الصفحات

الخميس، نوفمبر 21، 2019

ياسر بكر يكتب :"مقصوفة الرقبة" .. زينب البكرية !! ( الحلقة الخامسة)


ياسر بكر يكتب :"مقصوفة الرقبة" .. زينب البكرية !!

( الحلقة الخامسة)

زينب البكرية بريشة أحد رسامي الحملة الفرنسية .


.. وعندما ثارت القاهرة على الفرنسيين كان نصيب خليل البكري من المهانة وافراً حيث هاجمه أناس كثيرون وصفهم الجبرتي بـ "المتهورين من العامة"، فنهبوا منزله وهتكوا حرمة منزله وعَرَّوا البكري من ملابسه واعتدوا على حريمه وسحبوه بينهم مكشوف الرأس من الأزبكية إلى وكالة ذي الفقار بالجمالية فشفع فيه الحاضرون وأطلقوه بعد أن أشرف على الهلاك، وأخذه الخواجا أحمد ابن محرم إلى داره وأسكن روعه وألبسه ثيابًا وأكرمه وبقي بداره إلى أن انقضت أيام الهوجة بانتصار الفرنسيين وعندها ذهب إليهم وشكا لهم ما حل به بسبب موالاته لهم فعرضوا عليه ما نهب ورجع إلى الحالة التي كان عليها معهم وكانت داره أخربها النهابون فسكن ببيت البارودي بباب الخلق ثم انتقل منه إلى بيت عبد الرحمن كتخدا القازدغلي بحارة عابدين وجددها.
وفي أغسطس من عام 1801م أعلنت الحملة الفرنسية رسمياً ترك مصر وحكمها، وتقرر خروج عساكرهم في آخر الشهر. 

.. وكان قدر الشيخ البكري مأساوياً؛ فقد اجتمع ممثل من الدولة العثمانية وواليها على مصر محمد خسرو باشا وبعض من المشايخ لمحاكمة الشيخ البكري وخلعه من مناصبه بتهم عديدة كان أخطرها "سفور ابنته التي لم تتجاوز السادسة عشر عام"

ساق الجبرتي وقائع المحاكمة حيث قال :

"وفي يوم الثلاثاء رابع عشرينه ـ أي في 24 ربيع الأول سنة 1216 هجرية، الموافق 4 أغسطس سنة 1801 ميلادية ـ طُلِبَت ابنة الشيخ البكري وكانت ممن تبرج مع الفرنسيس بمعينين من طرف الوزير فحضروا إلى دار أمها بالجودرية بعد المغرب وأحضروها ووالدها فسألوها عما كانت تفعله؛ فقالت: "إني تبت من ذلك"؛ فقالوا لوالدها: "ما تقول أنت؟!"؛ فقال: "أقول إني بريء منها فكسروا رقبتها"..

وحملت التهم وجود علاقة مؤثمة قامت بين زينب و نابليون بسبب قرب أبيها منه، ولتبرجها تأثراً بالحملة، لأن التبرج لم يكن يستدعي القتل، فضلا عن أن المحاكمة في ذلك اليوم كانت للنسوة التي فجرن، وبعد محاكمة ابنة البكري كانت محاكمة المرأة المسلمة التي تسمى هوى التي كانت تزوجت نقولا القبطان وهربت بعد الحملة، وقضت المحكمة بقتلهن .

فيما حوكم الشيخ خليل البكري بتهمة اقتناء الغلمان، حيث كان لديه مملوك جميل اشتراه وشغف به، فقرروا انتزاعه منه، وجاء تاجر الرقيق وقال أن خليل أخذ المملوك غصبا، فأبطلت الصفقة وعاد المملوك إلى التاجر، وأبطلت بذلك شهادة العتق التي كان قد حررها له الشيخ خليل.

 وعاش خليل البكري بعدها وحيدا منزويا بعيدا عن الأضواء، ومات في عصر محمد علي دون أن يشعر به أحد.

حكاية " مقصوفة الرقبة" :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعد أن استقر الأمر لنابليون في مصر، قدم له حراسه ست فتيات مصريات، وجدهن بدينات، تفوح من عرقهن رائحة مشروب "الحلبة"، حيث كانت زوجته جوزفين نحيلة وتتقن فنون استخدام العطور التي اشتهرت بها باريس منذ أقدم العصور، لذلك اختار نابليون أقل الفتيات وزنا وأطولهن، وكانت هي زينب بنت الشيخ البكري.

يروي حمدي البطران في كتابه "مصر بين الرحالة والمؤرخين" أن زينب البكري كانت توصف بأنها النسخة المصرية من جوزفين زوجته.. كان لها جسد ممشوق، ولون يميل إلى السمرة، وحياء في لون القمح يشتعل في الظلام من شدة الأنوثة، وهي تحمل إيمانا تاريخيا بأن الرجل هو الفرعون المقدس الذي تمنحه المرأة الطاعة العمياء حتى في المعصية!!

كان نابليون يهوى الأجساد الفارعة والأطراف الدقيقة، وكانت زينب أجمل فتيات مصر وأنظفهن وأكثرهن اعتناء بأنوثتها. وقد أغمض والدها الشيخ البكري عينيه وسد أذنيه وراح وهو يحتسي الخمر كل ليلة يحلم بأن يصبح حما السلطان الكبير نابليون .

لم يذكر الجبرتي أن زينب كانت عشيقة لنابليون، ولكن الشائعات ربطت بينها وبين وبينه لصلة والدها الشيخ البكري به، وكان ذنبها أنها تبرجت حسب أقوال الجبرتي ولبست الفستانات والمناديل الملونة والطرح الكشمير، وخالطت المجتمع الفرنسي.

يقول حمدي البطران أن السبب في مأساة زينب البكري التي انتهت بقتلها لتصبح أول "مقصوفة رقبة" يعلن عنها في تاريخ مصر :

" ربما كان والدها، فقد خالط الفرنسيين واندمج معهم في الشراب، وقد عينه نابليون نقيبا للأشراف بعد فرار عمر مكرم مع المماليك إلى الشام، وكان البكري محبا للشراب، وكان شرابه المفضل مزيجا من الكونياك والنبيذ البورجيني المعتق، وكان يشربه حتى الغيبوبة، وكان يرتبط مع بونابرت شأنه في ذلك شأن الشيخ السادات والشيخ عبد الله الشرقاوي، وقد أهدى البكري نابليون مملوكه الخاص والأثير لديه رستم زادة، وقد لزم هذا المملوك بونابرت حتى منفاه الأخير في سانت هيلانة.".


لم تكن زينب البكري هى الخاطئة الوحيدة لكنها بلا شك كانت هي أبرز من دفع الثمن مع بعض المومسات الفقيرات؛ فقد ساد الانحلال المجتمع المصري، وتغيرت  بعض عادات المصريين؛ فقد جاء الفرنسيون بحوالي 300 إمرأة فرنسية أكثرهن تسلل إلى السفن الحربية لكن الحسان القليلات منهن كن إما مراهقات وإما حكراً على البعض، وكانت البغايا من المصريات كثيرات وفقيرات ورخيصات لكنهن ـ في الغالب ـ كن غير مغريات وقبيحات، ومصابات بالأمراض .. وقد أدى ذلك إلى تفشي الزهري والسيلان بين جنود الحملة؛ فكتب الجنرال ديجا (حاكم القاهرة) إلى بونابرت في عام 1799 يقول:


"البغاء وراء تفشي الوباء في مساكن الفرنسيين ولا بد من إغراق من يقبض عليهن في الثكنات ، وكان تعقيب نابليون على الهامش :"كلف أغا الإنكشارية بهذه المهمة"، وقد نفذ أغا الإنكشارية المهمة فقطع رؤوس 400 مومس وضع الجثث في غرائر وخاطها وألقاها في النيل .



أما كبار ضباط الحملة فقد حلوا مشكلتهم دون أن يبذلوا جهداً؛ فقد كتب أحدهم لصديقه يقول : "لقد ترك لنا الأمراء المماليك بعض النسوة الأرمنيات والكرجيات اللطيفات التي استولين عليهن صالح الأمة" .


يقول الجبرتي :"إن الجواري السود كن أشد رغبة واستعداداً من الأرمنيات والكرجيات " إن الجواري السود لما علمن رغبة الفرنسيين في مطلق الأنثى ذهبن إليهم أفواجاً ، وفنططن الحيطان، وتسلقن إليهم من الطبقان، ودلوهم على مخبآت أسيادهن وخبايا أموالهم ومتاعهم وغير ذلك".

وشأن كل البلاد المنكوبة بالإحتلال جر ولع الفرنسيين بالنساء استهتاراً واضحاً بالأداب العامة يقول الجبرتي : 

"فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيين بولاق وفتكوا بأهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات صرن مأسورات عندهم فزينوهن بزينسائهم وأجروهن على طريقتهم في كامل الأحوال، فخلع أكثرهن نقاب الحياة بالكلية، وتداخلت مع هؤلاء الأمأسورات غيرهن من النساء الفواجرلما حل بأهل البلاد من الذل والهوان وسلب الأموال واجتماع الخيرات في أيدي الفرنسيين ومن والاهم، وشدة رغبتهم في النساء، وخضوعهم لهن، وموافقة مرادهن وعدم مخالفة هواهن ـ ولو شتمته أو ضربته ـ فطرحن الحشمة والوقار والمبالة والاعتبار واستملن نظراءهن، وأختلسن عقولهن، لميل النفوس إلى الشهوات، وخصوصا عقول القاصرات."
 

***

.. صارت زينب البكرية أول "مقصوفة رقبة" في مصر فمن واقع تاريخ العقوبات في مصر لم يتم استخدام عقوبة "قضم الرقبة" لعقاب امرأة، بل لم يكن هناك نساء يتم الحُكم عليهن بالإعدام قبل زينب البكري، والحقيقة أن قتل زينب البكرية هو حالة مرضية من الإنحياز للذات المتعفنة بكل عجزها وتخلفها وتناقضتها والتي اختزلت وقائع الخيانة في "حادثة شرف"، ودون أن تلقي بالاً لما فعله خونة الأوطان من المتواطئين والموالسين والمدلسين من شيوخ الأزهر والأشراف والأقباط والأعيان وفتوات بولاق، ولم يثور الجعيدية والحرافيش والزعران إلا عندما اتعبتهم الضرائب وهدم الفرنسيون أبواب الحارات!! 

لمزيد من المعلومات اقرأ :


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق