الصفحات

الثلاثاء، نوفمبر 19، 2019

ياسر بكر يكتب : الأشراف .. والبيرق النبوي ..وزفة الدوسة !!( الحلقة الرابعة)



ياسر بكر يكتب : الأشراف .. والبيرق النبوي ..وزفة الدوسة !!

( الحلقة الرابعة)

عمر مكرم



 .. ولم يكن الأشراف من نسل السيدة فاطمة الزهراء أفضل حالاً من شيوخ الأزهر ومن الأقباط ومن أكابر الأعيان؛ فالجميع خان وباع وفرط وقايض على مصالح الوطن بمصالحه الخاصة، وعلى غير ما يدعيه كتاب المدرسة الوطنية في الكتابة والتأريخ لم يكن عمر مكرم نقيب الأشراف سوى بهلوان سياسى يجيد الإدعاء والتهريج والتدليس وسوس الزعران والحرافيش والجعيدية لدعم نظام الحكم القائم على أيدي المماليك .. يحتمي بهم ويجني المكاسب من ورائهم ولم يكن له دور في الكفاح الوطني أو مقاومة المحتل، ولما انكسرت شوكة المماليك، وتوالت هزائمهم، وهربت فلولهم إلى الصعيد وعلى رأسهم مراد باشا الذي كان يقسم برأس أجداده (رغم أنه يعرف أنه مجهول النسب) أنه سيسحق الفرنسيين كما يكسر حبات الفستق، أما شريكه في الحكم ابراهيم بك فقد جمع غلمانه ومماليكه وجواريه ومعهم الوالي العثماني وأطلق ساقيه للريح نحو سوريا، وتركوا الشعب المصري وحده يواجه مصيره، وعم الذعر والفساد المحروسة وسيطرت عليها الفوضى ولم تتوقف أعمال السلب والنهب فيها يقول الجبرتي :"كانت ليلة وصباحها في غاية الشناعة .. جرى فيها مالم يتفق مثله في مصر ولا سمعنا بما شابه بعضة في تاريخ المتقدمين"، دخل المشايخ إلى المساجد والزوايا وراحوا يبتهلون إلى الله بالنصر .. والناس حاربت بالصياح والجلبة على حد قول الجبرتي ولم يفكروا في السلاح وكل ما فعلوه هو رفع الأصوات بقولهم يا رب ويا لطيف ويا قوي، ولم يسمعوا صوت العقلاء منهم الذين طالبوهم بالكف عن النباح والجعير وإعلان الجهاد لكن كانت العين بصيرة واليد قصيرة!!

.. وشعر المصريون بالفجيعة  بعد أن اتضح لهم عجز البهلوان المهرج الفاضح عن الدفاع عن البلاد أو توفير الأمن لهم .. وعندما اقترب الفرنسيون من القاهرة عام 1798 تولى عمر مكرم حشد الجماهير للقتل بطلقات البارود الفرنسي، وفي هذا الصدد يقول الجبرتي:

 "وصعد السيد عمر مكرم أفندي نقيب الأشراف إلى القلعة فأنزل منها بيرقاً كبيراً أسمته العامة البيرق النبوي فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وأمامه ألوف من العامة ." .

وعندما سقطت القاهرة بأيدي الفرنسيين، عرضوا على البهلوان عاشق الخرافة عضوية الديوان الأول إلا أنه رفض ذلك وقرر الرحيل عن القاهرة واتجه إلى بلبيس، وأثار بعض  المناوشات حفاظاً لماء الوجه، وبعد هزيمة الصالحية في أغسطس 1798م ارتحل إلى العريش، ومنها إلى غزة .

.. ولما فر عمر مكرم هارباً خارج البلاد، توجه الشيخ خليل البكري إلى نابليون وأخبره بأن نقابة الأشراف اغتصبت من البكرية على يد عمر مكرم، وهو الأحق بها بحكم أنه شقيق النقيب الأسبق، فأصدر نابليون قراراً بتعيينه نقيباً للأشراف، لكن ما ذكره لنابليون كان نصف الحقيقة فقط أما نصفها الأخر؛ أن أسرته والأعيان كانوا يرون أنه لا يصلح للمشيخة أو النقابة لما فيه من الرعونة وارتكابه أمورا غير لائقة، على ما يذكر الجبرتي: " كما عرف عنه ولعه الشديد بالغلمان." ، وعينه نابليون نقيباً للأشراف،  وما لبث البكري بعد تعيينه أن أخذ الوقف من النقابة، وسكن أفخر المنازل، وانحاز تماما للفرنسيين، وصار له ود مع الفرنسيين لدرجة أنه كان من أكابر الديوان، وواصل تقديم الهدايا إلى الفرنسيين، وفتح لهم بيته ليترددوا عليه وقضاء السهرات به وشرب الخمر والاستمتاع برقص الجواري، ولم يكن يهتم بأن يواري ذلك عن الشعب!!، وبدأ أهل المحروسة يرددون أن الدنس طال أعتاب بيت الشيخ، وبلغ فراشه، وأن هناك علاقة بين نابليون وابنة الشيخ الشابة زينب البكرية  

