الرئيس عبد الناصر يستقبل العامل خديوى أدم الذى ادعى
أنه عثر على المسدس المستخدم فى حادث المنشية
.. بداية
.. لست بصدد تبرئة الإخوان!!
.. وأيضا لا أحمل اتهامًا لعبد الناصر بتلفيق الحادثة!!
.. لست بصدد تبرئة الإخوان!!
.. وأيضا لا أحمل اتهامًا لعبد الناصر بتلفيق الحادثة!!
.. ولكني من موقع الباحث الذي يبحث عن الحقيقة لذاتها، وعاين موقع الحدث، وأستمع لشهادات الكثير ممن عايشوه من أهالي المنشية من المثقفين، وبعض أصحاب المحال التجارية والمقاهي، وبعض حراس العقارات، ومراجعة المصادر الأولية للمعلومات ( شريط الإذاعة، وما نقلته صحافة القاهرة في صدر صفحاتها غداة الحادث)، والمذكرات التي تناول أصحابها الحادثة في محاولة جادة وعلمية لحصر الأدلة.. أستطيع أن أؤكد بضمير مستريح، وقلب مطمئن أن هناك الكثير من الحلقات المفقودة في واقعة الاعتداء على عبد الناصر في المنشية على النحو الذي صورته أوراق القضية رقم (1) لسنة 1954 ـ الدائرة الأولى ـ محكمة الشعب!!
.. فالقضية شبه مهلهلة في أورقها، وحلقات كثيرة مفقودة في سياقها، بما يضفي ظلالاً من الشك الذي يفسر دائما لصالح المتهم، ربما لو كشفت الأيام عن تلك الحلقات؛ لأوضحت الكثير من الغموض الذي لفّ الحادث، وأضفت على ضفيرة أحداثه تتابعًا منطقيا يجعلها أكثر اتساقًا وإقناعا.. وربما تم تفسيرها لمصلحة االمجني عليه!!
.. لكنها يبدو أنها الأمنية شبه المستحيلة؛ فعشرات السنين تفصل بيننا بين الحقيقة، مسرح الحدث لم يعد كما كان، فقد احترق مبنى البورصة بالإسكندرية في أحداث «انتفاضة الخبز» في 18 و19 يناير 1977 واحترقت معه آثار ما جرى، ولم يتبق منه سوى مساحة أرض فضاء تستخدم كجراج للسيارات، ولم يتبقَ لنا سوى نسخة سينمائية غير مكتملة من «الجريدة الناطقة» صوتها أوضح من صورتها، وأعداد من صحف قديمة في دار المحفوظات.
يزيد البحث صعوبة أن طرفا المشكلة (الإخوان وضباط يوليو)، هما طرفا إشكالية الصراع على السلطة آنذاك، ولم يبوحا بأسرارها حتى الآن!!
.. لذا كان التنبيه واجبًا إلى الصعوبة التي واجهها البحث، وخاصة أن عبد الناصر، ومن أتى بعده إلى الحكم قد أصبغوا على وقائع تاريخنا ووثائقه صفة «سرى»، ودون وجود قوانين تنظم تداول المعلومات وسبل الكشف عن الوثائق، أو السنوات اللازمة للكشف عن مكنوناتها، وهو ما جعل من خزانة الوثائق مغلقة دائما!!
.. وزاد الأمر صعوبة أن الإخوان المسلمين تنظيم سري، وأنهم يحرقون أوراقهم بعد عقد اجتماعاتهم، لذلك كان الاعتماد على بعض الروايات الشفهية، والمذكرات الخاصة وهذا النوع من المصادر له عيوبه، منها المبالغة والكذب وليّ عنق الحقائق والرؤية الذاتية للأمور.. ولذلك اكتفيت بإبراز المفارقات العلمية بينها!!
سيد الأدلة..
و«سيء الأدلة»!!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضباط يوليو مروا عليها عبور غير الكرام في إدانة قاطعة للإخوان بزعم اعتراف الجاني، وأن الاعتراف سيد الأدلة، في مغالطة مفضوحة للمبدأ القانوني؛ فالاعتراف سيد الأدلة في ظل الضمانات التي حددها القانون للمتهم أمام قاضيه الطبيعي، لكنه يصبح «سيء الأدلة»، في ظل ظروف استثنائية مثل احتجاز المتهم في السجن الحربي ومحاكمته أمام محكمة عسكرية.
.. واكتفت قيادات الإخوان بإنكار هو الأقرب إلى الاعتراف في محاولة لإسقاط المسئولية عن التنظيم بأكمله، باعتبار أن الحادث فردي قام به رجلان ينتميان إلى الجماعة.. وأكدوا في إنكارهم أنهم لو أرادوا لفعلوها!!. بل وفجروا الإسكندرية بأكملها فلديهم الرجال والذخيرة والسلاح والمتفجرات!!
كلٌ طرف يكتب تاريخه وفق هواه، أو وفق ما يعتقد أو يريدنا أن نعتقد أنه الحقيقة!!
الحـادث على الهــواء
من إذاعة القاهـــــرة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ (الساعة 0 3: 7) بدأ عبد الناصر خطابه في حشد من ربع مليون شخص:
أيها المواطنون:
يا أهل الإسكندرية الأمجاد.. أحب أن أقول لكم ونحن نحتفل اليوم بعيد الجلاء.. بعيد الحرية.. بعيد الاستقلال، أحب أن أقول لكم - أيها الإخوان - أحب أن أتكلم معكم عن الماضي وعن كفاح الماضي.. أحب أن أعود إلى الماضي البعيد.
أيها المواطنون: أحب أن أتكلم معكم كلامًا هادئًا، (عبد الناصر يوجه كلامه إلى الذين يهتفون بحدة لا تخلو من ملمح استنكار وتجريح لمستمعيه) قائلاً:
كفانا هتافًا - أيها الإخوان - فقد هتفنا في الماضي فماذا كانت النتيجة؟ هل سنعود إلى التراقص مرة أخرى إلى التهليل؟! هل سنعود إلى التهريج؟! إني لا أريد منكم أن تقرنوا اسم جمال بهذه الطريقة، إننا إذا كنا نتكلم معكم اليوم فإنما نتكلم لنسير إلى الأمام بجد وبعزم، لا بتهريج ولا بهتاف، ولا يريد جمال مطلقًا أن تهتفوا باسمه، إننا نريد أن نعمل لنبني هذا الوطن بناءً حرًا سليمًا أبيًا، ولم يبنَ هذا الوطن في الماضي بالهتاف، وإن الهتاف لجمال لن يبني هذا الوطن، ولكنا - يا إخواني- سنتقدم وسنعمل . سنعمل للمبادئ.. وسنعمل للمثل العليا؛ بهذا سنبني هذا الوطن، وأرجوكم أن تصغوا إليَّ وأنا إذا كنت أتكلم معكم اليوم في الاحتفال بهذه الاتفاقية، وفي الاحتفال بهذا الجلاء، وفي الاحتفال بهذه الحرية؛ فإنما أريد أن أذكركم بالماضي وبكفاح الماضي.. كفاحكم أنتم وبكفاح آبائكم وبكفاح أجدادكم، أريد أن أقول لكم لقد بدأت كفاحي وأنا شاب صغير، من هذا الميدان، ففي سنة 30.. في سنة 1930 خرجت وأنا شاب صغير بين أبناء الإسكندرية أنادي بالحرية وأنادي بالكرامة لأول مرة في حياتي، وكان هذا - يا إخواني - أول ما بدأت الكفاح من هذا الميدان، وأنا إذ أتواجد بينكم اليوم لا أستطيع أن أعبر عن سعادتي ولا أستطيع أن أعبر عن شكري لله حينما أتواجد في هذا الميدان، وأحتفل معكم أنتم يا أبناء الإسكندرية، يا من كافحتم في الماضي ويا من كافح آباؤكم، ويا من كافح أجدادكم، ويا من استشهد إخوان لكم في الماضي، ويا من استشهد آباؤكم. أحتفل معكم اليوم بعيد الجلاء وبعيد الحرية، بعيد العزة وبعيد الكرامة.
ـ (الساعة 55: 7).. وبعد خمس وعشرين دقيقة من بدء الخطاب، يُسمع صوت تصفيق من الجماهير، وصوت إطلاق أعيرة نارية متتالية، وبعد لحظات من الهرج، يُسمع صوت: امسك اللي ضرب ده.)
يجئ صوت عبد الناصر: يوجه خطابه للجماهير قائلاً:
فليبق كلٌّ في مكانه..
أيها الرجال:
فليبق كل في مكانه..
أيها الرجال:
فليبق كل في مكانه..
أيها الرجال:
فليبق كل في مكانه..
أيها الرجال:
فليبق كل في مكانه:
أيها الرجال:
فليبق كل في مكانه..
أيها الرجال:
فليبق كل في مكانه..
أيها الرجال:
فليبق كل في مكانه..
أيها الأحرار:
فليبق كل في مكانه..
دمي فداء لكم.. حياتي فداء لكم..
دمي فداء مصر.. حياتي فداء مصر.
أيها الرجال.. أيها الأحرار.. أيها الرجال.. أيها الأحرار:
دمي فداءٌ لكم.. حياتي فداء مصر..
هذا جمال عبد الناصر يتكلم إليكم - بعون الله - بعد أن حاول المغرضون أن يعتدوا عليه وعلى حياته.. حياتي فداء لكم، ودمي فداء لكم.
أيها الرجال.. أيها الأحرار:
إن جمال عبد الناصر ملك لكم، وإن حياة جمال عبد الناصر ملك لكم.
أيها الناس.. أيها الرجال:
ها هو جمال عبد الناصر.. ها هو جمال عبد الناصر بينكم، أنا لست جبانًا.. أنا قمت من أجلكم، ومن أجل حريتكم، ومن أجل عزتكم، ومن أجل كرامتكم.
أيها الناس.. أيها الرجال.. أيها الأحرار.. أيها الأحرار:
أنا جمال عبد الناصر.. منكم ولكم.. دمي منكم ودمي لكم، وسأعيش حتى أموت مكافحًا في سبيلكم وعاملاً من أجلكم.. من أجل حريتكم.. ومن أجل كرامتكم.. ومن أجل عزتكم.
أيها الأحرار.. أيها الرجال.. أيها الأحرار:
(صوت عبد الناصر يقول: «أوعى» لأحد زملائه الذين يحاولون منعه من الاستمرار في الحديث حرصًا عليه)، ثم يواصل حديثه:
أيها الرجال.. أيها الأحرار:
(صوت عبد الناصر يقول لزملائه: « سيبوني ».)
ملحوظة: مع محاولة زملائه منعه من الخروج ينسكب مداد أحمر اللون من قلم حبر كان في جيبه الأيسر (ناحية القلب) على صدره، مما أحدث حالة من الإيهام والتأثير النفسي التي أثارت مشاعر الجماهير التي اعتقدت أنه الدم وخلقت حالة التعطف مع عبد الناصر الذي أصر على الكلام وأنه لم يمت!!
***
(يعود عبد الناصر ليستكمل خطابه)
أيها الرجال:
فليقتلوني. فليقتلوني. فقد وضعت فيكم العزة.. فليقتلوني. فقد وضعت فيكم الكرامة.. فليقتلوني. فقد أنبت في هذا الوطن الحرية والعزة والكرامة من أجل مصر ومن أجل حرية مصر؛ من أجلكم ومن أجل أبنائكم ومن أجل أحفادكم.
والسلام عليكم ورحمة الله.
(يعود عبد الناصر ليستكمل كلامه بانفعال للمرة الثانية)
السلام عليكم.. كافحوا.. واحملوا الرسالة.. واحملوا الأمانة.. من أجل عزتكم، ومن أجل كرامتكم، ومن أجل حريتكم.
يا أهل مصر.. يا أبناء مصر قمت من أجلكم.. وسأموت في سبيلكم.. في سبيل حريتكم، وفي سبيل عزتكم، وفي سبيل كرامتكم.
يا أهل مصر.. أيها الأعزاء.. أيها الكرماء:
أنا فداء لكم، وسأموت من أجلكم.. سأموت من أجلكم.. سأموت من أجلكم.
والسلام عليكم.
(حالة من الصخب والهرج.. الجماهير تريد أن تطمئن على الرئيس فيخرج إليها ويستكمل حديثه إليهم للمرة الثالثة) قائلاً:
أيها المواطنون:
إذا مات جمال عبد الناصر فأنا الآن أموت وأنا مطمئن؛ فكلكم جمال عبد الناصر.. كلكم جمال عبد الناصر.. كلكم جمال عبد الناصر؛ تدافعون عن العزة، وتدافعون عن الحرية، وتدافعون عن الكرامة.
أيها الرجال:
سيروا على بركة الله.. والله يحمي مصر وأبناء مصر ورجال مصر. سيروا.. تمسكوا بالمبادئ، وتمسكوا بالمُثل العليا، لا تخافوا الموت، فالدنيا فانية.
وإننا نعمل لنموت.. نعمل لنموت من أجلكم ومن أجل مصائركم ومن أجل حريتكم ومن أجل عزتكم.
أيها المصريون.. أيها الرجال.. أيها الرجال.. الأعزاء.. الكرماء:
سيروا على بركة الله.. والله معكم.. لن يخذلكم.. لن يخذلكم.
فلن تكون حياة مصر معلقة بحياة جمال عبد الناصر، ولكنها معلقة بكم أنتم وبشجاعتكم وبكفاحكم، فكافحوا، وإذا مات جمال عبد الناصر، فليكن كل منكم جمال عبد الناصر.. فليكن كل منكم جمال عبد الناصر متمسكًا بالمبادئ ومتمسكًا بالمُثل العليا.
أيها الرجال:
سيروا فإن مصر اليوم قد حصلت على عزتها وحصلت على كرامتها وحصلت على حريتها، فإذا مات جمال عبد الناصر أو قتل جمال عبد الناصر فسيروا على بركة الله نحو المجد.. نحو العزة.. نحو الحرية.. نحو الكرامة.
والسلام عليكم ورحمة الله.
(المذيع: تطالب الجماهير خروج الرئيس إليها، ثم يُسمع صوت عبد الناصر يقول: «سيبونى.. سيبونى.. سيبونى..» فيلبي عبد الناصر نداء الأمة التي تهتف: الله معك يا جمال.)
(يخرج عبد الناصر ليستكمل خطابه للمرة الرابعة):
أيها المواطنون:
كنت أتكلم معكم عن كفاحي سنة 30، وفي سنة 30 - يا إخواني - في هذا الميدان.. في هذا الميدان، وكنت أبلغ من العمر اثني عشر عامًا.. جئت إلى هذا الميدان وكنت طالبا في مدرسة رأس التين، جئت إلى هذا الميدان أهتف بالحرية وأهتف بالكرامة، وحاول الاستعمار وأعوان الاستعمار أن يعتدوا علينا وأن يقتلونا، فقتل من قتل واستشهد من استشهد ومات من مات، ونجا جمال عبد الناصر ليحقق لكم العزة وليحقق لكم الكرامة وليحقق لكم الحرية.
أيها المواطنون.. أيها المواطنون:
إذا كان جمال عبد الناصر لم يمت في سنة 30، وكتب له أن يموت اليوم، فإنه يموت مطمئن البال.. مطمئن الضمير؛ لأنه خلق فيكم العزة، وخلق فيكم الكرامة، وخلق فيكم الحرية.
أيها المواطنون:
إنني اليوم.. اليوم بعد 24 عامًا.. لقد اعتدوا عليَّ مع إخوان لي ولكم في هذا الميدان، في سنة 30 اعتدى الاستعمار واعتدى أعوان الاستعمار، ونجوت بعون الله؛ لأحقق لكم العزة وأحقق لكم الكرامة.
واعتدوا عليَّ اليوم، اعتدت الخيانة؛ الخيانة التي ترجو وتطلب أن تكبلكم وتستبد بكم وتستبد بمصائركم.
فإذا كنت قد نجوت اليوم فبعون الله لأزيدكم حرية، ولأزيدكم عزة، ولأزيدكم كرامة.
فليعلم الخونة وليعلم المضللون أن جمال عبد الناصر ليس فردًا في هذا الوطن؛ فكلكم جمال عبد الناصر بعد أن شعرتم بالعزة، وبعد أن شعرتم بالحرية، وبعد أن شعرتم بالكرامة.
إذا مات جمال عبد الناصر اليوم، أو إذا مات جمال عبد الناصر باكرا، فأنا أموت مطمئنا.
لقد كنت منكم وأنا منكم، لقد كنت أتظاهر معكم في هذا الميدان، وأنا اليوم أتكلم إليكم كرئيس لكم، ولكن - يا إخواني - دمي من دمكم، وروحي من روحكم، وقلبي من قلبكم، ومشاعري من مشاعركم.
أيها المواطنون.. أيها المواطنون:
إذا قتلوا جمال عبد الناصر، وإذا قضوا على روح جمال عبد الناصر، وإذا أنهكوا دماء جمال عبد الناصر فإنهم لن يقدروا على أرواحكم أنتم، ولا على قلوبكم أنتم، ولا على نفوسكم الأبية أنتم، ولا على دمائكم الطاهرة أنتم أيها الأحرار.
أيها الرجال.. أيها الرجال:
لقد استشهد الخلفاء الراشدون.. لقد استشهدوا جميعًا في سبيل الله، وإذا كان جمال عبد الناصر يقتل أو يستشهد أنا مستعد لذلك والله في سبيلكم وفي سبيل الله وفي سبيل مصر.
والسلام عليكم ورحمة الله.
(لكن الخطبة لم تكتمل، ولم ينطق عبد الناصر بحرف يجيب به عن تساؤلات الجماهير حول الاتفاقية وما يرونه من عوار بها ـ من وجهة نظرهم ـ وتحول الاحتفال إلى احتفاليه بنجاته وتحولت مشاعر الجماهير إلى التعاطف معه)
***
.. وفي 30 أكتوبر 1954 أقيم احتفال ضخم بنادي ضباط الزمالك نقلته الإذاعة على الهواء، وغنت أم كلثوم أغنية يا جمال يا مثال الوطنية، وقد حرص مذيع الحفل على وصف تمايل الضباط طربًا وترديد الكلمات تجاوبًا مع كلمات الأغنية التي ألفها بيرم التونسي ولحنها رياض السنباطي والتي تقول كلماتها:
يا جمال يا مثال الوطنية
أجمل أعيادنا المصرية
بنجاتك يوم المنشية
ردّوا ردّوا عليَّ
***
بنجاتك ونجاة أوطانك
فرحتنا وحسرة من خانك
خاين غدَّار كان قصده يصيب
وتبات النار في صدر حبيب
القلب المليان وطنية
ردّوا ردّوا علي ردّوا عليَّ
***
واجهت النار بثبات وإيمان
وقفة شجعان ما يوقفها جبان
طلقات النـار عندك أوتـار
توهبها وبنفس أبية
ردّوا ردّوا عليّ ردّوا عليَّ
***
طلقات عديدة سمعناها أخذت قلوبنا وياهـا
كانت يا ما أطولها ثانية
عدينا واحدة والثانية لحد ثمانية
ضربتها عناية إلهية وبقت لك آيــة وطنية
ردّوا ردّوا علي ردّوا عليَّ
الحادث في صحافة القاهرة:
في غداة يوم الحادث صدرت جريدة الأهرام وفي صدر صفحتها الأولى بالعناوين الكبيرة:
• محاولة أثيمة لاغتيال الرئيس عبد الناصر
• عامل من الإخوان يطلق عليه 8 رصاصات في ميدان المنشية
• الرئيس ينجو من الاعتداء ويقول: إنه يهب دمه وروحه في سبيل عزة الوطن وحريته
• القبض على الجاني بعد إنقاذه من ثورة الجماهير واعتقال 3 آخرين من الإخوان
وذكرت الصحيفة أن الجاني يدعى محمود عبد اللطيف محمد، ويعمل سباكا في شارع السلام بإمبابة، وهو في الثلاثين من عمره، متزوج وله ثلاثة بنين وبنت، ووالداه أحياء وقد اعتقلهم البوليس جميعًا في مركز إمبابة للتحقيق.
وكان المتهم ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين ولكنه في المدة الأخيرة كان يذيع أنه تركهم.
وقد وضعت حراسة شديدة على دكانه ومنزله.
وقد عثر في المكان الذي كان يقف فيه الجاني على أربعة أظرف فارغة من عيار 36 ملليمترا، وهي تختلف عن طلقات المسدس الذي ضبط مع المتهم، إذ إن المسدس الذي عثر عليه مع المتهم من نوع «المشط »، الذي لا يلفظ الأظرف الفارغة، وكان المتهم يردد في ذلك الوقت أنه لم يقصد إصابة أحد، وأنه كان يطلق هذه الطلقات « للتفاريح ».
50 سنتيمترا فقط :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وضبط البوليس في جيبه 7 رصاصات، وقد طاشت الرصاصات التي أطلقها على الرئيس، وأصابت المصابيح الكهربائية التي كانت منثورة على المنصة، ولا تبعد عن المكان الذي وقف فيه الرئيس بأكثر من 50 سنتيمترًا
خمسة عشر مترًا:
ــــــــــــــــــــــــــــ
كان الجاني قد احتل مقعده منذ الساعات الأولى لهذا الاحتفال، وهو لا يبعد عن المنصة الرئيسية بأكثر من خمسة عشر مترًا، وكان مرتديًا بذلة قاتمة، ووقف من خلفه اثنان كان أحدهما مرتديا جلبابا أبيض والآخر بذلة قاتمة، أما الثلاثة الآخرون فهم محمد عامر حمادة ويشتغل عاملاً، ومحمد إبراهيم دردير من عمال البحر، والحسيني محمد عرام وصناعته فراش بمنطقة دمنهور التعليمية.
الشاهد الرئيسي:
ـــــــــــــــــــــــــــ
والشاهد الرئيسي يدعى حبيب محمد حبيب وهو فراش في مديرية التحرير؛ إذ كان أول من ألقى نفسه على المتهم وشل حركته، وأقبل بعض رجال البوليس والمخابرات ليقبضوا على المتهم وتحسسوا جيوبه فوجدوا لفة ظن أنها المسدس، ولكن تبين أنها المقذوفات السبع التي عثر عليها.
ومما يذكر أن المتهم كان من ضمن متطوعي حرب فلسطين.
وقد عرف أن المتهم وصل من القاهرة اليوم ونزل بفندق صغير يسمى فندق السعادة بجهة محطة مصر، فقام البوليس بتفتيش حجرته بالفندق، ولكن لم يعثر فيها على شيء يفيد التحقيق.
وتم نقل المتهم إلى نقطة بوليس «شريف»، وظلت الجماهير تحيط بالنقطة في محاولة للانقضاض عليه والفتك به، حتى تم نقل المتهمين في عربة إلى مكان التحقيق في حراسة شديدة من البوليس والجيش.
عشر رصاصات
بــدلا من ثمـانٍ:
ـــــــــــــــــــــــــــ
في الحفل الذي أقامه محامي الإسكندرية بفندق سيسل بعد دقائق من انتهاء احتفال المنشية تكريمًا لبطل الجلاء جمال عبد الناصر وإخوته، قال الصاغ أ.ح. صلاح سالم:
« إخواني المحامون: منذ لحظات وكان الرئيس جمال عبد الناصر يلقي خطابه لشعب الإسكندرية المجيد في جموع هذا الشعب، الذي ثار في وجه الظلم والطغيان والاحتلال، هذا الشعب الذي حمل الرسالة وحمل الشعلة منذ فجر التاريخ.. وقف جمال يلقي خطابه وإذا بعشر رصاصات تلقى على صدر جمال عبد الناصر»*
.. وذكرت جريدة الأخبار في عناوين صدر صفحتها الأولى:
• محاولة اغتيال جمال عبد الناصر
• إطلاق 8 رصاصات عليه وهو يخطب بالإسكندرية
• نجاة الرئيس والقبض على الجناة
• جمال يخطب مرتين عقب الحادث
.. وذكرت جريدة الأخبار في عناوين صدر صفحتها الأولى:
• 8 رصاصات طائشة
يطلقها إخواني على الرئيس في الإسكندرية
وصباح يوم 30 أكتوبر 1954 صدرت جريدة «أخبار اليوم» الأسبوعية وفي صدر صفحتها الأولي عنوان رئيسي: « الجاني يتكلم »
• لماذا أطلقت الرصاص على جمال عبد الناصر؟
• محمد حسنين هيكل يدخل الزنزانة ويجتمع مع الجاني ساعتين
• محمود عبد اللطيف يقول: يظهر أني نفعت جمال عبد الناصر بإطلاق الرصاص.
أما قصة المانشيت فقد كتبها محمد حسنين هيكل الذي استطاع أن يدخل إلى زنزانة الجاني في السجن الحربي ويمكث معه ساعتين كاملتين، روى له الجاني خلالهما لماذا أطلق الرصاص على جمال عبد الناصر؟ وماذا كان شعوره وهو يسمعه يتكلم، وماذا شعر بعد أن نجا جمال عبد الناصر، من هم الذين حرضوه؟ ماذا قالوا له عن جمال؟
.. ويبدأ هيكل في رسم صورة بقلمه للمتهم، وكيف يبدو؟ وكيف يفكر؟ وهل ندم على فعله أم لا يزال مصرا عليه؟ وهل أراد أن يقتل جمال؟ وما هو شعوره عندما رأى الشعب يستنكر فعله؟ في محاولة صحفية يصطحب فيها القارئ معه إلى الزنزانة ليرى الجاني ويسمع حديثه!
كتب هيكل:
ــــــــــــــــــــ
« قابلت محمود عبد اللطيف الذي وجه إلى الرئيس جمال عبد الناصر ثماني رصاصات في ميدان المنشية.. قابلته على ضوء الشموع؛ لأن أسلاك الكهرباء في سجن البوليس الحربي كانت قد أصيبت بخلل وساد الظلام! بدا وجهه على ضوء الشموع غريبا عجيبا..
أثار في نفسي مجموعة من الانفعالات لا أظن أنني شعرت بها من قبل.. كان شعر رأسه هائشا، ولم يكن ذقنه حليقا، وكانت في عينيه نظرة زائغة ضائعة، وكان لا يزال يرتدي نفس الملابس التي ارتكب بها جريمته! قميص أزرق مخطط بخطوط بيضاء، وقد شمّر أكمام القميص.. وبنطلون أزرق اللون، وكانت يداه مقيدتين بالحديد خلف ظهره، وجلس على مقعد، وبدأ يتخذ الوضع الذي يريحه ويداه إلى الوراء، وتحركت يداه ولمحت أصابعه وتأملتها على ضوء الشموع المرتعشة.
كانت هناك ظلال مقبضه على هذه الأصابع، لمحت آثار ندب قديم..
قلت له: ما هذا؟
ـ قال: كنت أتدرب على ضرب المسدسات فانطلقت رصاصة خاطئة. لم تخرج من الفوهة بل خرجت من الوراء، وأصابت شظاياها أصابعي.
وكان وهو يتكلم قد ترك أصابعه تأخذ وضع الذي يمسك بمسدس ويصوبه، وأحسست بشعور مقبض.. لقد وقفت وجها لوجه أمام قتلة كثيرين، ولكني لم أشعر نحو قاتل منهم بالشعور الذي أحسست به وأنا أتأمل وجه محمود عبد اللطيف على ضوء الشموع.
شيء غريب لفت نظري فيه! لقد أحسست أني أستمع إلى اسطوانة معبأة تكرر الذي أُلقِي إليها حرفا بحرف، ولست أريد أن أتعرض لتفاصيل التحقيق.. فإن الحظر الذي فرضته النيابة موضع احترامي».
هكذا قدم محمد حسنين هيكل لحديثه مع الرجل الذي حاول اغتيال جمال عبد الناصر ثم دخل مباشرة في تفاصيل الحديث.
ـ هيكل: لماذا أطلقت الرصاص على جمال عبد الناصر؟
ـ المتهم: مضى في صوت كأنه الفحيح يردد مجموعة مثيرة من المعلومات.. « إذا حصلت ( اندلعت ) حرب في كوريا الجنوبية - هكذا بالحرف الواحد فسوف يعود الإنجليز إلى احتلال مصر من الإسكندرية إلى أسوان ».
ـ هيكل: في أي مادة من اتفاقية الجلاء قرأت هذا؟
ـ المتهم بنفس الصوت الذي يشبه الفحيح: في الاتفاقية.. قرأناها معا ودرسناها.
ومضى يتحدث عن الرجل الذي شرح له الاتفاقية.. لم يكن يتحدث عنه وإنما كان يردد كلماته، كان يقول كلاما لا يمكن أن يكون من عنده أو من وحي أفكاره، كان ببغاء من نوع يثير الأعصاب.
ـ هيكل: إنت بتشتغل إيه؟
ـ المتهم: أصلح وابورات الجاز!
ـ هيكل: هل تذكر آخر وابور جاز أصلحته؟
ـ المتهم: نعم قبل الحادث بيومين.. كان الوابور ملك أحد الجيران اسمه محمد سليمان ويعمل نقاشا. وكان قد أعطاني الوابور لإصلاحه فتركته للصبي، ولكن الصبي لم يحسن إصلاحه فأعاده صاحبه لأصلحه من جديد.
ـ هيكل: وبينما أنت تصلح وابور الجاز كنت تدرس اتفاقية الجلاء؟
عاد المتهم يقول بنفس الصوت.. بنفس الفحيح: كنا ندرسها معا، ولم تكن معلوماته عن اتفاقية الجلاء هي وحدها صلته بالببغاوات، بل إن معلوماته عن السلاح كانت هي أيضا من نفس النوع! سمعته يتحدث عن الضرب بالطبنجة، وأستطيع أن أؤكد من الطريقة التي سمعته يقول بها كلماته إنها عبارات محفوظة.
ـ هيكل: أين كنت تتدرب على استخدام السلاح؟
ـ المتهم: في المركز العام للإخوان المسلمين.
ـ هيكل: هل تطيع أي أمر يصدره لك الهضيبي؟
ـ المتهم: في حدود..هو مؤسس الدعوة.
ـ هيكل: وهل الدعوة تبيح القتل وترضى عنه؟
ـ المتهم: سكت ولم يرد.
ـ هيكل: هل القرآن يبيح القتل؟
ـ المتهم: لا يبيحه إباحة صريحة.
ـ هيكل: لماذا كنت تريد أن تقتل جمال عبد الناصر؟. كنت تتدرب على إطلاق الرصاص منذ أربعة شهور.. والاتفاقية وقعت منذ أسبوع.
ـ المتهم: كنا نظن أنها لن توقع.
ـ هيكل: هل عرفت ماذا صنع جمال عبد الناصر بعد أن أطلقت عليه الرصاص؟
ـ المتهم: علمت أنه استمر في إلقاء خطابه.
ـ هيكل: وما رأيك في هذا؟
ـ المتهم: شجاع.
ـ هيكل: كيف إذن تفسر أنه لم يصب؟
ـ المتهم: إرادة الله.
ـ هيكل: معناها أن الله يحبه؟
ـ المتهم: لا أعرف.*( 2 )
***
ـ وفي 2 نوفمبر، صدرت جريدة الأهرام وفي صدر صفحتها الأولى عنوان كبير:
«عامل يعثر على المسدس الذي أطلق منه الجاني الرصاص على الرئيس».
• حضوره من الإسكندرية سيرًا على الأقدام لتقديم المسدس للرئيس.
• الرئيس يقابله بمجلس قيادة الثورة ويشكره ويمنحه 100 جنيه مكافأة له.
وذكرت الصحيفة قصة شاب يدعى خديوي آدم (من الأقصر ـ 23 سنة ـ ويعمل فاعلاً في صناعة البناء) الذي عثر مصادفة على المسدس الذي أطلق منه الجاني رصاصاته الثماني الطائشة، فقد تعثرت به قدمه أثناء تدافع الجماهير، فالتقطه ووضعه في جيبه، وكان المسدس ساخنًا «لسع يديه»، والمسدس من النوع الذي إذا أطلقت جميع مقذوفاته ينفتح؛ فأدرك آدم أنه المسدس الذي استخدم في الحادث.
وروت الصحيفة أن خديوي آدم قد أبى إلا أن يسلمه إلى الرئيس عبد الناصر بنفسه يدًا بيد، ولما كان شاب فقيرا؛ فلم يستطع الحضور من الإسكندرية إلى القاهرة في سيارة أو قطار؛ فلم يكن أمامه الحضور ماشيًا، وبدأ رحلة السير على قدميه على قضبان السكك الحديدية في الرابعة من صباح يوم الأربعاء 27 أكتوبر حتى بلغ مدخل شبرا يوم الاثنين أول نوفمبر في حوالي الساعة 12 ظهرًا، وتلمس مكان الرئيس حتى قابله، وقبَّل يده، فقبَّله الرئيس مقدرًا وشاكرًا، ثم أمر بمكافأته بمائة جنيه.
عن رحلة خديوي آدم من الإسكندرية للقاهرة ذكرت الصحيفة تحت عنوان:
« يجوع فيبيع قفطانه ويأكل.. »:
« إن خديوي آدم مشي بين قضبان السكك الحديدية إلى أن أخذ منه التعب كل مأخذ وشعر بالجوع.. وكان قد وصل إلى سوق مدينة في الطريق لم يعرف اسمها، فباع قفطانه وأكل وشبع وواصل سيره.».* ( 3 )
وفي اليوم التالي ذكرت الصحيفة: «عقد الأستاذ محمد عطية إسماعيل ـ المحامي العام ـ والأستاذ على نور الدين الوكيل الأول في نيابة أمن الدولة اجتماعًا قصيرًا دعي على أثره العامل خديوي آدم واستمع وكيل النيابة إلى معلومات عثوره على المسدس».
***
ـ وفي 5 نوفمبر 1945، صدرت مجلة «المصور» وعلى غلافها صورة بحجم الغلاف لجمال عبد الناصر في ثيابه العسكرية مع عنوان: «كلكم عبد الناصر»، وداخل العدد ملف بعنوان: «السمكري الذي وجَّه 8 رصاصات إلى قلب عبد الناصر».
وذكرت المجلة قصة الاعتداء على الرئيس وحكاية العامل الذي عثر مصادفة على المسدس الذي استخدمه الجاني، وانتقلت المجلة للقاء المصابين في الحادث، وهما الأستاذان ميرغني حمزة وزير المعارف والري والزراعة السوداني، وأحمد بدر الدين سكرتير هيئة التحرير بالإسكندرية، وقد قال مندوب المجلة نقلاً عن ميرغني حمزة: «عندما انطلق الرصاص، أصابته شظايا الزجاج المكسور، ولم يشعر بالإصابة إلا حينما رأى الدم يغطي يده كلها، وحاول الانسحاب بهدوء، ولكن الدم السائل لفت نظر الجميع فهرع الجميع إليه ونقلوه إلى مستشفى المواساة ».
وقال مندوب المجلة نقلاً عن أحمد بدر الدين (المصاب الثاني): « أصابته رصاصتان، واحدة في أصبعه والثانية في جنبه ».
وتحت عنوان « الابن يستنكر جريمة الأب » كتب محرر المجلة:
اسمه عبد اللطيف محمود عبد اللطيف «٩ سنوات»، هو الابن الأكبر للجاني، قال لمندوب « المصور »:
« أنا كنت باسمع الراديو بالليل، وكان جمال عبد الناصر بيخطب، وبعدين سمعت ضرب الرصاص، فعيطت لأني افتكرت إنه جراله حاجة، وبعدين سمعته بيقول: أنا جمال عبد الناصر، فبطلت عياط، وصفقت من الفرح لما عرفت أن الرصاص مجاش فيه ».
وسكت الطفل ولمعت عيناه وكأنه اهتدى إلى شيء مثير وقال للمندوب:
« اسمع أن عايز أروح لجمال عبد الناصر أبوسه وأقول له مبروك عشان
الرصاص ما جاش فيه ».
ـ فقال المندوب: « إنه مشغول وقد لا يستطيع أن يراك ».
ـ فقال الطفل: « طيب استني لما أكتب لك جواب تديهوله ».
.. وكتب الطفل هذا الخطاب:
« أنا عبد اللطيف محمود عبد اللطيف محمد زعلان من بابا عشان هو ضرب جمال عبد الناصر بالرصاص، وإنه مبسوط خالص عشان ربنا سلم ومفيش حاجة حصلت لجمال عبد الناصر.
توقيع: عبد اللطيف محمود عبد اللطيف ـ بتاريخ: 27 ـ 10 ـ 1954»*(4)
والتقت المجلة والد المتهم والسيدة والدته هدية محمد يوسف، والسيدة حماته نعيمة خليل والسيدة زوجته ونقلت عنهم أحزانهم وإدانتهم للحادث.
***
.. وأصبح عبد الناصر بطلاً شعبيًا، واصطفت الجماهير على محطات السكة الحديد في طريق عودته من الإسكندرية لتحيته والهتاف له، ولم يعد لمعاهدة الجلاء ذكر، وأصبح محور حديث المنتديات شجاعة عبد الناصر والإطراء على أفعاله، والإشادة بإنجازاته، وانسحب الحديث عن عوار بعض بنودها إلى هامش النسيان!!
ما لم تذكره الصحف:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكن ما لم تذكره الصحف أن شعورا بالاستياء عمَّ جماهير الإسكندرية قبل إلقاء عبد الناصر خطابه، امتزجت فيه مشاعر الغضب والسخط ضد اتفاقية الجلاء مع بريطانيا، التي عارضتها كل القوى السياسية في مصر لثلاثة أسباب:
1 ـ السماح للقوات البريطانية بالعودة للقناة في حالة الهجوم على تركيا، عضو حلف الأطلنطي، وهو الأمر الذي يجعل مصر ترتبط عمليًا بالأحلاف، ويعطي الحق لانجلترا للعودة إلى القناة.
2 ـ الموافقة على بقاء الفنيين البريطانيين في القاعدة (1200 فني) دون خضوع لسلطة الحكومة المصرية، ويتم انسحابهم بعد 7 سنوات من القاعدة، وتصبح المخازن وكل ما بالقاعدة ملكًا لمصر، وهو الأمر الذي رآه البعض إضعافا للسيادة المصرية على أراضيها، واحتلالا جديدا في صورة مختلفة.
3 ـ أن الاتفاقية لم تعرض على الشعب في استفتاء عام.
وقد انسحب هذا السخط على عبد الناصر الذي وقعها، وضد نظام الحكم الاستبدادي الذي شرع في إرساء قواعده.
وزاد المناخ العام سوءًا بعد انتشار أخبار عن لقاءات تمت بين عبد الناصر وبن جوريون وبصحبته إيجال ألون على إحدى القطع البحرية في عرض البحر الأحمر قرب مضيق العقبة، وأنه يرتب لبيع قضية فلسطين كما باع مصر.
وعندما أقيم سرادق الاحتفال في ميدان المنشية، احتلته جماهير الإسكندرية، وأخذت هتافاتها تتعالى بالحرية وسقوط الظلم، كانت تقارير البوليس الحربي تدل على الشعور المعادي الذي يسود الإسكندرية.. وتختلف الأقوال في جو سرادق الاحتفال، فبينما يقول إبراهيم الطحاوي سكرتير عام مساعد هيئة التحرير إن رجال الجيش الوطني ـ تحت قيادة اللواء عبد الفتاح فؤاد ـ الذين حضروا إلى السرادق كانوا يهتفون هتافات خاصة بهم لا يذكرون فيها اسم جمال عبد الناصر.. ويقول حسين عرفة رئيس المباحث الجنائية العسكرية إن جماهير الإسكندرية التي احتلت السرادق تعالى هتافها ضد الظلم ومن أجل الحرية.
ويضيف إبراهيم الطحاوي أن رجال الحرس الوطني قد افتعلوا ضجيجًا متعمدًا في السرادق عندما حضر الوفد السوداني معتقدين أنه موكب عبد الناصر، مما اضطر حسين عرفة إلى إخلاء السرادق من هذه الجماهير في الخامسة مساء، وإعادة ملئه من جديد بجماهير مأجورة تتكون من 10 آلاف من عمال مديرية التحرير الموالية.
وكانت هذه الجماهير هي التي دخل محمود عبد اللطيف من بينها ليجلس في الصفوف الأمامية (خلسة أو بترتيب من المنظمين) على بعد عشرين مترا من منصة الخطباء والضيوف، وأطلق منها الرصاص على جمال عبد الناصر.
العلاقة بين عبد اللطيف
والبكـباشي «عـــبده »:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يكن ارتباط اسم محمود عبد اللطيف باسم جمال عبد الناصر وليد لحظة الإعلان عن حادثة إطلاق الرصاص في المنشية، فالعلاقة بين الرجلين تسبق هذا اليوم وهذه الحادثة بسنوات، فعندما جند قائد الجناح عبد المنعم عبد الرءوف محمود عبد اللطيف (براد بشركة شندلر للمصاعد الكهربائية) في النظام الخاص عهد بتدريبه على السلاح وإعداد المتفجرات إلى البكباشي عبده، والبكباشي عبده هو اختصار للاسم الحركي للبكباشي عبد القادر زغلول الذي اتخذه جمال عبد الناصر لنفسه وعرف به تنظيميًا.
في ديسمبر سنة 1951 طلب جمال عبد الناصر (البكباشي عبد القادر زغلول) من النظام الخاص أن يقدم له شابا ً من الإخوان فدائيا ً ميت القلب ليقوم بعملية خطيرة في بور سعيد.. فتم تقديم محمود عبد اللطيف.
ـ سافر محمود عبد اللطيف إلى بور سعيد.. وهناك تم أعطاؤه مبلغ عشرة جنيهات، وتكليفه بالبحث عن عمل في أحد معسكرات الجيش الانجليزي، لأن المهمة المكلف بها هي تسميم الجنود البريطانيين في معسكر بور سعيد بوضع السم في اللحوم المخزنة بالثلاجات..!!
وبعد 15 يومًا أمضاها محمود عبد اللطيف في بورسعيد لم يوفق خلالها في الالتحاق بالعمل المطلوب، تم إبلاغه بإلغاء المهمة والعودة إلى القاهرة.
.. عاد عبد اللطيف ليجد نفسه وقد أصبح بلا عمل بعد أن فصلته شركة شندلر لتجاوزه مدة الغياب المسموح بها، فافتتح دكانًا في إمبابة، لكن بعد اقتحام منزل المرشد وقطع سلك التليفون ومحاولة إجباره على كتابة استقالته في يوم الجمعة 11 ديسمبر عام 1953، تم تكليفه بافتتاح محل في منيل الروضة في عمارة مواجهه لمنزل حسن الهضيبي وعهد إليه بحراسة المرشد، ومراقبة التحركات المريبة حول مسكنه، والإبلاغ عنها، فالدكان لم يكن سوى مجرد ساتر لتنفيذ عمل من أعمال الجماعة، وبعد فترة طُلب منه إغلاق الدكان والعودة إلى البحث عن دكانه القديم في منطقة سكنه بإمبابة، وهو الدكان الذي داهمته الشرطة ليلة الحادث!!
«موريس» والأسطى
ملكــــون ملكــــونيان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يكن عبد الناصر «نبتة إخوانية » خالصة؛ فقد كان أيضا عضوا في حدتو، واتخذ لنفسه اسمًا حركيا (موريس)، وكانت حدتو تطبع منشورات الضباط الأحرار وترسلها إليه مع شاب أرمني عضو في حدتو اسمه ملكون ملكونيان ويعمل فني إصلاح راديوهات في شارع المنيل.
وكان قسم الجيش في حدتو يضم بعض الضباط الذين اشتركوا في حركة الجيش مثل البكباشي يوسف صديق واليوزباشي خالد محيي الدين واليوزباشي أحمد حمروش واليوزباشي مهندس أحمد جمال علام والملازم أول آمال المرصفي.
.. وقبل انقلاب 23 يوليو أخطر عبد الناصر حدتو بموعده عن طريق أحمد حمروش لكنهم لم يفعلوا شيئًا، ولم يعلموا بنجاح الحركة إلا من الراديو بعد إذاعة البيان الأول في الساعة السابعة والنصف من صباح 23 يوليو!!
بعد انقلاب 23 يوليو 1952 شاهد ملكون ملكونيان صور موريس تملأ الصحف، وأيقن أنه أسهم تاريخيًا في إنجاح الانقلاب، لكن زهوه لم يدم طويلاً، فما لبث أن قبض عليه مع زملائه المسئولين عن طبع المنشورات، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات قضاها كاملة.
.. وقد قال لي الأستاذ مصطفى طيبة نائب رئيس تحرير الأخبار وعضو حدتو: « كان موريس يحضر معنا الاجتماعات وكان صامتًا لا يتحدث أبدا، ولكني لاحظت أنه يسترق النظرات إلى الآخرين، ولم أعرف أن اسمه الحقيقي هو عبد الناصر، وأنه مسلم إلا بعد نشر صوره في الصحف بعد انقلاب يوليو، بعدها سجننا جميعًا في المحاريق بتهمة مناهضة الثورة في الأول من يناير عام 1959 حتى أفرج عنا في 4 إبريل 1964عام بمناسبة زيارة خرشوف لمصر».
إشكالية الصراع على السلطة
بين عبد الناصــر والإخــوان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد قيام الملك فاروق بحل مجلس إدارة نادي الضباط في 17 يوليو 1952 التقى عبد الناصر بجماعة الإخوان المسلمين في اليوم التالي في منزل عبد القادر حلمي في الحادية عشرة مساء، وحضر اللقاء كمال الدين حسين وعبد الحكيم عامر ومن الإخوان حسن العشماوي وصالح أبو رقيق.
وفي هذا الاجتماع قال عبد الناصر: إن أسماء قيادات الضباط الأحرار أصبحت معروفة للبوليس السياسي، ونظرا لذلك فإنه قرر الإسراع بالتحرك خلال عشرة أيام، وإن الأمر يقتضي أن يتعاون الإخوان معه. وطلب منهم رأي المرشد العام المستشار حسن الهضيبي، وكان بالإسكندرية.. فقالوا له سيكون الرد جاهزا خلال 48 ساعة أي في يوم 20 يوليو.
وفي الموعد المحدد التقى ناصر بصلاح شادي ولم يكن وفد الإخوان الذي ذهب للإسكندرية لمعرفة رأي المرشد العام قد عاد بعد فتأجل اللقاء إلى اليوم التالي «21 يوليو». . وعرف عبد الناصر أن شروط المرشد تتلخص في:
1 ـ تطبيق الشريعة الإسلامية
2 ـ المشاركة الكاملة بين الإخوان والضباط الأحرار في الانقلاب والمسئولية إزاءه والتعاون في تنفيذه بعد نجاحه.
وفور سماع عبد الناصر شروط المرشد انتحى بصلاح شادي جانبا وأشهدا الله على عهدهما القديم بقراءة الفاتحة، وأن الحكم سيكون بكتاب الله إذا نجحت الحركة في الاستيلاء على السلطة في الدولة.
وبناء على هذا التفاهم واطمئنان كل فريق للآخر قام جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين بإبلاغ كل من حسن العشماوي وصالح أبو رقيق «عضوي مكتب الإرشاد» بموعد تحرك الضباط الأحرار.
ومع الساعات الأولى من صباح 23 يوليو انتشرت كتائب الإخوان على طول طريقي السويس - القاهرة والإسماعيلية ـ القاهرة وفي منطقة قناة السويس لمراقبة تحركات القوات البريطانية والتصدي لها، إذا ما تحركت ضد الثورة، وقام الإخوان بحراسة المنشآت العامة والسفارات وأماكن العبادة.
وتم استدعاء حسن العشماوي إلى مقر قيادة الحركة في كوبري القبة وطلب منه أن يتصل بالمرشد العام في الإسكندرية لإصدار بيان بتأييد الثورة لكن المرشد لم يفعل شيئا وظل بالإسكندرية، ولم يحضر للقاهرة إلا بعد مغادرة الملك البلاد.
وفي يوم 27/7/1952 أصدر الهضيبي البيان التالي، ونشر بمجلة الدعوة الأسبوعية عدد 76- بتاريخ 29/7/1952 وجاء فيه:
« بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وبعد.. في الوقت الذي تستقبل البلاد فيه مرحلة حاسمة من تاريخها بفضل هذه الحركة المباركة التي قام بها جيش مصر العظيم، أهيب بالإخوان المسلمين في أنحاء الوادي أن يستشعروا ما يلقى عليهم الوطن من تبعات في إقرار الأمن وإشاعة الطمأنينة، وأخذ السبيل على الناكثين ودعاة الفتنة، ووقاية هذه النهضة الصادقة من أن تمس روعتها وجلالها بأقل أذى أو تشويه، وذلك بأن يستهدفوا على الدوام مثلهم العليا، وأن يكونوا على تمام الأهبة لمواجهة كل احتمال.
والإخوان المسلمون بطبيعة دعوتهم خير سند لهذه الحركة يظاهرونها، ويشدون أزرها حتى تبلغ مداها من الإصلاح، وتحقق للبلاد ما تصبو إليه من عزة وإسعاد.
وإن حالة الأمن لتتطلب منكم بوجه خاص أعينًا ساهرة ويقظة دائمة؛ فلقد أعدتكم دعوتكم الكريمة رجالاً يُعرفون عند الشدة، ويلبون عند أول دعوة،
فكونوا عند العهد بكم، والله معكم.
وستجتمع الهيئة التأسيسية في نهاية هذا الأسبوع بإذن الله لتقرر رأي الإخوان فيما يجب أن تقترن به هذه النهضة المباركة من خطوات الإصلاح الشامل ليدرك بها الوطن آماله، ويستكمل بها مجده.. ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 40)، والله أكبر ولله الحمد».
المرشد العام
المستشار حسن الهضيبي
وفي يوم 30 يوليو الساعة السابعة صباحا تم اللقاء بين المرشد وعبد الناصر لأول مرة في منزل صالح أبو رقيق لقربه من مقر القيادة العامة للجيش، وقد دار الحديث بينهما من منطلق ما اتفق عليه عبد الناصر مع الإخوان قبل قيام الحركة، غير أن عبد الناصر بدأ يتنصل شيئا فشيئًا من بعض الالتزامات التي تقتضيها المشاركة المتفق عليها بصفتهم شركاء في المسئولية، وقال عبارته:
«أنا لم أتعهد لأحد بشيء»، وهنا وجه المرشد حديثه لحسن العشماوي متسائلا بتعجب:
« ألم تتفقوا على المشاركة يا حسن؟!! » فأجاب: نعم اتفقنا. وهنا ظهر على المرشد عدم الارتياح أو الاطمئنان، لدرجة أنه لم يشارك في الحديث حتى نهاية الجلسة التي دامت حوالي الساعتين،. بعد أن انصرف عبد الناصر قال الهضيبي للحاضرين: «هذا الرجل لا خير فيه. »، وبدأت حالة من الود المفقود بين الرجلين فالهضيبي لا يأمن جانب عبد الناصر وعبد الناصر يشكو لزملائه الضباط من أن الهضيبي يتعالى عليه ويعامله باحتقار.. وازدراء.. وأنه يذهب إلى اجتماعاته مضطرًا وأنه لا يطيقه.
.. ومنذ ذلك اليوم بدأ الخلاف بين الضباط أعضاء مجلس قيادة الانقلاب الذين كانوا يطالبون بإقامة الجمهورية، وبين الإخوان المسلمون الذين طالبوا بإلغاء الملكية وإعلان الخلافة الإسلامية فورًا، ارتأى البعض من الفقهاء الدستوريين أن الدستور مازال قائمًا رغم استبدال ملك بملك، ورغم عنصر القهر الذي لازم ذلك التغيير لشخص الجالس على العرش.
.. ولكن تحت تأثير الخوف من الضباط أصدر قسم الرأى بمجلس الدولة برئاسة السنهوري فتوى تنص على أنه:
« في حالة نزول الملك عن العرش وانتقال وصاية الملك إلى خلف قاصر يجوز لمجلس الوزراء، إذا كان مجلس النواب منحلاً، وأن يؤلف هيئة للعرش من ثلاثة تتولى بعد حلف اليمين أمام مجلس الوزراء سلطة الملك إلى أن تتولى هيئة الوصاية الدائمة »، واستمسك علي ماهر بتلك الفتوى، ولم يعترض عليها سوى الدكتور وحيد رأفت الذي أصر على دعوة البرلمان المنحل للانعقاد وقبل مضي المدة الدستورية (عشرة أيام من تنازل الملك)، وبدأت مصر مرحلة تكييف القوانين (ترزية القوانين) لتتلاءم مع رغبات الحكام الجدد تحت تأثير الخوف منهم التي انتهت إلى هاوية اللا قانون.
وقد أصدر سليمان حافظ نائب رئيس مجلس الدولة العديد من الفتاوى بخروقات قانونية بعد الاعتداء على السنهوري واعتكافه في منزله.
.. ومع ذلك فكرت حركة الجيش في تعيين وزيرين في وزارة محمد نجيب، ورشح الهضيبى الشيخ أحمد حسن الباقورى، وأحمد حسني وكيل وزارة العدل، ومحمد كمال الدين محافظ الإسكندرية، وبعد أن تم الاتصال بالأول والثاني، أبلغ جمال عبد الناصر سليمان حافظ الذي أسهم بقدر كبير في تشكيل الوزارة أن حسن العشماوي ومنير الدلة قد حضرا موفدين من المرشد العام ليبلغاه اختيار الإخوان قد وقع عليهما ليمثلاهم في الوزارة، وأن الترشيح الأول كان شخصيًا من الهضيبى وليس من مكتب الإرشاد.
كان الاعتذار للباقورى وأحمد حسنى بعد تبلغيهما صعبًا، كما أن رأي سليمان حافظ في عشماوى والدلة كان أنهما شباب أكثر مما ينبغي، وكان رد فعل الجماعة فصل الباقورى من مكتب الإرشاد!!
ومع ذلك استمرت العلاقة طيبة بين الحركة وجماعة الإخوان وخاصة بعد الإفراج بعفو خاص في 11 أكتوبر 1952 عن قتلة الخازندار ومحمود فهمي النقراشي، ثم صدر قرار بعد ذلك بمرسوم بالعفو الشامل عن الجرائم السياسية التي وقعت في المدة من توقيع معاهدة 26 أغسطس 1936 إلى 23 يوليو 1952، وقد بلغ عددهم 934 واستثني من العفو المحكوم عليهم في قضايا شيوعية باعتبار الشيوعية جريمة اقتصادية واجتماعية وفقًا لـ «التخريجة » القانونية التي أعدها سليمان حافظ!!
واستمرت العلاقة الطيبة بين الحركة والجماعة أثناء الصدام مع الأحزاب، فقد كانت الجماعة دائما ضد الأحزاب والحزبية، لأن ذلك في نهايته يعني خلو الساحة لهم وحدهم.
.. لكن بعض تصرفات الحركة لم تجد قبولاً لدى الإخوان، كما أن بعض تصرفات الإخوان لم تجد ترحيبًا من جانب مجلس قيادة الحركة، كانت حربًا غير معلنة، لا الإخوان المسلمون يصارحون بالعداء جهارأ ولا مجلس قيادة الحركة يهاجم الإخوان، حتى أصدر مجلس قيادة الحركة بيانا في 14 يناير 1954 بحل جماعة الإخوان المسلمين وبه الاتهامات الآتية:
1 ـ التقاعس في تأييد المرشد العام للحركة إلا بعد خروج الملك.
2 ـ عدم تأييد قانون الإصلاح الزراعي والمطالبة برفع الحد الأقصى للملكية إلى 500 فدان.
3 ـ محاولة فرض الوصاية على الحركة بعد حل الأحزاب.
4 ـ اتخاذ موقف المعارضة من هيئة التحرير.
5 ـ بدء التسرب إلى ضباط الجيش والبوليس وتشكيل وحدات تحت إشراف المرشد.
6 ـ تشكيل جهاز سري بعد حل الجهاز السري الذي كان يشرف عليه عبد الرحمن السندي.
7 ـ حدوث اتصال عن طريق الدكتور محمد سالم الموظف في شركة النقل والهندسة بين مستر ايفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية في مايو 1953 مع منير الدلة وصالح أبو رقيق ثم مع حسن الهضيبي بعد ذلك.
8 ـ زيارة حسن العشماوي يوم الأحد 10 يناير لمستر كريزويل الوزير البريطاني المفوض.
وتزامن صدور البيان مع اعتقال حسن الهضيبي و450 عضوا بالجماعة في القاهرة والأقاليم.
وبعد أحداث مارس 1954، اكتشف الطرفان أن الصدام بينهما جاء في وقت مبكر وغير مناسب للطرفين لأن خطرًا مشتركا كان يهددهما؛ فتم الإفراج عن الهضيبي في 25 مارس 1954، وذهب جمال عبد الناصر لزيارته في منزله وفي صباح اليوم التالي نشرت الصحف:
أنه تقرر الإفراج عن جميع الإخوان، وأن الإخوان استأنفوا نشاطهم وعقدوا اجتماعا مع المرشد العام لجماعتهم الذي أعلن:
« أننا الآن أقوى مما كنا!! »
.. وظل الصراع بين الجانبين مكتوما، فالضباط يتهمون الإخوان عبر الصحف الموالية لهم بالاتصال بجهات أجنبية من وراء ظهرهم وإنشاء جهاز سري مسلح، والإخوان ينشرون بين الناس عبر جهاز شائعاتهم أن عبد الناصر خائن مرتد وناقض للبيعة والعهد ويحكم بنظام لا إسلامي.
.. وأصبحت كل الدلائل تشير إلى حتمية الصدام بين الحركة والجماعة والذي بلغ مداه في حادث المنشية.
تحييد النظام الخاص:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
منذ عام 1949 أحكم عبد الناصر قبضته على النظام الخاص للإخوان داخل الجيش، وبعد وفاة الصاغ محمود لبيب أصبح عبد الناصر قائده بعد أن استدعاه الصاغ محمود لبيب (قائد التنظيم) أثناء مرضه إلى منزله بالظاهر وسلمه مذكرة بأسماء الضباط الذين يشملهم التنظيم السري والمبالغ المتبقية من الاشتراكات (قيمة الاشتراك للعضو 50 قرشًا شهريًا) بسبب غياب عبد المنعم عبد الرءوف وأنور السادات عن القاهرة لنقلهما إلى سيناء.
وفي عام 1950 قرر عبد الناصر إعادة التنظيم السري لضباط الجيش والذي بدأه قائد الجناح عبد المنعم عبد الرءوف والصاغ محمود لبيب عام 1944 وتوقف عام 1948 بسبب حرب فلسطين، وضم إليه عناصر أخرى من غير تنظيم الضباط الإخوان، وخاصة الضباط الذين حوصروا في الفالوجا مستغلاً حالة المرارة التي خلفتها الهزيمة والحصار في نفوسهم وغيرهم من الضباط ممن يلمس فيهم الشجاعة والكتمان.
.. وهو ما يعني أن تنظيم الضباط الأحرار تكوّن في غالبه في رحم النظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين.*( 5 )، وكان أغلبهم أيضا أعضاء في الحرس الحديدي؛ حتى أن عبد المنعم عبد الرءوف منشئ جناح الإخوان داخل الجيش كان شخصية محيرة وشديدة الغموض، فقد كان وثيق الصلة بالإخوان، وثيق الصلة بعبد الناصر ووثيق الصلة بعزيز المصري (عضو المحفل الماسوني)، وهو همزة الوصل مع القصر الملكي وتحديدًا يوسف رشاد.
.. واستطاع عبد الناصر أن يجتذب إليه عبد الرحمن السندي رئيس الجهاز السرى، والذي كان على خلاف مع حسن الهضيبي والشيخ سيد سابق منشئ الجهاز السري؛ واستطاع السندي أن يستقطب عددًا من الإخوان من أعضاء مكتب الإرشاد ومن الجهاز السري ومن الشعب لصالح عبد الناصر، وبذلك ضمن تأييد عبد الناصر النظام السري المدني للإخوان وأحكم قبضته عليه بعد أن توطدت أواصر الصداقة والثقة بين السندي وعبد الناصر فهم بلديات، فالسندي أسيوطي من «بني فهد» وعبد الناصر أسيوطي من «بني مر». . ولذلك لم يعتقل عبد الرحمن السندى في عام 1954 ولم يدخل سجون عبد الناصر الذي عينه في وظيفة كبيرة في شركة شل للبترول ومنحه فيلا فخمة مزودة بكل وسائل الراحة في مدينة الإسماعيلية.
... وكذلك كان أعوان السندي كلهم خارج السجون، بل إن عبد الناصر قد قبل وساطته فيمن طلب منه الأمان لهم من أعوانه ورجاله المقربين من أفراد الجماعة وعينهم في وظائف حكومية بمرتبات مجزية.
.. وبعد أن استنفد عبد الناصر أغراضه من السندى، صار السندي « كارت محروق » للجميع حتى توفاه الله في 29 يوليو 1962 عن واحد وأربعين عامًا في شقة بشارع سليمان جوهر بالدقي.
اختراق الجماعة:
ــــــــــــــــــــــــــــ
.. ولم يكن أمام عبد الناصر إلا استكمال اللعبة المعروفة وهي اختراق صفوف الإخوان ومحاولة تعميق التناقضات الموجودة بينهم، وتفجيرهم من الداخل، وقد أسهم في ذلك من جانب الحركة الشيخ الباقوري وصالح عشماوي وعبد الرحمن البنا شقيق حسن البنا بالتعاون مع إبراهيم الطحاوي سكرتير هيئة التحرير، وساعد في هذا تعميق التناقضات الداخلية بين الإخوان التي بلغت حد الانفصال والمواجهة وتمزيق الجماعة من الداخل، وانقسم الإخوان إلى مجموعتين تتنازعان الانتماء للجماعة وتعلن أنها الإخوان المسلمون: مجموعة الهضيبي قيادة الجماعة، ومجموعة صالح العشماوي المطرودة من الجماعة، وانقسمت مجموعة الهضيبي داخليًا إلى مجموعتين: مجموعة متطرفة بقيادة الهضيبى نفسه، ويساندها الجهاز السري، ومجموعة محمد خميس حميدة التي لا تحظى بتأييد الجهاز السري، وكان عبد الناصر يستغل بذكاء الانقسام فيضرب مجموعة صالح العشماوي المؤيدة له بالمجموعتين الأخريين ويجمع أطراف الموقف لصالحه.
وقد بلغ التناحر ذروته عندما قرر الهضيبى تصفية الجهاز السري الذي كان موجودا في عهد حسن البنا برئاسة عبد الرحمن السندي الموالي لعبد الناصر، وإنشاء جهاز سري جديد موالٍ له بقيادة يوسف طلعت، فكانت تنحية عبد الرحمن السندي هزيمة للفريق المتعاون مع عبد الناصر وانتصارا لفريق الهضيبي الموالي لفكرة الوصاية على انقلاب 23 يوليو، ولكن بعد فترة تبين أن الهضيبي يقوم بتكوين جهاز جديد آخر من أنصاره بعد أن استطاع أن يضم إليه المهندس سيد فايز وهو الرجل الثاني في التنظيم، لكن تم اغتيال المهندس السيد فايز في يوم 19 نوفمبر 1953 أي في اليوم الذي كان مقررًا أن يتسلم تفاصيل وبيانات الجهاز بواسطة صندوق من حلوى المولد مملوء ديناميت وصل إلى منزله على أنه هدية بمناسبة المولد النبوي وقتل معه شقيقه الصغير 9 سنوات وطفلة صغيرة تصادف مرورها أسفل شرفة المنزل التي سقطت نتيجة الانفجار.
وقد اتهم في قتله أفراد النظام الخاص، وحصر الاتهام في أحمد عادل كمال أحد أفراد النظام الخاص القديم وقتئذ، وهو ما كان ينذر باقتتال بين أفراد الجماعة، ولكن محمد حامد أبو النصر المرشد الرابع للإخوان كتب في مذكراته أن الذي قتل سيد فايز هو أنور السادات.
وتصاعدت وتيرة الأحداث باحتلال المركز العام واقتحام بيت المرشد بمعرفة بعض أعضاء الجماعة الموالين للسندي وبتدبير من عبد الناصر ومحاولة إجباره على الاستقالة!!
.. ولم يكن عبد الناصر بعيدًا عن هذه الأفعال التي تهدف إلى إثارة الفرقة وزرع الفتن بين أفراد الجماعة وإنهاك مرشدها قبل أن يوجه لها ضربته القاصمة.
وهو ما يجعل البعض يعتقد أن محاولة اغتيال عبد الناصر تم رصدها من البداية، وأن عبد الناصر قد رتب لهذا الأمر ترتيبًا جيدا بما لديه من قدرة على اختراق صفوف الإخوان، وأن هذا الترتيب يتفق مع عقلية جمال عبد الناصر الذي كان على علم بنوايا الإخوان وخططهم، فبادر بتنفيذها لكن بترتيبه وتحت سيطرته!!
اعترافات المتهم:
ـــــــــــــــــــــــــــ
اعترف المتهم أنه تلقى الأمر بارتكاب الجريمة من هنداوي دوير لأن اتفاقية الجلاء جريمة وطنية وأنها تعطي الإنجليز الحق في احتلال البلاد، وأنه تسلم المسدس من هنداوي، كما تسلم عشر طلقات وخمسة جنيهات من علي نويتو الذي قال له: «على بركة الله»، واعترف عبد اللطيف بأنه غادر منزله في إمبابة صباح السادس والعشرين من أكتوبر، ومر على زميله سعد حجاج المكلف الثاني بمحاولة اغتيال عبد الناصر ليصطحبه في رحلته، لكن سعد أبدى أسفه لعدم تمكنه من تجهيز سلاح، فودعه وسافر بمفرده..
.. وفي صباح اليوم التالي سلم هنداوي دوير نفسه للشرطة، وأدلى باعترافات وخطط تفصيلية تفيد أن إبراهيم الطيب المسئول عن التنظيم السري في القاهرة هو مَن أعطاه الأوامر وسلَّمه المسدس، وأكد له أن الأوامر صادرة من المرشد حسن الهضيبي ويوسف طلعت قائد النظام الخاص، واعترف باتصال الرئيس محمد نجيب بمؤامرة الإخوان على حياة جمال عبد الناصر.
تناقضات كثيرة:
ــــــــــــــــــــــــ
تناقضات كثيرة تدور حول القضية من حيثُ انعدام رد الفعل التلقائي لعبد الناصر حال إطلاق الرصاص عليه بعكس ما شاهدناه في حادث المنصة في أكتوبر 1981، وكذلك القدرة على الارتجال للخطاب.
ولم يقتصر التناقض على هذين الأمرين فقط، بل امتد إلى عدد الطلقات والسلاح المستخدم فيها وهيئة المتهم عند ارتكابها ومسافة إطلاق الرصاص.
عدد الطلقات:
ـــــــــــــــــــــ
ذكرت الصحف أن عدد الرصاصات التي أطلقت على عبد الناصر 8 رصاصات، وورد نفس العدد في أغنية أم كلثوم، لكن صلاح سالم قال في نفس ليلة الحادث في احتفال المحامين إن عدد الرصاصات عشر، وقال اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية إنها تسع من نوع «الفشنك »*( 6 )، وذكر حسن التهامي أنها ست رصاصات، وقال محمد حسنين هيكل أيضا إنها ست رصاصات*( 7 ) ، وذكرت وثائق متحف الشرطة أنها ست رصاصات!!
كما ذكرت الصحف أنه: « بتفتيش الجاني عثر في جيبه على 7 رصاصات».
.. أيا كان عدد الرصاصات التي سبق ذكرها وقيل إنها أطلقت في الحادث؛ فإن إضافتها إلى السبع رصاصات التي قيل إنها ضبطت مع الجاني، فإننا نجد أنفسنا أمام تناقض جديد لا يتفق مع ما جاء باعتراف المتهم بأنه تسلم عشر طلقات من علي نويتو!!
السلاح المستخدم:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذكرت الصحف الصادرة غداة الحادث أنه عثر في المكان الذي كان يقف فيه الجاني على أربعة أظرف فارغة من عيار 36 ملليمترا، وهي تختلف عن طلقات المسدس الذي ضبط مع المتهم، إذ إن المسدس الذي عثر عليه مع المتهم من نوع «المشط»، الذي لا يلفظ الأظرف الفارغة، وكان هذا الاختلاف بين نوع الذخيرة ونوع المسدس المضبوط كافيا لنسف القضية من أساسها!!
.. وفي 2 نوفمبر، نشرت جريدة الأهرام خبرًا يفيد أن عاملا عثر على المسدس الذي أطلق منه الجاني الرصاص على الرئيس، وذكرت الصحيفة قصة عن شاب يدعى خديوي آدم (من الأقصر ـ 23 سنة ـ ويعمل فاعلاً في صناعة البناء)، الذي عثر مصادفة على المسدس الذي أطلق منه الجاني رصاصاته الثماني الطائشة، فقد تعثرت به قدمه أثناء تدافع الجماهير، فالتقطه ووضعه في جيبه، وكان المسدس ساخنًا «لسع يديه»، والمسدس من النوع الذي إذا أطلقت جميع مقذوفاته ينفتح؛ فأدرك آدم أنه المسدس الذي استخدم في الحادث، وأنه حضر من الإسكندرية سيرًا على قدميه لمدة ستة أيام!!
.. وقد نشرت الصحيفة صورة لاستقبال عبد الناصر للمدعو خديوى آدم تنطوي بياناتها على تكذيب الخبر المنشور جملة وتفصيلاً، فقد كان من المفترض أن يبدو خديوي آدم في صورة الأشعث الأغبر رث الثياب، وعليه مظاهر الإجهاد وعناء السفر خاصة أنه كما ذكرت قطع رحلة سير على قدميه لمدة ستة أيام كان ينام فيها على قارعة الطريق، وأنه باع قفطانه ليأكل بثمنه، لكن الصورة التي نشرت في الصحف أظهرته كامل الصحة موفور العافية مشرق الوجه تبدو عليه علامات الراحة كأنه خارج لتوه من الحمام، نظيف الثياب أنيق الهندام مع أنه قابل عبد الناصر حسبما ذكرت الصحف يوم وصوله!!
.. كان السلاح الذي قيل إنه ضبط مع المتهم محمود عبد اللطيف لحظة القبض عليه من نوع (بريتا)، وقيل إن السلاح المستخدم الذي عثر عليه خديوي آدم من نوع (برابيلو)، وذكرت وثائق متحف الشرطة أن السلاح المستخدم في الجريمة من نوع (ولتر) عيار ٩ مم طويل ويحمل رقم ٥٨٩١.
.. وهو الأمر الذي يضعنا أمام تناقض ثانٍ، فأي الأسلحة الثلاثة استخدم في ارتكاب الحادث؟!!. وخاصة أنه كانت هناك نقطة هامة وخطيرة ظهرت أثناء مناقشة المتهم إبراهيم الطيب، والتي ظهرت في عدم تعرفه على الطبنجة التي عرضتها محكمة الشعب عليه، وأنكر أنها الطبنجة التي سلمها لهنداوي دوير.
...........
............
شاهد: إبراهيم الطيب
الرئيس للشاهد: هي دي الطبنجة؟!
الشاهد: أنا لم أسلمه هذه الطبنجة إطلاقًا!!
الرئيس: تشتريها بكام؟!
الشاهد: أنا متأكد يا أفندم من كلامي .»
هيئة المتهم:
ـــــــــــــــــــ
.. وعن حالة المتهم حال القبض عليه، ذكرت صحيفة الأهرام: «. . وقد عثر في المكان الذي كان يقف فيه الجاني على أربعة أظرف فارغة»، . ثم تابعت الصحيفة: وقد احتل المتهم مقعده من الساعات الأولى للاحتفال، وهو لا يبعد عن المنصة الرئيسية بأكثر من خمسة عشر مترًا ».
.. فهل كان المتهم واقفًا أم جالسًا أثناء الحفل؟!. وهل كان المتهم واقفًا أم جالسًا أثناء إطلاق الرصاص؟!
.. وعن هيئة المتهم ذكرت صحيفة الأهرام أن المتهم: « كان مرتديًا بذلة قاتمة »، وهو ما جاء مخالفًا لما ذكره هيكل في وصفه لهيئة المتهم في حواره مع المتهم بجريدة «أخبار اليوم » بعنوان (الجاني يتكلم):
«. . وكان لا يزال يرتدي نفس الملابس التي ارتكب بها جريمته! قميص أزرق مخطط بخطوط بيضاء، وقد شمر أكمام القميص.. وبنطلون ازرق اللون».
فهل كان المتهم واقفًا أثناء الحفل أم جالسًا؟ وهل كان يرتدي بذلة أم قميصا وبنطلونا؟!
وهو ما يضعنا أمام تناقض ثالث!!
مسافة إطلاق الرصاص:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أجمعت الصحف الصادرة غداة الحادث أن: « الجاني قد احتل مقعده منذ الساعات الأولى لهذا الاحتفال، وهو لا يبعد عن المنصة الرئيسية بأكثر من خمسة عشر مترًا »، وقد أكدت بعض الشهادات التي استمعت إليها هذا الكلام، وأضافت هذه الشهادات أن إطلاق الرصاص جاء من أمام مكتبة دار المعارف، وأنهم شاهدوا بأعينهم آثار الطلقات واضحة على واجهة المبنى.
.. ولكن في المقابل، وعلى الجانب الآخر نفت بعض الشهادات التي استمعت إليها أيضا هذا الافتراض، وأكدت هذه الشهادات أن إطلاق النار جاء من أمام كاتدرائية القديس مرقص، ودلل أصحاب هذه الشهادات على صحتها بأنه نظرًا للارتفاع الشاهق للمباني القديمة كان المشاهد لا يستطيع أن يرى عبد الناصر بوضوح إلا من بعد يزيد على 300 متر، وتلك المسافة تخرج عن المرمى المؤثر والفعال لإطلاق المسدس.
وهو ما يضعنا أمام تناقض رابع!!
صعوبة التصويب:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإذا ما أضفنا إلى التناقضات الأربعة السابقة صعوبة « التصويب بالمسدس» وسط الزحام، نجد أننا أمام حالة شديدة الالتباس؛ فمن بديهيات فن الرماية أن رامي المسدس لا بد وأن يقف في وضع تكون ذراعه الممسكة بالمسدس ممتدة تمامًا أمامه، ويكون رسغ ذراعه الأخرى ممسكًا بمعصم يده الحاملة للمسدس مع ثني الظهر للخلف للمحافظة على وزن ثقل الجسم وفي نفس الوقت لامتصاص رد فعل المسدس أثناء خروج الرصاص لضمان ثبات المسدس أثناء إطلاق النار، وهو وضع لا يتاح ولا يتأتى للرامي ولا يسمح له باتخاذ وضع « التنشين » بالدقة والسرعة المطلوبة في الزحام ووجود الجماهير الغفيرة من حوله والتواجد المكثف لقوات الأمن!!
شهادات لا يمكن إهمالها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما بين أيدينا من شهادات الإثبات وشهادات النفي.. يتحمل أصحابها المسئولية عنها أمام الله وأمام التاريخ؛ فنحن لا نملك حق إهدارها أو الالتفات عنها، وأيضا لا نستطيع أن نسلم بما جاء فيها لكونها غير صادرة عن شهود عيان، وتعتمد على السماع أو النقل عن آخرين من ذوي الغرض والمصلحة:
أولاً: شهادات الإثبات
شهادة عبد المنعم عبد الرءوف: يقول عبد المنعم عبد الرءوف في شهادته في كتابه « أرغمت فاروق على التنازل عن العرش » إنه هرب من السجن بعد أن أذن له المرشد حسن الهضيبي بذلك، وكانت إشارة موافقة المرشد إرسال فوطة حمراء اللون في شنطة الطعام، وأن المحامي عبد القادر عودة كان يعلم بأمر هروبه قبل حدوثه*( 9 )،. ومع ذلك حضر إلى المحكمة في موعد الجلسة ليقرر أمام هيئتها أن:«سواء كان المتهم غائبًا أم هاربًا، فأنتم مسئولون عنه، وعلى الحكومة مسئولية حمايته، ونطالبها بالبحث عنه ومثوله بيننا سالما معافى ».*( 10 )
.. ويروي في مذكراته أو اعترافاته أنه: « بعد هروبه كلفته الجماعة بوضع خطة للقيام بما أسماه «انقلاب إسلامي ». *( 11 )
ويضيف في اعترافاته: «كنت في الفترة السابقة لمحاولة الاغتيال على اتصال مباشر مع ثلاثة من المتهمين في الحادث وهم: إبراهيم الطيب وهنداوي دوير وشخص يدعى عبد اللطيف، ولست متأكدًا هل هو محمود عبد اللطيف الذي قيل إنه اعتدى على جمال عبد الناصر أم لا؟
ويروي في مذكراته أيضا أنه خلال لقاءاته مع هذه المجموعة أن هنداوي دوير كان متحمسًا جدًا لإطلاق النار على جمال عبد الناصر وأقسم له: « إن جميع العسكريين سيتفركشون عند سماعهم أول طلقة» *( 12 )
وينهي عبد الرءوف شهادته:
« إنه نظم معسكرا للتدريب على السلاح في كرداسة في ضيعة محيطة بسور عال من الأشجار، وقد ساعدت الصحراء والتلال القريبة منها على التدريب خاصة على المهارات القتالية، وأن الذي نظمه هو إبراهيم الطيب ومحمد مهدي أحد الذين اتهموا في حادث المنشية ». *( 13 )
شهادة محمد فريد عبد الخالق: يقول محمد فريد عبد الخالق (عضو مكتب الإرشاد) في شهادته: «أنا كنت عند بيت الهضيبي أتكلم معه في أمور الدعوة، وخرجت متجها إلى مسجد صلاح الدين، وهناك التقيت بهنداوي دوير، وكنت على علم إن هناك تحركا وتفكيرا عدوانيا بالنسبة لجمال عبد الناصر وكان يجاهر بالعداوة له، فكلمته من هذا المنطلق وقلت له:
« أنا يا ابني سمعت وعلمت بما تنوون فعله، وهذا كلام يخالف أوامر المرشد ويخالف منهج الإخوان المسلمين، ويخالف مصلحة الدعوة، فليتك تقول لإخوانك الذين يفكرون في مثل هذا التفكير أن يعلموا أن الاعتداء على جمال عبد الناصر خطأ بكل المقاييس».
التقطت الأجهزة الأمنية هذا الخيط واشتغلت عليه لدرجة أنهم وصلوا إلى الخلية واستخدموها واستخدموا هنداوي دوير، ولقد سمعت هنداوي بِأذني داخل القلعة بعد الحكم عليه بالإعدام وهو يتكلم بصوت مرتفع قائلاً: « مش ده اللي اتفقنا عليه »؛. لأنهم اتفقوا معه على أن يقول كل ما يعرفه ويعتبرونه شاهد ملك ويبقى في هذه الحالة أخرج نفسه من طائلة المسئولية الجنائية لكنهم أخلفوا الوعد معه وأعدموه بما قال وحتى لا يعلم أحد سره».
شهادة أحمد طعيمة:
يقول أحمد طعيمة (أمين عام هيئة التحرير) في شهادته: « لقد بلغت الجرأة بالإخوان المسلمين حد الادعاء بأن حادث المنشية إنما كان حادثا مدبرًا من رجال عبد الناصر، إن لم يكن من عبد الناصر نفسه، وهو ادعاء باطل، لأني علمت اسم محمود عبد اللطيف منفذ العملية قبل إطلاقه النار على عبد الناصر، وقد أبلغت عبد الناصر باسمه ضمن عشرة أسماء سيكلف أحدهم بمحاولة الاغتيال، وقد حصلت على هذه الأسماء من أحد أفراد عائلة سعودي الذين كانوا أعضاء في الإخوان المسلمين، فأبلغت الرئيس عبد الناصر بالأسماء العشرة ودوَّنها في مفكرته ». *( 14 )
ثانيًا: شهادات النفي
شهادة اللواء محمد نجيب:
يقول اللواء محمد نجيب (رئيس الجمهورية الأسبق) في شهادته: « مؤامرة
إطلاق النار على عبد الناصر في الإسكندرية وهمية من أولها لآخرها، وكانت مرتبة بواسطة رجل من المباحث العامة *( 15 ) كوفئ على ذلك فيما بعد بمنصب كبير، واستؤجر شاب مصاب بجنون العظمة*( 16 ) وأغرى بأنه لو اعترف بأنه حاول قتل جمال عبد الناصر فسينال مكافأة مالية ضخمة، ويسمح له بالهجرة إلى البرازيل، وقد كانت المكافأة الوحيدة التي تلقاها هي إعدامه بدلاً من تهريبه حتى يموت ويموت السر معه.*( 17 )
.. واتضح بعد ذلك أن الحائط المواجه لإطلاق النار لم يكن به أي أثر للرصاص مما يثبت أن المسدس كان محشوا برصاص « فشنك »*( 18 ).
شهادة علي نويتو:
يقول علي نويتو (من أفراد النظام الخاص) في شهادته: « محمود من أبطال الرماية، وهو هداف يصيب الهدف مليونا في المائة، لكنه لم يطلق رصاصة واحدة في المنشية لأنه تم القبض عليه من منزله في إمبابة!!. وأنا في السجن وبعد محاولات عديدة تمكنت من الاقتراب من الركن الذي تم عزله فيه وسألته عن حقيقة اعترافه على نفسه وإخوانه فقال لي:
« جابوا زوجتي، علقوها أمامي وهي حامل، وضغطوا عليَّ عشان أعترف».
شهادة محمد نجيب راغب:
« يقول محمد نجيب راغب (من أفراد النظام الخاص) في شهادته: « ذات صباح، ونحن نجري في طابور السجن، اقتربنا من الركن الذي تم عزل محمود عبد اللطيف، وعندما شاهد محمود زميله سعد حجاج ناداه قائلاً:
« يا سعد متصدقش حاجة من اللي قالوها، أنا اتخدت من محطة مصر في باب الحديد »!!
شهادة حسن التهامى:
يقول حسن التهامي (مستشار عبد الناصر) في شهادته: «مسرحية أخرجها أحد رجال المخابرات الأمريكية، فقد استأجر عبد الناصر خبيرًا أمريكيًا متخصصًا في شئون الدعاية والإعلام «لتلميع» عبد الناصر إعلاميًا، ووضع هذا الخبير خطة مفصلة من أهم بنودها:
افتعال حادث اغتيال يظهر فيه عبد الناصر رابط الجأش، جريئًا، لا يخاف.. وانطلقت الرصاصات بعدها بقليل.. ولم يتحرك عبد الناصر من مكانه!! ولم تصبه رصاصة واحدة من هذه الرصاصات الست،. وظل عبد الناصر يقول بصوت عالٍ: أنا الذي صنعت فيكم العزة.. أنا الذي صنعت فيكم الكرامة.. ولم يتحرك، ولم يرقد، ولم يتفادَ الرصاص، وأكمل الخطبة، ولم يهتز..*( 19، 20)
شهادة د. محمود جامع:
يقول د. محمود جامع (مستشار الرئيس السادات) في شهادته:« إن محمود عبد اللطيف بات في ليلة الحادث في قرية أم صابر (إحدى قرى مديرية التحرير) عند مجدي حسنين عضو تنظيم الضباط الأحرار وصديق عبد الناصر، ورافقه ثلاثة كانوا يحرسونه وهم المهندس علي وصفي، والمهندس عمر عبد العزيز شقيق حسن عبد العزيز ضابط المخابرات العامة في ذلك الوقت والمهندس توفيق كرارة الذي عين وزيرًا لاستصلاح الأراضي فيما بعد وكانوا مسئولين عن أن يوصلوه الإسكندرية، وقد أعطوه المسدس المحشو فشنك وأعطوه مبلغا من المال لمصروفات المبيت، والعجيب أنهم كانوا يجلسون حوله في السرادق المقام بالمنشية أثناء الحادث وإطلاق النار».
.. وبمناقشة د. محمود جامع في شهادته لم يقدم دليلاً عليها، خاصة وأن شهادة المعلم رزق الله تدحضها تماما (صاحب لوكاندة دار السعادة بميدان محطة مصر التي نزل بها محمود عبد اللطيف ظهر يوم الحادث)!!
شهادة د. عبد العزيز كامل:
يقول د. عبد العزيز كامل (عضو مكتب الإرشاد آنذاك ووزير الأوقاف الأسبق) في شهادته: «سمعت أن هنداوي عندما صدر الأمر عليه بالإعدام، أخذ يصرخ في الزنزانة في سجن 3، وهو يقول: خدعوني.. خدعوني.. وأن عبد القادر عودة أخذ يضرب الزنزانة حتى فتحوا له وهو يصرخ:
« اسمعوا يا إخوان أهو بيعترف إنه مدبرها مع الحكومة.. أنا برئ والإخوان أبرياء ».
.. ووصل الخبر إلى القائد حمزة البسيوني عن طريق الشاويش محمود عبد المجيد، فأمر بنقل هنداوي وعبد القادر فورًا من سجن 3، حتى نفذ فيهما حكم الإعدام. *( 21 )
شهادة عبد المتعال الجبري:
يقول د. عبد المتعال الجبري (كاتب): «هنالك صور لمحمود عبد اللطيف وبجواره الذين اعتقلوه في بيته صباحًا ثم ذهبوا به إلى الإسكندرية في المساء حيثُ أجريت التمثيلية ».
شهادة علي عشماوي:
يقول د. علي عشماوي (آخر قادة النظام الخاص) في شهادته: « إنه تصرف فردي قامت به مجموعة ذهبت بها الحماسة إلى آخر المدى، ولم تعد قادرة على الانتظار أو التحكم مع «الشحن» المستمر ووجود السلاح بين أيديهم، فلم ينتظروا أمرًا ولا خطة ».
سر اختفاء المرشد:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اختلف الإخوان حول سبب اختفاء المرشد، فأرجعه البعض إلى وصول معلومات مؤكدة بأن عبد الناصر يدبر لاغتياله فأخفوه في مكان مجهول، وظل يدير الجماعة من مخبئه في الإسكندرية، بينما يرى البعض أن المرشد فقد سيطرته على الجماعة، ولذلك آثر الاختفاء حتى لا يتحمل المسئولية عن أفعالها، وخاصة أن بعض شباب الجماعة المنفلت راح يفكر في اغتيال عبد الناصر باعتباره في نظرهم المارق.. ناقض البيعة.. عدو الإسلام.
مكان اختفاء المرشد:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اختفى المرشد في فيلا مدام بليللي رقم 14 شارع سنت جيني بمصطفى باشا بالإسكندرية، وقد استطاع البوليس معرفة ذلك من ورقة ضبطت بحوذة صلاح شادي مدون بها بعض أرقام التليفونات، ولما سئل عن أصحاب هذه التليفونات أجاب إجابات مبهمة، لكن المحققين لاحظوا أن هناك رقمًا مشطوبًا بالقلم الحبر بطريقة تدل على الرغبة في إخفاء معالمه، مما كان السبب في إثارة الشك حول هذا الرقم، وبالفحص الفني الدقيق أمكن معرفة أول رقم من اليمين وهو 2 ورقم من اليسار وهو رقم 7، أما باقي الأرقام فكانت غير واضحة، وبعد مراجعة كثير من الأرقام التي يدخل في طرفيها هذان الرقمان أمكن التوصل إلى معرفة رقم تليفون الفيلا التي يختبئ فيها الهضيبي، حيثُ قبض عليه.
وقد ذكرت مدام بليللي أنه في 15 سبتمبر 1954 حضر إليها شابان وطلبا استئجار الفيلا باسم الدكتور حسن صبري (اسم مستعار) وأفهماها أن الدكتور قد عين حديثًا في جامعة الإسكندرية وانصرفا بعد أن دفعا لها 52 جنيها مقدم إيجار عن شهرين.
أكبر حملة اعتقالات في التاريخ:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في نفس الليلة التي أطلق الرصاص على عبد الناصر، صدرت الأوامر باعتقال الإخوان المسلمين، وبدأت أكبر حملة اعتقال شهدتها مصر على مدى تاريخها.. حتى وصل الأمر إلى حد إعطاء المعتقلين بطاقات يسجلون فيها أسماءهم وعناوينهم لتدون في كشوف سليمة، وقد وصل عدد المعتقلين إلى عشرين ألفًا.
عودة يعرض المصالحة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في يوم 28 أكتوبر وبعد الحادث بيومين وجه عبد القادر خطابًا إلى عبد الناصر يحـمل أسس اتفـاق مع الإخــوان ودعـــاه فيه إلى المصـالحة بقوله : «. . وأحب أن أطمئن أن حادث المنشية لا يكون عقبة في سبيل ما دعوت إليه من التسامح ».
ثم شرع في طرح أسس المصالحة المقترحة والتي لا تخرج عن الاستسلام التام لمطالب عبد الناصر السابقة، لكن عبد الناصر أشر على المقترحات بعبارة واحدة تقول: « خدعة جديدة ».
عزل هنداوي وعبد اللطيف:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. بعكس ما لاقاه سائر المتهمين في حادث المنشية من أنواع العذاب وصنوف الهوان، كان محمود عبد اللطيف وهنداوي دوير منذ أن قبض عليهما حتى انتهت محاكمتهما مسجونين كأنهما في معسكر ترفيهي فقد تم عزلهما في ركن بجوار حديقة ونافورة بإدارة البوليس الحربي مع تقديم المشروبات والسجائر والسماح لهما بارتداء الملابس المدنية المغسولة والتي تم كيِّها بالخارج.. ولم تطبق عليهما لائحة السجن الحربي التي تقضي بحلق شعرهما وهو إجراء معمول به لأسباب صحية.
.. وعندما قررت محكمة الشعب حجز قضيتهما للحكم نقلا إلى السجن الحربي ليقضيا في إحدى زنزاناته الأيام الباقية حتى صدور الحكم.
.. وفي السجن الحربي يقضي يومه هكذا: يستيقظ في السادسة صباحًا ويتوجه تحت الحراسة إلى دورة المياه للاغتسال، ثم يعود إلى زنزانته ليتولى ترتيب أثاثها القليل ثم يبقى في داخلها حتى الثامنة حيثُ يخرج إلى ساحة السجن ليشترك في طابور الرياضة الصباحي، ثم يعود إلى الزنزانة لتناول فطوره الذي يتضمن الفول المدمس والعدس.. وفي التاسعة ينضم إلى باقي المساجين في طابور التمام ثم يعود إلى زنزانته حتى الحادية عشرة؛ ليخرج مع حارسه في النزهة الصباحية لمدة ساعة كاملة، وعند الظهر تماما يتوجه إلى قائد السجن ليطلع على الصحف، ويحدث القائد بما لديه من شكاوى وطلبات ويعود إلى الزنزانة فيتناول غداءه ويستريح، وفي الساعة الرابعة يخرج مرة ثانية في النزهة المسائية لمدة ساعة، وفي السادسة يتناول العشاء، ويبقى في الزنزانة حتى الصباح.
المحاكمة:
ــــــــــــــــ
في 1 نوفمبر 1954 شكل مجلس قيادة انقلاب يوليو محكمة خاصة باسم (محكمة الشعب) برئاسة جمال سالم وعضوية كل من أنور السادات وحسين الشافع.. فكانت رابع نوع من المحاكم الاستثنائية تشكلها قيادة الانقلاب بعد المجالس العسكرية ومحكمة الغدر ومحكمة الثورة.
هزلية المحـاكمة..
وقصور التحقيقات:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
افتقدت جلسات المحاكمة مهابة مجلس القضاء، فكانت أقرب إلى جلسات الهزل، وكان القاسم المشترك فيها سلاطة لسان جمال سالم التي لم تخلُ من إسفاف، وكانت التحقيقات مع المتهمين قد شابها القصور الواضح؛ فقد خلت الأوراق من شهادات مأموري الضبط من ضباط البوليس والمخابرات الذين قبضوا على محمود عبد اللطيف، وكذلك خلت الأوراق من شهادة كل من الميرغني حمزة وأحمد بدرالدين المصابين في الحادث والتقارير الطبية الخاصة بإصابتيهما، ولم يمثل خديوي آدم (الرجل اللغز) أمام المحكمة للإدلاء بشهادته ومناقشته فيها!!
.. كما خلت الأوراق من شهادة الشاهد الوحيد في القضية ويدعى حبيب محمد حبيب وهو فراش في مديرية التحرير، إذ كان أول من ألقى نفسه على المتهم محمود عبد اللطيف وشل حركته وقبض عليه وبحوزته المسدس الأول ماركة بريتا!!
وقد دفع عبد القادر عودة ببطلان قرار إحالته للمحاكمة؛ لأنه لم يحقق معه بمعرفة النيابة، فرد عليه جمال سالم:
ـ باسم القانون.
فأجابه عبد القادر عودة ساخرًا:
ـ «يبدو إنك بتفهم في القانون، زي أنا ما بفهم في تصليح الطائرات!!».
.. وفي أثناء دفاع إبراهيم الطيب عن نفسه، يسأله جمال سالم:
ـ أنا عايز أفهم مين عملك محامي؟!!
فيرد إبراهيم الطيب:
ـ اللي عملني محامي دراستي ومؤهلي، لكن أنا عايز أفهم أنت مين عملك قاضي؟!!
الأحكام:
ـــــــــــــ
في 4/ 12 / 1954 أعلنت محكمة الشعب حكمها الأول بحق قيادات الإخوان المسلمين، وقد تضمن الحكم إعدام حسن الهضيبي (مستشار سابق)، ومحمود عبد اللطيف (سمكرى) وهنداوي دوير(محام)، وعبد القادر عودة (محام) ومحمد فرغلي (واعظ) ويوسف طلعت (نجار مسلح) وإبراهيم الطيب (محام).
.. والحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة على سبعة هم: خميس حميدة وكمال خليفة وعبد العزيز عطية وحسين كمال الدين وصالح أبو رقيق ومنير الدلة وحامد أبو النصر.
.. والحكم بالأشغال الشاقة خمسة عشر عاما على كل من: عمر التلمساني وسيد قطب وأحمد شريت وحسن دوح.
وقد أودع الآلاف من الإخوان في المعتقلات بدون محاكمات أو اتهامات محددة.
وبعد النطق بالأحكام طلب عبد الناصر تخفيف أحكام الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، ولكن جمال سالم اعترض على ذلك بشدة وصلت إلى حد إشهار مسدسه في وجه عبد الناصر بدعوى أنه أصدر أحكام الإعدام بمعرفة مجلس قيادة الثورة، وأن اعتراض عبد الناصر عليها سوف يظهره وكأنه أصدر هذه الأحكام من تلقاء نفسه وبالتالي سوف يجعله عرضة للاغتيال فتراجع عبد الناصر وأقر تنفيذ أحكام الإعدام باستثناء حسن الهضيبى الذي استبدل الحكم بإعدامه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
رفض التماس
أســرة عودة:
ــــــــــــــــــــــ
.. ومساء يوم صدور الحكم ذهبت زوجة عبد القادر عودة وأفراد من أسرته إلى مقر قيادة حركة الجيش لتقديم التماس بإعادة المحاكمة أو تخفيف الحكم، لكن عبد الناصر أشر على الالتماس بعبارة واحدة تقول: « رفض الالتماس والمقابلة ».
المسئولية السياسية
لقيادة الإخوان عن الحادث:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقيت مسئولية القيادة السياسية للإخوان عن الحادث، فمجريات الأحداث كلها تؤكد أن القيادة لم تكن قائمة من الناحية الفعلية تحت تأثير الضربات الموجعة التي وجهها إليها الموالون لعبد الناصر، وما أسفر عن هذه الضربات من تناحر وانشقاقات، وقد ذكر ذلك هنداوي دوير في شهادته أثناء المحاكمة:
« أنه كان على أثر الخلاف الشديد الذي وقع في الهيئة التأسيسية أن فقدت احترامها في نفوس الإخوان، كما فقد مكتب الإرشاد احترامه أيضا؛ لأنه لم يستطع أن يقوم بمهمته في توجيه الإخوان، حتى أصبحت التعليمات التي تصدر منه لا تلقى تأييد الإخوان.. وفي هذه الفترة وجدنا أن الأجهزة الإدارية أصبحت كلها معطلة فيما عدا الجهاز السري الذي أصبح يسيطر على الموقف ويصدر التعليمات إلى الإخوان ».
.. ويؤكد علي عشماوي أن الهضيبي كان يكره العنف والقتل:
« كان أول ما فعله الهضيبي أنهم طلبوا إليه أن تلتقط بعض الصور التذكارية مع أفراد النظام الخاص المفرج عنهم في قضية السيارة الجيب بعد عودة الجماعة من الحل فقال: أنا لا أقف بين سفاحين وقتلة ».
بلاغان عن الجريمة
.. ودلالــة واحــــــدة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. هنا يجب أن نتوقف طويلاً عند روايتين عن إبلاغ عن الجريمة قبل وقوعها فقد روى د . محمود جامع أنه : « بعد أن قام هنداوي دوير بتدبير خطة اغتيال عبد الناصر بوساطة محمود عبد اللطيف ذهب إلى شقة جاره الدكتور عبد العزيز كامل الذي يقطن في العمارة نفسها بامبابة، وأخبره بالخطة فانزعج عبد العزيز كامل وحاول الاتصال بالمرشد الهضيبي، وفشل في ذلك لاختفاء المرشد في مكان سري بالإسكندرية، ولخطورة الموضوع الشديدة في تقدير عبد العزيز كامل، ولمرور الوقت سريعًا خشي من مضاعفاته على الجميع.. فذهب إلى عبد الناصر وأخبره بالقصة كاملة وطلب منه سرعة احتواء الأزمة.*( 22 )
كما روى أحمد طعيمة أنه علم بالجريمة قبل وقوعها، وأخطر عبد الناصر بذلك.
وهنا يثار السؤال: هل علم عبد الناصر من عبد العزيز كامل، أم من أحمد طعيمة، أم علم منهما معًا؟!
.. لكن تبقى أهمية الدلالة التى يمكن استنباطها من كلتا الروايتين، وهى أن عبد الناصر علم بالجريمة ورصد مدبرها وتركهم يمضون فى استكمالها تحت سيطرة رجال البوليس والمخابرات الحربية، وهو أيضا ما يفسر انعدام ردود الأفعال التلقائية منه، .. ويفسر لنا التناقضات الكثيرة نتيجة تدخلات عفوية لم تكن تدري بما يتم تدبيره بالخفاء .
***
.. أيًا كانت الحقيقة في حادث المنشية.. فلم يكن هناك أدنى مبرر للتنكيل بالمتهمين، والحكم على سبعة منهم بالإعدام، فالجريمة لا تزيد في قيدها ووصفها عن كونها جريمة شروع في قتل شخص سواء كان هذا الشخص هو عبد الناصر أو غيره من آحاد الناس، ولسبب ما خارج عن إرادة الجاني لم تتم الجريمة، ولم يصب الشخص الذي استهدفه الجاني بسوء، وهي جريمة عقوبتها في قانون العقوبات السجن لمدة تتراوح مابين 3 إلى 25 سنة حسب ظروف كل قضية، ووفقًا لما تبني عليه المحكمة عقيدتها فيما تقضي به.
.. وأيًا كانت الجريمة، فهذا لا يبرر للدولة خرق القانون واللجوء إلى أساليب غير قانونية في التعامل مع المتهمين، وانتهاك آدميتهم، وإحالتهم إلى محاكم استثنائية افتقدوا فيها أبسط الضمانات، والحقوق في محاكمة عادلة؛ ففي الأربعينيات تم اغتيال اثنين من رؤساء الوزارات هما أحمد ماهر باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا* ( 23 )، ولم يمثُل من قتلوهما أمام محاكم استثنائية، لكن ضباط انقلاب 23 يوليو 1952 أرادوا بهذه المحاكم الاستثنائية التي توالى انعقادها تحت مسميات مختلفة وفي ظروف مختلفة توصيل رسائل بحروف من الدم إلى شعب مصر!!
سيد الأدلة..
و«سيء الأدلة»!!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضباط يوليو مروا عليها عبور غير الكرام في إدانة قاطعة للإخوان بزعم اعتراف الجاني، وأن الاعتراف سيد الأدلة، في مغالطة مفضوحة للمبدأ القانوني؛ فالاعتراف سيد الأدلة في ظل الضمانات التي حددها القانون للمتهم أمام قاضيه الطبيعي، لكنه يصبح «سيء الأدلة»، في ظل ظروف استثنائية مثل احتجاز المتهم في السجن الحربي ومحاكمته أمام محكمة عسكرية.
.. واكتفت قيادات الإخوان بإنكار هو الأقرب إلى الاعتراف في محاولة لإسقاط المسئولية عن التنظيم بأكمله، باعتبار أن الحادث فردي قام به رجلان ينتميان إلى الجماعة.. وأكدوا في إنكارهم أنهم لو أرادوا لفعلوها!!. بل وفجروا الإسكندرية بأكملها فلديهم الرجال والذخيرة والسلاح والمتفجرات!!
كلٌ طرف يكتب تاريخه وفق هواه، أو وفق ما يعتقد أو يريدنا أن نعتقد أنه الحقيقة!!
الحـادث على الهــواء
من إذاعة القاهـــــرة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ (الساعة 0 3: 7) بدأ عبد الناصر خطابه في حشد من ربع مليون شخص:
أيها المواطنون:
يا أهل الإسكندرية الأمجاد.. أحب أن أقول لكم ونحن نحتفل اليوم بعيد الجلاء.. بعيد الحرية.. بعيد الاستقلال، أحب أن أقول لكم - أيها الإخوان - أحب أن أتكلم معكم عن الماضي وعن كفاح الماضي.. أحب أن أعود إلى الماضي البعيد.
أيها المواطنون: أحب أن أتكلم معكم كلامًا هادئًا، (عبد الناصر يوجه كلامه إلى الذين يهتفون بحدة لا تخلو من ملمح استنكار وتجريح لمستمعيه) قائلاً:
كفانا هتافًا - أيها الإخوان - فقد هتفنا في الماضي فماذا كانت النتيجة؟ هل سنعود إلى التراقص مرة أخرى إلى التهليل؟! هل سنعود إلى التهريج؟! إني لا أريد منكم أن تقرنوا اسم جمال بهذه الطريقة، إننا إذا كنا نتكلم معكم اليوم فإنما نتكلم لنسير إلى الأمام بجد وبعزم، لا بتهريج ولا بهتاف، ولا يريد جمال مطلقًا أن تهتفوا باسمه، إننا نريد أن نعمل لنبني هذا الوطن بناءً حرًا سليمًا أبيًا، ولم يبنَ هذا الوطن في الماضي بالهتاف، وإن الهتاف لجمال لن يبني هذا الوطن، ولكنا - يا إخواني- سنتقدم وسنعمل . سنعمل للمبادئ.. وسنعمل للمثل العليا؛ بهذا سنبني هذا الوطن، وأرجوكم أن تصغوا إليَّ وأنا إذا كنت أتكلم معكم اليوم في الاحتفال بهذه الاتفاقية، وفي الاحتفال بهذا الجلاء، وفي الاحتفال بهذه الحرية؛ فإنما أريد أن أذكركم بالماضي وبكفاح الماضي.. كفاحكم أنتم وبكفاح آبائكم وبكفاح أجدادكم، أريد أن أقول لكم لقد بدأت كفاحي وأنا شاب صغير، من هذا الميدان، ففي سنة 30.. في سنة 1930 خرجت وأنا شاب صغير بين أبناء الإسكندرية أنادي بالحرية وأنادي بالكرامة لأول مرة في حياتي، وكان هذا - يا إخواني - أول ما بدأت الكفاح من هذا الميدان، وأنا إذ أتواجد بينكم اليوم لا أستطيع أن أعبر عن سعادتي ولا أستطيع أن أعبر عن شكري لله حينما أتواجد في هذا الميدان، وأحتفل معكم أنتم يا أبناء الإسكندرية، يا من كافحتم في الماضي ويا من كافح آباؤكم، ويا من كافح أجدادكم، ويا من استشهد إخوان لكم في الماضي، ويا من استشهد آباؤكم. أحتفل معكم اليوم بعيد الجلاء وبعيد الحرية، بعيد العزة وبعيد الكرامة.
ـ (الساعة 55: 7).. وبعد خمس وعشرين دقيقة من بدء الخطاب، يُسمع صوت تصفيق من الجماهير، وصوت إطلاق أعيرة نارية متتالية، وبعد لحظات من الهرج، يُسمع صوت: امسك اللي ضرب ده.)
يجئ صوت عبد الناصر: يوجه خطابه للجماهير قائلاً:
فليبق كلٌّ في مكانه..
أيها الرجال:
فليبق كل في مكانه..
أيها الرجال:
فليبق كل في مكانه..
أيها الرجال:
فليبق كل في مكانه..
أيها الرجال:
فليبق كل في مكانه:
أيها الرجال:
فليبق كل في مكانه..
أيها الرجال:
فليبق كل في مكانه..
أيها الرجال:
فليبق كل في مكانه..
أيها الأحرار:
فليبق كل في مكانه..
دمي فداء لكم.. حياتي فداء لكم..
دمي فداء مصر.. حياتي فداء مصر.
أيها الرجال.. أيها الأحرار.. أيها الرجال.. أيها الأحرار:
دمي فداءٌ لكم.. حياتي فداء مصر..
هذا جمال عبد الناصر يتكلم إليكم - بعون الله - بعد أن حاول المغرضون أن يعتدوا عليه وعلى حياته.. حياتي فداء لكم، ودمي فداء لكم.
أيها الرجال.. أيها الأحرار:
إن جمال عبد الناصر ملك لكم، وإن حياة جمال عبد الناصر ملك لكم.
أيها الناس.. أيها الرجال:
ها هو جمال عبد الناصر.. ها هو جمال عبد الناصر بينكم، أنا لست جبانًا.. أنا قمت من أجلكم، ومن أجل حريتكم، ومن أجل عزتكم، ومن أجل كرامتكم.
أيها الناس.. أيها الرجال.. أيها الأحرار.. أيها الأحرار:
أنا جمال عبد الناصر.. منكم ولكم.. دمي منكم ودمي لكم، وسأعيش حتى أموت مكافحًا في سبيلكم وعاملاً من أجلكم.. من أجل حريتكم.. ومن أجل كرامتكم.. ومن أجل عزتكم.
أيها الأحرار.. أيها الرجال.. أيها الأحرار:
(صوت عبد الناصر يقول: «أوعى» لأحد زملائه الذين يحاولون منعه من الاستمرار في الحديث حرصًا عليه)، ثم يواصل حديثه:
أيها الرجال.. أيها الأحرار:
(صوت عبد الناصر يقول لزملائه: « سيبوني ».)
ملحوظة: مع محاولة زملائه منعه من الخروج ينسكب مداد أحمر اللون من قلم حبر كان في جيبه الأيسر (ناحية القلب) على صدره، مما أحدث حالة من الإيهام والتأثير النفسي التي أثارت مشاعر الجماهير التي اعتقدت أنه الدم وخلقت حالة التعطف مع عبد الناصر الذي أصر على الكلام وأنه لم يمت!!
***
(يعود عبد الناصر ليستكمل خطابه)
أيها الرجال:
فليقتلوني. فليقتلوني. فقد وضعت فيكم العزة.. فليقتلوني. فقد وضعت فيكم الكرامة.. فليقتلوني. فقد أنبت في هذا الوطن الحرية والعزة والكرامة من أجل مصر ومن أجل حرية مصر؛ من أجلكم ومن أجل أبنائكم ومن أجل أحفادكم.
والسلام عليكم ورحمة الله.
(يعود عبد الناصر ليستكمل كلامه بانفعال للمرة الثانية)
السلام عليكم.. كافحوا.. واحملوا الرسالة.. واحملوا الأمانة.. من أجل عزتكم، ومن أجل كرامتكم، ومن أجل حريتكم.
يا أهل مصر.. يا أبناء مصر قمت من أجلكم.. وسأموت في سبيلكم.. في سبيل حريتكم، وفي سبيل عزتكم، وفي سبيل كرامتكم.
يا أهل مصر.. أيها الأعزاء.. أيها الكرماء:
أنا فداء لكم، وسأموت من أجلكم.. سأموت من أجلكم.. سأموت من أجلكم.
والسلام عليكم.
(حالة من الصخب والهرج.. الجماهير تريد أن تطمئن على الرئيس فيخرج إليها ويستكمل حديثه إليهم للمرة الثالثة) قائلاً:
أيها المواطنون:
إذا مات جمال عبد الناصر فأنا الآن أموت وأنا مطمئن؛ فكلكم جمال عبد الناصر.. كلكم جمال عبد الناصر.. كلكم جمال عبد الناصر؛ تدافعون عن العزة، وتدافعون عن الحرية، وتدافعون عن الكرامة.
أيها الرجال:
سيروا على بركة الله.. والله يحمي مصر وأبناء مصر ورجال مصر. سيروا.. تمسكوا بالمبادئ، وتمسكوا بالمُثل العليا، لا تخافوا الموت، فالدنيا فانية.
وإننا نعمل لنموت.. نعمل لنموت من أجلكم ومن أجل مصائركم ومن أجل حريتكم ومن أجل عزتكم.
أيها المصريون.. أيها الرجال.. أيها الرجال.. الأعزاء.. الكرماء:
سيروا على بركة الله.. والله معكم.. لن يخذلكم.. لن يخذلكم.
فلن تكون حياة مصر معلقة بحياة جمال عبد الناصر، ولكنها معلقة بكم أنتم وبشجاعتكم وبكفاحكم، فكافحوا، وإذا مات جمال عبد الناصر، فليكن كل منكم جمال عبد الناصر.. فليكن كل منكم جمال عبد الناصر متمسكًا بالمبادئ ومتمسكًا بالمُثل العليا.
أيها الرجال:
سيروا فإن مصر اليوم قد حصلت على عزتها وحصلت على كرامتها وحصلت على حريتها، فإذا مات جمال عبد الناصر أو قتل جمال عبد الناصر فسيروا على بركة الله نحو المجد.. نحو العزة.. نحو الحرية.. نحو الكرامة.
والسلام عليكم ورحمة الله.
(المذيع: تطالب الجماهير خروج الرئيس إليها، ثم يُسمع صوت عبد الناصر يقول: «سيبونى.. سيبونى.. سيبونى..» فيلبي عبد الناصر نداء الأمة التي تهتف: الله معك يا جمال.)
(يخرج عبد الناصر ليستكمل خطابه للمرة الرابعة):
أيها المواطنون:
كنت أتكلم معكم عن كفاحي سنة 30، وفي سنة 30 - يا إخواني - في هذا الميدان.. في هذا الميدان، وكنت أبلغ من العمر اثني عشر عامًا.. جئت إلى هذا الميدان وكنت طالبا في مدرسة رأس التين، جئت إلى هذا الميدان أهتف بالحرية وأهتف بالكرامة، وحاول الاستعمار وأعوان الاستعمار أن يعتدوا علينا وأن يقتلونا، فقتل من قتل واستشهد من استشهد ومات من مات، ونجا جمال عبد الناصر ليحقق لكم العزة وليحقق لكم الكرامة وليحقق لكم الحرية.
أيها المواطنون.. أيها المواطنون:
إذا كان جمال عبد الناصر لم يمت في سنة 30، وكتب له أن يموت اليوم، فإنه يموت مطمئن البال.. مطمئن الضمير؛ لأنه خلق فيكم العزة، وخلق فيكم الكرامة، وخلق فيكم الحرية.
أيها المواطنون:
إنني اليوم.. اليوم بعد 24 عامًا.. لقد اعتدوا عليَّ مع إخوان لي ولكم في هذا الميدان، في سنة 30 اعتدى الاستعمار واعتدى أعوان الاستعمار، ونجوت بعون الله؛ لأحقق لكم العزة وأحقق لكم الكرامة.
واعتدوا عليَّ اليوم، اعتدت الخيانة؛ الخيانة التي ترجو وتطلب أن تكبلكم وتستبد بكم وتستبد بمصائركم.
فإذا كنت قد نجوت اليوم فبعون الله لأزيدكم حرية، ولأزيدكم عزة، ولأزيدكم كرامة.
فليعلم الخونة وليعلم المضللون أن جمال عبد الناصر ليس فردًا في هذا الوطن؛ فكلكم جمال عبد الناصر بعد أن شعرتم بالعزة، وبعد أن شعرتم بالحرية، وبعد أن شعرتم بالكرامة.
إذا مات جمال عبد الناصر اليوم، أو إذا مات جمال عبد الناصر باكرا، فأنا أموت مطمئنا.
لقد كنت منكم وأنا منكم، لقد كنت أتظاهر معكم في هذا الميدان، وأنا اليوم أتكلم إليكم كرئيس لكم، ولكن - يا إخواني - دمي من دمكم، وروحي من روحكم، وقلبي من قلبكم، ومشاعري من مشاعركم.
أيها المواطنون.. أيها المواطنون:
إذا قتلوا جمال عبد الناصر، وإذا قضوا على روح جمال عبد الناصر، وإذا أنهكوا دماء جمال عبد الناصر فإنهم لن يقدروا على أرواحكم أنتم، ولا على قلوبكم أنتم، ولا على نفوسكم الأبية أنتم، ولا على دمائكم الطاهرة أنتم أيها الأحرار.
أيها الرجال.. أيها الرجال:
لقد استشهد الخلفاء الراشدون.. لقد استشهدوا جميعًا في سبيل الله، وإذا كان جمال عبد الناصر يقتل أو يستشهد أنا مستعد لذلك والله في سبيلكم وفي سبيل الله وفي سبيل مصر.
والسلام عليكم ورحمة الله.
(لكن الخطبة لم تكتمل، ولم ينطق عبد الناصر بحرف يجيب به عن تساؤلات الجماهير حول الاتفاقية وما يرونه من عوار بها ـ من وجهة نظرهم ـ وتحول الاحتفال إلى احتفاليه بنجاته وتحولت مشاعر الجماهير إلى التعاطف معه)
***
.. وفي 30 أكتوبر 1954 أقيم احتفال ضخم بنادي ضباط الزمالك نقلته الإذاعة على الهواء، وغنت أم كلثوم أغنية يا جمال يا مثال الوطنية، وقد حرص مذيع الحفل على وصف تمايل الضباط طربًا وترديد الكلمات تجاوبًا مع كلمات الأغنية التي ألفها بيرم التونسي ولحنها رياض السنباطي والتي تقول كلماتها:
يا جمال يا مثال الوطنية
أجمل أعيادنا المصرية
بنجاتك يوم المنشية
ردّوا ردّوا عليَّ
***
بنجاتك ونجاة أوطانك
فرحتنا وحسرة من خانك
خاين غدَّار كان قصده يصيب
وتبات النار في صدر حبيب
القلب المليان وطنية
ردّوا ردّوا علي ردّوا عليَّ
***
واجهت النار بثبات وإيمان
وقفة شجعان ما يوقفها جبان
طلقات النـار عندك أوتـار
توهبها وبنفس أبية
ردّوا ردّوا عليّ ردّوا عليَّ
***
طلقات عديدة سمعناها أخذت قلوبنا وياهـا
كانت يا ما أطولها ثانية
عدينا واحدة والثانية لحد ثمانية
ضربتها عناية إلهية وبقت لك آيــة وطنية
ردّوا ردّوا علي ردّوا عليَّ
الحادث في صحافة القاهرة:
في غداة يوم الحادث صدرت جريدة الأهرام وفي صدر صفحتها الأولى بالعناوين الكبيرة:
• محاولة أثيمة لاغتيال الرئيس عبد الناصر
• عامل من الإخوان يطلق عليه 8 رصاصات في ميدان المنشية
• الرئيس ينجو من الاعتداء ويقول: إنه يهب دمه وروحه في سبيل عزة الوطن وحريته
• القبض على الجاني بعد إنقاذه من ثورة الجماهير واعتقال 3 آخرين من الإخوان
وذكرت الصحيفة أن الجاني يدعى محمود عبد اللطيف محمد، ويعمل سباكا في شارع السلام بإمبابة، وهو في الثلاثين من عمره، متزوج وله ثلاثة بنين وبنت، ووالداه أحياء وقد اعتقلهم البوليس جميعًا في مركز إمبابة للتحقيق.
وكان المتهم ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين ولكنه في المدة الأخيرة كان يذيع أنه تركهم.
وقد وضعت حراسة شديدة على دكانه ومنزله.
وقد عثر في المكان الذي كان يقف فيه الجاني على أربعة أظرف فارغة من عيار 36 ملليمترا، وهي تختلف عن طلقات المسدس الذي ضبط مع المتهم، إذ إن المسدس الذي عثر عليه مع المتهم من نوع «المشط »، الذي لا يلفظ الأظرف الفارغة، وكان المتهم يردد في ذلك الوقت أنه لم يقصد إصابة أحد، وأنه كان يطلق هذه الطلقات « للتفاريح ».
50 سنتيمترا فقط :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وضبط البوليس في جيبه 7 رصاصات، وقد طاشت الرصاصات التي أطلقها على الرئيس، وأصابت المصابيح الكهربائية التي كانت منثورة على المنصة، ولا تبعد عن المكان الذي وقف فيه الرئيس بأكثر من 50 سنتيمترًا
خمسة عشر مترًا:
ــــــــــــــــــــــــــــ
كان الجاني قد احتل مقعده منذ الساعات الأولى لهذا الاحتفال، وهو لا يبعد عن المنصة الرئيسية بأكثر من خمسة عشر مترًا، وكان مرتديًا بذلة قاتمة، ووقف من خلفه اثنان كان أحدهما مرتديا جلبابا أبيض والآخر بذلة قاتمة، أما الثلاثة الآخرون فهم محمد عامر حمادة ويشتغل عاملاً، ومحمد إبراهيم دردير من عمال البحر، والحسيني محمد عرام وصناعته فراش بمنطقة دمنهور التعليمية.
الشاهد الرئيسي:
ـــــــــــــــــــــــــــ
والشاهد الرئيسي يدعى حبيب محمد حبيب وهو فراش في مديرية التحرير؛ إذ كان أول من ألقى نفسه على المتهم وشل حركته، وأقبل بعض رجال البوليس والمخابرات ليقبضوا على المتهم وتحسسوا جيوبه فوجدوا لفة ظن أنها المسدس، ولكن تبين أنها المقذوفات السبع التي عثر عليها.
ومما يذكر أن المتهم كان من ضمن متطوعي حرب فلسطين.
وقد عرف أن المتهم وصل من القاهرة اليوم ونزل بفندق صغير يسمى فندق السعادة بجهة محطة مصر، فقام البوليس بتفتيش حجرته بالفندق، ولكن لم يعثر فيها على شيء يفيد التحقيق.
وتم نقل المتهم إلى نقطة بوليس «شريف»، وظلت الجماهير تحيط بالنقطة في محاولة للانقضاض عليه والفتك به، حتى تم نقل المتهمين في عربة إلى مكان التحقيق في حراسة شديدة من البوليس والجيش.
عشر رصاصات
بــدلا من ثمـانٍ:
ـــــــــــــــــــــــــــ
في الحفل الذي أقامه محامي الإسكندرية بفندق سيسل بعد دقائق من انتهاء احتفال المنشية تكريمًا لبطل الجلاء جمال عبد الناصر وإخوته، قال الصاغ أ.ح. صلاح سالم:
« إخواني المحامون: منذ لحظات وكان الرئيس جمال عبد الناصر يلقي خطابه لشعب الإسكندرية المجيد في جموع هذا الشعب، الذي ثار في وجه الظلم والطغيان والاحتلال، هذا الشعب الذي حمل الرسالة وحمل الشعلة منذ فجر التاريخ.. وقف جمال يلقي خطابه وإذا بعشر رصاصات تلقى على صدر جمال عبد الناصر»*
.. وذكرت جريدة الأخبار في عناوين صدر صفحتها الأولى:
• محاولة اغتيال جمال عبد الناصر
• إطلاق 8 رصاصات عليه وهو يخطب بالإسكندرية
• نجاة الرئيس والقبض على الجناة
• جمال يخطب مرتين عقب الحادث
.. وذكرت جريدة الأخبار في عناوين صدر صفحتها الأولى:
• 8 رصاصات طائشة
يطلقها إخواني على الرئيس في الإسكندرية
وصباح يوم 30 أكتوبر 1954 صدرت جريدة «أخبار اليوم» الأسبوعية وفي صدر صفحتها الأولي عنوان رئيسي: « الجاني يتكلم »
• لماذا أطلقت الرصاص على جمال عبد الناصر؟
• محمد حسنين هيكل يدخل الزنزانة ويجتمع مع الجاني ساعتين
• محمود عبد اللطيف يقول: يظهر أني نفعت جمال عبد الناصر بإطلاق الرصاص.
أما قصة المانشيت فقد كتبها محمد حسنين هيكل الذي استطاع أن يدخل إلى زنزانة الجاني في السجن الحربي ويمكث معه ساعتين كاملتين، روى له الجاني خلالهما لماذا أطلق الرصاص على جمال عبد الناصر؟ وماذا كان شعوره وهو يسمعه يتكلم، وماذا شعر بعد أن نجا جمال عبد الناصر، من هم الذين حرضوه؟ ماذا قالوا له عن جمال؟
.. ويبدأ هيكل في رسم صورة بقلمه للمتهم، وكيف يبدو؟ وكيف يفكر؟ وهل ندم على فعله أم لا يزال مصرا عليه؟ وهل أراد أن يقتل جمال؟ وما هو شعوره عندما رأى الشعب يستنكر فعله؟ في محاولة صحفية يصطحب فيها القارئ معه إلى الزنزانة ليرى الجاني ويسمع حديثه!
كتب هيكل:
ــــــــــــــــــــ
« قابلت محمود عبد اللطيف الذي وجه إلى الرئيس جمال عبد الناصر ثماني رصاصات في ميدان المنشية.. قابلته على ضوء الشموع؛ لأن أسلاك الكهرباء في سجن البوليس الحربي كانت قد أصيبت بخلل وساد الظلام! بدا وجهه على ضوء الشموع غريبا عجيبا..
أثار في نفسي مجموعة من الانفعالات لا أظن أنني شعرت بها من قبل.. كان شعر رأسه هائشا، ولم يكن ذقنه حليقا، وكانت في عينيه نظرة زائغة ضائعة، وكان لا يزال يرتدي نفس الملابس التي ارتكب بها جريمته! قميص أزرق مخطط بخطوط بيضاء، وقد شمّر أكمام القميص.. وبنطلون أزرق اللون، وكانت يداه مقيدتين بالحديد خلف ظهره، وجلس على مقعد، وبدأ يتخذ الوضع الذي يريحه ويداه إلى الوراء، وتحركت يداه ولمحت أصابعه وتأملتها على ضوء الشموع المرتعشة.
كانت هناك ظلال مقبضه على هذه الأصابع، لمحت آثار ندب قديم..
قلت له: ما هذا؟
ـ قال: كنت أتدرب على ضرب المسدسات فانطلقت رصاصة خاطئة. لم تخرج من الفوهة بل خرجت من الوراء، وأصابت شظاياها أصابعي.
وكان وهو يتكلم قد ترك أصابعه تأخذ وضع الذي يمسك بمسدس ويصوبه، وأحسست بشعور مقبض.. لقد وقفت وجها لوجه أمام قتلة كثيرين، ولكني لم أشعر نحو قاتل منهم بالشعور الذي أحسست به وأنا أتأمل وجه محمود عبد اللطيف على ضوء الشموع.
شيء غريب لفت نظري فيه! لقد أحسست أني أستمع إلى اسطوانة معبأة تكرر الذي أُلقِي إليها حرفا بحرف، ولست أريد أن أتعرض لتفاصيل التحقيق.. فإن الحظر الذي فرضته النيابة موضع احترامي».
هكذا قدم محمد حسنين هيكل لحديثه مع الرجل الذي حاول اغتيال جمال عبد الناصر ثم دخل مباشرة في تفاصيل الحديث.
ـ هيكل: لماذا أطلقت الرصاص على جمال عبد الناصر؟
ـ المتهم: مضى في صوت كأنه الفحيح يردد مجموعة مثيرة من المعلومات.. « إذا حصلت ( اندلعت ) حرب في كوريا الجنوبية - هكذا بالحرف الواحد فسوف يعود الإنجليز إلى احتلال مصر من الإسكندرية إلى أسوان ».
ـ هيكل: في أي مادة من اتفاقية الجلاء قرأت هذا؟
ـ المتهم بنفس الصوت الذي يشبه الفحيح: في الاتفاقية.. قرأناها معا ودرسناها.
ومضى يتحدث عن الرجل الذي شرح له الاتفاقية.. لم يكن يتحدث عنه وإنما كان يردد كلماته، كان يقول كلاما لا يمكن أن يكون من عنده أو من وحي أفكاره، كان ببغاء من نوع يثير الأعصاب.
ـ هيكل: إنت بتشتغل إيه؟
ـ المتهم: أصلح وابورات الجاز!
ـ هيكل: هل تذكر آخر وابور جاز أصلحته؟
ـ المتهم: نعم قبل الحادث بيومين.. كان الوابور ملك أحد الجيران اسمه محمد سليمان ويعمل نقاشا. وكان قد أعطاني الوابور لإصلاحه فتركته للصبي، ولكن الصبي لم يحسن إصلاحه فأعاده صاحبه لأصلحه من جديد.
ـ هيكل: وبينما أنت تصلح وابور الجاز كنت تدرس اتفاقية الجلاء؟
عاد المتهم يقول بنفس الصوت.. بنفس الفحيح: كنا ندرسها معا، ولم تكن معلوماته عن اتفاقية الجلاء هي وحدها صلته بالببغاوات، بل إن معلوماته عن السلاح كانت هي أيضا من نفس النوع! سمعته يتحدث عن الضرب بالطبنجة، وأستطيع أن أؤكد من الطريقة التي سمعته يقول بها كلماته إنها عبارات محفوظة.
ـ هيكل: أين كنت تتدرب على استخدام السلاح؟
ـ المتهم: في المركز العام للإخوان المسلمين.
ـ هيكل: هل تطيع أي أمر يصدره لك الهضيبي؟
ـ المتهم: في حدود..هو مؤسس الدعوة.
ـ هيكل: وهل الدعوة تبيح القتل وترضى عنه؟
ـ المتهم: سكت ولم يرد.
ـ هيكل: هل القرآن يبيح القتل؟
ـ المتهم: لا يبيحه إباحة صريحة.
ـ هيكل: لماذا كنت تريد أن تقتل جمال عبد الناصر؟. كنت تتدرب على إطلاق الرصاص منذ أربعة شهور.. والاتفاقية وقعت منذ أسبوع.
ـ المتهم: كنا نظن أنها لن توقع.
ـ هيكل: هل عرفت ماذا صنع جمال عبد الناصر بعد أن أطلقت عليه الرصاص؟
ـ المتهم: علمت أنه استمر في إلقاء خطابه.
ـ هيكل: وما رأيك في هذا؟
ـ المتهم: شجاع.
ـ هيكل: كيف إذن تفسر أنه لم يصب؟
ـ المتهم: إرادة الله.
ـ هيكل: معناها أن الله يحبه؟
ـ المتهم: لا أعرف.*( 2 )
***
ـ وفي 2 نوفمبر، صدرت جريدة الأهرام وفي صدر صفحتها الأولى عنوان كبير:
«عامل يعثر على المسدس الذي أطلق منه الجاني الرصاص على الرئيس».
• حضوره من الإسكندرية سيرًا على الأقدام لتقديم المسدس للرئيس.
• الرئيس يقابله بمجلس قيادة الثورة ويشكره ويمنحه 100 جنيه مكافأة له.
وذكرت الصحيفة قصة شاب يدعى خديوي آدم (من الأقصر ـ 23 سنة ـ ويعمل فاعلاً في صناعة البناء) الذي عثر مصادفة على المسدس الذي أطلق منه الجاني رصاصاته الثماني الطائشة، فقد تعثرت به قدمه أثناء تدافع الجماهير، فالتقطه ووضعه في جيبه، وكان المسدس ساخنًا «لسع يديه»، والمسدس من النوع الذي إذا أطلقت جميع مقذوفاته ينفتح؛ فأدرك آدم أنه المسدس الذي استخدم في الحادث.
وروت الصحيفة أن خديوي آدم قد أبى إلا أن يسلمه إلى الرئيس عبد الناصر بنفسه يدًا بيد، ولما كان شاب فقيرا؛ فلم يستطع الحضور من الإسكندرية إلى القاهرة في سيارة أو قطار؛ فلم يكن أمامه الحضور ماشيًا، وبدأ رحلة السير على قدميه على قضبان السكك الحديدية في الرابعة من صباح يوم الأربعاء 27 أكتوبر حتى بلغ مدخل شبرا يوم الاثنين أول نوفمبر في حوالي الساعة 12 ظهرًا، وتلمس مكان الرئيس حتى قابله، وقبَّل يده، فقبَّله الرئيس مقدرًا وشاكرًا، ثم أمر بمكافأته بمائة جنيه.
عن رحلة خديوي آدم من الإسكندرية للقاهرة ذكرت الصحيفة تحت عنوان:
« يجوع فيبيع قفطانه ويأكل.. »:
« إن خديوي آدم مشي بين قضبان السكك الحديدية إلى أن أخذ منه التعب كل مأخذ وشعر بالجوع.. وكان قد وصل إلى سوق مدينة في الطريق لم يعرف اسمها، فباع قفطانه وأكل وشبع وواصل سيره.».* ( 3 )
وفي اليوم التالي ذكرت الصحيفة: «عقد الأستاذ محمد عطية إسماعيل ـ المحامي العام ـ والأستاذ على نور الدين الوكيل الأول في نيابة أمن الدولة اجتماعًا قصيرًا دعي على أثره العامل خديوي آدم واستمع وكيل النيابة إلى معلومات عثوره على المسدس».
***
ـ وفي 5 نوفمبر 1945، صدرت مجلة «المصور» وعلى غلافها صورة بحجم الغلاف لجمال عبد الناصر في ثيابه العسكرية مع عنوان: «كلكم عبد الناصر»، وداخل العدد ملف بعنوان: «السمكري الذي وجَّه 8 رصاصات إلى قلب عبد الناصر».
وذكرت المجلة قصة الاعتداء على الرئيس وحكاية العامل الذي عثر مصادفة على المسدس الذي استخدمه الجاني، وانتقلت المجلة للقاء المصابين في الحادث، وهما الأستاذان ميرغني حمزة وزير المعارف والري والزراعة السوداني، وأحمد بدر الدين سكرتير هيئة التحرير بالإسكندرية، وقد قال مندوب المجلة نقلاً عن ميرغني حمزة: «عندما انطلق الرصاص، أصابته شظايا الزجاج المكسور، ولم يشعر بالإصابة إلا حينما رأى الدم يغطي يده كلها، وحاول الانسحاب بهدوء، ولكن الدم السائل لفت نظر الجميع فهرع الجميع إليه ونقلوه إلى مستشفى المواساة ».
وقال مندوب المجلة نقلاً عن أحمد بدر الدين (المصاب الثاني): « أصابته رصاصتان، واحدة في أصبعه والثانية في جنبه ».
وتحت عنوان « الابن يستنكر جريمة الأب » كتب محرر المجلة:
اسمه عبد اللطيف محمود عبد اللطيف «٩ سنوات»، هو الابن الأكبر للجاني، قال لمندوب « المصور »:
« أنا كنت باسمع الراديو بالليل، وكان جمال عبد الناصر بيخطب، وبعدين سمعت ضرب الرصاص، فعيطت لأني افتكرت إنه جراله حاجة، وبعدين سمعته بيقول: أنا جمال عبد الناصر، فبطلت عياط، وصفقت من الفرح لما عرفت أن الرصاص مجاش فيه ».
وسكت الطفل ولمعت عيناه وكأنه اهتدى إلى شيء مثير وقال للمندوب:
« اسمع أن عايز أروح لجمال عبد الناصر أبوسه وأقول له مبروك عشان
الرصاص ما جاش فيه ».
ـ فقال المندوب: « إنه مشغول وقد لا يستطيع أن يراك ».
ـ فقال الطفل: « طيب استني لما أكتب لك جواب تديهوله ».
.. وكتب الطفل هذا الخطاب:
« أنا عبد اللطيف محمود عبد اللطيف محمد زعلان من بابا عشان هو ضرب جمال عبد الناصر بالرصاص، وإنه مبسوط خالص عشان ربنا سلم ومفيش حاجة حصلت لجمال عبد الناصر.
توقيع: عبد اللطيف محمود عبد اللطيف ـ بتاريخ: 27 ـ 10 ـ 1954»*(4)
والتقت المجلة والد المتهم والسيدة والدته هدية محمد يوسف، والسيدة حماته نعيمة خليل والسيدة زوجته ونقلت عنهم أحزانهم وإدانتهم للحادث.
***
.. وأصبح عبد الناصر بطلاً شعبيًا، واصطفت الجماهير على محطات السكة الحديد في طريق عودته من الإسكندرية لتحيته والهتاف له، ولم يعد لمعاهدة الجلاء ذكر، وأصبح محور حديث المنتديات شجاعة عبد الناصر والإطراء على أفعاله، والإشادة بإنجازاته، وانسحب الحديث عن عوار بعض بنودها إلى هامش النسيان!!
ما لم تذكره الصحف:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكن ما لم تذكره الصحف أن شعورا بالاستياء عمَّ جماهير الإسكندرية قبل إلقاء عبد الناصر خطابه، امتزجت فيه مشاعر الغضب والسخط ضد اتفاقية الجلاء مع بريطانيا، التي عارضتها كل القوى السياسية في مصر لثلاثة أسباب:
1 ـ السماح للقوات البريطانية بالعودة للقناة في حالة الهجوم على تركيا، عضو حلف الأطلنطي، وهو الأمر الذي يجعل مصر ترتبط عمليًا بالأحلاف، ويعطي الحق لانجلترا للعودة إلى القناة.
2 ـ الموافقة على بقاء الفنيين البريطانيين في القاعدة (1200 فني) دون خضوع لسلطة الحكومة المصرية، ويتم انسحابهم بعد 7 سنوات من القاعدة، وتصبح المخازن وكل ما بالقاعدة ملكًا لمصر، وهو الأمر الذي رآه البعض إضعافا للسيادة المصرية على أراضيها، واحتلالا جديدا في صورة مختلفة.
3 ـ أن الاتفاقية لم تعرض على الشعب في استفتاء عام.
وقد انسحب هذا السخط على عبد الناصر الذي وقعها، وضد نظام الحكم الاستبدادي الذي شرع في إرساء قواعده.
وزاد المناخ العام سوءًا بعد انتشار أخبار عن لقاءات تمت بين عبد الناصر وبن جوريون وبصحبته إيجال ألون على إحدى القطع البحرية في عرض البحر الأحمر قرب مضيق العقبة، وأنه يرتب لبيع قضية فلسطين كما باع مصر.
وعندما أقيم سرادق الاحتفال في ميدان المنشية، احتلته جماهير الإسكندرية، وأخذت هتافاتها تتعالى بالحرية وسقوط الظلم، كانت تقارير البوليس الحربي تدل على الشعور المعادي الذي يسود الإسكندرية.. وتختلف الأقوال في جو سرادق الاحتفال، فبينما يقول إبراهيم الطحاوي سكرتير عام مساعد هيئة التحرير إن رجال الجيش الوطني ـ تحت قيادة اللواء عبد الفتاح فؤاد ـ الذين حضروا إلى السرادق كانوا يهتفون هتافات خاصة بهم لا يذكرون فيها اسم جمال عبد الناصر.. ويقول حسين عرفة رئيس المباحث الجنائية العسكرية إن جماهير الإسكندرية التي احتلت السرادق تعالى هتافها ضد الظلم ومن أجل الحرية.
ويضيف إبراهيم الطحاوي أن رجال الحرس الوطني قد افتعلوا ضجيجًا متعمدًا في السرادق عندما حضر الوفد السوداني معتقدين أنه موكب عبد الناصر، مما اضطر حسين عرفة إلى إخلاء السرادق من هذه الجماهير في الخامسة مساء، وإعادة ملئه من جديد بجماهير مأجورة تتكون من 10 آلاف من عمال مديرية التحرير الموالية.
وكانت هذه الجماهير هي التي دخل محمود عبد اللطيف من بينها ليجلس في الصفوف الأمامية (خلسة أو بترتيب من المنظمين) على بعد عشرين مترا من منصة الخطباء والضيوف، وأطلق منها الرصاص على جمال عبد الناصر.
العلاقة بين عبد اللطيف
والبكـباشي «عـــبده »:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يكن ارتباط اسم محمود عبد اللطيف باسم جمال عبد الناصر وليد لحظة الإعلان عن حادثة إطلاق الرصاص في المنشية، فالعلاقة بين الرجلين تسبق هذا اليوم وهذه الحادثة بسنوات، فعندما جند قائد الجناح عبد المنعم عبد الرءوف محمود عبد اللطيف (براد بشركة شندلر للمصاعد الكهربائية) في النظام الخاص عهد بتدريبه على السلاح وإعداد المتفجرات إلى البكباشي عبده، والبكباشي عبده هو اختصار للاسم الحركي للبكباشي عبد القادر زغلول الذي اتخذه جمال عبد الناصر لنفسه وعرف به تنظيميًا.
في ديسمبر سنة 1951 طلب جمال عبد الناصر (البكباشي عبد القادر زغلول) من النظام الخاص أن يقدم له شابا ً من الإخوان فدائيا ً ميت القلب ليقوم بعملية خطيرة في بور سعيد.. فتم تقديم محمود عبد اللطيف.
ـ سافر محمود عبد اللطيف إلى بور سعيد.. وهناك تم أعطاؤه مبلغ عشرة جنيهات، وتكليفه بالبحث عن عمل في أحد معسكرات الجيش الانجليزي، لأن المهمة المكلف بها هي تسميم الجنود البريطانيين في معسكر بور سعيد بوضع السم في اللحوم المخزنة بالثلاجات..!!
وبعد 15 يومًا أمضاها محمود عبد اللطيف في بورسعيد لم يوفق خلالها في الالتحاق بالعمل المطلوب، تم إبلاغه بإلغاء المهمة والعودة إلى القاهرة.
.. عاد عبد اللطيف ليجد نفسه وقد أصبح بلا عمل بعد أن فصلته شركة شندلر لتجاوزه مدة الغياب المسموح بها، فافتتح دكانًا في إمبابة، لكن بعد اقتحام منزل المرشد وقطع سلك التليفون ومحاولة إجباره على كتابة استقالته في يوم الجمعة 11 ديسمبر عام 1953، تم تكليفه بافتتاح محل في منيل الروضة في عمارة مواجهه لمنزل حسن الهضيبي وعهد إليه بحراسة المرشد، ومراقبة التحركات المريبة حول مسكنه، والإبلاغ عنها، فالدكان لم يكن سوى مجرد ساتر لتنفيذ عمل من أعمال الجماعة، وبعد فترة طُلب منه إغلاق الدكان والعودة إلى البحث عن دكانه القديم في منطقة سكنه بإمبابة، وهو الدكان الذي داهمته الشرطة ليلة الحادث!!
«موريس» والأسطى
ملكــــون ملكــــونيان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يكن عبد الناصر «نبتة إخوانية » خالصة؛ فقد كان أيضا عضوا في حدتو، واتخذ لنفسه اسمًا حركيا (موريس)، وكانت حدتو تطبع منشورات الضباط الأحرار وترسلها إليه مع شاب أرمني عضو في حدتو اسمه ملكون ملكونيان ويعمل فني إصلاح راديوهات في شارع المنيل.
وكان قسم الجيش في حدتو يضم بعض الضباط الذين اشتركوا في حركة الجيش مثل البكباشي يوسف صديق واليوزباشي خالد محيي الدين واليوزباشي أحمد حمروش واليوزباشي مهندس أحمد جمال علام والملازم أول آمال المرصفي.
.. وقبل انقلاب 23 يوليو أخطر عبد الناصر حدتو بموعده عن طريق أحمد حمروش لكنهم لم يفعلوا شيئًا، ولم يعلموا بنجاح الحركة إلا من الراديو بعد إذاعة البيان الأول في الساعة السابعة والنصف من صباح 23 يوليو!!
بعد انقلاب 23 يوليو 1952 شاهد ملكون ملكونيان صور موريس تملأ الصحف، وأيقن أنه أسهم تاريخيًا في إنجاح الانقلاب، لكن زهوه لم يدم طويلاً، فما لبث أن قبض عليه مع زملائه المسئولين عن طبع المنشورات، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات قضاها كاملة.
.. وقد قال لي الأستاذ مصطفى طيبة نائب رئيس تحرير الأخبار وعضو حدتو: « كان موريس يحضر معنا الاجتماعات وكان صامتًا لا يتحدث أبدا، ولكني لاحظت أنه يسترق النظرات إلى الآخرين، ولم أعرف أن اسمه الحقيقي هو عبد الناصر، وأنه مسلم إلا بعد نشر صوره في الصحف بعد انقلاب يوليو، بعدها سجننا جميعًا في المحاريق بتهمة مناهضة الثورة في الأول من يناير عام 1959 حتى أفرج عنا في 4 إبريل 1964عام بمناسبة زيارة خرشوف لمصر».
إشكالية الصراع على السلطة
بين عبد الناصــر والإخــوان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد قيام الملك فاروق بحل مجلس إدارة نادي الضباط في 17 يوليو 1952 التقى عبد الناصر بجماعة الإخوان المسلمين في اليوم التالي في منزل عبد القادر حلمي في الحادية عشرة مساء، وحضر اللقاء كمال الدين حسين وعبد الحكيم عامر ومن الإخوان حسن العشماوي وصالح أبو رقيق.
وفي هذا الاجتماع قال عبد الناصر: إن أسماء قيادات الضباط الأحرار أصبحت معروفة للبوليس السياسي، ونظرا لذلك فإنه قرر الإسراع بالتحرك خلال عشرة أيام، وإن الأمر يقتضي أن يتعاون الإخوان معه. وطلب منهم رأي المرشد العام المستشار حسن الهضيبي، وكان بالإسكندرية.. فقالوا له سيكون الرد جاهزا خلال 48 ساعة أي في يوم 20 يوليو.
وفي الموعد المحدد التقى ناصر بصلاح شادي ولم يكن وفد الإخوان الذي ذهب للإسكندرية لمعرفة رأي المرشد العام قد عاد بعد فتأجل اللقاء إلى اليوم التالي «21 يوليو». . وعرف عبد الناصر أن شروط المرشد تتلخص في:
1 ـ تطبيق الشريعة الإسلامية
2 ـ المشاركة الكاملة بين الإخوان والضباط الأحرار في الانقلاب والمسئولية إزاءه والتعاون في تنفيذه بعد نجاحه.
وفور سماع عبد الناصر شروط المرشد انتحى بصلاح شادي جانبا وأشهدا الله على عهدهما القديم بقراءة الفاتحة، وأن الحكم سيكون بكتاب الله إذا نجحت الحركة في الاستيلاء على السلطة في الدولة.
وبناء على هذا التفاهم واطمئنان كل فريق للآخر قام جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين بإبلاغ كل من حسن العشماوي وصالح أبو رقيق «عضوي مكتب الإرشاد» بموعد تحرك الضباط الأحرار.
ومع الساعات الأولى من صباح 23 يوليو انتشرت كتائب الإخوان على طول طريقي السويس - القاهرة والإسماعيلية ـ القاهرة وفي منطقة قناة السويس لمراقبة تحركات القوات البريطانية والتصدي لها، إذا ما تحركت ضد الثورة، وقام الإخوان بحراسة المنشآت العامة والسفارات وأماكن العبادة.
وتم استدعاء حسن العشماوي إلى مقر قيادة الحركة في كوبري القبة وطلب منه أن يتصل بالمرشد العام في الإسكندرية لإصدار بيان بتأييد الثورة لكن المرشد لم يفعل شيئا وظل بالإسكندرية، ولم يحضر للقاهرة إلا بعد مغادرة الملك البلاد.
وفي يوم 27/7/1952 أصدر الهضيبي البيان التالي، ونشر بمجلة الدعوة الأسبوعية عدد 76- بتاريخ 29/7/1952 وجاء فيه:
« بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وبعد.. في الوقت الذي تستقبل البلاد فيه مرحلة حاسمة من تاريخها بفضل هذه الحركة المباركة التي قام بها جيش مصر العظيم، أهيب بالإخوان المسلمين في أنحاء الوادي أن يستشعروا ما يلقى عليهم الوطن من تبعات في إقرار الأمن وإشاعة الطمأنينة، وأخذ السبيل على الناكثين ودعاة الفتنة، ووقاية هذه النهضة الصادقة من أن تمس روعتها وجلالها بأقل أذى أو تشويه، وذلك بأن يستهدفوا على الدوام مثلهم العليا، وأن يكونوا على تمام الأهبة لمواجهة كل احتمال.
والإخوان المسلمون بطبيعة دعوتهم خير سند لهذه الحركة يظاهرونها، ويشدون أزرها حتى تبلغ مداها من الإصلاح، وتحقق للبلاد ما تصبو إليه من عزة وإسعاد.
وإن حالة الأمن لتتطلب منكم بوجه خاص أعينًا ساهرة ويقظة دائمة؛ فلقد أعدتكم دعوتكم الكريمة رجالاً يُعرفون عند الشدة، ويلبون عند أول دعوة،
فكونوا عند العهد بكم، والله معكم.
وستجتمع الهيئة التأسيسية في نهاية هذا الأسبوع بإذن الله لتقرر رأي الإخوان فيما يجب أن تقترن به هذه النهضة المباركة من خطوات الإصلاح الشامل ليدرك بها الوطن آماله، ويستكمل بها مجده.. ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 40)، والله أكبر ولله الحمد».
المرشد العام
المستشار حسن الهضيبي
وفي يوم 30 يوليو الساعة السابعة صباحا تم اللقاء بين المرشد وعبد الناصر لأول مرة في منزل صالح أبو رقيق لقربه من مقر القيادة العامة للجيش، وقد دار الحديث بينهما من منطلق ما اتفق عليه عبد الناصر مع الإخوان قبل قيام الحركة، غير أن عبد الناصر بدأ يتنصل شيئا فشيئًا من بعض الالتزامات التي تقتضيها المشاركة المتفق عليها بصفتهم شركاء في المسئولية، وقال عبارته:
«أنا لم أتعهد لأحد بشيء»، وهنا وجه المرشد حديثه لحسن العشماوي متسائلا بتعجب:
« ألم تتفقوا على المشاركة يا حسن؟!! » فأجاب: نعم اتفقنا. وهنا ظهر على المرشد عدم الارتياح أو الاطمئنان، لدرجة أنه لم يشارك في الحديث حتى نهاية الجلسة التي دامت حوالي الساعتين،. بعد أن انصرف عبد الناصر قال الهضيبي للحاضرين: «هذا الرجل لا خير فيه. »، وبدأت حالة من الود المفقود بين الرجلين فالهضيبي لا يأمن جانب عبد الناصر وعبد الناصر يشكو لزملائه الضباط من أن الهضيبي يتعالى عليه ويعامله باحتقار.. وازدراء.. وأنه يذهب إلى اجتماعاته مضطرًا وأنه لا يطيقه.
.. ومنذ ذلك اليوم بدأ الخلاف بين الضباط أعضاء مجلس قيادة الانقلاب الذين كانوا يطالبون بإقامة الجمهورية، وبين الإخوان المسلمون الذين طالبوا بإلغاء الملكية وإعلان الخلافة الإسلامية فورًا، ارتأى البعض من الفقهاء الدستوريين أن الدستور مازال قائمًا رغم استبدال ملك بملك، ورغم عنصر القهر الذي لازم ذلك التغيير لشخص الجالس على العرش.
.. ولكن تحت تأثير الخوف من الضباط أصدر قسم الرأى بمجلس الدولة برئاسة السنهوري فتوى تنص على أنه:
« في حالة نزول الملك عن العرش وانتقال وصاية الملك إلى خلف قاصر يجوز لمجلس الوزراء، إذا كان مجلس النواب منحلاً، وأن يؤلف هيئة للعرش من ثلاثة تتولى بعد حلف اليمين أمام مجلس الوزراء سلطة الملك إلى أن تتولى هيئة الوصاية الدائمة »، واستمسك علي ماهر بتلك الفتوى، ولم يعترض عليها سوى الدكتور وحيد رأفت الذي أصر على دعوة البرلمان المنحل للانعقاد وقبل مضي المدة الدستورية (عشرة أيام من تنازل الملك)، وبدأت مصر مرحلة تكييف القوانين (ترزية القوانين) لتتلاءم مع رغبات الحكام الجدد تحت تأثير الخوف منهم التي انتهت إلى هاوية اللا قانون.
وقد أصدر سليمان حافظ نائب رئيس مجلس الدولة العديد من الفتاوى بخروقات قانونية بعد الاعتداء على السنهوري واعتكافه في منزله.
.. ومع ذلك فكرت حركة الجيش في تعيين وزيرين في وزارة محمد نجيب، ورشح الهضيبى الشيخ أحمد حسن الباقورى، وأحمد حسني وكيل وزارة العدل، ومحمد كمال الدين محافظ الإسكندرية، وبعد أن تم الاتصال بالأول والثاني، أبلغ جمال عبد الناصر سليمان حافظ الذي أسهم بقدر كبير في تشكيل الوزارة أن حسن العشماوي ومنير الدلة قد حضرا موفدين من المرشد العام ليبلغاه اختيار الإخوان قد وقع عليهما ليمثلاهم في الوزارة، وأن الترشيح الأول كان شخصيًا من الهضيبى وليس من مكتب الإرشاد.
كان الاعتذار للباقورى وأحمد حسنى بعد تبلغيهما صعبًا، كما أن رأي سليمان حافظ في عشماوى والدلة كان أنهما شباب أكثر مما ينبغي، وكان رد فعل الجماعة فصل الباقورى من مكتب الإرشاد!!
ومع ذلك استمرت العلاقة طيبة بين الحركة وجماعة الإخوان وخاصة بعد الإفراج بعفو خاص في 11 أكتوبر 1952 عن قتلة الخازندار ومحمود فهمي النقراشي، ثم صدر قرار بعد ذلك بمرسوم بالعفو الشامل عن الجرائم السياسية التي وقعت في المدة من توقيع معاهدة 26 أغسطس 1936 إلى 23 يوليو 1952، وقد بلغ عددهم 934 واستثني من العفو المحكوم عليهم في قضايا شيوعية باعتبار الشيوعية جريمة اقتصادية واجتماعية وفقًا لـ «التخريجة » القانونية التي أعدها سليمان حافظ!!
واستمرت العلاقة الطيبة بين الحركة والجماعة أثناء الصدام مع الأحزاب، فقد كانت الجماعة دائما ضد الأحزاب والحزبية، لأن ذلك في نهايته يعني خلو الساحة لهم وحدهم.
.. لكن بعض تصرفات الحركة لم تجد قبولاً لدى الإخوان، كما أن بعض تصرفات الإخوان لم تجد ترحيبًا من جانب مجلس قيادة الحركة، كانت حربًا غير معلنة، لا الإخوان المسلمون يصارحون بالعداء جهارأ ولا مجلس قيادة الحركة يهاجم الإخوان، حتى أصدر مجلس قيادة الحركة بيانا في 14 يناير 1954 بحل جماعة الإخوان المسلمين وبه الاتهامات الآتية:
1 ـ التقاعس في تأييد المرشد العام للحركة إلا بعد خروج الملك.
2 ـ عدم تأييد قانون الإصلاح الزراعي والمطالبة برفع الحد الأقصى للملكية إلى 500 فدان.
3 ـ محاولة فرض الوصاية على الحركة بعد حل الأحزاب.
4 ـ اتخاذ موقف المعارضة من هيئة التحرير.
5 ـ بدء التسرب إلى ضباط الجيش والبوليس وتشكيل وحدات تحت إشراف المرشد.
6 ـ تشكيل جهاز سري بعد حل الجهاز السري الذي كان يشرف عليه عبد الرحمن السندي.
7 ـ حدوث اتصال عن طريق الدكتور محمد سالم الموظف في شركة النقل والهندسة بين مستر ايفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية في مايو 1953 مع منير الدلة وصالح أبو رقيق ثم مع حسن الهضيبي بعد ذلك.
8 ـ زيارة حسن العشماوي يوم الأحد 10 يناير لمستر كريزويل الوزير البريطاني المفوض.
وتزامن صدور البيان مع اعتقال حسن الهضيبي و450 عضوا بالجماعة في القاهرة والأقاليم.
وبعد أحداث مارس 1954، اكتشف الطرفان أن الصدام بينهما جاء في وقت مبكر وغير مناسب للطرفين لأن خطرًا مشتركا كان يهددهما؛ فتم الإفراج عن الهضيبي في 25 مارس 1954، وذهب جمال عبد الناصر لزيارته في منزله وفي صباح اليوم التالي نشرت الصحف:
أنه تقرر الإفراج عن جميع الإخوان، وأن الإخوان استأنفوا نشاطهم وعقدوا اجتماعا مع المرشد العام لجماعتهم الذي أعلن:
« أننا الآن أقوى مما كنا!! »
.. وظل الصراع بين الجانبين مكتوما، فالضباط يتهمون الإخوان عبر الصحف الموالية لهم بالاتصال بجهات أجنبية من وراء ظهرهم وإنشاء جهاز سري مسلح، والإخوان ينشرون بين الناس عبر جهاز شائعاتهم أن عبد الناصر خائن مرتد وناقض للبيعة والعهد ويحكم بنظام لا إسلامي.
.. وأصبحت كل الدلائل تشير إلى حتمية الصدام بين الحركة والجماعة والذي بلغ مداه في حادث المنشية.
تحييد النظام الخاص:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
منذ عام 1949 أحكم عبد الناصر قبضته على النظام الخاص للإخوان داخل الجيش، وبعد وفاة الصاغ محمود لبيب أصبح عبد الناصر قائده بعد أن استدعاه الصاغ محمود لبيب (قائد التنظيم) أثناء مرضه إلى منزله بالظاهر وسلمه مذكرة بأسماء الضباط الذين يشملهم التنظيم السري والمبالغ المتبقية من الاشتراكات (قيمة الاشتراك للعضو 50 قرشًا شهريًا) بسبب غياب عبد المنعم عبد الرءوف وأنور السادات عن القاهرة لنقلهما إلى سيناء.
وفي عام 1950 قرر عبد الناصر إعادة التنظيم السري لضباط الجيش والذي بدأه قائد الجناح عبد المنعم عبد الرءوف والصاغ محمود لبيب عام 1944 وتوقف عام 1948 بسبب حرب فلسطين، وضم إليه عناصر أخرى من غير تنظيم الضباط الإخوان، وخاصة الضباط الذين حوصروا في الفالوجا مستغلاً حالة المرارة التي خلفتها الهزيمة والحصار في نفوسهم وغيرهم من الضباط ممن يلمس فيهم الشجاعة والكتمان.
.. وهو ما يعني أن تنظيم الضباط الأحرار تكوّن في غالبه في رحم النظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين.*( 5 )، وكان أغلبهم أيضا أعضاء في الحرس الحديدي؛ حتى أن عبد المنعم عبد الرءوف منشئ جناح الإخوان داخل الجيش كان شخصية محيرة وشديدة الغموض، فقد كان وثيق الصلة بالإخوان، وثيق الصلة بعبد الناصر ووثيق الصلة بعزيز المصري (عضو المحفل الماسوني)، وهو همزة الوصل مع القصر الملكي وتحديدًا يوسف رشاد.
.. واستطاع عبد الناصر أن يجتذب إليه عبد الرحمن السندي رئيس الجهاز السرى، والذي كان على خلاف مع حسن الهضيبي والشيخ سيد سابق منشئ الجهاز السري؛ واستطاع السندي أن يستقطب عددًا من الإخوان من أعضاء مكتب الإرشاد ومن الجهاز السري ومن الشعب لصالح عبد الناصر، وبذلك ضمن تأييد عبد الناصر النظام السري المدني للإخوان وأحكم قبضته عليه بعد أن توطدت أواصر الصداقة والثقة بين السندي وعبد الناصر فهم بلديات، فالسندي أسيوطي من «بني فهد» وعبد الناصر أسيوطي من «بني مر». . ولذلك لم يعتقل عبد الرحمن السندى في عام 1954 ولم يدخل سجون عبد الناصر الذي عينه في وظيفة كبيرة في شركة شل للبترول ومنحه فيلا فخمة مزودة بكل وسائل الراحة في مدينة الإسماعيلية.
... وكذلك كان أعوان السندي كلهم خارج السجون، بل إن عبد الناصر قد قبل وساطته فيمن طلب منه الأمان لهم من أعوانه ورجاله المقربين من أفراد الجماعة وعينهم في وظائف حكومية بمرتبات مجزية.
.. وبعد أن استنفد عبد الناصر أغراضه من السندى، صار السندي « كارت محروق » للجميع حتى توفاه الله في 29 يوليو 1962 عن واحد وأربعين عامًا في شقة بشارع سليمان جوهر بالدقي.
اختراق الجماعة:
ــــــــــــــــــــــــــــ
.. ولم يكن أمام عبد الناصر إلا استكمال اللعبة المعروفة وهي اختراق صفوف الإخوان ومحاولة تعميق التناقضات الموجودة بينهم، وتفجيرهم من الداخل، وقد أسهم في ذلك من جانب الحركة الشيخ الباقوري وصالح عشماوي وعبد الرحمن البنا شقيق حسن البنا بالتعاون مع إبراهيم الطحاوي سكرتير هيئة التحرير، وساعد في هذا تعميق التناقضات الداخلية بين الإخوان التي بلغت حد الانفصال والمواجهة وتمزيق الجماعة من الداخل، وانقسم الإخوان إلى مجموعتين تتنازعان الانتماء للجماعة وتعلن أنها الإخوان المسلمون: مجموعة الهضيبي قيادة الجماعة، ومجموعة صالح العشماوي المطرودة من الجماعة، وانقسمت مجموعة الهضيبي داخليًا إلى مجموعتين: مجموعة متطرفة بقيادة الهضيبى نفسه، ويساندها الجهاز السري، ومجموعة محمد خميس حميدة التي لا تحظى بتأييد الجهاز السري، وكان عبد الناصر يستغل بذكاء الانقسام فيضرب مجموعة صالح العشماوي المؤيدة له بالمجموعتين الأخريين ويجمع أطراف الموقف لصالحه.
وقد بلغ التناحر ذروته عندما قرر الهضيبى تصفية الجهاز السري الذي كان موجودا في عهد حسن البنا برئاسة عبد الرحمن السندي الموالي لعبد الناصر، وإنشاء جهاز سري جديد موالٍ له بقيادة يوسف طلعت، فكانت تنحية عبد الرحمن السندي هزيمة للفريق المتعاون مع عبد الناصر وانتصارا لفريق الهضيبي الموالي لفكرة الوصاية على انقلاب 23 يوليو، ولكن بعد فترة تبين أن الهضيبي يقوم بتكوين جهاز جديد آخر من أنصاره بعد أن استطاع أن يضم إليه المهندس سيد فايز وهو الرجل الثاني في التنظيم، لكن تم اغتيال المهندس السيد فايز في يوم 19 نوفمبر 1953 أي في اليوم الذي كان مقررًا أن يتسلم تفاصيل وبيانات الجهاز بواسطة صندوق من حلوى المولد مملوء ديناميت وصل إلى منزله على أنه هدية بمناسبة المولد النبوي وقتل معه شقيقه الصغير 9 سنوات وطفلة صغيرة تصادف مرورها أسفل شرفة المنزل التي سقطت نتيجة الانفجار.
وقد اتهم في قتله أفراد النظام الخاص، وحصر الاتهام في أحمد عادل كمال أحد أفراد النظام الخاص القديم وقتئذ، وهو ما كان ينذر باقتتال بين أفراد الجماعة، ولكن محمد حامد أبو النصر المرشد الرابع للإخوان كتب في مذكراته أن الذي قتل سيد فايز هو أنور السادات.
وتصاعدت وتيرة الأحداث باحتلال المركز العام واقتحام بيت المرشد بمعرفة بعض أعضاء الجماعة الموالين للسندي وبتدبير من عبد الناصر ومحاولة إجباره على الاستقالة!!
.. ولم يكن عبد الناصر بعيدًا عن هذه الأفعال التي تهدف إلى إثارة الفرقة وزرع الفتن بين أفراد الجماعة وإنهاك مرشدها قبل أن يوجه لها ضربته القاصمة.
وهو ما يجعل البعض يعتقد أن محاولة اغتيال عبد الناصر تم رصدها من البداية، وأن عبد الناصر قد رتب لهذا الأمر ترتيبًا جيدا بما لديه من قدرة على اختراق صفوف الإخوان، وأن هذا الترتيب يتفق مع عقلية جمال عبد الناصر الذي كان على علم بنوايا الإخوان وخططهم، فبادر بتنفيذها لكن بترتيبه وتحت سيطرته!!
اعترافات المتهم:
ـــــــــــــــــــــــــــ
اعترف المتهم أنه تلقى الأمر بارتكاب الجريمة من هنداوي دوير لأن اتفاقية الجلاء جريمة وطنية وأنها تعطي الإنجليز الحق في احتلال البلاد، وأنه تسلم المسدس من هنداوي، كما تسلم عشر طلقات وخمسة جنيهات من علي نويتو الذي قال له: «على بركة الله»، واعترف عبد اللطيف بأنه غادر منزله في إمبابة صباح السادس والعشرين من أكتوبر، ومر على زميله سعد حجاج المكلف الثاني بمحاولة اغتيال عبد الناصر ليصطحبه في رحلته، لكن سعد أبدى أسفه لعدم تمكنه من تجهيز سلاح، فودعه وسافر بمفرده..
.. وفي صباح اليوم التالي سلم هنداوي دوير نفسه للشرطة، وأدلى باعترافات وخطط تفصيلية تفيد أن إبراهيم الطيب المسئول عن التنظيم السري في القاهرة هو مَن أعطاه الأوامر وسلَّمه المسدس، وأكد له أن الأوامر صادرة من المرشد حسن الهضيبي ويوسف طلعت قائد النظام الخاص، واعترف باتصال الرئيس محمد نجيب بمؤامرة الإخوان على حياة جمال عبد الناصر.
تناقضات كثيرة:
ــــــــــــــــــــــــ
تناقضات كثيرة تدور حول القضية من حيثُ انعدام رد الفعل التلقائي لعبد الناصر حال إطلاق الرصاص عليه بعكس ما شاهدناه في حادث المنصة في أكتوبر 1981، وكذلك القدرة على الارتجال للخطاب.
ولم يقتصر التناقض على هذين الأمرين فقط، بل امتد إلى عدد الطلقات والسلاح المستخدم فيها وهيئة المتهم عند ارتكابها ومسافة إطلاق الرصاص.
عدد الطلقات:
ـــــــــــــــــــــ
ذكرت الصحف أن عدد الرصاصات التي أطلقت على عبد الناصر 8 رصاصات، وورد نفس العدد في أغنية أم كلثوم، لكن صلاح سالم قال في نفس ليلة الحادث في احتفال المحامين إن عدد الرصاصات عشر، وقال اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية إنها تسع من نوع «الفشنك »*( 6 )، وذكر حسن التهامي أنها ست رصاصات، وقال محمد حسنين هيكل أيضا إنها ست رصاصات*( 7 ) ، وذكرت وثائق متحف الشرطة أنها ست رصاصات!!
كما ذكرت الصحف أنه: « بتفتيش الجاني عثر في جيبه على 7 رصاصات».
.. أيا كان عدد الرصاصات التي سبق ذكرها وقيل إنها أطلقت في الحادث؛ فإن إضافتها إلى السبع رصاصات التي قيل إنها ضبطت مع الجاني، فإننا نجد أنفسنا أمام تناقض جديد لا يتفق مع ما جاء باعتراف المتهم بأنه تسلم عشر طلقات من علي نويتو!!
السلاح المستخدم:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذكرت الصحف الصادرة غداة الحادث أنه عثر في المكان الذي كان يقف فيه الجاني على أربعة أظرف فارغة من عيار 36 ملليمترا، وهي تختلف عن طلقات المسدس الذي ضبط مع المتهم، إذ إن المسدس الذي عثر عليه مع المتهم من نوع «المشط»، الذي لا يلفظ الأظرف الفارغة، وكان هذا الاختلاف بين نوع الذخيرة ونوع المسدس المضبوط كافيا لنسف القضية من أساسها!!
.. وفي 2 نوفمبر، نشرت جريدة الأهرام خبرًا يفيد أن عاملا عثر على المسدس الذي أطلق منه الجاني الرصاص على الرئيس، وذكرت الصحيفة قصة عن شاب يدعى خديوي آدم (من الأقصر ـ 23 سنة ـ ويعمل فاعلاً في صناعة البناء)، الذي عثر مصادفة على المسدس الذي أطلق منه الجاني رصاصاته الثماني الطائشة، فقد تعثرت به قدمه أثناء تدافع الجماهير، فالتقطه ووضعه في جيبه، وكان المسدس ساخنًا «لسع يديه»، والمسدس من النوع الذي إذا أطلقت جميع مقذوفاته ينفتح؛ فأدرك آدم أنه المسدس الذي استخدم في الحادث، وأنه حضر من الإسكندرية سيرًا على قدميه لمدة ستة أيام!!
.. وقد نشرت الصحيفة صورة لاستقبال عبد الناصر للمدعو خديوى آدم تنطوي بياناتها على تكذيب الخبر المنشور جملة وتفصيلاً، فقد كان من المفترض أن يبدو خديوي آدم في صورة الأشعث الأغبر رث الثياب، وعليه مظاهر الإجهاد وعناء السفر خاصة أنه كما ذكرت قطع رحلة سير على قدميه لمدة ستة أيام كان ينام فيها على قارعة الطريق، وأنه باع قفطانه ليأكل بثمنه، لكن الصورة التي نشرت في الصحف أظهرته كامل الصحة موفور العافية مشرق الوجه تبدو عليه علامات الراحة كأنه خارج لتوه من الحمام، نظيف الثياب أنيق الهندام مع أنه قابل عبد الناصر حسبما ذكرت الصحف يوم وصوله!!
.. كان السلاح الذي قيل إنه ضبط مع المتهم محمود عبد اللطيف لحظة القبض عليه من نوع (بريتا)، وقيل إن السلاح المستخدم الذي عثر عليه خديوي آدم من نوع (برابيلو)، وذكرت وثائق متحف الشرطة أن السلاح المستخدم في الجريمة من نوع (ولتر) عيار ٩ مم طويل ويحمل رقم ٥٨٩١.
.. وهو الأمر الذي يضعنا أمام تناقض ثانٍ، فأي الأسلحة الثلاثة استخدم في ارتكاب الحادث؟!!. وخاصة أنه كانت هناك نقطة هامة وخطيرة ظهرت أثناء مناقشة المتهم إبراهيم الطيب، والتي ظهرت في عدم تعرفه على الطبنجة التي عرضتها محكمة الشعب عليه، وأنكر أنها الطبنجة التي سلمها لهنداوي دوير.
...........
............
شاهد: إبراهيم الطيب
الرئيس للشاهد: هي دي الطبنجة؟!
الشاهد: أنا لم أسلمه هذه الطبنجة إطلاقًا!!
الرئيس: تشتريها بكام؟!
الشاهد: أنا متأكد يا أفندم من كلامي .»
هيئة المتهم:
ـــــــــــــــــــ
.. وعن حالة المتهم حال القبض عليه، ذكرت صحيفة الأهرام: «. . وقد عثر في المكان الذي كان يقف فيه الجاني على أربعة أظرف فارغة»، . ثم تابعت الصحيفة: وقد احتل المتهم مقعده من الساعات الأولى للاحتفال، وهو لا يبعد عن المنصة الرئيسية بأكثر من خمسة عشر مترًا ».
.. فهل كان المتهم واقفًا أم جالسًا أثناء الحفل؟!. وهل كان المتهم واقفًا أم جالسًا أثناء إطلاق الرصاص؟!
.. وعن هيئة المتهم ذكرت صحيفة الأهرام أن المتهم: « كان مرتديًا بذلة قاتمة »، وهو ما جاء مخالفًا لما ذكره هيكل في وصفه لهيئة المتهم في حواره مع المتهم بجريدة «أخبار اليوم » بعنوان (الجاني يتكلم):
«. . وكان لا يزال يرتدي نفس الملابس التي ارتكب بها جريمته! قميص أزرق مخطط بخطوط بيضاء، وقد شمر أكمام القميص.. وبنطلون ازرق اللون».
فهل كان المتهم واقفًا أثناء الحفل أم جالسًا؟ وهل كان يرتدي بذلة أم قميصا وبنطلونا؟!
وهو ما يضعنا أمام تناقض ثالث!!
مسافة إطلاق الرصاص:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أجمعت الصحف الصادرة غداة الحادث أن: « الجاني قد احتل مقعده منذ الساعات الأولى لهذا الاحتفال، وهو لا يبعد عن المنصة الرئيسية بأكثر من خمسة عشر مترًا »، وقد أكدت بعض الشهادات التي استمعت إليها هذا الكلام، وأضافت هذه الشهادات أن إطلاق الرصاص جاء من أمام مكتبة دار المعارف، وأنهم شاهدوا بأعينهم آثار الطلقات واضحة على واجهة المبنى.
.. ولكن في المقابل، وعلى الجانب الآخر نفت بعض الشهادات التي استمعت إليها أيضا هذا الافتراض، وأكدت هذه الشهادات أن إطلاق النار جاء من أمام كاتدرائية القديس مرقص، ودلل أصحاب هذه الشهادات على صحتها بأنه نظرًا للارتفاع الشاهق للمباني القديمة كان المشاهد لا يستطيع أن يرى عبد الناصر بوضوح إلا من بعد يزيد على 300 متر، وتلك المسافة تخرج عن المرمى المؤثر والفعال لإطلاق المسدس.
وهو ما يضعنا أمام تناقض رابع!!
صعوبة التصويب:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإذا ما أضفنا إلى التناقضات الأربعة السابقة صعوبة « التصويب بالمسدس» وسط الزحام، نجد أننا أمام حالة شديدة الالتباس؛ فمن بديهيات فن الرماية أن رامي المسدس لا بد وأن يقف في وضع تكون ذراعه الممسكة بالمسدس ممتدة تمامًا أمامه، ويكون رسغ ذراعه الأخرى ممسكًا بمعصم يده الحاملة للمسدس مع ثني الظهر للخلف للمحافظة على وزن ثقل الجسم وفي نفس الوقت لامتصاص رد فعل المسدس أثناء خروج الرصاص لضمان ثبات المسدس أثناء إطلاق النار، وهو وضع لا يتاح ولا يتأتى للرامي ولا يسمح له باتخاذ وضع « التنشين » بالدقة والسرعة المطلوبة في الزحام ووجود الجماهير الغفيرة من حوله والتواجد المكثف لقوات الأمن!!
شهادات لا يمكن إهمالها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما بين أيدينا من شهادات الإثبات وشهادات النفي.. يتحمل أصحابها المسئولية عنها أمام الله وأمام التاريخ؛ فنحن لا نملك حق إهدارها أو الالتفات عنها، وأيضا لا نستطيع أن نسلم بما جاء فيها لكونها غير صادرة عن شهود عيان، وتعتمد على السماع أو النقل عن آخرين من ذوي الغرض والمصلحة:
أولاً: شهادات الإثبات
شهادة عبد المنعم عبد الرءوف: يقول عبد المنعم عبد الرءوف في شهادته في كتابه « أرغمت فاروق على التنازل عن العرش » إنه هرب من السجن بعد أن أذن له المرشد حسن الهضيبي بذلك، وكانت إشارة موافقة المرشد إرسال فوطة حمراء اللون في شنطة الطعام، وأن المحامي عبد القادر عودة كان يعلم بأمر هروبه قبل حدوثه*( 9 )،. ومع ذلك حضر إلى المحكمة في موعد الجلسة ليقرر أمام هيئتها أن:«سواء كان المتهم غائبًا أم هاربًا، فأنتم مسئولون عنه، وعلى الحكومة مسئولية حمايته، ونطالبها بالبحث عنه ومثوله بيننا سالما معافى ».*( 10 )
.. ويروي في مذكراته أو اعترافاته أنه: « بعد هروبه كلفته الجماعة بوضع خطة للقيام بما أسماه «انقلاب إسلامي ». *( 11 )
ويضيف في اعترافاته: «كنت في الفترة السابقة لمحاولة الاغتيال على اتصال مباشر مع ثلاثة من المتهمين في الحادث وهم: إبراهيم الطيب وهنداوي دوير وشخص يدعى عبد اللطيف، ولست متأكدًا هل هو محمود عبد اللطيف الذي قيل إنه اعتدى على جمال عبد الناصر أم لا؟
ويروي في مذكراته أيضا أنه خلال لقاءاته مع هذه المجموعة أن هنداوي دوير كان متحمسًا جدًا لإطلاق النار على جمال عبد الناصر وأقسم له: « إن جميع العسكريين سيتفركشون عند سماعهم أول طلقة» *( 12 )
وينهي عبد الرءوف شهادته:
« إنه نظم معسكرا للتدريب على السلاح في كرداسة في ضيعة محيطة بسور عال من الأشجار، وقد ساعدت الصحراء والتلال القريبة منها على التدريب خاصة على المهارات القتالية، وأن الذي نظمه هو إبراهيم الطيب ومحمد مهدي أحد الذين اتهموا في حادث المنشية ». *( 13 )
شهادة محمد فريد عبد الخالق: يقول محمد فريد عبد الخالق (عضو مكتب الإرشاد) في شهادته: «أنا كنت عند بيت الهضيبي أتكلم معه في أمور الدعوة، وخرجت متجها إلى مسجد صلاح الدين، وهناك التقيت بهنداوي دوير، وكنت على علم إن هناك تحركا وتفكيرا عدوانيا بالنسبة لجمال عبد الناصر وكان يجاهر بالعداوة له، فكلمته من هذا المنطلق وقلت له:
« أنا يا ابني سمعت وعلمت بما تنوون فعله، وهذا كلام يخالف أوامر المرشد ويخالف منهج الإخوان المسلمين، ويخالف مصلحة الدعوة، فليتك تقول لإخوانك الذين يفكرون في مثل هذا التفكير أن يعلموا أن الاعتداء على جمال عبد الناصر خطأ بكل المقاييس».
التقطت الأجهزة الأمنية هذا الخيط واشتغلت عليه لدرجة أنهم وصلوا إلى الخلية واستخدموها واستخدموا هنداوي دوير، ولقد سمعت هنداوي بِأذني داخل القلعة بعد الحكم عليه بالإعدام وهو يتكلم بصوت مرتفع قائلاً: « مش ده اللي اتفقنا عليه »؛. لأنهم اتفقوا معه على أن يقول كل ما يعرفه ويعتبرونه شاهد ملك ويبقى في هذه الحالة أخرج نفسه من طائلة المسئولية الجنائية لكنهم أخلفوا الوعد معه وأعدموه بما قال وحتى لا يعلم أحد سره».
شهادة أحمد طعيمة:
يقول أحمد طعيمة (أمين عام هيئة التحرير) في شهادته: « لقد بلغت الجرأة بالإخوان المسلمين حد الادعاء بأن حادث المنشية إنما كان حادثا مدبرًا من رجال عبد الناصر، إن لم يكن من عبد الناصر نفسه، وهو ادعاء باطل، لأني علمت اسم محمود عبد اللطيف منفذ العملية قبل إطلاقه النار على عبد الناصر، وقد أبلغت عبد الناصر باسمه ضمن عشرة أسماء سيكلف أحدهم بمحاولة الاغتيال، وقد حصلت على هذه الأسماء من أحد أفراد عائلة سعودي الذين كانوا أعضاء في الإخوان المسلمين، فأبلغت الرئيس عبد الناصر بالأسماء العشرة ودوَّنها في مفكرته ». *( 14 )
ثانيًا: شهادات النفي
شهادة اللواء محمد نجيب:
يقول اللواء محمد نجيب (رئيس الجمهورية الأسبق) في شهادته: « مؤامرة
إطلاق النار على عبد الناصر في الإسكندرية وهمية من أولها لآخرها، وكانت مرتبة بواسطة رجل من المباحث العامة *( 15 ) كوفئ على ذلك فيما بعد بمنصب كبير، واستؤجر شاب مصاب بجنون العظمة*( 16 ) وأغرى بأنه لو اعترف بأنه حاول قتل جمال عبد الناصر فسينال مكافأة مالية ضخمة، ويسمح له بالهجرة إلى البرازيل، وقد كانت المكافأة الوحيدة التي تلقاها هي إعدامه بدلاً من تهريبه حتى يموت ويموت السر معه.*( 17 )
.. واتضح بعد ذلك أن الحائط المواجه لإطلاق النار لم يكن به أي أثر للرصاص مما يثبت أن المسدس كان محشوا برصاص « فشنك »*( 18 ).
شهادة علي نويتو:
يقول علي نويتو (من أفراد النظام الخاص) في شهادته: « محمود من أبطال الرماية، وهو هداف يصيب الهدف مليونا في المائة، لكنه لم يطلق رصاصة واحدة في المنشية لأنه تم القبض عليه من منزله في إمبابة!!. وأنا في السجن وبعد محاولات عديدة تمكنت من الاقتراب من الركن الذي تم عزله فيه وسألته عن حقيقة اعترافه على نفسه وإخوانه فقال لي:
« جابوا زوجتي، علقوها أمامي وهي حامل، وضغطوا عليَّ عشان أعترف».
شهادة محمد نجيب راغب:
« يقول محمد نجيب راغب (من أفراد النظام الخاص) في شهادته: « ذات صباح، ونحن نجري في طابور السجن، اقتربنا من الركن الذي تم عزل محمود عبد اللطيف، وعندما شاهد محمود زميله سعد حجاج ناداه قائلاً:
« يا سعد متصدقش حاجة من اللي قالوها، أنا اتخدت من محطة مصر في باب الحديد »!!
شهادة حسن التهامى:
يقول حسن التهامي (مستشار عبد الناصر) في شهادته: «مسرحية أخرجها أحد رجال المخابرات الأمريكية، فقد استأجر عبد الناصر خبيرًا أمريكيًا متخصصًا في شئون الدعاية والإعلام «لتلميع» عبد الناصر إعلاميًا، ووضع هذا الخبير خطة مفصلة من أهم بنودها:
افتعال حادث اغتيال يظهر فيه عبد الناصر رابط الجأش، جريئًا، لا يخاف.. وانطلقت الرصاصات بعدها بقليل.. ولم يتحرك عبد الناصر من مكانه!! ولم تصبه رصاصة واحدة من هذه الرصاصات الست،. وظل عبد الناصر يقول بصوت عالٍ: أنا الذي صنعت فيكم العزة.. أنا الذي صنعت فيكم الكرامة.. ولم يتحرك، ولم يرقد، ولم يتفادَ الرصاص، وأكمل الخطبة، ولم يهتز..*( 19، 20)
شهادة د. محمود جامع:
يقول د. محمود جامع (مستشار الرئيس السادات) في شهادته:« إن محمود عبد اللطيف بات في ليلة الحادث في قرية أم صابر (إحدى قرى مديرية التحرير) عند مجدي حسنين عضو تنظيم الضباط الأحرار وصديق عبد الناصر، ورافقه ثلاثة كانوا يحرسونه وهم المهندس علي وصفي، والمهندس عمر عبد العزيز شقيق حسن عبد العزيز ضابط المخابرات العامة في ذلك الوقت والمهندس توفيق كرارة الذي عين وزيرًا لاستصلاح الأراضي فيما بعد وكانوا مسئولين عن أن يوصلوه الإسكندرية، وقد أعطوه المسدس المحشو فشنك وأعطوه مبلغا من المال لمصروفات المبيت، والعجيب أنهم كانوا يجلسون حوله في السرادق المقام بالمنشية أثناء الحادث وإطلاق النار».
.. وبمناقشة د. محمود جامع في شهادته لم يقدم دليلاً عليها، خاصة وأن شهادة المعلم رزق الله تدحضها تماما (صاحب لوكاندة دار السعادة بميدان محطة مصر التي نزل بها محمود عبد اللطيف ظهر يوم الحادث)!!
شهادة د. عبد العزيز كامل:
يقول د. عبد العزيز كامل (عضو مكتب الإرشاد آنذاك ووزير الأوقاف الأسبق) في شهادته: «سمعت أن هنداوي عندما صدر الأمر عليه بالإعدام، أخذ يصرخ في الزنزانة في سجن 3، وهو يقول: خدعوني.. خدعوني.. وأن عبد القادر عودة أخذ يضرب الزنزانة حتى فتحوا له وهو يصرخ:
« اسمعوا يا إخوان أهو بيعترف إنه مدبرها مع الحكومة.. أنا برئ والإخوان أبرياء ».
.. ووصل الخبر إلى القائد حمزة البسيوني عن طريق الشاويش محمود عبد المجيد، فأمر بنقل هنداوي وعبد القادر فورًا من سجن 3، حتى نفذ فيهما حكم الإعدام. *( 21 )
شهادة عبد المتعال الجبري:
يقول د. عبد المتعال الجبري (كاتب): «هنالك صور لمحمود عبد اللطيف وبجواره الذين اعتقلوه في بيته صباحًا ثم ذهبوا به إلى الإسكندرية في المساء حيثُ أجريت التمثيلية ».
شهادة علي عشماوي:
يقول د. علي عشماوي (آخر قادة النظام الخاص) في شهادته: « إنه تصرف فردي قامت به مجموعة ذهبت بها الحماسة إلى آخر المدى، ولم تعد قادرة على الانتظار أو التحكم مع «الشحن» المستمر ووجود السلاح بين أيديهم، فلم ينتظروا أمرًا ولا خطة ».
سر اختفاء المرشد:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اختلف الإخوان حول سبب اختفاء المرشد، فأرجعه البعض إلى وصول معلومات مؤكدة بأن عبد الناصر يدبر لاغتياله فأخفوه في مكان مجهول، وظل يدير الجماعة من مخبئه في الإسكندرية، بينما يرى البعض أن المرشد فقد سيطرته على الجماعة، ولذلك آثر الاختفاء حتى لا يتحمل المسئولية عن أفعالها، وخاصة أن بعض شباب الجماعة المنفلت راح يفكر في اغتيال عبد الناصر باعتباره في نظرهم المارق.. ناقض البيعة.. عدو الإسلام.
مكان اختفاء المرشد:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اختفى المرشد في فيلا مدام بليللي رقم 14 شارع سنت جيني بمصطفى باشا بالإسكندرية، وقد استطاع البوليس معرفة ذلك من ورقة ضبطت بحوذة صلاح شادي مدون بها بعض أرقام التليفونات، ولما سئل عن أصحاب هذه التليفونات أجاب إجابات مبهمة، لكن المحققين لاحظوا أن هناك رقمًا مشطوبًا بالقلم الحبر بطريقة تدل على الرغبة في إخفاء معالمه، مما كان السبب في إثارة الشك حول هذا الرقم، وبالفحص الفني الدقيق أمكن معرفة أول رقم من اليمين وهو 2 ورقم من اليسار وهو رقم 7، أما باقي الأرقام فكانت غير واضحة، وبعد مراجعة كثير من الأرقام التي يدخل في طرفيها هذان الرقمان أمكن التوصل إلى معرفة رقم تليفون الفيلا التي يختبئ فيها الهضيبي، حيثُ قبض عليه.
وقد ذكرت مدام بليللي أنه في 15 سبتمبر 1954 حضر إليها شابان وطلبا استئجار الفيلا باسم الدكتور حسن صبري (اسم مستعار) وأفهماها أن الدكتور قد عين حديثًا في جامعة الإسكندرية وانصرفا بعد أن دفعا لها 52 جنيها مقدم إيجار عن شهرين.
أكبر حملة اعتقالات في التاريخ:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في نفس الليلة التي أطلق الرصاص على عبد الناصر، صدرت الأوامر باعتقال الإخوان المسلمين، وبدأت أكبر حملة اعتقال شهدتها مصر على مدى تاريخها.. حتى وصل الأمر إلى حد إعطاء المعتقلين بطاقات يسجلون فيها أسماءهم وعناوينهم لتدون في كشوف سليمة، وقد وصل عدد المعتقلين إلى عشرين ألفًا.
عودة يعرض المصالحة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في يوم 28 أكتوبر وبعد الحادث بيومين وجه عبد القادر خطابًا إلى عبد الناصر يحـمل أسس اتفـاق مع الإخــوان ودعـــاه فيه إلى المصـالحة بقوله : «. . وأحب أن أطمئن أن حادث المنشية لا يكون عقبة في سبيل ما دعوت إليه من التسامح ».
ثم شرع في طرح أسس المصالحة المقترحة والتي لا تخرج عن الاستسلام التام لمطالب عبد الناصر السابقة، لكن عبد الناصر أشر على المقترحات بعبارة واحدة تقول: « خدعة جديدة ».
عزل هنداوي وعبد اللطيف:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. بعكس ما لاقاه سائر المتهمين في حادث المنشية من أنواع العذاب وصنوف الهوان، كان محمود عبد اللطيف وهنداوي دوير منذ أن قبض عليهما حتى انتهت محاكمتهما مسجونين كأنهما في معسكر ترفيهي فقد تم عزلهما في ركن بجوار حديقة ونافورة بإدارة البوليس الحربي مع تقديم المشروبات والسجائر والسماح لهما بارتداء الملابس المدنية المغسولة والتي تم كيِّها بالخارج.. ولم تطبق عليهما لائحة السجن الحربي التي تقضي بحلق شعرهما وهو إجراء معمول به لأسباب صحية.
.. وعندما قررت محكمة الشعب حجز قضيتهما للحكم نقلا إلى السجن الحربي ليقضيا في إحدى زنزاناته الأيام الباقية حتى صدور الحكم.
.. وفي السجن الحربي يقضي يومه هكذا: يستيقظ في السادسة صباحًا ويتوجه تحت الحراسة إلى دورة المياه للاغتسال، ثم يعود إلى زنزانته ليتولى ترتيب أثاثها القليل ثم يبقى في داخلها حتى الثامنة حيثُ يخرج إلى ساحة السجن ليشترك في طابور الرياضة الصباحي، ثم يعود إلى الزنزانة لتناول فطوره الذي يتضمن الفول المدمس والعدس.. وفي التاسعة ينضم إلى باقي المساجين في طابور التمام ثم يعود إلى زنزانته حتى الحادية عشرة؛ ليخرج مع حارسه في النزهة الصباحية لمدة ساعة كاملة، وعند الظهر تماما يتوجه إلى قائد السجن ليطلع على الصحف، ويحدث القائد بما لديه من شكاوى وطلبات ويعود إلى الزنزانة فيتناول غداءه ويستريح، وفي الساعة الرابعة يخرج مرة ثانية في النزهة المسائية لمدة ساعة، وفي السادسة يتناول العشاء، ويبقى في الزنزانة حتى الصباح.
المحاكمة:
ــــــــــــــــ
في 1 نوفمبر 1954 شكل مجلس قيادة انقلاب يوليو محكمة خاصة باسم (محكمة الشعب) برئاسة جمال سالم وعضوية كل من أنور السادات وحسين الشافع.. فكانت رابع نوع من المحاكم الاستثنائية تشكلها قيادة الانقلاب بعد المجالس العسكرية ومحكمة الغدر ومحكمة الثورة.
هزلية المحـاكمة..
وقصور التحقيقات:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
افتقدت جلسات المحاكمة مهابة مجلس القضاء، فكانت أقرب إلى جلسات الهزل، وكان القاسم المشترك فيها سلاطة لسان جمال سالم التي لم تخلُ من إسفاف، وكانت التحقيقات مع المتهمين قد شابها القصور الواضح؛ فقد خلت الأوراق من شهادات مأموري الضبط من ضباط البوليس والمخابرات الذين قبضوا على محمود عبد اللطيف، وكذلك خلت الأوراق من شهادة كل من الميرغني حمزة وأحمد بدرالدين المصابين في الحادث والتقارير الطبية الخاصة بإصابتيهما، ولم يمثل خديوي آدم (الرجل اللغز) أمام المحكمة للإدلاء بشهادته ومناقشته فيها!!
.. كما خلت الأوراق من شهادة الشاهد الوحيد في القضية ويدعى حبيب محمد حبيب وهو فراش في مديرية التحرير، إذ كان أول من ألقى نفسه على المتهم محمود عبد اللطيف وشل حركته وقبض عليه وبحوزته المسدس الأول ماركة بريتا!!
وقد دفع عبد القادر عودة ببطلان قرار إحالته للمحاكمة؛ لأنه لم يحقق معه بمعرفة النيابة، فرد عليه جمال سالم:
ـ باسم القانون.
فأجابه عبد القادر عودة ساخرًا:
ـ «يبدو إنك بتفهم في القانون، زي أنا ما بفهم في تصليح الطائرات!!».
.. وفي أثناء دفاع إبراهيم الطيب عن نفسه، يسأله جمال سالم:
ـ أنا عايز أفهم مين عملك محامي؟!!
فيرد إبراهيم الطيب:
ـ اللي عملني محامي دراستي ومؤهلي، لكن أنا عايز أفهم أنت مين عملك قاضي؟!!
الأحكام:
ـــــــــــــ
في 4/ 12 / 1954 أعلنت محكمة الشعب حكمها الأول بحق قيادات الإخوان المسلمين، وقد تضمن الحكم إعدام حسن الهضيبي (مستشار سابق)، ومحمود عبد اللطيف (سمكرى) وهنداوي دوير(محام)، وعبد القادر عودة (محام) ومحمد فرغلي (واعظ) ويوسف طلعت (نجار مسلح) وإبراهيم الطيب (محام).
.. والحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة على سبعة هم: خميس حميدة وكمال خليفة وعبد العزيز عطية وحسين كمال الدين وصالح أبو رقيق ومنير الدلة وحامد أبو النصر.
.. والحكم بالأشغال الشاقة خمسة عشر عاما على كل من: عمر التلمساني وسيد قطب وأحمد شريت وحسن دوح.
وقد أودع الآلاف من الإخوان في المعتقلات بدون محاكمات أو اتهامات محددة.
وبعد النطق بالأحكام طلب عبد الناصر تخفيف أحكام الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، ولكن جمال سالم اعترض على ذلك بشدة وصلت إلى حد إشهار مسدسه في وجه عبد الناصر بدعوى أنه أصدر أحكام الإعدام بمعرفة مجلس قيادة الثورة، وأن اعتراض عبد الناصر عليها سوف يظهره وكأنه أصدر هذه الأحكام من تلقاء نفسه وبالتالي سوف يجعله عرضة للاغتيال فتراجع عبد الناصر وأقر تنفيذ أحكام الإعدام باستثناء حسن الهضيبى الذي استبدل الحكم بإعدامه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
رفض التماس
أســرة عودة:
ــــــــــــــــــــــ
.. ومساء يوم صدور الحكم ذهبت زوجة عبد القادر عودة وأفراد من أسرته إلى مقر قيادة حركة الجيش لتقديم التماس بإعادة المحاكمة أو تخفيف الحكم، لكن عبد الناصر أشر على الالتماس بعبارة واحدة تقول: « رفض الالتماس والمقابلة ».
المسئولية السياسية
لقيادة الإخوان عن الحادث:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقيت مسئولية القيادة السياسية للإخوان عن الحادث، فمجريات الأحداث كلها تؤكد أن القيادة لم تكن قائمة من الناحية الفعلية تحت تأثير الضربات الموجعة التي وجهها إليها الموالون لعبد الناصر، وما أسفر عن هذه الضربات من تناحر وانشقاقات، وقد ذكر ذلك هنداوي دوير في شهادته أثناء المحاكمة:
« أنه كان على أثر الخلاف الشديد الذي وقع في الهيئة التأسيسية أن فقدت احترامها في نفوس الإخوان، كما فقد مكتب الإرشاد احترامه أيضا؛ لأنه لم يستطع أن يقوم بمهمته في توجيه الإخوان، حتى أصبحت التعليمات التي تصدر منه لا تلقى تأييد الإخوان.. وفي هذه الفترة وجدنا أن الأجهزة الإدارية أصبحت كلها معطلة فيما عدا الجهاز السري الذي أصبح يسيطر على الموقف ويصدر التعليمات إلى الإخوان ».
.. ويؤكد علي عشماوي أن الهضيبي كان يكره العنف والقتل:
« كان أول ما فعله الهضيبي أنهم طلبوا إليه أن تلتقط بعض الصور التذكارية مع أفراد النظام الخاص المفرج عنهم في قضية السيارة الجيب بعد عودة الجماعة من الحل فقال: أنا لا أقف بين سفاحين وقتلة ».
بلاغان عن الجريمة
.. ودلالــة واحــــــدة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. هنا يجب أن نتوقف طويلاً عند روايتين عن إبلاغ عن الجريمة قبل وقوعها فقد روى د . محمود جامع أنه : « بعد أن قام هنداوي دوير بتدبير خطة اغتيال عبد الناصر بوساطة محمود عبد اللطيف ذهب إلى شقة جاره الدكتور عبد العزيز كامل الذي يقطن في العمارة نفسها بامبابة، وأخبره بالخطة فانزعج عبد العزيز كامل وحاول الاتصال بالمرشد الهضيبي، وفشل في ذلك لاختفاء المرشد في مكان سري بالإسكندرية، ولخطورة الموضوع الشديدة في تقدير عبد العزيز كامل، ولمرور الوقت سريعًا خشي من مضاعفاته على الجميع.. فذهب إلى عبد الناصر وأخبره بالقصة كاملة وطلب منه سرعة احتواء الأزمة.*( 22 )
كما روى أحمد طعيمة أنه علم بالجريمة قبل وقوعها، وأخطر عبد الناصر بذلك.
وهنا يثار السؤال: هل علم عبد الناصر من عبد العزيز كامل، أم من أحمد طعيمة، أم علم منهما معًا؟!
.. لكن تبقى أهمية الدلالة التى يمكن استنباطها من كلتا الروايتين، وهى أن عبد الناصر علم بالجريمة ورصد مدبرها وتركهم يمضون فى استكمالها تحت سيطرة رجال البوليس والمخابرات الحربية، وهو أيضا ما يفسر انعدام ردود الأفعال التلقائية منه، .. ويفسر لنا التناقضات الكثيرة نتيجة تدخلات عفوية لم تكن تدري بما يتم تدبيره بالخفاء .
***
.. أيًا كانت الحقيقة في حادث المنشية.. فلم يكن هناك أدنى مبرر للتنكيل بالمتهمين، والحكم على سبعة منهم بالإعدام، فالجريمة لا تزيد في قيدها ووصفها عن كونها جريمة شروع في قتل شخص سواء كان هذا الشخص هو عبد الناصر أو غيره من آحاد الناس، ولسبب ما خارج عن إرادة الجاني لم تتم الجريمة، ولم يصب الشخص الذي استهدفه الجاني بسوء، وهي جريمة عقوبتها في قانون العقوبات السجن لمدة تتراوح مابين 3 إلى 25 سنة حسب ظروف كل قضية، ووفقًا لما تبني عليه المحكمة عقيدتها فيما تقضي به.
.. وأيًا كانت الجريمة، فهذا لا يبرر للدولة خرق القانون واللجوء إلى أساليب غير قانونية في التعامل مع المتهمين، وانتهاك آدميتهم، وإحالتهم إلى محاكم استثنائية افتقدوا فيها أبسط الضمانات، والحقوق في محاكمة عادلة؛ ففي الأربعينيات تم اغتيال اثنين من رؤساء الوزارات هما أحمد ماهر باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا* ( 23 )، ولم يمثُل من قتلوهما أمام محاكم استثنائية، لكن ضباط انقلاب 23 يوليو 1952 أرادوا بهذه المحاكم الاستثنائية التي توالى انعقادها تحت مسميات مختلفة وفي ظروف مختلفة توصيل رسائل بحروف من الدم إلى شعب مصر!!
محمود عبد اللطيف .. عذبوه بوحشية
حتى نالوا منه ما أردوا.. وغدروا به !!
محمود عبد اللطيف اعترف بكل ما لقنوه له
مقابل وعد بأن يخرجوه من القضية مثل
" الشعرة من العجين".. فجلس يستمتع بشمس
الشتاء في حديقة السجن الحربى، ثم أعدموه !!
تركوه يلهو بماء النافورة فى السجن الحربى حتى
لحظة النطق بحكم الإعدام .. وراح وسره معه !!
للمزيد من التفاصيل راجع كتاب " صناعة الكذب " :