الاثنين، أبريل 01، 2013

ياسر بكر يكتب : إعـــدام خميس والبقــري .. رســالة بحروف الدم !!




خميس والبقرى شهيدا عمال كفر الدوار



اليوم : الثلاثاء 12 أغسطس1952

بعد عشرين يوماً من قيام حركة الجيش المبـــاركة البيضـاء

الساعة : 40 ‘ 9 مساء
يوم شديد الحرارة من أيام صيف أغسطس، إذ من سخونته اختناق وسوء التهوية بعنابر مصنع النسيج التابع لبنك مصر في كفر الدوار، وسعال العمال المصابون بالربو والسل وأمراض الجلد وما يتعرضون له من ضوضاء وأبخرة ومواد كيماوية، والغضب المعتمل في الصدور بسبب تصريحات محمد حسين الجمال المدير العام وعضو مجلس إدارة المنتدب للشركة، وتهديده لعمال شركة صباغي البيضا المجاورة لمصنعهم بأنه :
ـ " سوف يؤدبهم ويجعلهم ( نسوان ) مثل عمال شركته " .
ثم ما لبث اليوم أن استجاب لجميع مطالب العمال، في الحوافز والأجازات وتكوين نقابة ومنحهم فوق كل ذلك أجازة ثلاثة أيام مدفوعة الأجر . 
كانت استجابة الإدارة لعمال المصنع المجاور بمثابة إحياء للأمل في نفوسهم وخاصة أن حركة الجيش تعلن طوال ساعات النهار عن قوانين للإصلاح الزراعي وقانون للعمال، فلن يتم قمعهم بوحشية مثلما حدث منذ عشر سنوات، مثلما حدث في عام 1942، حيث كان إلياس أندراوس باشا من أقرب رجال الاقتصاد للملك، وكان يتقاضي من شركة كفر الدوار عشرة آلاف جنية نظير عضويته في مجلس الإدارة، وكان قد اشترى 2000 سهم من أسهم الشركة لحساب الملك بسعرها آنذاك 5‘3 جنية ثم حدث أن هبط سعرها، فألزم بنك مصر بشرائها بسعر الشراء، لكن سرعان ما ارتفع السعر إلي 5‘7 جنيهات فألزم الشركة بدفع فارق السعر للملك، وعلم العمال بهذا العبث فتظاهروا وهتفوا : " عاوزين الأسهم للعمال "
.. وأخمد الإضراب بالقوة، وتم فصل 80 عاملاً من المطالبين بحقوق زملائهم، وتعرض باقي العمال للاضطهاد؛ حيث كان يوقع عليهم العقاب البدني الجماعي لأقل خطأ أو هفوة، فكان الخفراء يعتدون عليهم بالضرب علي الأيدي والأرجل والصفع علي الوجه والقفا والركل بالشلاليت، عدا الإهانات اليومية من الخفراء وعساكر البوليس فقد كانت الشركة أشبة بثكنة عسكرية؛ إذ يعمل بها 350 خفير، و30 جندي وصف ضابط فضلا عن الضابط المدني ويدعى محمود نعامة .
.. واليوم نجح زملاؤهم في المصنع المجاور في الحصول على حقوقهم، وأجبروا حسين الجمال على " لحس تهديداته "، فلما لا يحذون حذوهم ؟!
وفى المساء توقفت الماكينات قبل موعد انتهاء العمل بعشر دقائق، وكانت دورية العمال الثالثة قد جاءت لتحل الوردية الثانية ووقف عمالها في الفناء، ولم يدخلوا إلى العنابر، .. وفجأة انبعث من بينهم صفير بالفم، وارتفعت الهتافات بسقوط المدير، والسكرتير العام ، ومدير مكتب العمل، وتبعتها هتافات :
" يحيا محمد نجيب منقذ مصر من الفوضى " .
وفجأة حضر نعمان العشماوي مأمور مركز كفر الدوار إلى الشركة ومعه قوة من رجال البوليس، وبادر المأمور والقوة المرافقة بإطلاق الرصاص فاستشهد ثلاثة عمال، وأصيب خمسة آخرون بإصابات خطيرة؛ مما أثار غضب العمال الذين حاولوا الإمساك بالمأمور لكنه فر هارباً، لكنهم نجحوا في الاستيلاء علي خمسة بنادق من الجنود، وسقط قتيلاً عسكري البوليس سيد حسن الجمل بطعنة نافذة من حد سكين .
.. سقط الدم على الأرض، ..  وتورط المأمور في القتل، ولم يكن أمامه سوى الكذب ليبرر جريمته فاتصل بالقائمقام محمد صلح خفاجي مساعد حكمدار بوليس البحيرة وأفهمه أن العمال يقومون باضطرابات وأحداث تخريب لمناهضة حركة الجيش !!
وفي ذات الوقت اتصل بإدارة المصنع التي طالما ساندها بإسداء خدمات لها في قمع العمال لينقذوه من ورطته حتى تبدو جريمته مبررة، فأعوزوا إلى بعض خفراء الشركة بحرق بعض المكاتب الإدارية، و 22 سيارة من عربات ركوب الموظفين، ومكتب الضابط المدني وقدرت خسائرها بـ 48 ألف جنية، بينما كان العمال يحرسون المصنع بآلاته ومعداته ويجاهدون كي لا  تصل إليه النيران التي تقدر قيمها بمائة مليون جنية؛ كان رجال الإدارة بهذا الجرم يضربون ثلاثة عصافير بحجر واحد، تمثل في ثلاثة أغراض  :
1 ـ إنقاذ صديقهم المأمور القاتل من ورطته، وإضفاء الشرعية القانونية على فعله .
2 ـ حرق الكثير من مستندات الشركة التي تدينهم في جرائم فساد .
3 ـ اختبار قدرة القائمين علي حركة الجيش على استيعاب الحدث والتعامل معه .
.. وجاء مدير البحيرة علي رأس 100 جندي، لكنه عجز عن دخول المصنع بسبب كثافة النيران، فاستنجد بالجيش في الإسكندرية .   

الجيش يحاصر العمال :

وفي تمام الساعة الثالثة صباحاً ، وصلت قوة من الجيش من المنطقة الشمالية بالإسكندرية، بقيادة البكباشي عاطف نصار من معسكر مصطفى باشا بدباباتهم وسياراتهم المصفحة ومدافعهم، وقامت بعمل طوق حول المصنع واعتقال 567 عامل بداخلة .  
وقف المأمور
عن العمـــــل :

أصدرت وزارة الداخلية قرار بوقف مساعد حكمدار بوليس البحيرة القائمقام محمد صلح خفاجي ومأمور مركز كفر الدوار عن العمل والتحقيق معهما فوراً باعتبارهما من المسئولين عن الحوادث .

الجيش يتورط
في إراقة الدماء :

في اليوم التالي ( الأربعاء 13 أغسطس )، وتمام الساعة 50 ‘ 1 بعد الظهر تجمع أهالي العمال وقرروا الذهاب إلي المصنع للاطمئنان على ذويهم من العمال المحتجزين، وانضم إليهم بعض زملاء العمال، وانقسموا مجموعتين مجموعة تسير في اتجاه المصنع من الناحية الشرقية والأخرى من الناحية الغربية .
مر القادمون من الناحية الغربية بنقطتين من نقاط الجيش وحيوا الجنود وهتفوا : " عاش الرئيس محمد نجيب .. أنقذنا .. كما أنقذت مصر .. مطالب العمال عادلة .. يحيا اتحاد العمال "، وعندما اقتربوا من باب المصنع، وحاولوا الدخول تصدت لهم قوات من الجيش، وأطلقت عليهم النيران وسقط ثلاثة قتلى من أهالي العمال، وتلطخت أيدي الجيش بدماء أفراد من الشعب !! 
.. وتحركت قوة من الجيش لمواجهة الأهالي القادمين من الناحية الشرقية ومنعهم من الوصول للمصنع، وفي تلك اللحظة انطلقت رصاصات من البر الآخر لترعة المحمودية من ناحية عزبة كنج عثمان التابعة لأوقاف الخاصة الملكية فأصابت جنديان لقيا مصرعها في الحال .
وعلي الفور ودون تثبت من حقيقة الأحداث، أذاع القائد العام للقوات المسلحة بيان جاء فيه :
" .. فإن القائد العام يعلن جميع طوائف الشعب ـ وخاصة العمال ـ أن أي خروج علي النظام أو إثارة الفوضى ستعتبر خيانة ضد الوطن، وجزاء الخيانة معروف للجميع، وعلى من له شكوى أن يتقدم بها بالطريق القانوني.
إن النظام يجب أن يسود مهما كان الثمن، وقد أعذر من أنذر ."
.. وفي المساء أذاعت القيادة بيان وصفت فيه الأحداث ـ كما ورد في البيان ـ بكونها من تدبير " بعض الخونة "، وأعلنت موافقة مجلس الوزراء علي تشكيل مجلس عسكري عال له كافة السلطات اللازمة لمحاكمة المسئولين في قضايا الجنايات التي وقعت من عمال هذه الشركة ومدبري هذه الحوادث " .
وخشي مجلس قيادة حركة الجيش أن تكون هذه الأحداث بداية سلسلة من الاضطرابات تنتشر في بقية التجمعات العمالية، ورأى أن يتعامل معها بالشدة والحزم منعاً لتكرارها، وقرر محاكمة المتهمين في نفس موقع الحادث بقصد الردع (على طريقة محاكمة دنشواي) ، وتطوع البكباشي عبد المنعم أمين عضو مجلس قيادة الحركة لرئاسة المحكمة التي ضمت 7 ضباط منهم حسن إبراهيم عضو مجلس قيادة الحركة .
القضاة أعطوا الشـرعية
للمحكمة العسكرية العليا:

وفي ظهر يوم 14 أغسطس اجتمع بمقر قيادة الحركة كل من :
1 ـ محمد علي رشدي ( وزير العدل ) .
2 ـ عبد الرحيم غنيم  ( رئيس محكمة استئناف مصر ) .
3 ـ حافظ سابق ( النائب العام ) .
وتدارسوا التعديلات التي يراد إدخالها علي قانون الأحكام العرفية رقم 15 لسنة 1923 في الجزء الخاص بتشكيل المحاكم العسكرية، وانتهوا إلي إضافة فقرة جديدة إلي المادة 6 نصها كالآتي :
" ويجوز أن تؤلف المحكمة المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة 6 مكرر من ضباط ويكون عددهم خمسة علي آلا تقل رتبة الرئيس عن رتبة البكباشي ورتبة الأعضاء عن رتبة اليوزباشي وتتبع هذه المحكمة فيما يتعلق بنظر الدعوى والحكم فيها وتنفيذ العقوبة القواعد المعمول بها أمام المحاكم العسكرية، ويجوز أن يقوم بمباشرة الدعوى أمام هذه المحكمة أحد أعضاء النيابة العامة "
وإضافة مادة أخرى نصها كالآتي :
" علي وزراء الداخلية والحربية والبحرية والعدل تنفيذ هذا القانون كل منهم فيما يخصه، ويعمل به من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية ".
 وتقدموا باقتراح باستصدار مرسوم بقرار رقم 41 لسنة 1952 بتشكيل محكمة عسكرية عليا، وعلي الفور بادر الرئيس علي ماهر الذي كان مجتمعاً باللواء محمد نجيب إلي دعوة مجلس الوزراء لإقرار هذه التعديلات فأقروها دون مناقشة .

 تشكيل المحكمة:
     ــــــــــــــــــــــــ

   وصدر قرار تشكيل أول محكمة عسكرية في تاريخ الوطن لمحاكمة مدنيين من:

ـ بكباشي عبد المنعم أمين من سلاح المدفعية (رئيساً)
وعضوية أربعة ضباط هم:
 

أعضاء أصليون:
ــــــــــــــــــــــــ

1 ـ بكباشي محمد عبد العظيم الشحات عن مدرسة الشئون الإدارية.
2 ـ صاغ أحمد وحيد حلمي عن سلاح الفرسان.
3 ـ صاغ محمد بدوي الخولي عن المدرسة الثانوية العسكرية.
4 ـ يوزباشي فتح الله رفعت عن سلاح المدفعية.
 

أعضاء احتياطيون:
ـــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ يوزباشي جمال القاضي عن البوليس الحربي.
2 ـ قائد أسراب حسن إبراهيم من السلاح الجوي.
3 ـ صاغ عبده مراد عن إدارة الجيش (مدرعات).
4 ـ خليل حسن خليل عن البحرية (نائب أحكام).

   ونص قرار تشكيلها في مادته الثانية:
« تعقد هذه المحكمة في بندر كفر الدوار في المكان الذي يختاره رئيسها ».

قرار الاتهام:
ــــــــــــــــــ
وانتهت النيابة من إعداد قرار الاتهام المنسوب إلى 29 عاملاً هم:
1 ـ مصطفى خميس
2 ـ عبد المقصود عبد الجواد
3 ـ محمد حسن البقري
4 ـ مصطفى أبو اليزيد شهاب
5 ـ أحمد عبد المقصود رزق
6 ـ يوسف المغازي
7 ـ شاوة علي عبده
8 ـ محمد مصطفى عيد
9 ـ عطية أبو العينين
10 ـ عبد السميع رفعت
11 ـ هاشم عبد الغني درة
12 ـ فؤاد عبد الرحمن
13 ـ أحمد حامد الدسوقي
14 ـ شوقي محمد شمس
15 ـ السيد أحمد عيسى
16 ـ أحمد محمد صالح
17 ـ أحمد مساعد الحمزاوي
18 ـ حلمي فهمي أبو النجا
19 ـ صلاح الدين محمد عبد الله
20 ـ يوسف حسن أحمد
21 ـ صلاح ظاهر منصور
22 ـ عطية محمود مسلم
23 ـ عبد الوهاب عبد الواحد مصطفى
24 ـ عبد المنعم السرجاني
25 ـ محمد إبراهيم علي
26 ـ حسن دسوقي إسماعيل
27 ـ وهبة عبد الفتاح مصطفى
28 ـ عثمان سيد أحمد زغلول
29 ـ رمضان أحمد أبو بكر

    وقد نسب قرار الاتهام إليهم بأنهم:
 
 1 ـ أحدثوا تجمهراً في ليلة 13 أغسطس، وقتلوا عمداً مع سبق الإصرار عسكري البوليس سيد حسن الجمل.

   2 ـ أضرموا النار عمداً في محل مسكونة، وهي مبنى شركة مصر للغزل والنسيج الرفيع.

   3 ـ نهبوا وأتلفوا بالقوة بعض السيارات في المصنع المذكور.

   4 ـ سرقوا بطريق الإكراه بنادق أميرية.

   5 ـ قاوموا بالقوة والعنف بعض رجال الضبط واعتدوا عليهم.

الحكم:
ــــــــــ

    وبعد محاكمة هزلية لم تستغرق سوى خمسة أيام، أهدرت ضمانات المتهمين في محاكمة عادلة (29 عاملاً)، وأخلت بحق الدفاع عنهم؛ فانسحب المحامون، صدر الحكم في 17 أغسطس بإعدام اثنين من العمال هما:

   ـ مصطفى خميس (مخزنجي ـ 19 سنة) بتهمة أنه اشترك مع آخرين مجهولين في تجمهر قوامه أكثر من خمسة أشخاص بقصد ارتكاب الجرائم عمداً، وقد استعمل المتجمهرون القوة والعنف، وكان بعضهم يحمل أسلحة وآلات يؤدي استعمالها إلى الموت المحقق فقتلوا عمداً كلاً من: الجندي أحمد محمود مبروك والجندي أحمد محمد نصر الدين.

   ـ محمد حسن البقري (خفير ـ 21 سنة) بتهمة إشعال النيران في مكاتب الشركة وسياراتها، ومكتب الضابط المدني.

   ومعاقبة 12 متهما بالأشغال الشاقة المؤبدة، وثلاثة متهمين بالسجن 15 سنة، واعتقال 4 عمال.

   وسافر الصاغ صلاح الدفراوي نائب أحكام المنطقة الشمالية في الحال إلى القاهرة، وعاد في الساعة الرابعة من صباح يوم 18 أغسطس بالحكم بعد أن صدق عليه اللواء محمد نجيب قائلاً: «دول شوية عيال شيوعيين ولاد كلب يستاهلوا الحرق»، بعد التصويت عليه بإجماع أعضاء مجلس قيادة حركة الجيش.

   وفي 7 سبتمبر تم تنفيذ الحكم بسجن الحضرة بالإسكندرية، بينما كان اللواء محمد نجيب يحتفل بتوليه رئاسة الوزراء.


الحادث في صحافة القاهرة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   صدرت جريدة الأهرام في 13 أغسطس وفي صفحتها العاشرة خبر صغير بعنوان: «حريق كبير في مصانع كفر الدوار»، جاء فيه أنه:

« علمنا في وقت متأخر من الليل أن النار قد نشبت في مصانع شركة مصر للغزل الرفيع بكفر الدوار، وقد عجزت المطافئ عن إطفاء الحريق واستعانت بقوة من مطافئ الإسكندرية التي أرسلت أربع سيارات للإطفاء والإنقاذ، وتبين أن هذا الحريق حصل بطريق العمد».

    وفى اليوم التالي وبتاريخ 14 أغسطس صدرت الجريدة وفي صدر صفحتها الأولى العناوين التالية:

• بيان عن الشغب في مصانع كفر الدوار.
• تأليف محكمة عسكرية لمحاكمة المجرمين وتنفيذ أحكامها فور صدورها بلا رحمة ولا شفقة.
• الجيش والبوليس يقمعان الشغب.
• وقف حكمدار البحيرة ومأمور كفر الدوار عن العمل.

   .. وبتاريخ 15 أغسطس صدرت الجريدة وفي صدر صفحتها الأولى العناوين التالية:
• تصريحات حازمة حاسمة للقائد العام: هناك ذيول تلعب وسنبتر هذه الذيول.
•  لن نبقي أثراً حتى نمحو كل ما يمت بأدنى صلة للخيانة.
•  الحكومة والجيش متفقان على الضرب بشدة متناهية على المحرضين والعابثين.
• إضافة مادة جديدة لنظام الأحكام العرفية.
• تأليف محكمة عسكرية لجرائم كفر الدوار.
• المجلس العسكري يحاكم مثيري الشغب.

    .. وبتاريخ 16 أغسطس صدرت الجريدة وفي صدر صفحتها الأولى العنوان التالي:

• اللواء محمد نجيب: حوادث كفر الدوار لم تكن مرتجلة.. بل مدبرة.

   ولم تخرج جريدة الأخبار عن ذلك الطرح، لكنها زادت عنه بنشر بعض مقالات الرأي التي استبقت التحقيقات في إدانة العمال، فكتب الأستاذ سيد قطب مقالاً بعنوان: «تحركات لا تخيفنا».. جاء فيه:

   «إن حوادث كفر الدوار لا ينبغي أن تخيفنا؛ إنه أخطبوط الإقطاعية والرأسمالية والاستعمار والشيوعية، إنه لابد من أن يفعل شيئاً قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة».

   وكتب الأستاذ جلال الدين الحمامصي مقالاً بعنوان: «دخان في الهواء» جاء فيه:

   «قام العمال بهذه الحركة؛ لأن هناك أيادي خفية لعبت بعقولهم التي سيطر عليها التفكير السياسي الفاسد، ولأن هناك عقلية شيطانية صورت لهم العهد بصور لا تتفق مع الواقع والظاهر».

   ومقال ثالث بعنوان: «رأي الأخبار» لم يخرج عن وجهة النظر في المقالين السابقين.

أقوال خميس:
ـــــــــــــــــــــ

   ذكر خميس في أقواله: «عندما قامت المظاهرات، وعلمت بأمرها خرجت أبحث عن أخي الصغير، وفجأة وجدت نفسي على رأس مظاهرة لا علاقة لي بها؛ إذ إنني أعمل كاتباً بالشركة ولست عاملاً، ولذلك لا مصلحة لي في التظاهر».

انسحاب المحامين:
ــــــــــــــــــــــــــــــ

   وفي التاسعة والنصف من مساء يوم الخميس 14 أغسطس بدأت المحاكمة العسكرية للمتهمين وبعد تلاوة قرار الاتهام، بدأت المحكمة في سماع شهود الإثبات فدعي أولهم وهو الصاغ محمد ناجى داود.

الشاهد الأول:
ـــــــــــــــــــــ

   وبعد أن أقسم اليمين

ـ المدعي: ما معلوماتك؟

   ـ الشاهد: أنا تعينت قائد القوة في هذا المصنع منذ الساعة الثانية والربع بعد ظهر أمس، وبينما كنت على باب المصنع الداخلي شاهدت جمعاً غفيراً من الأهالي قادماً من ناحية مساكن عائلات الموظفين، وكانوا يحملون العصي وجذوع الأشجار، فلما اقتربوا من نقطة الكوبري جهزت الجنود وأمرتهم بإطلاق النار على الأرض، ولكن المتظاهرين استمروا في التقدم نحو باب المصنع، فاضطررت للأمر بإطلاق النار عليهم ففروا هاربين، وأرسلت ضابطاً لمعاينة مكان الحادث فعاد ومعه المتهم مصطفى خميس، وقال إنه كان يتزعم المظاهرة، وقال أيضا إن هناك ثلاث جثث لبعض الأهالي على مقربة من مكان الحادث.

الشاهد الثاني:
ــــــــــــــــــــــ
    ونودي على الشاهد الثاني الملازم منير عبد العظيم، وبعد أن أقسم اليمين
ـ المدعي: ما معلوماتك؟

   ـ الشاهد: أنا كنت عند الكوبري في حوالي الساعة الحادية عشرة، ثم انضم إليَّ الصاغ محمد ناجي، وعند الثانية والنصف كانت المظاهرة قادمة، ورأيت المتهم يسير في المقدمة وهو يحمل «برنيطة» في يده يشير بها إلى المتجمهرين، وقمت بالقبض عليه. 

الشاهد الثالث:
ــــــــــــــــــــــــ
 
 ونودي على الشاهد الثالث الجندي سعد فرج ميخائيل، وبعد أن أقسم اليمين على الإنجيل.

ـ المدعي: ما معلوماتك؟

ـ الشاهد: أنا كنت بحرس الكوبري ورأيت المتظاهرين قادمين، فطلبت منهم الرجوع، فتأخروا لكن المتهم تقدم ودفعني فسقطت على الأرض، وسقطت البندقية من يدي وانكسرت، وارتمى عليَّ، وجاء زملائي وخلصوني منه، وكان فيه شخص واقف بالقرب منه فقال: «امسكوه لأنه هو الذي قاد المظاهرة» فقبضنا عليه.
ـ المدعي: هل تم القبض عليه قبل إطلاق النار أم بعده؟
ـ الشاهد: قبل إطلاق النار.
وفى الساعة 30 , 12 أعلن الرئيس رفع الجلسة على أن تستأنف في الثامنة من صباح الغد الجمعة.

    وفي الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة 15 أغسطس قدم الأستاذ محمد الفولي المحامي (مستشار بعض النقابات العمالية) عن المتهم مصطفى خميس طلباً للتأجيل للاطلاع على التحقيقات والمستندات والشهادات وتقديم شهود النفي؛ لأنه تبين أن هناك متهمين غير هؤلاء المتهمين، فهؤلاء الشهود سوف يقدمون لعدالة المحكمة المدير الذي يتضرر من قوانين الملكية، فهناك أشخاص يضحكون الآن، فعلوا فعلتهم، وقدموا أشخاصاً أبرياء، وهناك شهود يطلب المتهمون شهاداتهم، وهناك شهود على منْ دبر الحادث، وشهود آخرون يخشون التقدم بشهاداتهم ويطلبون تأمينهم.

   ـ رئيس المحكمة: إن الحكمة التي توخاها الشارع من تأليف هذه المحكمة تتنافى مع طلب التأجيل.
ـ المحامي: أنا لا أطلب أكثر من يومين.

   ـ رئيس المحكمة: سنعطيك ساعة من الساعة 10 حتى الساعة 11، ولديك فرصة للاطلاع وتكوين فكرة.
ـ المحامي: إن هناك مراجع يجب أن نطلع عليها.
ـ رئيس المحكمة: إن مصلحة الوطن لا تحتمل التأجيل، وكان يجب أن تأتي بالمراجع القانونية اللازمة.
   وأمام هذا العنت لم يجد المحامي بُدا من الانسحاب، وانضم إليه زملاؤه المحامون الأساتذة عشم فريد، وحسن حسني، وأنور نصيف.

صحفي يترافع عن متهم:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


   انسحب المحامون وهو ما حدا برئيس المحكمة لسؤال الحاضرين: حد هنا خريج حقوق؟! ورد الصحفي موسى صبري، الذي تصادف وجوده لتغطية وقائع المحاكمة لصالح جريدة «أخبار اليوم» بالإيجاب، فطلب منه القيام بالدفاع عن المتهمين، وعندما قال موسى صبري إنه ليس مقيداً بجداول نقابة المحامين، قالت المحكمة: «ليس مهماً مادمت من خريجي الحقوق!» .

    .. ولكن موسى صبري يروي قصة تكليفه بالدفاع عن خميس بأسلوب مختلف فيقول: إنه سافر إلى كفر الدوار بتكليف من مصطفى أمين لمتابعة الأحداث، وصل إليها في الساعة الرابعة بعد الظهر، وقيل له إن المقبوض عليهم سوف تبدأ محاكمتهم في التاسعة صباحاً، وفي الموعد المحدد بدأت المحاكمة في حجرة صغيرة، وأحضروا المتهم الأول واسمه خميس، وهو شاب دون الخامسة والعشرين أبيض البشرة أصفر الشعر هادئ الأعصاب، وتُلي الاتهام، وسأل رئيس المحكمة المتهم:

ـ هل لديك محامٍ.
ـ المتهم: لقد حوصر المصنع، وقطع الاتصال مع أي شخص من الخارج؛ فكيف أحضر محامياً؟!
ـ رئيس المحكمة: يمكن للمحكمة أن تختار لك محامياً عسكرياً.. هل تقبل؟
ـ المتهم: لا.
وهنا وقف عبد المنعم الصاوي (وزير الإعلام والثقافة الأسبق والمحرر آنذاك بجريدة المصري) وقال للمحكمة:
ـ إن من بين زملائنا الصحفيين محامياً هو موسى صبري.
وسألتني المحكمة:
ـ هل تقبل الدفاع عن المتهم؟

وأجبت:
   ـ أقبل في حالة واحدة.. إذا هو قبل.. أرجو إتاحة الفرصة للاجتماع به.

ورفعت الجلسة وانفردت بالمتهم في حجرة جانبية، وحاورته لكي أؤكد له أن من حقه أن يرفض إذا لم يثق بي، كما أكدت له أنني  سأكون محاميه الحافظ لأسراره ولن أبيع ضميري بأي ثمن.

واطمأن خميس، وعدنا إلى قاعة الجلسة الصغيرة، وأعلن خميس موافقته».*(1)

الشاهد الرابع:
ــــــــــــــــــــــ
   فُتحت الجلسة، ونودي على الشاهد الرابع، العسكري فيصل عبد الرحمن صالح من الأورطة 15 مشاة وبعد أداء اليمين.
ـ المدعي: ما معلوماتك؟
ـ الشاهد: في يوم المظاهرة، هذا المتهم كان المتظاهرون شايلينه على أكتافهم، ولما اقتربوا منا أنزلوه، حاولت إرجاعهم بالراحة عدة مرات لكنهم لم يرجعوا، وجاء حضرة الصاغ محمد ناجي وأمر بإطلاق النار.

   فهذا المتهم قفز من وسط المتظاهرين، وشد أحد جنودنا واسمه سعد خليل وألقاه على وجهه؛ فقبضنا عليه وجاء الضابط منير عبد العظيم وأخذه منا.
ـ موسى صبري: هل تم القبض عليه قبل إطلاق النار أم بعده؟
ـ الشاهد: وقت إطلاق النار راح ناطط على العسكري بتاعنا وقبضنا عليه، وسلمناه لخفير الكشك.
ـ موسى صبري: هل كان المتظاهرون يحملون سلاحاً؟
ـ الشاهد: كان معاهم حبال وقطع خشب وزجاجات كوكاكولا.
ـ موسى صبري: ماذا كان يلبس المتهم؟
ـ الشاهد: كان يلبس برنيطة خوص وفي يده سيخ حديد.

الشاهد الخامس:
ــــــــــــــــــــــــــ

    ـ المدعي العسكري: عندي شاهد جديد، هل هناك مانع من سماعه؟ ثم نادى: أحمد إبراهيم عبد الله، وبعد أداء اليمين .
ـ المدعي: ما معلوماتك؟
ـ الشاهد: كنت معيناً يوم الحادث عند الكوبري ومعي ستة عساكر، وبعدين وجدنا مظاهرة جايه وكان ده، (وأشار إلى المتهم) أمامهم، وكانوا ماسكين عصيان وفروع شجر، وهو كان شايل خشب، ولابس برنيطة بيضاء، ولما وصلوا عندنا قلنا لهم ارجعوا، ما سمعوش الكلام، ودوروا فينا الضرب، وحضرة الصاغ كان موجود فلما شافهم مدورين فينا الضرب أمرنا بضرب النار، وقال: «فادي نفسك يا عسكري» فضربنا والناس جريت، ومنهم ثلاثة وقفوا منهم الجدع ده (وأشار إلى المتهم).
ـ المدعي: هل قبضت على المتهم قبل إطلاق النار أم بعده؟
قبل إطلاق النار.
ـ المحكمة: من الذي قبض عليه؟
ـ الشاهد: كلنا قفشناه مرة واحدة.
ـ المحكمة: اشرح واقعة القبض عليه بالتفصيل.
ـ الشاهد: أنا لما وجدت المتظاهرين جريوا، أشار الخفير على المتهم وكان واقفاً وسط المصابين، وقال: «هو ده اللي كان بيقود المظاهرة».
ـ المدعي: من قال إن هذا الرجل كان بيقود المظاهرة؟
ـ الشاهد: الخفير بتاع الشركة.
ـ موسى صبري: ما المسافة بينكم وبين المتظاهرين؟
ـ الشاهد: كانوا على مسافة 250 متراً.

الشاهد السادس:
ــــــــــــــــــــــــــ
    نودي على محمد عبد الوارث خلف ـ خفير حراسة بشركة كفر الدوار ـ وبعد أداء اليمين.
ـ المدعي: ما معلوماتك؟

ـ الشاهد: أنا كنت جاى الساعة 2 يوم الحادث أستلم شغلي، فخفت أجي من السكة العمومية، وجيت من وسط الزراعة وصلت البوابة فالبواب فتح لي وبين الباب ده والباب الآخر ممر اسمه الكوبري يفصل بين العمارات والفيلات، على الكوبري ده كانت قوات من الجيش منعوني خوفاً من أن تطلق عليَّ النار عشان كنت لابس جلابية.. مفيش لحظة ولقيت المظاهرة قادمة من ناحية الشقق الصغيرة اللي فيها بيوت الموظفين الكبار، فلما رأت العساكر ذلك سدت الطريق، وحينما أراد العمال التراجع التفت إليهم المتهم وقال لهم: لا.. تعالوا.
ثم أطلقت النيران وأُصيب ثلاثة، ودفع المتهم العسكري وكسر بندقيته؛ فأنا قلت للعسكري اللي انكسرت بندقيته:

«امسك هذا المتهم؛ لأنه السبب في كل الحوادث».

انتهت المحكمة من سماع أقوال الشهود الذين أكدوا القبض على المتهم قبل إطلاق النار، كما أكد الشهود أنه لم يكن بحوزته سلاح، كما اختلفت شهاداتهم بشأن هيئة المتهم، هل كان يرتدي برنيطة من الخوص أم برنيطة بيضاء؟!، لكن الأستاذ موسى صبري يؤكد في مذكراته:

«كان الشهود كلهم من رجال الأمن، وشهدوا جميعاً بأنهم رأوا المتهم محمولاً على الأعناق يهتف بهتافات عدائية حتى وقع الاشتباك، وأطلق الرصاص ووقع الضحايا، وقد وجهت سؤالاً واحداً إلى كل الشهود:
ـ هل تم القبض على المتهم قبل إطلاق النار أم بعده؟ وكانت إجاباتهم جميعاً: قبل إطلاق الرصاص.
واكتفيت بهذا السؤال وكانت إجاباتهم تعني أنه بريء من تهمة القتل، وبذلك يفلت من عقوبة الإعدام.
وانتهت الجلسة الأولى في ساعة متأخرة من الليل، وأمضينا ليلتنا في مباني استراحة الشركة.

   وبدأت الجلسة الثانية باستجواب شهود آخرين، وإذا بهم يشهدون على أن القبض جرى بعد إطلاق الرصاص.

   وقال لي جلال ندا، وهو أحد ضباط الجيش المؤيدين للثورة إن هذه الأقوال الجديدة رتبت مع الشهود الجدد لمحو آثار شهادة الأمس.
   وبدأت مرافعتي.. وركزت على أقوال الشهود في الجلسة الأولى، عن القبض على خميس قبل إطلاق الرصاص. ثم تحدثت طويلاً عمن هم أصحاب المصلحة في التظاهر ضد الثورة؟!. ليسوا هم العمال، ولكنهم الباشاوات والرأسماليون الذين يديرون هذا المصنع، والذين جاءت الثورة لكي تنتزع منهم حقوق العمال.. اسألوا إلياس أندراوس وأمثاله ولا تسألوا خميس.
ولكن صدر الحكم بإعدام خميس.
ولم أحضر محاكمة زميله البقري» * (2)
 

محاكمة البقري:
ــــــــــــــــــــــــــ
   لم تكن محاكمة محمد حسن البقري أفضل في فعالياتها من محاكمة خميس.
الشاهد الأول:
نودي على الخفير عبيد سليم محمد (من خفراء الشركة) وبعد أداء اليمين .
ـ المدعي: ما معلوماتك؟
ـ الشاهد: أقبل المتظاهرون على السيارات، وفتحوا تنكات البنزين وأخذوا منها، وسمعت البقري يقول اذهبوا إلى مكتب الضابط، وفتحوا النوافذ ودخلوا وتوجهوا إلى السلاحليك وأخذوا السلاح وأشعلوا النار في المكاتب، وحضرت المطافئ فمنعوهم وقالوا للسائق: لو مرجعتش هنقتلك.
ـ المدعي: هل كان هؤلاء من عمال المصنع؟
ـ الشاهد: لم يكن أحد من هؤلاء من عمال المصنع.
ـ المدعي: ما الحالة التي كان عليها الجناة؟
ـ المدعي: معرفش.
ـ المدعي: يعني كانوا لابسين جلاليب ولا ملابس العمل؟
ـ المدعي: هوا أنا كنت لابس نضارة؟!
المدعي ـ كم كانت الساعة عندما شاهدت البقري يشعل النار؟
ـ المدعي: هوا أنا كنت شايل ساعة؟!

الشاهد الثاني:
ـــــــــــــــــــــــ
   نودي على الأومباشي عطية عبد الحميد، وبعد أداء اليمين.
ـ المدعي: ما معلوماتك؟
ـ الشاهد: استدعيت من البيت من أجل الإضراب، ثم هاج العمال، فدخلت إلى غرفة الضابط واختبأت بها وأطفأت النور، وبعد قليل سمعت صوت واحد بيقول لشيخ الخفراء: «أبقى روح قول إن البقري هوا اللي عمل كده».
ـ المدعي: هل شاهدت البقري يشعل النار؟
ـ الشاهد: لم أشاهد البقري بيحرق أو بيكسر أو بيخرب.
.. أكدت شهادة الشهود براءته، فأتوا بشهود آخرين.
وصدر الحكم بإعدام البقري.

الذنب والإنكار:
ـــــــــــــــــــــــ

   ونفذ الحكم بسجن الحضرة في 7 سبتمبر، بينما كان اللواء محمد نجيب، يستعد للاحتفال برئاسته للوزارة التي تشكلت في نفس اليوم، راحت السكرة وجاءت الفكرة، وأصابت لعنة الدم نجيب، وعاد بعد ثلاثين عاما ليتنصل من جريمته وينكر دوره فيها في كتابه «كلمتي للتاريخ» ص 66، 67:

   «وجاء الحكم لي للتصديق.. وتوقفت.. لن أصدق على حكم الإعدام وحركتنا لم يمضِ عليها عشرات الأيام.

   وطلبت مقابلة المتهمين بعد أن أفصحت عن رأيي صراحة.. وأحاطتني تقارير مخيفة بأن أي تهاون في مواجهة العمال سوف يؤدي إلى انتشار    الاضطرابات والتظاهرات في مناطق التجمع العمالية سواء في شبرا الخيمة والمحلة الكبرى وغيرهما.

    وكنت أعرف أن هذه التقارير قد كتبت بأقلام رجال الأمن السابقين في عهد الملك.. ولم يكن كافياً أن يتغير اسم «البوليس السياسي»، ليصبح «المباحث العامة» بعد الثورة حتى يتوقف عمله، كما أن عزل بعض كبار ضباطه لم يكن كافياً لتغيير اتجاه نشاطهم في لحظة واحدة بلمسة سحرية.

   وحضر مصطفى خميس إلى مكتبي بالقيادة، دخل ثابتاً، وعندما رجوته أن يذكر لي عما إذا كان أحد قد حرضه لأجد مبرراً لتخفيف الحكم عليه، وبأنه لا هيئة ولا إنسان من ورائه، وأنه لم يرتكب ما يبرر الإعدام، وامتد الحوار بيننا نصف ساعة، وطلبت له فنجاناً من الشاي، وكنت ألح عليه كما لو كان «قريباً أو أخاً عزيزاً، ولكن دون فائدة، فقد كان صاحب مبدأ لم يخنه حتى في الفرصة الأخيرة لنجاته.. وخرج مصطفى من مكتبي، وقد أثقل الحزن قلبي بعد أن صدقت على الحكم».

   .. لكن طه سعد عثمان قال بعكس ذلك في كتابه «خميس والبقري يستحقان إعادة المحاكمة»:

« التقى محمد نجيب «بخميس» وساومه بأن يخفف الحكم إلى السجن المؤبد في مقابل قيامه بالاعتراف على رفاقه العمال وإدانة حركتهم ولكن خميس رفض»!!
     وجاءت شهادة خالد محيى الدين محاولة لنفض وسخ جريمة قتل العمال عن شرفه، ولتلصق الاتهام بنجيب؛ فذكر في مذكراته بعنوان: « .. والآن أتكلم»:
«أصدرت المحكمة حكماً بالإعدام على عاملين هما: خميس والبقري، وأذكر أن نجيب كان أكثر الجميع حماساً لإعدامهما، وانقسم «مجلس القيادة» نجيب ومن معه يطلبون الضرب بيد من حديد حتى يرتدع الجميع، وكانوا يتكلمون من منطق أن الإضراب هو جزء من حركة معادية للثورة، وأننا لو تساهلنا إزاء هذا الأمر لضاعت الثورة، وضاعت البلد.. وأنا وعبد الناصر ويوسف صديق وزكريا (يقصد زكريا محيي الدين) كنا ضد الإعدام، وحجتنا أن الإعدام سيفتح الباب أمام إراقة الدماء، وأنه لا مبرر أن نصبغ حركتنا بالدم». * (3)
لكن عبد اللطيف البغدادي قلب المائدة على الجميع مؤكداً في مذكراته أن الجميع ودون استثناء شارك في الجريمة:

   «وقد صدّق على هذه الأحكام مجلس قيادة الثورة وبإجماع الأصوات؛ لأن القاعدة التي كان قد اتفق عليها أن أي قرار بالإعدام يتخذ من المجلس لابد أن يكون بإجماع الآراء»* (4)

***
   تاجرت بعض التنظيمات اليسارية بدم خميس مدعية أنه شيوعي، وأنه كان عضواً في منظمة «النجم الأحمر»، وادعى البعض انتماءه لـ«حدتو»، لكن كل هذا لم يثبت ولم يقم عليه دليل بسند أو مستند أو دليل.

   .. يرحم الله شهيدي الغدر، خميس والبقري؛ فقد كان إعدامهما رسالة خطت بحروف الدم بعثها ضباط انقلاب 23 يوليو 1952 إلى شعب مصر زرعت فيه بذرة الخوف التي أثمرت هزيمة 5 يونيو 1967.
 


 
للمزيد من التفاصيل راجع كتاب " صناعة الكذب ":

 

هناك تعليق واحد:

  1. بارك الله في مجهودك لشرح ما هو ملتبس، حياك الله وجزاك كل خير.

    ردحذف