"زفة الدوسة ":
ـــــــــــــــــــــــ

كان أحد مظاهر سيادة الأشراف على العامة "زفة الدوسة"، .. يحكي "إدوارد لين" في كتابه بعنوان :"المصريون المحدثون شمائلهم وطبائعم في القرن التاسع عشر" عن طقس "الدوسة" الغريب الذي ميز زفة المولد النبوي لعقود، حيث كان شيخ الطريقة السعدية يمر بحصانه فوق أجساد دراويش الطريقة المنطرحين أرضا، و هم يرددون أذكارا و أورادا خاصة. و كانوا يعتبرون مرور "الدوسة" دون أن يتألم أحدهم أو يصاب بأذى من الكرامات وبركة المولد، وقد تم منع "الدوسة" مع غيرها من الطقوس العنيفة الأخرى في عهد الخديوي توفيق. ويرجح ج. م. مكفرسون في كتابه بعنوان:"الموالد في مصر" أن المنع تم بعد اعتراضات من زائر أوروبي!!
كانت "زفة الدوسة" تبدأ بذهاب الشيخ محمد المنزلاوي شيخ الدراويش السعدية وخطيب مسجد الحسين راكباً إلى منزل الشيخ البكري الذي يرأس جميع طوائف الدراويش في مصر، ويقع منزل الشيخ البكري في الجزء الجنوبي من بركة الأزبكية، وفي طريقه من المسجد إلى منزل الشيخ البكري كانت تنضم إليه طوائف عديدة من الدراويش السعدية، من أحياء متفرقة من العاصمة، وأهل كل حي منهم يحملون علمين، والشيخ محمد المنزلاوي رجل مسن، أشيب اللحية، لطيف المحيا، تلوح عليه مخايل الذكاء، وكان يرتدي في ذلك اليوم "بنش" أبيض اللون، وفوق رأسه قاوون "قلنسوة بيضاء"، تلتف حوله عمامة من قماش زيتوني قاتم، يكاد يبدو أسود اللون، وفي الجزء الأمامي منها شريط من الشاش الأبيض، قد رُبط ربطاً مائلاً ويركب جواداً متوسط الارتفاع والوزن، وأنا أذكر وزن الحصان لسبب يتعلق بـ "زفة الدوسة".

وعندما يدخل الشيخ بركة الأزبكية، يسبقه موكب هائل من الدراويش الذين ينتمون إلى طائفته، ثم يتوقف الموكب على مسافة قصيرة من بيت الشيخ البكري، ويظهر عدداً كبيراً من الدراويش وغيرهم يبلغون الستين أو ضعف هذا العدد، قد أخذوا يلقون أنفسهم على الأرض، الواحد إلى جانب الآخر متلاصقين .. ظهورهم إلى أعلى وأرجهلم ممددة، وأذرعهم منثنية تحت جباههم وكلهم يرددون بلا انقطاع كلمة "الله"، ثم يأخذ نحو اثني عشر درويشاً أو أكثر، وقد خلعوا نعالهم يجرون فوق ظهور زملائهم المنبطحين على وجوههم، وبعضهم يضرب على الباز "طبلة صغيرة"، وهم يصيحون قائلين: "الله ".

ثم يقترب الشيخ، ويتردد الجواد بضع دقائق، ويحجم عن أن يطأ أول رجل منبطح أمامه. فأخذ الدراويش يدفعونه ويستحثونه من خلفه، حتى يطيع في النهاية، ويأخذ في غير خوف ولا وجل يمشي فوق ظهورهم جميعاً مشية الرهوان في خطوة قوية يقوده رجلان كانا يجريان فوق المنبطحين من الرجال ويدوس أحدهما فوق الأقدام والآخر فوق الرؤوس. وانطلق المتفرجون في صيحة طويلة يقولون: الله .. لا لا لا لا لاه. ولم يصب أحد المنبطحين بأذى فكان كل منهم يهب واقفاً بمجرد أن يمر فوقه الجواد، ثم يسير وراء الشيخ.. وكان كل رجل من المنبطحين يتلقى من الجواد وطأتين، واحدة من إحدى رجليه الأماميتين، والأخرى من إحدى رجليه الخلفيتين.



ويُقال إن الشيخ وهؤلاء الرجال "يستعملون أسماء" أي يرددون أدعية وابتهالات في اليوم السابق للدوسة، حتى يستطيعوا أن يتحملوا وطأ الجواد دون أن يصابوا بأذى.. ولذلك يُقال: إن بعض الناس ممن لم يعدوا أنفسهم ذلك الإعداد، يخاطرون بالاشتراك في الدوسة..  ومثل هؤلاء يُقضي عليهم ويصابوا بإصابات بالغة في أكثر من حادثة، .. ويقال: إن هذا العمل إنما هو معجزة، قد وهبها الله لكل شيخ من مشايخ السعدية على التعاقب.

 ويؤكد بعض الناس أن الجواد تُخلع عنه حدوتة قبل قيامه بالدوسة، وبعد أن يتم الشيخ هذا العمل الخارق، دون أن يصاب شخص واحد بأذى، يعَبَرَ بجواده الحديقة، ويدخل منزل الشيخ البكري لا يصحبه سوى عدد صغير من الدراويش، ويترجَّل ثم يجلس فوق سجادة قد فرشت بحذاء الحائط الخلفي للتختبوش الذي يقع في فناء الدار، يجلس وقد انحنى ظهره، وقد أرتسم اليأس على محياه والدموع تترقرق في مآقيه، وهو لا يفتأ يُتمْتِم بالتسبيح والدعاء، وجلس معه ثمانية رجال.. أما الدراويش الذين جاءوا معه، والذين يبلغون العشرين عدداً، فقد وقفوا أمامه على شكل نصف دائرة فوق حصير قد فُرِش لهم، ووقف حولهم خمسون أو ستون رجلاً، ويتقدم منه ستة من الدراويش، وقد ابتعدوا عن نصف الدائرة نحو خطوتين، ثم بدأوا في الذكر، وأخذوا جميعاً يصيحون في وقت واحد قائلين: الله حي .. ويضرب كل منهم عند صيحته تلك بسير قصير من الجلد على الباز الذي يمسكه بيده اليسرى من عقدة في أسفله، ويظلوا يفعلون ذلك بضع دقائق، ثم يبدأ الدراويش كلهم الذين يقفون في نصف الدائرة في ذكر جديد فيصيح، كل "ذكّير" على التوالي قائلاً: الله حي.. ويرد الباقون قائلين: يا حي.. وعند كل صيحة يتمايلون مرة ذات اليمين وأخرى ذات الشمال، ويأخذوا في فعل ذلك بضع دقائق ثم تتغير الصيحة فيأخذ كل منهم يقول على التوالي: دايم.. فيرد الذكيرة: يا دايم.. ثم يتوقف الذكر، ويأخذ أحد الناس يتلو بعض آيات من القرآن، ثم يستؤنف الذكر من جديد، ويظل ما يقرب من ربع الساعة، ثم يأخذ معظم الحاضرين من الدراويش يقبلون يد الشيخ ويصعد الشيخ بعد ذلك إلى الطابق العلوي.

***

وبعد رحيل الحملة الفرنسية عاد عمر مكرم إلى مصر ليمارس خزعبلات "البيرق النبوي" و"زفة الدوسة" ويغزل خيوط الدجل وقصص الكفاح المزعوم والفخار الوطني الزائف مع غيره من وجوه المماليك القديمة إلا أن المصريين سخروا منه وعاقبوه بما يستحق؛ فلم يختاروه حاكماً للبلاد بعد أن اختبروه في ساعة المحنة وفي موقف الدفاع عنها فخذلهم، ولأنهم رأوا ان الحاكم الأجنبي يستطيع أن يوفر لهم الحماية ويزود عن البلاد، وظلت عقدة "أفضلية الأجنبي" راسخة في نفوس المصريين إلى يومنا هذا؛ فهو الأفضل في الطب والمنتجات المعيشية وتحكيم الكرة وتدريب الفرق الرياضية !!

وعندما نبحث في تاريخ الجبرتي عن سر ابعاد عمر مكرم عن الحكم لا نجد جواباً واضحاً، رغم أن الجبرتي كان شاهد عيان على العصر كله !! 

لمزيد من المعلومات اقرأ : 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق