توجهات الدولة، ورفض أن تكون نقابة الصحفيين مأوى لبعض مثيري الشغب من الخارجين عن القانون والمطلوبين للمثول أمام سلطات التحقيق.
يصف د.على ليلة أحوال الطبقة العاملة التي ما زالت لها فاعليتها في «عصر ما بعد الاحتجاج» :
بـ «أنها تحاول أن تؤمن قوت يومها برغم ظروف العمل التي أصبحت أكثر قسوة، وقوانين السوق التي لا ترحم بالعمل لصالح المجتمع برغم إدراكها أنها ليست لها مصلحة فيه،.. ورغم تردي أوضاعها كثيراً غير أنها بعيدة عن التمرد لأسباب عديدة منها أن الألة الرأسمالية أصبحت عاتية لا ترحم، والدولة لم تعد درعاً يحتمى به، والتنظيمات النقابية أصبحت محكومة أمنيا،ً ولم تعد قادرة على مد مظلة الحماية إلى أعضائها من جيش البطالة المنتظر على أرصفة الشوارع، وامكانية الاستبدال واردة في حالة التفكير في التمرد والرفض.»*(17)
ثالوث تشكيل
العقل المصري:
ـــــــــــــــــــــــ
يمكن حصر عوامل تشكيل السلوك المصري في العمران المشوة الذي يحاصر أنماط حياته وأسلوبه في التفكير بداية من الطرز المعمارية التي تعاملت معه باعتباره كائن أقرب إلى الحيوان؛ فشهدت المدن المصرية تشوهات عمرانية، وتلوثات بصرية في المجال الواسع من حيث الطبوغرافيا والبناء والإنسان بتصنيفاته وكثافة وجوده التي تعد من أمراض الزحام .. من وجهة نظر علم النفس العمراني يرى العلماء أن كل من «السكن الاجتماعي» و«السكن الوظيفي» نموذجا لتدهور العمارة العربية التي باتت مشوهة لأن هذا النوع من «العرض العمراني» أو السكني ليس في النهاية سوى مجموعة من الصناديق الأسمنتية الضيقة الخالية من أي تعبير ثقافي أو لمسة جمالية (عبارة عن مراقد فقط)؛ إنه السكن الفقير ثقافياً ودلالياً، والذي لا يمكن أن يعيش فيه الإنسان حميمته، ولا أن يستوحي أو يستمد من خلاله أي معنى، وأيضا لا يمكن أن يتواصل فيه مع غيره بضرب من الخصوصية حيث بات يكشف ما يجرى داخله بوضوح ودون عناء؛ إنه شفاف يهدم جدار الخصوصية، ومغشوش إلى درجة «الإقراف»، بالإضافة إلى الغش نجد الجشع والفساد الإداري والمالي لمؤسسات التهيئة المجالية والقارية في كثير من المدن، والذي ليس إلا جزء من فساد سياسي تقودة طبقة الرعاع السياسي ـ على حد تعبير ـ واسيني الأعرج: (صعود الرعاع الذي يعني صعود القيم الميتة)*(18) .
وهو الأمر الذي يقودنا إلى محاولة تفهم أثر الصناديق الأسمنتية (المسكن) الذي هو (عبارة عن مراقد فقط) في التأثير على جسد وسيكولوجية وتفكيرالإنسان فحولت البشر ـ على حد تعبير ـ عبد الرحمن منيف إلى ناس أقرب إلى حيوانات الصحراء مملؤون بالحراشف والقسوة والخشونة .. جلودهم سميكة ونظراتهم زائغة، وأعماقهم بعيدة لا تدرك!! *(19)
العمران والبناء
الاجتماعي للجسد :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يرى المنظرون السوسيولوجيون الجسد على أنه مُستقبِل إضافة إلى كونه منتجاً للدلالات الاجتماعية لذلك استخدمت البنائية الاجتماعية مصطلحاً عاماً تنضوي تحت لوائه رؤى ترى أن الجسد مُشكل بطريقة ما بل مختلق من قبل المجتمع .
.. ووفق ما يفعله المجتمع بالجسد، وما ينحته عليه لذلك فالجسد يستقبل ما يحتمه عليه واقعه الاجتماعي، وما تريده أساليب حياته من ممارسات، وعندما يقال إن الجسد بات مشكلاً ومختلفاً من قبل المجتمع فلا يقصد به وجوده المادي؛ فالجسد يولد بيولوجياً بقدرة الخالق سبحانه وتعالى، لكن ما يترتب ويصور ذلك الجسد بأشكال تختلف الواحدة منها عن الأخرى، هو المجتمع أو الواقع الاجتماعي الذي يعيشه بجسده، ووجوده المحسوس .
فالجسد عند فوكو لا يحصل فحسب على دلالات عبر الخطاب بل هو مشكل كلية عبر هذا الخطاب؛ فيصبح ذلك الخطاب عملياً عبارة عن نتاج مشكل اجتماعياً طبعاً بشكل غير محدود، وغير مستقر بدرجة عالية .*(20)
أحوال السكن، والأحوال الصحية، واختلافها تغير كثيراً من مظهر الجسد؛ فالذي يعيش في ظروف صحية جيدة يتحور شكل جسده بصورة الجسد الصحيح الخالى من الأمراض، والذي يبتلى بظروف معيشية قاسية يظهر ذلك بأحوال جسده الذي يصبح غير مقاوم لبيئته، ولعمله، ولممارسة سلوكياته، وعاداته مع ابناء جنسه في المجتمع .
السكن في منازل ذات ظروف معيشية رديئة، ولا تملك أي مقوم من مقومات العيش الصحي، والمطابق لمواصفات السكن من شأن كل ذلك أن ينعكس سلباً على الظروف الصحية الخاصة بالجسد داخلياً وخارجيا، داخلياً فيما يظهر بالجسد نتيجة الظروف غير الملائمة، من علامات تشير إلى ضيق الحال وتعكر الحالة النفسية وعلامات مرضية ربما أخرى . *(21)
العامل الثاني : اللغة وهي العامل الأهم والذي يمكن أن نميز على أساسه كل أصناف البشر، والتي لا يمكن لها أن تتدوال، وتظهر جسد الإنسان والمتمثل بفمه وعن طريق اللسان؛ إذ نلاحظ أن الفرد يتكلم بلسانه، ويظهر حركات على وجهه عندما يتكلم بلغة معينة، وعندما يتكلم بلغة أخرى تتغير بعض تقاسيم وجهه، وكذلك الحال مع اللغات الأخرى .
وقد ولدَّت الأحياء العشوائية حالة من الارتباك اللغوي الذي جاء عبارة عن خليط من العامية الرديئة والألفاظ النابية ولغة الطنين التي لا تحمل أي معنى Buzz Word الذي بدى واضحا في لغة الشارع، ولافتات المحلات .
ثم كان العامل الثالث : «ثقافة الفقر» باعتبارها ثقافة «جنينية» تبلورت في العشوائيات، ومساكن الصفيح، وسكنى القبور، والسطوح لتصبح إحدي «الثقافات الفرعية» التي انتجت «أغاني المهرجانات»، و«أفراح الجمعيات»، ووظفت «العنف الأناني» و«البلطجة» ليصبحا من آليات الضبط الاجتماعي.
***
هذا الكتاب مقدمة إجمالية لدراسة موسوعية تتجاوز حدود التخصصات، وتتخطاها إلى الفضاء المعرفي الواسع بمختلف معطياته، ووسائطه المتداخلة في مقاربة بين المادي، وغير المادي من دوافع «التغيير الاجتماعي» من خلال البحث في ثالوث العلاقات الوثيقة بين العمران الذي لا يتكلم لغة أهله وفساده وتشوهاته في المجال البصري الواسع باعتباره جملة بصرية مفيدة تصب في خطاب يغذي حالة الارتباك اللساني بنتوءات لفظية تعبر عن سياقات اجتماعية مختلة تدعم التدهور الثقافي المتمثل في «ثقافة الفقر» التي حولت المواطن المصري إلى مسخ من «هجين ثقافي» يعيش على هوامش ثقافتين ومجتمعين، لكنه ليس عضواً كاملاً في أحدهما؛ فالهامشية ثقافة فرعية تختلف عن الثقافة المهيمنة.. يرى بعض الأنثروبولوجيين أن الجماعات الهامشية هى جماعات قبلت قيم الثقافة المهيمنة لكنها عجزت عن وسائل تحقيقها، أو منعت من ذلك بفعل عوامل الاستبعاد الاجتماعي، وأعراض «التفكك الاجتماعي»، وضعف «آليات الضبط الاجتماعي»، وأثارها التي خلفت «مجتمع الفُرجة»، وصناعة «الإنسان ذو البعد الواحد» .
التلوث البصري ليس مقصوراً على المدينة فقط بكل تشوهاتها من تجاور أنماط معمارية متناقضة إلي تشويه الرؤية البصرية بالعديد من اللافتات، والإعلانات بالإضافة إلي الاستخدام المبهر للأضواء، والألوان، والأشكال؛ فالتلوث البصري في الريف يعد من أبشع أنواع التلوث الناتج عن تنافر الأشكال، والألوان، ومواد البناء، وتراكم المخلفات الزراعية من الحطب والقش وروث البهائم والقمامة، والأسمدة العضوية التي صار التخلص منها عبء بعد الإسراف في استخدام الأسمدة الكيماوية، ومن أهم أشكال التلوث البصري في الريفي تدهور البيئة الطبيعية، وتجريف الأرض، والتصحر، واختفاء المعالم المميزة للبيئة الريفية.
.. تؤكد الأبحاث الطبية على أثر المؤثرات البصرية على الانفعالات التي تنتج عن رؤية «مؤثر بصري سلبي»، وهي عبارة عن إزدياد في إفراز مادة الأدرينالين، وهى المادة الهرمونية التي تفرزها الغدة النخامية مترجمة بذلك ما رأته العينان وأرسله المخ – فتستحث الغدة النخامية لتفرز الهرمون الذي يرفع بدوره من زيادة حموضة المعدة، ويرفع مستوى ضربات القلب، وبالتالي سرعة الانفعال كما قد تؤدى رؤية «مؤثر بصري إيجابي» بالشعور بالجمال، وبالتالي إلى زيادة إفراز مادة الكورتيزون في الجسم الذي يقلل من الإحساس بآلام الجسم أو مفاصله، ولاسيما لمن يعانون من أمراض الروماتيزم، وبالتالي يؤدى إلى الشعور بالراحة والهدوء النفسي.
.. وهو ما يفسر لماذا زادت مساحة العدوانية والسلوكيات الحادة بين مجتمعاتنا، وبخاصة بالمناطق العشوائية، والشعبية المكتظة بالسكان، وبالمؤثرات البصرية السلبية عنها في المناطق المخططة والجديدة التي تتمتع بقدر من المؤثرات البصرية الإيجابية؛ فالجمال هو الإدراك للعلاقات المريحة التي يستجيب لها الإنسان في شتى العناصر سواء أكانت متوفرة في الطبيعة، أو كانت من صنع الإنسان، وأن الإدراك البصري يعنى كيفية تمييز، واكتشاف جميع التفاصيل لعناصر البيئة المحيطة بنا.
***
يحاول الكتاب أن يقدم تفسيرًا لعدد من الظواهر التي باتت اليوم علامة واضحة، ومؤشرًا دالًّا على «الباثولوجيا الاجتماعية»، وعلى «تشوهات حياتنا المدنية» التي تعتبر نتيجة طبيعية لـ «التحضر الرث» دون تخطيط أو تفكير.
ياسر بكر
الأسكندرية ـ 1 أبريل 2021
الفصل الأول :
ـــــــــــــــــــــــ
العمران .. اللغة ..الثقافة
.. وتشكيل العقل المصري
.. «التحضر الرث» هو التحضر الناجم عن العمران المتخلف بكل ما يحمله من تلوثات الأنساق البصرية، وتشوهات مجالية على مستوى «الهوية العمرانية»، واغتراباً، وتفككاً لغوياً، واضطراباً تواصلياً على مستوى «الهوية اللسانية» عبر أساليب الخطاب المبتذلة، وشيوع «ثقافة الفقر» بما تحمله من «انحطاط سلوكي»، وعنف، وتمييز، وعنصرية، وغش، واستغلال في حيز مكاني قذر يفتقد إلى ثقافة معمارية قائمة على هندسة ملئ الفراغ بالجمال، ويفتقر إلى الخدمات الحضارية التي تقوم عليها دعائم الحياة الإنسانية الكريمة من المسكن الصحي اللائق، والنظيف، والأنيق، والمُرَّفق بخدمات الصرف الصحي، والكهرباء، والمياه النقية الصالحة للشرب، وأن تكون تلك المرافق قادرة على أداء وظائفها بكفأة، وفاعلية .
.. ويعاني ذلك الحيز العمراني القذر من الزحام الشديد والفقر بما يجعله يطور نسقاً مضطربا من العلاقات الاجتماعية بين سكانه من ناحية، وسكان الأحياء الأفضل حالاً من ناحية أخرى، بحيث يقع ساكنوا هذه الأحياء القذرة ضحية للظروف السكنية القاسية واللا إنسانية؛ مما يؤدي إلى أمراض اجتماعية متعددة تؤدي إلى الانحراف والجريمة؛ بما يعنى أن تصبح هذه المجتمعات تعاني العديد من الأزمات أهمها «أزمة نسق القيم» .*(1)
.. يطلق إدريس مقبول على «أزمة نسق القيم» مُسمى : «آلة المشاعر السوداء»؛ ذلك أن المدينة العربية الحديثة ـ من وجهة نظره ـ تصنع المتناقضات السخيفة، وتستفيد منها وتتغذى عليها؛ فـ «وراء كل الأوضاع المختلة»، وغير الطبيعية، أكداس من مشاعر الغضب، والحقد على النازحين إلى المدن؛ لكونهم من وجهة نظر سكان المدن سبب كل آلام المدينة، وأوجاعها، وأمراضها، وفاقتها، وتسري هذه المشاعر الهوجاء، والسوداء في شرايين المدينة، تلاحق ضحاياها في جميع الهوامش، والأطراف، وعند الملتقيات كلها، وتسبب جروحاً غائرة، وتمحو بقايا الشعور بالانتماء إلى المكان، وتذكّرالنازحين بأنهم غرباء باستمرار، ولو حازوا بطاقات هوية، وشهادات سكنى في أحد أحياء المدينة التي تستثقلهم.*(2)
يلخص مقبول أوجاع المدينة فيما أسماه «باثولوجيا التمدن»، أي مرض التمدن، الذي يتمثل من وجهة نظره في أزمة العمارة بسبب دخول فن العمارة الغربية، وظهور ألسنة جديدة (الناطقين بالإنكليزية)، وانتشار العامية الرديئة بشكل أكبر، ما تسبب في انهيار المشهد المعماري العربي الأصيل .
.. يفضل د. محمد الشاهد في أطروحته بعنوان : «الحداثة الثورية*(3) .. العمارة، وسياسات التغيير في مصر 1936 ـ 1967» أن يطلق على التحضير الواسع في المجتمع المصري في منتصف القرن العشرين مسمى:«المكان المصري» بدلا من من لفظة «العمران» للتعبير عن مفهوم عمارة المكان ذلك الاتجاة الذي ركز على انتماء العمارة للسياق المكاني بمؤثراته الطبيعية والحضارية التاريخية من جهة، والنتاج المعماري والإنسان الشاغل لذلك المكان من جهة أخرى، والتي وصفها تشارلز جنكس Charles Jencks على أنها آلية، أو صيغة للتعامل مع النتاج؛ ولما كانت البلاد تمر به من تغيير سياسي بعد انقلاب 23 يوليو 1952، والانتقال السياسي من الملكية إلى الجمهورية العسكرية Stratocracy بما أسهم بقصد أو بغير قصد في سياسات الشارع، والتغيير السياسي، وبناء الذوات، والهوية المصرية الحديثة حين زعم نظام الحكم أنه نظام ثوري، واتخذ من من العمارة محاولة للإستجابة للحاجة الملحة للتنمية، وليدلل على حداثته !!، وأن يبرز التغيرات المعمارية، والحضرية لما بعد الكلونيالية!! دون فهم تلك المساحات التي تقدم منظوراً لما أطلق عليه بول رينبو : «الحداثة الوسيطة»، وهي الأرض التي ندر البحث فيها، والتي تقع بين الثقافة العليا، والحياة العادية في ايقاعها التقليدي.
.. مصطلح «المكان المصري» بما يشغله من حيز عمراني بما يعني المادية المناسبة للحياة الحضرية في مواجهة السياسة، والثقافة الوطنيتين حسبما يؤكد مشيل فوكو: «عصرنا هو عصر يتخذ فيه المكان لنا شكل العلاقات بين المواضع.».*(4)
.. وهو ما أطلق عليه د. عبد الوهاب المسيري في أطروحته بعنوان : «فقة التحيز» مفهوم «إنتاج المكان»، ومنطق تولد العلاقات الإنسانيه التي تنسج وتتشابك خلاله .
يرى د. المسيري أن العمارة نتاج مادي، ولكنه شديد التعقيد، والتركيب، ومحمل بالصفات، والعلاقات الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية بالإضافة إلى القيم الجمالية، والتشكيلية بما يجعلها مرآة للحضارة الإنسانية بما يتطلب نموذجاً مركباً لتفسيرها وفهمها. *(5)
.. وهذا النموذج المركب للتفسير، والفهم يستلزم قراءة عابرة لتخصصات أمراض المدينة، وتلتزم قدراً أكبر من الجرأة، وقدراً أقل من الانغلاق في تجاوزها حدود القطاعات المعرفية الصارمة، وفي مقاربتها المادي وغير المادي من أعراض «مرض التمدن» الناجم عن عدم الانسجام، والتفكك في الفضاء المدني، من أجل بحث العلاقة بين اللساني والاجتماعي؛ فإذا كانت اللغة طريقة تواصلنا واتصالنا بالآخر؛ أي التعبير الأولي عن كياننا الرمزي والثقافي، فإن العمارة هى المعترك الذي تتجسد فيه خيالاتنا، فوجودنا المادي (العمارة) لا يقل أهميةً عن وجودنا الرمزي (اللغة). .. للمدن لغتها، والتواصل داخل المدينة نشاط إنساني يتميز بقدر من التعقيد، وبما يحمله من نسق من حياة «العلامات السيمائية» التي تخفي في كثير من الأحيان خلاف ما تظهر، وتتكلم عمرانياً عن أشياء تحجبها من أمور السياسة والاقتصاد والاجتماع!!
.. لم يكن لضباط انقلاب يوليو 1952 الذين اندفعوا برعونة إلى سدة الحكم بقوة السلاح، وتصدروا واجهة المشهد في مصر قدر من المعرفة أو الثقافة سوى مجموعة المعارف البسيطة التي وفرتها الثقافة المتاحة لطلاب المدارس الثانوية العامة آنذاك!!؛ فدفعوا بالبلاد إلى «كارثة» التغريب، وفقدان الهوية، وطمس السجل التاريخي المعماري المصري، وأصبح التغريب مبدأ يرمز إلى التقدم والتطور، وأصبحت العمارة المصرية فاقدة لهويتها من خلال فقدانها لمقوماتها النابعة من القيم الإسلامية، والمعبرة عن البيئة الطبيعية، والاجتماعية وحتى المناخية بعدما أولت الدولة اهتماما كبيرا لتوفير مسكن حكومي (المساكن الشعبية ـ حزام المدن الجديدة حول القاهرة) لطبقة محدودي الدخل يلائم إمكانياتهم بالبناء خارج المدن لتوفير مسكن منخفض التكاليف، وقد اعتمدت طرق تجميع البلوكات السكنية على توفير أكبر عدد ممكن من الوحدات السكنية؛ فكانت النتيجة بلوكات جاءت في ترتيب تكراري متوازي ممل ليس له هوية محددة، وبعدت العمارة السكنية عن استخدام وتطوير الطابع التقليدي للعمارة المتوارثة؛ بما يلائم احتياجات ومتطلبات الأسر، وبما يتوافق مع التغيرات التي حدثت لها؛ لأن بعض أدعياء الفكر يعتبرون أن العمارة التراثية تمثل تخلفا عن المعاصرة؛ لذلك يحاولون البعد عنها، واللحاق بركب الغربية لأنها – من وجهة نظرهم - ترمز إلى التقدم، والحداثة.
«الحداثة»، وما بعد «الحداثة» :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يرى بعض المفكرين أن زمن ما بعد الحداثة هو زمن «استحالة التحديد»، ومن هنا يظهر أن مصطلح ما بعد الحداثة مصطلح مناهض للتحديد ومتمرد على كل تأطير .. ظهر مصطلح الحداثة سنة 1879، وكان أول من استخدمة ج. ك.هيسمانز J.K. Huysmans، ووظفه ر. بنويتز R.Pannwitz قبل الحرب العالمية الأولى في كتابه : «أزمة الثقافة الأوربية»، كما يعود الفضل إلى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي سنة 1947في كتابة «دراسات تاريخية» إلى إعادة المصطلح حيث وصف المجتمع الغربي باللا عقلانية، والفوضوية واللا معيارية، وذلك بسبب افول دور البرجوازية في التحكم بتطور الرأسمالية الغربية منذ نهاية القرن 19، وحلول الطبقة العاملة الصناعية محلها، وهو ما رآه انقلابا بل انحطاطاً للقيم البرجوازية التقليدية .
وانتشر المصطلح في الأدب الأمريكي في الستينيات، والسبعينيات من القرن العشرين، وأصبح مقبولا في عدد من المجالات المعرفية، وخاصة في الهندسة المعمارية حيث يقول المعماري الأمريكي تشارلز جنكس Charles Jencks في كتابة بعنوان :«لغة العمارة في ما بعد الحداثة» الصادر سنة 1997: «إن الهندسة المعمارية الحديثة قد ماتت في سان لويس بولاية ميسوري يوم 15 يوليو 1972 في الساعة 3,32 تاريخ تفجير العمارة الوظيفية».*(6) عندما أصبحت العمارة التفكيكيه deconstruction architecture هي الاتجاه الأكاديمي الرسمي في بعض أقسام العمارة والأدب والفن في الجامعات الأمريكية .
النقل والاستنساخ :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
استنسخت حكومة ضباط يوليو 1952 نماذج معمارية شائه لحل مشكلة الإسكان دون وعي بما يحدثه النقل، والاستنساخ من اختراق للثقافة المحلية، واستلاب لفكرها الفعال؛ بما أفسد البيئة، وفاقم من تلوثها بتكتلات خرسانية لا تتفق مع طبيعة المناخ الحار، وأفقد العمارة وظيفتها الحوارية، وأصبحت معالم العمارة مادة جامدة بلا حياة، وبلا حس إنساني، وأفقد المواطن أداة التعامل الحسي مع الأخر، وأصابته ببلادة الفكر؛ وأفسدت الحوار المتبادل الذي يؤمن التماسك الاجتماعي .
وبأسلوب النقل بدون فهم أن العمارة تؤلف مقوماً متأصلا في سلوكيات الفرد مع البيئة الاجتماعية المتمثلة في المسكن، ودور العبادة، وبنيايات الحكم، والسوق، وغيرها من بنى أخرى، أى أنها أساس في تفعيل القدرات الحسية البصرية، والوجدانية في معيشته اليومية، إضافة إلى وظيفتها كأداة ترضي الحاجة النفعية؛ فهى أداة فعالة في الحوار العاطفي، والوئامي في تكوين العاطفة الجمعية للمجتمع، وبقدر ما يسخر فكر المجتمع العمارة في إفعال حوار جمعي، وصحي، وشفاف بين مختلف أفراد الجماعة، بقدر ما تكون أداة فعالة في تحقيق تماسك اجتماعي صحي.
استنساخ تجربة مارشال :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. كان من بين النماذج التي تم استنساخها مشروع مارشال في إقامة (المساكن الشعبية والمدن الجديدة)، وهو المشروع الاقتصادي لإعادة تعمير أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية الذي وضعه الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي أثناء الحرب العالمية الثانية، ووزير الخارجية الأميركي منذ يناير 1947، والذي أعلنه بنفسه في 5 يونيو 1947 في خطاب امام جامعة هارفارد عبر إقامة بنايات تحتوي على عدد من الشقق السكنية لحل أزمة الإسكان انتشرت في كل المدن، والقرى التي سرعان ما ظهرت نتائجه الكارثية؛ مما حدا بالدول المتقدمة إلى منع إنشاء هذه النوعية من المشاريع إلا ضمن ضوابط معينة؛ لأن الدراسات والأبحاث أثبتت فشل هذا النوع من الإسكان لاسباب عديدة منها أنها تسبب خلل في البيئة العمرانية نتيجة تفكك النسيج العمراني، وعم توفر الخصوصية، وارتفاع معدلات الجريمة، وانعدام العلاقة بين الجيران، وزيادة المشاكل بينهم، .. ولم يتوقف المسئولون في مصر عن إقامة نمط العمارة المستنسخة من تجارب الغير بما يتناقض مع واقعنا، واستبدال قيمنا، ومفاهيمنا الأصلية بنماذج مستوردة!!
.. كان الخط الفاصل بين المعماري، والجنرال العسكري مشوشاً في ذلك الوقت، وقد انتج ذلك النهج المعماري الشائه مدن خالية من السكان، وصارت مأوى للصوص، والشواذ الذين يبحثون عن ملاذات آمنة لممارسة أفعالهم بعيداً عن عيون الرقباء، والمجرمين، والخارجين على القانون، والمشردين .
.. ومع تزايد أعداد المهاجرين من الريف طمعاً في اقتناص الفرص التي أعلنت عنها آلة الدعاية التي قام بها انقلاب يوليو 1952 المتحكم في وسائل الدعاية، والإرشاد زادت أعداد لمهاجرين من الريف باعتبارها قوة للعمل الشاق في صفوف الرجال، أو الرخيص في صفوف النساء .
سكان السطوح و«القرافات» :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما ظهرت على السطح مأساة «سكان السطوح»، و«القرافات» وهي مأساة إنسانية أو مأساة «تناصية» بلغة اللسانيات حيث يدخل «نص الحياة» ليتشابك مع «نص الموت»؛ فيشكلان تراجيديا هي بالمنظور الإنساني مأساة بكل المقاييس نتيجة إفلاس السياسات وموت الضمير، وهى ظاهرة حملت معها تحلل البنى الإدراكية لأعظم فكرة في الوجود فكرة الحياة، والموت، وسقوط جدار القدسية الذي كان يلف الموت عبر الزمن، وابتذالاً واضحاً لحرمة الموتى.
.. في تقرير الأمم المتحدة عن سكان المقابر عن ثلاث حالات من دول عربية هى: مصر (سكان المقابر في مدينة القاهرة)، وتونس (سكان ولايات القصرين والقيروان وسيدي بوزيد في إقليم الوسط الغربي)، ولبنان (سكان حي التبانة في مدينة طرابلس) .. يؤكد التقرير أن القاهرة تعد من أكثر المحافظات لا مساواة من حيث تقديم الخدمات الأساسية والعامة، ونتيجة لذلك تزداد اللا مساوة المكانية سواء في منطقة المقاير حيث يفتقر السكان إلى خدمات الصحة والتعليم، والسكن، ويؤدي أغلب سكان المقابر أعمال هامشية في القطاع غير الرسمي أو الموسمي أو اليومي بالإضافة إلى الوصمة الاجتماعية التي تلحق بهم لكونهم من سكان المقابر، وانعدام الأمان، والخوف الدائم لدى السواد الأعظم منهم، وإلى تعميق التفاوت واللامساواة الاجتماعية التي يعانون منها.*(7)
.. في حالة مصر يفند التقرير وضع سكان المقابر الذين يتجاوز عددهم ١.٥ مليون نسمة، ويرصد التقرير المحاولات الحكومية المتكررة لاستقطاب هذه الشريحة دون الوصول إلى تحسين أوضاعها، أو إخراج السكان من الفقر المدقع إلى مواقع أفضل في سلم التطور الاجتماعي، ويفصّل التقرير الأشكال المتعددة للسكن في المقابر حيث يلعب العامل الجغرافي دور أساسياً في تحديد شكل السكن، وبالتالي مستوى المشاركة، والقدرة على نيل الحقوق؛ فالسكن المتداخل، والسكن في أحواش المقابر، وفي الجبانات دور في تحديد الأوضاع الاقتصادية، والمهنية لهؤلاء السكان .*(8)
الترييف :
ــــــــــــــــ
.. وبدأ اكتساح القيم الريفية للمجال الحضري في المدينة الذي بدا واضحاً في الحضور التواصلي الصادم لصورة الريف في السياق والمقام الحضري من أسواق، وحظائر لتربية الحيوانات داخل النسيج العمراني للمدينة الحديثة إضافة إلى البطالة التي دفعت كثير من المهاجرين الريفيين إلى نقل أدواتهم الثقافية وانساقهم التواصلية، وركام أشيائهم، وصنائعهم وعرباتهم المجرورة، وحرفهم إلى عقر المدينة الحديثة، والتجول بوسائل نقلهم الريفية في قلب المدينة العربية الحديثة مع ما يصاحب ذلك من انتشار أسواق فوضوية لا تخضع لأي نظام أو تهيئة مسبقة بما يعكس اختلالاً صارخاً بين «الإنسان» و«الوظيفة» في المدينة هو ما يطلق علية بعض علماء الأنثروبولوجيا «التحضر المُفرط» الذي باتت عليه بعض المدن كما يعكس انفجاراً يومياً، وإدانة مستمرة لسياسة التخطيط العمراني في العالم العربي لتصبح شاهدة على «المدينة الظالمة» حيث المساكن الصفيحية التي تشخص التفاوت الطبقي، والصراع الاجتماعي، وافتقار الناس البسطاء إلى أبسط حقوق الإنسان في حياة يصبح فيها «الصفيح لسانا ناطقاً في نقل المأساة الإنسانية» للساكن على حافة المدينة، وفي شقوقها حيث يتضاعف البؤس مضروباً في الشعور بالحرمان بما جعل الفئة المهاجرة إلى فضاء المدينة تئن تحت وطأة نظام من العلامات الاجتماعية المدينية التي تكدس البشر في مدن الصفيح حيث لا رحمة، ولا شفقة، ولا أخوة بل إجرام في وسط ناس أنانيون يجهل بعضهم بعضاً، وسط انحلت فيه الأسرة، وقست فيه القلوب، وعزت فيه المشاعر، وقلت فيه العواطف الحانية .. وسط لم يختر هامشيته برغبته بل أن المدينة القاسية تفرض عليهم هامشيتهم، وتتولى طحنهم، وتدخلهم في «زمن مضطرب» يفقد فيه عناصر فطرته، وأصالته، وانتمائه، ومعها يفقد بعض من حريته لمصلحة إكراهات المدينة وضغوطها .
يؤكد تقرير الأمم المتحدة أن عدد سكان العالم الذين يعيشون في المناطق الحضرية لأول مرة صار أكثر من نصف سكان العالم في عام ٢٠١٠، وتمشيا مع هذا الاتجاه تشير التقديرات إلى أنه بحلول عام ٢٠٥٠ ستصبح المناطق الحضرية مأوى لأكثر ثلثي البشر، ويصبح التحدي الرئيسي هو التمدد الحضري العشوائي، وعدم وجود بنية تحتية، ونفاد الموارد، والتدهور البيئي، وخطر الكوارث الطبيعية .*(9)
يرى مايك ديفيس Mike Davis في كتابة بعنوان : «كوكب العشش Planet of Slums» أن العالم يتجه نحو انفجار بسبب عدم التكافؤ في المناطق الحضرية بسبب تزايد عدد سكان العشش، ويؤكد ديفيس أن الفرص تكاد تكون معدومة أمام الفقراء لأن هؤلاء الفقراء خارج الاقتصاد العالمي، ويقتاتون على الفتات، وأن قوى الاستغلال تتولى خداعهم عبر امتلاكها لوسائل الدعاية، وقنوات الإعلام بشعارات مكذوبة عن الانسانية والحرية .
نظرية المتصل الحضري :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يرجع صياغة مصطلح : «المتصل الحضري» إلى عالم الأنثروبولوجيا روبرت ردفيلد Robert Redfield، وقد جاء بناء على تصوره أن المجتمعات تتحول عبر متصل يمثل أحد طرفيه مجتمع الفولك (الحشود الكثيفة التي يصعب إحصائها)، وتمثل كل مرحلة من المتصل درجة من مراحل التطور ويمثل الطرف الأخر للمتصل المجتمع الحضري.
تستند فكرة المتصل الحضري من الناحية النظرية عل افتراضين أساسيين :
١ ـ أن المجتمعات المحلية تتدرج بشكل مستمر من الريفية إلى الحضرية وفقاً لعدد من الخصائص أهمها ازدياد حجم المجتمع بشرياً وعمرانيا.
٢ ـ أن هذا التدرج يصاحبه اختلافات، وفروق في أنماط السلوك.
التفرقة بين المجتمع الريفي والحضري في البلدان العربية له مبرراته؛ فهو من أثار التخلف؛ فكلما ارتقت المجتمعات، وارتفع مستواها الاقتصادي والاجتماعي، والتكنولوجي قلت الفروق فيها بين المدينة، والريف .*(10)
المشروع الحضارى العربى :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد حرب أكتوبر دارت مناقشات فى إطار لجنة «التعمير الحضاري» التى شكلها الأستاذ محمد حسنين هيكل فى مؤسسة الأهرام، وكان الهدف منها هو دراسة المشروع الحضارى العربى، ومستقبله بعد الانتصار الذى حققته الأمة العربية نتيجة لتوحيد الجهود العسكرية والاقتصادية وكانت اللجنة تضم: محمد حسنين هيكل، ود. محمود فوزى، ود. زكى نجيب محمود، ود.حسين فوزى، ود. لويس عوض، ود. جميل مطر، ود. عبد الوهاب المسيرى، والأستاذين توفيق الحكيم، وأحمد بهاء الدين.
كانت توجهات أغلب أعضاء اللجنة من الصهاينة المصريين (د.محمود فوزى ـ د. زكى نجيب محمود ـ د.حسين فوزى ـ د. لويس عوض ـ توفيق الحكيم) محسومة بحكم علاقاتهم الوثيقة بالكيان الصهيونى، وزيارتهم لعصاباته قبل إعلان دولة الكيان الصهيونى فى 15 مايو 1948، وكان هذا الاتجاه يتبنى رأى أنه لا خلاص للعرب إلا بتبنى الحضارة الغربية وقيمها، وأن النموذج الغربى للتنمية جدير بالتبنى بأكمله، وأنه لا يوجد نموذج بديل، وأن على العرب أن ينسوا تراثهم وتاريخهم، وأن يحذو حذو أوربا فى كل شيء؛ فالتحديث فى رأى هؤلاء فى واقع الأمر هو التغريب، أى اتباع أساليب الغرب فى التفكير والسلوك والتنمية بحلوه ومره !!
وطرح توفيق الحكيم النموذج الصهيونى، وعبر عن إعجابه به باعتباره جزءاً من النموذج الغربى، وحكى تجربته عن زيارته للجامعة العبرية فى أثناء حكم الانتداب البريطاني!!
وتابع د. حسين فوزى التعبير عن إعجابه بالنموذج الصهيونى، وحكى ذكرياته عن زيارته للجامعة العبرية بصحبة طه حسين سنة 1944، وكيف نصحهما د. محمود فوزى سفير مصر فى فلسطين آنذاك بإخفاء خبر تلك الزيارة !!
كانت الأسانيد التى يسوقها الصهاينة المصريون للتطبيع مع دولة الكيان الصهيونى هى نفس الأسانيد التى ساقها أسلافهم من الماسون للانفتاح على حضارة الغرب فى القرن 19!!
بينما طرح د. عبد الوهاب المسيرى، والأستاذ أحمد بهاء الدين ضرورة أن نتحفظ فى استيرادنا للأنماط الحضارية الغربية حتى نحتفظ بهويتنا، وأنه لا يجوز الترويج للنموذج دون فهم أصوله، وأسباب نجاحه المزعوم، ومدى إمكانية استمرار هذا النجاح عبر الزمان؛ فالحضارة الغربية قد قامت على احتلال أرض الغير، وقمعه، ونهب ثرواته، وانتهاج سياسات تؤدى إلى استمرار تخلفه، وتحول دون تحديثه أو لحاقه بركب الديمقراطية، وإسرائيل التى يعتبرها (د. محمود فوزى ـ د. زكى نجيب محمود ـ د.حسين فوزى ـ د. لويس عوض ـ توفيق الحكيم) نموذجاً للحضارة الغربية يجب أن يحتذى فى شرقنا العربي؛ فدولة الكيان الصهيونى على أرض فلسطين دولة قامت على أرض الآخرين، ولا تستمد شرعيتها من العقل أو أى قيم نبيلة، وإنما من منطق القوة وشريعة الغاب .
واحتدم النقاش حول «المشروع الحضارى العربي» بين دعاة التغريب والصهينة، ودعاة إعادة النظر فيها، وتعميق الحفائر المعرفية للوصول إلى الأصوب، ورؤية الأمور بشكل نقدى يصدر عن إدراك لأهمية التراث والهوية؛ ولم تتقارب وجهات النظر .
***
وقرر الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس اللجنة عقد مؤتمر لدراسة مستقبل «المشروع الحضارى العربي».. لكن هذا المؤتمر لم يعقد بسبب خروج هيكل من الأهرام فى 2 فبراير 1974.*(11)
***
.. وكان للسلوك العشوائي في التعامل مع النسق المعماري المشوة من بداياته أثره على مسخ شكل الوحدة السكنية، وعناصرها حيث يحاول الساكن مواجهة احتياجاته المعيشية المتزايدة في مسكنه عن طريق استخدام بعض الأساليب ـ مثل ضم الشرفات، إضافة غرفة جديدة، فتح نوافذ، إنشاء عشش للدجاج لتأمين الاحتياجات المنزلية من الغذاء - أدت هذه الأساليب إلى تغيير شكل الواجهات، وضياع الملامح المعمارية التي يمكن أن تؤدي إلى نمط معماري متميز، إضافة إلى ستائر الشرفات القذرة بما تحملة من الأتربة، والهباب، ومناشر الغسيل، وأجهزة مكيفات الهواء، والأطباق اللاقطة لإشارات البث الفضائي.
.. ومع تحول البلاد إلى سياسة الانفتاح الاقتصادي ظهر نظام التمليك في الإسكان لتغطية احتياجات طبقة معينة من السكان، وقد أدى نظام البيع بدون تشطيب إلى أن قام كل مالك بتشطيبها بطريقة تناسب إمكانياته المادية، محاولا بذلك إيجاد نمط يميز وحداته؛ فأصبحت كل وحدة في المبنى لها شكلا مختلفا عن الإطار العام للتصميم المعماري للمبنى، وتحول المبنى إلى كرنفال للألوان، واستخدام مواد بناء متنافرة غير متجانسة بالإضافة إلى أنماط غريبة من العمارة مثل المباني سابقة التجهيز، والمباني ذات الواجهات الزجاجية !!.
.. وفي تلك الأحياء القذرة يسبب الزحام حالة من الإجهاد السيكولوجي بما يجعل البشر يشعرون أنهم في «زمن التوتر»، وأن المدينة أصبحت أشبة بـ «التجمعات المرضية»؛ بما تحمله من الإحساس بالإرهاق، والتوتر المتنامي إلى جانب الفوضى، والانحرافات السلوكية، والافتقار إلى الشروط الصحية من حيث النظافة، والتهوية، والمناخ، ودرجة الحرارة، والرطوبة، وتأثيرها في تصعيد السلوك العدواني، حيث يؤدي الازدحام وضيق المكان إلى الإرهاق، والتوتر، والصراع، والرغبة في الهروب من المنزل، والنزاع المستمر بين أفراد الأسرة لنقص الإمكانيات، وتضارب المصالح الذي يبدو في صورة عنف يتحول إلى حالة من «الانحطاط السلوكي» اليومي .*(12)
استعرض د. محمد الجوهري بعض الأبعاد الاجتماعية للزحام في الأحياء السكنية الفقيرة، وأثر الزحام في تشكيل بعض القيم، والممارسات السلوكية الناتجة عن الفقر، والعوذ، والحاجة، والضرورة .*(13)
من وجهة نظر علم النفس العمراني يعتبر «السكن الاجتماعي» و«السكن الوظيفي» يعدان نموذجان لتدهور العمارة العربية التي باتت مشوهة؛ لأن هذا النوع من «العرض العمراني» أو السكني ليس في النهاية سوى مجموعة من الصناديق الأسمنتية الضيقة الخالية من أي تعبير ثقافي أو لمسة جمالية (عبارة عن مراقد فقط)؛ إنه السكن الفقير ثقافياً ودلالياً، والذي لا يمكن أن يعيش فيه الإنسان حميميته، ولا أن يستوحي، أو يستمد من خلاله أي معنى، وأيضا لا يمكن أن يتواصل فيه مع غيره بضرب من الخصوصية حيث بات يكشف ما يجرى داخله بوضوح ودون عناء؛ إنه شفاف يهدم جدار الخصوصية، ومغشوش إلى درجة «الإقراف»، بالإضافة إلى الغش نجد الجشع، والفساد الإداري والمالي لمؤسسات التهيئة المجالية والقارية في كثير من المدن، والذي ليس إلا جزء من فساد سياسي تقودة طبقة الرعاع السياسي الذين يصف واسينى الأعرج صعودهم : (صعود الرعاع الذي يعني صعود القيم الميتة) *(14).
.. والغش لا يتوقف عند حدود البناء الذي يفتقر إلى أساسيات التشكيل وجمالياته، وإنما يمتد إلى تزوير الملامح الحضارية للمدينة !!؛ فالغش قيمة تتوارى خلف البنية العمرانية في المدينة العربية عموماً، وهو لا يتوقف عند حدود البناء الذي يفتقر إلى أساسيات التشكيل وجمالياته، وإنما يستمر إلى تزوير الملامح الحضارية للمدينة بتغيير (الدوال)*(15)، ففي كثير من المدن العربية الحديثة يجري عبر عمليات «التجيويت العمراني» بتسويق أحياء شبيهة بالجيتوهات المغلقة، والمستوطنات، ولم يتغير المحتوي (المدلول العمراني) بتغيير التسمية عن مدائن الأثرياء المسيجة بالأسوار، وأبراج الحراسة، والبوابات الالكترونية، والكمبوندات التي تحمل أسماء مبهجة بما يخالف طبيعتها، وتعتمد على مغازلة العواطف، وإثارة نعرات التميز التي تحاول توظيفها في خدمة أطروحات إلحاقية مثل «الدارونية الاجتماعية»، وتكريس ثقافة الطبقية Culture of Classism بما تفرضة من اصطفاء غير أخلاقي مثل : مدينة الزهور .. حي الأمل .. مدينة الفردوس .. منتجع الحرية .. مدينة النور .. أرض الأحلام .. مدينتي!!
«ثقافة الفقر» :
ـــــــــــــــــــــــــ
منذ أن ألقى الباحث أوسكار لويس الضوء على مصطلح «ثقافة الفقر Culture of Poverty» في الستينيات من القرن الماضي، حيث قام بملاحظة بعض الاسر الفقيرة في المكسيك وبورتريكو، .. ولم ينقطع اهتمام الباحثين بمفهوم «ثقافة الفقر»، ويقصد بهذا المفهوم : (أن الناس الذين يعيشون في كنف الفقر تنطبع سماتهم، وسلوكهم، وشعورهم بقيمتهم داخل المجتمع، إذ يتعدى الأمر مسألة الحرمان إلى الجريمة، الإدمان وفقدان القدرة على الحراك الاجتماعي…).
هذه السلوكيات وإن كانت تجعل الفقراء يتعايشون مع فقرهم بشكل ما، وإلى حد ما، إلا أنها تعمل مع الزمن على تكريس فقرهم، واستنبات «ثقافة الفقر» لدى الأفراد والأسرة والمجتمع .. هذه الثقافة التي يرى بعض علماء الانتروبولوجيا أنها: «ثقافة فرعية تنتقل من جيل إلى جيل مع مسارات العائلة، موضحين أنها تتجاوز الاختلافات الإقليمية، والقومية قائلين بأن لها أوجه شبه مشتركة بين الدول تتجسد في بنية العائلة، وهي في نظرهم تكيفات عامة لمشاكل عامة».
ويَتصف الأفراد المتشربين للثقافة الفرعية للفقر بمستوى طموحٍ منخفض وبانصياعهم للقدرية، وغياب مشاركتهم في الحياة العامة، وعدم اندماجهم في المؤسسات الأساسية للمجتمع الأكبر، وبارتفاع حالات الطلاق، والاعتماد على المرأة في الاضطلاع بمختلف مهام الأسرة بما فيها الإنفاق، وعدم الإحساس بالأمان، .. وتنتقل هذه القيم عبر الأجيال، فعندما تطفو هذه الثقافة على سطح المجتمع تؤثر في أطفاله، هؤلاء الذين يتشربون القيم، والسلوكيات الأساسية التي ينقلها لهم «وسطهم الاجتماعي»؛ فينمو إحساسهم بالعجز عن اللحاق بركب المجتمع، ليصبحوا نتيجة لذلك غير مهيئين للاستفادة من الفرص، والظروف التي قد تصَادفهم عبر مسار حياتهم.
.. ويتسم الأفراد الذين يرزحون تحت «ثقافة الفقر» بمستوى منخفض من التعليم والثقافة، كما قد ينعدم لديهم روح الانتماء؛ فهم لا ينتمون لاتحادات عمل، وليسوا أعضاء في أحزاب سياسية، دائما في حالة توجس وفقدان الثقة في الأخرين، كما أنهم فاقدوا الثقة في حكوماتهم، وينظرون بشيء من الريبة، وسوء الظن للأشخاص الذين يتولون المناصب العليا، ولديهم موقف انتقادي سلبي تجاه بُنى المؤسسات السائدة .
ويرى أوسكار لويس بأن «ثقافة الفقر» هي: تكيف، ورد فعل الفقراء على مكانتهم الهامشية في مجتمع طبقي رأسمالي قائم على الفردية، وإنها تمثل جهدا للكفاح، والتغلب على المشاكل، مع شعور بفقدان الأمل، واليأس الذي يتطور من إدراك عدم احتمال إنجاز النجاح بقيم، وأهداف المجتمع الأكبر.
إلا أن حدة تأثير «ثقافة الفقر» تختلف من مجتمع إلى آخر، فلكل مجتمع سماته التي تميزه من قيم، ومعتقدات، ومُثل تتعلق بالحياة في شتى جوانبها، والحياة السياسية كجزء هام منها خاصة القيم، والرموز الخاصة بالنظام السياسي، وكيف يفترض أن يعمل، وحول ما قد تفعله الحكومة، وحول نظرة الشعب إلى السلطة، والتزاماته إزاءها التي تشكل «الثقافة السياسية»، وهي تختلف من أمة إلى أخرى، وتكون جزءا من الوعي.
أهم ما في دراسة أوسكار لويس أنه وضع تمييزاً بين الفقير و«ثقافة الفقر»؛ فالفقر ليس مجرد الحرمان الاقتصادي، وغياب المستلزمات المادية، بل هو أسلوب حياة تعيس في محيط الطبقات الدنيا يفتقد الكرامة الإنسانية؛ وهو بذلك ثقافة متمايزة تتجاوز الحدود الإقليمية الريفية، وهي ثقافة فرعية، ووجودها مكمل للثقافة السائدة .
خلص لويس من دراسته لنتيجة مفادها أمرين هما:
1 ـ «أن للفقر ثقافة خاصة به لها عناصر مشتركة بين الفقراء أينما وجدوا، وهى تقافة تخلق نفسها بنفسها، وتنتقل من جيل لأخر عن طريق ما يعرف بالتنشئة الاجتماعية، وأكد لويس :«أن الفقراء هم المسئولون عن فقرهم والمؤيدين له».
2 ـ ثقافة الفقر لا تنتهي بانتهاء الفقر؛ فالفقر حالة تنتهي عند التخلص منه، ولكن ثقافة الفقر طريقة تفكير يصعب التخلص منها، ونجدها متمثلة عند هؤلاء ممن كانوا يعانون حياة معيشية صعبة ثم تخلصوا منها، ولكنهم مازالوا يفكرون في الفقير بنمط سلبي، وهو ما يلخصه المثل الشعبي المصري :«شبعة بعد جوعة» .
تعرضت نتائج دراسات لويس لانتقادات من قبل العديد من الأنثرو بولوجيين؛ فقد كان لويس يرى أن الفقر مرتبط بالرأسمالية بينما يرى الكثير من الأنثروبولوجيين أن الفقر يوجد في كل المجتمعات، وتحت أى ظروف، وكان من أبرز منتقديه توماس جلادوين Thomas Gladwin الذي قلل من أهمية دراسات لويس موضحاً أن الفقراء يخضعون لسيطرة، وجبروت الثقافة القومية؛ فما كان معروف في ثقافة العديد من الدول النامية أن ابن الفقير فقير، وابن الغني غني، وابن الطبيب طبيب، وابن السياسي سياسي، وهكذا بمعنى الثقافة السائدة، والمسيطرة تؤدي إلى الشعور بالإحباط، والقضاء على آمالهم، وأحلامهم بالتغيير .. إن الحرمان، وعدم تحقيق الطموحات هي القاسم المشترك بين ثقافات الفقر الفرعية .*0(16)
قدم د. محمد الجوهري تعريفاً واسعاً لـ «ثقافة الفقر»؛ فعرفها بأنها طريقة حياة لطبقة أو فئة ما في المجتمع، وهي تتضمن أسلوب تنظيم السلوك الفردي، وأوجة الحياة المختلفة، ومن بينها: العمل، نوعه، طريقته، موصفاته، مستوى الوعي الصحي، مستوى الوعي الاجتماعي، والاقتصادي والسياسي، طريقة التكيف مع الحياة المدنية، وأورد د. الجوهري بعض سمات الفقراء متمثلة في الافتقار للخصوصية، والشعور باليأس، والميل إلى التشاؤم، والهامشية، وعدم التخطيط للمستقبل، وتكرار البطالة .*(17)
«نظرية التهميش» :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
جاءت «نظرية الهامشية» لتقلل من «نظرية ثقافة الفقر»، ولتفتح المجال أمام الدراسات التي تبحث عن الأسباب الحقيقية لظاهرة الفقر، والفقر الحضري، وما يرتبط به من مشكلات اجتماعية، وقد تميزت دراسات الهامشية بالجزئية في معالجة الظاهرة، والتي تمحورت حول البؤس، والحرمان اللذين تعيشهما الطبقات الدنيا في المجتمعات؛ بما يباعد بينها وبين السبب الحقيقي للتهميش، وهو السبب الذي كشفه ستانلي أ. هيتزلر Stanly A. Hetzer في كتابه بعنوان:«النمو التكنولوجي والتغيير الاجتماعي» تحت مسمى «جرائم الياقات البيضاءWhite Collar »، والذي أكد فيه أن التطور الصناعي يؤدي إلى ظهور مشكلات اجتماعية بسبب تكدس العمال في المناطق الصناعية؛ مما يؤدي إلى نمو الأحياء المتخلفة Slums area .
يُعرف هيتزلر «جرائم الياقات البيضاء White Collar» بمعنى قلة الضبط الاجتماعي في مناطق التحضر الرث حيث تصبح المصالح هى حاكمة الأمور .
ويرى بعض علماء الأنثروبولوجيا أن الفرد الهامشي يشكل هجيناً ثقافياً؛ لأنه يعيش على هوامش ثقافتين ومجتمعين، لكنه ليس عضواً كاملاً في أحدهما؛ فالهامشية ثقافة فرعية تختلف عن الثقافة المهيمنة، ويرى البعض أن الجماعات الهامشية هى جماعات قبلت قيم الثقافة المهيمنة لكنها عجزت عن وسائل تحقيقها، أو منعت من ذلك بفعل عوامل الاستبعاد الاجتماعي .
«الفقر الحضري» :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الفقر الحضري ظاهرة مميزة لكل المجتمعات الإنسانية متقدمة أو نامية، ومهما بلغ معدل النمو الاقتصادي بها، ومستوى الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية؛ فالفقر الحضري صفة طبيعية لطبيعة التمايز الاجتماعي في المدينة، وهذه الظاهرة ليست حديثة العهد بل قضية ارتبطت بالمدينة الأوربية منذ فجر الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر، والتي تطلبت أيدي عاملة كثيرة، ونتج عن ذلك هجرة الريفيين الفقراء إلى المدن الصناعية، ومع تطور الحياة الجضرية بشكل سريع في دول العالم بدأت الكثير من المدن تعاني من ظاهرة الفقر خاصة مدن البلدان النامية .
يعرف شحاتة صيام الفقر الحضري: بأنه ظاهرة تتشكل وفق ظروف خاصة بكل مجتمع إذ تلعب فيها الأسباب الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية دوراً واضحاً في تحديدها كما أن الفقر يكون أكثر بروزاً في المدينة بسبب تطور الأساليب الحضارية، وزيادة اللا تجانس والفردية .*(18)
الواقع أن هناك ارتباطاً بين الفقر، والآحياء العشوائية التي تعبر عن تناقضات البناء الاجتماعي الحضري القائم على الاستغلال واللا مساواة.
معدلات الفقر والأمية في مصر:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تشير إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء إلى أن نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر 32,5% من مجموع السكان (104 مليون نسمة) لكن تقرير الصندوق الدولي للتنمية الزراعية التابع للأمم المتحدة أشار إلى وجود 48 مليون مصري فقير يعيشون في 1171 منطقة عشوائية متفرقة في أنحاء مصر، كما أشارت تقارير البنك الدولي أن 60% من الأسر المصرية تفتقد الأمن للاقتصادي بسبب انخفاض دخل الأسرة، وما يترتب عليه من الأمن الاجتماعي نتيجة ارتفاع نفقات التعليم والدروس الخصوصية، وارتفاع تكلفة العلاج، وغلاء أسعار الدواء، وغلاء أسعار الطعام، والملابس، وسائر أعباء المعيشة المختلفة (الكهرباء ـ الغاز ـ مياه الشرب ـ المواصلات).
.. كما تشير تقارير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء إلى أن الأمية بين المصريين تبلغ 27,1 مليون مواطن، وهؤلاء مهمشون بسبب عجز وسائل التأثير، والارتقاء الثقافي، والحضاري من النفاذ إليهم، ومد يد العون لهم، والأخذ بأيديهم، والارتقاء بهم، وبسبب انشغالهم بأمور معيشتهم، ولقمة عيشهم عن التعلم الذي يعتبرونه ترفاً لا مبرر له، ولا فائدة منه، ولا جدوى من ورائه في ظل حالة الاستبعاد الاجتماعي، والبطالة التي يعاني منها خريجو الجامعات الذين سدت أمام الغالبية منهم من المتفوقين دراسياً فرص التوظف بزعم عدم توافر أسباب «اللياقة الاجتماعية»!!
أسباب الفقر في مصر :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يؤكد معظم الأكاديميين والمحللين بصورة كاملة على عوامل مختلفة للفقر في مصر حيث يرى البعض أن ظاهرة الفقر في مصر تحدث في الأساس من خلال موقعها الجغرافي؛ فمعظم الدولة عبارة عن أراضي صحراوية تفتقد لسقوط المطر بدرجة كافية بالإضافة إلى طبيعة تربتها، ومناخها لا يسمحان بوجود الزراعة الانتاجية في حين يرى البعض أن السمات الثقافية للمصريين هي التي يفترض أن تكون معادية لتحقيق التنمية، والازدهار الاقتصادي لكونهم؛ يرون أن المصريين يفتقدون لنفس النمط من أخلاقيات العمل، والسمات الثقافية التى سمحت للأخرين بأن يزدهروا ويتقدموا، وأن المصريين على النقيض من ذلك فقد تبنوا القيم القدرية بفهم خاطئ واتكالية استسلامية لا تتفق مع أسباب الأزهار الاقتصادي؛ بينما يرى فريق ثالث من علماء الاقتصاد وخبراء السياسات أن حكام مصر لا يدركون ما هو متطلب وضروري لجعل بلدهم مزدهرة ومتقدمة، وأنهم اتبعوا سياسات خاطئة في الماضي بينما يرى فريق رابع أن مصر يحكمها قطاع ضيق من الأثرياء الطفـيليين (القـطط السمــان) ـ النخبة ـ *(19) التي تهتم ببناء مصالحها، ونظموا هيكل المجتمع بطريق تتلائم مع مصالحهم الشخصية على حساب الأغلبية الكاسحة من الشعب .*(20)
كان أخطر ما فعله قطاع الأثرياء الطفيليين (القطط السمان) هو مسخ الحياة في مصر وفقا لنظرية «ثقافة الفقر»، وصناعة الثقافة عموماً كما يراها الفيلسوفان تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر في كتابهما بعنوان «جدلية التنوير»: «صناعة ثقافة هي الشكل الأشد إتقانا للشمولية، والأسوء نوعية.».*(21)
العلاقة بين السلطة
وسكان العشوائيات :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول المؤرخ د. خالد زيادة عن السكان الفقراء والأشد فقرًا من ساكني المدن في سياق مناقشة آراء عالم الاجتماع الأميركي من أصل ايراني آصف بيات إن المدن تتغير بفعل زحف الفقراء إلى المدينة، ويسمي ذلك «اللا حركات الاجتماعية»، ويؤكد د. زيادة إن هذا الزحف ليس بريئا، ولا يتم بدون رقابة السلطات؛ فالسلطات البلدية والحكومية على دراية بكل التفاصيل التي تحدث يوميًا في المدن، ولا تفوتها مخالفة أو تعدي، ولكنها تغض النظر في نوع من التواطؤ بينها، وبين هؤلاء الفقراء الذين يحتلون الساحات العامة أو يستفيدون من خدمات الكهرباء، والماء، وسائر الخدمات بلا مقابل.
إن هؤلاء الفقراء الذين يخالفون القانون يدركون أن ذلك يتم بمعرفة السلطات، وبالتعاون معها في أغلب الأحيان؛ لذا هم أقل من الفئات الاجتماعية الأخرى حماسًا للمشاركة في الحركات الاعتراضية .*(22)
العلاقة بين السلطة، و«سكان العشوائيات» ليست بريئة؛ فقوامها الفساد المتبادل تحت غطاء من «الحميمية الزائفة» بغطاء من الأقوال الملفوفة بالكذب؛ فالسلطة ترى فيهم «المواطنون الشرفاء»، وتغض الطرف عن تجاوزتهم في مقابل أنهم يمنحون السلطة قبلة الحياة عندما تنفض الجماهير من حولها، ويديرون لها الظهر، ويكسبون الشرعية لممارستها، ويضفون عليها رونقاً وبهاءا عندما يتم استدعاء هؤلاء للاصطفاف أمام لجان الانتخابات لاصطناع صور زائفة عن حجم المشاركة الشعبية في الاقتراع على الاستحقاقات الدستورية، أو يتم حشدهم للرقص واطلاق الزغاريد أمام لجان الانتخابات لاصطناع البهجة، وإظهار الرضاء عن السياسات وأداء الحكومة، وأو يتم تجييشهم لإرهاب بعض الفئات المعترضة على بعض ممارسات السلطة .
يرى جور فيدال أن الأسوأ في الحياة عندما يعد التلاعب بالوعي أهم أدوات الإدارة الرئيسية الموجودة في أيدي مجموعة حاكمة غير كبيرة من مدراء الشركات، والمدراء الحكوميين، والأشد سوءا في منظومة التلاعب هو إقناع الناس بالتصويت ضد مصالحهم الخاصة .
القاهرة 2050:
ـــــــــــــــــــــــــ
مع دخول مصر إلى الألفية الجديدة، بدأت الحكومة المصرية تبذل جهوداً لتقديم «رؤية» مستقبلية للمدينة، حملت لافتات براقة بهدف الخداع مثل «التطوير العمراني» و«الارتقاء بالمدينة » و«النهضة الاجتماعية»، وهو ما أدى إلى مولد «مشروع القاهرة ٢٠٥٠». وقد نتج مخطط «القاهرة ٢٠٥٠» عن جهد بذل حوالى سنة ٢٠٠٧ بالتعاون بين «الهيئة العامة للتخطيط العمرانى»، و«برنامج الأمم المتحدة الانمائى»، و«برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية»، والبنك الدولي، و«هيئة المعونة الفنية الألمانية» (GTZ)، و«هيئة التعاون الدولي اليابانية» (JICA)، وكان واجهة المشروع جمال مبارك إبن رئيس الجمهورية فى ذلك الوقت؛ وهو ما ألقى ظلال من الشك، والريبة على المشروع بأكمله، وعن سوء النوايا المضمرة، والتي هي عكس المعلنة تماماً، روجت بعض الأخبار أن الهدف هو الاستيلاء على أحياء الفقراء العشوائية ذات الوجهات على النيل في وسط القاهرة مقابل إخلائهم إلى أمكان تنحصر بين الجبل والصحراء !!
كان مشروع «القاهرة ٢٠٥٠» مثيراً للجدل، حيث اتهم السكان والمراقبون الحضريون تلك الخطة بخدمة مصالح «القطط السمان»، ومحاولة تطهير القاهرة من الفقراء من خلال برامج الإخلاء القسري أو الإخلاء التفاوضي، كما انتقد هؤلاء العملية التى تمت بها رسم تلك الخطة بشكل سري، ومفروض من أعلى الى أسفل، وفى غياب أي نقاش مع الجمهور، وبدون إتاحة البيانات، والتحليل الذى يمثل أساسها الجمهور، وكان الأمر الجدير بالانتباه هو أن المنظمات الدولية التى شاركت فى إعداد هذا التقرير كثيرا ما تعلن عن التزامها بحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، والمشاركة الاجتماعية .
الإحلال العمراني الطبقي :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينسب لروث جلاس Ros Glass عالمة الاجتماع البريطانية الجنسية مصطلح «الإحلال العمراني الطبقي Gentrification» التي أطلقتها عام 1964، وكانت تعني أن الطبقات المتوسطة تغزو المناطق السكنية للطبقة العاملة، وهي الظاهرة التي أسمتها «الإحلال العمراني الطبقي»، التي حدثت تدريجياً في في كثير من مدن العالم منذ أربعينات القرن الماضي وحتى سبعيناته، وما زالت تحدث حتى يومنا هذا في معظم مدن العالم، وقد كتب وحلل عدد من الجغرافيين والمختصين بالعلوم الإنسانية مثل ديفيد هارفي، ونييل سميث تلك الظاهرة، وربطوها مباشرة بالسياسات الاقتصادية، وأشكال الرأسمالية الجديدة، وكيف تضْمن الاستثمارات الرأسية الربح السريع على حساب الطبقات العاملة، والأقل فقراً بالاستيلاء تدريجياً على مساكنهم، وطردهم، وعزلهم، حيث يبحث المستثمرون عمن يستطيع أن يتكلف بمصاريف أعلى لزيادة أرباحهم، ويلجأ المستثمرون الى الاستثمار العقاري سواء بالتمليك أو بالإيجار، لأن المكاسب الربحية فيه أعلى وأضمن.
فكرة الإحلال العمراني الطبقي انتشرت في مصر منذ السبعينيات من القرن الماضى لاستغلال الفيلات، والقصور، والمباني القديمة في مناطق الدقي وجاردن سيتي، والحلمية الجديدة، ومصر الجديدة عن طريق طرد «مباشر أو غير مباشر» لسكان تلك المناطق؛ فانتشرت مقولة :«راضيهم بقرشين» لإقناع السكان بالإخلاء بغرض جلب طبقات أعلى لتحل محلهم بسبب قدرتهم الشرائية الأعلى، عملية الإحلال العمراني الطبقي تحدث بأشكال ومناهج مختلفة في مناطق حول العالم، ولكنها تجتمع في أهدافها الذي يتمثل في مدن خالية من الفقراء .
التحولات الاجتماعية
قبل ثورة 25 يناير 2011:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المدينة المصرية تشكلت وفق نموذج غربي؛ فجاءت هياكل دون روح ثقافية، وتحولت إلى سوق تغلب عليها روح العشوائية، وأضحى المجتمع يمثل حشد من الأفراد الذين لا تربط بينهم رابطة بالمعني السوسيولوجي بما يعني أننا بصدد «أزمة حضرية » تنذر بنتائج «مجتمعية غير مرغوبة، ولا مطلوبة!!»؛ وهو ما كشفت عنه فورة الأحداث في 25 يناير 2011، وتسارع دوران عجلتها بما جعل نظام الرئيس مبارك يتهاوي وينهار في بضع ساعات!!
.. كان شباب العشوائيات في مقدمة الجموع؛ فهم الذين تصدوا لعنف الشرطة في سلوك انتقامي مما أصابهم من ممارستها اللا ـ مؤسسية معهم من قبل، وهم الذين اقتحموا أقسام الشرطة، ومقر الجزب الوطني، وبعض مقرات المحافظات، واضرموا فيها النيران، وهم الذين اقتحموا مقار أمن الدولة في منطقة الفراعنة في الأسكندرية يوم 4 مارس 2011، وفي القاهرة في لاظوغلي ومدينة نصر، ومدينة 6 أكتوبر يوم 5 مارس 2011، ونهب ملفات الجهاز، وتسليمها إلى ضباط الجيش؛ مما مكن من بناء قاعدة معلومات عن شخصيات مدنية، ومؤسسات وهيئات مدنية، وأيضا مكن من إخضاع (أمن الدولة) أخطر جهاز حكم مصر على مدى عقود من الزمن تقترب من القرن، كان لتلك التجربة بعض جوانبها المأساوية؛ فقد تمكن بعض الساسة، والنشطاء، والمشبوهين من الحصول على ملفات تجاوزاتهم، وتم عرض بعض الوثائق للبيع على أرصفة القاهرة مما حدا بالجيش ومجلس الوزراء إلى إصدار كل منهما لبيان يحذر فيه من مغبة ذلك وخطورته على الأمن القومي.
.. كان انضمام شباب العشوائيات إلى شباب الثورة بسبب التشابك الاجتماعي بين كونهم بلطجية محترفين يعملون لحساب ضباط الأقسام، وكونهم جزءاً من النسيج الاجتماعي لبعض القطاعات الاجتماعية التي شاركت في الأحداث، وعندما فشلت الثورة في تحقيق أهدافها شأن كل الثورات التي لم تكتمل، ومال ميزان القوة إلى جانب الشرطة انقلب شباب العشوائيات على الثورة، وعملوا إلى جانب الشرطة بمقابل نقدي 50 جنية ووجبة ساخنة !!
دينامية المجال والرمز
في العاصمة الجديدة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نبهت فورة الأحداث في 25 يناير 2011 إلى أن القاهرة لم تعد تصلح لتكون عاصمة مصر، فقد نمت القاهرة بالتجزئة عبر تلاحمات متتابعة بالاتفاق مع نظرية الدورة المكانية*(23)، وكان تجمهر الحشود في ميدان التحرير سبباً في تعطل القلب الحركي لمدينة القاهرة*(24)، وعطل أداء 12 مبنى حكومي سد المتظاهرون منافذ الدخول إليها، وقلل من كفاءة وظائف العاصمة أحزمة العمران الحضري الفقير، والأكثر فقر التي أصابتها بالتشرنق، وأن العشوائيات السكنية التي أحاطت بالمنطقة المركزية كونت مناطق حمراء مرتفعة الكثافة قابلة للتفجير بما يستلزم التفريغ المرحلى، وإعادة بناء مجتمعات التفريغ بما يتوافق مع ثقافة السكان، ونقل الأنشطة الإدارية من قلب القاهرة إلى عاصمة جديدة .
.. المناطق الساخنة أو الحمراء هي مناطق تزداد وطأة الضغوط المجتمعية، والتهميش فيها، وتكون مجتمعات منغلقة على نفسها، تختزان طاقة مكبوتة تولد أنماط سلبية تظهر في حالات فردية تتواتر من وقت لأخر، وتكون قابلة للتفجير في حال تعرضها لضغوط مضافة بحيث لم يعد من الممكن فصل الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالوطن العربي، في تونس، ومصر، وسوريا، دون تفكيك إشكالية الانتقال المتسارع إلى المدينة في العالم العربي، والإشكاليات النفسية، والاجتماعية، والسياسية، والدينية، والمادية التي صاحبت، ولا تزال تصحب عملية الانتقال إلى المدينة.
.. وكان من الطبيعي إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة كمدينة صحراوية في شرق القاهرة في منطقة وسط بين إقليمي القاهرة الكبري، وقناة السويس من وحي العمران النيوليبرالي الخليجي الصحراوي في الجزيرة العربية، والاتجاة إلى تأسيس مركز حكم جديد يعكس كثيراً من الدلالات السوسيولوجية، والسياسية، والأمنية؛ لضمان الحماية، وعدم المساس بكيان الدولة، وحتى يصبح تكرار ما حدث في 25 يناير 2011 درباً من المستحيل يتعذر معه الاضرار بالدولة، والمساس بمصالحها أن يكون مقر وزارة الدفاع مركزاً للحكم، وأن تنقل إليها رئاسة الجمهورية، والوزارات، والسفارات، والمجالس النيابية، والمدارس، والجامعات الأجنبية، ويتم إنشاء مطار دولي فيها إضافة إلى الفنادق الفاخرة (سعة 40 ألف غرفة)، وأن تكون مقراً للأجهزة السيادية جهاز أمن الدولة، والمخابرات العامة، وان تحاط بسياجات تمنع وصول الحشود إليها، وفي الوقت ذاته يتم ربطها بشبكة من الطرق والمحاور تضمن سهولة وصول المترددين عليها، أما عن علاقة الحكم بالعاصمة الحالية فقد دخلت في طور جديد بما استلزم تغيير في طبوغرافية القاهرة يتطلب هدم بعض المباني التراثية، وتغيير الملامح المعمارية لحي مصر الجديدة ومدينة نصر، واستلزم تغييراً في المجال البصري الواسع للقاهرة القديمة منذ بناء الفسطاط بعد الفتح العربي لمصر مروراً بالعسكر والقطائع، وحتى بناء القاهرة التى ارتكزت حول قصر المعز لدين الله الفاطمي، بديلاً عن الارتكاز حول الجامع كما في الفسطاط والقطائع، وما طرأ عليها من تغييرات عمراني في العصر الأيوبي حيث أتخد الأيوبيون القلعة مركزا للحكم، وجاء المماليك فحكموا على منوالهم مع استحداث حكم السلاطين، ومن بعدهم جاءت أسرة محمد على التي قضت على حكم المماليك في مذبحة القلعة، واستمر حكمها بآليات عسكرية حتى أعلن الخديوي أسماعيل في خطابه أمام القناصل الأوربية بداية الحكم المدني، والنزول من القلعة إلى قصر عابدين (سنة 1872م) ليكون مركزاً للحكم ..
المدينة القديمة :
ـــــــــــــــــــــــــــ
طبيعة المدينة العربية القديمة تمليها عليها ظروف موقعها، وخصائصه سواء كانت جبلية في الجبال أو صحراوية في الصحارى أو ساحلية في السواحل، ويتجلى ذلك في طراز مبانيها وتصاميمها، وفي بنيتها الهيكلية، وقيمتها التي تشكل وعاءها المادي في توافق تام يشكل أهم ملامح صورتها الأصيلة؛ فنواتها المسجد الجامع، والساحة، والميدان، والسوق، والصروح، وقشرتها الخارجية الأبراج الدفاعية، والخنادق، والأسوار، والحصون، ويجمع بين الامتداد الأفقي للمدينة، وبروز الانبثاق العمودي للقباب، والمأذن في تناغم معماري، وتألف بصري يميز مشهدها الحضري .
لم تولد المدينة العربية بتصميم سابق، ولا بشكل عفوي فقد جاءت وليدة التشريع الإسلامي المفصل لنواحي الحياة دستوراً مهيئاً سارت عليه الحياة في مجتمع المدينة العربية، لكنها ليست ابداعاً عربيا خالصا بل امتدت في جذورها إلى المدن القديمة (ما قبل الإسلام) بما تحويه من فكر تخطيطي، ومعمارى نابع من الإنسان بعد ان قام المعماري العربي بتطويره بتكوينات حضرية، ومعمارية أظهرت تماسك المدينة، ووحدة نسيجها العضوي في الخصائص، والميزات التي جاءت نتيجة تفاعل الإنسان مع بيئته الثقافية والطبيعية هي خلاصة تجارب، وممارسات طويلة لعب فيها الزمان والمكان دوراً أساسياً في بلورتها مما أعطى النسيح الحضري خصوصيته ومميزانه .
.. وتوسعت المدينة العربية طبقاً لزيادة الحاجات، وتغير الأنماط الاجتماعية لكنها لم تفقد قدرتها على التكيف المقترن بالتفاعل الحي مع متطلبات كل عصر، وما تفرضه الضروريات في إطار الخصوصية المطلوبة حتى تبنى بعض المعماريين العرب دعاوى إمكانية التوافق بين النمط الحضاري التقليدي، وما اطلق عليه: «الحداثة»، وامكانية التعايش بين القديم، والحديث في إطار الخصوصية لهذه المدينة.
كانت المدينة القديمة تتخذ من المسجد الجامع المركز النواة التي يتكون حولها العمران، وهو ما يتمشى مع الأفكار الإسلامية؛ فالمسجد لا يشكل دور العبادة فقط، ولكن مركزا سياسياً اجتماعيا وحضارياً؛ فهو المؤسسة الدينية والثقافية التي تستوعب الفاعليات الدينية والتعليمية والثقافية، وهو المكان الذي تحتكم فيه الفئات المختلفة من المجتمع الحضري مع بعضها، ويرتبط به السوق الذي يمثل المركز التجاري الرئيس للمدينة معبرا عن الجانب الروحي والمادي للمدينة محاطا بالهيكل العمراني الذي يحتل فيه السكن النسبة الغالبة، ويريط السوق بين مركز المدينة، وأطرافها بخانات تتخللها صناعات يدوية، وحرفية غير ملوثة في حين تعزل الصناعات الملوثة خارج المدينة بما يرمز لسلامة ساكنيها من الأضرار ..
.. وكان أهم ما يميز مظهرها العام تلاحم مفرادتها وتكامل مكوناتها في كيان عضوي موحد؛ فالواحدت السكنية في معظمها متشابهة حجماً .. متناسقة كتلة، وتصميماً بحيث تبدو في مجملها متسلسلة، ومتجانسة ضمن إطارها الكلي بما جعل الفعاليات العامة الأخرى في المدينة مستجيبة لظروف المناخ سواء في التصميم، والبناء، واختيار مواد البناء، والتفاصيل، والمفردات، وأسوار المدينة، وأبراجها، وحصونها، وخنادقها، وأهم ما يميز النمط الحضاري للمدينة بخصائصها، وصفاتها المميزة هو الترجمة الحية للعلاقات، والروابط الاجتماعية التي تسود المجتمع، وتعد الدار السكنية هي الوحدة الأساسية المكونة لها، وكان ضيق الطرقات، وتعرجها، وتدرج الفضاءات، والساحات، والحمامات الشعبية موظفاً معمتريا مما أكسبها خاصية الدمج، والاتصال بين وظائفها؛ فالنسيج الحضري وظيفي ـ مندمج ، ومجاله متعدد الوظائف حيث يختلط الاجتماعي بالاقتصادي بالديني بالترفيهي .
أهم ما يميز المسكن في المدينة العربية الفناء الداخلى المفتوح مربع أو مستطيل على غرف الدار وفضائتها جميعها، ويعبر عن حالة التقارب، والتلاحم الاجتماعي لأفراد البيت في تلاقيهم، وتحاورهم، وتسامرهم، ومن جانب أخر خصوصية في الترابط الاجتماعي يراعي :
١ ـ التوازن بين خصوصية الأسرة، وتفاعلها مع المجتمع .
٢ ـ تحقيق حرمة المسكن من خلال تجميع الوحدات السكنية وفق نظام معين يحقق هذه الحرمة، ومراعاة علاقة المسكن البصرية مع مجاوراته وارتفاع الأبنية، والشرفات، ورغم انغلاق الواجهات إلا من باب الدار فقط؛ لما يحققه من حرمة العائلة، وتمكين أفرادها من القيام بأعمالهم بكل حرية، واطمئنان، وتصميم منتدى النساء (الحرملك)، ومنتدى الرجال (السلاملك)، وكان (التختبوش) مكان السماع الموسيقي، وغناء الجواري، وقصائد المنشدين ومسامرة الندماء في الصحن الخلفي للدار المُطل على الحديقة حيث تنقل النسائم اللطيفة رائحة الزهور مختلطة بنغمات الموسيقى، وكان الحرص على تصميم المشربيات من الخشب المنقوش، والمزخرف، والمبطّن بالزجاج الملون والبروزات، والزخارف، والأنطقة، والأقواس، وتصميم منافذ دورة التهوية، وملاقف الهواء، وشخشيخة السقف المرتبطة بتلك الملاقف، وذلك لكي يتحقق معالجة مناخية أفضل بتجديد الهواء بصورة دائمة، ومستمرة داخل المبنى، واتساق دورة الشمس مع طبيعة المبني بما يضمن تحقيق الشروط الصحية والإنارة، والتهوية.
ولم يكن الاهتمام بالطرقات، والأسواق بعيدا عن اهتمام المعماري العربي بتظليل الشوارع برفع المباني على جانبي الشارع؛ بما يوفر الظل للمارة، وتغطية الأسواق بالكامل التي يوجد بعضها الأن في حلب ودمشق وبغداد وأجزاء منها في القاهرة حيث لازالت توجد بعض البواكي بأعمدتها وأقواسها.
.. أهم ما يميز هذا النمط الحضري هو الاحتوائية Contextuality التي تعني عمرانيا اقتراب Proximity الناس، والأشياء بعضهم من بعض .. حيثما يكون الاقتراب شديداً يتحقق الحضور المشترك، وتسود الألفة، والمودة لأن الاقتراب من البشر والأشياء يزيد من المعرفة بها، وتكون معدلات التلاقي اليومية عالية، ويسود فيها التعامل وجهاً لوجة .. هذه الحميمية توفرها الاحتوائية العالية التي تشتغل فيها الحواس والإنسانية والعواطف كافة؛ بما يمنح الحياة اليومية دينامكية، وازدهار تتجليان في الوحدة السكنية، والاقتراب هنا لا يعني الزحام، وما يسببه من أمراض وأخلاق الزحام ..
الاحتوائية Contextuality هنا بعكس الإنكشافية Decontextuality التي تتباعد فيها العناصر في الحيز الحضري*(25)
لم تكن القرية المصرية بمعزل عن التخطيط العمراني للمدينة مع مراعاة الحاجات الوظيفية في البناء فوق كوم كبير يرتفع عن مناسيب النيل في ذروة الفيضان، والتي يشبهه د .جمال حمدان بالطبق المقلوب، وبعد إعداد الكوم .. يبدأ السكان في تخطيطه إلى مناطق سكنية، ويعتبر مصطلح «الكوم» أو «التل» أكثر مقاطع المسميات تعبيراً عن مواقع القرى المصرية وتأمينه.
يحتوي تخطيط القرية على ثلاثة عناصر أساسية :
1 ـ قمة «الكوم»، وفيه مركز القرية، ودار الحكم ( دوار العمدة، ودوار شيخ البلد)، ويتوسطه الجامع، وتحيط به خدمات تجارية، والمضيفة .
2 ـ شارع داير الناحية، وهو المدخل الرئيسي للقرية .
3 ـ الشوارع الفرعية، وتتكون من شبكتين أحدهما النازلة من مركز الكوم في اتجاهات إشعاعية، والثانية المتفرعة من شارع داير الناحية .
مسكن العائلة هو مكان «ايواء» مكوناتها المادية من البشر، والحيوانات والمحاصيل، ويطلق عليه القرويين الـ « المتوى»، ويطلقون على الشخص الذي لا مسكن له في إطاري التوصيف أو المعايرة :«عديم المتوى».
كانت القرية أسوأ حالاً فيما يتعلق بالتلوث البصري الذي يظهر على شكل تنافر في استخدام الأشكال المعمارية، والألوان، ومواد البناء، وتراكم المخلفات الزراعية في الشوارع، والقمامة، وعلى أسطح البيوت، وعمل إضافات، وتغييرات تشوه من شكل المباني، والبيئة العمرانية، ومن أهم أشكال التلوث البصري في الريفية تدهور البيئة الطبيعية، وتجريف الأرض، والتصحر، واختفاء المعالم المميزة للبيئة الريفية.
***
يبدي د. محمد الشاهد أسفه لهدم الكثير من التراث المعماري في القاهرة ذلك الإنتاج النابض بالحياة، والذي لم يتم توثيقه بشكل كافٍ، ويتم تقييمه بأقل من قيمته، وغالبًا ما يتم محوه دون التفكير بذلك.
يرى د. الشاهد :«القاهرة مدينة غير مستقرة؛ فهي تغير جلدها باستمرار، وتحول طابعها الحضري والمعماري بطريقة مجزأة، وبسرعة تفوق وتيرة جهود البحث والتوثيق.» .
.. ومن بين التحديات التي تواجه جهود تجميع التاريخ المعماري الحديث للمدينة التدمير المادي للمباني الحديثة، التي لا يُنظر إليها على أنها تستحق الحفاظ عليها.
يشترط القانون المصري أن يكون عمر المبنى 100 عام على الأقل ليستحق الحماية، لكن بمجرد تسجيل المبنى كمَعلم يتم تقييد استخدامه بشدة، مما دفع بالعديد من أصحاب المباني إلى اعتبار القرن نوعًا من الموعد النهائي لهدم أي مبنى.
يُرجع د. الشاهد خلفيات هذا الأمر إلى نشأة أعمال سرية مربحة متخصصة في إلحاق أضرار غير واضحة بالمباني الجديرة بإعتبارها تراثًا، والتي تعتبر سليمة تراثيًا؛ ولهذا السبب «اختفت معظم المباني الحديثة التي تستحق الحماية في القاهرة.».
أظهرت الدولة ذاتها القليل من الاهتمام بالهندسة المعمارية الحديثة في المدينة كما هو حال العديد من المطورين؛ ففي العامين الماضيين، ألحقت السلطات أضرارًا فادحة بالحي التاريخي لمصر الجديدة حيث دمرت ما يقرب من 100 فدان من المساحات الخضراء، والأشجار التي تعود إلى قرن من الزمان، واختراق حي المعادي بعمل محور(الجزائر) الذي يبدأ من شماله حتى حي البساتين جنوباً، وإعلان السكان بهدم عمارات من حي ألماظة مع إعطائهم وحدات بديلة، والتخطيط لعمل محاور تخترق الكتل السكنية في مدينتي 15 مايو، و6 أكتوبر بهدف بناء طرق أوسع للمرور إلى العاصمة الإدارية الجديدة في ضواحي القاهرة الصحراوية.
الحداثة العمياء :
ـــــــــــــــــــــــــــ
يستخدم د. الشاهد مصطلح «الحداثة العمياء» للدلالة على أن الحداثة لم تُمنح في مصر صفة التراث الوطني، وكأن التاريخ توقف عند عتبة القرن العشرين؛ عندما يتم هدم المباني أو الأحياء، غالبًا ما تختفي من التاريخ، لأن وجودها لم يتم توثيقه بشكل صحيح؛ ليست هناك هيئات حكومية أو خاصة متخصصة تعترف بالمباني الحديثة أو تقوم بوضعها في الأرشيف أو توثقها أو تحميها.
.. ويضيف د. الشاهد بأن تدريس الهندسة المعمارية في الجامعات المصرية «يهمش، ويغفل في الغالب تاريخ العمارة الحديثة»؛ فطلاب الهندسة المعمارية يتخرجون دون أخذ دورة مسح حول تاريخ العمارة الحديثة في مصر، وهي نقطة مجهولة رئيسية في تدريس العمارة.
اللغة والعمران :
ـــــــــــــــــــــــــــ
.. «العمران» و«اللغة» صنوان؛ فالعمران الشائهة في مجاله البصري لا ينتج إلا اللغة المبتذلة المحملة بالألفاظ النابية، ولغة الطنين Buzzword التي لا معنى لها، والتي أطلق عليها د. حسن ظاظا: «التسمم اللغوي»، وتلك الحالة تبدأ بتسرب رشح دخيل من لغات أخرى تحتاج إليه اللغة فتتقبله، بل تحس مع تعاطيها له في البداية بمزيد من الانتعاش، والقوة، والنشاط يشجعها على تقبل جرعات أكبر فأكبر من هذا الدخيل، ولكن قدرتها على هذا كله، واستيعابه في بنيتها العامة تخونها في النهاية؛ فتسقط من الإعياء تاركة المجال للبقية الباقية من الدخيل تتسرب إليها بدون أي مقاومة حتى تجهز عليها، وتميتها*(25)
«إشكالية المعني»:
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
بدأ الباحثون في شتى المجالات العلمية يدركون طرائق ارتباط جوانب التغير في استعمال اللغة بجوانب تغيير اجتماعية وثقافية أوسع نطاقا، وبدؤوا يقدرون أهمية استخدام التحليل اللغوي باعتباره منهجا لدراسة التغيير الاجتماعي، وشرعوا في بناء مداخل للتحليل اللغوي يمكن من خلالها في فهم دراسات التغيير الاجتماعي، والثقافي من خلال العمل في شتى فروع علم اللغة (المفردات، علم الدلالة ، النحو) والتداولية .*(26)، وأضيف إليها تحليل الخطاب ليجمع بين ثلاثية :(الفكر واللغة والمنطق) .
.. كانت المشكلة أن اللغة واقعة في انحدارات المعني؛ فقد نشأ علم النحو ليضبط قوانين اللغة، ويعصمها عن الوقوع في الخطأ، ونشأ علم المنطق ليضبط قوانين الفكر، ويهتم بمعاني الألفاظ لكنه بقى عاجزاً عن تنظيم المعاني في الفكر بما يلائم عالم الواقع، ويرضي الإنسان، وبرزت ما أطلق عليه العلماء:«إشكالية المعني» .
كان أول المهتمين بهذا الأمر الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه بعنوان: «دلائل الإعجاز»*(27)؛ فاللفظ عند الجرجاني لا ينفك عن المعنى؛ فقد قال إن المعنى الشريف مثلاً تزاد بالتصوير قيمته، ويرتفع به قدره، بل إن لغير الشريف من المعنى بالتصوير قيمة تعلو، ومنزلة تعلو؛ فالصلة بين اللفظ، والمعنى مكينة فهما بمنزلة المادة، والصورة ، وبمثابة الروح، والجسد .
ورفض الجرجاني أن تكون الفصاحة في اللفظ دون المعنى، ورفض الاعتداد باللفظ وحده، ورفض أن ترجع البلاغة إلى اللفظ وحده؛ لأن دلالة اللفظ غير ثابت، وإنما يتغير بتغير مواقعها في الجملة، الألفاظ عند الجرجاني وسائل التعبير عن المواقف، والكلمات، ورموز للدلالة على الأفكار، ويتوقف نجاح الألفاظ بمدى افصاحها عن المعاني؛ فالكلمة المفردة مجرد إشارة إلى الصورة الباردة للشيء أما الكلمة المستخدمة في سياق فهى شحنة من العواطف الإنسانية، والصورة الذهنية، والمشاعر الحية إلى جانب ما فيها من معنى عقلي مجرد.
إن لدينا صورة ذهنية لكل شيء، ونحن نضع ألفاظ اللغة، ونستعملها لنحرك هذه الصورة الذهنية الكامنة .
يتفق أوجدن، وريتشاردز في كتابهما بعنوان :«معنى المعنى .. دراسة في أثر اللغة في الفكر ولعلم الرمزية»*(28) مع الجرجاني فيما أسمياه بـ «النظرية الإشارية» التي عنيت بالمعنى، وقد لخصا حاصل هذه النظرية أن : ثمة ثلاثة عناصر تشكل أطراف ما عرف عندهما بـ «المثلث الدالي» هي أن :« الشيء في الطبيعة، وصورته في العقل الإنساني، ورمزه اللساني» *(29) .
وقد اهتم أوجدن، وريتشاردز بما يطرأ على التواصل اللغوي بين بني البشر من احتمالات لغوية تخل بالقطع لما يراد بمعاني الكلام في اثناء التواصل، وما يترتب على ذلك من فساد الفهم، وهو ماطلق عليه مارتن هايدجر :«فساد اللغة».
فسـاد اللغـة
«بيت الوجود»:
ــــــــــــــــــــــــــ
يرى مارتن هيدجر أن اللغة الطبيعية صارت في الزمن الحديث تستبدل بها لغة مكونة تكوينا خاصاً، وصارت الكلمات الأن تحمل معاني غير مقصودها، وتم تنظيفها من جملة من المعاني .. يقول هيدجر :«كانت اللغة هي الأقدس من بين القيم كلها»، وحين صار التلاعب بالوعي الوسيلة الأساسية بدلاً من القوة احتاج أصحاب السلطة إلى تحويل الكلمة إلى أداة لا شخصية لها، وخالية من الروح.
ومن وجهة نظر هيدجر كان تحويل اللغة إلى أداة هيمنة مما أطلق البداية لعملية تدمير اللغة، وهو ما حذر منه هيدجر في في مؤلفه :«رسالة عن الإنسانية» :
«اللغة بيت الوجود، يسكن الإنسان في مسكن اللغة، .. والاجتياح المطرد للغة المنتشر في كل مكان لا يقوض فقط المسئولية الجمالية، والأخلاقية في استعمالات اللغة جميعها إنه يتجذر في تدمير الوجود الإنساني»*(30)
كان هيدجر يرى أن اللغة هى «سيدة العلاقات»؛ لأنها محركة العالم، وكاشفة الوجود لأن مهمتها «إنارة الوجود» أى التفكير في وجود الإنسان من خلال الإنارة، وهذه الأخيرة ستمكننا من النظر في ماهية الإنسان *(31)
الدراسات السيمائية
وتحليل اللغات الطبيعية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كشفت الدراسات السيمائية عن دور متزايد للأنظمة العلامية في تحليل اللغات الطبيعية، ومظاهر الحياة الاجتماعية، والطبيعية، وكافة العلوم، والأداب، والفنون بطريقة تبعث على الدهشة إذ لم يكن يخطر على البال أن يتسع مجال تطبيق العلامات بمختلف أنواعها ليشمل ميادين لا حصر لها حتى ليمكن القول أن العلامة قد تضخمت، واجتاحت كافة الحقول، وهى الأن تتحول تدريجياً إلى (متعال) جديد ينافس الكثير من العلوم، والفلسفة في الادعاء بإمكانية تقديم تحليل شمولي لكافة مظاهر الحياة، والكون، والسلوك .*(32)
الأنموذج اللغوي بالذات هو الذي راح يهيمن على مختلف الحقول المعرفية، والحياتية بوصفه الأنموذج الأكمل القادر على تفسير الظواهر غير اللغوية أيضا .
قام العلماء بفحص العلاقة بين اللغة والنسق العلامي عبر أكثر من مستوى ووفق أكثر من منهجية؛ وقد اتاحت الدراسات السيمائية Semiotics أو Semiology الفرصة لتقديم تصورات جديدة في هذا الميدان إذ تحيلنا السيمائية إلى دراسة العلامة Sign أساساً باعتبار أن اللغة، وكذلك كافة الأعمال الأدبية والفنية، وحتى الممارسات والطقوس الاجتماعية هي نسق علامي معين .*(33)
.. يعد المنهج السيميولوجي من أهم المناهج النقدية المعاصرة التي وصفت لمقاربة جميع الخطابات النصية، ورصد كل الأنشطة البشرية بالتفكيك والتركيب، والتحليل، والتأويل بغية البحث عن آليات انتاج المعنى، وكيفية إفراز الدلالة عبر مسألة أشكال المضامين بسبر أغوار البنايات العميقة دلالة، ومنطقاً من أجل فهم تعدد البُنى النصية، وتفسيرها على مستوى البنية السطحية تركيباً، وخطابا، ومن ثم يهدف المنهج السيميولوجي إلى استكشاف البنيات الدلالية التي تتضمنها الخطابات، والأنشطة البشرية: بنية، ودلالة، ومقصدية، والبحث عن الأنظمة التواصلية تعقيدا،ً وتجريداً، ووظيفة، كما تعمد السيميولوجيا إلى وضع قواعد مجردة كونية للخطابات الأدبية سطحا،ً وعمقاً لفهم الإبداعات الفردية في كل تمظهراتها السطحية على المستويات الصرفية، والتركيبية، والدلالية والمنطقية، والبحث عن المولدات الحقيقية لهذا التعدد النصي، والخطابي على مستوى السطح .
***
.. لا يمكن مقاربة أى نص أو خطاب أو نشاط إنساني، وبشري مقاربة علمية موضوعية إلا بتمثل المقاربة السيميوطيقية التي تتعامل مع الظواهر المعطاة باعتبارها علامات، وإشارات، ورموز، وأيقونات، واستعارات، ومخططات، ومن ثم لابد من دراسة الإنتاجيات الإبداعية، والأنشطة الإنسانية تحليلاً، وتأويلاً من خلال ثلاثة مستويات منهجية سيميوطيقية، ويمكن حصرها في البنية، والدلالة، والوظيفة .*(34)
الفصل الثاني:
ــــــــــــــــــــــ
مجتمع «الفــُـــــــــرجة».. وصناعة
«الإنســـــــان ذو البُعـــــــد الواحــد»
.. رغم مرور أكثر من عشر سنوات على التجربة المريرة لم يحاول أحد إماطة اللثام عن التحولات الاجتماعية في حياة المصريين قبل أو بعد 25 يناير 2011؛ فالمشتغلون بالفكر في مصر غالباً ما يكونون من المشتغلين بعمل أدبي أكاديمي، ويكتبون المقالات في الصحف السيارة التي تمتلكها الدولة أو جهات نافذة في الدولة، وعادة ما يكونون من أصحاب الجلود المصقولة اللامعة، والياقات البيضاء، .. الذين يفضلون الجلوس بنظارتهم الطبية في مكاتبهم المكيفة خلف واجهات زجاجية لا تنفذ إليها الشمس .. يتلقون التعليمات في استرخاء راضين بالمكانة الحكومية، والمرتب الضخم، ونهر المكاسب، والحوافز الضخمة من العطايا، والجوائز، ومكافأت اللجان، والاجتماعات، والمؤتمرات، ودعوات المحافل، ومهرجانات التكريم مؤثرين السلامة، ومكتفيين بدعم النظام القائم بمقولات مقولبة، وأفكار معلبة تجاوزها الواقع، وتخطاها الزمن؛ ودون أدنى محاولة للاشتباك مع الواقع المعيش، أو فض رموزه، وفهم رسائلة!!.
.. بمعنى أننا لم نفهم ما يجري تحت السطح !!، لكننا سنحاول !!
.. يذكر د. ريتشارد أنطون في كتابه : «الدراسات الأنثروبولوجية في الشرق الأوسط» الصادر في نيويورك سنة ١٩٧٣ عدة حقائق هامة عن دراسات الأنثروبولوجية في مصر أهمها :
1 ـ انطلقت الدراسات الأنثروبولوجية على المستوى الأكاديمي في مصر في عقد السبعينيات من القرن الماضي ـ وهو تاريخ متأخر نسبياً ـ ويسجل د. ريتشارد أنطون ملاحظة جديرة بالاهتمام حيث يلاحظ تميز الدراسات المصرية منذ بدايتها الأولى بإجراء الدراسات الميدانية على نطاق واسع، وبشكل مركز، ويلاحظ أن رؤوس الموضوعات، والفروض التي انطلقت تلك الدراسات للتحقق منها مشتقة من كتابات العلماء الفرنسيين (وليست مصرية) .
2 ـ ويلاحظ د. ريتشارد أنطون أن االدراسات الأنثربولوجية في السبعينيات كانت تركز على دراسة مشكلات مصر الاجتماعية والاقتصادية (من منطلقات واطروحات فرنسية، وليست مصرية) وخاصة مشكلة النمو السكاني السريع والأسرة وتنظيمها، والتحضر، والتصنيع، وتوطين الفلاحين في الأراضي المستصلحة، ومشكلة العمالة المصرية المهاجرة بمستوياتها المختلفة، كان ذلك يمثل حالة من «الانسحاق الحضاري»؛ فالأخر هو الذي يحدد لنا رؤوس الموضوعات المبحوثة، ويحدد لنا الأسئلة غن أنفسنا، ويطرح علينا الفرضيات، ويضيق علينا في الاختيارات؛ ليصل بنا إلى حيث يريد أن يضعنا.
3 ـ ارتباط أولويات البحوث الاجتماعية، والأنثروبولوجية بأولويات الحكومات القائمة على أساس أن المؤسسات الحكومية هي جهة التمويل الوحيدة القادرة على دعم البحوث الاجتماعية؛ فجميع الدراسات في مصر تعتمد على التمويل الحكومي، وهو ما يفرض على تلك الدراسات الخضوع التام لأولويات المؤسسات الحكومية، واحتياجات المجتمع التخطيطية والتنموية، وهذا ليس ليس عيباً ولا عار على الباحث، لأن خضوعه لتلك الأولويات هو توظيف كامل لعلمه في خدمة عمليات التغيير الموجه لخدمة حركة المجتمع، ولخدمة القطاعات الأكبر من أبناء مجتمعة، لكن كان العيب في هذه الدراسات هو القفز من رؤوس الموضوعات إلى الفرضيات، وانتهاء بالنتائج دون إشارة إلى المناهج المستخدمة والوسائل المتبعة .
.. وكانت دراسات الأنثروبولوجية التطبيقية تهدف إلى التحكم بشكل وثيق في بعض عوامل التغيير كما تسمح باجراء اختبار معملى لبعض الفروض والنظريات؛ وكان التطبيق العملى لعلوم الأنثروبولوجيا يفيد الممارسة اليومية تماماً كما يفيد الأنثروبولوجيا نفسها كعلم فالأنثروبولوجيا التطبيقية تنطوي على توجيه سلوك البشر من أجل تحقيق غايات معينة .
صعوبات البحث :
ـــــــــــــــــــــــــــ
أولاً : أن كافة الدراسات التي تناولت التأريخ لعلم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا، ورصد الظواهر الاجتماعية، والثقافية، والتغيرات الاجتماعية، والثقافية والسياسية، والاقتصادية، ومدي سرعتها، وتوجهاتها في مصر تواجه حقيقة موجعة، وخطيرة تضعنا أمام معضلة، وهي عدم نشر الرسائل الجامعية المجازة من الجامعات المصرية أو المراكز البحثية في مصر(أقسام الاجتماع بكليات الآداب بالجامعات المصرية، والمركزالقومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، ومركزدراسات المستقبل بجامعة القاهرة، وقسم الأنثروبولوجيا بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية بكلية الآداب ـ جامعة الاسكندرية، وقسم الاجتماع بكلية البنات جامعة عين شمس، ومركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، ومركز البحث الأمريكي بمصر)، أو نشر مناقشات أو عروض لها تعرّف المهتمين بها من الباحثين، والقائمين على رسم السياسة الاجتماعية بما جاء فيها، كما أنه يحرم الباحث الجيد من الدعم، والمؤازة المجتمعية بما يدفعه إلى مستويات أعلى من الإنجاز، ومتابعة النتائج العلمية لبحث ما، وتطويرها، وتأكيدها أو تعديلها في بحوث أخرى ثم إمكانية الاستفادة العلمية بنتائج تلك البحوث!!.
ثانياً : المنزلقات البيروقراطية للبحث العلمي، وعدم اعتبار أي شيء علميا إلا ما صدر عن جامعات، ومراكز متخصصة بالأبحاث، وتقنياتها .. بمعنى احتكار المعرفة العلمية، فهل تحتكر الجامعات العلم ؟!! وهل يحتكر الأكاديميون المعرفة العلمية؟!! وهل يحتكر العلم مراكز، ومؤسسات، وأفراد يتمتعون بتقنيات ومناهج، ولا يرون علمية أحد إلا من تقيد حصراً بهذه التقنيات والمهجيات؟!
وقد انتجت تلك المنزلقات البيروقراطية حالة من «طغيان الرأي» في العلوم الإنسانية خصوصاً بمختلف تفرعاتها، وخلفت جيل مستهلك للمعرفة، وأفواج جامعية تهمها مكانتها المؤسسية أكثر مما يهمها البحث في العلم والمعرفة خصوصاً في مجتمعات متخلفة، ومستهلكة، واجترارية للمعرفة؛ فتستخف هذه الفئة الجامعية ببعض الإنتاج الفكري، وتصفه بأنه أصناف دنيا من المعرفة على الرغم من عدم قدرتها على تقديم فكراً مجددا؛ ففي كثير من الحالات يكون البحث العلمى الذي يصدر عن مؤسسة جامعية، او بحثية مجرد تكرار، واجترار لما هو معروف من دون فكر متميز، ولا تجديد، ولا هدف، ولا يتعدى البحث العلمي مجرد اجترار لما هو معروف من دون فكر متميز، ولا تجديد، ولا هدف بل لا يتعدى «البحث العلمي» بغية نيل درجة من الارتقاء الجامعي، أو تنفيذ عقود بحثية ممولة، أو إحراز وجاهة «علموية» .
ليست العلمية في تقنية محددة، ومحدودة، وحصرية، ولا في أسلوب دون غيره، ولا في نمط سائد دون غيره، بل هي في المنطق، والقواعد المستخرجة من الاختبار، وما يثير القناعة والفاعلية، ويوصل إلى الهدف المحدد لمن يشخص ويحلل ويدرس ويعالج وصولاً إلى نتيجة بأقل تكلفة وأكثر استنتاجية.
ثالثاً : أن الدراسات المتعقلة بمصر، والمكتوبة بلغات أخرى في الجامعات الأوربية، والأمريكية غير متاحة، وغير منشورة، وخاصة أن جهد المركز القومي للترجمة لا يتجاوز سنوياً عدد أصابع اليدين، وهو رقم لا قيمة له في حركة الترجمة في العالم !!
رابعاً : كان الباحثون المصريون في مجال الأنثروبولوجيا ينتمون إلى مدارس مختلفة يصعب إذابة الفوارق بينها كما أنه لم يوجد العالم المصري القطب الذي يستطيع أن يستوعب تفردات تلك المدارس، وأن يسخر أطروحاتها لخدمة المجتمع؛ فقد حصل الدكتور أحمد الخشاب على الدكتوراة من جامعة لندن في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي (1953)، فأدخل التقاليد البريطانية في الأنثربولوجيا إلى جامعة القاهرة، وما لبث أن عاد في منتصف الستينيات د. عاطف وصفي بعد أن درس الأنثروبولوجيا في أمريكا؛ فدخلت معه تقاليد الأنثربولوجيا الثقافية الأمريكية إلى جامعة القاهرة، ثم عاد د. محمد الجوهري في السبعينيات بعد أن درس الأنثروبولوجيا في جامعة بون بألمانيا التي تعد من أهم معاهد دراسة الفلكلور في العالم فدخلت معه تقاليد الأنثربولوجيا الألمانية.. كانت المدرسة الألمانية تقوم بالأساس على «دراسة الفلكلور» من خلال إلقاء الضوء على ما في صدور الناس من معتقدات، وما يدور في عقولهم من تصورات، ورؤى للعالم، وكذلك ما يمارسونه من عادات اجتماعية موضوعها «المأثور الشعبي»؛ بما يعين على فهم العقلية الشعبية، وعلى الاقتراب من الخريطة الاجتماعية !!
كان المصري الوحيد الذي جمع بين الأنثروبولوجيا من منظوريها الإنجليزي والفرنسي هو الدكتور أحمد أبوزيد مؤسس ما يطلق عليه تجاوزاً: «مدرسة الأسكندرية» حيث بدأ هو وزملائه على عيسى وعاطف غيث، لكن ما كان يعاب عليهم هو : أن الفروض التي انطلقت تلك الدراسات للتحقق منها مشتقة من كتابات العلماء الفرنسيين (وليست مصرية).
.. كان تقاعس الباحثون عن رؤية واقعهم الاجتماعي رؤية نقدية، ومن ثم وضع أيديهم على المشكلات، والموضوعات الحقيقية الأجدر بالدراسة، فعلم الاجتماع في كل الدنيا هو أكثر العلوم الإنسانية انتقاداً لنفسه، ووعياً بنواحي قصوره وسلبياته، ويكفي أن نقرأ انتقادات علماء الاجتماع الذين يتحدثون عن عدم انضباط القوانين أو التعميمات السوسيولوجية؛ فهذه المبالغة في النقد الذاتي المعروفة عند المشتغلين بعلم الاجتماع تمثل مظهراً من مظاهر الصحة.
وزاد الأمر سوءاً ذلك الاضطراب في أداء العلوم الاجتماعية لدورها الذي يرجع في الأساس إلى تدخل مقيت أو فهم مغلوط من جانب السلطة لطبيعة الواقع الاجتماعي الذي تحكمه، أو لإمكانات البحث العلمي الاجتماعي، وقدرة أصحابه على الإسهام في صياغة السياسات الاجتماعية، وترشيدها .
.. والحقيقة أنه لايمكن الحديث في العلوم الاجتماعية، والإنسانية عن موضوعية أوحياد؛ إذ أن كل باحث يرى الحقائق من منظوره هو، ومن واقع تجربته الشخصية، ومن خلال خبراته الذاتية، ورؤيته الكلية، والنماذج المنبثقة عنها، وقد نفى الأستاذ محمود شاكر في سياق حديثه عن «المنهج» بشكل حازم إمكانية أن يكون المنهج محايداً؛ لذلك طرح فكرة :«ما قبل المنهج»، وما قبل المنهج ينبه إلى تلك الأبعاد المتصلة بالذات الإنسانية، وباللغة، والمعتقد والرؤية الكلية للكون، وهذه الأبعاد تشكل رؤية الباحث، وتحدد زاويته في النظر، والتحليل، والتفكير، وتؤثر بدرجة أو بأخرى على نتيجة تحليله، وطريقة فهمه وتفسيره*(1).
.. وهو ما أكده كارل بوبر بقوله : «إذا افترضنا أن العالم الاجتماعي يسعى حقاً في طلب الحقيقة، فإن المذهب التاريخي ينبهنا إلى الصعوبات المترتبة على هذا الفرض المتعلقة بالميول، والمصالح مثل التأثير في مضمون النظريات، والتبريرات العلمية؛ فلا مفر من الشك في إمكانية السيطرة على التحيز وتجنبه.
كما ينبغي أن نتوقع تعدد وجهات النظر بقدر ما يوجد من مصالح، ودائماً تكون الكلمة الفاصلة لـ «النجاح السياسي» وحده .*(2) .
.. كان الارتباك واضحاً بين الباحثين المصريين، وبين علماء الاجتماع الدوليين؛ فقد أعلن كارل بوبر عن : عقم «المذهب التاريخي» في مناهج العلوم الاجتماعية *(3)
المقصود بـ «المذهب التاريخي Historicism» طريقة في معالجة العلوم الاجتماعية تفترض أن التنبؤ التاريخي هو غايتها الرئيسية كما تفترض الوصول إلى هذه الغاية بالكشف عن «القوانين» أو «الاتجاهات» أو «الأنماط» أو«الايقاعات» التي يسير التطور التاريخي وفقاً لها .
وبرهن كارل بوبر على كذب «المذهب التاريخي» بعدة أسباب أهمها :
١ ـ يتأثر التاريخ الإنساني في سيره تأثيراً قويا بنمو المعرفة الإنسانية .
٢ـ لا يمكن لنا بالطريقة العقلية أو العلمية أن نتنبأ بطريقة نمو معارفنا العلمية.
٣ ـ إذن فلا يمكننا التنبؤ بمستقبل سير التاريخ اإنساني ..
٤ ـ وهذا معناه أننا يجب أن نرفض إمكان قيام تاريخ نظري؛ أي إمكانية قيام علم تاريخ اجتماعي يقابل علم الطبيعة النظري، ولا يمكن أن تقوم نظرية علمية في التطور التاريخي تصلح أن تكون أساساً للتنبؤ التاريخي.
٥ ـ إذن فقد أخطأ المذهب التاريخي في تصوره للغاية الأساسية التي يتوسل إليها بمناهجه .*(4)
ولم يلبث في بداية السبعينيات من القرن الماضي أن تحدث عالم الاجتماع الأمريكي الفن جولدنرعنما اسماه :«الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي» في ظل المناخ السئ الذي يعمل فيه المنظرون الاجتماعيون في إطار بيئة اجتماعية منهارة سواء تلك البيئة الحضرية المصابة بالشلل، أو في حرم الجامعات التي ضُربت بقوة .*(5)
بدأت الأزمة التي تحدث عنها الفن جولدنر في السبعينيات من القرن الماضي، وتتابعت حلقاتها خلال العقود الأريعة المتتابعة حتى انتهت آخر حلقاتها مع غروب القرن التي بدأت فيه، وتركت علم الاجتماع مع بداية القرن ٢١ في حاجة إلى تأمل جديد، ولكن من نوع آخر، وإذا كان القرن السابق قد قدم تأملاً لطبيعة الأزمات التي فُرض على علم الاجتماع أن يواجهها فإن التأمل الذي نحتاجه في القرن الجديد ينبغي أن يهتم بالبحث عن سبل الخروج من الأزمة أو الأزمات التي مر بها التنظير الاجتماعي؛ وذلك لتقديم حلول تساعد على استمرار خصوبة، وفعالية هذا التنظير، وكفاءته، وقدرته على فهم واقعه الجديد.
يرى الفن جولدنر أن الأزمة الأولى التي واجهت التنظير الاجتماعي انقسامه على ذاته مع نهاية الحرب العالمية الثانية إلى علمين : علم اجتماع يوجهه التنظير الماركسي في مقابل علم اجتماع أخر يوجهه التنظير المحافظ أو الليبرالي، وبذلك كان علم الاجتماع المنقسم على ذاته أكثر ارتباطاً بالأيديولوجية؛ حيث شكلت الأيدولوجية الطاقة التي تفجر إبداعاته، وفي فترة الحرب الباردة التي امتدت من منتصف الاربعينيات، وحتى التسعينيات كان علم الاجتماع في كل من الكتلة الاشتراكية، والرأسمالية يؤدي دوره في الحفاظ على واقعه الاجتماعي، والدفاع عنه، وتبرير التفاعلات التي تقع في إطاره، وابراز نقائص، وأخطاء الواقع الآخر، وعلى هذا النحو أدى الصراع بين واقع الكتلتين : الاشتراكية، والرأسمالية، إلى اهتزاز الثقة في علم الاجتماع؛ .. لأن التنظير الاجتماعي شكل خط الدفاع الأول في هذا الصراع، ومع سقوط الاتحاد السوفيتتي سقطت الأيديولوجية، وبدأ علم الاجتماع بلا أيديولوجية توجهه وتستنفر طاقاته، وإبداعاته، وتراجع علم الاجتماع عن كونه علماً يمارس دوراً نقدياً بالنظر إلى مرجعية أيديولوجية محددة، ويسعى إلى ترشيد حركة المجتمع استناداً إلى توجيهاتها .
ـ ويتمثل البعد الثاني للأزمة في المنهجية التي نقلها علم الاجتماع عن العلوم الطبيعية في الفترة التي عاصرت نشأته، وأنه مهد بمنطلقاته العلمانية، وتوجهاته السياسية الطريق لقيام الثورة الفرنسية .. تلك المنطلقات التي أفقدت العلوم الإنسانية ـ بصفة عامة ـ إنسانيتها؛ فعالم الاجتماع ليس ساعاتي، أو مبرمج حواسب رقمية، أو ميكانيكي سيارات .
***
.. بما يجعلني أؤكد أنني لم أضع يدي على معرفة حقيقية يمكن البناء عليها من دراسات سابقة !!، لكن مقولة الفيلسوف إيمانويل كانط : «لتكن لك الشجاعة بأن تستعمل فكرك أنت» أيقظت في نفسي روح التحدي، وجددت إيماني العميق بأن الكتابة عمل انقلابي ضد ما هو معلب ومقولب، ويعد من «المسلمات» دون تمحيص أو إعمال للعقل، وكان ذلك بداية فكرة أن يكون هذا الكتاب نواة لعلم الدراسات الأنثروبولوجية الخاصة بـ «العادات الأخلاقية»؛ لأن العادات الأخلاقية تكون دائما أكثر شمولاً، وعمقاً، وتفتح أوسع السبل أمام الباحث لفهم الطبيعة الإنسانية !!
.. وكان للفكرة وجاهتها رغم ما يحوطها من مخاطر المغامرة لأنني لم أجد ما يعينني على فهم «الشخصية المصرية»، ولم استطع حتى تلك اللحظة أن أفهم «كود Code»، أو أكتشف «وسم Brand»، أو أفك «شيفرة Cipher» التي تحكم أساليب تفكير المصريين، وتتحكم في طبيعة سلوكهم؛ لكوني لم أستطع وضع اليد على الدواعي العملية أو التأسيسات النظرية المرغوب فيها، والمُخطط لها سلفاً للتربية والتنشئة الاجتماعية في مصر أو «الهندسة الاجتماعية» التي تحكم بناء الإنسان أو «صناعة الإنسان»؛ فالإنسانية الاجتماعية، والمواطنة السياسية صناعة اجتماعية يتفاوت فيها النصيب الإنساني، ونصيب الطبيعة الإنسانية، ونصيب غرائز الإنسان، وأهمها غريزة حب البقاء!!
وقد جرى التأسيس لها بفرضية مفادها :
«أن المجتمعات الإنسانية كلها، مارست صناعة الطبيعة، والخصائص الاجتماعية، والسياسية لمادتها البشرية فردياً وجماعياً تحت مُسمى : «التربية ثم التنشئة الاجتماعية» من قبل، وستمارسها اليوم وغداً تحت مُسمى :«الهندسة الاجتماعية» .. إن ظروف نشأة، وتطور الأنظمة السياسية الغربية الحديثة جعلتها السباقة لإدراك أهمية هذه الصناعة، وضرورة توليها لمسئوليتها، ووفرت لها الامكانيات اللازمة لاستخدامها لتضمن لها الشرعية اللازمة لحكم مجتمعاتها، والتحكم فيها، والسيطرة عليها بأقل قدر من الحاجة لاستخدام وسائل القسر، والإرغام المادي.»*(6).
كان من أول الكتب المتخصصة التى صدرت فى سنة 1964 في مجال التلاعب بالوعى هو كتاب عالم الاجتماع الألمانى جيربيرت فرانكة بعنوان: «الإنسان المتلاعب به»، والذى عرّف عملية التلاعب بأنها تأثير نفسي ينفذ سراً يضر بأولئك الأشخاص الذين يوجه إليهم .. وأبسط مثال على ذلك هو الدعاية.
ففى كتابه « سيكولوجية التلاعب » يقول ي . ل . . دوتسينكو :
« يمكننا أن نتذكر عددا غير قليل من أحداث الحياة التى غدا فيها التلاعب خيراً؛ ما دام يرفع مستوى التعامل من غلبة العنف إلى غلبة التلاعب ـ أى معاملة أكثر إنسانية ـ بالمعنى المعروف».
. . بينما يرى البعض أن التلاعب أسوأ من السوط لأنها تفقد ضحية التلاعب القدرة على الاختيار العقلانى كليا، لأن رغباته مبرمجة من الخارج، ويستعيض عن السوط بأداة أشد فاعلية إنها «صناعة التلاعب بالوعي» التى تشيء الإنسان أي تحوله إلى مجرد شيء .
.. ويرى سيرجي قرة أنه : دائما ما تبدأ عملية تضليل الإنسان بـ «التلاعب» بعقله بخطوات بطيئة، وتدريجية عبر عمليات الاعتياد دون صدمة ولا ألم، ويتدرج هذا الاعتياد؛ ليولد حالة من الاعتياد الخالي من أي أمل في الخلاص أو محاولة تحرر خلاقة .. فالضفدعة الملاقاة في الماء المغلي تقفز .. وإن كانت مجروحة تحت إحساس الشعور بالصدمة أو الألم؛ بينما الضفدعة الملاقاة في الماء الدافئ؛ فتسبح في القدر مستمتعة بخدر الدفء وهى غافلة عن ملاحظة أن القدر فوق النار، وأن حرارة الماء ستشد .. وتظل مستمتعة هكذا إلى أن تسلق!!
وهو ما عبر عن جوزيف ناي في أطروحته بعنوان «القوة الناعمة Soft Power » بقوله :
« إننا لا نكتفي بتحطــيم أعدائنا فقط،.. بل نجعلهم يفعلون بأنفسهم ما نريد بما يخدم مصالحنا ».
وقد اقتبس جوزيف ناي مصطلح (القوة الناعمة Soft Power) من ثنائية الصلب، والناعم في مكونات الحواسب، فأجهزة الكومبيوتر تتألف من روافد الشق المادي الصلبة (تكنولوجيا عتاد الحاسوب Hardware)، وروافد الشق الذهني الناعمة (نظم برامج المعلومات Software)، وقد أخذت تلك المسميات في الانتشار مع بداية التسعينيات من القرن الماضي على أثر انتشار الكومبيوتر والإنترنت.
عرَّف ناي القوة الناعمة بأنها :
« القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً عن الإرغام، وهي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج، وتحقيق الأهداف بدون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للعوامل، والوسائل العسكرية والصلبة؛ لأن القوة لا تصلح إلا في السياق الذي تعمل فيه، فالدبابة لا تصلح للمستنقعات، والصاروخ لا يصلح لجذب الآخرين نحونا » .
ويرى «المضللون» والقائمون على عمليات «التلاعب بالوعي» أن التلاعب بالوعي أكثر إنسانية حيث أن التلاعب يحقق الهدف دون إيذاء بدني أو إكراه ، وتتلخص عملية التلاعب بالوعي بقيام القائمين على الاتصال بوضع اسس عملية تداول الصور والمعلومات، ويشرفون على معالجتها وتنقيحها، تلك الصور، والمعلومات التي تحدد معتقدات ومواقف الفئات المستهدفة بالتلاعب، وتحدد سلوكها من خلال طرح أفكار، وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي .. أفكار تنحو عن عمد إلى استحداث معني زائف، وإلى انتاج وعي لا يستطيع أن يستوعب أو يتقبل بإرادته الشروط الفعلية للحياة القائمة أو يرفضها سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي ليست سوى أفكار مموهة أو مضللة .
يرى باولو فرير إن تضليل عقول البشر «أداة للقهر» فهو يمثل «أحد الأدوات التي تسعى النخبة من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة»؛ فباستخدام الاساطير التي تفسر، وتبرر الشروط السائدة للوجود، وبما تضفيه عليها من طابع خلاب يضمن المضللون التأييد الشعبي لنظام اجتماعي لا يخدم في المدى البعيد المصالح الحقيقية للأغلبية، وعندما يؤدي التضليل اإعلامي للجماهير دوره بنجاح تنتفي الحاجة إلى اتخاذ تدابير بديلة .*(7)
ويرى باولو فرير أن تضليل الجماهير لا يمثل أول أداة تتبناها النخب الحاكمة من أجل الحفاظ على السيطرة الاجتماعية؛ فالحكام لا يلجأون غلى التضليل إلا عندما يبدأ الشعب في الظهور (ولو بصورة فجة) كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية، «أما قبل ذلك فلا وجود للتضليل *(8) بالمعني الدقيق للكلمة) بل نجد بالأحرى قمعاً شاملاً إذ لا ضرورة هناك لتضليل المضطهدين عندما يكونون غارقين لأذانهم في بؤس الواقع ، ويؤكد فرير أن أغلب البشر قد تعرضوا للقمع*(9)
ويرى جور فيدال أن العبقرية المرعبة في إجادة فنون التضليل ما أحدثته النخبة السياسية الأمريكية في قدرتها على إقناع الناخب الأمريكي بالتصويت ضد أكثر مصالحه أهمية . *(10)
كان سحر التضليل يكمن في إعمال قاعدة بسيطة من قواعد اقتصاد السوق؛ فامتلاك وسائل الإعلام، والسيطرة عليها شأنه شأن أشكال الملكية الأخرى متاح لمن يملكون رأس المال، والنتيجة الحتمية لذلك أن تصبح محطات الإذاعة، وشبكات التليفزيون، والصحف، والمجلات، وصناعة السينما، ودور النشر مملوكة جميعاً لمجموعة من المؤسسات المشتركة، والتكتلات الإعلامية؛ بما يجعل الجهاز الإعلامي جاهز تماماً للاضطلاع بدور فعال، وحاسم في عملية التضليل .
يحصر شيللر صناعة التلاعب بالعقول في خمس أساطير جرى ترويجها بعناية وذكاء، حتى باتت تلك الاساطير تشكل الإطار التضليلي لإيهام العقول بأن ما يقدم لها هو الحقيقة، وتتمثل هذه الأساطير التي تسيطر على الساحة الإعلامية بوصفها حقائق في:
ـ أسطورة الفردية، والاختيار الشخصي.
ـ أسطورة الحياد .
ـ أسطورة الطبيعة الإنسانية الثابتة .
ـ أسطورة غياب الصراع الاجتماعي .
ـ أسطورة التعددية الإعلامية .
حاول شيللر كشف القوي المتحكمة في تضليل الجماهير، والتلاعب بوعيها، وكشف الوسائل التي يتمكنون بها من إخفاء وجودهم، وإنكار تأثيرهم أو الوسائل التي يمارسون السيطرة التوجيهية في ظل ممارسات تبدو في ظاهرها معتدلة أو طبيعية؛ فنجاح عمليات التلاعب بالوعي تتوقف على مدى قدراتها على أن تبدو طبيعية، ومنطقية على التخفي .*(11)
الكلام عن الوفرة في الكم في انتاج المواد الإعلامية، وتنوعها في المضمون هو أخطر أنواع الخداع، والتضليل؛ فالمواد الإعلامية المنتجة في المجتمعات المتلاعب بها مأخوذة من إطار مرجعي واحد يحدده حراس البوابات، ولا يمكن التخلي عنه؛ فالمادة الترفهية، والأخبار، والمعلومات العامة، والتوجهات والأفكار من مصدر واحد قد يختلف الأسلوب، والتعبير المجازي لكن الجوهر واحد، ويحدها شرطين :
1 ـ إشاعة ثقافة الاستهلاك، وتثبيت دعائم مجتمع الاستهلاك .
2 ـ رفض المادة التي تنظر إلى المجتمع نظرة نقدية .
.. وأيضا الكلام عن الحياد يحمل في طياته أخطر أنواع التضليل؛ فلا يتم استحضار مفرادت : الحياد، والموضوعية إلا في إطار تمرير رسائل غير بريئة محملة بالهوى والغرض !!
يعتمد التضليل، و«التلاعب بالوعي» على التكرار، والتأكيد بصورة غريبة، ومشوبة بالغموض، وأحياناً بطريقة ملتوية تعتمد على التفتيت، وتجزئة المعلومة بمعنى التأكيد عل النظرية التي تحصر المشكلات في بؤر Focalized View بدلاً من رؤيتها بوصفها أبعاد لكل واحد !!
وأحيانا يعتمد التضليل و«التلاعب بالوعي» على الإغراق السلبي في تيار معلومات تحت مُسمى «التغطية الفورية»، وعندما يتم مواجهة القائم بعملية الاتصال بحقائق مخالفة يتم التعامل مع الموقف بأسلوب «التقويمات المعادلة» التي تدعم وجهة نظر القائم على الاتصال !!
.. في إطار التلاعب بالوعي تسهم «صناعة الإنسان» و«تنميط البشر» و«قولبة العقول» بالجزء الأكبر في تحقيق «منتج بشري» بالمواصفات المطلوبة حيث لا يخلو النظام التعليمي من مرحلتة الابتدائية حتى مستوى الجامعة من غرض ايدلوجي مقصود .. يدعم هذا التوجة الايدلوجي «إرهاب الكتاب المدرسي» لصناعة ثقافة الأفراد، ومن ثم التحكم في سلوكياتهم عبرخطط تم الإعداد لها مسبقاً بما يحقق أهداف الدولة، ومؤسساتها الرسمية المتوافقة مع أهداف القوى، ومؤسسات غير رسمية لصناعة شرعية النظام الحاكم، وقبول أفكاره، وسياساته عبر صناعة القناعة، والرضا من خلال «صناعة الثقافة»، وتوظيفها لها للإنتقال من مرحلة السيطرة على المعارضة إلى مرحلة صناعة إنسان، ومجتمع بلا معارضة، وهو ما يطلق عليه هربرت ماركوز(١٨٩٨ ـ ١٩٧٩) صناعة :«الإنسان ذو البعد الواحد» .
«الإنسان ذو البعد الواحد»:*(12)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت نقطة انطلاق هربرت ماركوز الاساسية لما أسماه «الإنسان ذو البعد الواحد» هى الطاقة الهائلة التي بات المجتمع المعاصر يتمتع بها «مجتمع التكنولوجيا، والصناعة المتقدمة» وما تحقق من هذه الطاقة من هيمنة على الفرد تتجاوز من بعيد كل أشكال السيطرة التي مارسها المجتمع في الماضي على أفراده لقد كانت السيطرة على مر العصور شكلاً لا عقلانيا، وبسبب طابعها اللا عقلاني هذا على وجه التحديد كان في وسع الإنسان دومأً أن يعقلها، ويفضحها، ويطالب بوضع حد لها، .. بيد أن السيطرة الاجتماعية في عصر التقدم التكنولوجي تتلبس طابعاً عقلانياً يجرد كل احتجاج، وكل معارضة من سلاحهماً.*(13) .
يؤكد ماركوز ان الطابع العقلاني للسيطرة على المجتمع تتمثل في قدرة المجتمع بفضل التطور التقني على استباق كل مطالبة بالتغيير، وعلى تحقيق هذا التغيير تلقائياً بحيث تبدو النظرية النقدية المطالبة بتجاوز هذا المجتمع هي «اللا عقلانية»، ولكن هذا ليس إلا ظاهر الأمور ليس إلا .. ويؤكد ماركوز أن التمييز بين الظاهر، والواقع ليس بالأمر السهل دوماً*(14) .
ومن هنا كان هذا المجتمع أحادي البُعد مجتمعاً يحيلك باستمرار إلى ذاته، ويجرد من المعني كل محاولة لمناوأته، ومعارضته مادام يلبي حاجات الناس بغض النظر عن مشروعيتها، ولا يهم في قليل أو كثير أن تكون الحاجات التي يلبيها هذا المجتمع حاجات حقيقية أم كاذبة؛ حاجات إنسانية حقا أم حاجات مصطنعة، ومفروضة فرضاَ !!*(15) .
إن الجواب عند ماركوز لا يقبل التماساً: إنها حاجات وهمية من صنع الدعاية والإعلان، ووسائل الاتصال الجماهيري، وإذا كان المجتمع يحرص على تلبية هذه الحاجات المصطنعة؛ فليس ذلك لأنها شرط الإنسان ذي البعد الواحد القابل بالمجتمع ذي البعد الواحد، والمتكيف معه، وما الإنسان ذو البعد الواحد إلا ذاك الذي استغنى عن الحرية، وإذا كان هذا الإنسان يتوهم بأنه حر لمجرد أنه يستطيع أن يختار بين تشكيلة كبيرة من البضائع، والخدمات التي يكفلها المجتمع لتلبية «حاجاته» فما أشبهه من هذه الزاوية بالعبد الذي يتوهم بأنه حر لمجرد أنه منحت له حرية اختيار سادته !!*(16).
يرى ماركوز أن قوة المجتمع ذي البعد الواحد تكمن في أمرين :
١ ـ الطابع العقلاني للاعقلانية .
٢ ـ انقسام المجتمع إلى طبقات مستغِلة .
.. وهذا المجتمع يموه انقسامه الطبقي الواقعي بظاهر التلاحم الطبقي؛ فالعامل، ورب العمل يشاهدان نفس البرامج التليفزيونية، والسكرتيرة ترتدي ملابس لا تقل أناقة عن ملابس ابنه مستخدمها، والزنجي الذي لا يتمتع بحقوقه المدنية يمتلك سيارة كاديلاك فارهة، ولكن هذه المظاهر لا تعني أن الطبقات قد زالت، وإنما تدل في الحقيقة على مدى مساهمة الطبقات السائدة في تحديد الحاجات التي تضمن استمرار السيادة لها.*(17)
.. وإذا كان في وسع الإنسان أن يميز مجتمع السيطرة غير الحر من خلال تسلسل الرقابة فيه؛ فإن المجتمع ذا البعد الواحد قد قفز قفزة هائلة إلى الأمام في طريق تزييف وعي الفرد عندما استبدل الرقابة الخارجية المفروضة من فوق بنوع من الرقابة الداخلية المستبطنة، وقد اثبتت هذه الرقابة الداخلية فاعليتها، ونجعها إلى درجة بات معها الفرد الذي يأبى الانصياع، والامتثال للمجتمع يعتبر عاجزاً بل مريضاً نفسياً لا في نظر المجتمع بل في نظره هو بالذات .. إن المجتمع ذو البعد الواحد لم يزييف حاجات الإنسان المادية فقد بل زيف حاجاته الفكرية؛ فالفكر عدو لدود لمجتمع السيطرة؛ لأنه يمثل قوة العقل النقدية السالبة التي تتحرك في اتجاه ما يجب أن يكون لا باتجاه ما هو كائن، وهذه القوة في خاتمة المطاف قوة أيدلوجية، والحال أن المجتمع ذو البعد الواحد قد أحاط الأيدلولوجيا بالإزدراء، والتحقير باسم عقلانية التكنولوجيا؛ بما جعل المدنية التقنية هي الأيديولوجيا، وأبرز وجوهها هي الالتزام بالواقع المعطى أو القائم، ونبذ المفاهيم الشمولية أو النقدية التي تهدد بالكشف عن بعُد أخر لذلك الواقع.*(18).
.. لصناعة «الإنسان ذو البعد الواحد»، يؤكد هربرت ماركوز على دور وسائل الاتصال في تحويل المصالح الخاصة المحددة إلى مصالح مفترضة لكل البشر بما يعني هيمنة المجتمع على الفرد أعظم من ذي قبل، وأن مجتمع اليوم يتفرد عن غيره من المجتمعات السابقة في استخدامه التكنولوجيا بدلاً من العنف للوصول إلى تلاحم القوى الاجتماعية في حركة مزودجة :
ـ انتظام أمثل ساحق في سير المجتمع
ـ وتحسن مستمر في مستوى المعيشة *(19)
وبقدر ما يبدو الجزء الأول من هذه الحركة مضمون التحقيق دائماً يبدو الجزء الثاني منها قابلاً للتقصير فيه أو حتى إغفاله تماما ويرى ماركوز أن المجتمع الصناعي المتقدم يُحرم النقد من أساسه الحقيقي؛ فالتقدم التقني يرسخ نظام كامل من السيطرة والتنسيق والذي يقوم على إشاعة مفاهيم دعائية عن المصلحة القومية تلقى قبولاً على أنها تعبير عن الإرادة العامة، والتي يطلق عليها والتر ليبرمان : «فبركة الموافقة» ..
يرى ماركوز أن «فبركة الموافقة» تعتمد على صناعة ثقافة الأفراد ومن ثم سلوكياتهم عبر تخطيط أهداف الدولة ومؤسساتها الرسمية ووأهداف القوى ومؤسسات غير رسمية لصناعة شرعية النظام الحاكم، وقبول أفكاره وسياساته عبر صناعة القناعة والرضا عبر صناعة الثقافة وتوظيفها لها للانتقال من مرحلة السيطرة على المعارضة إلى مرحلة صناعة إنسان ومجتمع بلا معارضة*(20)
ينتهى ماركوز من تحليله إلى أنه إزاء المظاهر الكلية (التوتاليتارية) لهذا المجتمع ما عاد ممكنا الحديث عن حياد التكنولوجيا؛ فالمجتمع التكنولوجي نظام سيطرة يعمل على نفس مستوى تصورات التقنيات، وإنشاءاتها التي جعلت من العقلانية التكنولوجية عقلانية سياسية*(21)
وإذا كان كتاب : «الإنسان ذو البعد الواحد» يتحدث فيه ماركوز عن :«نظام السيطرة الناعمة» المتاح للمجتمع التكنولوجي، وقدرة نظام السيطرة الناعمة في المجتمعات الحديثة، والمعاصرة على صناعة الإنسان ذي البعد الواحد بفضل برامج ومؤسسات، ووسائل وأساليب الهندسة الاجتماعية التي تصممها هذه المجتمعات، وتطبقها، وتستخدمها بما يناسب طبيعتها، واحتياجاتها، وأهدافها .
.. الثقافة هي التي تشكلنا، وصناعة الثقافة تستهدف بالدرجة الأولى «التشوية الأيدلوجي»، والإنسان عندما يفكر في ذاته، وغيرها من الذوات، والموضوعات بمنظار عقله الذي تصنعه ثقافته، وتحدد أبعاده، ومدياته فإنه سيرى كل عنصر من عناصر حياته بمنظار هذه الثقافة، ويسميه بلغتها، ومفراداتها؛ لتكون صناعة ثقافة الإنسان في حقيقتها، وواقعها هي صناعة الإنسان، وأساليب، وأدوات فهمه، وتفسيره لتفاصيل الحياة كلها، دون أن يستتبع ذلك صحة، وموضوعية هذه الرؤية، وذلك الفهم، والتفسير، ومطابقتها للواقع بالضرورة .*(22)
يؤكد ماركوز أن مجتمع الاستهلاك قد أفسد الجميع، وصار الجميع ضحايا، ومنومين، وما عادو يتصرفون بإرادتهم الحرة، وصار الإنسان أحادي البُعد ما داموا يتلاعبون به، وصار المجتمع منظومة شمولية جديدة من خلال التنويم، ووسائل الدعاية التي تغرس في الوعي الفردي حاجات كاذبة، وعبادة الاستهلاك.
تصورات تعميق الشرخ
بين الواقـــــــع والذات !!:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. الشعب المصري يصف نفسه ـ بما رسخته التقولات في ذاكرته الجمعية، وجعلته مكوناً رئيساً متجذراً، ومتجدداً في معتقده المتوارث ـ دون تمحيص ـ بأنه: «هو الذي دهن الهواء دوكو»*(22)، و«هو الذي ثقب التعريفة»*(23)، و«هو الذي عبأ الشمس في قوارير زجاجية»، و«هو الذي باع الميه في حارة السقايين.»، و«أنه شعب مالوش كتالوج» بمعنى أنه لا سبيل إلى فهم مكنوناته، وأنه شعب لا مثيل له في ماهية تفكيره، ولا نظير له في الوجود، والتي يلخصها في مقولته الشعبوية : «إحنا مش أي .. أي، ولا زي .. زي».!!
. . ولا يختلف الأدعياء من المثقفين «بلا ثقافة» في تقولاتهم عن التقولات الشعبوية عن مصر سوى في أناقة الصياغة فقط، وأحيانا جزالة اللفظ مثل الادعاء بأن مصر هى التي شهدت «بداية الحضارة»، و«مولد التاريخ» و«فجر الضمير».
وهو كلام يفتقد الدقة العلمية من الناحية الأركيولوجية فقد أثبتت الدراسات أن هناك حضارات سابقة على حضارة مصر، وأثبتت البحوث سبق حضارات كثيرة على الحضارة المصرية في الوجود، واختراع الكتابة، وتدوين التاريخ؛ فقد أثار بعض المستشرقين في القرن الماضي خلو اللغة العربية من مفهوم «الضمير Consience» التي نترجمها في كلمة «الضمير الأخلاقي»، ويقصد به الملكة التي تصدر بها أحكام القيمة التي من طبيعة أخلاقية؛ فكان العقل خاص بالمعرفة، والضمير خاص بالأخلاق .
ومع ذلك فغياب كلمة في لغة لا يعني بالضرورة غياب المفهوم فكلمة قلب في اللغة العربية تستعمل أحيانا بمعنى الضمير الأخلاقي لقول الحق سبحانه وتعالى: «لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ـ البقرة:225، والأية الكريمة : (ولَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ فِيما أخْطَأْتُمْ بِهِ ولَكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكم﴾ ـ الأحزاب ٥، والأية الكريمة: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ـ الحج46، وجميع هذه الأيات تربط المسئولية الأخلاقية بالقلب.
فعبارة «الضمير الأخلاقي» من العبارات الحديثة في اللغة العربية؛ فهي وليدة الترجمة من اللغات الأجنبية مع أنها موجودة في قاموس «لسان العرب» ولكنها لا تحيل إلى مبدأ الأخلاق بل تعني: السر، وداخل الخاطر، والجمع ضمائر، والضمير الشئء الذي تضمره في قلبك .
ادعاء الانتساب
إلى «الفراعنة» :
ــــــــــــــــــــــــــ
في إطار الفخار التاريخي الزائف يدعي المصريون المحدثون أنهم أحفاد الفراعنة، وينسبون لأنفسهم أمجادهم!!، حيث يمثل الطرح الفرعوني ملجأ أمناً في زمن تعاني فيه مصر من هزائم متتالية فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وامتدت الانكسارات لتشمل المهرجانات الفنية، والمسابقات الرياضية بما استلزم استحضار «خدر الفرعونية»، وما يحدثه من أثر لطيف يدخلهم في عوالم المجد الغابر التي يصعب عودته في المستقبل القريب!!، وامتدت المهزلة لتشمل العديد من المسوخ الفنية في محاكاة للعمارة الفرعونية، دون فهم أسرارها، وحقيقة رموزها، وحساباتها الدقيقة التي تجلت في ثبات منسوب مياه البحيرة المقدسة بمعبد الكرنك، وتعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني يوم مولده، ويوم تتويجه !!.. والمتأمل لاستهلاك، وابتذال خيار الهوية الفرعونية كمرجعية تشكيلية، وبصرية في بعض المباني العامة يكتشف أننا أمام ابتذال، وتسطيح مضحك لمظهر العمارة الفرعونية مثل ما حدث في ضريح سعد زغلول الذي صممه المعماري عثمان محرم، ومعرض السجاد في هانوفر، والجناح المصري للسياحة في بورصة برلين، وكذلك القرية العالمية بدبي، ومبنى المحكمة الدستورية على نيل القاهرة، ومبنى تنمية الصناعات الصغيرة، والقرية الذكية، ومحطة القطارات في مدينة الجيزة .
.. لكن إلى أي مدى تتوافق جينات المصريين المعاصرين مع المصريين القدماء؟؛ فقد سقطت الدولة القديمة على يد الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد أى منذ 26 قرن من الزمن تعاقب فيها على حكم مصر مئات الأجناس، وألاف الحكام بما يستحيل معه أن يتصور بقاء التسلسل الجيني على نقائه بدرجة تصل المصريين المحدثين بالفراعنة !!
.. وهو ما كشفت عنه دراسة موسعة حديثة أكدت أن التركيبة الجينية للمصريين المعاصرين مقاربة لجينات سكان أفريقيا، أما جينات قدماء المصريين فهي تشبه سكان منطقة الشرق الأوسط، وأوروبا أكثر مما تشبه المصري المعاصر.
.. وقدمت الدراسة للمرة الأولى عرضًا موسعًا للتركيبة الجينية لقدماء المصريين نُشر بدورية : «نيتشر كوميونيكاشنز Nature Communications» في 30 مايو 2017، فيما يُعد إنجازاً علمياً «غير مسبوق» على حد وصف يوهانس كروس، أحد أفراد الفريق البحثي، ومدير معهد ماكس بلانك للتاريخ، والعلوم في جينا بألمانيا: «للمرة الأولى نمتلك معلومات موثوقة عن التركيبة الجينية للحمض النووي DNA للمومياوات المصرية».
.. ويؤكد كروس أن المعلومات، والتحليلات السابقة للحمض النووي لمومياوات مصرية لم تمكن من إثبات صحة الحمض النووي: «على الرغم من وجود كشوفات موسعة سابقة عن الآثار، ووجود سجل تاريخي للهجرة البشرية، والحركة في هذه المنطقة، إلا أن الدراسات المعتمدة على تتبع، وتحليل الحمض النووي القديم من المتوفين واجهتها صعوبات بسبب سوء حفظ البقايا القديمة».
.. وحلل الفريق البحثي نتائج تحليل الحمض النووي لـ90 مومياء من قرية «أبوصير الملق» التابعة لمركز الواسطى بمحافظة بني سويف بوسط مصر، وتضمن البحث ثلاث حقب تاريخية امتدت لحوالي 1300 سنة، وهي: عصر ما قبل البطالمة، والعصر البطلمي، والعصر الروماني، بجانب بيانات استقرائية من بحوث سابقة رصدت تحليلات جينية لسكان مصر المعاصرين.
.. وأوضح كروس أن البحث جرى باستخدام تقنية «تسلسل الحمض النووي» الحديثة، والتي سمحت بالتأكد من صحته، إلى جانب تحديد الحقبة الزمنية التي ينتمي إليها، وهو ما لم يجر اتباعه من قبل في الفحوصات التي خضعت لها المومياوات المصرية، مما «يمهد الطريق نحو اكتشاف، وفهم أشمل للتاريخ السكاني المعقد لمصر»؛ فالتاريخ السكاني لمصر ظل محل جدل لفترات طويلة، كما يشرح الباحث: «هناك مزاعم بأن الهيمنة الأجنبية التي سادت بعد دخول كلٍّ من الإسكندر الأكبر، والرومان أو الآشوريين لمصر، غيرت من التركيبة الجينية للمصريين القدماء، وجعلتها أكثر ميلًا للجينات الـ «أورو آسيوية»، ولكن من خلال البحث خرجنا بملحوظات معاكسة تمامًا، إذ ما من أصول جينية تربط المصريين القدماء بسكان منطقة الصحراء الأفريقية تقريبًا».
.. ويؤكد كروس أن جينات المصريين القدماء كانت أقرب في الشبه إلى سكان الشرق الأوسط منها إلى المصريين المعاصرين، وتحديدًا سكان الأناضول والمزارعين الأوروبيين القدامى.
.. وبررت الدراسة ما وصفته بـ «الامتزاج» بين المصريين، وشعوب أخرى، بما تتمتع به مصر من موقع مميز كمفترق طرق بين القارات، ووقوعها على البحر الأوسط القديم، جعل منها بيئة خصبة لتفاعلات طويلة الأمد مع الثقافات الأفريقية، والآسيوية، والأوروبية منذ الألفية الأولى قبل الميلاد.
.. وأوردت الدراسة أن البيانات المستقاة من بحوث أخرى كالتي قامت بها لوكا باجني، وفريقها التابع لقسم الفنون، والآثار بجامعة كامبريدج في 2015، ونُشرت بدورية «سيل» تحت عنوان «تتبع المسار البشري بأفريقيا باستخدام 225 تسلسلًا لأحماض نووية من إثيوبيا ومصر»، خلصت إلى أن 80% من جينات المصري منذ 750 عامًا «غير أفريقية»، فيما أظهرت البيانات الأكثر حداثةً تمازُجًا أعلى من ذلك.
.. «خلال الـ1300 سنة الماضية، استقبل المصريون قدرًا كبيرًا من الجينات المتدفقة من سكان جنوب الصحراء، بسبب عوامل منها كثافة التنقل على طول نهر النيل، أو تجارة الرقيق من وسط أفريقيا» كما يعلق كروس.
.. ويرى كروس أن أهمية هذه الدراسة تكمن في إعلام المصريين المعاصرين بأنهم مندمجون وراثيًّا عبر أزمنة عدة مع كل من الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وجنوب الصحراء، وأن هذا الخليط قد حدث في تاريخهم الحديث».
***
.. وبغض النظر عن عنجهيات الفخار الزائف، ومبالغات الافتراء؛ فإننا نجد أنفسنا أمام نوع من العبث ينطوي على نمط حياة قائم على الشعور بالذات أطلق عليه الطبيب والمحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان ١٩٠١ ـ ١٩٨١:(الشعور المتخيل)؛ وهذا الشعور شرطاً لشعور الإنسان (متوهماً) بأنه صانع أفعاله، ويأتي هذا الشعور المتخيل بالذاتية نتيجة لفعل الأجهزة الأيديولوجية، وتأثيرها!!
.. فنحن الشعب الوحيد في عالمنا الذي يطلق على: «الخبز» اسم :«العيش» بمعنى: «الحياة»، و«الوجود»، كما يطلق عليه اسم:«النعمة» بمعنى : «هبة الله»، و«الرزق»، و«القوت» بمعنى ما به قوام البدن من الطعام، ويطلق على السعي للكسب : «أكل العيش»، و«رزق العيال»، وفي ذات الوقت لا يحترم «قيمة العمل»، ولا يسعى لإجادته!!، بدليل أن مصر في مرتبة متدنية جداً من التقسيم الدولي للعمل إضافة إلى رداءة المنتج المصري!!
شعب يقسم بـ «العيش والملح»، ويضعهما على عينيه بمعنى فقد البصر إذا حنث بالقسم أو خان العهد، ومع ذلك لا يقيم للوفاء وزناً، ولا للتدين ميزانا يُسيئ الأدب مع الخالق، والمخلوق، ويسب الدين، ويلعن الملة، ولا يحترم للأموات حرمة، ولا للأحياء حقوق إذا تعارض اتجاه الأحداث مع أهوائه، ومطامعه، ومكاسبه !!
شعب يجيد التظاهر بـ «التدين الشعبوي»، وإبداء «الورع الكاذب»، ويبرع في استغلال طقوسه، ومناخاته في الغش، والخديعة، والكسب غير المشروع والنصب، والابتزاز، والتسول !!.(99 % تقريباً من المتسولات النساء منتقبات ـ في القاهرة 14,400متسولة ومتسول، وفي الأسكندرية 9000 متسول ومتسولة، وفي الجيزة 600 ,7 متسول ومتسولة ـ ، و90% تقريباً من الرجال المسجلين في جرائم التسول، والنصب، والاحتيال، والبلطجة ملتحون، ويبدو ظاهريا عليهم سمات التدين.).*(24)
المصريون يعشقون الجنس ويستخدمون مفراداته في بذاءاتهم، والنيّل من بعضهم، وينفقون على الكيف وأدوية الجنس (المنبهات ـ المغيبات ـ المسكرات ـ المخدرات ـ منشطات جنسية) 140 مليار جنية رغم الظروف الاقتصادية، والاجتماعية الخانقة !!
المصريون يقدسون الأم، ومع ذلك يجعلونها هدفاً لسهام بذاءتهم في مزاحهم، وتراشقاتهم اللفظية !!
المصريون لا يكفون عن الحديث عن القضاء، والقدر، والمقسوم، وفضيلة الرضا بالمكتوب، ومع ذلك ينفقون سنوياً ما يتراوح ما بين 10 و25 مليار جنيه في أعمال السحر والشعوذة .*(25)
ورغم إسراف المصريين في الكلام عن الشرف، وانحياز الشق الكبير من الحديث إلى جانب العرض؛ فإنهم لا يأبهون بأشكال الدعارة المقنعة والمقننة الضاربة الجذور في التاريخ المصري، والتي أغرقت المجتمع المصري في العصر الحديث بانتشار العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج بزعم أن طرفيها المتورطان فيها «كاتبين» ورقة عليها شهود، وأخذ سلطات الضبط وسلطات التحقيق بهذه الورقة كـ «محرر عرفي» مُثبت لـ «علاقة الزوجية»!! بما أسهم في انتشار الدعارة التي يطلق عليها لفظ زواج، والذي اتخذ مُسميات عدة : «زواج الإيجار، وزواج التجربة، وزواج المسيار، والزواج السياحي، وزواج الوناسة، وزواج الفريند، وزواج الويك اند، والزواج الصيفي، والزواج النهاري، والزواج بالساعة، والزواج باليوم، وزواج الدم، وزواج الوشم، وزواج الطابع، وزواج الكاسيت، وقد أعلنت بعض المصادر الحكومية أنه يوجد 552 ألف حالة زواج عرفي بين طلبة الجامعات (وهو رقم يصعب الوثوق فيه لأن العلاقات السرية تبدأ في الخفاء، وتنتهي في الخفاء ما لم يحدث عارض غير متوقع، كما تشير بعض الجهات إلى وجود 10 مليون حالة خلع وزواج عرفي منظورة أمام المحاكم، و12 ألف قضية إثبات نسب .. لكن لم يتثنى لنا الحصول على مستند رسمي) .
وبدلاً من اتخاذ تدابير قانونية واجتماعية، وأسرية تحفظ للمجتمع كيانه وتسهم في حفظ الانساب، وعدم اختلاطها بين أفراده تحول الموضوع إلى ساحة للعراك الديني موضوعها الحلال والحرام ليصل في النهاية إلى الرأى القائل بأنه:«حلال إلا قليلاً»، ولتنشأ العديد من النشاطات التي تتمحور حول تلك الظاهرة من السماسرة ومحامين لتقنين الزواج الفاسد، والكوفيرات، والدلالات والبلانات، وأطباء عيادات الإجهاض غير المشروع، وجراحين إعادة البكارة المصطنعة، وأيضا ثارت المعارك الفقهية حول :«البكارة المصطنعة» بين من يرى أنها ضرورة من ضرورات «الستر الواجب شرعاً»، وبين من يرى أنها خداع لا يجوز يترتب عليه فساد، وبطلان عقد النكاح !!
التاريخ «السري»
للمجتمع المصري :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتحدث «المتلاعبون بالوعي» كثيراً عن شموخ الأهرامات، وعظمة الفراعين؛ لكنهم لا يأتون ذكراً لمقابر العبيد «بناة الأهرامات»، والتي تقع على بعد 500 متر من الأهرامات في سراديب حفرت في الأرض لعدة كيلومترات؛ لتكون مقابر للبؤساء الذين شيدوا الأهرامات على مدى مائة وثلاثين عاماً، حملوا خلالها ثمانمائة مليون صخرة تزن الواحدة منها طنين ـ تقريباً ـ جاءوا بها من أسوان إلى حيث الجيزة الآن (980 كيلومترا)؛ ليشيدوا تسعة أهرامات، ستة صغيرة وثلاثة كبيرة؛ لتصبح فيما بعد صروحاً تذكارية للفراعين؛ حيث لم يثبت حتى الآن أن الأهرامات استعملت كمقابر حسبما شاع في عهود مضت!!.
شيد خوفو الهرم الأكبر ليخلد ذكراه .. لكن من أتوا بعده لعنوه، ولعنوا ذكراه، ونهشوا عرضه ـ كما جاء في وصف هيردوت ـ وكانت أصداء أعماله البائسة تتردد إلى الوقت الذي زار هيردوت فيه مصر سنة 450 ق . م تقريباً، يقول هيرودوت :
« إن خوفو كان فرعونا في غاية الخبث، والشر، وقد أضاع كل ثروته.. الأمر الذي دفعه إلى إرسال ابنته إلى أحد بيوت البغاء، ومعها أوامر بتدبير مبلغ معين له، وفعلت البنت ما أمرها به، ولكن أملا في أن تُذكر بشيء آخر كانت تطلب من كل رجل ضاجعها حجرا على سبيل الهدية، وبهذه الأحجار قامت ببناء واحد من الأهرامات الضخمة التي لا تزال قائمة على هضبة الجيزة بالقرب من نهر النيل » *(26)
.. بالتأكيد أن الحكاية التي رواها هيردوت ليست دقيقة؛ فقد كانت الدعارة مهنة مقدسة في مصر القديمة، وكان يُطلق على البغايا في مصر الفرعونية «بنات آمون»، بمعنى «بنات الإله»، وكن يُقسمن إلى طوائف، تسيطر على كل منها سيدة يطلق عليها «رئيسة الحريم»، وقد استمرت هذه المهنة، وراجت في مصر تحت حكم الرومان!!
.. لكن الثابت تاريخيا أن حروب الإفرنج التي يطلق عليها زوراً :«الحروب الصليبية» قد أتت إلى مصر، ومعها عشرات الأف من الموامس، والعاهرات لكي يكن في تلبية رغبات المحاربين، ومع انكسار تلك الحملات، ورحيلها ضاقت بهم المسفن؛ فتركوا هؤلاء النسوة لمصائرهن؛ فكانوا جواري، ومحظيات، ومومسات !!
.. وفي العصر المملوكي كانت الدعارة من المهن التي تحظي برعاية الدولة؛ لأنها تفرض عليها ضريبة معينة تدر دخلاً للخزانة السلطانية؛ فقد كان على من ترغب في احتراف الدعارة أن تذهب إلى «ضامنة المغاني» التي كانت بمثابة الراعية الرسمية، وممثلة من يحترفن الدعارة .
وفي العصر العثماني كانت توجد مقاطعة التزام تختص بتحصيل الرسوم من النساء والمغنيات والعوالم والبغايا.
.. ومع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر ساد الانحلال المجتمع المصري، وتغيرت بعض عادات المصريين، كانت البغايا من المصريات كثيرات وفقيرات ورخيصات لكنهن ـ في الغالب ـ كن غير مغريات، وقبيحات، ومصابات بالأمراض، .. وقد أدى ذلك إلى تفشي الزهري والسيلان بين جنود الحملة؛ فكتب الجنرال ديجا (حاكم القاهرة) إلى بونابرت في عام 1799 يقول:
«البغاء وراء تفشي الوباء في مساكن الفرنسيين، ولا بد من إغراق من يقبض عليهن في الثكنات، وكان تعقيب نابليون على الهامش :«كلف أغا الإنكشارية بهذه المهمة»، وقد نفذ أغا الإنكشارية المهمة؛ فقطع رؤوس 400 مومس، ووضع الجثث في غرائر، وخاطها، وألقاها في النيل .
أما كبار ضباط الحملة فقد حلوا مشكلتهم دون أن يبذلوا جهداً؛ فقد كتب أحدهم لصديقه يقول : «لقد ترك لنا الأمراء المماليك بعض النسوة الأرمنيات، والكرجيات اللطيفات التي استولين عليهن صالح الأمة» .
يقول الجبرتي :«إن الجواري السود كن أشد رغبة، واستعداداً من الأرمنيات، والكرجيات» .. إن الجواري السود لما علمن رغبة الفرنسيين في مطلق الأنثى ذهبن إليهم أفواجاً، ونططن الحيطان، وتسلقن إليهم من الطبقان، ودلوهم على مخبآت أسيادهن، وخبايا أموالهم، ومتاعهم، وغير ذلك».
وشأن كل البلاد المنكوبة بالإحتلال جر ولع الفرنسيين بالنساء استهتاراً واضحاً بالأداب العامة يقول الجبرتي :
«فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر، وحاربت الفرنسيين بولاق، وفتكوا بأهلها وغنموا أموالها، وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات اللائي صرن مأسورات عندهم فزينوهن بزي نسائهم، وأجبروهن على طريقتهم في كامل الأحوال، فخلع أكثرهن نقاب الحياة بالكلية، وتداخلت مع هؤلاء المأسورات غيرهن من النساء الفواجر؛ لما حل بأهل البلاد من الذل، والهوان، وسلب الأموال، واجتماع الخيرات في أيدي الفرنسيين ومن والاهم، وشدة رغبتهم في النساء، وخضوعهم لهن، وموافقة مرادهن، وعدم مخالفة هواهن ـ ولو شتمته أو ضربته ـ فطرحن الحشمة، والوقار، والمبالة، والاعتبار، واستملن نظراءهن، وأختلسن عقولهن لميل النفوس إلى الشهوات، وخصوصا عقول القاصرات.».
إلا أن قيادة الحملة وجدت أن المشكلة أكبر من أن تواجه بمثل هذه الحلول؛ فأقامت في غيط النوبي المجاور للأزبكية أبنية للبغاء على هيئة خاصة، واستقدمت المومسات من أوربا وجنوب أسيا، وفرضوا على من يدخلها رسماً معيناً إلا إذا كان يحمل تصريحاً من قيادة الحملة يبيح له الدخول مجاناً .
.. وهناك الكثير من الدلائل التي تشير إلا أن الدعارة كانت تتزايد في مصر خلال عهد محمد على، وهو أمر لا يعود إلى انهيار مفاجئ في الأخلاق أو أي زيادة مفاجئة في الرذيلة على نحو ما تمثله كوتشوك هانم وتختها ورقصتها الشهيرة (رقصة النحلة) التي تتخفف فيها من ملابسها حتى تصل إلى العري التام، والتي خلدها جوستاف فلوبير في :«رسائل فلوبير»؛ كان انتشار الدعارة نتيجة التوسع الجائر برعونة ودون روية في التجنيد الإجباري، ومشاريع السخرة أن تزايدت الدعارة بشكل غير مسبوق لما ترتب على التفكك غير المسبوق للحياة الأسرية الذي نتج عن سياسة التجنيد النهمة التي أجبرت الألاف من الرجال على التنقل من مدينة لأخرى، ومن منطقة لأخرى تاركين خلفهم الزوجات، والأمهات، والبنات تحت وطأة الجوع؛ فاضطر العديد من الزوجات الشابات؛ وقد هجرن بهذا الشكل، وتحت وطأة الجوع أو لتجنب هلاك أبنائهن إلى العمل بالدعارة .
.. وانتشرت ظاهرة «الخولات» في المجتمع المصري، وهم مجموعة من الغلمان المخثين الذين يرقصون في الشوارع بملابس نسائية، ويقلدن حركات النساء، وأفعالهن، يصف جوستاف فلوبير هؤلاء الغلمان بقوله : «شاهدنا راقصين من الرجال .. تصوّر وغدَين في غاية البشاعة، لكنهما فاتنان في فسادهما، وفي نظراتهما الشذراء وحركاتهما الأنثوية، يرتديان ملابس النساء وعيونهما مكحّلة، ومن حين إلى آخر كان قائد الفرقة، أو القوّاد الذي جلبهما، يقوم بالعزف حولهما، يقبّلهما على البطن، والمؤخّرة، في الظهر، ويقوم بحركات بذيئة محاولاً وضع توابل إضافية على شيء واضح في حدّ ذاته» .
كان جيش الباشا يشكل ضغطاً على النساء؛ فبالإضافة إلى انتشار الدعارة بين النساء تشير(سجلات ضبطية مصر) إلى إزالة بكارة الكثيرات من فتيات القاهرة، وأنهن مستعملات، .. ونتيجة حالة الفسق انتشر مرض الزهري بين الأنفار، وانتشر بين طلبة المدارس العسكرية في القاهرة؛ فحين أبلغ كلوت بك بأن عدد الطلبة المصابين بالزهري في مدرسة واحدة ٣٠٥؛ أرجع ذلك إلى عدم وجود أدب، وإلى أفعال غير لائقة، وفي النهاية قرر كلوت بك أن جذر المشكلة يكمن في الدعارة .
عن المشهد في مصر في ظل تلك الحالة من الانفلات، وصف سان جون في كتابه بعنوان : «مصر» زيارة قام بها لبني سويف في مارس ١٨٣٣ تمثل مشهداً نموذجيا للحالة الأخلاقية في مصر :
« عند وصولنا إلى المدينة كان سمة ثمة صخب، وسرعان ما اكتشف السبب كان أحمد باشا يكن قد وصل على التو من الحجاز، ومعه قسم من الجيش المصري، وكان الجنود ينتشرون في أنحاء المدينة؛ ليمارسوا المتع الفظة، وانتشرت الفتيات في المدينة، ومعهم الموسيقيين، والمغنين، والراقصات، وامتلأت الفنادق بهذه الحثالة العسكرية بحيث تعذرالعثور على غرفة.*(27)
أرجع كلوت بك هذه الحالة من الانفلات الأخلاقي إلى ارتفاع معدلات الطلاق، وإلى «الطبيعة الشبقية للنساء المصريات»!!
وبعد احتلال بريطانيا لمصر ازدهرت الدعارة تحت مظلة لامتيازات الأجنبية برعاية الاحتلال الذي جعل من العاهرات، والفتوات، والبلطجية، والبرمجية، و«شيوخ العرصات» درع لحماية فسق جنوده، ومواخير الدعارة، وتأمين قناة من أهم قنوات الحصول على المعلومات لمصلحة المخابرات الإنجليزية هم والباعة الجائلين من الأجانب المنتشرين في القرى والنجوع!!، والذي كتب عن بعض خلفياته الجنرال توماس رسل حكمدار بوليس القاهرة ( 1917 ـ 1946) في كتابه بعنوان : «عالم الرذيلة والجريمة في القاهرة Cairos underworld»*(28)، وكان يتم مكافأة تلك الفئات من أموال البدل العسكري (40 جنية) الذي كان يدفعه المصريون مقابل عدم أداء الخدمة العسكرية .
وفي ظل تغيير الظروف أختلفت أشكال الدعارة، وتعددت مؤسسات القوادة؛ فالقواد لم يعد ذلك الشخص الفظ المشوة الخلقة، بل شخص شديد التهذيب .. أنيق الهندام، وغالباً ممن تسمح لهم أوضاعهم بممارسة القوادة بطريق غير مباشر، فمنهم رجال أعمال، وسياسيون، وموظفون، وأصحاب الكباريهات الذين يستخدمون فتيات ممن يطلق عليهن الفنانات (المغنيات ـ الراقصات)، والبنات اللائي يطلق عليهن : «المستدرجات للشراب» أي فتاحات زجاجات الخمور، وأصحاب صالات الديسكو، ومعاهد التجميل، ومكاتب التخديم في المنازل .
.. قدمت لنا القضية المعروفة إعلاميا بقضية :«فتيات التيك توك Tik Tok» صورة شديدة الخطورة للإتجار بالبشر عبر شبكة الانترنت، وبعض مواقع التواصل من خلال التطبيقات سيئة السمعة التي يمكن من خلالها استدعاء «فتاة متعة جنسية» للحضور إلى مسكنك مفابل مبالغ مالية يتم الاتفاق عليها، أو دفع ١٠ دولارات في صورة كوينات مشتراة من التطبيق مقابل أن تمارس أحدى «فتايات المتعة الجنسية» ابتذالها عبر النت لمدة ١٠ دقائق، وهو ما يطلق عليه E. Sex.
.. «فتاة المتعة جنسية» تختلف تماما في شكلها وأسلوب ممارستها عن ذي قبل فلم تعد الفتاة البائسة التي تتسكع في الشواع، وتحت أعمدة الإنارة لتتصيد زبائنها؛ «فتاة المتعة جنسية» ترتدي أرقى الملابس السينيه والنظارات، والبرفانات، وتنتقل بالسيارات الفارهة، والطائرات الخاصة .. قد تكون جامعية، وقد تكون حاصلة على درجة أعلى، وقد تكون سيدة أعمال أو ممثلة أو مغنية .. تتحدث اللغات، وتدير أعمالها، وتروج لنفسها بأساليب تبدو طبيعية، ومألوفة من خلال تكنولوجيات العصر، وتعقد اتفاقتها من خلال شفرات وأكود يصعب أختراقها بما يصعب عمل أجهزة الأمن؛ فقد أصبح «تسليع الجسد» من أهم أساليب الترقي الاجتماعي، والوظيفي، وعقد الصفقات الحرام، وجمع الأموال القذرة، وأصبحت «الرشوة الجنسية» عملة رائجة في سوق التدوال المجتمعي.
.. وفي ظل تلك الحالة انتشر في قرى مصر ما يطلق عليه : «الدعارة الحلال» قوامها رعاع الوهابية الذين ابتليت بهم مصر، وأطرافها سمسار وفتاة فقيرة، وثرى خليجي جاء لبقضى بعض الوقت، ومحام يحرر عقد عرفي ليتم التوفيق بين «رأسين في الدعارة الحلال» .
اللامبالاة والخمول
في حياة المصريين :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر أجرى علماء الحملة الفرنسية اختباراً بسيطا على عينات مختلفة من سكان الحارات للوقوف على مدى «المشاركة الإيجابية» في مجتمع القاهرة بوضع حجر كبير أمام مدخل كل حارة؛ فكان المارة يعتلون الحجر، وينزلون إلى الجانب الآخر ليدخلون الحارة، أو يلتفون حوله من أحد جوانبه، ويدخلون الحارة دون أن يكلف أحدهم نفسه السؤال عن سبب وضع هذا الحجر، أو محاولة زحزحته بعيداً عن مدخل الحارة !!
.. وقد رصد علماء الحملة الفرنسية عدة أمور أخرى أهمها:
* أن المصريين شعب شديد الكسل، والخمول حتى أن الفرنسيين قالوا: «إننا لنظنهم بلهاء أو معتوهين؛ فحركاتهم، وأحاديثهم، وأبسط انفعالاتهم، ومسراتهم تشي بعدم اكتراث مذهل لا يشغلهم طوال نهارهم سوى تدخين غلاينهم الطويلة، والتي يطلقون عليها (شبكة الدخان)، وشرب القهوة، ويستخدم الأغنياء تبغ اللاذقية الفاخر مخلوطاً بخلاصة، أوعصارة الخشاش المطبوخ أما الفقراء فيقنعون بالتبغ المحلى مخلوطاً بنوع من عصارة القنب ـ الحشيش ـ للوصول إلى حالة من الخدر تنسيهم ألامهم ومضايقاتهم، .. ويباع الأفيون في مقاهي القاهرة، والأفيون هو نوع من المعجون المخلوط بالأعشاب !! حتى يخيل للبعض أنهم شعب من البلهاء يقضون طوال أيامهم في استرخاء يدخنون الغلاين الطوليه» .
* أنهم شعب لا يثور بدون أيدي تحركه أو قيادة تقوده، فقد كان المحرك لثورة القاهرة الثانية بعض عناصر تابعة للمخابرات الإنجليزية، وعناصر عثمانية للضغط على الفرنسيين للجلاء عن مصر !!
*انعدام المشاركة الإيجابية في الشأن العام (تجربة وضع الحجر أمام الحارات) .
.. وقدر رصد علماء الحملة الفرنسية في كتاب «وصف مصر» أن المصريين يتمتعون بقدرة هائلة على (الثبات الانفعالي Emotional Constancy)، والثبات الانفعالي هو قدرة الشخص على التحكم في انفعالاته، والمحافظة على الهدوء، والاتزان مهما كانت الضغوط المحيطة به؛ فالمصريون لا يكشفون عن ما يعتمل في نفوسهم عن طريق قسمات ملامحهم، وتعبيرات وجوههم؛ فصورة الوجة ليست مرآة لأفكارهم؛ فشكلهم الخارجي في كل ظروف حياتهم يكاد يكون هو نفسه .. إذ تغلب عليه حالة من الموات .. إذ يحتفظون في ملامحهم بنفس الحيدة، وعدم التأثر سواء حين تأكلهم الهموم أو يعضهم الندم أو كانوا في نشوة من سعادة عارمة، وسواء كانت تحطمهم تقلبات غير منتظرة أو كانت تنهشهم الغيرة، والأحقاد، أو يغلون داخلهم من الغضب أو يتحرقون للإنتقام، وأرجع العلماء ذلك إلى الاعتقاد في القضاء والقدر، كما تعود إلى تعرضهم دوماً لنزوات الطغاة الذين يعم ظلمهم البلاد؛ ففي كل يوم تنشأ أخطاء، وبشاعات جديدة تصبح «الغفلة» معها بالنسبة للمصريين نوعاً من الحيلة لمواجهة هذا العسف، ويحاولون من خلالها أن يتفادوا الخطر .. بما يجعل المصري أمام حالة من التسليم المستعذب للألم؛ فالشكاوي، والصيحات أمور لا فائدة منها أمام جبروت الطغاة !!*(29)
اللورد كرومر
و«هاتولي حبيبي»:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. وجاء الاحتلال الانجليزي إلى مصر، وجاء معه اللورد كرومر المعتمد العام البريطاني في مصر، وبأسلوب المخابرات البريطانية في العمل راح كرومر يتغلل في جميع مناحي الحياة في مصر، ويمارس اختراق المجتمع بشتى الوسائل، والأساليب، وحدث أن كان الرجل مدعواً لإحدى حفلات الزفاف مع الزعيم سعد زغلول، وكان مطرب الحفل عبده الحامولي يتغنى بأغنية يقول مطلعها :
«.. حبيبي راح هاتوه لي يا ناس..»
وراح المطرب يرددها كثيراً، وبدأ الملل بتسرب إلى كرومر الذي دفعه الفضول لمعرفة معنى العبارة، وطلب ترجمتها، عندها اتخذها حجة على إقامة الدليل على أن الشعب المصري شعب خامل لا يحسن التفكير، أو التدبير، أو القدرة على الإنجاز؛ فحتى في العشق لا يُكلف المحب نفسه مشقة البحث عن حبيبه، طالبا من الناس ان يجيئوا به إليه!!
واتخذ كرومر تلك الحكاية وسيلة يتندر بها في كل محفل لوصف طبيعة الفرد العربي بصفة عامة، والمصري بصفة خاصة، والتدليل على أن موروثاته الثقافية انعكست على مواقفه السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وان الشعوب العربية إتكالية، تجيد لغة النواح، حتى تستجدي عطف الآخرين ليهبوا لنجدتها من منطلق نصرة الضعيف، لا من منطلق القناعة بأن لها حقاً ملزماً يحتم على الآخرين الوقوف معها لاستعادته.
وراح لورد كرومر يكشف عن عورات وجداننا، وسوء أفعالنا، وضعف همتنا، وانعدام إرادتنا .. قال اللورد كرومر في كتابه بعنوان :«مصر الحديثة» أن مصر تحكم بثلاث كلمات تبدأ بحرف C اللاتيني : «الكورباج Courbash، والسخرة Corvette، والفساد Corruption».
يقول كرومر: أنه عندما جاء لورد دوفرين إلى مصر كان عاقداٌ العزم على ألا يحكم هذا البلد تحت أي ظرف من الظروف باستعمال الكرباج، وأصدر منشور بذلك، وكانت النتيجة كارثية عندما لم يعد لمنظومة السخرة التي كانت مفروضة في ظل حكم الكرباج وجود، ورفض الفلاحون الذهاب إلى الأعمال بناء على طلب المديرين، ولم يعد بالوسع إجبارهم، ولم نعد قادرين على تطهير الترع، وتوصيل المياه إلى الحقول، وبدأت الزراعة تنهار، ولم يعد في مقدورنا حماية شواطئ النيل في وقت الفيضانات العالية،.. وأدركنا الحقيقة التي مفادها أن الأمر قد يحتم جلد الشعب المصري لمنعه من الموت جوعاً .
الفساد في حياة المصريين :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. وعن الفساد البنيوي المتجذر في أخلاق، وتاريخ المصريين يقول كرومر:
« لم يحدث أن كان هناك فساد في أي بلد من البلدان مثل الفساد الذي عشش في كل أنحاء مصر .. كان المصريون يقبلون الرشاوي، ويدفعونها بدءاً من الحمّار شبة العاري الذي يصيح مطالباً بالقشيش، ومروراً بالمطالبة بقرش أو قرشين من سائح فصل الشتاء، وانتهاء بالباشا عالى المقام الذي يمكنه الحصول على عونة عن طريق دفع مبالغ كبيرة معظمها أو كلها تقريباً على سبيل الرشوة، كان المقاول يرشي الوزير كيما يحصل على عقد بشروط مناسبة له هو، تم يقوم بعد ذلك برشوة كاتب الأشغال حتى لا يتحرى الدقة عما إذا كانت نصوص العقد قد نفذت تنفيذاً دقيقاً، .. وكان المرؤوس يرشى رئيسه طلباً للترقية، وكان مالك الأرض يرشي المهندس للحصول على المزيد من الماء لأرضه، وحقوله أكثر مما يستحق، وكان القضاة يرتشون من المدعي، والمدعى عليه في أى قضية من القضايا، وكان القرار يصدر لصالح ذلك الذي دفع رشوة أكبر، وكان مساحو الأراضي الحكوميون يرشون لتزوير قياسات الأرض، وكان مشايخ القرى يحصلون على رشوة نظير الإعفاء من السخرة، ومن الخدمة العسكرية، وكانت الشرطة تحصل على رشوة من كل سيئ الحظ الذين تحتم عليهم الاتصال بها، وكان المسافر بالسكك الحديدية يجد أنه من الأرخص أن يدفع بقشيشاً للحارس، أو المحصل بدلاً من أن يدفع ثمن التذكرة، وعلى سبيل التمهيد لرشوة المدير كيما يقوم بتحري مظلمة من المظالم كان يتحتم على الشاكي رشوة الأتباع الجياع الذين يتسكعون حول مكتب المديرية قبل إبلاغ الرجل الكبير شخصياً بالشكوى المقدمة.
كان واقع الأمر أن تفشي الرشوة في المنظومة الإدارية المصرية كان بلا نهاية، وكانت الحياة الاجتماعية، والحياة الرسمية المصريتان مشبعتين بالفكرة التي مفادها أن المطالب الشخصية، والمصالح الشخصية المصرية أيضا، وبغض النظر عن عدالتها لا يمكن الوفاء بها بدون دفع بقشيش !!*(30)
***
القواسم السلوكية في حياة المصريين كثيرة، ومتعدده، وأهمها : «الفهلوة» والجهل، والحمق، و«الدجل»، و«الأونطة»، و«الخبث»، و«البلوتيكا»، و«العبطية»، و«الاستعباط»، و«ألاعيب الحواة»، و«شغل القرادتية» لترويج صورة ذهنية زائفة في إطار «تواصل منتفخ»*(31) لا يتخلف عن ترويجه إلا أشكال عديدة من الابتذال، والعجز، وقلة الحيلة، وامتهان الحرف المرذولة مثل النصب، والتسول، والابتزاز، والبلطجة، والدعارة، والإساءة إلى براءة الأطفال، والاتجار بالبشر، ولا تحقق أى نوع من (الحوكمة) التي تساعد الحكومة، والمؤسسات على حماية مصالح جميع الأطراف خاصة المتعارضة منها!!؛ فكل شيء خاضع لـ «الفصال» والمساومة و«الشطارة»!!
.. سلوك الشعب المصري يقوم في مجمله على استمراء التنطع، واستباحة الملكية العامة، وعدم احترام حقوق الأخرين في العيش المشترك، وفي المنفعة العامة، والتي تلخصها المقولة التراثية الشعبية: «أنا واقف في ملك الحكومة »؛ فـ 60% من الشوارع تقريباً تحتلها الكراشات العشوائية التي يقوم عليها البلطجية بمعاونة موظفي الأحياء الفاسدين، وأفراد منحرفين من جهاز الشرطة، و90% من الأرصفة تقريباً تم شغلها بواسطة المحلات والمقاهي، والأكشاك، والباعة الجائلين، والمهمشين، الأغرب من كل هذا أن مصر هى البلد الوحيد في العالم التي يطلب «الفهلويون» فيها أجراً مقابل إبداء الأمنيات الطيبة، والتفوه بالكلمات المعسولة؛ فمثلا يقترب منك أحد الأشخاص، ويستوقفك بدون سابق معرفة قائلاً: «صباح الخير يا بيه.»، ويقف لينتظر أجراً عن إلقاء التحية، أو تقترب منك إحدى السيدات بدون مناسبة قائلة :«حمد الله على السلامة يا باشا.»، أو: «ربنا يخلي لك الهانم»، وتقف في انتظار أجرها عن دعواتها؛ فإذا لم تعطيها نقود تنظر إليك في غضب كأنك اغتصبت حقها، وأهدرت مجهوادتها، وربما في احتقار، ومن المحتمل أن تسبك بأقذع الشتائم!! .. إن مصر البلد الوحيد التي تم تقنين قواعد دفع البقيش، وإرساء قواعد دفع الرشاوى فيها بما أثار سخرية العالم !!
.. والحقيقة أن مسلك الشعب المصري في عصرنا الحالي لم يكن نتيجة تحول طفري لكنه قائم على عمليات، وتحولات سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وأخلاقية عميقة، ومعقدة، ومتراكمة عبر حقب طويلة، ومختلفة على مدى التاريخ شكلت فيه تضاريس مجتمع «الفرُجة» !!
***
.. وحتى لا يكون الكلام مطلقا على عواهنة .. نستعرض الدراسة التي أجراها مركز دراسات المستقبل بجامعة القاهرة برئاسة د. أحمد عبد الله زايد بعنوان:«الأطر الثقافية الحاكمة لسلوك المصريين واختيارتهم .. دراسة لقيم النزاهة والشفافية والفساد»، بدعم من وزارة التنمية الإدارية .. تعرضت الدراسة للتغييرات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي واجهت المجتمع المصري منذ بداية الستينيات من القرن الماضي، وأدت إلى تغير بعض القيم بشكل قد يهدد مسيرة التنمية .
وحظيت الدراســة بدعــم وزير التنمية الإدارية د. أحمـد درويش، ود. ماجد عثمان رئيس مركز دعم، واتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصري، ود. غادة موسى مدير مركز الحوكمة بالمعهد القومي للإدارة، وجاء في نتائج الدراسة تحت محتوى «النظرة لأخلاقيات المصريين»:
• يري 88,9% من المصريين أن أخلاق الناس قد تغيرت هذه الأيام، بينما يرى 13,3 % أن هذا التغيير لم يكن بالشكل الكبير، ويرفض 5,8 % مقولة أن الناس في مصر قد تغيرت أخلاقهم بفعل عوامل كثيرة، وأن 88,4 من المصريين يرون أن هذا التغير قد سار إلى الأسوأ، بينما عبر 11,6 بأن هذا التغيير كان للأفضل.
• ويرى 80,5 % من العينة أن الأزمة الاقتصادية تمثل أحد الأسباب القوية لتراجع أخلاق المصريين، ويمثل ضعف الوازع الديني السبب الثاني في تغير أخلاق المصريين بنسبة 26,3 % .
• وأظهرت الدراسة أن 49.6٪ من العينة لا يثقون فى الحكومة نتيجة عدم وفائها بالتزاماتها، وعدم اهتمامها بالفقراء وانحيازها إلى رجال الأعمال وعدم تصديها للفساد، بينما يرى 61٪ أن أفعال الحكومة لا تشجع على الثقة فيها، وأكد 78٪ أن التصريحات الحكومية تتنافى مع القرارات، والأفعال، ودللوا على ذلك بارتفاع نسبة الفقر، والفشل فى مواجهة البطالة، وعدم مصداقية وسائل الإعلام الحكومية .
• وكشفت الدراسة أن هناك إحساسا مرتفعا بالظلم داخل المجتمع .
• أشارت الدراسة إلي أن هناك اهتماما متزايدا بالمصلحة الفردية علي حساب المصلحة العامة، وأن ثمة ادراكا عاما بأن الزمن هو زمن الفرد، وليس زمن المجموع، وأن الظروف الصعبة التي يعيشها الفرد تجعله أقرب إلي الاهتمام بقضاياه الشخصية، ولعل المثل الشعبي الذي يقول : «كل واحد بيقول يا نفسي» هو الأكثر تعبيرا عن تلك الحالة.*(32)
.. وقال الباحث إنه عندما يشيع في ثقافة الناس مثل هذا القول، يكون الطريق إلي الخلاص فرديا، وليس جماعيا، وقد يكون الفساد أحد طرق الخلاص، أي أن يبحث كل فرد عن مصالحه الخاصة بطريقته الخاصة.
.. وهو ما تأكد من «تقلص المشترك» و«اتساع الحيز الخاص» في الممارسات الفردية لتوظيف الفساد في الحصول على مغانم شخصية غير مستحقة استخدمت فيها المقولة :«الجنية غلب الكارنية»، بمعنى أن المال الحرام قد تغلب على السلطة الفاسدة ليصوغ من فسادها فسادأ أكبر، وأعمق، كما تحدث البعض عن دور «الرشاوى الجنسية» في قضاء المصالح، وجاءت العبارات المعبرة عن تلك الحالة من السقوط بـ «السيم» في «أغاني المهرجانات»*(33) بلغة عامية رديئة تعبر عن قيم منحطة، كانت «أغاني المهرجانات» من أهم أسباب الإزاحة الثقافية Cultural Displacement للأغنية الشعبية، والإزاحة تعني السيرورات التي تسبق انقراض ظاهرة ما، وقد أنتجت «أغاني المهرجانات» ما يُسمى بـ «أفراح الجمعيات»!!
أفراح «الجمعيات» :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعد «أفراح الجمعيات» أحد أشكال جمع الأموال عن طريق «النقطة» التي تذهب لمقيم الاحتفالية على أن يتولى سدادها على أقساط حسب الاتفاق مع متعهد الاحتفالية الذي يطلق عليه مُسمى «النبطشي»، ويتولى مسئولية إقامة تلك الاحتفالية، والإشراف على فاعلياتها بداية من تجهيز الفراشة، وإعداد السرادق، والاتفاق مع المطربين، والراقصات، وكتابة الدعوات طبقا لأسماء يحددها صاحب الفرح لكل من جامله، ودفع له «نقوط» من قبل طبقا لقواعد متفق عليها فاللون الأحمر في بطاقة الدعوة يعني ضرورة الحضور لكون المدعو مدين بمبلغ نقطة لصاحب الفرح، وعليه الحضور للسداد إما بدفع مبلغ النقطة الذي حصل عليه من قبل أو يزيد عليه أما الدعوة المكتوبة بلون القلم الأزرق فتعني أن المدعو ليس مدينا، ويدعوه صاحب الفرح للحضور، وله حرية الاختيار في مجاملة صاحب الاحتفالية !!.
.. ويتولى شخص يطلق عليه «شاويش الفرح» الإعلان عبر مكبرات الصوت عن شخص القادم لسداد النقطة، وتحيته بـ «سلام كبير» ليتولى المسئول عن التحصيل كتابة اسمه في «دفتر الفرح»!!
كانت «أفراح الجمعيات» في البداية وسيلة لحل أزمة مالية، وسداد الديون، ولكنها تحولت فيما بعد إلى اسلوب لجمع الأموال القذرة لتمويل الأعمال المشبوهة كتجارة المخدرات، وغسيل الأموال، والدعارة، والاتجار بالبشر وإنعاش حفلات أغاني المهرجانات، والعاملين فيها من مؤلفين، وموسقيين ومطربين، وراقصات، ونقل فنون الابتذال إلى الاحياء الشعبية بما يتناسب مع امكانات سكانها بدلاً من انتقال الجمهور الشعبي إلى علب الليل بأسعارها التى لا تتناسب معهم !!
.. وعندما توجه دعوة لشخص مدين بالقلم الأحمر، ولا يأتي لسداد ما عليه يعد «متخلفا»؛ فيقوم صاحب الفرح بالاستعانة فيما بعد بأحد الأشخاص المختصين لإجبار المتخلفين على دفع مديونياتهم مضافا إليها غرامة تأخير، ويحصل ذلك الشخص الذي غالباً ما يكون بلطجي مقابل ذلك على نسبة من الأموال المحصلة.
.. وانتشرت تلك الاحتفاليات في الأحياء الشعبية، وليس شرطاً أن يكون لدى مقيم الاحتفالية مناسبة حقيقية تستحق الاحتفال؛ فكثيرا ما يلجأ مقيموها إلى اصطناع المناسبة بتأجير من يقومان بأداء دور العريس، والعروسة بمقابل مالي، وبعضهم يعلن عن إقامة «فرح الجمعية» بمناسبة عيد ميلاد، أو عقيقه أو طهور، أو «ليلة لأهل الله» دون خجل مما يحدث من ابتذال، وعري، ودعارة وترويج للمخدرات، وشرب المسكرات !!
مجتمع الفرجة :
ـــــــــــــــــــــــ
في سنة 1967 صدر كتاب «مجتمع الاستعراض» أو «مجتمع الفُرْجَة» للفيلسوف الفرنسي جي ديبور Guy Debord*(34)، كان الكتاب غامضاً في كثير من أجزائه بالإضافة إلى صعوبة اللغة التي كتب بها، وغموض سياق المناخ الفكري، والثقافي الذي انبثق عنه، وكان الكاتب لا يتحدث عن مجتمع بذاته، ولكن عن نمط حياة في مجتمعات مأزومة دون تحديد، حيث يرى أن الحياة هذه المجتمعات قد سقطت أسيرة تصور عمق الشرخ بين واقعها وذاتها!!
«مجتمع الفرجة» هو المجتمع الذي أصبح فيه السكان أقل معرفة، وخبرة بجيرانهم، وقل من حولهم عدد الأصدقاء، والأقارب بسبب تراجع الحركة اللفظية في الحياة .. ويصف ديبور «مجتمع الفرجة» بأنه مجتمع «ثقافة الاستهلاك» و«مبدأ الجهد الأقل»!!
عن «ثقافة الاستهلاك» يتحدث ديبور عما اسماه «صنمية السلعة» أى السيطرة على المجتمع بواسطة أشياء تفوق الحواس، وهي محسوسة كذلك .. هذا المبدأ يبلغ تحققه المطلق في «الفُرجة» حيث يُستبدل العالم المحسوس التي تعلوه بالسلعة التي تقدم نفسها على أنها هى الشيء الوحيد المحسوس بلا منازع*(35)
وتبلغ «الفُرجة» مداها في اللحظة التي تُحقق فيها السلعة احتلالها الكلي للحياة الاجتماعية، ولا تصبح السلعة مرئية فحسب بل ان المواطن لا يعود باستطاعته أن يرى سواها؛ فالعالم الذي يراه هو عالمها*(36)
وعن «مبدأ الجهد الأقل»، وهي مرحلة لا يبلغها العامل الذي يتلقى الحد الأدني للحفاظ على قوة عمله قبل الوصول إلى مرحلة الوفرة من الانتاج السلعي بما يتطلب فائضاً من التعاون من العامل فيتحول العامل من الاحتكار الكلي الذي يلقاه من كل ضروب تنظيم، والإشراف على الانتاج إلى شخص بالغ يعامل بأدب جم خارج الانتاج، وتحت قاع المستهلك، وتتولى إنسانية السلعة على عاتقها «أوقات فراغ وإنسانية العامل»*(37)
.. خصص ديبور جزء في مقدمة كتابه لما اسماه :«الانفصال المكتمل» اقتبسه من لودفيج فيورباخ تحدث فيه عن طبيعة العصر، وما يحمله تفضيل الصورة على الشيئ، والنسخة على الأصل، والتمثيل على الواقع، والمظهر على الوجود، وما هو مقدس بالنسبة له، ليس سوى الا وهمأ، وماهو مدنس؛ فهو الحقيقة، أو بالأحري؛ فإن ما هو مقدس يكبر في عينية بقدر ما تتناقص الحقيقة، ويتزايد الوهم بحيث يصبح الوهم بالنسبة له أعلى درجات المقدس .»*(38).
حيث يرى جي ديبور أن الفُرجة ليست مجموعة من الصور، بل هي علاقات اجتماعية بين الناس التي تتم بوساطة الصور*(39)، ولفهم الفُرجة في مجملها، فهي النتيجة والهدف للنمط المهيمن للإنتاج على حد سواء، وتأثيرها
على سلوك البشر، على حد قول ديبور :«الاستعراض هو رأس المال، وقد بلغ من التراكم التحول عنده إلى صورة.».*(40)
ويقدم ديبور شرحاً لطبيعة الصور التي تنفصل عن تتابعات سياقها في مجالات الحياة، وتندمج ضمن تيار مشترك، ولا يصبح من الممكن فيه استعادتها إلى سياقها من جديد؛ فالواقع المجتزء من سياقه يصبح عالماً زائفاً، ويصيرموضوعاً لمجرد التأمل بما يجعل العالم المتخصص نفسه أمام مسخ في عالم الصور، حيث يكون الكاذب كذب على نفسه .. إن الفرجة عموماً قلباً عينيا للحياة، وهى الحركة المستقلة لما ليس حياً .*(41)
يرى ديبور أن الفرجة تتلون كالحرباء في تقديم نفسها بطرق مختلفة في آن واحد .. مرة بوصفها المجتمع ذاته، ومرة بوصفها أداة توحيد، وفي حال التقديم بوصفها جزء من المجتمع؛ فإنها تركز قطاع منفصل يعد موضع للنظرة المخدوعة، والوعي الزائف، ودعاوى التوحيد التي تطلقها «الفرجة» ليست سوى لغة رسمية للانفصال المعمم*(42)
الصورة تلك الحركة الدؤوبة التي تطبع تلك المجتمعات، وتتخذ أشكالا متعددة مثل الإعلام والدعاية، والإشهار، وصناعة الرأي العام، كي تحوّل العالم الذي لم يعد في الإمكان الإمساك به إلى صور، و«تضعها تحت الأنظار».
أعلن ميتشل ستيفن رئيس قسم الصحافة والاتصال الجماهيرى بجامعة نيويورك الدخول إلى عصر جديد، وصفه بعصر «صعود الصورة وانهيار الكلمة» فى كتاب يحمل نفس العنوان « the rise of the image, the fall of the word»، والذى أكد فيه أن الصور ستكون لها اليد العليا على الكلمات بمفعول قوي يتجلى في قدرته على إقامة شرخ بين الواقع ونفسه، وإحداث تصدع في الكائن الاجتماعي. ليس هذا بطبيعة الحال امتداحاً للمظهر، على النحو الذي نجده عند نيتشه، الذي ذهب إلى حد إعادة النظر في أنطلوجيا المظهر، وإنما هو مجرد وصف للآلية التي غدت تتحكم في المجتمعات المعاصرة التي تحتل فيها الصورة مكانة كبرى، ويغدو فيها العالم صوراً، يغدو فيها العالم صورة العالم.
.. الصورة بطبيعتها سافرة الوجه متمردة، والكلمة حمّالة أوجه.. حق يراد به باطل وباطل يرتدى سمت الحق؛ ويراد به باطل!!، إنها ليست عنصراً زخرفياً بحيث تضاف إلى العالم الحقيقي، بل هي على النقيض من ذلك، هي جوهر عدم واقعية المجتمع الحقيقي، وتجسد الفرجة النموذج السائد للحياة الاجتماعية في كل مظاهرها المحددة مثل الأخبار أو الدعاية، والإعلان، والاستهلاك الفعلي للترفيه.
قال ريجيس دوبريه ما يمكن تلخيصه في التالي: «من يملك الصورة يملك البلاد»، في إشارة إلى أن الصورة في هذا العصر الذي هو بامتياز عصرها، الوسيلة الأهم في التأثير في الجمهور الواسع، عبر تدفقها الهائل، الذي يفوق حاجة هذا المجتمع للاستهلاك البصري، أو قدرته عليه.
.. مجتمع «الفرُجة» .. هو المجتمع الذي يكتفي بالمشاهدة دون المشاركة أو الاشتباك مع الواقع، والتفاعل معه أو طرح المبادرات والحلول لاقتحام المعضلات!!.
.. مجتمع «الفرُجة» .. هو ذلك «المجتمع الجاهل» الذي يجأر بالشكوى من أوضاعه وأوجاعه، ولايثور ولا يتمرد عليها؛ بما يجعله جزء من المشكلة!!
.. مجتمع «الفرُجة» هو المجتمع الذي اختفت فيه فضيلة «الجماعية»، والتكافل الاجتماعي، ومد يد العون، وسادت فيه روح «الفردية»؛ فتحول من مجتمع متراحم، ومتضامن إلى مجموعات ممزقة من شراذم الرعاع التي تبحث عن مصالحها الفردية، وتعتبر حب النفس فضيلة وليس رذيلة، أو«مجتمع المقبرة» هو المجتمع الذي تختفي فيه الملامح الإنسانية للحياة، وتغيب مشاعر الود بين البشر عند التلاقي.
إن منتجي الصور، ومن يبثونها عبر الوسائل المختلفة لا يريدون لها أن تكون وهماً، ولا أن يجعلونا نعتقد أن الحقيقة في مكان آخر، في المجتمع أو في الحياة، كي لا نحمل الصور على محمل الجدّ، وإنما بالعكس تماماً، فالمطلوب هو أن نصدّق أن الصورة هي نفسها الواقع، فالأمران اتحدا إلى حدّ التماهي، ولعل هذا ما عناه أحد أبرز مفكري ما بعد الحداثة، البريطاني جيمسون، حين رأى أن القيمة الاقتصادية، والبنى المادية تتحول إلى قيم ثقافية عن طريق تعميم القيم الاستهلاكية، وما يتطلبه هذا التعميم من قدرات تواصلية إعلامية ،وثقافية هائلة.
***
يتلخص «مجتمع الفُرجة» الذي عناه جي ديبور في أن العالم المحسوس تحوّل إلى مجتمع صورة يجري فيه تسليع كل شيء، وكل نشاط، وكل فكر، وأن التحولات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية أنتجت عالماً ًمقلوباً واقعياً رأساً على عقب، إذ أصبح ما هو حقيقي وواقعي فيه وهمياً وزائفاً؛ بما يراه جي ديبور عودة منمّقة إلى نظرية الاستلاب بمعنى استلاب المتفرج لصالح الشيء، في «مجتمع الفُرجة» يجري تسليع كل شيء بحيث يتحقق مفهوم الفرجة بشكل كامل عندما تُعلن السلعة «احتلالها الكلي للحياة الاجتماعية» سواء كانت بضاعة، أو خدمة، أو فكرة .. تتوسل بالإغراء الناعم ودغدغة المشاعر، والأحاسيس الحانية لحث الناس على التماهي بين الأشياء والسلع!!
تشكل «الفُرجة» بمعنى أو بآخر النموذج الراهن المهيمن اجتماعياً في مختلف المجالات، ففي جذر «الفرجة» تكمن «السلطة» في الإعلام، والاقتصاد، والسياسة، والإشهار، والمعلومات، التواصل، وفي وسائط الإعلام الجديدة المرتبطة بالعولمة، والتِكنولوجيّات الجديدة، وعلى كل فروع المعارف التي تواصل تطورها بوصفها فكر «الفُرجة»، وأن تبرر مجتمعا لا مبرر له، وأن تشكل علما عاما للوعي الزائف.
.. في «مجتمع الفُرجة» الصورة تتفوق على الكلمة؛ فالأخيرة رغم عمقها، وغزارة معانيها لا تفلح في إحداث الأثر الفوري، والسريع الذي تحدثه الصورة الخاطفة للأبصار والنفوس؛ فالصورة صانعة الواقع وسابقة عليه .. إلى حد يصبح الواقع في حد ذاته نسخة باهتة من تلك الصورة !!
***
.. بهذا المعنى تَكون: الفُرجة مجتمعا،ً ويكون المجتمع فُرجة.
الفصل الثالث :
ـــــــــــــــــــــــ
« ثقــــــــــــافـة الشــــــــــــرخ»
.. وشــــــــــــرخ الشخـــــصية
المقصود بـ «ثقافة الشرخ» هو التوتر المستمر بين الجذور الثقافية العربية عامة، والثقافة الشعبية المتوارثة خاصة، والثقافات الغربية التي تم الاتجاه إليها في عصور التراجع، والانحطاط المعرفي، وغياب القدوة، وازداد الشرخ اتساعاً؛ بما أصبح يهدد الهوية العربية .
.. في أداب القاهرة عمقت الدراسة الجامعية الأكاديمية «ثقافة الشرخ» داخلي، والقتني في مستنقع «ثقافة الكولونياليزم»؛ كان من المستحيل البوح بمكنونات النفس في ظل إرهاب المحاضر الجامعية، والتلويح بسيف «الرسوب الدراسي»؛.. ولذا كان لابد الآن التوقف أمام «ثقافة الكولونياليزم» من حيث المصطلح، والمفهوم، ومحاولة تأطير مفهوم «التثاقف»!!..
.. الكلمة الإنجليزية Colonialism اشتقاق من الفعل Colonize، والمصدر Colonization تعني في قاموس أوكسفورد الانطلاق لتأسيس مستعمرة في أراضي الآخر لتحقيق منافع اقتصادية، ولا يأتي ذكر في القاموس عن عناصر الغصب، والإكراه، والوحشية، وإهانة الكرامة الإنسانية، والإبادة الجماعية، والنهب المقترنة بالفعل، والإساءة إلى سكان تلك البلد بدعاوى عنصرية من أنهم برابرة ومتخلفون، ولا يستطيعون استغلال موارد بلادهم؛ فجاء المستعمرون ليستغلوها بدلاً منهم ويأخذوا بأيديهم للارتقاء في سلم الحضارة !!.. وهو منطق ينطوي على زيف أشبه بمنطق اللص الذي يسرق المحفظة؛ لأن صاحبها لا يجيد استثمار نقوده !!
.. وفي مرحلة لاحقة عمل الاستعمار على ربط الدول المستعمرة بمركزه من خلال حركة ديناميكية، تقوم على التبعية الفكرية، والثقافية، والاقتصادية للشعوب، والتي أوجدت تشوهات ثقافية طالت الأنا، والذات، والثقافة، واللغة؛ فعلى سبيل المثال نرى أن نظام التعليم في عدد من الدول العربية يتبنى لغة المستعمر كلغة ثانية، فضلا عن التقسيم الجيوسياسي لمناطق كانت في السابق عبارة عن تكتل جغرافي، وثقافي، واجتماعي واحد؛ فالفصم لم يطل فقط الواقع السياسي، إنما شمل كامل البُنى في اللغة، والثقافة، والحضارة للدول المستعمرة التي دخلت في مرحلة يصعب رصدها!!
.. ويعرف البعض «ثقافة الكولونياليزم» أنها: «بمثابة المعرفة التي تستعمل من طرف المراكز الاستعمارية لإخضاع الشعوب المحتلة، .. بمعنى تحول المعرفة إلى سلطة، وقوة، بعد أن أصبح هذا الخطاب رديفا لكل القوى، والمؤسسات التي تنشر، وتبرر الفكر الاستعماري».
.. وبعد الاستقلال الوطني وجدت الدول التي كانت محتلة نفسها في مأزق بعد أن أصبح هذا الخطاب جزءاً من «الثقافة الجمعية»، و«الدراسات الأكاديمية» لتلك الشعوب بعد أن ذاب في الفكر الوطني؛ فلدينا ـ في مصر ـ كارثة حقيقية فقد لعب الاستشراق دورا هاماً في ذلك، الأخطر من هذا أن الأمر لم يتوقف عند «الاستشراق الأكاديمي» بل تعداه إلى «الاستشراق الأدبي».
.. وقد أشاع عملاء الاستعمار من الـ Comprador الذين يعانون من «عقدة القابلية للاستعمار» أو يطلق عليهم د. إدوار سعيد «عبيد الأزمنة الحديثة» (أي المستعمَرّين) القيم، والمفاهيم الاستعمارية في كتاباتهم للترويج للثقافة الكولونيالية، وهذا ليس شيئاً مُحدثاً بل ظاهرة لها جذورها التي يمكن رصدها، وبعد الاستقلال الوطني ظلت ملامح تلك الثقافة قائمة في كتابات العناصر الناقلة للعدوى من العملاء، وخونة الأوطان من الخلايا النشطة، أو الخلايا النائمة، ومن يأخذ عنهم بقصد أو بجهل !!.
التثاقف :
ــــــــــــــ
التثاقف في أبسط تعريفاته هو حالة من «الانسحاق الحضاري» أو «الاغتصاب التربوي» أمام حالة من الغزو الثقافي، وما يتبعه من التغيّرالسلوكي الذي ينشأ حين تدخل جماعات من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين في اتصال مباشر ومستمر، وما ينتج عنه تغييرات في الأنماط الثقافية الأصلية السائدة في إحداهما أو فيهما معا .
مصطلح التثاقف (Acculturation) مستمد من كلمة acculturer، والتي تعني إمتثال، وخضوع فريق بشري كليا أو جزئيا، لفريق بشري آخر، وتأقلمه مع ثقافة أجنبية متصل بها، أي بمعنى المثاقفة، والانسلاخ الثقافي، كما تعني أيضا انتقال سمات ثقافية من حضارة إلى أخرى مع شعور ذاتي، وواقعي بالنقص الثقافي، وقد تناول الانثربولوجيون هذا المفهوم من خلال الدراسات التي تناولت الأوضاع الثقافية عند الشعوب المحتلة بالتركيز على التحليل الانثربولوجي لآثار المعتقدات والتقنيات الأوروبية، والأمريكية على المجتمعات غير التابعة لها؛ حيث خلصت دراسات الأنثروبولوجيا الثقافية إلى أنه لا يوجد في الوقت الحاضر مجتمع أو فرد ما بمنأى عن تبعات التثاقف .
.. مع ظهور العولمة، والمعطيات الاجتماعية الجديدة التي فرضتها السياسات المتعاقبة، والأزمات العالمية، والتغيرات الاجتماعية السريعة، والغزو الثقافي عن طريق الفضائيات والانترنت الممولة مخابرتيا، والموجهه من خلال مراكز البحوث Think Tanks، وما تبثه من مفاهيم، وقيم الثقافات مختلفة بكل حرية، ودون ضبط، أصبح الواقع الثقافي للفرد مرتبكاً في مجتمع فرضت عليه رؤوس الموضوعات مع مصادرة حقه في طرح الافراضات، والتضييق عليه في اختيار الإجابات بهدف تشييء البشر بمعنى يصبحوا مجرد أشياء يتم تحريكها لخدمة أغراض مشبوهة .. عملية التثاقف التي أخذت بعدا عالميا في ظل العولمة من خلال الوقوف على مختلف الصراعات الناجمة عن هذه الوضعية التي تعيشها هذه المجتمعات، ومدى قدرة الأفراد على التأقلم، والتعايش مع تلك الصراعات خاصة المتعلقة بالجانب الثقافي .
.. أصبح «التثاقف» أداة للقهر الاجتماعي، وأحد أساليب أجهزة المخابرات في غسيل عقول البشر، وجعل الفرد والمجتمع والأمة يعيشون حالة من «الاستلاب والاغتراب في الوطن» في ظل قيم، ومعايير، وسلوكيات في الذوق، واللباس والطعام، والاستهلاك فرضتها «الثقافة الوافدة» !!
أزمة المعرفة :
ــــــــــــــــــــــــ
.. كانت «أزمة المعرفة»، وستظل هى المأزق الأخطر في حياة الشعب المصري؛ لعدم وجود ثقافة ثابتة، وضابطة لفكره، وداعمة لسلوكه الذي يحمل خليط من الثقافات المختلفة التي تمثل سبيكة العشوائية في قوالب لغوية رديئة من فكر «البزرميط» أي «التفكير العشوائي»!!، وهى ثقافة تجمع في عناصرها السيولة، والميوعة، والمرونة، والقدرة على الحذف، والإضافة والاختزال، وتحتكم إلى معايير كثيرة في الحكم على الأشخاص، والأشياء والأحداث، والأفكار، وأغلب تلك المعايير متناقضة، ولا يجمع بينها رابط من تفكير عقلاني، ومنطقي متسق يحقق مصالح الكافة دونما تمييز، ومنها :
ـ معياري : الحلال، والحرام، وما بينهما من تدرجات الفتاوى الكثيرة والمختلفة، والتأويلات العديدة المتباينة، والتي يتم استحضارها حسب الظروف، وبقدر ما يحقق المنفعة، أو يقيم المصلحة، والتي تلعب قوة الثروة، وعنفوان السلطة، وأحيانا العصبية، والبلطجة دوراً هاما في توجيهها في مجتمع يُلقب البلطجي بـ «الحاج»؛ بما يحمله اللقب من صفة دينية، وتوقير اجتماعي طبقاً لمعايير «التدين الشعبوي»، ويلقى ذلك البلطجي الاحترام من علية القوم !!
ـ معياري : العيب، واللا عيب، ومابينهما من معايير تختلف باختلاف المورثات، وتلعب «الشعبوية» دوراً هاماً في تحقيق الغلبة فيه من خلال التلويح بنوازع الغصب، والعدوان، والإرهاب، والتخويف من إلصاق الاتهام بالعيب، واغتيال السمعة!!
ـ معياري : العادات*(1) والتقاليد*(2)، وما تمثله من عرف، والقانون الوضعي !!، وما تمثله تلك العادات والتقاليد من طغيان على القانون الوضعي، وتغوّل عليه في زمن تأخرت عدالة المحاكم الناجزة التي صارت مكلفة في ظل ارتفاع أجور المحامين!!
«البلطجة» أحد آليات
«الضبط الاجتماعي» !!:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. ومع بداية التسعينيات من القرن الماضي طرأ مستجد خطير على آليات «الضبط الاجتماعي»، وهو الحضور الكثيف لـ «البلطجي» في الحياة العامة باعتبارة أحد آليات الضبط الاجتماعي، والسياسي، والأمني الذي يرفع الحرج عن الأداء غير المنضبط للشرطة في ظل انهيارات سياسية، واقتصادية، واجتماعية تنذر بتحولات غير مأمومة على أمن البلاد القومي وهى :
1- توحش الخصخصة، وتسريح العمالة، والشروع في المشروع النيوليبرالي، وعدم مراعاة البعد الاجتماعي، وتحول جحافل العمال إلى المجال الخدمي دون سابق خبرة أو تأهيل.
2- اشتداد الحرب على الإرهاب .
3- توسع المناطق العشوائية .
4 ـ انسحاب الشرطة من الأحياء الشعبية، والمناطق العشوائية مع الاكتفاء بالمراقبة الخارجية عن طريق المرشدين تاركة سكانها يعيدون إنتاج توازناتهم الحياتية، وتشكيل علاقاتهم طبقا لـ نظرية «الدارونية الاجتماعية .. البقاء للأصلح» التي صاغها هربرت سبنسر في كتابه بعنوان : «الرجل ضد الدولة»، والذي يؤكد فيه أن المجتمع جزء من الطبيعة، ويخضع لقوانينها، ويدعو إلى عدم التدخل في عملية التطور لأن تدخل الدولة أو الجماعات الأخرى في هذه العملية يعيقها، وقد يؤدي إلى نتائج سلبية.
.. وتصنف أنواع وأنماط البلطجية إلى: الشبكات الكبرى، وهؤلاء مؤسسات كبيرة، ولها مكاتبها في القاهرة، والجيزة، والأسكندرية، والمحافظات، ولها أدوار متنوعة مثل حماية الملاهي الليلية، التأمين الشخصي للفنانين، والفنانات، العمل في الانتخابات، سواء لمصلحة أحد المرشحين أو لترتيبات أمنية، وسياسية أوسع لضبط عملية الانتخابات مع الحزب الوطني، وأمن الدولة مثلما حدث في 2005، و2010، وحل النزاعات بين العائلات الكبيرة التي تعمل بالإجرام، ،إنهاء، وحسم نزاعات الأراضي، والعقارات الكبيرة،.. ويتراوح أجر البلطجي بين 100 جنية في اليوم، و500 جنية في الساعة حسب المهمة الموكلة إليه، وقدراته الإجرامية، وقد ضخت بعض الدول التي من مصلحتها إفشال ثورة 25 يناير، وعدم اكتمالها بعشرات الملايين من الدولارات لتمويل عمليات البلطجة؛ فظهر الممثل طارق النهري في الشارع، وهو يقود جحافل البلطجية في استنساخ للعملية أجاكس في إيران التي قادها الممثل الإيراني شعبان جعفري بدعم من المخابرات البريطانية، وتمويل من المخابرات الأمريكية، ويقدر عدد البلطجية المسجلين في مصر يتراوح ما بين 000, 500 بلطجي و650,000 بلطجي (وهو رقم يصعب التأكد من صحته) خاصة في ظل انضمام الباعة الجائلين إلى جحافل البلطجية تحت تأثير «الغواية بالمصلحة» حيث يقوم موظفو الأحياء بحصرهم، ونسخيرهم في أعمال بلطجة مقابل الوعد بإعطاتهم أكشاك، أو منحهم 50 جنية ووجبة !!
صناعة البلطجي :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
.. «البلطجي صناعة» حيث تقوم الأسر التي تتعيش على البلطجة بتدريب أبناءها على حرفة إيقاع الأذى بالآخرين، وكان يطلق على تلك العينة من البشر «العيال الأشقياء»، ومع تطور الأوضاع، وزياد الطلب على البلطجية أصبحت البلطجة «صناعة حكومية» حيث يقوم قسم الشرطة بتحويل أغلب شباب المناطق الشعبية، والعشوائية لـ «مسجلين خطِر»، بالتعبير الشعبي «يعمل له كارتة»، وهذه العملية تشمل الأشقياء، وغير الأشقياء، وربما تلعب الصدفة دورا كبيرا فيها؛ فوجود أحد الأشخاص في مقهى أثناء حملة بوليسية أو اعتراضه على سلوك أحد الضباط أو الأمناء تجاهه أو تجاه أسرته؛ فيُلقي به في هذا المصير ليصبح مسجلاً خطِراً أو شقياً «صاحب كارتة» بالقسم!!، ليتم توظيفه لاحقاً في أعمال إجرامية لمصلحة السلطة، مثل قمع التظاهرات أو استخدام العنف في الانتخابات، أو أحياناً أعمال فساد شخصية لمصلحة الضباط أو الأمناء أو أحد معارفهم .
.. وأمام الضربات الموجعة التي تلقتها وزارة الداخلية، وخسائرها اليومية من الجنود، والضباط مما حدا باللواء محمد عبد الحليم موسى مستعيناً ببعض رجال الدين إلى طرح مبادرة «وقف العنف»، وهو ما رفضته القيادة السياسية، وأقالت الوزير بطريقة مهينة، من ثم كان البحث عن بديل فكان قيام الداخلية بعمل ما يسمى بـ «الروابط» في الصعيد، وهي عائلات، أو مجموعة من الأفراد يقومون بالسيطرة على قراهم، ومناطقهم، والطرق المؤدية لها، لدحر الجماعات الإسلامية، والقبض عليهم، أو قتلهم في مقابل مزيد من مد نفوذهم الاجتماعي، والاقتصادي (اقتصاد المخدرات والسلاح تحديداً)!!، ومن هنا تشكّل اقتصاد سياسيي جديد في صعيد مصر مرتبط بالأمن، والجريمة في آن واحد.
***
في المرة الأولى تسألنا عما حدث، .. ويحدث للمصريين في كتابنا بعنوان: («فئران المركب» .. دراسة في التاريخ الاجتماعي)، كان التساؤل تحت تأثير حالة من الصدمة تُعرف بـ «صدمة الثقافة»*(3)؛ مما أصاب المصريين من «التنمر» العقور في مواجهة مرضى، وشهداء كورونا، وامتد إلى أطباء العزل الصحي، وطواقم التمريض، ورفض شباب بعض القري أن يدفن شهداء كورونا في مقابر القرية، ورفض بعض الأهالى استلام جثامين ذويهم مما حدا بالنيابة العامة لإصدار قرارها بدفنهم في مقابر الغرباء، ومن جانب الأطباء كان الاستعلاء المهني، والمبالغة في الأجور؛ مما كشف حالة التوتر بين الأطباء، والمرضى، وكشف عن تغيير خطاب الأطباء لمرضاهم، والاعتداءعلى الأطباء من قبل أهالى المرضى !!
.. كانت المأساة في «جائحة كورونا» أكبر من أى تصور فـ «كل البروتوكولات غير مؤكده، .. وكل الاختبارات غير مؤكده»، كان الجميع يسير في نفق مظلم ليس به نقطة ضوء واحدة، ولا يوجد من يعرف الحقيقه كاملة، وكان لابد أن يكون لدى الجميع طريقا يسيرون عليه، ولا يختارونه، وكان الأخطر في «جائحة كرونا» أنها كشفت أزمة الاشكاليات، والعثرات، وبالتحديد أزمة «تشكيل الهوية المهنية للأطباء» في مصر.
الإشكاليات والعثرات
في الهوية المهنية للأطباء:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توالت أزمات مهنة الطب منذ نشأتها على أسس علمية في عهد محمدعلى، وبعد موت محمد على، ورجوع كلوت بك إلى فرنسا أغلقت مدرسة الطب، وتدهورت المهنة، ولم يعد يدرس الطب سوى أبناء الأثرياء الذين يدرسونه في جامعات أوربا، ويعودون إلى البلد لتأسيس مشروعات صحية في ظل ليبرالية العهود الملكية، وكان كل طبيب يحلم بـ ٥ ع ( عيادة ـ عروسة ـ عربية ـ عزبة ـ عمارة) .. بمعنى الثراء من منطلق الندرة المهنية، وباعتبارهم فئة تبحث عن تميزها الاجتماعي، ولكونهم من أكثر المهن حساسية، وارتباطاً بالواقع الاجتماعي، والتكوين الثقافي، أخذاً ورداً في علاقة تبادلية قل أن نجدها بمثل هذه الحيوية في مهنة سواها .
.. وبعد انقلاب 23 يوليو 1952، وبعد التحولات السياسية في العهد الناصرى التي يدعى فيها الثورية، ومصلحة الجماهير تلقت مهنة الطب دفعة إلى الأمام من خلال اضفاء بُعد جديد على دور الدولة في المجال الصحي، ورعاية المرضى كجزء من تلبية معظم احتياجات الشعب؛ فقد أخذت الدولة على عاتقها توفير رعاية صحية شاملة، وعادلة للجميع .
.. إلا أن هذا التوجة صادفه الكثير من العقبات إذ سرعان ما تنافر مع مصالح مهنة تهتم بوضعها الاجتماعي، وبالمميزات المرتبطة بها، والقائمة على الحرفة الفردية، والعلاقات مع العملاء من المرضى، وهكذا سرعان ما اصطدمت المهنة مع النظام السياسي الجديد، ومع تزايد الضغط على النقابة في الستينيات من القرن الماضي خاصة مع تحول النظام السياسي إلى النظام الاشتراكي وإنشاء الاتحاد الاشتراكي العربي؛ فأصبحت نقابة الأطباء ملعباً للصراع بين الدولة ومهنة الطب .
.. وفي النهاية ينجح الاتحاد الاشتراكي العربي في تطويق النقابات المهنية؛ فتغدو هياكل ضعيفة لتدخل منعطف السبعينيات، وهي على هذه الحالة .
وبدلاً من أن يلجأ النظام الناصري إلى إشراك أصحاب المهنة ـ المعنيين بتطبيق سياستها العادلة من أجل تلبية الاحتياجات الصحية المشروعة للشعب ـ في وضع السياسات الصحية، ورسم الخطط الموكل إليهم تنفيذها ـ لجأ على العكس من ذلك في السيطرة على نقابتهم، وإجبارهم على تنفيذ سياسات، وتوجهات لم يشاركو في وضعها، ولم تتح لهم الفرصة للاقتناع بأهميتها وضرورتها؛ ومن ثم كانت النتائج غير مرضية، وتمثلت في : تدني إدارة المنظومة الصحية وضعف الخدمات المقدمة وقصورها في مشاريع الدولة الصحية كالتأمين الصحي والواحدات الصحية بالقرى والأحياء .
وفي عصر الرئيس السادات، وفي ظل سياسة الانفتاح أُطلق العنان للقطاع الخاص في المجال الصحي، ولمهنة الطب، وانتشرت المستشفيات الخاصة بأسعار، وتكلفة تفوق احتمال المصريين، ومستوي دخولهم، .. وكان الاستبعاد الكامل من تلك المنظمة للعوام ومساتير الناس *(4)، وتبنت مؤسسات العلاج الخاصة فكر اليبرالية الطائشة بمقولات متسفلة : «اللي ما معهوش ما يلزموش!!» بمعنى أن «الموت أولى بمن لا يمتلك تكلفة علاجه.»، وفي عهد الرئيس مبارك استمر الحال من سيء إلى أسوأ، وقد بلغ الأمر الحجز على جثث الموتى بدون دفن استيفاءا لنفقات العلاج !!
وأخيرا .. وفي ظل «جائحة كورونا» كشفت الوقائع عن ضعف الكفاءة المهنية للطبيب المصري رغم أن الدولة وضعت كل امكانياتها للعبور من الأزمة .. كما كشفت «الجائحة» أيضا عن الانحاط الأخلاقي، والاجتماعي لبعض الأطباء حيث أعلن أحدهم على صفحتة على بعض مواقع التواصل الاجتماعي أن:« الطب مهنة .. مش صدقة، ومش وقف خيري، وحياة الطبيب مش صدقة جارية.»، ولم يتم استدعاؤه للتحقيق معه بـ «لجنة آداب المهنة» بنقابة الأطباء التي أدى القسم في حرمها .
لم يطلب المرضى صدقة، .. ولا عمل خيري .. أنما طلبوا «طب عادل» تتوازن فيه الخدمة المقدمة مع الأسعار المطلوبة !!
«فئران المركب»!!:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
في ظل ما كشفت عنه « جائحة كرونا»، كان السؤال عما حدث للمصريين ضرورة !!
.. ولماذا سيادة «الأنا» وغياب «النحن»، وغلبة المصالح الفردية على المنفعة العامة ؟!!
.. وبعد البحث والاستقصاء اخترت أن يكون العنوان : «فئران المركب» .. ليرمز إلي ما استقر في عقيدتي من توصيف لحالة «الخواء الاجتماعي» التي تتلخص أعراضها في تفكك الروابط بين الفرد، ومجتمعه، وتعرض البنية المجتمعية للتكسر، والتحلل، وتفشي الجريمة، والفوضى، والتفكك الأسري، والانهيار الحضاري، ومصطلح «فئران المركب» من نتاج العامية المصرية، وأمثالها الشعبية لنعت أولئك الأفراد الذين يسقطون الاعتبارات الاخلاقية، وينتهجون أساليب فردية ـ ربما ـ تنطوي على مخالفة الشرائع، والقوانين لما يعتقدون أنها حلول ذاتية تحقق أمالهم، وتلبي أحتياجاتهم، وتحقق مصالحهم دون أن يراعوا في أهلهم إلا ولا ذمة، .. ويقومون بنفس أفعال «فئران المركب» التى تغرق؛ فيقفزون من المركب الغارقة لمركب اخرى لا يبكون على شيء، ولا يهمهم إلا مصلحتهم فقط.
كانت الحقيقة التي استظهرها البحث أننا أمام الحالة التي وصفها كارل مانهيام باسم : «حالة الأنوميا Anomie» وتعني : «خواءً اجتماعيا»، وهي حالة ليست جديدة على المجتمع المصري؛ فهي مزمنة، ومستوطنة منذ قرون، وضاربة الجذور في عمق التاريخ، ومتجذرة في عقل، وسلوك المواطن المصري، ومن أهم سماتها أنها ظاهرة تغطس وتطفو .. تختفي متزامنة مع الازدهار الاقتصادي، وتظهر مع الانهيار الاقتصاد، وسوء الأحوال المعيشية، وتتلخص أعراضها في تفكك الروابط بين الفرد ومجتمعه، وتعرض البنية المجتمعية للتكسر والتحلل، وشيوع الجريمة، والفوضى، والتفكك الأسري، والانهيار الحضاري لأن الوجود الفردي لم يعد راسخ الجذور في وسط مجتمع غير ثابت، وغير متكامل، وغير موحد، ويفقد الشطر الأكبر من نشاط الحياة معناه، ودلالاته، واتجاهه، وإن ظلت هناك قوة تحمل اسم «الدولة» تبطش بالمستضعفين حفاظاً على هيكل السلطة، .. ولكن بنية المجتمع باتت بنية عقيم مصابة بحالة من فقدان المناعة؛ فالمصريون منذ أن سقطت دولتهم القديمة على يد جحافل الفرس بقيادة قمبيز في القرن الخامس ق. م . أي منذ 26 قرن من الزمان، وهم يعيشون في معزل عنصري (أبارتهيد Apartheid)، ولم يكن لهم شأن في إدارة شئون بلدهم أو فاعلية في بناء مجتمعاتهم أو اختيار مستقبل حياتهم أو مشاركة في قضية قومية تجمع بينهم يشحذون لها طاقتهم، ويدافعون عنها أو وسيلة لتجميع خبراتهم الاجتماعية في ضوء مصالح مشروعة مشتركة.
.. وتعاقب الغزاة على مصر طوال تاريخها ( فرس ـ الأغريق ـ رومان ـ عرب ـ أتراك ـ فرنسيين ـ إنجليز) لهم السلطة، والإدارة، وعلى المصريين الطاعة والفلاحة!! حيث كان الفلاحون يمثلون السواد الأعظم من الشعب، وكانوا موضع احتقارالغزاة في تلك العصور، وقد قال ابن خلدون عن الفلاحة « إنها معاش المستضعفين ويختص أهلها بالمذلة» .
وقد أورثت تلك الحالة المصريين حالة من عدم الثقة في الحكومات المتعاقبة على مدى التاريخ، وجعلته يتوقع منها الأذي فقط، ولا ينتظر منها نعمة، وقد لخص ذلك في المثل الشعبي : «جبتك يا حكومة تحميني .. جبت النار، وكويتيني!!».
.. ذكر تقي الدين المقريزي تقريراً عن الحالة الاجتماعية للمصريين في سنة 808 هـ ـ 1405 م في كتابة بعنوان :«إغاثة الأمة بكشف الغمة» عما تعرض له المصريون من المجاعة، والأوبئة، وأرجع المقريزي ذلك إلى «سوء تدبير الزعماء والحكام، وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد» !!
وقد ترك لنا المؤرخون العمالقة الذي حفل بهم العصر المملوكي من سنة ١٢٥٠ ـ ١٥١٧ مؤلفات عظيمة حفظت لنا دقائق التاريخ الإنساني للعصر الذي كتبت فيه من أمثال كتابات ابن حجر في مؤلفه:«الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة»، والمقريزي في مؤلفه : «المواعظ، والاعتبار بذكر الخطط، والأثار»، وابن فضل الله العمري في مؤلفه : «مسلك الأبصار في محالك الأمصار»، وابن إياس في مؤلفه : «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، والقلقشندي في مؤلفه : «صبح الأعشا في وقائع الانشا»، والسخاوي : «التبر المسبوك في ذيل السلوك»، وأبو المحاسن ابن تغر بردي في مؤلفه : « النجوم الزاهرة في ملوك مصر، والقاهرة»، وابن خلكان في مؤلفه :«وفيات الأعيان»، وجلال الدين السيوطي في مؤلفه : «حسن المحاضرة بأخبار مصر، والقاهرة»، .. وقد ساعدت تلك المؤلفات في بعض ما اشتملت عليه على فهم طبيعة «الحياة الاجتماعية» في مصر .
كانت معاناة المصريين في القرى، والحضر تفوق طاقة الاحتمال في العصر المملوكي؛ فقد شهد العصر المملوكي 61 مجاعة ووباء ما بين سنة ٦٦٢ـ 919 هـ (١٢٢٥ ـ 1513م) في كل من عصر المماليك البحرية، والمماليك الجراكسة .
كانت المجاعات والأوبئة كثيرة، ومترادفة، ومتتالية بحيث لا يمكن أن نتتبع كل منها على حدة، ولكنها جميعاً تشترك في كونها تحالفت مع ظلم الحاكمين وعبث العربان، واللصوص، والمماليك المفسدين لطحن جموع المصريين؛ فقد عاشت في مصر آنذاك طائفة كبيرة من سواد المصريين لا يكادون أن يحصلوا على قوت يومهم، أو يجدون ما يستر أجسادهم فضلاً عن جماهير الفلاحين التي كانت حياتهم في عصر سلاطين المماليك تجسيداُ لمأساة تتضافر عليه كوارث الطبيعة، وظلم الحكام، وكان طبيعياً أن تبدو الحياة في نظر عامة المصريين مستحيلة، وكريهة بسبب عوامل الإحباط المتحكمة في حياتهم اليومية .
.. ولم يكن الناس يملكون إزاء تلك الكوارث، ونوازلها سوى الاستسلام والتضرع إلى الله لكي يرفع عنهم الوباء، والبلاء، ولم تعرف تلك الفترة ما نعرفه من إجراءات وقائية، وعلاجية مثل عزل المصابين، والحجر الصحي، وإغلاق المناطق الموبوءة، وغير ذلك من وسائل العصر الحديث لمقاومة الأوبئة .
.. وفي غالب الأحوال كان الناس يفسرون هذه الكوارث تفسيراً دينياً، وأخلاقياً خالصاً؛ فيرجعون أسبابها إلى غضب الله من جراء فساد الأخلاق، وانتشار الفسق، والفجور، وسيادة الظلم، وهنا يلجأ الناس ـ حكاماً ومحكومين ـ إلى الدين يتسربلون بردائه، ويكثر إقبالهم على العبادة .*(5)
قاسى أهل المحروسة الكثير مثل غيرهم من أهل مصر؛ فكانت المجاعات الكثيرة التي سرعان ما تجر الوباء وراءها؛ ففي وقت المجاعة يموت الألاف من الناس؛ فتلقى جثثهم في الطرقات أوعلى صفحة النهر، وتأخذ الكلاب تنهش جثث الضحايا على حين يطاردها الأحياء لكي يأكلوها، ولا يجد الموتى من الغرباء من يدفنهم لاشتغال الأصحاء بدفن موتاهم، والسقماء بأمراضهم !!
وبدأت عوامل الضعف تدب في جسد الدولة؛ فانهارت الزراعة، وتفسخ النظام الإقطاعي العسكري الذي تمت صياغة الدولة على أساسه، وتزايد معدل الضرائب بالشكل الذي أدى إلى تدهور الحرف، والصناعات، وخراب الأسواق وضمور التجارة، وانهيار العملة، وكثرت مصادرة أموال الأغنياء، والتغول على أموال الأوقاف الأهلية، وصارت السلطنة عبء يهرب منه الجميع .
زادت معاناة مصر خلال الحكم العثماني بسبب عدم إعطائهم الاهتمام الكافي خاصة في مجال الصحة مما تسبب في انتشار أمراض عدة من قبيل الرمد، والجدري، والبلهارسيا، والاستسقاء، والدوسنتاريا، فضلاً عن العديد من الأوبئة الفتاكة التي حصدت أرواح الآلاف .
من بين هذه الأوبئة وباء الطاعون أو (الفناء الكبير) أو (الموت الأسود)، الذي ضرب القاهرة عام 1791، وبلغ عدد ضحاياه في اليوم الواحد ما بين 1500 و2000 حالة وفاة، حيث استطاع أن يفتك بثلث سكان القاهرة، وتسبب بازدحام الناس على الحوانيت في طلب المغسلين، والحمالين، حتى أنهم كانوا يقفون طابورًا في انتظار المغسل أو المغسلة، ولم يعد لديهم شاغل إلا الموت، وأسبابه؛ فالفرد في تلك الفترة إما مريض، أو ميت، أو معز، أو راجع من العزاء، ومراسم الدفن أو مشغول بتجهيز ميت .
ضرب الطاعون مصر في العصر العثماني، واستمر تفشي المرض على نحو متقطع حتى وقت متقدم من القرن التاسع عشرـ كشفت دراسة حديثة أن فيضان نهر النيل السنوي كان يجبر مستعمرات القوارض الناقبة، وبعضها مصاب بالطاعون ـ على الخروج مما جعلها في مماس مع البشر في بحثها عن غذاء*(6)، (7)
لم يكن سلوك المصريين، وعاداتهم في العصور القديمة بعيدا عما يحدث في مصر في عهود قريبة، ويحدث في مصر الآن من اعتبار المرض أو الموت في الوباء أحد أشكال «العار الاجتماعي» الذي يستلزم الإخفاء والكتمان !!
ففي سنة 1902م أخفى عمدة موشا إصابة بلدته بالكوليرا حتى تفاقمت الأمور، وخرجت عن السيطرة؛ فاضطر لطلب المساعدة !!.
المأساة كما صورتها
الأعمـــــــــال الأدبية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليس بين سجلات وزارة الصحة تأريخ لتلك الأوبئة، أو وصف لطريقة مكافحتها، وليس من بين سجلات الدولة ما يلقي الضوء على التاريخ الاجتماعي للمرضي، والموتى، لكننا وجدنا يعض صور المأساة في بعض الأعمال الأدبية؛ فقد قدم طه حسين صورة أدبية عن مأساة وباء موشا سنة 1902م في الجزء الثاني من كتابه : «الأيام»؛ فنقل لنا صورة قلمية مؤلمة من حالة احتضار شقيقه الطالب بمدرسة الطب متأثراً بالكوليرا .. كان شقيقه يقوم بمعاونة الأطباء في الكردون (نطاق العزل الصحي) المجاور للقرية، وكتب أحمد شوقي في رثاء شهداء الوباء مقدراً ضحايا الكوليرا بخمسين ألف قائلاً :
«خمسون الفاً في المدائن صادهم
شِركُ الردى في ليلةٍ ونهارِ
ذهبوا فليت ذهابهم لعظيمة
مرموقة في العصر أو افخار»
وكان من حسن الحظ أيضا أن قدم لنا الدكتور نجيب محفوط في مذكراته بعنوان : «حياة طبيب» تفاصيل طبية، واجتماعية كثيرة عن مأساة موشا، .. وكيف ذهب إليها راكباً حماراً، .. وعاش في الخيام، وعشش الطين المسقوفة بسعف النخيل ليؤدي واجبه الوطني في مكافحة الكوليرا؟!*(8)
.. ورسم لنا الأديب خيري شلبي صورة قلمية في روايته بعنوان: «الوتد» عن تعامل قرية «شباسي عمير» مديرية كفر الشيخ مع جائحة الكوليرا سنة 1947، ورسم صورة لما كانت عليه الكردونات حول القرى، وكيف استطاعت السيدة القروية بطلة الرواية من خلال إجراءات بسيطة العبور بأسرتها بسلام من الوباء من خلال عزل أسرتها عزلاً منزليا حيث قامت بإغلاق الأبواب والنوافذ بألواح الخشب، وتثبيتها بالمسامير، وقصر الطعام على الخبز الجفاف والمش والبصل والثوم، .. والاهتمام بالنظافة الشخصية .
وقد تركت لنا الشاعرة العراقية نازك الملائكة قصيدة عن «الكوليرا» بعنوان :«سكن الليل» أبدت فيها تعاطفها مع نكبة أهل مصر بالوباء القاتل .. قالت فيها:
«يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ
طَلَع الفجرُ
أصغِ إلى وَقْع خُطَى الماشينْ
فى صمتِ الفجْر، أصِخْ، انظُرْ ركبَ الباكين
عشرةُ أمواتٍ، عشرونا
لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا
اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين
مَوْتَى، مَوْتَى، ضاعَ العددُ
مَوْتَى، موتَى، لم يَبْقَ غَدُ
فى كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ»
.. لكن الأديبة المصرية من أصل لبناني أندرية شديد قدمت لنا وثيقة غاية في الرقي، والدقة في روايتها المكتوبة بالفرنسية بعنوان : «اليوم السادس»*(9) ففي الصفحات الأولى من روايتها :«اليوم السادس»، تقدم لنا بطلة روايتها «صديقة» عائدة من قريتها في إحدى الضواحي، بعد أن أدت واجب العزاء في أقرباء للأسرة حصدتهم الكوليرا، وعليها أن تعود إلى بيتها في أحد الأحياء الشعبية المتشابهة في المدينة، ومعها ذكريات مؤلمة عمن رحلوا، وما ألم بالأحياء تحت وابل من رعونة الخوف، وما فعله موظفو الصحة الذين راحوا يهدمون المنازل لتي أصيب أفرادها، ويحرقون أثاثها، ويدفنون موتاها في مقابر الصحراء!! قدمت أندرية شديد وصفاً رائعاً للمدينة العربية بما يخيم عليها من السكون، والحزن، والأنين المكتوم للموجوعين، الناس فيها لا يتكلمون كثيرا، بل ينتظرون الغد، ورغم أن الكوليرا تنتقل بالعدوى، فإن الناس لا يتوجسون في بعضهم، بل إنهم هنا مترابطون، يتبادلون العزاء، والمواساة، والزيارات في النوائب على الرغم الحكومة قد رصدت مكافأة لكل من يبلغ عن بيت فيه مصاب بالكوليرا؛ بما جعل السيدة تبالغ في حرصها حتى لا تأتيها الخيانة من بعض جيرانها.
تبدو المدينة المنكوبة مغلفة بحر الخماسين، والضباب، وتحاول الجدة أن تحمي حفيدها من أي أخطار، لكنها لا تستطيع أن تمنعه من الذهاب إلى المدرسة، فالحياة يجب أن تستمر، وتظهر علامات الكوليرا على الحفيد حسن الذي لم يتجاوز السابعة من العمر، وتحاول الجدة أن تحمي حفيدها جسديا، وتعرف الجدة أن هناك وسيلة أخرى يمكن من خلالها أن تقي الصغير شر المرض الذي يستشري في جسده، وهي أن تذهب به إلى شاطئ البحر، بعيدا عن المدينة المغلقة .
وبالفعل ذهبت إلى شاطئ النهر من أجل الاتفاق مع نوتي على نقلها، ومعها الصغير، إلى إحدى المدن التي تطل على البحر الأبيض المتوسط، وفي رحلة النيل، تحاول الهروب من أن يذهب الحفيد في معسكر الأيواء، لأنها تعرف المصير الذي ينتظهره هناك هو الموت .. كما أن الإبحار عبر النهر يحمل في طياته رمزية «شريان الحياة» من خلال أجواء أقل تلوثا·
المدينة يجب الرحيل عنها، ليست المدينة بذاتها، بل أيضا كل المدن البعيدة عن الهواء النقي المتجدد، مثلما تتسم به مدن السواحل، والصغير الذي يمثل الغد يجب أن يبقى، والحياة يجب أن تستمر، جميلة مليئة بالمعاني الحلوة·
كانت أندريه شديد تعزف من خلال بطلتها على تيمة : «اليوم السادس بعث حقيقي» في إشارة إلى يوم التعافي من المرض؛ لتنهي روايتها بمقولة البحار العجوز :
ـ «الطفل سيرى البحر.».
وتتنهد ام حسن قائلة كلمات تشي بما يحمله البحرمن معاني الشفاء :
ـ «الحياة، البحر .. وأخيراً البحر ..».
***
.. وعندما انتشرت الانفلونزا الأسبانية في مصر في الشهور الأخيرة من عام 1918م وأصاب عشرات الآلاف وحدث نوع من التكتم الإعلامى عليها حتى يقال أن ضحاياها قد بلغ 180 ألف مصري.
عفونة المستشفيات :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
قذارة المستشفيات في مصر موروث تاريخي .. بالرجوع إلى بعض المطبوعات في دار الكتب المصرية التي ألفها كلوت بك، وبعض الأطباء وبعض المواد الأرشيفية عن سير العمل، ومنذ وقت مبكر من عام ١٨٤٨ كان يتم تبديج شكاوى منتظمة بشأن الرائحة النتنةفي المستشفيات، وهى الرائحة التي اشتهرت بين المرضى باسم «عفونة الاسبتاليات ، وبعد تسع سنوات كان تدبيج التقارير عن القذارة والرائحة النتنة في المستشفيات، والملاءات القذرة التى لا يتم تغييرها بعد كل مريض مازال مستمراً !! *(10)
وقد حكى على باشا مبارك عن هذا في مذكراته بعنوان: «حياتي» من خلال تجربة شخصية عندما كان تلميذا في مدرسة المهندسخانة عن مأساة «القصر العيني»!!
وكتبت د. عفاف جمعة (يرحمها الله) في كتابها بعنوان : «يوميات الغرفة 7023 .. رسائل الحب والألم» عن التلوث بعدوى المستشفيات Infection Nosocomial بنسب تفوق المعدل العالمي بكثير .
السجل الأسود
للمستشفيات في مصر :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكتب د. سيسل ألبورت في كتابة بعنوان :«ساعة عدل واحدة .. الكتاب الأسود عن أحوال المستشفيات المصرية (1937 ـ 1943)»*(11) عن ضعف مسنوى التعليم الطبي، وعدم الاهتمام بالطب الإكلينيكي السريري، وعدم الاهتمام بالقواعد الطبية في فحص المرضى، واختتم شهادته بأن الأطباء يعملون لدى الحكومة، وكل ما يهم إرضاء الحكومة، وليست صحة المريض.
***
وعندما ابتليت مصر بوباء «الملاريا» في أواخر 1942كان التكتم على الأمر حتى حصد الوباء ما يقرب أو يزيد على الـ120ألفا من المصريين .
فى سنة 1947م، اجتاح وباء الكوليرا العاشر والأخير مصر، وكانت بؤرة الوباء قرية القرين بمحافظة الشرقية .. كان وباء الكوليرا قد دخل القرية من خلال العمال الذين كانوا يعملون في معسكرات الجيش الانجليزي في التل الكبير، والاسماعيلية، وكان من عادة أهل القرين أن يوفر كل صاحب دار حجرة أو حجرتين يؤجرها للغرباء الذين يعملون في القرين أو بالقرب منها .
.. وحين تفشي وباء الكوليرا انتشر بادئ الأمر بين عمال «الكامبات الإنجليزية» من الغرباء على القرية، وكان الفلاحون من أصحاب البيوت يخافون التبليغ عن الإصابات خيفة أن يعزلوا هم الآخرون، أو يحرقوا أثاث دورهم المتواضع أو يهدموا بيوتهم، .. ويموت الغريب، وليس هناك من يسأل عنه، .. ويحمله أهل البيت إلي الجبل؛ فيدفنونه سرا،ً وبدون تصريح دفن، ويعودون فإذا سئلوا عنه قالوا: لقد فر من القرين !!، وإذا سئلوا: متي؟، أجابوا: قبل الوباء!!، ولا مانع أن يضيفوا لحبك القصة، وإكسابها بعض المصداقية : «أنه لم يدفع أجرة الغرفة عن الشهور الماضية .»
.. وقد افتضح هذا الأمر عندا انتشرت من الجبل رائحة الموت، وذهب بعض المستطلعين، وعادوا يقولون : أن هناك جثث تنهشها الكلاب !!؛..لأن الذين قاموا بدفنها كانوا في عجلة من أمرهم فدفنوها علي مقربة من سطح الأرض!!،.. وأعلن عمدة القرية أنه يتبرع لإقامة مقابر للغرباء .. هؤلاء الذين لا أهل لهم، ولا أحباب يبكون عليهم، ويحزنون لأجلهم».
.. وقد قدمت المحاضرة التي ألقاها الدكتور سيف النصر أبو ستيت عن الكوليرا لنا معلومات قيمة، والتي طبعتها وزارة المعارف العمومية سنة 1948 بعنوان:«قصة الكوليرا» في مصر جاء فيها :
«ضربت الكوليرا مصر عشر مرات في تاريخها الحديث في سنوات 1831، و 1834، و1850، و1855، و1865، و1883، و1895، و1902، و1947.* (12)
.. ومع تفاقم الأوضاع، وازيادها سوءاً أعدنا طرح التساول في كتابنا بعنوان: (شعب من «الأوز» .. مقدمة في علم اللغة الاجتماعي) الذي رحنا نبحث فيه عن إجابة لذلك السؤال الذي أقض مضجعي، وأطار النوم من عينيي من خلال محاولة فهم أشكال، وآليات التطور الاجتماعي، وانعكاستها على اللغة، وأثرها في خلق سياقات اجتماعية تُكتسب اللغة فيها وتُستخدم، من خلال علم اللغويات الذي يعرف أيضا بعلم اللسانيات، وهو العلم الذي يعني بدراسة لغات البشر بما فيها اللغات المعاصرة إذ يرتكز اهتمام دارس اللغويات على اللغة نفسها؛ فيهتم بأصولها، وتطورها، وبنائها إلى جانب العلاقة القائمة بين لغة شعب ما، والجوانب الأخرى من ثقافته باعتبار اللغة وعاء ناقل للثقافة، والقينا الضوء على محاولات التجديد اللغوي بداية من «عصر الاحتجاج» في القرن الثاني الهجري، وإلى عصرنا الحالي .
***
.. كانت الإجابة واضحة، وساطعة، وكاشفة عن بعض جوانب السؤال!!، لكنها أيضا لم تكن كافية أو تستطع النفاذ بعمق إلى الكثير من «البقع المعتمة» التي أصابت الشخصية المصرية في المدن، والريف على السواء، وأصابتها بفقدان قيم الرجولة، والشهامة، وانعدام النخوة، وجعلتها فاقدة التأثير أو القدرة على المشاركة، وجعلت المواطن المصري أقرب إلى «الصرصور الملقى على ظهره» يسمع، ويحس لكنه غير قادر على فعل شيء ـ على حد تعبير كافكا ـ أو إلى كائن زومبي مُعاد إلى الحياة بأسلوب الخديعة.
لذا فقد أعدنا السؤال من خلال التوسل باللغو؛ فـ «اللغة الجيدة» تُكتسب، وتُستخدم، وتنمو في ظل سياقات اجتماعية جيدة، ومنظبطة، ومنطقية، وعادلة في بيئة صحية، ومناخ نظيف، وتتوافر في مكوناتها سمات مجتمع «الجودة الاجتماعية Social Quality»، .. و«اللغة الرديئة»، والارتباك اللساني، والتواصلي أخطر أعراض داء عضال يفتك بالمجتمعات التى تعاني خللاً في منظومة القيم الاجتماعية، وهو بؤرة اهتمام «علم اللغة الاجتماعي» بما يُطلق عليه من مُسميات إصطلاحية مختلفة منها : «علم اللسانيات االاجتماعية» أو «علم الاجتماع اللغوي» أو «علم اللغة الاجتماعي» أو «السوسيولسانيات»، وكلها مسميات لذلك العلم الذي يدرس اللغة في ضوء علم الاجتماع، ويربط بين الملفوظ اللغوي بسياقة التواصلي، والاجتماعي، والطبقي، وهو أحد حقول علم اللغة مهمته دراسة التنوعات، والاختلافات في لغة واحدة أو أكثر، وهو يسعى إلى فهم اللغة كما هى موجودة بالفعل، أى دراسة اللغة، وعلاقتها بالمجتمعات التي تكون فيها؛ فهو يحاول الإجابة على السؤال :(من يتحدث ؟ ماذا ؟ وأين ؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟).
في المرة الثالثة في كتابنا بعنوان : («الثقافة الشعبية» .. وتشكيل العقل المصري !!) حاولنا إلقاء الضوء على طبيعة الموروث الشعبي بكل أنواعه وأيجاد تفسير انثربولوجي للأغاني الشعبية بما تحمله من معان، ودورها في تقديم أدوات درس ثرية لتحليل الواقع الاجتماعي، والثقافي للمجتمع من خلال أغاني الأفراح والعدودة، والسامر الشعبي (الريفي ـ البدوي)، والإنشاد الصوفي وطقوس الزار، ووقفنا على دور الفولكلور في تشكيل العقل المصري، وإحكام السيطرة على المجتمع، ودفعه في الإتجاه الذي يخدم النظم المهيمنة القائمة !!..
.. أعدنا طرح السؤال في محاولة للعثور على الجواب من منطلقات المنهج الوصفي التحليلي، وتطبيقاته على السرد العامي في «كلام المصاطب»، ودور «السامر الشعبي» بما يحمله سحر الحكايا من خدر الأماني، ووهجها الذي يبث دفء الوعود الزائفة، التي تشعل جذوة الخيالات التي تتفاعل مع الوجدان في منطقة العاطفة، وتسهم بشكل ما في تشكيل العقل المصري من خلال البُنى الثقافية المتاحة.
.. لأنه لا يمكن فهم لغة مجتمع بدون فهم ثقافته، وبدون فهم السياقات الاجتماعية التي تكتسب فيها اللغة وتستخدم،.. وتأثير تلك السياقات على الأخلاق والسلوك، وبصمتها على طبيعة العمران !!
.. لذا كان لابد من فهم لغة العامة «الملحونة» التي يطلق عليها البعض:«اللغة العامية» أو «لغة الشارع» أو «لغة المصاطب» أو «لغة المقاهي»، والنفاذ إلى باطن «الثقافة الشعبية» التي يتم تعريفها صراحة أو ضمناً مقابل الفئات المفاهمية الأخري: بـ «الثقافة الفلكلورية» بمعنى «حكمة الشعوب» حسب التعريف الأوربي لمصطلح Folklore، أو«الثقافة الجماهيرية»، أو «ثقافة الجمهور»، و«الثقافة السائدة» في مواجهة ما عدها من الثقافة المضادة، أو«ثقافة الطبقة العاملة»، أو «الأدب الشعبي»، أو «أدب الفلاح» أو «الثقافة القولية» أو «الثقافة الشفاهية» أو «الثقافة اللفظية» أو «الثقافة المهتمة بالحياة الشعبية» أو «ثقافة جمهور المدينة من الطبقة الوسطى» أو «ثقافة الصمت» أو «ثقافة الصوت المقموع»، أو «ثقافة الإرادة المقهورة»، أو «ثقافة التفكير الملغي» .
.. كانت محاولة فهم تلك الثقافة بما تحمله من رموز، ومدلولات، ودورها في تشكيل العقل المصري، وانتاج القيم الرئيسية التي تحكم سلوك الفرد بما يجعله مقبولاً من قبل السلطة المهيمنة، وفي ذات الوقت تضبط حركة المجتمع في أداء وظائفه ـ في حدود المُمكن والمُتاح ـ في تنظيم الحاجات الاجتماعية لأفراده في إطار دستوره الشعبي الذي صاغه بنفسه من جوانب معروفة من شخصيته، وكيانه يعبر بها عن كوامن ذاته من داخل مروياته، ومأثوراته من حقائق قد يغفل التاريخ عن ذكرها!!
ووضعنا أيدينا في هذه المرة على ما يمكن أن نعول عليه؛ .. فيمكن تلخيص ما جرى للمصريين في أنه «غزو ثقافي»، و «اغتصاب تربوي» أصابا الجميع بالقهر، وجعلا الفرد والمجتمع والأمة يعيشون حالة من «الاستلاب والاغتراب في الوطن» في ظل قيم، ومعايير، وسلوكيات في الذوق، واللباس، والطعام، والاستهلاك فرضتها «الثقافة الوافدة» بعد إزاحة «الثقافة الشعبية»؛ بهدف خلق حالة من التحلل في نظام القيم الجماعية القائمة بطريق غير مباشر، وغرس قيم بديلة زائفة، وكاذبة، وخادعة، وقولبة المواطنين في أنماط متشابهة كأنها خرجت للتو من خط إنتاج واحد، والخطر هنا لا ينصب على مآل «الثقافة الشعبية»، و«الأدب الشعبي» فقط، ولكن خطورته تنصب على «الجماعة الشعبية»؛ لكون أصحاب «الثقافة الشعبية» هم المستهدفون لأسباب اقتصادية وسياسية؛ فانتهاك «الثقافة الشعبية»، وتفكيك بنيتها يعني تفكك النسق المعرفي والقيمي أى تفكك الوعي، وبانهيار الثقافة الشعبية يفقد أصحابها حصنهم التقافي الذي طالماً لجأوا إليه دائما للدفاع عن ذواتهم، وهويتهم، وحماية تمايزهم.
في هذة المرة نحاول الإجابة على السؤال من خلال التغييرات التي حدثت في العمران من خلال أمراض الترييف في المدن!! أو من خلال أمراض التمدين في قرى الأرياف!! أو من خلال سكنى العشوئيات في عشش الصفيح أو سكنى المقابر أو حزام العشوائيات (...) أو حزام القبح المسمى بـ «المدن الجديدة» أو «مدن الملح» ـ على حد تعبير ـ عبد الرحمن منيف أو«الاقتلاع من الجذور» ـ على حد تعبير ـ د. عمر الشهابي، أو«عمران اللا منتمي» ـ على حد تعبير ـ د. على عبد الرءوف .
.. أننا لا ننكر على أحد «الحق في المدينة»، ولا نصادر حقه يعني الاستمتاع الكامل بكل أرجاء المدينة والأماكن العامة فيها على أساس مبادئ الاستدامة ـ والعدالة الاجتماعية، واحترام كافة الثقافات الريفية، والثقافات الحضارية، وممارسة الحق في الاستمتاع بالمدينة التي تقوم على أساس الإدارة الديمقراطية للمدينة، وذلك فيما يتعلق بالوظيفة البيئية، والاجتماعية للممتلكات، وللمدينة نفسها، والممارسة الكاملة للمواطنة .
وتعود أصول هذا المفهوم إلى كتاب الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر «الحق في المدينة» الذي صدر عام 1968 في أعقاب الاحتجاجات التي اجتاحت فرنسا، وباقي الدول الأوربية يري هنري لوفيفر أن مفهوم «الحق في المدينة» يعني مطالبة الفرد في حقة في الحياة الحضارية، وأتى ديفيد هيرفي ليؤكد أن الحق في المدينة ليس فقط حق الفرد من الحياة الحضارية، أو حقه من المصادر التي تتمتع بها المدينة، ولكن ديفيد هيرفي يرى يعرف «الحق في المدينة» بأنه الحق الجمعي في اكتشاف، وتغيير أنفسنا عن طريق أكتشاف، وتغيير المدن التي نعيش فيها .
.. لكن لوفيفر في كتابه :«الثورة الحضرية» الصادر سنة ١٩٧٠ يتراجع عن «الحق في المدينة» بزعم أن المدينة التي كنا نعرفها، ونتصورها ونشعر بالحنين إاليها قد اختفت، ولا يمكن استعادتها .. المدينة التقليدية قتلها التطور الرأسمالي .. سقطت ضحية للحاجة المستمرة للتخلص رأس المال المتراكم مما يقود إلى نمو حضري لا نهاية له بغض النظر عن عواقبه الاجتماعية، والبيئية، والسياسية .. المشكلة أن كل ذلك تم تنظيمه، وتنفيذه بشكل بيروقراطي عن طريق الاقتصاد الموجه دونما نفحة من أي مدخل ديمقراطي، أو لمحة من خيال مرح، وإنه حفر عميق لعلاقات الامتيازات الطبقية، والهيمنة على شكل المدينة تفسه .
.. ثم بدأ لوفيفر يتحول من فكرة «الحق في المدينة» إلى مسألة أكثر عمومية واتساعاً، وهي «الحق في إنتاج الفضاءالمدني» في اطروحته المنشورة سنة ١٩٧٤ يؤكد أن المطالبة بالحق في المدينة أصبح يمثل مشكلة لأنه في حقيقة الأمر أصبح مطالبة بالحق في شيء لم يعد له وجود؛ إنه عبارة على «معنى فارغ»، وتعبير خالي من الدلالة، وسيبقى ذلك رهينا بمن سيملؤه بالمعنى!!
مراجع الكتاب :
ـــــــــــــــــ
1ـ د. أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان ـ 1982
2 ـ جوردون مارشال ، موسوعة علم الاجتماع، ترجمة : د.محمد الجوهري وأخرون ،أوكسفورد، نيويوك 1998الطبعة الثانية ، 3 مجلدات ـ الترجمة العربية ـ القاهرة 2007
3 ـ اندرو إدجار، بيتر سيد جويك، موسوعة النظرية الثقافية .. المفاهيم والمصطلحات الأساسية ، ترجمة د. هناء الجوهري، المركز القومي للترجمة ـ العدد ١٣٥٧ ـ القاهرة ٢٠١٤
4 ـ ميل تشيرتون، آن براون ، علم الاجتماع .. النظرية والمنهج، ترجمة د. هناء الجوهري، المركز القومي للترجمة، العدد ٢٠٧٥ ـ القاهرة ٢٠١٢
5 ـ فلوريان كولماس، دليل السوسيولسانيات، ترجمة : خالد الأشهب، ماجدولين النهيبي، المنظمة العربية للترجمة ـ بيروت ٢٠٠٩
6 ـ د. عبد العزيز نوار، تاريخ مصر الاجتماعي.. منذ فجر التاريخ حتى العصر الحديث، دارالفكرالعربي ـ االقاهرة 1988
7 ـ اليكس إنكلز ، مقدمة في علم الاجتماع، د. محمد الجوهري وأخرون ـ ، ، ط6 ، سلسلة علم الاجتماع المعاصر، عدد 15، دار المعارف ـ القاهرة 1983
8 ـ د.حسين فهيم ، قصة الأنثروبولوجيا ، عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، العدد 98، الكويت ـ فبراير1998
9ـ كارل بوبر، عقم المذهب التاريخي، دراسة في مناهج العلوم الاجتماعية ، ترجمة عبد الجميد صبره، منشأة المعارف بالأسكندرية ١٩٥٩
10 ـ جينفر م. ليمان، تفكيك دور كايم .. نقد ما بعد بعد بنيوي، ترجمة محمد حافظ دياب، ط ١، المشروع القومي للترجمة، العدد ٢٠٨٥ـ القاهرة ٢٠١٣
11 ـ نيكولاس جين، مستقبل النظرية الاجتماعية،( حوارات مع سبعة من علماء الاجتماع وأحد علماء السياسة وأحد علماء اللسانيات) ترجمة : يسري عبد الحميد رسلان، المركز القومي للترجمة، ط ١ ـ العدد ١٧٣٧ ـ القاهرة ٢٠١٤
12 ـ إيان كريب ، النظرية الاجتماعية من باسونز إلى هابرماس، ترجمة : د. محمد حسين غليوم ، عالم المعرفة ـ العدد ٢٤٤، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت ١٩٩٩
13 ـ صامويل هننتنجتون، صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة : طلعت الشايب، دار سطور، ط ٢ ، القاهرة ١٩٩٣
14 ـ بيير بورديو ،أسئلة علم الاجتماع ـ حول الثقافة والسلطة والعنف الرمزي ، ترحمة ابراهيم فتحي، دار العالم الثالث ـ القاهرة ١٩٩٥
15 ـ رفعة الجادرجي، في سببية وجدلية العمارة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2006
16 ـ ديفيد هارفي، مدن متمردة.. من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر، ترجمة لبنى صبري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط ١ ـ بيروت ٢٠١٧
17 ـ جي ديبور، مجتمع الفرجة، ترجمة أحمد حسان ، دار شرقيات للنشر والتوزيع ـ القاهرة ٢٠٠٠
18 ـ فيليب تايلور، قصف العقول .. الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووي، ترجمة سامي خشبة عالم المعرفة ـ العدد 256، ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت أبريل 2000
19 ـ فيدل سليستر، مدرسة فرانكفوت.. نشأتها ومغزاها ـ وجهة نظر ماركسية ، ترجمة خليل كلفت، المشروع القومي للترجمة، العدد 154 ـ القاهرة ٢٠٠٠
20 ـ هربرت ماركووز،الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، ط ٣، دار الآداب بيروت ١٩٨٨.
21 ـ د. على ليلة، النظرية الاجتماعية وقضايا المجتمع .. قضايا التحديث والتنمية المستدامة ، ج ١ ، مكتبة الأنجلو المصرية ـ القاهرة 2015
22 ـ د. محمد الجوهري، المدخل إلى علم الاجتماع ، القاهرة 2007
23ـ د. محمد الجوهري وأخرون، مقدمة في دراسة التراث الشعبي ، ط ١ ـ القاهرة ٢٠٠٦
24 ـ محمد الجوهري، علياء شكري، مقدمة في دراسة الأنثروبولوجيا ـ القاهرة ٢٠٠٧
25ـ أندريه شديد، اليوم السادس، ترجمة حمادة ابراهيم، المشروع القومي للترجمة ، العدد ٣٧٤ ـ القاهرة ٢٠٠٢
26 ـ وليامز هانز ، ما وراء التاريخ ، ترجمة وتقديم : أحمد أبو زيد ، المركز القومي للترجمة ـ العدد 1700 ـ القاهرة 2011
27 ـ بحوث في الأنثروبولجيا العربية، مؤلفون عديدون، تحرير : ناهد صالح، مطبوعات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية ، ط1 ـ القاهرة 2002
28 ـ محد سبيلا، نوح الهرموزي، موسوعة المفاهيم الأساسية في العلوم الإنسانية والفلسفة ، منشورات المتوسط، المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات والإنسانية ، ط 1 ـ المغرب ٢٠١٧
29 ـ ادجار هوفر، النظرية المكانية في اختيار المكان المنسب للنشاط الاقتصادي ، ط ١ ، تعريب عزت عيسى غوراني،دار الأفاق الجديدة ـ بيروت 1974
30 ـ د. محمد الجوهري وأخرون، علم الاجتماع التطبيقي ـ القاهرة 2008
31 ـ واسيني الأعراج من رواية «مرايا الضرير»، ترجمة : عدنان محمد، دار ورد للطباعة والنشر، دمشق 2011
32 ـ عبد الرحمن منيف، مدن الملح ، الأخدود، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ المركز الثقافي العربي، ط ١١ ـ المغرب ٢٠٠٥
33 ـ د. مازن مرسول محمد، حفريات في الجسد المقموع .. مقاربة سوسيولوجية ثقافية، ط ١ ، دار الأمان ـ الرباط ٢٠١٥
34 ـ محمد الجوهري، دراسات انثروبولوجية معاصرة، دار المعرفة الجامعية ـ الأسكندرية ١٩٩٨
35 ـ إدريس مقبول ، الإنسان والعمران واللسان: رسالة في تدهور الأنساق في المدينة العربية، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات ـ الدوحة 2020
36 ـ د. محمد الشاهد،«الحداثة الثورية .. العمارة، وسياسات التغيير في مصر 1936 ـ 1967، ترجمة : أمير زكي، المركز القومي للترجمة ، العدد 3243ـ القاهرة 2020
37 ـ د. عبد الوهاب المسيري وأخرون، إشكالية التحيز.. رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، ط ٢، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ـ الولايات المتحدة الأمريكية ١٩٩٦
38 ـ د.الزواوي بغوره، ما بعد الحداثة والتنوير.. موقف الأنطولوجيا التاريخية ـ دراسة نقدية، ط 1 ـ دار الطليعة للطباعة والنشر ـ بيروت 2009
39 ـ تقرير الأمم المتحدة، تقرير التنمية الاجتماعية الثالث، عدم إهمال أحد : ادماج الفئات المهمشة في بعض البلدان العربية ـ الأمم المتحدة بيروت ٢٠١٩
40 ـ تقرير الأمم المتحدة ـ جنيف ـ يونية ٢٠١٣، اللجنة المعنية بتسخير العلم والتكنولوجيا لأغراض التنمية، تسخير العلم والتكنولوجيا لأغراض استدامة المدن والمجتمعات شبة الحضارية
41 ـ علياء شكري ، وأخرون، الحياة اليومية لفقراء المدينة، دراسة اجتماعية واقعية، جامعة عين شمس ـ القاهرة ٢٠٠٥
42 ـ حسن ظاظا، اللسان والإنسان.. مدخل إلى معرفة اللغة، مكتبة الدراسات اللغوية ـ عدد ١ ، دار القلم، دمشق ـ الدار الشامية ، بيروت ـ ط٢ 1990م
43 ـ ابراهيم أحمد، انطولوجيا اللغة عند مارتن هيدجر ، ط ١ ،الدار العربية للعلوم والنشر، منشورات الاختلاف ـ الجزائر ٢٠٠٨
44 ـ شحاتة صيام، التحضر الرث، والتطور الرث، ط ١ ، مصر العربية للنشر والتوزيع ـ القاهرة ١٩٩٧
45 ـ دارن اسيموجلو، جيمس أ. روبنسون ، لماذا تفشل الأمم .. اصول السلطة والازدهار والفقر، ترجمة: بدران حامد، الدار الدولية للاستثمارات الثقافية ـ القاهرة ٢٠١٤
46 ـ سيرجى قرة /مورزا، التلاعب بالوعى ، ترجمة : عياد عياد ، وزارة الثقافة ، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2012
47 ـ خالد زيادة، المدينة العربية والحداثة، رياض الريس للكتب والنشر ـ بيروت 2019
48 ـ نورمان فيركلف، الخطاب والتغيير تلاجتماعي، ترجمة : محمد عناني، المركز القومي للترجمة، ط ١ ـ العدد ٢٥٩٣ ـ القاهرة 2015
49 ـ الإمام عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز ـ طبع على نفقة الحاج عبد الرحيم الحلوجي الكتبي بشارع الحلوجي منقول عن نسخة الشيخ محمد محمود الشنقيطي المنسوخة بخط اليد والمحفوظو بالكتب خانة الخديوية نمرة ٥ ـ القاهرة ـ بدون تاريخ.
50 ـ أوجدن وريتشاردز، معنى المعنى .. دراسة في أثر اللغة في الفكر ولعلم الرمزية، ترجمة : د. كيان أحمد حازم يحيى، دار الكتاب الجديد المتحدة، ليبيا ٢٠١٥
51 ـ فاضل ثامر، اللغة الثانية في إشكالية المنهج والنظرية والمسطلح في الخطاب النقدي العربي الحديث، ط ١ ، المركز الثقافي العربي ـ بيروت ١٩٩٤
52 ـ جميل حمداوي، السميولوجيا بين النظرية والتطبيق، دار الريف للطبع والنشر الالكتروني ـ المغرب ٢٠٢٠
53 ـ د. عبد الوهاب المسيري وأخرون، إشكالية التحيز.. رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد ، ط ٢ ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ـ الولايات المتحدة الأمريكية ١٩٩٦
54 ـ الفن جولدنر، الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي، ترجمة على ليلة، المشروع القومي للترجمة، المجلس القومي للترجمة ـ العدد ٦٦٧ ـ القاهرة ٢٠٠٤
55 ـ د. على عباس مراد، الهندسة الاجتماعية .. صناعة الإنسان والمواطن ،ط ١، ابن النديم للنشر والتوزيع، دار الروافد الثقافيةـ الجزائر، بيروت ٢٠١٧
56 ـ هربرت أ. شيللر، المتلاعبون بالعقول .. كيف يجذب محركو الدمى الكبار في السياسة والإعلان ووسائل الاتصال الجماهيري خيوط الرأي العام ؟، ترجمة : عبد السلام رضوان ، عام المعرفة ، العدد ٢٤٣ ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت 1999
57 ـ هربرت ماركووز،الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، ط ٣، دار الآداب بيروت ١٩٨٨.
58 ـ بول أرون، ألغاز تاريخية محيرة ، ترجمة : شيماء طه الريدي، مؤسسة هنداوي ـ القاهرة 2005
59 ـ د . خالد فهمي، الجسد والحداثة، الطب والقانون في مصر الحديثة،ترجمة :شريف يونس دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة ـ القاهرة ٢٠٠٦
60 ـ د. عبد الوهاب بكر ، مجتمع القاهرة السري ( ١٩٠٠ ـ ١٩٥١ )، العربي للنشر والتوزيع ـ القاهرة ٢٠٠١ـ
61 ـ علماء الحملة الفرنسية، ترجمة زهير الشايب، وصف مصر .. المصريون المحدثون، الطبعة 3 ـ دار الشايب ـ القاهرة 1992
62 ـ اللورد كرومر، مصر الحديثة ، ج٢ ،ط ١، ترجمة صبري محمد حسن ـ المركز القومي للترجمة،عدد رقم ٢١٥٧ القاهرة ٢٠١٥
63 ـ بيتر جروبر ، فن العدوان: الانفعالات والطاقات، تقييدها والسيطرة عليها، تعريب : نوال الحنبلي، مكتبة العبيكان ـ الرياض ٢٠٠٤
64 ـ وزارة الدولة للتنمية الإدارية، لجنة الشفافية والنزاهة، «الأطر الثقافية الحاكمة لسلوك المصريين واختيارتهم .. دراسة لقيم النزاهة والشفافية والفساد»، ـ القاهرة 2009
65 ـ سليفيا شيفولو، ترجمة : ماجدة أباظة،الطب والأطباء في مصر .. بناء الهوية المهنية، والمشروع الطبي، المركز القومي للترجمة ، العدد ٩٥٥ ـ القاهرة ٢٠٠٥
66 ـ جوزيف بيرن، الموت الأسود، ترجمة عمر سعيد الأيوبي، سلسلة الحياة اليومية عبر التاريخ، هيئة أبوطبي للسياحة ، أبوظبي ٢٠١٣
67 ـ أ . ب. كلوت بك ـ لمحة عن مصر، ترجمة محمد مسعودـ دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة ٢٠١١
68 ـ د. نجيب محفوظ ، حياة طبيب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة ـ القاهرة 2013
69 ـ د. سيسل ألبورت في كتابة بعنوان :«ساعة عدل واحدة .. الكتاب الأسود عن أحوال المستشفيات المصرية (1937 ـ 1943)، ترجمة : سمير محفوظ بشير، كتاب الهلال ـ العدد 698 ـ دار الهلال 2009
70ـ ـ د. محمد الجوهري، المدخل إلى علم الاجتماع ، القاهرة 2007
71 ـ ـ د. محمد الجوهري وأخرون، مقدمة في دراسة التراث الشعبي ، ط ١ ـ القاهرة ٢٠٠٦
72 ـ محمد الجوهري، علياء شكري، مقدمة في دراسة الأنثروبولوجيا ـ القاهرة ٢٠٠٧
73ـ وليامز هانز ، ما وراء التاريخ ، ترجمة وتقديم : أحمد أبو زيد ، المركز القومي للترجمة ـ العدد 1700 ـ القاهرة 2011
74ـ بحوث في الأنثروبولجيا العربية، مؤلفون عديدون، تحرير : ناهد صالح، مطبوعات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية ، ط1 ـ القاهرة 2002
75ـ محمد سبيلا، نوح الهرموزي، موسوعة المفاهيم الأساسية في العلوم الإنسانية والفلسفة، منشورات المتوسط، المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات والإنسانية ، ط 1 ـ المغرب ٢٠١٧
76ـ ادجار هوفر، النظرية المكانية في اختيار المكان المنسب للنشاط الاقتصادي ، ط ١ ، تعريب عزت عيسى غوراني،دار الأفاق الجديدة ـ بيروت 1974
77ـ د. قاسم عبده قاسم، القراءة الشعبية للتاريخ، دار عين، القاهرة 2014
78 ـ مجموعة مؤلفين، جدليّات الاندماج الاجتماعي وبناء الدولة والأمة في الوطن العربي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط 1 ـ بيروت 2014
79 ـ مؤلفون متعددون، تقديم وتحرير : محمد السيد سعيد، حكمة المصريين، مركز القاهرة لدرراسات حقوق الإنسان ـ القاهرة ٢٠٠٠
80 ـ د. عفاف جمعة، يوميات الغرفة 7023 .. رسائل الحب والألم ، حواس للطبع والنشر ـ القاهرة 2020
81 ـ على مبارك، حياتي ، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة ، القاهرة 2012
82 ـ ياسر بكر، حرب المعلومات، حواس للطبع والنشر ـ القاهرة 2017
83 ـ سيرجى قرة /مورزا، التلاعب بالوعى ، ترجمة : عياد عياد، وزارة الثقافة ، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2012
84 ـ هربرت . أ . شيللر، المتلاعبون بالعقول ، ترجمة عبد السلام رضوان ـ عالم المعرفة عدد 106 ـ الكويت، أكتوبر 1986
85 ـ ياسر بكر، «فئران المركب» .. دراسة في التاريخ الاجتماعي، E. Book ـ القاهرة2021.
86 ـ دافيد إدواردز، دافيد كرومويل، حراس السلطة .. أسطورة وسائل الإعلام الليبرالية ـ ترجمة آمال الكيلاني، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة 2007
87 ـ سارة البلتاجي، الأمن الاجتماعي ـ الاقتصادي والمواطنة النشطة في المجتمع المصري، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، ط 1ـ بيروت 2016
88 ـ مجدي عبد الرشيد بحر، القرية المصرية في عهد سلاطين المماليك ( ٦٤٨ ـ ٩٢٣ هـ ـ ١٢٥٠ـ 1517)، الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1999
89 ـ . د. قاسم عبده فاسم ، عصر سلاطين المماليك، ط 1، دار الشروق ـ القاهرة 1994
90 ـ د. أحمد يوسف، المخطوط السري لغزو مصر ، كتاب الهلال، العدد 525، سبتمبر 1994ـ دار الهلال القاهرة
91ـ ياسر بكر، «شعب من الأوز» .. مقدمة في علم اللغة الاجتماعي، E. Book ـ القاهرة2020.
92 ـ د. ليلى عنان، الحملة الفرنسية بين الأسطورة والحقيقة: كتاب الهلال رقم 500 أغسطس 1992، القاهرة 1992
93 ـ د. ليلى عنان، الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير، كتاب الهلال ، العدد رقم ٥٦٧، القاهرة ـ مارس ١٩٩٨
94 ـ د.ليلى عنان ، الحملة الفرنسية في محكمة التاريخ، كتاب الهلال رقم 574 أكتوبر 1998 ـ الفاهرة 1998
95 ـ د.نللي حنا، مصر العثمانية والتحولات العالمية 1500 ـ 1800 هـ ، ترجمة مجدي جرجس، المركز القومي للترجمة ـ عدد رقم 2805، الطبعة 1 ـ القاهرة 2016
96 ـ نابليون بونابرت، مذكرات نابليون.. الحملة على مصر، ترجمة : عباس أبو غزالة، المركز القومي للترجمة، العدد 2318 ـ القاهرة 2019
97ـ ياسر بكر، «الثقاقة الشعبية» .. وتشكيل العقل المصري ، E. Book ـ القاهرة2021 .
98 ـ د. خالد فهمي، كل رجال الباشا .. محمد على وجيشه وبناء مصر الحديثة، ترجمة : شريف يونس، ط1، دار الشروق ـ القاهرة 2001
99 ـ مارتن ريز، ساعتنا الأخيرة (إنذار من عالم)، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، دار العين للنشر ط ١ ، القاهرة ٢٠٠٦
100 ـ د. مصطفى عاشور، الميكروبات والحرب البيولوجية، منشأة المعارف ـ الأسكندرية ٢٠٠٥
101 ـ د. ف . م . برنت، رحلة الإنسان مع الفيروس، ترجمة : د. سعد الدين عبد الغفار، وكالة الصحافة العربية ـ القاهرة 2019
102 ـ د . سيف النصر أبو ستيت ، المحاضرة العاشرة ، الكوليرا ـ وزارة المعارف العمومية ـ القاهرة 1948
103ـ ياسر بكر، أخلاقيات الصورة الصحفية، حواس للطبع والنشر ـ القاهرة 2012 .
الرسائل العلمية :
ـــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ جهاد صالح عبد اللطيف سلامة، الأبعاد الاجتماعية السياسية في التطوير الحضري لأحياء الفقراء، أطروحة لنيل درجة الماجستير في هندسة التخطيط الحضري الإقليمي ـ جامعة النجاح الوطنيةـ نابلس ، فلسطين ٢٠١٠
الدويات العلمية المُحكَّمة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مقال إدريس مقبول بعنوان : «المدينة العربية الحديثة.. قراءة سوسيو لسانية في أعراض مرض التمدن»، مجلة عمران، للعلوم الاجتماعية والإنسانية .. مجلة فصلية محكمة يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، العدد ١٦ ، المجلد الرابع، ربيع، الدوحة ٢٠١٦
2 ـ مقال فتحي محمد مصيلحي، المدينة العربية وتحديات التمدن في مجتمعات متحولة : القاهرة الكبرى مثالاً، مجلة عمران فصلية محكمة يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسات المستقبل، العدد 20، م 5، ـ الدوحة ـ ربيع 2017
3 ـ مقال د. كامل الكناني، بعنوان :«تخطيط المدينة العربية الإسلامية .. الخصوصية والحداثة»، مجلة المخطط والتنمية، مركز التخطيط الحضري والإقليمي للدراسات العليا ــ جامعة بغداد، دورية محكمة نصف سنوية، العدد ١٥ ـ ٢٠٠٦